ج10 - شروط الجمعة-بقية الشرائط
المقصد الثالث
وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بسطه في موارد:
(الأول) ـ أجمع الأصحاب (رضوان الله عليهم) وأكثر العامة (1) على ان الخطبتين شرط في انعقاد الجمعة ، قال في المدارك : لأن النبي (صلىاللهعليهوآله) خطب خطبتين امتثالا للأمر المطلق فيكون بيانا له ، وقد ثبت في الأصول ان بيان الواجب واجب.
أقول : فيه (أولا) انا لم نقف على هذا الأمر المطلق إذ ليس إلا القرآن العزيز وهو غير مشتمل على الأمر بالخطبة كما لا يخفى ، إلا أن يكون مراده الأمر بالسعي في الآية والمراد السعي إلى الصلاة. وفيه ان دخول الخطبتين تحت الصلاة غير ظاهر واحتمال إطلاقها عليهما مجاز لا يترتب عليه البيان إذ البيان انما يرجع الى ما دل عليه اللفظ حقيقة ويتبادر منه فهما.
والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه المحقق في المعتبر نقلا من جامع البزنطي عن داود بن الحصين عن ابى العباس عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «لا جمعة إلا بخطبة وانما جعلت ركعتين لمكان الخطبتين».
و (ثانيا) ان هذا الكلام ينقض ما تقدم منه في باب الوضوء في مسألة وجوب غسل الوجه من الأعلى حيث قد ذهب الى الاستحباب ثمة مع دلالة الوضوءات البيانية واشتمالها على الغسل من الأعلى فهي مفسرة لإجمال الآية ومبينة له مع انه منع من ذلك ثمة ، وقد تقدم تحقيق الكلام معه في ذلك في المسألة المذكورة.
__________________
(1) في شرح النووي على صحيح مسلم ج 6 ص 150 «قال القاضي ذهب عامة العلماء الى اشتراط الخطبتين لصحة الجمعة وعن الحسن البصري وأهل الظاهر ورواية ابن الماجشون عن مالك انها تصح بلا خطبة» وفي المهذب للشيرازي الشافعي ج 1 ص 111 «ولا تصح الجمعة حتى يتقدمها خطبتان».
(2) الوسائل الباب 6 من صلاة الجمعة.
والتحقيق الرجوع في ذلك الى الأخبار فإنها ظاهرة الدلالة واضحة المقالة في المطلوب ، ومنها الرواية المذكورة وهي صريحة في المطلوب ويعضدها ما تقدم في الروايات التي قدمناها دليلا على وجوب صلاة الجمعة وهي الثالثة والخامسة والسادسة والثالثة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة (1).
وقد صرح الأصحاب بأنه يجب فيهما أمور (الأول) التقديم على الصلاة فلو بدأ بالصلاة لم تصح الجمعة ، قال في المدارك : هذا هو المعروف من مذهب الأصحاب بل قال في المنتهى انه لا يعرف فيه مخالفا ، والمستند فيه فعل النبي (صلىاللهعليهوآله) والأئمة (عليهمالسلام) والصحابة والتابعين والأخبار المستفيضة الواردة بذلك كرواية أبي مريم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «سألته عن خطبة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أقبل الصلاة أو بعدها؟ فقال قبل الصلاة ثم يصلى». انتهى.
أقول : العجب منه ومن صاحب المنتهى في دعواهما عدم الخلاف في المسألة مع ان الصدوق قد صرح في جملة من كتبه مثل الفقيه وعيون الأخبار والعلل بالخلاف في ذلك فأوجب تأخير الخطبة عن الصلاة وادعى ان تقديمها بدعة عثمانية.
ومن كلامه في ذلك ما ذكره في كتاب عيون الأخبار (3) بعد ان نقل حديث علل الفضل بن شاذان الدال على وجوب تقديمهما في الجمعة وتأخيرهما في العيدين وبيان العلة في ذلك حيث قال : قال مصنف هذا الكتاب جاء هذا الخبر هكذا ، والخطبة في الجمعة والعيدين بعد الصلاة لأنهما بمنزلة الركعتين الأخيرتين وأول من قدم الخطبتين عثمان بن عفان. الى آخر كلامه.
وفي كتاب من لا يحضره الفقيه (4) روى حديثا عن الصادق (عليهالسلام) بهذه الصورة قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) أول من قدم الخطبة على الصلاة يوم الجمعة عثمان لانه كان إذا صلى لم يقف الناس على خطبته وتفرقوا وقالوا ما نصنع بمواعظه
__________________
(1) ج 9 ص 409 الى 413.
(2) الوسائل الباب 15 من صلاة الجمعة.
(3) ص 258.
(4) ج 1 ص 278 وفي الوسائل الباب 15 من صلاة الجمعة.
وهو لا يتعظ بها وقد أحدث ما أحدث فلما رأى ذلك قدم الخطبتين على الصلاة».
وقال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل هذا الخبر : كذا وجدنا الحديث في نسخ الفقيه وكأنه قد وقعت لفظة الجمعة مكان لفظة العيد سهوا ثم صار ذلك سببا لا يراد الصدوق الحديث في باب الجمعة وزعمه وروده فيه كما يظهر من بعض تصانيفه الأخر ، وذلك لما ثبت وتقرر ان الخطبة في الجمعة قبل الصلاة وهذا من ما لم يختلف فيه أحد في ما أظن وقد مضت الأخبار في ذلك. وأيضا انما ورد حديث عثمان في العيدين كما مر في هذا الباب مرتين. انتهى.
وكيف كان فما ذكره الصدوق وهم صرف وغفلة محضة عن تدبر الأخبار المستفيضة بتقديمهما في صلاة الجمعة.
ومنها زيادة على الروايتين المتقدمتين ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (1) قال : «سألته عن الجمعة فقال أذان واقامة يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب ولا يصلى الناس ما دام الامام على المنبر ثم يقعد الامام على المنبر قدر ما يقرأ قل هو الله أحد ثم يقوم فيفتتح خطبته ثم ينزل فيصلي بالناس ثم يقرأ بهم في الركعة الأولى بالجمعة وفي الثانية بالمنافقين».
وما روياه أيضا في الموثق عن سماعة (2) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ينبغي للإمام الذي يخطب الناس يوم الجمعة أن يلبس عمامة في الشتاء والصيف ويتردى ببرد يمني أو عدني ويخطب وهو قائم : يحمد الله ويثنى عليه ثم يوصي بتقوى الله ويقرأ سورة من القرآن قصيرة ثم يجلس ثم يقوم فيحمد الله ويثنى عليه ويصلى على محمد (صلىاللهعليهوآله) وعلى أئمة المسلمين (عليهمالسلام) ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، فإذا فرغ من هذا قام المؤذن فأقام فصلى بالناس ركعتين يقرأ في الأولى بسورة الجمعة وفي الثانية بسورة المنافقين».
__________________
(1) الوسائل الباب 6 و 25 من صلاة الجمعة.
(2) الوسائل الباب 24 و 25 من صلاة الجمعة.
وما روياه في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال : «إذا خطب الامام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ الامام من خطبته فإذا فرغ الامام من الخطبتين تكلم ما بينه وبين ان يقام للصلاة وان سمع القراءة أم لم يسمع أجزأه». ونحوه صحيحة أخرى لمحمد بن مسلم بهذا المضمون (2).
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يصلى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك ويخطب في الظل الأول فيقول جبرئيل يا محمد (صلىاللهعليهوآله) قد زالت الشمس فانزل فصل وانما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الإمام».
(الثاني) القيام حال الخطبة ، ولا خلاف في وجوبه مع الإمكان ونقل عليه في التذكرة الإجماع ، والمستند فيه ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب (4) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان أول من خطب وهو جالس معاوية واستأذن الناس في ذلك من وجع كان بركبتيه وكان يخطب خطبة وهو جالس وخطبة وهو قائم ثم يجلس بينهما. ثم قال : الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة لا يتكلم فيها قدر ما يكون فصل ما بين الخطبتين».
وعن عمر بن يزيد في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (5) في حديث قال : «وليقعد قعدة بين الخطبتين».
وروى الثقة الجليل على بن إبراهيم في تفسيره في الصحيح عن ابن مسكان عن ابى بصير (6) «انه سأل عن الجمعة كيف يخطب الامام؟ قال يخطب قائما ان الله تعالى يقول (وَتَرَكُوكَ قائِماً)» (7).
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 14 من صلاة الجمعة.
(3) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
(4 و 5 و 6) الوسائل الباب 16 من صلاة الجمعة.
(7) سورة الجمعة الآية 11.
ولو منعه مانع فالظاهر جواز الجلوس كما صرح به جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) وفي وجوب الاستنابة في هذه الحالة إشكال.
قالوا : ولو خطب جالسا مع القدرة بطلت صلاته وصلاة من علم بذلك من المأمومين ، اما من لم يعلم بذلك فقد قطعوا بصحة صلاته بناء على ان الظاهر من حال المسلم خصوصا العدل أن يكون جلوسه في حال الخطبة لعذر ولم يفصلوا بين تجدد العلم بعد الصلاة وعدم تجدده ، وجعلوه مثل صلاة الإمام محدثا فإن صلاة من لم يعلم بحدثه صحيحة وان تجدد العلم بعد الصلاة. وفيه ان قيام الدليل في المحدث في صورة ما إذا علم المأموم بعد الصلاة على صحة الصلاة لا يستلزم الصحة في ما نحن فيه لعدم الدليل كما في المحدث.
قالوا : ويجب في القيام الطمأنينة كما في البدل لتوقف البراءة اليقينية عليه. وفيه إشكال.
وقال في المدارك : ويجب في القيام الطمأنينة للتأسي ولأنهما بدل من الركعتين.
وفيه (أولا) ما صرح به هو وغيره من المحققين من أن التأسي لا يصلح دليلا للوجوب كما حققوه في الأصول لان فعلهم (عليهمالسلام) أعم من ذلك.
و (ثانيا) ان البدلية على تقدير صحة الاستدلال بها لا تقتضي أن تكون من كل وجه ، وغاية ما يمكن أن يقال ان المسألة لما كانت عارية من النص فالاحتياط فيها واجب وهو لا يحصل إلا بما ذكروه من الطمأنينة.
(الثالث) اتحاد الخطيب والامام على أظهر القولين وأشهرهما وهو اختيار الراوندي في أحكام القرآن ، وقواه العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى واختاره السيد السند في المدارك ، ونقل عن العلامة في النهاية القول بجواز المغايرة معللا بانفصال كل من العبادتين عن الأخرى ، وبان غاية الخطبتين أن يكونا كالركعتين ويجوز الاقتداء بإمامين في صلاة واحدة.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : ويتوجه على الأول منع الانفصال
شرعا ، سلمنا الانفصال لكن ذلك لا يقتضي جواز الاختلاف إذا لم يرد فيه نقل على الخصوص لعدم تيقن البراءة مع الإتيان به. وعلى الثاني بعد تسليم الأصل انه قياس محض.
واستشكل في الذخيرة في هذا المقام فقال : والمسألة محل إشكال ينشأ من أن المنقول من فعل النبي (صلىاللهعليهوآله) والأئمة (عليهمالسلام) الاتحاد فيجب عدم التعدي منه وقوفا في الوظائف الشرعية على القدر الثابت المتيقن ، ومن إطلاق الأمر بالصلاة في الآية والأخبار والاشتراط يتقدر بقدر الدليل والدليل لا يقتضي الخصوصية المذكورة في الخطبتين. والاحتياط واضح. انتهى.
أقول : اما ما ذكره في الوجه الثاني من إطلاق الآية فمسلم واما إطلاق الأخبار فممنوع فان بعضها وان كان مطلقا كما ادعاه إلا ان جملة منها ظاهرة في الاتحاد كالأخبار المتقدمة في الأمر الأول ، ونحوها أيضا صحيحة أبي بصير المنقولة من تفسير على بن إبراهيم فإنها قد اشتملت على ان الخطيب هو الامام وانه بعد الخطبة يصلى بالناس ، وحينئذ فما أطلق من الأخبار ان وجد يحتمل على هذه الأخبار حمل المطلق على المقيد وبذلك يقيد إطلاق الآية أيضا.
ويدل على ما ذكرناه ما سيأتي ان شاء الله تعالى من الأخبار الدالة على النهى عن الكلام والامام يخطب ونحوها ، فان المراد بالإمام فيها هو إمام الجماعة الذي يصلى بعد الخطبة وإلا فلا معنى للتعبير بلفظ الإمام في المقام لو كان الخطيب غيره. وحمله على إمام في الجملة وان لم يكن في تلك الصلاة لا يرتكبه إلا من لم يكن له ذوق ولا رؤية في فهم معاني الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وبالجملة فإن ما ذكره من الاستشكال من الأوهام السخيفة بلا اشكال.
(الرابع) الفصل بين الخطبتين بجلسة خفيفة على الأشهر الأظهر ، واستدل عليه في المدارك بالتأسي ، وقد عرفت ما فيه قريبا.
والأظهر الاستدلال على ذلك بالأخبار ، ومنها ما تقدم قريبا في صحيحة
معاوية بن وهب (1) وهو قوله (عليهالسلام) فيها «الخطبة وهو قائم خطبتان يجلس بينهما جلسة لا يتكلم فيها قدر ما يكون فصل ما بين الخطبتين».
وتقدم أيضا في صحيحة عمر بن يزيد (2) قال : «وليقعد قعدة بين الخطبتين». وتقدم في موثقة سماعة (3) بعد ذكر الخطبة الأولى قال (عليهالسلام) «ثم يجلس ثم يقوم فيحمد الله تعالى».
وفي صحيحة محمد بن مسلم المروية في الكافي في خطبة يوم الجمعة عن الباقر (عليهالسلام) (4) قال بعد ذكر الخطبة الأولى بطولها «ثم اقرأ سورة من القرآن وادع ربك وصل على النبي (صلىاللهعليهوآله) وادع للمؤمنين والمؤمنات ثم تجلس قدر ما تمكن هنيهة ثم تقوم فتقول الحمد لله». ثم ساق الخطبة الثانية.
وفي صحيحة محمد بن النعمان أو غيره المروية في الكافي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (5) انه ذكر خطبة أمير المؤمنين (عليهالسلام) يوم الجمعة «الحمد لله أهل الحمد. ثم ساق الخطبة الى أن قال : ثم جلس قليلا ثم قام فقال الحمد لله». ثم ساق الخطبة الثانية.
وفي معناها ما رواه في الفقيه من خطبة أمير المؤمنين (عليهالسلام) (6) وفيها بعد ذكر الخطبة الاولى «ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيقول الحمد لله. الى آخر الخطبة».
وهذه الأخبار ونحوها ما بين ما تضمن حكاية فعلهم (عليهمالسلام) ذلك وما بين ما تضمن الأمر باللام وما تضمن الأمر بالجملة الفعلية وهو ظاهر في الوجوب واشتمال الأخبار على بعض المندوبات لا يقدح في الدلالة لأن ما قام الدليل على استحبابه يجب ارتكاز التجوز في الأمر به وما لم يقم على استحبابه دليل فيجب حمل الأمر به على ظاهره من الوجوب وبه يتم المطلوب.
واما ما ذكره المحقق في المعتبر من ما يؤذن بتردده في المقام ـ حيث قال : وهل الجلسة بين الخطبتين واجبة؟ فيه تردد ، وجه الوجوب فعل النبي والأئمة
__________________
(1 و 2) ص 84.
(3) ص 83.
(4 و 6) الوسائل الباب 25 من صلاة الجمعة.
(5) روضة الكافي ص 173 وفي الوافي باب خطبة صلاة الجمعة.
(صلوات الله عليهم) بعده. وما روى عن أهل البيت (عليهمالسلام) من طرق أحدها ما رواه معاوية بن وهب ، ثم ذكرها كما ذكرناه ، ثم قال ووجه الاستحباب انه فصل بين ذكرين جعل للاستراحة فلا يتحقق فيه معنى الوجوب ، ولان فعل النبي (صلىاللهعليهوآله) كما يحتمل أن يكون تكليفا يحتمل أن يكون للاستراحة وليس فيه معنى التعبد ، ولأنا لا نعلم الوجه الذي أوقعه عليه فلا تجب المتابعة. انتهى.
ولا يخفى ما فيه من النظر الظاهر في كل من الوجهين ، أما الأول فمرجعه إلى التأسي وقد عرفت انه ليس بدليل على الوجوب ، واليه أشار في آخر كلامه بقوله : ولأنا لا نعلم الوجه الذي أوقعه عليه يعنى من وجوب واستحباب لأن الإتيان به أعم منهما.
واما الثاني فيرجع الى العلة المستنبطة التي لا اعتماد عليها في الأحكام ، والوجه في الوجوب انما هو ورود الأمر بذلك في الاخبار المتقدمة ونحوها وان كان أمرا بالجملة الفعلية أو باللام ، فان التحقيق انه لا فرق بين الأمر بصيغة «افعل» ولا بين الصيغتين المذكورتين كما حققناه في مقدمات الكتاب وبه صرح جملة من محققي الأصحاب ، ويدل على ذلك أيضا صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (1) وقوله فيها «يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب. الى آخره». فإنه ظاهر في بيان الكيفية الواجبة ومن جملتها الجلوس بين الخطبتين.
قالوا : ويجب في الجلوس الطمأنينة وينبغي أن يكون بقدر قراءة سورة «قل هو الله أحد» كما تضمنته صحيحة محمد بن مسلم المذكورة.
قيل : ولو عجز عن القيام فخطب جالسا فصل بينهما بسكتة ، واحتمل العلامة في التذكرة الفصل بالاضطجاع.
وهل يجب السكوت حال الجلوس؟ قيل نعم لما تقدم في صحيحة معاوية ابن وهب (2) من قوله «جلسة لا يتكلم فيها». ورد باحتمال ان يكون المراد لا يتكلم فيها بشيء من الخطبة. والظاهر بعده.
__________________
(1) ص 83.
(2) ص 84.
ثم ان ههنا أشياء أخر وقع الخلاف فيها وجوبا واستحبابا في الخطبتين سيأتي ان شاء الله تعالى التنبيه عليها.
(المورد الثاني) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما يجب اشتمال كل من الخطبتين عليه ، فقال الشيخ في المبسوط : أقل ما تكون الخطبة أربعة أصناف : حمد الله تعالى والصلاة على النبي وآله (صلىاللهعليهوآله) والوعظ وقراءة سورة خفيفة من القرآن. ومثله قال ابن حمزة.
وقال في الخلاف : أقل ما تكون الخطبة أن يحمد الله تعالى ويثنى عليه ويصلى على النبي (صلىاللهعليهوآله) ويقرأ شيئا من القرآن ويعظ الناس.
وابن إدريس وافق المبسوط في موضع من كتابه وأوجب السورة الخفيفة وخالفه في آخر ، وقال في وصف الخطبة : ويوشح خطبته بالقرآن ومواعظه وآدابه. ولم يذكر السورة.
