ج2 - أحكام الوضوء

المطلب الرابع

في الأحكام

وتفصيل القول فيها يقع في مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب استحباب التثنية في الغسل ، وتحقيق البحث في هذه المسألة يقع في مواضع :

(الأول) ـ اعلم انه قد اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) ـ بعد الاتفاق على عدم تقدير الوجوب بعدد معين ، بمعنى انه لو لم يكف الكف الأول للغسل الواجب وجب الثاني والثالث وهكذا حتى يتأدى الواجب كما نقله في المختلف ـ في الغسلة الثانية :

فالمشهور بين الأصحاب الاستحباب ، بل نقل عن ابن إدريس دعوى الإجماع عليه ، وكأنه لعدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما صرح به ، حيث قال بعد دعوى الإجماع : «ولا يعتد بخلاف من خالف من الأصحاب بأنه لا يجوز الثانية ، لمعروفية نسبه» وظاهره وجود القائل بالتحريم أيضا ، وهو صريح الشيخ في الخلاف ، حيث قال : «مسألة ـ الفرض في غسل الأعضاء مرة واحدة والثانية سنة والثالثة بدعة ، وفي أصحابنا من قال : الثانية بدعة. وليس بمعول عليه ، ومنهم من قال : ان الثانية تكلف ولم يقل بأنها بدعة. والصحيح الأول» انتهى. ومنه يفهم أيضا قول ثالث


في المسألة وهو الجواز ، ولكنه غير ظاهر الجواز.

ونقل جمع من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) ـ عن الصدوق في الفقيه ، حيث قال (1) : «الوضوء مرة مرة ومن توضأ مرتين لم يؤجر ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع». وعن البزنطي حيث نقل عنه في مستطرفات السرائر انه قال (2) : «واعلم ان الفضل في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين لم يؤجر». ـ عدم استحباب الثانية.

الا ان الذي يقرب عندي من هذا الكلام هو التحريم :

(اما أولا) ـ فإنه متى انتفى الأجر عليها لزم زيادتها وعدم كونها من الوضوء فتكون محرمة لعدم تصور المباح في العبادة ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في الروض.

و (اما ثانيا) ـ فلان هذا هو الذي يدور عليه كلام الصدوق في غير هذا الموضع من الفقيه ، حيث قال في موضع آخر ـ بعد ان روى (3) عن الصادق (عليه‌السلام): «والله ما كان وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا مرة مرة». ـ ما هذا لفظه : فأما الأخبار التي رويت في ان الوضوء مرتين مرتين فأحدها بإسناد منقطع يرويه أبو جعفر الأحول ذكره عمن رواه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ، ووضع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للناس اثنتين اثنتين». وهذا على جهة الإنكار لا على جهة الأخبار ، كأنه (عليه‌السلام) يقول : حد الله حدا فتجاوزه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وتعداه؟ وقد قال الله عزوجل : «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» (5) وقد روي «ان الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه وان المؤمن لا ينجسه شي‌ء وانما يكفيه مثل الدهن» (6). وقال الصادق (عليه‌السلام)

__________________

(1) ج 1 ص 29.

(2) رواه في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(3) ج 1 ص 25 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(4 و 6) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(5) سورة الطلاق الآية 2.


«من تعدى في وضوئه كان كناقضه» (1). ثم ذكر حديث ابن أبي المقدام الآتي (2) وتأوله بحمل «اثنتين اثنتين» فيه على التجديد ، ثم حمل أيضا حديث «من زاد على مرتين لم يؤجر» (3). وكذلك ما روى (4) في المرتين «أنه إسباغ» على التجديد أيضا ، إلى أن قال : وقد فوض الله (عزوجل) الى نبيه (عليه‌السلام) أمر دينه ، ولم يفوض اليه تعدي حدوده. وقول الصادق (عليه‌السلام): «من توضأ مرتين لم يؤجر» (5). يعني به انه اتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق الأجر ، وكذلك كل أجير إذا فعل غير الذي استؤجر عليه لم تكن له اجرة. انتهى.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ صريح في إنكاره الثانية وقوله ببدعيتها ، حيث انه جعل الحد المفروض من الله تعالى في الوضوء واحدة واحدة ، وان ما زاد تعد للحد ، وان من يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ، وفسر عدم الأجر في قوله (عليه‌السلام): «من توضأ مرتين لم يؤجر» (6). بأنه اتى بغير الذي أمر به ووعد الأجر عليه فلا يستحق الأجر ، وملخصه أن التثنية تعد للحد وانه لا يستحق المثنى ـ على أصل وضوئه لكونه مخالفا متعديا للحد فضلا عن التثنية ـ أجرا كما لا يستحق الأجير ـ إذا فعل غير ما استؤجر عليه ـ اجرا.

ونقل أيضا القول بعدم الاستحباب عن ثقة الإسلام في الكافي ، والذي يظهر لي من عبارته أيضا هو القول بالتحريم ، حيث قال (7) ـ بعد نقل حديث عبد الكريم الآتي (8) الدال على انه ما كان وضوء علي (عليه‌السلام) إلا مرة مرة ـ ما لفظه «هذا دليل على ان الوضوء انما هو مرة مرة ، لأنه (عليه‌السلام) كان إذا ورد عليه أمران كلاهما لله طاعة أخذ بأحوطهما وأشدهما على بدنه ، وان الذي جاء عنهم (عليهم‌السلام) انه قال : «الوضوء مرتان» إنما هو لمن لم تقنعه مرة فاستزاده فقال مرتان

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 8) المروي في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(7) ج 1 ص 9.


ثم قال : «ومن زاد على مرتين لم يؤجر» وهو أقصى غاية الحد في الوضوء الذي من تجاوزه اثم ولم يكن له وضوء ، وكان كمن صلى الظهر خمس ركعات ، ولو لم يطلق (عليه‌السلام) في المرتين لكان سبيلهما سبيل الثلاث» انتهى.

والمفهوم من هذا الكلام ان مراده الجمع بين أخبار المرة والمرتين والثلاث ، بحمل أخبار المرة على انه الوضوء الشرعي المأمور به ، واخبار المرتين على من أراد سنة الإسباغ ولم تقنعه المرة لذلك ، وإلا فاجزاء المرة ـ للقدر الواجب الذي كالدهن حقيقة أو مجازا ـ مما لا ريب فيه ، فيغسل حينئذ بالمرتين ، وهو أقصى الحد في الوضوء ومنتهى الرخصة في الزيادة فيه ، واخبار الثلاث الدالة على عدم الأجر بعد تجاوز الثنتين على من تجاوز هذا الحد إلى الغسل بثالثة ، فإنه يأثم وليس له وضوء. ويمكن توجيهه بأن الثالثة ـ بعد غسل العضو غسلا مسبغا بالثنتين ـ لا مدخل لها في أداء الواجب بل هي زائدة من تلك الجهة ، كزيادة الركعة الخامسة بعد الإتيان بالواجب التي هي الأربع ، ولا دليل هنا على استحباب التكرار بعد أداء الواجب المتصف بكمال سنة الإسباغ ، والضمير في قوله : «وهو أقصى غاية الحد» راجع إلى ما تقدم من الوضوء مرتين ، ومحصل الكلام ان الوضوء الشرعي انما هو مرة مرة ، واخبار المرتين انما هي لمن لم تقنعه المرة في أداء الواجب كاملا ، وهذا غاية الحد في الوضوء ، فمن زاد على ذلك اثم وبطل وضوؤه ، وهو المراد من عدم الأجر كما أشرنا إليه آنفا ، ولعل منشأ ما ذكروه توهم عود الضمير المذكور إلى قوله : «ومن زاد على مرتين» بمعنى ان الزيادة على المرتين أقصى غاية الحد ، وهو توهم ظاهر البطلان ، لان جعل الزيادة على المرتين الذي هو عبارة عن التثنية أقصى غاية الوضوء يدل على دخول تلك الزيادة في الوضوء الشرعي وانها جزء منه ، فتكون الثانية بعد تمام الغسل بالمرتين من جملة الوضوء واجزائه ، وان الإثم وعدم الوضوء انما ينصرف حينئذ إلى من تجاوزها ، ويصير حديث التمثيل بمن صلى الظهر خمس ركعات انما هو لمن زاد عليها ، فكيف يصح حينئذ نفي الأجر عنها بقوله :


«ومن زاد على مرتين لم يؤجر» والغرض ان المرتين ـ كما عرفت ـ انما هي عبارة عن غسلة واحدة ، ما هذا إلا تناقض ظاهر لا يصدر عن مثل هذا العالم الماهر. ويؤكد ما قلناه قوله أخيرا : «ولو لم يطلق. إلخ» فإن معناه انه لو لم يرخص لمن استزاده في المرتين لكان سبيلهما في الإثم وبطلان الوضوء سبيل الثلاث في الإثم وبطلان الوضوء بها كما ذكره ، وهو دليل على ما قلناه من أن غاية الحد المرخص فيه هي المرتان المشتركتان في أداء الواجب ، وان الزيادة المنفي عنها الأجر في كلامه هي المشار إليها هنا بالثلاث ، وهي التي تكون موجبة للإثم ومبطلة للوضوء عنده.

وأنت إذا تأملت فيما تلوناه ظهر لك ان هذا عين ما ذكره الصدوق (قدس‌سره) من تعدى الحد بالتثنية ، وعدم استحقاق الأجر على أصل الوضوء المشعر ببطلانه فضلا عن التثنية كما عرفته مما تقدم ، والعجب من أولئك الفضلاء المحققين في عدم إمعان النظر في كلام الشيخين المذكورين ، حيث نقلوا عنهما في الكتابين المذكورين القول بعدم استحباب الثانية ، بل صرح البعض منهم بصراحة كلام الكافي في عدم الحرمة والبدعية وقال انه ظاهر الصدوق ، ونحن إنما أطلنا البحث بنقل العبارتين وبيان ما هو المفهوم منهما ليظهر لك جلية الحال مما ذكره أولئك الأبدال ، وبذلك يظهر ان الظاهر ان نقل القول بالتحريم في كلام الشيخ وابن إدريس إشارة إلى ما حررناه من كلام هذين الشيخين

(الثاني) ـ اعلم ان الأخبار الواردة عن العترة الأطهار (صلوات الله عليهم) أكثرها دال على الوحدة :

فمنها ـ اخبار الوضوء البياني (1) فإنها على تعددها إنما تضمنت الغسل بكف كف لكل من الأعضاء المغسولة.