وقال أبو الصلاح : لا تنعقد الصلاة إلا بإمام. الى ان قال : وخطبة في أول الوقت مقصورة على حمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله والصلاة على محمد والمصطفين من آله (صلوات الله عليهم) ووعظ وزجر. ولم يتعرض لشيء من القرآن بالكلية.
وقال الشيخ في الاقتصاد : أقل ما يخطب به أربعة أشياء : الحمد والصلاة على النبي وآله (صلىاللهعليهوآله) والوعظ وقراءة سورة خفيفة من القرآن بين الخطبتين.
وقال في النهاية : ينبغي ان يخطب الخطبتين ويفصل بينهما بجلسة ويقرأ سورة خفيفة ويحمد الله تعالى في خطبته ويصلى على النبي (صلىاللهعليهوآله) ويدعو لأئمة المسلمين (عليهمالسلام) ويدعو أيضا للمؤمنين ويعظ ويزجر وينذر ويخوف. ومثله قال ابن البراج وابن زهرة.
وقال القطب الراوندي في الرائع : الخطبة شرط في صحة الجمعة وأقل ما يكون أن يحمد الله تعالى ويصلى على النبي وآله (صلىاللهعليهوآله) ويعظ الناس ويقرأ سورة قصيرة من
القرآن ، وقيل يقرأ شيئا من القرآن.
وقال ابن الجنيد عن الخطبة الاولى : ويوشحها بالقرآن. وعن الثانية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). إلى آخر الآية (1).
وقال المرتضى في المصباح : يحمد الله ويمجده ويثنى عليه ويشهد لمحمد (صلىاللهعليهوآله) بالرسالة ويوشح الخطبة بالقرآن ثم يفتتح الثانية بالحمد والاستغفار والصلاة على النبي (صلىاللهعليهوآله) والدعاء لأئمة المسلمين.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي يظهر من كلام الفاضلين ان وجوب الحمد والصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم) والوعظ موضع وفاق بين علمائنا وأكثر العامة (2) لعدم تحقق الخطبة عرفا بدون ذلك ، واستدل عليه في المنتهى بأمور واهية ليس في التعرض لها كثيرة فائدة.
وقد وقع الخلاف هنا في مواضع : (الأول) ـ هل تجب القراءة في الخطبتين كما هو المشهور أم لا كما هو مذهب ابى الصلاح؟ (الثاني) ـ انه على تقدير الوجوب هل الواجب سورة كاملة أو آية تامة الفائدة؟ (الثالث) ـ انه على الأول أعني السورة الكاملة هل الواجب سورة كاملة فيهما أو في الأولى
__________________
(1) سورة النحل الآية 92.
(2) في المغني ج 2 ص 304 «يشترط لكل واحدة من الخطبتين حمد الله تعالى والصلاة على رسوله «ص» ويحتمل ان لا تجب الصلاة على النبي «ص» لأن النبي «ص» لم يذكر في خطبته ذلك» وفي ص 305 «وقال أبو حنيفة لو أتى بتسبيحة واحدة أجزأ» وفي شرح النووي على صحيح مسلم ج 6 ص 150 «قال الشافعي لا تصح الخطبتان إلا بحمد الله والصلاة على رسول الله «ص» فيهما والوعظ وهذه الثلاثة واجبات في الخطبتين ، وقال مالك وأبو حنيفة والجمهور يكفى من الخطبة ما يقع عليه الاسم وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومالك في رواية عنه تكفى تحميدة أو تسبيحة أو تهليلة. وهذا ضعيف لانه لا يسمى خطبة» وفي المهذب ج 1 ص 111 «فرض الخطبة أربعة أشياء : يحمد الله تعالى ويصلى على النبي «ص» والوصية بتقوى الله وقراءة آية من القرآن».
خاصة؟ وعلى الثاني أعني الآية التامة الفائدة فهل هي فيهما أو في الأولى خاصة؟ (الرابع) ـ هل تجب الشهادة لمحمد (صلىاللهعليهوآله) بالرسالة في الأولى كما هو ظاهر المرتضى أم لا؟ (الخامس) ـ هل يجب الاستغفار والدعاء لأئمة المسلمين كما هو ظاهر المرتضى أيضا أم لا؟ هذا ما وصل إلينا من كلام متقدمي الأصحاب في الباب.
والواجب الرجوع الى الأخبار إلا ان الظاهر انه ليس في شيء منها تصريح بأقل الواجب كما وقع في عبائر الأصحاب بحيث لا يجزئ ما دونه.
وكيف كان فمن تلك الأخبار موثقة سماعة (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ينبغي للإمام الذي يخطب الناس يوم الجمعة ان يلبس عمامة في الشتاء والصيف ويتردى ببرد يمني أو عدني ويخطب وهو قائم : يحمد الله ويثنى عليه ثم يوصي بتقوى الله ويقرأ سورة من القرآن قصيرة ثم يجلس ثم يقوم فيحمد الله ويثنى عليه ثم يصلى على محمد (صلىاللهعليهوآله) وعلى أئمة المسلمين (عليهمالسلام) ويستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات فإذا فرغ من هذا أقام المؤذن فصلى بالناس ركعتين. الحديث».
ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (2) في الصحيح عن محمد بن مسلم «ان أبا جعفر (عليهالسلام) خطب خطبتين في الجمعة ، ثم نقلهما بتمامهما ، والاولى منهما قد اشتملت على حمد الله والشهادتين والصلاة على النبي وآله (صلىاللهعليهوآله) والوعظ ، قال ثم اقرأ سورة من القرآن وادع ربك وصل على النبي (صلىاللهعليهوآله) وادع للمؤمنين والمؤمنات ثم تجلس. وتضمنت الثانية الحمد والشهادتين والوعظ والصلاة على محمد (صلىاللهعليهوآله) بقوله اللهمّ صل على محمد عبدك ورسولك سيد المرسلين وامام المتقين ورسول رب العالمين. قال : ثم تقول اللهمّ صلى على أمير المؤمنين ووصى رسول رب العالمين ، ثم تسمى الأئمة (عليهمالسلام) حتى تنتهي إلى صاحبك ، ثم تقول اللهم افتح له فتحا يسيرا وانصره نصرا عزيزا اللهمّ أظهر به دينك وسنة نبيك حتى
__________________
(1) الوسائل الباب 24 و 25 من صلاة الجمعة.
(2) ج 1 ص 117 وفي الوسائل الباب 25 من صلاة الجمعة.
لا يستخفى بشيء من الحق مخافة أحد من الخلق. ثم ساق الدعاء لصاحب الأمر الى ان قال : ويكون آخر كلامه ان يقول (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). وذكر الآية كملا ، ثم قال ثم يقول اللهمّ اجعلنا ممن تذكر (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) ثم ينزل».
ومنها ـ ما رواه في الكافي (1) أيضا في الصحيح أو الحسن عن الحسن بن محبوب عن محمد بن النعمان أو غيره عن ابى عبد الله (عليهالسلام) انه ذكر هذه الخطبة لأمير المؤمنين (عليهالسلام) يوم الجمعة ، والاولى منهما طويلة مشتملة على التحميد والشهادتين والوعظ ثم سورة «العصر» ثم قال (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (صلىاللهعليهوآله) ثم ذكر الآية وأردفها بمزيد الصلاة والدعاء للنبي (صلىاللهعليهوآله) الى ان قال : «ثم جلس قليلا ثم قام فقال الحمد لله.».
وذكر الخطبة الثانية وهي مشتملة على الحمد والاستعاذة وطلب العصمة من الذنوب ومساوئ الأعمال ومكاره الآمال ثم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات ومنها ـ ما رواه في الفقيه (2) مرسلا ، قال : «خطب أمير المؤمنين (عليهالسلام) في الجمعة فقال. ثم ساق الخطبة الأولى وهي مشتملة على التحميد والثناء على الله سبحانه والشهادتين والوعظ ثم سورة التوحيد أو «قل يا ايها الكافرون» أو «إذا زلزلت» أو «ألهاكم التكاثر» أو «العصر» قال وكان من ما يدوم عليه «قل هو الله أحد» ثم يجلس جلسة خفيفة ثم يقوم فيقول.» ثم ذكر الخطبة الثانية وهي مشتملة على التحميد مختصرا وكذلك الشهادتان ثم الصلاة على النبي وآله (صلىاللهعليهوآله) ثم الدعاء على أهل الكتاب ثم الدعاء بنصر جيوش المسلمين وسراياهم ثم الدعاء للمؤمنين ثم الآية «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... إلى آخرها» (3).
أقول : قد اتفقت هذه الأخبار بالنسبة إلى الخطبة الأولى على اشتمالها على التحميد والوعظ وقراءة سورة كاملة وهي تمام ما اختصت به موثقة سماعة ،
__________________
(1) الروضة ص 173 وفي الوافي باب خطبة صلاة الجمعة.
(2) ج 1 ص 275 وفي الوسائل الباب 25 من صلاة الجمعة.
(3) سورة النحل الآية 92.
واشتركت الروايات الثلاث التي بعدها في الاشتمال على الشهادتين زيادة على ذلك ، وحينئذ فيخص بها إطلاق موثقة سماعة ويجب تقييدها بها ، واختصت الرواية الثانية بزيادة الصلاة على النبي (صلىاللهعليهوآله) والأحوط إضافتها لذلك.
واما بالنسبة إلى الخطبة الثانية فقد اتفق الجميع على التحميد خاصة واشترك ما عدا الرواية الثالثة في إضافة الصلاة على النبي وآله (صلوات الله عليهم) واشتركت الاولى والثانية في إضافة أئمة المسلمين إلى الصلاة على النبي (صلىاللهعليهوآله) إجمالا في الاولى وتفصيلا في الثانية وبه يجب تقييد ما خلا ذلك من الأخبار المذكورة ، واشتركت الرواية الثانية والرابعة في إضافة الآية المتقدمة في آخر الخطبة وبه يقيد إطلاق الروايتين الخاليتين من ذلك ، واتفق الجميع في عدم ذكر الوعظ في الثانية (1).
ثم انه لا يخفى ما بين ما دلت عليه هذه الأخبار وبين ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام من المنافاة وعدم الالتئام ولا سيما بالنسبة إلى إيجابهم السورة في الخطبة الثانية كما هو ظاهر المشهور ، قال في الذكرى قال ابن الجنيد والمرتضى : وليكن في الأخيرة قوله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ... الآية» (2). وأورده البزنطي في جامعه. وبالنسبة إلى إيجابهم الوعظ في الخطبة الثانية وكذا بالنسبة الى عدم ذكرهم الشهادتين سوى المرتضى (رضى الله عنه) فإنه ذكر الشهادة بالرسالة ولم يذكر الشهادة بالتوحيد والأخبار قد اشتملت عليهما ونحو ذلك. إلا ان بعض الأخبار الواردة في ذكر الخطبة غير ما أشرنا إليه اشتمل على الوعظ في الثانية أيضا. والاحتياط لا يخفى.
وينبغي التنبيه على أمور
(الأول) قد صرح العلامة والشهيد وجماعة بأنه يجب في الخطبتين التحميد بصيغة «الحمد لله» ورده جملة ممن تأخر عنهم بصدق الخطبة مع الإتيان بالتحميد كيف اتفق.
__________________
(1) تقدم الوعظ فيها في الصحيحة ص 91.
(2) سورة النحل الآية 92.
أقول : لا ريب ان موثقة سماعة وان اشتملت على مطلق التحميد لقوله «يحمد الله ويثنى عليه» إلا ان الثلاث التي بعدها كلها قد اشتملت على لفظ «الحمد لله» في أول كل من الخطبتين فلا يبعد ان يحمل عليها إطلاق موثقة سماعة المذكورة وبه يظهر قوة ما ذكره الأولون.
(الثاني) ذكر جمع من الأصحاب انه يجب الترتيب في اجزاء الخطبة بتقديم الحمد ثم الصلاة ثم الوعظ ثم القراءة فلو خالف أعاد على ما يحصل به الترتيب ، قال في المدارك : وهو أحوط وان كان في تعينه نظر.
أقول : ما ذكروه (رضوان الله عليهم) مبنى على ما تكرر في عبائرهم من إيجاب هذه الأربعة في كل من الخطبتين وقد عرفت ما بين كلامهم وبين الاخبار المتقدمة من المدافعة في البين ، والذي يتلخص من الاخبار بتقريب ما قدمنا ذكره من ضم بعضها الى بعض بالنسبة إلى الخطبة الأولى هو الإتيان بالتحميد أولا ثم الشهادتين بالتوحيد أولا ثم بالرسالة ثم اضافة الصلاة بعدهما احتياطا ثم الوعظ ثم قراءة سورة كاملة ، واما بالنسبة إلى الخطبة الثانية فالتحميد أولا ثم الصلاة على النبي (صلىاللهعليهوآله) ثم أئمة المسلمين تفصيلا ثم الآية المتقدمة. واما ان ذلك على جهة الوجوب أو الاستحباب فإشكال ينشأ من أن هذه الكيفية التي ورد بها النص فيقين البراءة يتوقف عليها ومن احتمال خروجها مخرج الاتفاق سيما ان الخطب المذكورة مشتملة على تكرار وزيادة أشياء أخر فيها. وبالجملة فالاحتياط في الوقوف على ما دلت عليه الاخبار وان كان لا اشعار فيها بالوجوب.
(الثالث) المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) المنع من الخطبة بغير العربية للتأسي ، قال في المدارك : وهو حسن.
أقول : قد عرفت ان التأسي لا يصلح لان يكون دليلا لحرمة ولا وجوب كما صرح به هو وغيره من المحققين ولكنه في أمثال هذه المواضع يستسلقه وهو غير جيد. نعم يمكن ان يقال ان يقين البراءة موقوف على ذلك وانها عبادة
والعبادات توقيفية يتبع فيها ما رسمه صاحب الشريعة ، وهذا هو الذي جاء عنهم (عليهمالسلام).
ولو لم يفهم العدد العربية ولا أمكن التعلم قيل تجب العجمية لأن مقصود الخطبة لا يتم بدون فهم معانيها. واحتمل في المدارك سقوط الجمعة لعدم ثبوت مشروعيتها على هذا الوجه.
أقول : والأقرب وجوب العربية في الصورة المذكورة ، والتعليل بان المقصود من الخطبة فهم العدد لمعانيها مع تسليم وروده لا يقتضي كونه كليا فان علل الشرع ليست عللا حقيقة يدور المعلول مدارها وجودا وعدما وانما هي معرفات وتقريبات إلى الأذهان كما لا يخفى على من راجع كتاب العلل وما اشتملت عليه اخباره من العلل. على ان البلدان التي فتحت من العجم والروم ونحوهما وعينت فيها الأئمة للجمعات والجماعات لم ينقل انهم كانوا يترجمون لهم الخطب ولو وقع لنقل ومنه زمان خلافة أمير المؤمنين (عليهالسلام) وكيف كان فالأحوط الخطبة بالعربية وترجمة بعض الموارد التي يتوقف عليها المقصود من الخطبة.
(الرابع) قال شيخنا المجلسي (قدسسره) في كتاب البحار : والاولى والأحوط ان يراعى الخطيب أحوال الناس بحسب خوفهم ورجائهم فيعظهم مناسبا لحالهم وللأيام والشهور والوقائع الحادثة وأمثال تلك الأمور كما يومئ اليه بعض الاخبار ويظهر من الخطب المنقولة. انتهى. وهو جيد.
(الخامس) روى الصدوق في كتاب العلل والعيون في علل الفضل بن شاذان عن الرضا (عليهالسلام) (1) قال : «وانما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله تعالى والتمجيد والتقديس لله عزوجل ، والأخرى للحوائج والاعذار والإنذار والدعاء ولما يريدان يعلمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد». انتهى.
أقول : ظاهره ان احدى الخطبتين انما تشتمل على الثناء والتمجيد والتقديس
__________________
(1) الوسائل الباب 25 من صلاة الجمعة.
لله عزوجل والأخرى لما ذكره (عليهالسلام) وأنت خبير بأنه لا ينطبق على ما قدمناه من الأخبار ولا كلام الأصحاب وصاحبه (عليهالسلام) اعلم بذلك.
(المورد الثالث) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الإصغاء للخطبة والطهارة فيهما من الحدث أو منه ومن الخبث وفي تحريم الكلام حال الخطبة من المأمومين والامام وكذا في وجوب رفع الصوت لاستماع العدد.
والكلام هنا يقع في مواضع (الأول) ـ في وجوب الإصغاء وعدمه ممن يمكن في حقه السماع والإصغاء والإنصات لها والاستماع ، والمشهور وجوبه وذهب الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر إلى انه مستحب.
احتج الأولون بأن فائدة الخطبة لا تحصل إلا به. قال في الذخيرة : وفيه منع واضح لمنع كون الفائدة منحصرة في استماع كل منهم جميع الخطبة ، قال : ولو قصد بهذا الاستدلال على وجوب إصغاء الزائد على العدد كان أخفى دلالة. انتهى.
أقول : والأظهر الاستدلال على القول المشهور بالأخبار الدالة على النهى عن الكلام والامام يخطب (1) فإنه لا وجه للنهي في المقام إلا من حيث وجوب الإصغاء للخطبة والاستماع لها ، ونقل غير واحد من أصحابنا عن البزنطي في جامعه (2) انه قال «إذا قام الامام يخطب وجب على الناس الصمت». وهو من قدماء الأصحاب وأجلاء الثقات من أصحاب الرضا (عليهالسلام).
والأصحاب أيضا قد اختلفوا في تحريم الكلام ، فالمشهور التحريم فمنهم من عمم الحكم بالنسبة إلى المستمعين والخطيب ومنهم من خصه بالمستمعين ، وذهب الشيخ في المبسوط وموضع من الخلاف والمحقق إلى الكراهة ، وهو جار على نحو ما قدمناه عنهم من القول بعدم وجوب الاستماع ، والى القول بالكراهة مال الفاضل الخراساني في الذخيرة أيضا.
والأظهر عندي هو القول المشهور من وجوب الاستماع وتحريم الكلام
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من صلاة الجمعة.
(2) المعتبر ص 206.
للاخبار المشار إليها ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا خطب الامام يوم الجمعة فلا ينبغي لأحد أن يتكلم حتى يفرغ الامام من خطبته فإذا فرغ الامام من الخطبتين تكلم ما بينه وبين أن تقام الصلاة».
ومنها ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (2) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا كلام والامام يخطب ولا التفات إلا كما يحل في الصلاة ، وإنما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين فهي صلاة حتى ينزل الامام».
وظاهر هذا الخبر كما ترى انه ما دام الامام يخطب فإن الامام والحاضرين معه في صلاة حتى ينزل فلا يتكلم هو ولا هم ولا يلتفتون إلا كما يلتفتون حال الصلاة ، ومنه يفهم وجوب الطهارة ايضا على الامام وعليهم من الحدث والخبث. هذا مقتضى ظاهر الخبر المذكور.
ومنها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «لا بأس ان يتكلم الرجل إذا فرغ الامام من الخطبة يوم الجمعة ما بينه وبين ان تقام الصلاة». فإنه يشعر بالبأس قبل الفراغ.