ومنها ـ قول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (2) : «ان الله وتر يحب

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 و 31 ـ من أبواب الوضوء.


الوتر فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ...». وقوله (عليه‌السلام) في حديث ميسرة (1) : «الوضوء واحدة واحدة ...».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في جواب يونس بن عمار (2) حيث سأله عن الوضوء للصلاة فقال : «مرة مرة».

وقول الباقر (عليه‌السلام) للأخوين في صحيحتهما عنه (3) بعد ان حكى لهما وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وبعد أن قالا له : أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال : «نعم إذا بالغت فيها ، والثنتان تأتيان على ذلك كله».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في موثقة عبد الكريم (4) : «ما كان وضوء علي (عليه‌السلام) الا مرة مرة».

وقوله (عليه‌السلام) فيما رواه في الفقيه (5) مرسلا مضمرا «من توضأ مرتين لم يؤجر».

وقول الصادق (عليه‌السلام) فيما أرسله عنه في الفقيه (6) : «والله ما كان وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا مرة مرة ، وتوضأ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرة مرة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». وقوله : «وتوضأ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخره». يحتمل أن يكون من مقول قول الصادق (عليه‌السلام) وان يكون من كلام صاحب الفقيه ، فيكون خبرا مقطوعا ، وهو الظاهر الذي فهمه جملة من الأصحاب.

واما ما يعارضها ظاهرا من الأخبار فمنه ـ قول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة

__________________

(1 و 2 و 4) المروي في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(5) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء ، والحديث في الفقيه والوسائل مروي عن الصادق (ع) كما تقدم منه ص 321.

(6) ج 1 ص 25 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.


معاوية بن وهب (1) : «الوضوء مثنى مثنى». وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة صفوان (2) : «الوضوء مثنى مثنى». وقوله في رواية زرارة (3) : «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه». وقوله في موثقة يونس (4) : «يغسل ذكره ويذهب الغائط ثم يتوضأ مرتين مرتين».

وقول الرضا (عليه‌السلام) فيما رواه في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (5) : «ان الفضل في واحدة ومن زاد على اثنتين لم يؤجر».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في مرسلة مؤمن الطاق (6) : «فرض الله الوضوء واحدة واحدة ووضع رسول الله للناس اثنتين اثنتين».

وقوله (عليه‌السلام) في مرسلة عمرو بن أبي المقدام (7) : «إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اثنتين اثنتين».

وما رواه في الفقيه مضمرا مرسلا (8) «روى في المرتين أنه إسباغ».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في مرسلة ابن أبي عمير (9) : «الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة».

وقوله (عليه‌السلام) في رواية ابن بكير (10) : «من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين».

وقوله (عليه‌السلام) في حسنة داود بن زربي (11) : «توضأ ثلاثا ثلاثا ، قال

__________________

(1 و 2 و 3 و 6 و 7 و 9 و 10) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(5) هذا الحديث ـ في السرائر والوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء ـ مروي عن نوادر البزنطي عن الصادق (ع).

(8) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(11) المروية في الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب الوضوء.


ثم قال لي : أليس تشهد بغداد وعساكرهم؟ قلت بلى ...».

وروى الصفار في كتاب بصائر الدرجات بسنده فيه عن عثمان بن زياد (1) «انه دخل على أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال له رجل : إني سألت أباك عن الوضوء فقال مرة مرة فما تقول أنت؟ فقال : انك لم تسألني عن هذه المسألة إلا وأنت ترى أني أخالف أبي ، توضأ ثلاثا ثلاثا وخلل أصابعك».

وروى في كتاب عيون اخبار الرضا (2) بسنده فيه إلى الفضل بن شاذان مما كتبه الرضا (عليه‌السلام) للمأمون من محض الإسلام قال فيه : «ثم الوضوء كما أمر الله في كتابه : غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس والرجلين مرة واحدة».

ورواه في موضع آخر (3) مثله إلا انه قال : «ان الوضوء مرة فريضة واثنتان إسباغ».

وروى محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي في كتاب الرجال (4) بسنده فيه عن داود الرقي قال : «دخلت على أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقلت له : جعلت فداك كم عدة الطهارة؟ فقال : اما ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له ، انا معه في ذا حتى جاء داود بن زربي فسأله عن عدة الطهارة فقال له : ثلاثا ثلاثا من نقص عنه فلا صلاة له. قال : فارتعدت فرائصي وكاد ان يدخلني الشيطان فأبصر أبو عبد الله (عليه‌السلام) إلي وقد تغير لوني فقال : اسكن يا داود هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق. قال : فخرجنا من عنده وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور وكان قد ألقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي وانه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد ، فقال أبو جعفر المنصور اني مطلع إلى طهارته فان هو توضأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حققت عليه القول وقتلته ، فاطلع وداود يتهيأ

__________________

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب الوضوء.

(2) ص 266 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(3) ص 269 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(4) ص 200 وفي الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب الوضوء.


للصلاة من حيث لا يراه فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثا ثلاثا كما أمره أبو عبد الله (عليه‌السلام) فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه ، قال : فقال داود : فلما ان دخلت عليه رحب بي وقال : يا داود قد قيل فيك شي‌ء باطل وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة فاجعلني في حل ، وأمر له بمائة ألف درهم ، قال : فقال داود الرقي : التقيت انا وداود بن زربي عند أبي عبد الله (عليه‌السلام) فقال له داود بن زربي : جعلت فداك حقنت دماءنا في دار الدنيا ونرجو ان ندخل بيمنك وبركتك الجنة. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) لداود بن زربي : حدث داود الرقي بما مر عليك حتى تسكن روعته. قال فحدثه بالأمر كله ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام): لذا أفتيته لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو ، ثم قال يا داود بن زربي : توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه وانك ان زدت عليه فلا صلاة لك».

وروى الشيخ المفيد في الإرشاد (1) بسنده إلى علي بن يقطين : «انه كتب إلى أبي الحسن (عليه‌السلام) يسأله عن الوضوء ، فكتب إليه أبو الحسن (عليه‌السلام) فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك ان تتمضمض ثلاثا وتستنشق ثلاثا وتغسل وجهك ثلاثا وتخلل شعر لحيتك وتغسل يديك من أصابعك إلى المرفقين ثلاثا وتمسح رأسك كله وتمسح ظاهر أذنيك وباطنهما وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثا ، ولا تخالف ذلك إلى غيره. فلما وصل الكتاب إلى علي بن يقطين تعجب مما رسم فيه مما جميع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال وانا امتثل امره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ويخالف ما عليه جميع الشيعة امتثالا لأمر أبي الحسن (عليه‌السلام) وسعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد وقيل له انه رافضي ، فامتحنه الرشيد من حيث لا يشعر فلما نظر إلى وضوئه ناداه كذب يا علي بن يقطين من زعم انك من الرافضة

__________________

(1) ص 315 وفي الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب الوضوء.


وصلحت حاله عنده ، وورد عليه كتاب أبي الحسن : ابتداء من الآن يا علي بن يقطين توضأ كما أمر الله : اغسل وجهك مرة فريضة واخرى إسباغا ، واغسل يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كنا نخاف منه عليك ، والسلام».

هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، وأصحابنا (رضوان الله عليهم) في مطولاتهم الاستدلالية لم يذكروا منها إلا اليسير ، وقد اختلفت كلمتهم (طيب الله تعالى مراقدهم) في الجمع بينها على أقوال :

(أحدها) ـ ما هو المشهور من حمل أخبار التثنية والمرتين على التثنية في الغسل وحمل الثانية على الاستحباب بعد الغسل كاملا بالأولى ، وحمل نفي الأمر في الثانية على ما إذا اعتقد وجوبها.

وفيه ان الأخبار الكثيرة المستفيضة بالوضوء البياني خالية منه بل كلها مشتملة على الوحدة في الغسل ، ويبعد غاية البعد الاستحباب على الوجه المذكور مع عدم اشتمال شي‌ء منها عليه.

وربما أجيب عن ذلك بان تلك الأحاديث إنما وردت في مقام بيان الواجب من الوضوء خاصة.

ويرد عليه (أولا) ـ انها دعوى خالية من الدليل ، بل المتبادر منه ما كان يفعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في وضوئه غالبا ، وهو مشتمل على الواجب والمستحب لا المفترض خاصة ، وإلا لكان الأنسب في السؤال أو الحكاية ابتداء أن يسأل عن المفترض أو يقال : إلا أحكي لكم ما افترضه الله من الوضوء.

و (ثانيا) ـ ان جملة من اخبار حكاية وضوئهم (عليهم‌السلام) كخبر عبد الرحمن بن كثير الهاشمي (1) الوارد في صفة وضوء مولانا أمير المؤمنين (عليه‌السلام)

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 16 ـ من أبواب الوضوء.


مع اشتماله على جملة المستحبات ، فإنه ليس فيه تصريح بشي‌ء من ذلك ، بل هو ظاهر الدلالة على العدم ، وصحيحتي أبي عبيدة الحذاء (1) وحماد بن عثمان (2) في وصف وضوء الباقر والصادق (عليهما‌السلام) سيما مع أردف بعض أخبار الوحدة بالقسم كما تقدم.

(وثالثا) ـ انه قد روى زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال قال : «الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يؤجر عليه ، وحكى لنا وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : فغسل وجهه مرة واحدة وذراعيه مرة واحدة ومسح رأسه بفضل وضوئه ورجليه». وأنت خبير بأنه مع حمل التثنية في الخبر على ما هو المشهور من استحباب غرفة ثانية والغسل مرة ثانية ينافي ما حكاه عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من المرة الواحدة ، فيحصل التدافع بين صدر الخبر وعجزه.

(الثاني) ـ ما ذهب اليه الصدوق (طاب ثراه) في الفقيه من حمل المرتين في تلك الأخبار على التجديد تارة وعلى الغسلتين اخرى كما قدمنا من كلامه ، ففي مثل حديث مؤمن الطاق (4) حمل «اثنتين اثنتين» فيه على غسلتين غسلتين ولكن تأوله بالحمل على الإنكار دون الأخبار ، مستندا إلى ما عرفته ثمة من أن «الوضوء حد من حدود الله وانه لا يجوز ان يحد الله حدا ويتجاوزه رسوله ، وأنه تعالى فوض إلى نبيه أمر دينه ولم يفوض اليه تعدي حدوده» وكذا فيما رواه من قول الصادق (عليه‌السلام) (5) «من توضأ مرتين لم يؤجر». حمله على الغسلتين وأوضح نفى الأجر فيه بما تقدم في كلامه ، وحمل حديث ابن أبي المقدام (6) على التجديد ، وعلى ذلك أيضا حملما رواه مرسلا (7) من «أن المرتين إسباغ». قال : «والخبر الذي روى «أن من زاد على مرتين لم يؤجر ،.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2 و 3 و 4) المروي في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(5 و 7) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(6) المتقدم في الصحيفة 325.