ومنها ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (4) قال : «سألته عن الجمعة فقال أذان واقامة يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب ولا يصلى الناس ما دام الامام على المنبر. الحديث». فإنه إذا امتنعت الصلاة التي هي عبادة امتنع الكلام الذي هو لغو غالبا.
ومنها ـ ما رواه الصدوق في كتاب المجالس عن بكر بن محمد (5) ورواه ايضا عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن بكر بن محمد عن الصادق عن آبائه (عليهمالسلام) (6) قال : «قال أمير المؤمنين (عليهالسلام) الناس في الجمعة على ثلاثة
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 14 من صلاة الجمعة.
(4) الوسائل الباب 25 من صلاة الجمعة.
(5 و 6) الوسائل الباب 58 من صلاة الجمعة.
منازل : رجل شهدها بإنصات وسكون قبل الامام وذلك كفارة لذنوبه من الجمعة إلى الجمعة الثانية وزيادة ثلاثة أيام لقوله تعالى «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» (1) ورجل شهدها بلغط وملق وقلق فذلك حظه ، ورجل شهدها والامام يخطب فقام يصلى فقد أخطأ السنة وذلك ممن إذا سأل الله عزوجل ان شاء أعطاه وان شاء حرمه».
وروى الصدوق في المجالس بسنده في مناهي النبي (صلىاللهعليهوآله) (2) «انه نهى عن الكلام يوم الجمعة والامام يخطب ومن فعل ذلك فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له».
وروى في كتاب قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (3) «ان عليا (عليهالسلام) كان يكره رد السلام والامام يخطب».
وفيه بهذا الاسناد عن على (عليهالسلام) (4) قال : «يكره الكلام يوم الجمعة والامام يخطب وفي الفطر والأضحى والاستسقاء».
قال شيخنا المجلسي في كتاب البحار بعد نقل هذين الخبرين : بيان ـ كراهة رد السلام لعله محمول على التقية إذ لا يكون حكمها أشد من الصلاة. ويمكن حمله على ما إذا رد غيره ، قال العلامة في النهاية : ويجوز رد السلام بل يجب لانه كذلك في الصلاة ففي الخطبة أولى. وكذا يجوز تسميت العاطس ، وهل يستحب؟ يحتمل ذلك لعموم الأمر به ، والعدم لأن الإنصات أهم وانه واجب على الأقرب انتهى. والكراهة الواردة في الكلام غير صريحة في الكراهة المصطلحة لما عرفته مرارا. وظاهره شمول الحكم لمن لم يسمع الخطبة أيضا. قال العلامة في النهاية : وهل يجب الإنصات على من لم يسمع الخطبة؟ الأولى المنع لان غايته الاستماع فله ان
__________________
(1) سورة الانعام الآية 161.
(2) ص 255 ورواه في الفقيه أيضا في المناهي ، راجع الوسائل الباب 14 من صلاة الجمعة.
(3 و 4) الوسائل الباب 14 من صلاة الجمعة.
يشتغل بذكر وتلاوة. ويحتمل الوجوب لئلا يرتفع اللغط ولا يتداعى الى منع السامعين من السماع. انتهى كلام شيخنا المذكور وهو ظاهر في اختياره القول المشهور
ومنها ـ ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن على بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (1) قال : «سألته عن الإمام إذا خرج يوم الجمعة هل يقطع خروجه الصلاة أو يصلى الناس وهو يخطب؟ قال لا تصلح الصلاة والامام يخطب إلا ان يكون قد صلى ركعة فيضيف إليها أخرى ولا يصلى حتى يفرغ الامام من خطبته».
ومنها ـ ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي (2) قال : «وقال أمير المؤمنين (عليهالسلام) لا كلام والامام يخطب يوم الجمعة ولا التفات وانما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين جعلتا مكان الركعتين الأخيرتين فهي صلاة حتى ينزل الامام».
وفي كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (3) انه قال : «إذا قام الامام يخطب فقد وجب على الناس الصمت». وعن على (عليهالسلام) (4) انه قال : «لا كلام والامام يخطب ولا التفات إلا كما يحل في الصلاة».
وعن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (5) انه قال : «لا كلام حتى يفرغ الامام من الخطبة فإذا فرغ منها فتكلم ما بينك وبين افتتاح الصلاة ان شئت».
وعن على (عليهالسلام) (6) انه قال : «يستقبل الناس الامام عند الخطبة بوجوههم ويصغون اليه».
وعن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (7) انه قال : «انما جعلت الخطبة
__________________
(1) الوسائل الباب 58 من صلاة الجمعة.
(2) ص 11.
(3 و 4 و 5 و 6) مستدرك الوسائل الباب 12 من صلاة الجمعة.
(7) مستدرك الوسائل الباب 6 من صلاة الجمعة.
عوضا عن الركعتين اللتين أسقطتا من صلاة الظهر فهي كالصلاة لا يحل فيها إلا ما يحل في الصلاة».
أقول : ومن هذه الأخبار يظهر قوة القول المشهور وضعف ما ذكره في الذخيرة في الجواب عن صحيحة محمد بن مسلم الأولى (1) من أن لفظ «لا ينبغي» ظاهر في الكراهة ، فإن فيه ان ظهوره في الكراهة انما هو باعتبار عرف الناس واما باعتبار عرفهم (عليهمالسلام) فان ورد هذا اللفظ في التحريم ولفظ «ينبغي» في الوجوب مما لا يحصى كثرة في الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، فهو وان كان في عرفهم (عليهمالسلام) متشابها محتملا للأمرين إلا انه ـ بانضمام ما ذكرناه من الأخبار سيما ما دل على النهى وما دل على انه في صلاة حتى ينزل الامام ونحو ذلك ـ يتحتم حمله على التحريم.
والظاهر تحريم الكلام أو كراهته على القولين المذكورين في ما بين الخطبتين لما تقدم في صحيح محمد بن مسلم وغيره (2) من النهى حتى يفرغ من خطبته حتى إذا فرغ تكلم ما بينه وبين ان تقام الصلاة ، والمراد من الفراغ من خطبته الفراغ من كلتا الخطبتين.
والظاهر ان غاية النهي عن الكلام التحريم على تقدير القول به لا بطلان الصلاة أو الخطبة فإنه لم يصرح أحد من القائلين بالتحريم بالبطلان في هذا الموضع في ما اعلم ، وبذلك ايضا صرح بعض متأخري المتأخرين.
والظاهر انه يجب الإصغاء ويحرم الكلام على من يمكن في حقه السماع فالبعيد الذي لا يسمع والأصم لا يجب عليهما ولا يحرم لعدم الفائدة ، وقد تقدم في عبارة النهاية احتمال الوجوب وهو الأحوط.
قيل : ولا يحرم غير الكلام من ما يحرم في الصلاة خلافا للمرتضى. أقول : ظاهر خبر الفقه الرضوي المتقدم نقله المانع من الالتفات موافقة المرتضى (رضي الله
__________________
(1 و 2) ص 97.
عنه) في ما ذهب اليه هنا ومثله اخبار كتاب دعائم الإسلام.
ولا فرق في تحريم الكلام بين الامام والمأموم لظاهر الخبرين المتقدمين أعني صحيحة عبد الله بن سنان (1) ومرسلة الفقيه (2) وربما فرق بينهما وخص التحريم بغير الامام لتكلم النبي (صلىاللهعليهوآله) حال الخطبة (3).
أقول : حديث تكلم النبي (صلىاللهعليهوآله) حال الخطبة انما هو من طريق العامة كما ذكره أصحابنا في مطولاتهم فلا يقوم حجة ولكنهم (رضوان الله عليهم) يستسلقون أمثال هذه الأحاديث ويستدلون بها في مقام المجازفة وهو غير جيد.
(الثاني) في وجوب الطهارة وعدمه ، اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب طهارة الخطيب من الحدث حال الخطبة فذهب الشيخ في المبسوط والخلاف الى الوجوب ومنعه ابن إدريس والفاضلان.
وبالأول صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض ، وكذلك ظاهره القول بتحريم الكلام على الخطيب والمأمومين. واحتج على الثاني بأن فائدة الخطبة لا تتم إلا بالإصغاء. وعلى الأول بصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) (4) «انما جعلت الجمعة ركعتين من أجل الخطبتين فهي صلاة حتى ينزل الامام». قال فجعل (عليهالسلام) الخطبتين صلاة وكل صلاة تجب فيها الطهارة ويحرم الكلام. ولا يرد ان ذلك في الصلاة الشرعية وليست مراده هنا بل اما المعنى اللغوي أو التشبيه بحذف أداته فلا تتم كلية الكبرى. ثم أجاب بأن اللفظ يجب حمله على المعنى الشرعي ومع تعذره يحمل على أقرب المجازات إلى الحقيقة المتعذرة وهو يستلزم المطلوب فتجب مساواتهما للصلاة في كل ما لا يدل على خلافه دليل يجب المصير اليه. وللتأسي في الطهارة
__________________
(1) الوسائل الباب 6 و 8 من صلاة الجمعة.
(2) ص 97.
(3) في عمدة القارئ ج 3 ص 312 ذكر حديث جابر ان سليك الغطفاني دخل يوم الجمعة المسجد ورسول الله «ص» على المنبر يخطب فقعد سليك قبل ان يصلى «تحية المسجد» فقال له النبي «ص» أصليت ركعتين؟ قال لا. فقال قم فاركعهما ....
(4) الوسائل الباب 6 و 8 من صلاة الجمعة.
بالنبي والأئمة (صلوات الله عليهم) وهذا هو الأجود. انتهى.
وبما قرره من التقريب في الاستدلال بالرواية يندفع ما أجاب به سبطه السيد السند عن الرواية المذكورة من ان وجوب التماثل بين الشيئين لا يستلزم ان يكون من جميع الوجوه ، فان هذا الجواب لا يندفع به ما قرره جده. نعم يمكن الجواب عنه بما ذكره الشهيد في شرح الإرشاد من ان المراد بالصلاة هنا الدعاء لاشتمالها على الدعاء وهو اولى من حمله على المجاز الشرعي لأن الحقيقة اللغوية خير من المجاز الشرعي. انتهى.
واما ما أجاب به في الذخيرة عن الخبر المذكور ـ من ان المتبادر منه بقرائن المقام ان الخطبة كالصلاة في وجوب الإتيان بها أو الثواب أو غير ذلك ـ فإنه وان تم له في صحيحة ابن سنان إلا انه لا يتم في رواية الفقيه المتقدم نقلها وكذا في رواية كتاب دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليهالسلام) المانعة من الالتفات إلا كما يحل في الصلاة معللا ذلك بان الخطبتين عوض عن الركعتين فهي صلاة ما دام الامام يخطب حسبما ذيلنا به الرواية المذكورة ، وبه يظهر قوة القول المشهور. وكيف كان فاقتضاء الاحتياط له يوجب الوقوف عليه.
قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وقد علم من الدليل ان الطهارة من الحدث والخبث شرط وبذلك صرح الشهيد في البيان ، وفي الذكرى والدروس خصها بالحدثية لا غير ، ولعل الأقوال حينئذ ثلاثة. ومقتضى الدليل ايضا وجوبها على الامام والمأموم لكن لم نقف على قائل بوجوبها على المأموم كما ذكروه في الكلام فلذلك قيدناه بالخطيب. انتهى.
أقول : لا يخفى ان خبر الفقيه المتقدم مشعر بالوجوب على المأموم لما دل عليه من المنع عن الالتفات إلا على نحو الصلاة ، فإن منعه من الالتفات من حيث كونه في الصلاة ما دام الامام يخطب ظاهر في انه يجب ان يكون على طهارة بطريق اولى. ونحوه الخبر الأخير من اخبار دعائم الإسلام.
(الثالث) في وجوب الإسماع وعدمه ، قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض وهل يجب إسماع من يمكن سماعه من غير مشقة وان زاد على العدد؟ نظر من وجوب الإصغاء عليه كما سيأتي وهو لا يتم إلا بإسماعه ، ومن كون الوجوب بالنسبة إلى الزائد عن العدد مشروطا بإمكان السماع كما سيأتي فلا منافاة. وربما قيل بعدم وجوب الأسماع مطلقا لأصالة البراءة وان وجب الاستماع لتغاير محل الوجوبين فلا يستلزم وجوب الإصغاء على المأموم وجوب الأسماع على الخطيب ، ولان وجوبه مشروط بإمكان السماع كما مر. ووجوب الإصغاء غير مختص بالعدد لعدم الأولوية نعم سماع العدد شرط في الصحة ولا منافاة بينهما فيأثم من زاد وان صحت الخطبة كما ان الكلام لا يبطلها ايضا وان حصل الإثم. انتهى.
وقال في المدارك بعد ذكر المصنف (قدسسره) التردد في المسألة : منشأه أصالة عدم الوجوب وان الغرض من الخطبة لا يحصل بدون الأسماع ، والوجوب أظهر للتأسي وعدم تحقق الخروج عن العهدة بدونه ، ويؤيده ما روى (1) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان إذا خطب يرفع صوته كأنه منذر جيش». انتهى. وفيه ما لا يخفى فإن غاية ما تدل عليه أدلته هو الاستحباب لا الوجوب والاحتياط لا يخفى.
(المورد الرابع) اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وقت الخطبة فذهب جملة : منهم ـ المرتضى وابن ابى عقيل وأبو الصلاح الى ان وقتها بعد الزوال فلا يجوز تقديمها عليه واختاره العلامة ونسبه في الذكرى الى معظم الأصحاب واليه مال في المدارك ، وقال الشيخ في الخلاف يجوز ان يخطب عند وقوف الشمس فإذا زالت صلى الفرض. وقال في النهاية والمبسوط : ينبغي للإمام إذا قرب من الزوال ان يصعد المنبر ويأخذ في الخطبة بمقدار ما إذا خطب الخطبتين زالت
__________________
(1) في سنن البيهقي ج 3 ص 206 عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله «ص» إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش ....
الشمس فإذا زالت نزل فصلى بالناس. واختاره ابن البراج. وذهب ابن حمزة إلى وجوب صعود الامام المنبر بمقدار ما إذا خطب الخطبتين زالت الشمس وان يخطب قبل الزوال ، واختاره المحقق واليه ذهب في الذخيرة قال : ومال اليه الشهيدان استدل القائلون بالأول بوجوه : منها ـ قوله تعالى «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ» (1) فأوجب السعي بعد النداء الذي هو عبارة عن الأذان إجماعا فلا يجب السعى قبله.
ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته (2) قال : «سألته عن الجمعة فقال أذان واقامة يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر فيخطب ولا يصلى الناس ما دام الامام على المنبر. الحديث».
قالوا : ويؤيده ان الخطبتين بدل الركعتين فكما لا يجوز إيقاع المبدل قبل الزوال فكذا البدل تحقيقا للبدلية ، وانه يستحب صلاة ركعتين عند الزوال وانما يكون ذلك إذا وقعت الخطبة بعد الزوال لأن الجمعة عقيب الخطبة فلو وقعت الخطبة قبل الزوال تبعتها صلاة الجمعة فينتفى استحباب صلاة ركعتين والحال هذه.
أقول : ويدل عليه ايضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن عبد الله بن ميمون عن ابى جعفر (عليهالسلام) (3) قال : «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا خرج الى الجمعة قعد على المنبر حتى يفرغ المؤذنون».
وأجاب الفاضل الخراساني في الذخيرة عن هذه الأدلة ، قال : والجواب عن الأول انه موقوف على عدم جواز الأذان يوم الجمعة قبل الزوال وهو ممنوع (لا يقال) قد مر سابقا ان عدم جواز إيقاع الأذان قبل دخول وقت الصلاة اتفاقي بين علماء الإسلام (لأنا نقول) الخطبتان بمنزلة بعض الصلاة فإذا دخل وقت
__________________
(1) سورة الجمعة الآية 9.
(2) الوسائل الباب 25 من صلاة الجمعة.
(3) الوسائل الباب 28 من صلاة الجمعة.
الخطبتين فكأنه دخل وقت الصلاة ، وبالجملة القدر المسلم حصول الاتفاق على عدم جواز الأذان قبل وقت الخطبتين لا وقت الصلاة ، على ان هذا لازم على المانعين أيضا إذ على قولهم وقت الصلاة بعد الزوال بمقدار الخطبتين فإذا جاز الأذان في أول الزوال يلزم جوازه قبل دخول وقت الصلاة. وبما ذكرنا يعلم الجواب عن الثاني ، على ان الخبر غير دال على وجوب ما اشتمل عليه بقرينة ذكر ما لا خلاف في استحبابه واما الأخيران فضعفهما ظاهر لا يحتاج إلى الإطالة. انتهى.
أقول : لا يخفى ما في هذا الجواب من التمحل البعيد والتكليف الغير السديد (أما أولا) فإن ما ادعاه من أن الخطبتين بمنزلة بعض الصلاة فمسلم إلا ان ما ادعاه من أن لهما وقتا على حدة خارجا عن الأوقات المحدودة شرعا ممنوع أتم المنع ، لأن الأوقات ولا سيما وقت الظهر محدودة آية ورواية لقوله تعالى «أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» (1) المفسر في صحيحة زرارة (2) بزوالها الشامل ليوم الجمعة وغيره صليت فيه الجمعة أم لا ، ولو كان هنا وقت آخر للخطبة زائد على الأوقات المحدودة لوقعت الإشارة إليه في روايات الأوقات على كثرتها وتعددها سيما مع تكرر صلاة الجمعة في جميع الأعصار والأمصار كالصلوات اليومية ، والاستناد في هذا الوقت الى هذا الخبر معارض بالأخبار (3) واتفاق الأصحاب على انه لا يجوز الأذان إلا بعد دخول الوقت كما اعترف به ، والمراد بالوقت فيها هو الوقت المحدود آية ورواية وهو زوال الشمس بالنسبة إلى الظهر مثلا ، فإنه هو المتبادر الذي ينساق إليه الإطلاق دون هذا الفرد النادر لو سلمنا وجود دليل عليه. وكون الخطبتين صلاة لا يقتضي أن يجعل لها وقت آخر بل المراد انها يدخل وقتها بالزوال كما يدخل وقت الأربع الركعات لأن الخطبتين فيهما بمنزلة الأخيرتين من الأربع كما أشارت
__________________
(1) سورة بني إسرائيل الآية 80.
(2) الوسائل الباب 2 من أعداد الفرائض ونوافلها.
(3) الوسائل الباب 8 من الأذان والإقامة.
إليه الأخبار المستفيضة بأن وقت صلاة الجمعة زوال الشمس (1) فان لفظ الصلاة هنا مراد به ما يعم الخطبتين ، لما عرفت مما قدمنا من الأخبار من أنهما صلاة ما دام الامام يخطب قد منع فيهما ما منع في الصلاة من الأمور المتقدم ذكرها في الأخبار (2) وكلام الأصحاب. وما توهمه (قدسسره) ـ كما يشير اليه قوله «على ان هذا لازم على المانعين ايضا. الى آخره» من حمل لفظ الصلاة على مجرد الركعتين في هذه الأخبار ـ غلط محض ، فإن صلاة الجمعة حيثما أطلقت في مثل هذه الأخبار وكلام الأصحاب إنما يتبادر منها ما يعم الخطبتين إلا مع القرينة الصارفة عن ذلك كما لا يخفى على المتأمل المنصف.
و (اما ثانيا) فلما نقله ابن إدريس في كتاب السرائر (3) عن البزنطي في كتاب النوادر قال بعد ذكر حديث يتضمن الركعتين اللتين قبل الزوال (4) : قال صاحب الكتاب وهو احمد بن محمد بن ابى نصر صاحب الرضا (عليهالسلام): ومن أراد أن يصلى الجماعة فليأت بما وصفناه مما ينبغي للإمام ان يفعل فإذا زالت الشمس قام المؤذن فأذن وخطب الامام وليكن من قوله في الخطبة. وأورد دعاء تركت ذكره. هذا كلام ابن إدريس في كتابه. وأنت خبير بما فيه من الدلالة الظاهرة على صحة ما قلناه مما هو المعمول عليه عند كافة الأصحاب من ان الأذان في صلاة الجمعة وغيرها انما هو بعد الزوال وكلام هذا الثقة الجليل لا يقصر عن خبر لما علم من عدم اعتماد أمثاله من ثقات الأصحاب وأجلائهم في الفتوى إلا على قول المعصومين (عليهمالسلام).
وبالجملة فإن كلام هذا الفاضل عندي بمحل سحيق عن التحقيق وان تبعه فيه شيخنا المجلسي في البحار كما هي عادته غالبا.
واستدل القائلون بالقول الثاني بما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
(2) ص 96 الى 102.
(3) ص 465.
(4) الوسائل الباب 11 من صلاة الجمعة رقم 15.
سنان عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يصلى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك ويخطب في الظل الأول فيقول جبرئيل (عليهالسلام) يا محمد (صلىاللهعليهوآله) قد زالت الشمس فانزل فصل».
وجه الاستدلال ان المستفاد من الظل الأول ما كان قبل حدوث الفيء بقرينة قول جبرئيل «يا محمد (صلىاللهعليهوآله) قد زالت الشمس فانزل» وتحديد الزوال في أول الخبر بقدر الشراك بناء على انه مقدار قليل لا يكاد يحصل اليقين بالزوال قبل ذلك. كذا ذكره في الذخيرة.
وفيه انه كما يحتمل أن يكون الأمر في الخبر المذكور ما ذكره كذلك يحتمل أن يكون المعنى فيه ما صرح به السيد السند في المدارك حيث قال ـ بعد نقل تأويل العلامة في المختلف للخبر المذكور ورده بالبعد والمخالفة لمقتضى الظاهر ـ ما لفظه : نعم يمكن القدح فيها بأن الأولية أمر إضافي يختلف باختلاف المضاف اليه فيمكن أن يراد به أول الظل وهو الفيء الحاصل بعد الزوال بغير فصل كما يدل عليه قوله (عليهالسلام) «ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كان يصلى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك». فإن إتيانه بالصلاة بعد زوال الشمس عن دائرة نصف النهار قدر شراك يستدعي وقوع الخطبة أو شيء منها بعد الزوال فيكون معنى قول جبرئيل «يا محمد (صلىاللهعليهوآله) قد زالت الشمس فانزل وصل» انها قد زالت قدر الشراك فانزل وصل. وكيف كان فهذه الرواية مجملة المتن فلا تصلح معارضا لظاهر القرآن والأخبار المعتبرة. انتهى. وهو جيد وجيه.
وبالجملة فإن الرواية المذكورة بالنظر الى ظاهر قوله (عليهالسلام) «يخطب في الظل الأول» وقول جبرئيل (عليهالسلام) «يا محمد (صلىاللهعليهوآله) قد زالت الشمس فانزل» ظاهرة الدلالة في ما ذهبوا اليه ومقتضاه ان الصلاة حينئذ تكون في أول الزوال كما يدعونه أيضا ، إلا ان قوله (عليهالسلام) في صدر الخبر «كان يصلى الجمعة حين تزول الشمس قدر شراك»
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
ظاهر المنافرة للمعنى المتقدم ولهذا ارتكبوا التأويل في صدر الخبر وبالنظر الى صدر الخبر الظاهر في تأخير الصلاة عن أول الزوال بحيث تقع الخطبة أو بعض منها بعد الزوال يعضد القول الأول ومن ثم ارتكبوا التأويل في بقية الخبر.
وكيف كان فهذه الرواية باعتبار ما هي عليه من هذا الإجمال وقبول الاحتمال لا تقوم بمعارضة ما قدمناه من الأدلة للقول الأول آية ورواية.
وما أجيب به عنها من جواز تقديم الأذان في صلاة الجمعة على الزوال يحتاج الى دليل قاطع لمخالفته لاتفاق الأصحاب والأخبار على انه لا يجوز الأذان قبل الوقت المحدود شرعا إلا في صلاة الصبح خاصة كما تقدم في بحث الأوقات (1) ولو كان الأذان في صلاة الجمعة كذلك كما يدعيه هذا القائل لكان اولى بالذكر من أذان صلاة الصبح الذي تكاثرت به الأخبار مع انه لم ترد به اشارة فضلا عن التصريح وبما ذكرنا يظهر لك قوة القول الأول مع تأيده بموافقة الاحتياط كما اعترف به أصحاب القول الثاني وجعلوه وجه الجمع بين الأخبار فحملوا ما دل على التأخير إلى الزوال على الأولوية. وفيه منع ظاهر فإنها صريحة في الوجوب آية ورواية.
وفي حملهم الأخبار المذكورة على الأولوية اعتراف منهم بأن الأذان فيها بعد الزوال ردا على ما تكلفه هذا الفاضل.
ولا يبعد عندي حمل هذه الرواية على التقية (2) ومذهب العامة في المسألة
__________________
(1) ج 7 ص 394.
(2) في البحر الرائق ج 2 ص 156 «الصحيح في المذهب ان الأذان الذي يجب ترك البيع به بعد الزوال إذ الأذان قبله ليس بأذان» وفي عمدة القارئ ج 3 ص 279 «أجمع العلماء على ان وقت الجمعة بعد زوال الشمس الا ما روى عن مجاهد يجوز فعلها وقت صلاة العيد لأنها عيد. وقال أحمد تجوز قبل الزوال وقال الجرمي يجوز فعلها في الساعة السادسة» وفي البداية ج 1 ص 144 «الجمهور على ان وقت الجمعة وقت الظهر اعنى وقت الزوال وانها لا تجوز قبل الزوال ، وقال احمد تجوز قبل الزوال. واما الأذان فجمهور الفقهاء اتفقوا على ان وقته إذا جلس الامام على المنبر».
وان لم يكن معلوما إلا ان شيخنا الشهيد في الذكرى نقل بعد نقل قول الشيخ والمحقق بالجواز قبل الزوال والاستدلال عليه بما رواه العامة عن أنس (1) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان يصلى إذا زالت الشمس». قال : وظاهره ان الخطبة وقعت قبل ميلها. ثم أردفها بصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (2). ونقل العلامة في المنتهى من أخبارهم أيضا عن سلمة بن الأكوع (3) قال : «كنا نجمع مع رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء». والمراد نصلي معه جماعة كما هو ظاهر اللفظ ، والصلاة معه إذا زالت الشمس مستلزمة لتقدم الخطبتين على الزوال.
والعلامة في المنتهى حيث اختار فيه القول المشهور حمل الرواية على ما يوافق ما اختاره اعتضادا بها فقال : والجمعة انما هي الخطبتان والركعتان. والظاهر من اللفظ انما هو ما قلنا سيما مع اعتضاده بالرواية الأخرى. والله العالم
(المورد الخامس) في أمور أخر يجب التنبيه عليها : منها ـ انهم صرحوا بان حضور العدد شرط في صحة الخطبة كما هو شرط في صحة الصلاة ، قال في الخلاف : ومن شرطها العدد كما هو شرط في الصلاة فلو خطب من دونه ثم أحرم مع العدد لم يصح وبه قال الشافعي ولم يشترطه أبو حنيفة (4). وقال في الذكرى : ولم أقف على مخالف فيه منا وعليه عمل الناس في سائر الأعصار والأمصار ، وخلاف أبي حنيفة (5) هنا مسبوق بالإجماع وملحوق به أعني الإجماع الفعلي بين المسلمين.
ومنها ـ ان المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان أذان المؤذن يكون عند صعود الامام المنبر وجلوسه لرواية عبد الله بن ميمون المتقدمة في سابق هذا المورد (6) وقوله (عليهالسلام) فيها «كان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذا خرج الى الجمعة قعد
__________________
(1) في صحيح البخاري باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس عن انس «كان النبي «ص» يصلى الجمعة حين تميل الشمس».
(2) ص 106 و 107.
(3) صحيح مسلم ج 3 ص 9 باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس.
(4 و 5) المغني ج 2 ص 332 والمهذب ج 1 ص 111.
(6) ص 104.
على المنبر حتى يفرغ المؤذنون».
وقال أبو الصلاح : إذا زالت الشمس أمر مؤذنيه بالأذان فإذا فرغوا منه صعد المنبر وخطب. وعليه تدل مضمرة محمد بن مسلم المتقدمة ثمة (1) وقوله فيها «يخرج الامام بعد الأذان فيصعد المنبر.».
ويؤيد الرواية الأولى ما رواه في كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد (عليهماالسلام) (2) قال في حديث : «وإذا صعد الامام جلس واذن المؤذنون بين يديه فإذا فرغوا من الأذان قام فخطب. الحديث».
ولم يحضرني الآن وجه جمع بين الأخبار إلا القول بالتخيير بين الأمرين أو حمل مضمرة محمد بن مسلم على الرخصة وان كان السنة أن يكون الأذان بعد جلوس الامام على المنبر ، ويؤيده شهرة الحكم بذلك بين الخاصة والعامة (3).
ومنها ـ أنه يستحب للخطيب السلام بعد ركوبه المنبر عند أكثر الأصحاب لما رواه الشيخ عن عمرو بن جميع رفعه عن على (عليهالسلام) (4) انه قال : «من السنة إذا صعد الامام المنبر أن يسلم إذا استقبل الناس». قال في الذكرى : وعليه عمل الناس.
ونقل عن الشيخ في الخلاف انه قال لا يستحب التسليم. قال في الذكرى : وكأنه لم يثبت عنده سند الحديث. وقال في الذخيرة : وكأنه نظر الى ضعف سند الرواية.
أقول : بل الظاهر انه لم تخطر الرواية المذكورة بخاطره يومئذ وإلا فإنه يتمسك في جملة من الأحكام بالروايات العامية فضلا عن مثل هذه الرواية ، وضعف السند بهذا الاصطلاح المحدث غير معمول عليه بين المتقدمين من الشيخ وغيره بل الأظهر هو ما ذكرناه.
__________________
(1) ص 104.
(2) مستدرك الوسائل الباب 6 و 14 من صلاة الجمعة.
(3) المغني ج 2 ص 296 و 297 والبداية ج 1 ص 144.
(4) الوسائل الباب 28 من صلاة الجمعة.
ومنها ـ استحباب استقبال الناس بوجهه حال الخطبة واستقبال الناس له لما رواه في الكافي عن السكوني عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل واعظ قبله. يعنى إذا خطب الامام الناس يوم الجمعة ينبغي للناس ان يستقبلوه».
وروى في الفقيه مرسلا (2) قال : «قال النبي (صلىاللهعليهوآله) كل واعظ قبلة وكل موعوظ قبلة للواعظ. يعني في يوم الجمعة والعيدين وصلاة الاستسقاء في الخطبة يستقبلهم الامام ويستقبلونه حتى يفرغ الامام من خطبته».
ومنها ـ الاعتماد حال الخطبة على سيف أو قوس أو عصا لما في صحيحة عمر بن يزيد عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) وفيها «وليلبس الامام البرد والعمامة ويتوكأ على قوس أو عصا. الحديث».
ومنها ـ التعمم شتاء كان أو قيظا والارتداء ببرد يمني أو عدني أو غيرهما لما تقدم في صحيحة عمر بن يزيد ، ولما رواه سماعة عن الصادق (عليهالسلام) (4) في الموثق قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) ينبغي للإمام الذي يخطب الناس يوم الجمعة ان يلبس عمامة في الشتاء والصيف ويتردى ببرد يمني أو عدني. الحديث».
ومنها ـ ان يقوم على مرتفع من منبر ونحوه لما تقدم في جملة من الأخبار (5)
ومنها ـ كونه بليغا بمعنى جمعه بين الفصاحة التي هي خلوص الكلام من التعقيد وضعف التأليف ومن كونها غريبة وحشية وبين القدرة على تأليف الكلام المطابق لمقتضى الحال مع الاحتراز عن الإيجاز المخل والتطويل الممل ليكون كلامه أوقع في القلوب وبه يحصل الأثر المراد من الخطبة والمطلوب.
ومنها ـ مواظبته على الطاعات والانزجار عن المحرمات بل المكروهات
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 53 من صلاة الجمعة.
(3) الوسائل الباب 6 من صلاة الجمعة.
(4) الوسائل الباب 24 من صلاة الجمعة.
(5) ص 97 و 99 و 104 و 110.
ولا سيما المواظبة على الصلوات في أوقاتها والجماعات والجمعات واتصافه بما يأمر به وينهى عنه ليكون وعظه أبلغ تأثيرا في القلوب ، وقد قيل ان ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان وما خرج من القلب فموقعه القلب.
(المقصد الرابع) ـ في الجماعة ، واشتراطها بالجماعة إجماعي نصا وفتوى ، اما الثاني فلما نقله جملة من الأصحاب واما الأول فللأخبار المستفيضة : منها ـ قول أبى جعفر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة المتقدمة (1) في عد الروايات الدالة على الوجوب العيني «منها صلاة واحدة فرضها الله في جماعة وهي الجمعة». وقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة عمر بن يزيد (2) «إذا كانوا سبعة فليصلوا في جماعة». الى غير ذلك من الروايات المتقدمة ثمة ونحوها ، فلا يصح الانفراد بها وان حصل العدد بل لا بد من الارتباط الحاصل من صلاة الامام والمأمومين.
وتتحقق الجماعة بنية اقتداء المأمومين بالإمام فلو أخلوا بها أو بعضهم لم تنعقد الجمعة متى كان أحد العدد المعتبر لانه يعتبر في الانعقاد نية العدد المعتبر ولم تصح صلاة المخل وان كان زائدا على العدد.
قالوا : وهل يجب على الامام هنا نية الإمامة؟ نظر من حصول الإمامة إذا اقتدى به ، ومن وجوب نية كل واجب. انتهى. وهو ضعيف لما عرفت مما حققناه في معنى النية في غير مقام ، وكلامهم هنا ـ كما في غير هذا الموضع ايضا ـ مبنى على النية بالمعنى المشهور بينهم وهو الحديث النفسي والتصوير الفكري وليس هو النية حقيقة كما عرفت.
ويجب التنبيه هنا على أمور : الأول ـ قال شيخنا الشهيد في الذكرى : لو بان للعدد ان الامام محدث فان كان العدد لا يتم بدونه فالأقرب انه لا جمعة لهم لانتفاء الشرط ، وان كان العدد حاصلا من غيره صحت صلاتهم عندنا لما يأتي ان شاء الله تعالى في باب الجماعة. وربما افترق الحكم هنا وهناك لأن الجماعة شرط في
__________________
(1) ج 9 ص 408.
(2) الوسائل الباب 6 من صلاة الجمعة.
الجمعة ولم يحصل في نفس الأمر بخلاف باقي الصلوات ، فإن القدوة إذا فاتت فيها يكون قد صلى منفردا وصلاة المنفرد هناك صحيحة بخلاف الجمعة.
وقال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : أقول انه لا يخفى ضعف هذا الفرق لمنع صحة الصلاة هناك على تقدير الانفراد لعدم إتيان المأموم بالقراءة التي هي من وظائف المنفرد ، وبالجملة فالصلاتان مشتركتان في الصحة ظاهرا وعدم استجماعهما الشرائط المعتبرة في نفس الأمر ، فما ذهب إليه أولا من الصحة غير بعيد ، بل لو قيل بالصحة مطلقا وان لم يكن العدد حاصلا من غيره لأمكن لصدق الامتثال وإطلاق قول ابى جعفر (عليهالسلام) في صحيحة زرارة (1) «وقد سأله عن قوم صلى بهم امامهم وهو غير طاهر أتجوز صلاتهم أم يعيدونها؟ قال لا اعادة عليهم تمت صلاتهم وعليه هو الإعادة وليس عليه أن يعلمهم ، هذا عنه موضوع». انتهى.
أقول : ما ذكره (قدسسره) جيد ، ويعضده ان الأحكام الشرعية من وجوب وتحريم وصحة وبطلان ونحوها إنما نيطت بنظر المكلف وعلمه لا بالواقع ونفس الأمر كما تقدم تحقيقه في غير مقام ، لما علم عقلا ونقلا من ان الشارع لم يجعل نفس الأمر مناطا للأحكام الشرعية وإلا لزم التكليف بما لا يطاق فان ذلك لا يعلمه إلا هو سبحانه والمناط إنما هو علم المكلف في تحليل أو تحريم أو صحة أو بطلان ونحو ذلك ، وبه يتجه الحكم بالصحة في الصورة التي حكم ببطلان الجمعة فيها وهو ما إذا كان العدد لا يتم بدونه فإن الصلاة صحيحة بالنظر الى ظاهر الأمر وانتفاء الشرط بحسب الواقع غير ملتفت اليه لما عرفت ويخرج الخبر المذكور شاهدا على ذلك.
(الثاني) ـ لو عرض للإمام عارض من موت أو إغماء أو حدث لم تبطل الصلاة وجاز للمأمومين أن يقدموا من يتم بهم الصلاة ، أما الأول فلان الأصل صحة الصلاة والحكم بالإبطال يتوقف على دليل شرعي وليس فليس ، وأما الثاني
__________________
(1) الوسائل الباب 36 من صلاة الجماعة.
فلثبوت ذلك في مطلق الجماعة كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى في باب صلاة الجماعة.
وهل الاستخلاف هنا وجوبا أو استحبابا؟ صرح العلامة في المنتهى بالأول وجزم ببطلان الصلاة بدونه محافظة على اعتبار الجماعة فيها استدامة كما تعتبر ابتداء.
وفيه ان الظاهر ان الجماعة انما تعتبر ابتداء لا استدامة كما صرح به غير واحد من الأصحاب ، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك في فروع المقصد الثاني في العدد. وبه يعلم الوجه في الثاني وان كان الأحوط ما ذكره (قدسسره).
ولو لم يتفق في الجماعة من هو بشروط الإمامة أتموا فرادى جمعة لا ظهرا.