يؤكد ما ذكرته ، ومعناه أن تجديده بعد التجديد لا أجر له كالأذان ، من صلى الظهر والعصر بأذان وإقامتين أجزأه ، ومن أذن للعصر كان أفضل ، والأذان الثالث بدعة لا أجر له» انتهى.

ولا يخفى عليك ما فيه من التكلف الظاهر والنظر الغير الخفي على الماهر :

(أما أولا) ـ فلأن ما تأول به رواية مؤمن الطاق من الحمل على الإنكار دون الأخبار مدخول بان صدر رواية الكشي المتقدمة (1) قد تضمن أن الثانية اضافة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على وجه لا يقبل التأويل.

و (أما ثانيا) ـ فلأن ما استند اليه من أن «الوضوء حد من حدود الله. إلخ» مهدوم بما رواه هو وغيره من الأخبار الدالة على أن الذي فرضه الله تعالى من الصلاة إنما هو ركعتان فأضاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى الثلاثية منها ركعة وإلى الرباعية اثنتين (2) وفي بعض الأخبار «وفوض الله إلى محمد فزاد وهي سنة»

و (أما ثالثا) ـ فلأن التجديد لا ينحصر في دفعتين خاصة حتى يمكن حمل حديث «مثنى مثنى» و «مرتين مرتين» أو نحوهما عليه ، كما توهمه (قدس‌سره) وتبعه جمع من الفضلاء عليه ، إذ الظاهر من الأدلة وكلام الأصحاب في هذا الباب هو استحباب التجديد وان ترامى مع الفصل ولو بنافلة ، وعموم الأدلة ـ مثل قولهم (عليهم‌السلام): «الوضوء على الوضوء نور على نور» (3). وقولهم : «من جدد وضوءه من غير حدث جدد الله توبته من غير استغفار» (4). وقولهم : «الطهر على الطهر عشر حسنات» (5). وغير ذلك ـ شاهد على ما ذكرنا من الزيادة على الدفعتين والثلاث والأزيد. وأما ما تكلفه (ره) ـ في معنى «من زاد على مرتين لم يؤجر». من قوله : «ومعناه

__________________

(1) في الصحيفة 326.

(2) روى صاحب الوسائل هذه الأخبار في الباب ـ 13 ـ من أعداد الفرائض من كتاب الصلاة.

(3 و 4 و 5) المروي في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الوضوء.


أن تجديده بعد التجديد لا أجر له. إلخ» ـ ففيه انه إن أراد التجديد من غير تخلل زمان أو صلاة أو نحوهما فالتجديد الأول أيضا لا أجر له ، بل هو ليس بتجديد لأن الوضوء جديد ، وإن أراد به التجديد مع التخلل كما في مثال الأذان الذي أورده فقوله : «لا أجر له» ممنوع ، كيف وهو نفسه روى في هذا المقام عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «انه كان يجدد الوضوء لكل فريضة ولكل صلاة» (1).

و (أما رابعا) ـ فلأن حمل الإسباغ على التجديد فيما رواه (2) من «أن المرتين إسباغ». مما لا يكاد يشم له رائحة من الأخبار ولا من كلام أحد من الأصحاب ، إذ الظاهر المتبادر من الإسباغ هو الإكثار من ماء الوضوء لا تكراره ، والعجب من جمع من محققي متأخري المتأخرين حيث تبعوه في هذا التأويل وجعلوا عليه المدار والتعويل من غير إعطاء التأمل حقه في ذلك ولا إمعان النظر فيما هنالك.

(الثالث) ـ ما ذهب اليه الشيخ حسن في المنتقى قال (قدس‌سره) ـ بعد نقل الخبر الدال على قوله : «مثنى مثنى» ـ : «والمتجه حمله على التقية ، لأن العامة تنكر الوحدة وتروي في أخبارهم التثنية» (3) انتهى.

__________________

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الوضوء.

(2) ج 1 ص 26 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(3) في البحر الرائق لابن نجيم ج 1 ص 23 «الاولى فرض والثنتان سنة. وذكروا لدليل السنة ان رسول الله (ص) توضأ مرة وتوضأ مرتين وتوضأ ثلاثا» وهذه الروايات التي أشار إليها رواها البخاري في صحيحة أول باب الوضوء وفي بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج 1 ص 11 «أنفق لعلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة المرة إذا أسبغ وان الاثنتين والثلاث مندوب إليهما» وفي المهذب لأبي إسحاق الشيرازي الشافعي ج 1 ص 17 «يستحب أن يتوضأ ثلاثا وإن اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه وان خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا جاز» وفي المغني لابن قدامة ج 1 ص 139 «الوضوء مرة مرة والثلاث أفضل في قول أكثر أهل العلم ، ولم يوقت ـ


أقول : وقد نقل القول بذلك في المعتبر عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد ، ونقل من رواياتهم في ذلك ما رواه عن ابن عمر (1) انه قال : «توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرة مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، ثم توضأ مرتين وقال : من ضاعف وضوءه ضاعف الله له الأجر ، ثم توضأ ثالثة وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي».

ثم لا يخفى عليك أن ما ذكره من الحمل وإن كان لا بأس به بحسب الظاهر ، إلا أنه مما لا تجتمع عليه روايات المسألة كملا ، لما عرفت في قصتي داود بن زربي وعلي بن يقطين ورواية بصائر الدرجات (2) من أن التقية انما كانت في الغسلات الثلاث وانهم (عليهم‌السلام) أمروا داود وعلي بن يقطين بعد زوال المحذور بالتثنية ، وقد تضمن صدر رواية داود تعليل الأمر بإضافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية بأنها لضعف

__________________

مالك المرة أو الثلاث ، وعند الأوزاعي الوضوء ثلاثا إلا غسل الرجلين فإنه ينقيهما ويجوز غسل بعضها مرة وبعضها أكثر» وفي فتح الباري لابن حجر ج 1 ص 166 «من الغريب ما عن بعض العلماء من عدم جواز النقص عن الثلاث لمخالفته الإجماع ، وقول مالك في المدونة ـ : لا أحب الواحدة ـ ليس فيه إيجاب الزيادة عليها» وفي شرح النووي على صحيح مسلم بهامش إرشاد الساري ج 2 ص 213 «اجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة وعلى أن الثلاث سنة ، وجاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة وثلاثا وبعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا ، واختلافها دليل الجواز وان الثلاث كمال والواحدة تجزؤ ، وعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث».

(1) في سنن البيهقي ج 1 ص 80 عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال : «دعا النبي (ص) بماء فتوضأ واحدة واحدة فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين وقال : هذا وضوء من يؤتى أجره مرتين ، ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي».

(2) في الصحيفة 326 و 327.


الناس ، وتضمنت رواية علي بن يقطين تعليلها بالإسباغ ، وعاضدها في ذلك أيضا ما عرفت من بعض الأخبار.

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد نقل كلام المنتقى ما صورته : «وهو بعيد ، لأن معظم العامة ورواياتهم المعتمدة على التثليث (1) فلا تتأدى التقية بالمرتين» انتهى.

وشيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب الحبل المتين بعد أن نقل حسنة داود ابن زربي (2) احتمل فيها أن المراد بالتثليث فيها تثليث الأعضاء المغسولة بمعنى زيادة إدخال الرجلين في الغسل ، ثم قال : «ويكون الأمر بالتقية في غسل الرجلين كما ورد مثله من أمر الكاظم (عليه‌السلام) علي بن يقطين بغسل الرجلين تقية للرشيد ، والقصة مشهورة أوردها المفيد في الإرشاد وغيره ، ويؤيد هذا الحمل ان هذا هو الفعل الذي اشتهر بين العامة انه الفصل المميز بينهم وبين الخاصة ، وأما قولنا بوحدة الغسلات أو تثنيتها وكون الزائد على ذلك بدعة عندنا ، فالظاهر انه لم يشتهر بينهم ولم يصل إلى حد يكون دليلا على مذهب فاعله حتى يحتاج إلى التقية فيه ، على أن الغسلة الثالثة ليست عندهم واجبة وربما تركوها» انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو قوي بالنظر إلى إجمال تلك الرواية التي نقلها ، أما بالنظر إلى ما اشتملت عليه روايتا الكشي والمفيد (3) من قصتي داود وعلي بن يقطين فغير تام ، فإنهما صريحان في كون التثليث إنما هو في الغسلات كما لا يخفى ، وما ذكره (طاب ثراه) ـ من أن غسل الرجلين هو الذي اشتهر كونه فصلا مميزا بين الخاصة والعامة دون التثليث ـ جيد إلا أن المفهوم من تتبع الأخبار ومطالعة السير ان مذاهب العامة خذلهم الله ليس لها حد

__________________

(1) تقدم في التعليقة 3 في الصحيفة 331 ماله دخل في المقام.

(2) المتقدمة في الصحيفة 326.

(3) المتقدمتان في الصحيفة 326 و 327.