وهل يشترط مع الاستخلاف استئناف نية القدوة؟ الأظهر ذلك لانتفاء القدوة الأولى بما عرض للإمام مما أوجب خروجه مع وجوب نية تعيين الامام كما سيجيء ان شاء الله تعالى في باب الجماعة. وقيل لا يشترط لتنزيل الخليفة منزلة الأول. وفيه ما عرفت من وجوب نية التعيين.
(الثالث) ـ لو ركع مع الإمام في الأولى وزوحم عن السجود فليس له السجود على ظهر غيره بل ان امكنه السجود بعد قيام الصفوف وسجد والتحق بالإمام في الركوع الثاني وجب وأجزأه ، وما حصل من الإخلال بالمتابعة في الركن مغتفر بالعذر كما سيأتي بيانه في محله ان شاء الله تعالى.
وان لم يمكنه السجود حتى ركع الامام ثانيا فليس له الركوع معه لئلا يلزم زيادة ركن في الصلاة فتبطل فإذا سجد سجد معه ونوى بسجدتيه الركعة الاولى ثم أتم صلاته بعد تسليم الإمام فإن صلاته تصح إجماعا.
ولو لم ينو بسجدتيه الاولى بل نوى الثانية أو لم ينو شيئا فأقوال : أحدها ـ بطلان صلاته وعليه الشيخ في النهاية وأكثر المتأخرين والظاهر انه المشهور ، والظاهر ان وجهه ـ كما ذكره في المدارك ـ عدم الاعتداد بهما لعدم نيتهما للأولى واستلزام إعادتهما زيادة الركن في الصلاة.
وقال في المبسوط انه ان لم ينو بهما الأولى لم يعتد بهما ويستأنف سجدتين للركعة الاولى ثم يستأنف بعد ذلك ركعة أخرى وقد تمت جمعة ، قال وقد روى انه تبطل صلاته. ونحوه قال في الخلاف على ما نقل عنه ، وهو مذهب السيد المرتضى في المصباح.
وقال ابن إدريس إنما تبطل إذا نوى أنهما للثانية لا بترك نية أنهما للأولى. ورده العلامة بأن أفعال المأموم تابعه لإمامه فالإطلاق ينصرف الى ما نواه الامام وقد نوى الثانية فينصرف فعل المأموم اليه.
وقال المحقق في المعتبر بعد ذكر رواية حفص الآتية ان شاء الله تعالى وردها بضعف السند وانه لا عبرة بها : فالأشبه ما ذكره في النهاية. وهو مؤذن باختيار مذهب الشيخ في النهاية من القول بالبطلان.
وفي المعتبر علل البطلان الذي ذهب اليه الشيخ في النهاية متى لم ينو بالسجدتين الأولى بأنه قد زاد ركنا وهو السجدتان فتبطل صلاته كما لو زاد ركعة ، قال : ويؤيد ذلك ما رواه زرارة وبكير ابنا أعين عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «إذا استيقن انه زاد في صلاته المكتوبة لم يعتد بها واستقبل صلاته استقبالا إذا كان قد استيقن يقينا». ثم نقل نحوها رواية أبي بصير (2) وعلل في المدارك وجه البطلان بما قدمنا نقله عنه ، والظاهر ان المرجع إلى أمر واحد فإنه متى كانتا غير معتد بهما لزم زيادة الركن.
وظاهر الشهيد في الذكرى اختيار القول بالصحة كما ذهب اليه الشيخ في المبسوط فإنه بعد ان نقل عن المعتبر رد الرواية بضعف السند قال ما لفظه : قلت ليس ببعيد العمل بهذه الرواية لاشتهارها بين الأصحاب وعدم وجود ما ينافيها ، وزيادة السجود مغتفرة في المأموم كما لو سجد قبل امامه ، وهذا التخصيص يخرج الروايات الدالة على الابطال عن الدلالة. واما ضعف الراوي فلا يضر مع الاشتهار ، على
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 19 من الخلل في الصلاة.
ان الشيخ في الفهرست قال ان كتاب حفص معتمد عليه. انتهى. وأشار بالروايات الدالة على الإبطال الى ما أورده المحقق (قدسسره) من الروايات الدالة على إبطال الصلاة بزيادة الركن فيها.
وقال في المدارك بعد أن رد الرواية بضعف السند وانه لا عبرة بها كما ذكره في المعتبر : والأصح البطلان ان نوى بهما الثانية كما اختاره المصنف اما مع الذهول عن القصد فتنصرفان إلى الأولى. انتهى. وهو راجع الى ما قدمنا نقله عن ابن إدريس.
وظاهر القائلين بالبطلان هو العموم بمعنى انه متى لم ينو بهما الأولى بطلت صلاته أعم من أن ينوي بهما الثانية أو لم ينو بهما شيئا ، ولهذا اعترض العلامة على مذهب ابن إدريس بما قدمنا ذكره. والظاهر ان ما ادعاه كل منهما من الانصراف إلى الأولى أو الثانية لا يخلو من نظر لما سيأتي ان شاء الله تعالى في المقام ، وحينئذ فتكون الأقوال في المسألة ثلاثة : البطلان مطلقا والصحة مطلقا والتفصيل الذي ذهب اليه ابن إدريس. والرواية المشار إليها في المقام
ما رواه الشيخ وابن بابويه عن حفص بن غياث (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في رجل أدرك الجمعة وقد ازدحم الناس وكبر مع الامام وركع ولم يقدر على السجود وقام الامام والناس في الركعة الثانية وقام هذا معهم فركع الامام ولم يقدر هذا على الركوع في الركعة الثانية من الزحام وقدر على السجود كيف يصنع؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) اما الركعة الأولى فهي إلى عند الركوع تامة فلما لم يسجد لها حتى دخل في الركعة الثانية لم يكن له ذلك فلما سجد في الثانية فإن كان نوى ان هذه السجدة هي للركعة الأولى فقد تمت له الأولى فإذا سلم الامام قام فصلى ركعة يسجد فيها ثم يتشهد ويسلم ، وان كان لم ينو ان تكون تلك السجدة للركعة الأولى لم تجزئ عنه الأولى ولا الثانية وعليه ان يسجد سجدتين
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من صلاة الجمعة.
وينوي أنهما للركعة الأولى وعليه بعد ذلك ركعة ثانية يسجد فيها». قال حفص : وسألت عنها ابن ابى ليلى فما طعن فيها ولا قارب.
وأنت خبير بأن الرواية المذكورة لا معارض لها في البين واطراحها بمجرد ضعف السند بهذا الاصطلاح الغير المعتمد غير مرضى سيما مع ما ذكره شيخنا الشهيد من شهرة الرواية بين الأصحاب. إلا أن الرواية المذكورة غير صريحة الدلالة في ما يدعونه من الصحة مع زيادة سجدتين أخريين وذلك فإنه مبنى على ان يكون قوله «وعليه أن يسجد سجدتين. إلخ» معطوفا على جواب الشرط بمعنى انه إذا لم ينو ان تكون تلك السجدة للركعة الأولى فإنها لا تجزئ عن الأولى ولا عن الثانية والواجب عليه في الصورة المذكورة ان يسجد. الى آخره ، وهذا المعنى غير متعين في الرواية بل من الممكن حمل قوله (عليهالسلام) «وعليه ان يسجد. إلخ» على أن يكون كلاما مستأنفا مؤكدا لما تقدم ، ويكون حاصل المعنى انه إذا لم ينو ان تكون تلك السجدة التي سجدها للركعة الأولى فإنها لا تجزئ عنه للأولى ولا للثانية بل الواجب عليه من أول الأمر انه متى حصلت له فرصة للسجود في الركعة الثانية ان ينوي بها الاولى وعليه بعد ذلك ركعة ثانية. وبذلك يظهر لك ان الأقوى في المسألة هو القول بالبطلان كما هو المشهور بين المتأخرين.
فروع
(الأول) ـ قد تقدم النقل عن ابن إدريس وصاحب المدارك بأنه لو سجد وذهل عن نية كونهما للأولى أو الثانية فإن ذلك ينصرف إلى الأولى وعلى هذا تصح صلاته في الصورة المذكورة ، والى هذا القول مال شيخنا الشهيد الثاني في كتاب روض الجنان ونقل أيضا عن المحقق الشيخ على.
وعلله في الروض بحمل الإطلاق على ما في ذمته ، قال : فإنه لا تجب لكل فعل من أفعال الصلاة نية وان كان المصلى مسبوقا وانما يعتبر للمجموع النية أولها
وقد تقدم النقل عن العلامة بأنه اختار البطلان معللا بانصراف الإطلاق إلى
الركعة الثانية لأن أفعال المأموم تابعه لأفعال امامه فالإطلاق ينصرف الى ما نواه الامام وقد نوى الثانية فينصرف فعل المأموم اليه.
ورد بان وجوب المتابعة لا يصير المنوي للإمام منويا للمأموم كما في كل مسبوق ولا يصرف فعله عما في ذمته والأصل يقتضي الصحة.
أقول : لا يخفى ان التعليل الأول أيضا لا يخلو من خدش فان قوله ـ لا تجب لكل فعل من أفعال الصلاة نية ـ على إطلاقه ممنوع لان هذا انما يتم في مقام الإتيان بالفعل في محله على الترتيب الشرعي الذي وضعت عليه الصلاة ، اما في ما نحن فيه من هذه الصورة التي صار السجود فيها في غير مقامه صالحا في حد ذاته لان يكون للركعة الأولى أو الثانية وان بطلت الصلاة على تقدير جعله للثانية فإنه لا يتعين لأحدهما إلا مع النية ، وانصراف الإطلاق الى ما في ذمته لو تم لورد عليهم إيجاب القيود في النية كما صرحوا به من وجوب نية الأداء والقضاء والوجوب والاستحباب وكونها ظهرا أو عصرا ونية الرفع في الطهارة والاستباحة ونحو ذلك ، فإنه بمقتضى هذا الكلام لو نوى «أصلي قربة الى الله أو أتوضأ قربة الى الله» صح ذلك وانصرف الإطلاق الى ما في ذمته وهم لا يقولون به كما لا يخفى على من وقف على كلامهم في بحث النية.
هذا ، والمفهوم من الرواية المتقدمة ـ حيث دلت على انه إذا لم ينو بتلك السجدة الركعة الأولى الذي هو أعم من نية الثانية وعدم النية بالكلية فإنها لا تجزئ للأولى ولا للثانية ـ هو البطلان في الصورة المذكورة ولكن الجماعة المذكورين حيث اطرحوا الرواية لضعف سندها أعرضوا عن العمل بما دلت عليه مطلقا ، والمتجه عندنا هو العمل بما دلت عليه لعدم تعويلنا على هذا الاصطلاح المحدث وعدم المعارض لها ، ولو سلمت من الاحتمال الذي قدمنا ذكره لحكمنا بالصحة في أصل المسألة كما ذهب إليه في المبسوط ولكنها غير ظاهرة فيه لما عرفت.
(الثاني) ـ لو سجد ولحق الامام راكعا في الثانية وجب عليه المتابعة وأدرك
الجمعة وأتم صلاته مع الامام بلا إشكال ولا خلاف ، انما الخلاف في ما لو أدركه رافعا فقيل بوجوب الانفراد حذرا من مخالفة الإمام في الأفعال لتعذر المتابعة ، وقيل بوجوب المتابعة وحذف الزائد كمن تقدم الامام سهوا في ركوع أو سجود ، وقيل بالتخيير بين أن يجلس حتى يسجد الامام ويسلم ثم ينهض إلى الثانية وبين ان يقعد ويعدل الى الانفراد.
(الثالث) ـ لو لم يتمكن من السجود في ثانية الإمام أيضا حتى قعد الامام للتشهد ففي فوات الجمعة وعدمه اشكال من عدم إدراك الركعة الثانية ، ومن إدراكها حكما. أقول : ويرجع الثاني الى ما تقدم من ان الجماعة والعدد شرط في صحة صلاة الجمعة ابتداء لا استدامة. هذا إذا اتى بالسجود قبل تسليم الامام اما لو لم يأت به إلا بعده فقد قال في المنتهى ان الوجه هنا فوات الجمعة قولا واحدا لان ما يفعله بعد التسليم لم يكن في حكم صلاة الامام. وتنظر فيه بعض الأفاضل قال : لمنع اشتراط الجماعة في صحة صلاة الجمعة إلا في الابتداء.
ثم ان قلنا بفوات الجمعة فهل يعدل بنيته الى الظهر أو يستأنف؟ احتمالان وقرب العلامة الثاني ، وربما يوجه بان كلا منهما صلاة منفردة عن الأخرى في الشرائط والأحكام والأصل عدم جواز العدول بالنية من فرض الى آخر لقوله (عليهالسلام) (1) «وإنما لكل امرئ ما نوى». وان النية انما تعتبر في أول العبادات لقوله (عليهالسلام) (2) : «إنما الأعمال بالنيات». وربما يوجه الأول بأن الجمعة ظهر مقصورة فإذا جاز العدول من السابقة المغايرة فههنا اولى.
وأنت خبير بما في هذه التعليلات والتوجيهات من عدم الصلاحية لتأسيس الأحكام الشرعية ، والمسألة لا تخلو من الاشكال لعدم الدليل في المقام.
(الرابع) ـ لو زوحم عن الركوع والسجود معا صبر حتى يتمكن منهما ثم يلتحق بالإمام ، لما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات.
ابى الحسن (عليهالسلام) (1) «في رجل صلى في جماعة يوم الجمعة فلما ركع الإمام ألجأه الناس الى جدار أو أسطوانة فلم يقدر على ان يركع ولا يسجد حتى رفع القوم رؤوسهم أيركع ثم يسجد ثم يقوم في الصف؟ قال لا بأس بذلك».
وكذا الحكم في ما لو زوحم عن ركوع الأولى فإنه يصبر حتى يلتحق بالإمام في ركوع الثانية فإنه يركع معه وتصير له الأولى ثم يأتي بالثانية بعد تسليم الامام.
اما لو لم يدركه إلا بعد الرفع من الأخيرة ففي إدراك الجمعة بذلك وعدمه قولان ثانيهما للمحقق في المعتبر وأولهما لجمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في الذكرى والمحقق الشيخ على استنادا الى عموم الرواية المذكورة.
قال في الذكرى : ولو لحقه بعد رفعه من الثانية فالأقرب الإجزاء لأنه أدرك ركعة مع الامام حكما وان لم يكن فعلا والرواية تشمله ، ووجه المنع انه لم يلحق ركوعا مع الامام. انتهى.
أقول : لا يخفى ضعف ما قربه ، اما التعليل الأول فعليل كما لا يخفى ، واما الرواية فإن ظاهر «ثم يقوم في الصف» هو إدراك الركعة الثانية كملا والركوع مع الامام فيها. نعم يمكن توجيه ما ذكره بما تقدم من ان الجماعة شرط في الابتداء لا في الاستدامة وحينئذ فيمكن الاستناد الى عموم ما دل على وجوب الجمعة وتعينها. والله العالم.
(الأمر الرابع) ـ انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه تدرك الجمعة بإدراك ركعة مع الامام ، نقل الاتفاق على ذلك جملة منهم.
ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن العرزمي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «إذا أدركت الإمام يوم الجمعة وقد سبقك بركعة فأضف إليها ركعة أخرى واجهر فيها ، وان أدركته وهو يتشهد فصل أربعا».
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من صلاة الجمعة. ولفظ الرواية في الفقيه ج 1 ص 270 هكذا «أيركع ثم يسجد ويلحق بالصف وقد قام القوم أم كيف يصنع؟ فقال يركع ويسجد ثم يقوم في الصف ولا بأس بذلك».
(2) الوسائل الباب 26 من صلاة الجمعة.
وعن الفضل بن عبد الملك في الصحيح (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) من أدرك ركعة فقد أدرك الجمعة».
وما رواه الكليني والشيخ عن الحلبي في الصحيح أو الحسن (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة فقال يصلى ركعتين فان فاتته الصلاة فلم يدركها فليصل أربعا. وقال : إذا أدركت الإمام قبل ان يركع الركعة الأخيرة فقد أدركت الصلاة وان أنت أدركته بعد ما ركع فهي الظهر اربع ركعات».
وما رواه الصدوق عن الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) انه قال : «إذا أدركت الإمام قبل أن يركع الركعة الأخيرة فقد أدركت الجمعة وان أدركته بعد ما ركع فهي أربع بمنزلة الظهر».
وعن الفضل بن عبد الملك في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «إذا أدرك الرجل ركعة فقد أدرك الجمعة وان فاتته فليصل أربعا».
ولا ينافي ذلك ما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «لا تكون الجمعة إلا لمن أدرك الخطبتين». فإنه محمول على الفضل والاستحباب جمعا.
وبالجملة فالحكم المذكور اتفاقي وانما الخلاف في ما به تدرك الركعة ، فالمشهور انه يتحقق بإدراك الإمام راكعا ، واليه ذهب الشيخ في الخلاف والمرتضى وكافة
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 26 من صلاة الجمعة.
(2) الوسائل الباب 26 من صلاة الجمعة. وفي نسخ الحدائق هكذا «عن من يدرك الجمعة» والصحيح ما هنا. وأيضا في الفروع ج 1 ص 119 والتهذيب ج 1 ص 322 اللفظ هكذا «فهي الظهر أربع».
(3) الوسائل الباب 26 من صلاة الجمعة. وفي الفقيه ج 1 ص 270 هكذا «فقد أدركت الصلاة».
(5) الوسائل الباب 16 من صلاة الجمعة. وفي التهذيب ج 1 ص 323 هكذا «الجمعة لا تكون».
المتأخرين ، وذهب الشيخان في المقنعة والنهاية وكتابي الأخبار الى ان المعتبر إدراك تكبير الركوع.
والأظهر الأول ، ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) انه قال : «إذا أدركت الامام وقد ركع فكبرت قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدركت الركعة وان رفع رأسه قبل أن تركع فقد فاتتك الركعة».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن سليمان بن خالد (2) ورواه الكليني في الصحيح أيضا عن سليمان بن خالد (3) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) في الرجل إذا أدرك الامام وهو راكع فكبر وهو مقيم صلبه ثم ركع قبل ان يرفع الإمام رأسه فقد أدرك الركعة».
وما رواه الصدوق في الفقيه عن أبي أسامة (4) «انه سأله (عليهالسلام) عن رجل انتهى الى الامام وهو راكع؟ قال إذا كبر واقام صلبه ثم ركع فقد أدرك».
وما رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله عن عبد الله (عليهالسلام) (5) قال «إذا دخلت المسجد والامام راكع فظننت انك ان مشيت اليه رفع رأسه قبل ان تدركه فكبر واركع فإذا رفع رأسه فاسجد مكانك فإذا قام فالحق بالصف وان جلس فاجلس مكانك فإذا قام فالحق بالصف». ورواه الشيخ عن عبد الرحمن بسند صحيح أيضا (6).
__________________
(1) الوسائل الباب 45 من صلاة الجماعة. وفيه هكذا «فكبرت وركعت» وفي الفقيه ج 1 ص 254 كما هنا.