ولا انضباط في الصدر الأول ، فربما اشتهر القول بينهم في عصر من الأعصار على وجه لا يتمكن أحد من العمل بخلافه وندر في عصر آخر ، لأن المدار في شيوع تلك المذاهب على ما اعتنت به سلاطين الجور وائمة الضلال من نصب قضاة من جهتهم وحمل الناس على العمل بما يفتون به ، ولا ريب ان عمل كل من قضاتهم وفقهائهم إنما هو على ما تستحسنه عقولهم وتقتضيه قياساتهم ، فلا قاعدة لهم مربوطة ولا سنة لهم مضبوطة ، واشتهار هذه المذاهب الأربعة إنما وقع أخيرا كما صرح به جملة من علمائنا وعلمائهم ، وحينئذ فمن الجائز اشتهار التثليث في الغسل في ذلك الوقت وإن ندر في وقت آخر ، ومن ذلك يعلم أيضا قرب احتمال التقية في أخبار التثنية كما احتمله في المنتقى ، على أن الذي رأيته فيما حضرني من كتبهم الفروعية ذكر التثليث في مستحبات الوضوء مصرحين بأن الأولى فرض والثانية سنة والثالثة كمال السنة ، ولعل اشتهار التثليث عندهم ـ وملازمتهم عليه على وجه يتهمون من تركه بكونه رافضيا ، كما سمعته من قصتي داود وعلي بن يقطين ـ أن الشيعة لما أنكرته تمام الإنكار بل أبطلوا به الوضوء كما دلت عليه نصوصهم ردا على العامة ، شدد العامة الأمر فيه أيضا ردا على الشيعة ولازموا عليه تمام الملازمة عنادا لهم ، ويؤيده انهم قد تركوا كثيرا من السنن مع اعترافهم بكونها كذلك عنادا للشيعة لملازمتهم عليها ، كما أوضحنا جملة من ذلك في بعض رسائلنا ، فجعلوا كل من لم يعمل بالتثليث رافضيا. والعجب من شيخنا البهائي (طاب ثراه) حيث استند إلى قصة علي بن يقطين في دلالتها على الأمر بغسل الرجلين تقية وحمل التثليث على ضم غسل الرجلين إلى غسل العضوين الآخرين ، وغفل عما دلت عليه صريحا من الأمر بغسل كل من تلك الأعضاء ثلاثا ثلاثا ، ولعله (قدس‌سره) لم يلاحظ الرواية وقت التصنيف.

(الرابع) ـ ما ذهب اليه شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين من حمل التثنية على الغسل والمسح ، قال في الكتاب المذكور : «ولا يخفى احتمال تلك الأخبار لمعنى آخر طالما يختلج بالبال ، وهو أن يكون (عليه‌السلام) أراد بقوله : «الوضوء مثنى


مثنى». ان الوضوء الذي فرضه الله إنما هو غسلتان ومسحتان لا كما يزعمه المخالفون من أنه ثلاث غسلات ومسحة واحدة ، وقد اشتهر عن ابن عباس انه كان يقول : «الوضوء غسلتان ومسحتان (1) نقله الشيخ في التهذيب وغيره ، ومما يؤيد هذا الحمل ما تضمنه الحديث العاشر أعني حديث يونس بن يعقوب (2) من قول الصادق (عليه‌السلام) في جواب اذلسؤال عن الوضوء الذي افترضه الله على العباد : «يتوضأ مرتين مرتين».

فان المراد بالمرتين فيه الغسلتان والمسحتان لا تثنية الغسلات ، فإنها ليست مما افترضه الله على العباد» انتهى.

وما ذكره (رحمه‌الله) وإن أمكن احتماله بالنسبة إلى صحيحتي معاوية بن وهب و

صفوان (3) الدالتين على أن «الوضوء مثنى مثنى». لإجمالهما وكذا حديث يونس بن يعقوب إلا أنه لا يجري في غيرهما مما يدل على التثنية من الأخبار المتقدمة ، فلا يحسم مادة الإشكال.

(الخامس) ـ ما ذهب اليه بعض من الأصحاب من حمل تلك الأخبار على بيان نهاية الجواز ، وإلى هذا يميل كلام السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل كلام المشايخ الثلاثة المتقدم ـ ما لفظه : «ومقتضى كلام المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) أفضلية المرة الواحدة ، وهو الظاهر من النصوص ، وعلى هذا فيمكن حمل الأخبار المتضمنة للمرتين على أن المراد بها بيان نهاية الجواز ، ثم استشهد بقوله (عليه‌السلام)

__________________

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 25 ـ من أبواب الوضوء ، وفي التهذيب ص 18 ورواه عن ابن عباس الطبري في تفسيره ج 10 ص 58 الطبعة الثانية وابن كثير في تفسيره ج 2 ص 25 وابن العربي في أحكام القرآن ج 1 ص 239 والعيني في عمدة القارئ ج 1 ص 657.

(2) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب أحكام الخلوة.

(3) المتقدمتين في الصحيفة 325.


في صحيحة الأخوين المتقدمة (1) «والثنتان تأتيان على ذلك كله». ثم قال : وأعلم أن المستفاد من كلام الأصحاب أن المستحب هو الغسل الثاني الواقع بعد إكمال الغسل الواجب ، وانه لو وقع الغسل الواحد بغرفات متعددة لم يوصف باستحباب ولا تحريم ، والأخبار إنما تدل ـ بعد التسليم ـ على أن المستحب كون الغسل الواجب بغرفتين ، والفرق بين الأمرين ظاهر» انتهى.

والظاهر أنه جنح هنا إلى القول الثالث الذي قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف وحمل عليه كلام المشايخ الثلاثة ، متمسكا بنفي الأجر على الثانية. وفيه ما قد عرفته سابقا في ذيل كلام ذينك الشيخين الأعظمين ، وهو (قدس‌سره) لم ينقل من كلام الصدوق إلا ما قدمنا نقله عنه أولا (2) من قوله : «الوضوء مرة مرة ، ومن توضأ مرتين مرتين لم يؤجر ، ومن توضأ ثلاثا فقد أبدع» دون الكلام الأخير الذي هو ظاهر الدلالة بل صريحها فيما ادعيناه ، ثم ان قوله (طاب ثراه) : «واعلم أن المستفاد. إلخ» ظاهر الدلالة في الرجوع عما ذكره أولا ، إذ ظاهر الكلام الأول ان الثانية التي هي نهاية الجواز إنما هي بعد تمام الغسل الواجب ، وكلامه الأخير ظاهر المخالفة لذلك ، ولعل في قوله أولا : «وعلى هذا فيمكن. إلخ» إشارة إلى ذلك. ثم إنه مع الإغماض عما ذكرنا فهذا الحمل لا تنطبق عليه أخبار المسألة كملا على وجه يحسم مادة النزاع. لعدم جريانه في الأخبار الدالة على أن الثانية إسباغ كما هو ظاهر.