(2) الوسائل الباب 45 من الجماعة. واللفظ في التهذيب ج 1 ص 258 كما هنا وفي روايته الأخرى ص 330 أسقط لفظ الركعة.
(3) الوسائل الباب 45 من الجماعة. وفي الفروع ج 1 ص 106 بإسقاط لفظ الركعة أيضا.
(4) الوسائل الباب 45 من صلاة الجماعة.
(5) الوسائل الباب 46 من الجماعة. وليس في الفقيه ج 1 ص 254 «قبل ان تدركه» بعد قوله «رفع رأسه» وانما هو في رواية التهذيب ج 1 ص 258.
(6) الوسائل الباب 46 من الجماعة.
وما رواه الشيخ عن معاوية بن شريح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا جاء الرجل مبادرا والامام راكع أجزأته تكبيرة واحدة لدخوله في الصلاة والركوع».
وعن جابر الجعفي (2) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) انى أؤم قوما فاركع فيدخل الناس وانا راكع فكم انتظر؟ فقال ما أعجب ما تسأل عنه انتظر مثلي ركوعك فان انقطعوا وإلا فارفع رأسك».
وفي الفقيه (3) «قال رجل لأبي جعفر (عليهالسلام) انى إمام مسجد الحي فاركع بهم واسمع خفقان نعالهم وانا راكع؟ فقال اصبر ركوعك ومثل ركوعك فان انقطعوا وإلا فانتصب قائما».
هذا ما حضرني من الروايات الدالة على المشهور.
واما ما يدل على القول الثاني فهو ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (4) قال قال لي : «ان لم تدرك القوم قبل أن يكبر الإمام للركعة فلا تدخل معهم في تلك الركعة».
وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن ابى جعفر (عليهالسلام) (5) قال قال : «لا تعتد بالركعة التي لم تشهد تكبيرها مع الامام».
وعن محمد بن مسلم في الصحيح عن ابى جعفر (عليهالسلام) (6) قال : «إذا أدركت التكبيرة قبل أن يركع الامام فقد أدركت الصلاة».
وروى الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم (7) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا لم تدرك تكبيرة الركوع فلا تدخل في تلك الركعة».
وروى الشيخ في التهذيب عن يونس الشيباني عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (8) قال : «إذا
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من تكبيرة الإحرام و 45 من الجماعة.
(2) الوسائل الباب 50 من الجماعة.
(3) ج 1 ص 255 وفي الوسائل الباب 50 من الجماعة.
(4 و 5 و 6 و 7) الوسائل الباب 44 من الجماعة.
(8) الوسائل الباب 13 من الأذان والإقامة.
دخلت من باب المسجد فكبرت وأنت مع امام عادل ثم مشيت إلى الصلاة أجزأك ذلك وإذا الإمام كبر للركوع كنت معه في الركعة لأنه إذا أدركته وهو راكع لم تدرك التكبير لم تكن معه في الركوع».
وجملة من الأصحاب جمعوا بين هذه الأخبار بحمل النهي في الصحيحة الاولى وعدم الاعتداد في الثانية على الكراهة ونفى الاعتداد في الفضيلة ويكون الغرض التحريض على كمال السعى في عدم التأخير. قالوا وانما حملنا هذه الأخبار على ذلك رعاية لقاعدة الجمع وإبقاء للأخبار الكثيرة على ظاهرها فان هذه الأخبار الأصل فيها محمد بن مسلم وهو واحد بخلاف الأخبار الأولة.
وأنت خبير بان مرجع هذا الجمع الى التخيير في الدخول بعد فوات التكبير وان الأولى عدمه لانه مكروه باعتبار النهى المتقدم ، وهذا انما يتم في غير الجمعة مما جاز للمكلف الإتيان به جماعة وفرادى دون الجمعة التي قام الدليل على وجوبها عينا كما هو المختار الذي عليه جل علمائنا الأبرار ، إلا ان تحمل هذه الأخبار بكلا طرفيها من الأخبار الدالة على إدراك الركعة حال الركوع والأخبار الدالة على العدم إلا مع إدراك تكبيرة الإحرام على غير الجمعة ، وهو مشكل لأنه يلزم منه بقاء حكم الجمعة مبهما في الصورة المذكورة.
ورجح بعض فضلاء متأخري المتأخرين وجوب الدخول في الجمعة حال الركوع نظرا الى ان الأخبار السابقة الدالة على وجوب إدراك صلاة الجمعة المتحقق بالدخول معهم في الصلاة في الصورة المذكورة أخص مطلقا من الأخبار المذكورة والخاص مقدم على العام.
وفيه ـ مع غموض ما ذكره ـ انه ان أراد دلالتها على وجوب الدخول حال الركوع فان ظاهر صحيحتي الحلبي المتقدمتين (1) في عداد تلك الروايات انما هو العكس فان الظاهر من قوله (عليهالسلام) فيهما «فإن أدركته بعد ما ركع فهي الظهر» انه متى أدركه
__________________
(1) ص 121.
حال الركوع فهي الظهر بمعنى عدم إدراك الركعة وفوات الجمعة بإدراكه حال الركوع ولهذا ان بعضهم احتمل اختصاص الجمعة بذلك نظرا الى هاتين الروايتين وان كان الحكم في غيرها ما دلت عليه تلك الأخبار من إدراك الركعة بإدراك الإمام راكعا وان احتمل حمل الروايتين المذكورتين على الإدراك بعد فوات الركوع. ويمكن ترجيح هذا المعنى بالنظر الى تلك الأخبار الكثيرة فتحمل هاتان الصحيحتان على ذلك جمعا بينها وبين تلك الأخبار. ويؤيده ان قوله (عليهالسلام) «إذا أدركت الإمام قبل أن يركع الركعة الأخيرة فقد أدركت الجمعة» أعم من أن يكون الإدراك قبل تكبير الركوع أو بعده ومتى شمل الإدراك بعده فإنه لا ينطبق على القول الثاني.
وبالجملة فالأحوط في صلاة الجمعة انه متى لم يدرك تكبير الركوع ويدخل معه قبل الركوع هو الإتمام جمعة ثم الإعادة ظهرا لما عرفت من ظاهر الصحيحتين المذكورتين
هذا ، وظاهر المحدث الكاشاني في الوافي ـ بعد نقل بعض الأخبار الدالة على إدراك الركعة بإدراك الركوع واخبار محمد بن مسلم الدالة على العدم إلا مع ادراك التكبير ـ هو موافقة الشيخ في الجمع بين الأخبار بما ذكره في التهذيبين حيث قال : ولا تنافي بين هذه الأخبار الأربعة والخبرين الأولين لجواز سماع التكبير من بعيد قبل بلوغ الصف. كذا في التهذيبين ، وتدل عليه الأخبار الواردة في ركوع المسبوق وسجوده قبل لحوقه الصف كما مر في باب التقدم الى الصف والتأخر عنه. انتهى. وأشار بالأخبار الأربعة الى اخبار محمد بن مسلم.
وأنت خبير بان حاصل هذا الجمع هو حمل إدراك تكبيرة الركوع في روايات محمد بن مسلم على مجرد سماعه وان دخل في الصلاة بعد ذلك حال الركوع لا توقف الدخول في الصلاة على كونه قبل تكبير الامام للركوع كما زعمه ذلك القائل ، وحينئذ فتحمل الأخبار الأولة الدالة على إدراك الصلاة بإدراك الركوع على سماع تكبيرة الركوع قبل الدخول في الصلاة ، وعلى هذا فلو لم يسمع تكبيرة الركوع امتنع دخوله في حال الركوع. ولا يخفى ما فيه من البعد.
وما استند اليه من الأخبار التي أحالها على الباب المذكور لا اشعار فيها بشيء مما ادعاه ، فان منها صحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله المتقدمة (1) ومدلولها هو دخول المأموم والامام راكع وخاف من المشي إليه رفع رأسه من الركوع فإنه يكبر في محله ثم يلحق بالصف ، وليس فيها كما ترى اشارة فضلا عن التصريح بسماع تكبيرة الركوع بل هي بالدلالة على العدم أنسب والى ذلك أقرب حيث دلت على انه دخل والامام راكع وذلك بعد تكبير الركوع البتة ، فظاهره انه لم يشهد تكبير الركوع كما لا يخفى.
ومن اخبار الباب المذكور بالنسبة الى هذه المسألة ما رواه في التهذيب والفقيه عن إسحاق بن عمار (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أدخل المسجد وقد ركع الامام فاركع بركوعه وأنا وحدي واسجد فإذا رفعت رأسي أي شيء أصنع؟ فقال قم فاذهب إليهم فإن كانوا قياما فقم معهم وان كانوا جلوسا فاجلس معهم». والتقريب فيها كما في سابقتها.
ومنها ـ ما رواه الشيخان المذكوران في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (3) «انه سئل عن الرجل يدخل المسجد فيخاف أن تفوته الركعة؟ فقال يركع قبل أن يبلغ القوم ويمشى وهو راكع حتى يبلغهم». وهي كما ترى مجملة محتملة للأمرين.
وبالجملة فإن هذه الأخبار التي زعم الاستناد إليها في هذا الجمع قد دلت على ما دلت عليه روايات القول المشهور ، وأنت خبير بان ظهور التدافع بين هذه الروايات وروايات محمد بن مسلم أمر ظاهر والتأويلات التي نقلناها عنهم قد عرفت ما فيها فلم يبق إلا الترجيح بينها والظاهر كونه في جانب اخبار القول المشهور لكثرتها ، ومن جملة طرق الترجيح المروية في مقبولة عمر بن حنظلة (4) الترجيح بالشهرة يعنى
__________________
(1) ص 122.
(2 و 3) الوسائل الباب 46 من الجماعة.
(4) الواردة في الوسائل في الباب 9 من صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به.
في الرواية لقوله (عليهالسلام) «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر» وهي في جانب تلك الأخبار لتعدد رواتها وانحصار أخبار القول المقابل في محمد بن مسلم ويونس الشيباني ، وحينئذ فالواجب بمقتضى هذه القاعدة الشريفة هو العمل على تلك الأخبار وارجاء هذه الأخبار الى قائلها. والله العالم.
فرعان
(الأول) ـ اعلم انه قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان المعتبر على تقدير القول المشهور في إدراك الركعة حال الركوع هو اجتماعهما في قوس الراكع بحيث يكبر ويركع ويجتمع في ذلك الحد ، وعليه تدل صحيحة سليمان بن خالد وصحيحة الحلبي المتقدمتان (1).
وهل يقدح فيه شروع الإمام في الرفع مع عدم تجاوز ذلك الحد؟ وجهان للأول ظاهر قوله (عليهالسلام) في صحيحة الحلبي المتقدمة (2) «إذا أدركت الامام وقد ركع فكبرت قبل أن يرفع الإمام رأسه فقد أدركت الركعة». ونحوها صحيحة سليمان بن خالد المتقدمة (3) أيضا حيث أنه علق الحكم على رفع الرأس ، وللثاني حمل الرفع في الخبرين على كماله أو على ما يخرجه عن حده لان ما دونه في حد العدم. وظاهر السيد السند في المدارك استظهار الأول.
واشترط العلامة في التذكرة ذكر المأموم قبل رفع الامام ، هكذا نقله عنه في المدارك ثم قال : ولم نقف على مأخذه. والذي نقله عنه جده في الروض انما هو اشتراط ادراك ذكر الركوع ثم قال : ولا شاهد له. وكتاب التذكرة لا يحضرني الآن لاحقق منه الحال (4).
__________________
(1 و 2 و 3) ص 122.
(4) قال في الفرع الرابع من فروع المسألة الثانية من مسائل البحث الرابع من مباحث صلاة الجمعة : لو كبر للإحرام والامام راكع ثم رفع الامام قبل ركوعه أو بعده قبل الذكر فقد فاتته تلك الركعة.
ثم ان مما يدل على ما ذكره في التذكرة بناء على ما نقله في الروض ما رواه الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه (1) «انه كتب إليه يسأله عن الرجل يلحق الامام وهو راكع فيركع معه ويحتسب بتلك الركعة فإن بعض أصحابنا قال ان لم يسمع تكبيرة الركوع فليس له أن يعتد بتلك الركعة؟ فأجاب (عليهالسلام) إذا لحق مع الامام من تسبيح الركوع تسبيحة واحدة اعتد بتلك الركعة وان لم يسمع تكبيرة الركوع». ونحوها رواية أخرى لا يحضرني الآن محلها (2).
(الثاني) ـ لو كبر وركع ثم شك هل كان الامام راكعا أو رافعا لم تكن له جمعة ووجب عليه صلاة الظهر ان كان ذلك في الركعة الثانية وإلا فجمعة ان كان في الركعة الأولى ، والوجه فيه أن الشرط إدراك الإمام راكعا ولم يحصل لمكان الشك ولتعارض أصلي عدم الإدراك وعدم الرفع فيتساقطان ويبقى المكلف تحت عهدة التكليف وليس إلا الظهر لفوات الجمعة. والله العالم.
(المقصد الخامس) ـ في وحدة الجمعة وتنقيح صور وقوع الجمعتين بمعنى أن لا تكون هناك جمعة اخرى دون ثلاثة أميال وهو إجماعي بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) خلافا لمخالفيهم حيث لم يعتبروا ذلك (3) وبه تظافرت اخبارهم (عليهمالسلام) :
__________________
(1) الوسائل الباب 45 من الجماعة.
(2) لم نعثر عليها بعد الفحص في مظانها.
(3) في بدائع الصنائع ج 1 ص 160 اختلفوا في تعددها في المصر الواحد فعن محمد لا بأس بإقامتها في موضعين أو ثلاثة ، وروى محمد عن أبي حنيفة انه يجوز الجمع في موضعين أو أكثر من ذلك ، وفي رواية عن ابي يوسف لا يجوز إلا إذا كان بين الموضعين نهر عظيم كدجلة ليكون بمنزلة المصرين وكان بأمر بقطع الجسر يوم الجمعة لينقطع الوصل وفي رواية يجوز في موضعين إذا كان المصر عظيما ولا يجوز في ثلاثة واما ان كان بينهما نهر صغير فلا يجوز فإن أدوها في موضعين فالجمعة لمن سبق منهما وعلى الآخرين ان يعيدوا الظهر ومع الشك لا تجوز صلاتهم. أقول : وفي أيام المعز البويهي كانت تقام الجمعة في جامع الخليفة وجامع السلطان وجامع براثا وجامع الحنابلة في بغداد.
ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «يكون بين الجماعتين ثلاثة أميال يعني لا تكون جمعة إلا في ما بينه وبين ثلاثة أميال وليس تكون جمعة إلا بخطبة ، قال فإذا كان بين الجماعتين في الجمعة ثلاثة أميال فلا بأس ان يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء».
وما رواه الشيخ عن محمد بن مسلم في الموثق عن ابى جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء ويجمع هؤلاء ولا يكون بين الجماعتين أقل من ثلاثة أميال».
وقد صرح بعض الأصحاب بأنه يعتبر الفرسخ من المسجد ان صليت فيه وإلا فمن نهاية المصلين. ويشكل الحكم في ما لو لم يبلغ النصاب بين بعض المأمومين وبين الجمعة الأخرى ممن كان زائدا على العدد المشترط في وجوب الجمعة ، فهل يختص البطلان بهم لاستجماع صلاة من عداهم لشرائط الصحة واختصاص فوات الشرط المذكور بهم أو تبطل صلاة الجميع لانتفاء الشرط المعتبر في صحة الجماعتين بناء على أن المجموع جماعة واحدة؟ وجهان ، استقرب في المدارك الأول وفي الذخيرة الثاني ، والمسألة محل تردد وان كان ما اختاره في المدارك لا يخلو من قوة.
ولو اتفق وقوع جمعتين في مسافة فرسخ فههنا صور الاولى ـ ان تسبق إحداهما ولو بتكبيرة الإحرام ولا ريب في صحة السابقة وبطلان اللاحقة لاستجماع الاولى لشرائط الصحة بسبقها واختلال اللاحقة بفوات الشرط المذكور ، قال في التذكرة ان ذلك ـ أي صحة السابقة وبطلان اللاحقة ـ مذهب علمائنا اجمع. وحينئذ فيجب على اللاحقة الإعادة ظهرا ان لم تدرك الجمعة مع الفرقة الأولى أو التباعد بما يصح به التعدد.
واعتبر شيخنا الشهيد الثاني في صحة صلاة الاولى عدم العلم بصلاة الأخرى وإلا لم تصح صلاة كل منهما ، قال : ويشترط ايضا عدم علم كل من الفريقين بصلاة
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 7 من صلاة الجمعة.
الأخرى وإلا لم يصح كل منهما للنهى عن الانفراد بالصلاة عن الأخرى المقتضي للفساد
واعترضه سبطه في المدارك فقال بعد نقل ذلك عنه : ولمانع أن يمنع تعلق النهي بالسابقة مع العلم بالسبق ، اما مع احتمال السبق وعدمه فيتجه ما ذكره لعدم جزم كل منهما بالنية لكون صلاته في معرض البطلان. انتهى. وهو جيد.
ويعضده ان النهى إنما وقع عن التعدد في مسافة الفرسخ وهو لا يحصل بالنسبة إلى السابقة لأنها حال وقوعها لم تقارنها جمعة في ذلك الوقت ليصح إطلاق التعدد عليها وانما حصل ذلك بعد انعقادها على الصحة وإنما يتجه التعدد بالنسبة إلى اللاحقة ، نعم يجب ان يعتبر في السابقة العلم بالسبق كما هو المفروض أو الظن مع تعذره بان يعلم أو يظن انتفاء جمعة أخرى مقارنة لها أو سابقة عليها إذ مع تساوى احتمال السبق وعدمه لا يحصل العلم بامتثال التكليف ، وهذا هو الذي يتجه فيه كلام شيخنا المتقدم ذكره لعدم جزم كل منهما بالنية لكون صلاته في معرض البطلان وهل يفرق في الحكم ببطلان اللاحقة بين علمهم بسبق الأولى وعدمه؟
ظاهر عبارات الأصحاب العموم ، ويشكل باستحالة توجه النهي إلى الغافل والأحكام الشرعية لم تجعل منوطة بالواقع ونفس الأمر وانما نيطت صحة وبطلانا وتحليلا وتحريما ونحو ذلك بعلم المكلف ، فإذا كان المكلف حال إقامة الجمعة لا يعلم سبق جمعة عليه وان كان كذلك واقعا فكيف يحكم ببطلان جمعته؟ على ان شرطية الوحدة على هذا الوجه غير معلوم.
(الثانية) ـ ان تقترنا وقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بالبطلان فيهما لامتناع الحكم بصحتهما من حيث الإخلال بالشرط المذكور ولا أولوية لإحداهما فيكون البطلان ثابتا لهما. وثبوت الأولوية لإحداهما بناء على المشهور بين المتأخرين من اعتبار الاذن أو الفقيه يتحقق بكون أحدهما مأذونا له أو فقيها دون الآخر ، واما على ما اخترناه ـ كما عليه أكثر المتقدمين وجملة من متأخري المتأخرين من عدم اعتبار شيء من ذلك ـ فلا وجه لما ذكر من الأولوية. وبالجملة
فإنه لا ريب ولا خلاف في الحكم ببطلانهما في الصورة المذكورة وحينئذ فتجب عليهما الجمعة مجتمعين أو متفرقين بالمسافة المذكورة ان بقي وقتها وإلا أعادا ظهرا.
قالوا : ويتحقق الاقتران بتكبيرة الإحرام من الإمامين دون غيرها من الأفعال لأن بها يحصل الدخول في الصلاة والتحريم بها. وهو جيد.
واما ما ذكره في الذخيرة ـ بعد ان نقل ذلك عن علمائنا وأكثر العامة (1) من ان الروايات التي هي الأصل في هذا الحكم غير ناهضة بإثبات هذا التحديد فاذن التعويل على الإجماع ان ثبت ـ ففيه ان الأمر وان كان كما ذكره لكن من الظاهر ان انعقاد الجمعة انما يتحقق بتكبيرة الإحرام والروايات قد دلت بمفهومها على النهى عن جمعتين في فرسخ فبضم تلك المقدمة التي قدمناها الى مفهوم الأخبار المذكورة ينتج ان النهى انما يتوجه إلى اللاحقة ان حصل السبق بها كما في الصورة الأولى وإليهما ان حصل الاتفاق فيها دفعة واحدة ، فالاقتران والسبق انما يتحقق بها فان اتفقا فيها دفعة واحدة تحقق الاقتران وان تقدم أحدهما بها حصل السبق. نعم هنا أقوال أخر للعامة في اعتبار السبق والاقتران فبعضهم ناط ذلك بالخطبتين لقيامهما مقام ركعتين وبعضهم ناط ذلك بالفراغ فان تساويا فيه بطلتا وان تقدمت إحداهما بالسلام صحت وبطلت الأخيرة (2) وبالجملة فما ذكره الأصحاب في المقام جيد لا تعتريه شبهة الإبهام.
قال في الذخيرة : وإطلاق كلام الأصحاب وصريح بعضهم يقتضي عدم الفرق بين ما إذا علم كل فريق بالإحرام أم لا مع حصول العلم بالاقتران بعد الفراغ. ويشكل بأن الإتيان بالمأمور به ثابت لكل من الفريقين لاستحالة تكليف الغافل وعدم ثبوت شرطية الوحدة على هذا الوجه. انتهى. وهو جيد وقد تقدم في آخر الصورة المتقدمة ما يؤكده.
وقال شيخنا في الروض بعد أن ذكر ان الاقتران يتحقق بتكبيرة الإحرام
__________________
(1 و 2) الوجيز للغزالى ج 1 ص 27.
ما لفظه : ويتحقق ذلك بشهادة عدلين ويتصور ذلك بكونهما غير مخاطبين بالجمعة وهما في مكان يسمعان التكبيرتين. أقول : لا يخفى ندرة هذا الفرض بل ربما يدعى عدم إمكان وقوعه وبه يشكل ابتناء حكم شرعي عليه.
(الثالثة) ـ الاشتباه وله صورتان الاولى ـ أن تكون الجمعة السابقة متحققة لكن حصل الاشتباه فيها سواء علم حصول جمعة سابقة متعينة واشتبهت بان عرض له النسيان بعد العلم بالتعيين أو علم حصول جمعة سابقة في الجملة ولم تتعين ، والوجه في وجوب الإعادة في الصورتين المذكورتين وجود الشك في حصول شرائط الصحة وهو موجب لبقاء المكلف تحت عهدة التكليف حتى يتحقق الامتثال واختلف الأصحاب هنا في انه هل الواجب على الفرقتين صلاة الظهر أو الجمعة؟ فالأكثر على الأول ، قالوا للعلم بوقوع جمعة صحيحة فلا تشرع جمعة اخرى عقيبها إلا انه حيث لم تكن متعينة في إحدى الفرقتين وجبت الظهر عليهما لعدم حصول البراءة بدون ذلك.
وذهب الشيخ في المبسوط إلى أنهم يصلون جمعة مع اتساع الوقت والظهر مع تضيقه ، وعلله بعض الأصحاب بأن الحكم بوجوب الإعادة عليهما يقتضي عدم كون الصلاة الواقعة منهما مقبولة في نظر الشارع.
قال في المدارك : وهذا متجه لأن الأمر بصلاة الجمعة عام وسقوطها بهذه الصلاة التي ليست مبرئة للذمة غير معلوم.
وتوضيحه ان الذمة مشغولة بالجمعة بيقين إذ هي فرض المكلف فلا تبرأ الذمة منها إلا بيقين الإتيان بها ، قولهم ـ ان العلم حصل بوقوع جمعة صحيحة فلا تشرع جمعة اخرى ـ مسلم لو علمت وعلم موضعها في أي الفريقين واما مع جهل موضعها فلا. وبما ذكرناه يظهر قوة قول الشيخ (قدسسره).
وعلى المشهور فلو تباعد الفريقان بالنصاب فان خرج أحدهما عن المصر وأعادوا جميعا الجمعة لم تصح لإمكان كون من تأخرت جمعته هم المتخلفون في المصر فلا تسوغ فيه
جمعة اخرى ، اما لو خرجوا عنه جميعا وتباعدوا بالنصاب مع سعة الوقت تعين عليهم فعل الجمعة قطعا.
الثانية ـ ان لا تكون الجمعة السابقة متحققة لحصول الاشتباه بالسبق والاقتران ، واختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم هذه الصورة أيضا فذهب الشيخ في المبسوط ومن تبعه الى وجوب الإعادة جمعة مع بقاء الوقت لعين ما تقدم في سابق هذه الصورة.
وذهب العلامة في جملة من كتبه الى وجوب الجمع بين الفرضين لأن الواقع ان كان الاقتران فالفرض الجمعة وان كان السبق فالظهر فلا يحصل يقين البراءة بدونهما
ويمكن خدشه بان ما ادعاه من أن السبق من حيث هو ـ يعني بالنسبة إلى الواقع ـ يقتضي وجوب الظهر ممنوع وإنما يقتضي ذلك مع العلم به فإن الأحكام الشرعية كما عرفت إنما تبنى على علم المكلف لا على نفس الأمر والواقع ، وحينئذ فلو سبقت إحداهما مع جهل موضعها لم يسقط عنه وجوب الجمعة لما عرفت آنفا.
واحتمل العلامة في التذكرة وجوب الظهر خاصة لأن الظاهر صحة إحداهما لندور الاقتران جدا فكان جاريا مجرى المعدوم ، وللشك في شرط صحة الجمعة وهو عدم سبق اخرى وهو يقتضي الشك في المشروط. وفيه انا لا نسلم ان شرط صحة الجمعة عدم سبق اخرى بل يكفي في الصحة عدم العلم بسبق اخرى. وبما ذكرنا يظهر قوة ما ذهب اليه الشيخ هنا أيضا وان كان الاحتياط في ما ذكره من الجمع بين الفرضين. والله العالم.
(المقصد السادس) ـ في الوقت ، اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وقت الجمعة أولا وآخرا ، فاما الأول فالأظهر الأشهر أنه زوال الشمس ، وقال الشيخ في الخلاف : وفي أصحابنا من أجاز الفرض عند قيام الشمس ، قال واختاره علم الهدى. قال ابن إدريس بعد نقل ذلك عن الشيخ (قدسسره) ولعل شيخنا سمعه من المرتضى (قدسسره) مشافهة فإن الموجود في مصنفات السيد موافق للمشهور من
عدم جواز إيقاعها قبل تحقق الزوال. أقول : ويدل على القول المشهور الأخبار المستفيضة الآتية ان شاء الله تعالى.
واما الآخر فالمشهور بين المتأخرين أنه يمتد الى ان يصير ظل كل شيء مثله بل قال العلامة في المنتهى انه مذهب علمائنا أجمع. وقال أبو الصلاح إذا مضى مقدار الأذان والخطبة وركعتي الفريضة فقد فاتت ولزم أداؤها ظهرا. وقال الشيخ في المبسوط ان بقي من وقت الظهر قدر خطبتين وركعتين خفيفتين صحت الجمعة. وقال ابن إدريس يمتد وقتها بامتداد وقت الظهر ، واختاره الشهيد في الدروس والبيان. وقال الجعفي وقتها ساعة من النهار.
وأنت خبير بما في جل هذه الأقوال من الانحراف عن جادة الاعتدال ، أما القول المشهور فانا لم نقف له على دليل وبذلك اعترف في الذكرى فقال : انا لم نقف لهم على حجة إلا ان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان يصلى في هذا الوقت ، قال ولا دلالة فيه لان الوقت الذي كان يصلى فيه ينقص عن هذا المقدار غالبا ولم يقل أحد بالتوقيت بذلك الناقص. واما قول ابن إدريس فأظهر ضعفا لما فيه من اطراح الأخبار الصحاح الصراح الآتية ان شاء الله تعالى. واما عبارة الشيخ في المبسوط فهي غير خالية من الإجمال وتعدد الاحتمال ، فإنه ان أراد بوقت الفريضة هو الوقت الاختياري لها بناء على مذهبه أو الفضيلة بناء على قول الأكثر فهو يرجع الى القول المشهور ، وان أراد الوقت الذي هو أعم فهو يرجع الى قول ابن إدريس
وكيف كان فالواجب أولا نقل الأخبار المتعلقة بالمقام وبيان ما يظهر منها على وجه يكشف عن المسألة نقاب الإبهام :
فنقول : من الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال :«سمعت أبا جعفر (عليهالسلام) يقول ان من الأمور أمورا مضيقة وأمورا موسعة وان الوقت وقتان والصلاة مما فيه السعة فربما عجل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وربما أخر إلا
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
صلاة الجمعة فإن صلاة الجمعة من الأمور المضيقة (1) إنما لها وقت واحد حين تزول ووقت العصر يوم الجمعة وقت الظهر في سائر الأيام».
وعن عبد الله بن سنان في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «وقت صلاة الجمعة عند الزوال ووقت العصر يوم الجمعة وقت صلاة الظهر في غير يوم الجمعة ويستحب التبكير بها».
وعن عبد الله بن سنان في الصحيح (3) قال : «لا صلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة».
وعن ذريح في الصحيح (4) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) صل الجمعة بأذان هؤلاء فإنهم أشد شيء مواظبة على الوقت».
وعن على بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (5) قال : «سألته عن الزوال يوم الجمعة ما حده؟ قال إذا قامت الشمس صل الركعتين فإذا زالت الشمس فصل الفريضة».
وما رواه الصدوق عن عبيد الله الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (6) انه قال : «وقت الجمعة زوال الشمس ووقت صلاة الظهر في السفر زوال الشمس ووقت العصر يوم الجمعة في الحضر نحو من وقت الظهر في غير يوم الجمعة».
وعن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر (عليهالسلام) (7) قال : «وقت صلاة الجمعة
__________________
(1) اللفظ المذكور مطابق لما في الوافي باب (وقت صلاة الجمعة وعصرها) وفي التهذيب ج 1 ص 249 والوسائل هكذا «من الأمر المضيق».
(2) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة. والراوي في بعض النسخ (ابن مسكان) راجع التهذيب الطبع الحديث ج 3 ص 13.
(3 و 4) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
(5) قرب الاسناد ص 98 وفي الوسائل الباب 11 من صلاة الجمعة.
(6) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
(7) لم نقف في كتب الحديث على رواية لزرارة بهذا اللفظ وقد أوردها السبزواري في الذخيرة في هذه المسألة في أول مبحث صلاة الجمعة. وفي المقام صحيحة لربعى
يوم الجمعة ساعة تزول الشمس».
وما رواه الشيخ عن عبد الله بن عجلان (1) قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) إذا كنت شاكا في الزوال فصل الركعتين وإذا استيقنت الزوال فصل الفريضة».
وما رواه الكليني عن ابن ابى عمير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة يوم الجمعة فقال نزل بها جبرئيل مضيقة إذا زالت الشمس فصلها. قال قلت إذا زالت الشمس صليت ركعتين ثم صليتها قال فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) اما انا إذا زالت الشمس لم أبدأ بشيء قبل المكتوبة». قال القاسم (3) وكان ابن بكير يصلى الركعتين وهو شاك في الزوال فإذا استيقن الزوال بدأ بالمكتوبة في يوم الجمعة.
وعن ابن سنان (4) قال : «قال أبو عبد الله (عليهالسلام) إذا زالت الشمس يوم الجمعة فابدأوا بالمكتوبة».
وعن الفضيل بن يسار في الصحيح عن ابى جعفر (عليهالسلام) (5) قال «ان من الأشياء أشياء موسعة وأشياء مضيقة فالصلاة مما وسع فيها تقدم مرة وتؤخر أخرى والجمعة مما ضيق فيها فان وقتها يوم الجمعة ساعة تزول ووقت العصر فيها وقت الظهر في غيرها».
__________________
وموثقة لسماعة وردت في فروع الكافي ج 1 ص 117 والتهذيب ج 1 ص 248 وفي الوسائل في الباب 8 من صلاة الجمعة رقم 8 و 14 باللفظ الآتي : «وقت الظهر يوم الجمعة حين تزول الشمس» ولم يذكرها المصنف (قدسسره) في روايات المسألة فيمكن ان يكون قد حصل تصحيف في السند وتغيير في المتن فجاءت الرواية المذكورة باللفظ المذكور في المتن منسوبة إلى زرارة كما في الذخيرة. ولا يخفى ان الرواية المذكورة قد رويت في الكافي مسندة الى ابى عبد الله (ع) من طريقين وفي التهذيب موقوفة على سماعة من طريقين ايضا. وفي الباب روايات أخر دالة على المطلوب لم ينقلها راجع الوافي باب (وقت صلاة الجمعة وعصرها) والوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة رقم 2 و 4 و 7 و 9 و 21 وسينقل (قدسسره) الرواية رقم 9.
(1 و 4 و 5) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
(2) الفروع ج 1 ص 117 وفي الوسائل في الباب 8 من صلاة الجمعة.
(3) وهو الراوي عن ابن ابى عمير.
وما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (1) قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) وقت صلاة الجمعة يوم الجمعة ساعة تزول الشمس ووقتها في السفر والحضر واحد وهو من المضيق وصلاة العصر يوم الجمعة في وقت الأولى في سائر الأيام».
وروى فيه ايضا (2) قال : «قال أبو جعفر (عليهالسلام) أول وقت الجمعة ساعة تزول الشمس الى ان تمضى ساعة فحافظ عليها. الخبر».
وعن سفيان بن السمط (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن وقت صلاة العصر يوم الجمعة فقال في مثل وقت الظهر في غير يوم الجمعة».
وقال في الفقه الرضوي (4) : «وقت الجمعة زوال الشمس ووقت الظهر في السفر زوال الشمس ووقت العصر يوم الجمعة في الحضر نحو وقت الظهر في غير يوم الجمعة».
وروى الشيخ في كتاب المتهجد عن محمد بن مسلم (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن صلاة الجمعة قال وقتها إذا زالت الشمس فصل الركعتين قبل الفريضة فإن أبطأت حتى يدخل الوقت هنيئة فابدأ بالفريضة ودع الركعتين حتى تصليهما بعد الفريضة».
وعن إسماعيل بن عبد الخالق (6) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن وقت الصلاة فقال جعل الله لكل صلاة وقتين إلا الجمعة في السفر والحضر فإنه قال وقتها إذا زالت الشمس وهي في ما سوى الجمعة لكل صلاة وقتان. الحديث».
وعن حريز عن زرارة عن ابى جعفر (عليهالسلام) (7) قال : «أول وقت الجمعة ساعة تزول الشمس الى أن تمضى ساعة فحافظ عليها فان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال لا يسأل الله عبد فيها خيرا إلا أعطاه الله».
وعن حريز (8) قال : «سمعته يقول اما انا إذا زالت الشمس يوم الجمعة
__________________
(1 و 2 و 5 و 6 و 7 و 8) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
(3) الوسائل الباب 9 من صلاة الجمعة.
(4) ص 11.
بدأت بالفريضة وأخرت الركعتين إذا لم أكن صليتهما».
وأنت خبير بان هذه الأخبار على كثرتها واستفاضتها قد اشتركت في الدلالة على ان أول وقت الجمعة التي هي عبارة عن الخطبتين والركعتين كما تقدم تحقيقه هو الزوال وانه يجب المبادرة إليها فيه حتى ان الركعتين لا تزاحمها بل تقدم في وقت الشك في الزوال ومتى تحقق بدئ بالواجب ، وان وقتها مضيق بهذا الوقت يعنى يجب الشروع فيها بعد تحقق الزوال بالإتيان بالأذان ثم الخطبتين ثم الركعتين حتى يفرغ لا اتساع فيه كغيرها من الصلوات التي تقبل التأخير عن الأول ، وهي صريحة في بطلان قولي الأكثر وابن إدريس فإن وقت صلاة العصر في ذلك اليوم هو وقت الظهر في سائر الأيام يعني بالنسبة إلى التطوع ، وقد تكاثرت الأخبار وعليه بنيت هذه الأخبار بان وقت الظهر في سائر الأيام بعد القدمين وان اختزال القدمين من أول الظهر لمكان النافلة كما تقدم تحقيق جميع ذلك في مبحث الأوقات. وأنت إذا ضممت هذه الأمور بعضها الى بعض ظهر لك ان وقت الجمعة من أول الزوال الى مضى قدمين ومتى خرج هذا المقدار خرج وقتها ووجب الإتيان بها ظهرا ، ومن هنا ثبت التضييق فيها وعدم الامتداد. ولا ينافي ذلك خبر الساعة فإنها تطلق عرفا على الزمان القليل وهو المراد هنا لا الساعة النجومية أو الساعات التي ينقسم إليها النهار.
وظني ان كلام ابى الصلاح والجعفي يرجعان الى معنى واحد وهو ما دلت عليه هذه الأخبار بالتقريب الذي أوضحناه ، وان ما أوردوه على ابى الصلاح في هذا المقام لا ورود له عليه.
واما ما ذكره المحقق ـ من أنه لو صح ما ذكره لما جاز التأخير عن الزوال بالنفس الواحد ، وبان النبي (صلىاللهعليهوآله) كان يخطب في الظل الأول فيقول جبرئيل : «يا محمد (صلىاللهعليهوآله) قد زالت الشمس فانزل وصل». وهو دليل على جواز تأخير الصلاة عن الزوال بقدر قول جبرئيل (عليهالسلام) ونزوله ودعائه امام الصلاة ولو كان مضيقا لما
جاز ذلك ـ فضعفه أظهر من أن يحتاج الى بيان ، لان عبارته في المقام إنما خرجت مخرج التجوز والتوسع لا أن مراده الحصر الحقيقي في ما ذكره بحيث يخل به النفس أو قول جبرئيل ، ومثله في كلام البلغاء والفصحاء وكلام الأئمة (عليهمالسلام) أكثر من أن يحصى.
نعم قال في الذخيرة ـ في رد كلام ابى الصلاح بعد رد كلام المحقق بالضعف ـ ما لفظه : نعم يمكن دفعه بالأخبار الدالة على جواز ركعتي الزوال بعد دخول وقت الفريضة.
وفيه ان أكثر الأخبار الواردة في ذلك ـ ومنها ما نقلناه هنا كرواية على بن جعفر ورواية عبد الله بن عجلان ورواية ابن ابى عمير ورواية محمد بن مسلم ورواية حريز ـ قد صرحت بتأخير الركعتين متى تيقن الزوال ، مضافا الى الأخبار الدالة على توقيت الجمعة بالزوال وان وقتها مضيق فيه ، وكذلك الأخبار الدالة على انه لا تطوع وقت الفريضة ، وحينئذ فما دل على جواز الركعتين بعد الزوال لا بد من ارتكاب التأويل فيه ، ويمكن حملها على الرخصة في بعض الأوقات فلا ينافي توقيت الجمعة بالزوال كما في سائر الرخص لا ان ذلك يكون وقتا للركعتين دائما بحيث يجوز مزاحمة الفريضة بهما.
ومما يدل على ما قلناه ايضا من عدم مزاحمتهما للفريضة زيادة على ما قدمناه من الأخبار ما رواه في التهذيب عن على بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (1) قال : «سألته عن ركعتي الزوال يوم الجمعة قبل الأذان أو بعده؟ فقال قبل الأذان». وعن حسين بن عثمان عن ابن ابى عمير في الصحيح (2) قال : «حدثني انه سأله عن الركعتين اللتين عند الزوال يوم الجمعة قال فقال اما انا فإذا زالت الشمس بدأت بالفريضة».
__________________
(1) الوسائل الباب 11 من صلاة الجمعة.
(2) الوسائل الباب 8 من صلاة الجمعة.
وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه نقاب الإبهام يظهر لك ضعف ما ذكره في المدارك ومثله في الذخيرة من أن المسألة قوية الإشكال فإنه لا إشكال بحمد الله الملك المتعال بالنظر الى ما سردناه من الأخبار وأوضحناه من البيان الظاهر لاولى الألباب والأفكار.
بقي الكلام هنا في مواضع الأول ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) : منهم ـ الشيخ وجماعة انه لو خرج الوقت وقد تلبس بها ولو بالتكبير فإنه يجب إتمامها جمعة ، واحتجوا عليه بان الوجوب متحقق باستكمال الشرائط فيجب إتمامها. وأورد عليه بان من جملة الشرائط الوقت فما لم يتحقق التكليف بالفعل فان التكليف بالفعل يستدعي زمانا يسعه. والظاهر انه لما ذكر اعتبر الشهيد ومن تأخر عنه إدراك ركعة من الوقت لقوله (عليهالسلام) (1) «من أدرك من الوقت ركعة فكأنما أدرك الوقت».
قال السيد السند في المدارك ـ بعد قول المصنف (قدسسره) ولو خرج الوقت وهو فيها أتمها جمعة اماما كان أو مأموما ـ إطلاق العبارة يقتضي وجوب إكمالها بمجرد التلبس بها في الوقت ولو بالتكبير وبه صرح الشيخ وجماعة ، واحتج عليه في المعتبر بان الوجوب يتحقق باستكمال الشرائط فيجب إتمامها. ويتوجه عليه ان التكليف بفعل موقت يستدعي زمانا يسعه لامتناع التكليف بالمحال ولا يشرع
__________________
(1) لم نقف على الرواية بهذا اللفظ وانما المروي من طريق العامة عنه (ص) هكذا : «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة». وفي خصوص العصر ايضا ، وقد ورد في خصوص الصبح ايضا من الطريقين ، راجع الوسائل الباب 30 من مواقيت الصلاة والحدائق ج 6 ص 275 و 277 وصحيح مسلم ج 2 ص 102 باب (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) وفيه في بعض الطرق «من أدرك ركعة من الصلاة مع الامام فقد أدرك الصلاة». وفي مجالس ابن الشيخ الطوسي عن أبي هريرة قال «قال رسول الله (ص) : إذا جئتم إلى الصلاة ونحن في السجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة». راجع الوسائل الباب 41 من الجماعة.
فعله في خارجه إلا ان يثبت من الشارع شرعية فعله في خارج الوقت ، ومن ثم اعتبر العلامة ومن تأخر عنه إدراك الركعة في الوقت كاليومية لعموم قوله (عليهالسلام) «من أدرك من الوقت ركعة فكمن أدرك الوقت كله». وهو أولى. انتهى. وحذا حذوه في الذخيرة واختار ما اختاره.
أقول : لا يخفى ان ما ذكره (قدسسره) وان تبعه من تبعه فيه منظور فيه من وجهين : أحدهما ـ قوله «ويتوجه عليه ان التكليف بفعل موقت. الى آخره» فإنه ينبغي ان يعلم ان هنا مقامين : (الأول) أن يدخل في الصلاة بانيا على امتداد الوقت وسعته ثم يظهر في الأثناء عدم ذلك. و (الثاني) ان يعلم قبل الدخول في الصلاة عدم سعة الوقت فهل يجب عليه الدخول فيها والحال هذه أم لا؟ والظاهر من كلام المصنف (قدسسره) في هذه المقالة انما هو الأول فإنه قد صرح بالثاني في المقالة الآتية بعد ذلك ان شاء الله تعالى ، واعتراض الشارح عليه انما يتوجه بناء على الثاني وذلك فإنه متى دخل في الصلاة بناء على سعة الوقت واستكمال شرائط الوجوب بحسب نظره كان دخوله مشروعا غاية الأمر أنه انكشف بعد ذلك ضيق الوقت عن إتمامها ، وهذا لا يصلح للمانعية عن وجوب الإتمام كما في غير هذا الموضع ومنه ما لو دخل في صلاة الكسوف وصلى بعضا ثم انجلى الكسوف فإن صحيحة زرارة (1) قد صرحت بوجوب إتمام الصلاة وان كان المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو قصر الوقت عنها سقطت لاستحالة التكليف بشيء يقصر وقته عنه ، والجمع بين كلامهم وبين الرواية لا يحصل إلا بالفرق بين الابتداء والاستدامة بمعنى انه لا تكليف بذلك قبل الشروع في الفعل اما لو شرع بناء على سعة الوقت وامتداده ثم ظهر ضيقه عن الإتيان بالصلاة فإنه يجب الإتمام كما دلت عليه الصحيحة المذكورة فكذا في ما نحن فيه وحينئذ فيجب الإتمام. وقوله في الجواب ـ ان التكليف بفعل موقت يستدعي زمانا يسعه. الى آخره ـ انما يتجه
__________________
(1) الوسائل الباب 7 من صلاة الكسوف والآيات رقم 6.
في ما لو علم ضيق الوقت قبل الدخول فان التكليف بالدخول والحال كذلك يستلزم ما ذكره ، اما لو لم يعلم بل دخل بانيا على السعة فإنه لا يتوجه عليه هذا الجواب للفرق عندهم بين أصل الدخول وبين الاستدامة كما تقدم التصريح به في مسألة العدد في ما لو انفض العدد بعد الدخول ولم يبق إلا واحد مثلا فإنهم أوجبوا عليه الإتمام جمعة.
وثانيهما ـ قوله : «لعموم قوله من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الوقت كله» فإنه ربما يتسارع الى الفهم ان هذا الخبر من جملة أخبارنا المروية في كتب الأخبار فيجوز الاستناد إليه في إثبات الأحكام الشرعية كما اختاره هنا بقوله بعد ذكر الخبر المذكور «وهو أولى» مع انا قد قدمنا في مبحث الأوقات ان الظاهر ان هذا الخبر إنما هو من طريق المخالفين ، واليه يشير أيضا كلام السيد المذكور في شرح قول المصنف في مبحث الأوقات «ولو زال المانع فإن أدرك الطهارة وركعة من الفريضة لزمه أداؤها» حيث انه نقل هذا الخبر مرسلا عن النبي (صلىاللهعليهوآله) ثم آخر عنه (صلىاللهعليهوآله) ايضا (1) ثم قال ومن طريق الأصحاب ثم نقل رواية الأصبغ بن نباتة وموثقة عمار الساباطي (2) الدالتين على أن من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك الغداة ، وقد تقدم منا (3) تحقيق الكلام في هذا المقام والبحث مع الأصحاب في تعميم الحكم مع اختصاص الأخبار المروية من طريقنا بصلاة الصبح نعم ظاهرهم دعوى الإجماع على ما ذكروه من العموم ، وبه يظهر أن المسألة هنا لا تخلو من الإشكال لعدم النص المعتمد عليه في هذا المجال. والله سبحانه وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.
الثاني ـ لو تيقن أو غلب على ظنه قبل الدخول ان الوقت لا يسع للجمعة وجبت صلاة الظهر ، صرح به جملة من الأصحاب : منهم المحقق في
__________________
(1 و 3) ج 6 ص 275.
(2) الوسائل الباب 30 من مواقيت الصلاة.
الشرائع وهو ما أشرنا إليه آنفا من أن المصنف صرح بالثاني في المقالة الآتية.
والسيد السند هنا بناء على اعتراضه على العبارة المتقدمة قال هنا ايضا بعد ذكره عبارة المصنف المذكورة : هذا بظاهره مناف لما سبق من أن من تلبس بالجمعة في الوقت يجب عليه إتمامها فإنه يقتضي بإطلاقه جواز الشروع فيها مع ضيق الوقت وأجيب عنه بان الشروع فيها انما يشرع إذا ظن ادراك جميعها. الى أن قال : ومن ثم ذهب جمع من الأصحاب إلى وجوب الدخول في الصلاة متى علم انه يدرك ركعة بعد الخطبتين لعموم «من أدرك.» بل صرح العلامة في النهاية بوجوب الدخول في الصلاة مع ادراك الخطبتين وتكبيرة الإحرام خاصة وهو بعيد. انتهى
أقول : قد قدمنا لك ان مراد المصنف بالعبارة الأولى انما هو من دخل في الصلاة بناء على سعة الوقت يقينا أو ظنا ، وهذه العبارة صريحها كما ترى انما هو من علم أو ظن قبل الدخول ضيق الوقت عن الجمعة فإنه تجب عليه الصلاة ظهرا ، فموضوع تلك المسألة غير موضوع هذه المسألة ، ويشير الى ذلك كلامه في المعتبر الذي ذكره الشارح في المسألة المتقدمة ، وصورته بتمامه هكذا : قال الشيخ إذا انعقدت الجمعة فخرج وقتها ولم يتم أتمها جمعة وبه قال مالك ، وقال الشافعي بقاء الوقت شرط فإذا خرج أتمها ظهرا ، وقال أبو حنيفة تبطل (1) لنا ـ ان الوجوب تحقق باستكمال الشرائط فيجب إتمامها. انتهى. فان هذا الخلاف انما يترتب على من تبين له ضيق الوقت بعد الدخول بناء على ما سعته لا من علم بضيقه أولا ثم دخل والحال هذه ، فدعوى الشارح منافاة هذا الكلام لما سبق ـ وان إطلاق عبارته الاولى يقتضي جواز الشروع فيه مع يقينه ضيق الوقت ـ ليس في محله. وكيف كان فحمل كلامه على ما يندفع به التنافي في عبارتيه أولى وأظهر سيما مع كونه وجها واضحا صحيحا.
بقي الكلام في ما ذكره المصنف في هذه المقالة ـ من انه لو تيقن أو ظن عدم سعة الوقت فإنه لا يشرع له الجمعة بل يجب أن يصلى ظهرا ، وما أورده
__________________
(1) المغني ج 2 ص 318 والمدونة ج 2 ص 149.
الشارح عليه في ما طوينا ذكره من ان قوله (عليهالسلام) «من أدرك ركعة من الوقت» يعم الجميع. الى آخر الكلام ـ
فان فيه (أولا) ـ ان ظاهر كلام الشارح في المقالة السابقة يعطي منع الدخول مع تيقن سعة الوقت أو ظنها وهو الذي رد به الخبر المذكور هنا حيث قال ثمة : ويشكل بان الواجب الموقت يعتبر وقوعه في الوقت فمع الشك فيه لا يحصل يقين البراءة بالفعل. الى آخره ، فإنه ظاهر في عدم جواز الدخول وان تيقن بقاء ركعة بل لا بد من وقت يسع الجميع كما هو ظاهر كلام الشافعي المتقدم.
وثانيا ـ ما أشرنا إليه آنفا من ان هذا الخبر لم يثبت وروده من طريقنا (1) فلا يمكن الاعتماد عليه في هذا المحل ولا غيره وان كثر تناقله في كلامهم وتداوله على رؤوس أقلامهم ، وبه يظهر لك ما في هذا الكلام من تكرار هذا الخبر وما يتفرع عليه من الأحكام وما ذكره من التعارض في المقام بالنقض والإبرام ، فإنه بناء على ما عرفت نفخ في غير ضرام. وبه يتبين ان من ذهب الى وجوب الدخول في الصلاة متى علم إدراك ركعة من الوقت ان استند الى هذا الخبر فقد عرفت ما فيه ، وان استند إلى الإجماع كما تقدم نقله عنهم في باب الأوقات فقد عرفت ايضا ما في باطنه وخافية.
الثالث ـ قال المحقق في الشرائع : ولو تيقن ان الوقت يتسع للخطبة وركعتين خفيفتين وجبت الجمعة. قال السيد السند بعد نقل العبارة المذكورة : الضابط في ذلك تيقن اتساع الوقت للمقدار الواجب من الخطبتين والصلاة دون المسنون منهما. قيل وكذا تجب الجمعة مع ظن اتساع الوقت أو الشك في السعة وعدمها لأصالة بقاء الوقت. ويشكل بان الواجب الموقت يعتبر وقوعه في الوقت فمع الشك فيه لا يحصل يقين البراءة بالفعل ، والاستصحاب هنا انما يفيد ظن البقاء وهو غير كاف في ذلك. انتهى.
__________________
(1) ارجع الى التعليقة 1 ص 140.
أقول : العجب منه (قدسسره) وتناقض كلامه في هذا المقام واضطرابه على وجه لا يمكن الإصلاح فيه والالتئام. فإن مقتضى كلامه هنا كما سمعت انه لا يشرع الدخول في الصلاة إلا مع تيقن سعة الوقت للخطبة والصلاة وان كانتا مخففتين وجعل ذلك ضابطا كليا وقانونا جليا ، مع انه صرح في شرح قول المصنف «ولو خرج الوقت وهو فيها أتمها جمعة» بالاكتفاء بإدراك ركعة كما قدمنا نقله عنه عملا بخبر «من أدرك من الوقت ركعة» ومثله أيضا في شرح قول المصنف «وان تيقن أو غلب على ظنه ان الوقت لا يتسع لذلك» فإنه قال في ما طوينا ذكره من كلامه : وأجيب عنه بان الشروع فيها انما يشرع إذا ظن إدراك جميعها لأنها لا يشرع فيها القضاء وانما وجب الإكمال مع التلبس بها في الوقت للنهى عن إبطال العمل. وأورد عليه ان قوله (عليهالسلام) «من أدرك من الوقت ركعة» يعم الجميع. وأجيب بأن هذا الحديث مقيد بقيد يستفاد من خارج وهو كون الوقت صالحا للفعل للقطع بان ما لا يصلح للفعل يمتنع وقوعه فيه. وفيه نظر فإنه ان أريد بصلاحية الوقت للفعل إمكان إيقاعه فيه فهو متحقق هنا وان أريد غير ذلك فلا دليل عليه ومن ثم ذهب جمع من الأصحاب. إلى آخر ما تقدم في الموضع الثاني. وفيه ـ كما ترى ـ خروج عن ذلك الضابط الكلي الذي قرره سابقا من انه لا بد من تيقن اتساع الوقت للمقدار الواجب في صحة الدخول وانه لا يكفى الظن حيث انه هنا بعد أن أجاب عن الخبر بتقييده بهذا الضابط تنظر في ذلك واكتفى بمجرد إمكان اتساعه. وبالجملة فإن اضطراب كلامه في هذه المقالات الثلاث لا يخفى على المتأمل. واما ما علل به هنا وجوب الإكمال مع التلبس بها في الوقت من النهى عن إبطال العمل فهو ضعيف والحق كما قدمناه وهو انه لا يشرع الدخول فيها إلا مع تيقن سعة الوقت أو ظنه.
ثم انه لو ظهر الضيق بعد الدخول والحال هذه فوجوب الإتمام عليه انما هو من حيث ان اشتراط السعة إنما هو في الابتداء لا في الاستدامة ، فمتى دخل بناء على السعة وجب الإتمام وان كان خارج الوقت لعين ما تقدم في اشتراط العدد وما قدمناه من مسألة صلاة الكسوف ونحو ذلك.
هذا هو التحقيق في المقام وهو الذي يرجع اليه كلام المحقق وغيره من الاعلام فعليه اعتمد ودع عنك فضول الكلام. والله سبحانه وأولياؤه أعلم بحقائق الأحكام.
الرابع ـ لو كان ممن تجب عليه الجمعة فصلى الظهر والحال هذه فالواجب عليه السعي إلى الجمعة فإن أدركها وإلا أعاد ظهره ولم يجزئه ما صنع أولا ، لأنه في تلك الحال قد اتى بغير ما هو الواجب عليه والمخاطب به فلا تبرأ ذمته بل يبقى تحت عهدة التكليف الى ان يأتي بالجمعة إن أمكن وإلا فالظهر لتعينها بعد فوات الجمعة. ولا فرق في ذلك بين العمد والنسيان ولا بين ان يظهر في نفس الأمر عدم الوجوب أم لا. نعم لو صلى الظهر ناسيا وظهر عدم التمكن من الجمعة فإشكال وظاهر المدارك والذخيرة إمكان القول بالاجزاء والصحة.
ولو لم تكن شرائط الجمعة مجتمعة لكن يرجو اجتماعها قبل خروجه فهل يجوز له تعجيل الظهر والاجتزاء بها وان أقيمت الجمعة بعد ذلك أم يجب الصبر الى ان يظهر الحال؟ وجهان واستجود في المدارك الثاني ، قال : لان الواجب بالأصل هو الجمعة وانما يشرع فعل الظهر إذا علم عدم التمكن من الجمعة في الوقت. ونحوه في الذخيرة أيضا. ولقائل أن يقول ان هذا التعليل ربما أمكن قلبه فيكون بالدلالة على الأول انسب ، وذلك لان أصالة الجمعة إنما يتم مع اجتماع شرائطها والحال انها حينئذ غير مجتمعة ومشروعية الظهر ظاهرة لأنه مخاطب بها في ذلك الوقت فلو أوقعها فيه صحت لذلك وانتظار التمكن وعدمه الى آخر الوقت لا دليل عليه إذ لعله يخترمه الموت في تلك الحال فيكون قد ضيع فرضا واجبا عليه. والله العالم.