(السادس) ـ ما ذكره المحدث الكاشاني (قدس‌سره) في الوافي من حمل أحاديث الوحدة على الغسلة وأحاديث التثنية على الغرفة ، قال : «وبهذا تكاد تتوافق جميع الأخبار وينكشف عنها الغبار ، كما يطهر بعد التأمل في كل كل ، وإن كان أيضا لا يخلو من تكلف إلا أنه أقل تكلفا مما ذكروه ، فيصير معنى حديث مؤمن الطاق (3)

__________________

(1) في الصحيفة 324.

(2) في الصحيفة 320.

(3) المتقدم في الصحيفة 325.


«ان الفرض في الوضوء إنما هو غسلة واحدة ، ووضع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) للناس غرفتين لتلك الغسلة» فهو تحديد منه لما لم يرد له من الله تحديد ليس بتعد من حد ، وأما الثنتان في قوله : «واثنتان لا يؤجر» (1) فالمراد بهما الغسلتان ، والمراد بالواحدة والثنتين في قوله (2) : «من لم يستيقن أن الواحدة من الوضوء تجزيه لم يؤجر على الثنتين» الغرفة والغرفتان ، والدليل على هذا التأويل ما مضى في حديث زرارة وبكير (3) : «فقلنا أصلحك الله فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة الذراع؟ فقال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله». انتهى.

وظني أن هذا الاحتمال أقرب من تلك الاحتمالات إلى الروايات ، لكن لا على ما يفهم من كلامه (رحمه‌الله) من حمل لفظ الواحدة والمرة على الغسلة كائنا ما كان ، بل على ما تقتضيه القرائن الحالية وتساعده المقامات المقالية ، ومن أن الغسلة المفروضة يستحب ان تكون بغرفتين دائما ، كما ذكره في توجيه رواية مؤمن الطاق (4) من حمل الوحدة على الغسلة والتثنية على الغرفة ، وان ذلك تحديد منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما فرضه الله تعالى ، فإنه خلاف ما استفاض عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حكاية وضوئه وعن أبنائه (عليهم‌السلام) في الحكاية عنهم من أن الوضوء غرفة غرفة ، إذ لو كان قد وضع الغرفتين حدا لتلك الغسلة بمعنى أنه سن ان تكون الغسلة بغرفتين ، لكان هو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أولى من لازم عليه كما ندب اليه ، وأبناؤه (عليهم‌السلام) اولى من أحيى سنته ونهج طريقته ، بل الظاهر أن المراد منها أن الفرض الذي أوجبه الله تعالى في الوضوء الغسل ولو كالدهن ، وهو يحصل بالغرفة المتعارفة الغير المبالغ فيها ،

__________________

(1) في مرسل ابن أبي عمير المتقدم في الصحيفة 325.

(2) في رواية ابن بكير المتقدمة في الصحيفة 325.

(3) المروي في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المتقدمة في الصحيفة 325.


وزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) غرفة أخرى ليحصل بالجميع سنة الإسباغ ، وعلى هذا ينطبق كل من هذه الرواية ورواية الكشي (1).

(السابع) ـ ما خطر بالبال العليل والفكر الكليل ، وبيانه أن الواجب من الغسل هو ما يحصل به مسمى الجريان اتفاقا ، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة إن حملنا أخبار الدهن على المبالغة ، وإلا فقد عرفت مما سبق أن العمل بها على ظاهرها لا يخلو من قوة ورجحان ، وحينئذ نقول هنا : ان بعضا من تلك الأخبار المتقدمة تضمنت أن التثنية من الإسباغ المستحب في الوضوء كما استفاض في جملة من الأخبار ، ومعنى الإسباغ هو الغسل الواجب بماء كثير يتيقن استيعابه للعضو ، ولا يستلزم تعدد الغرفات بل قد يكون بغرفة واحدة مملوءة ، فالإسباغ حينئذ يحصل إما بمل‌ء الكف من الماء مرة واحدة ، كما حكاه حماد بن عثمان في صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (2) في حكاية وضوئه (عليه‌السلام) حيث قال : «فدعا بماء فملأ به كفه فعم به وجهه ، ثم ملأ كفه فعم به يده اليمنى ، ثم ملأ كفه فعم به يده اليسرى. الحديث». وكما حكاه زرارة في صحيحته عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (3) في حكايته وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فان ذلك مبني على سنة الإسباغ ، إذ الغسل الواجب يحصل بما هو كالدهن ، وهو يحصل بالغرفة اليسيرة كما لا يخفى ، أو بالمرتين الغير المملوءتين ، كما هو الظاهر من أحاديث التثنية بقرينة ما دل منها على ان الثانية إسباغ حملا لمطلقها على مقيدها ، وقد استفيد كلا الفردين من صحيحة الأخوين (4) حيث قالا له : «فالغرفة الواحدة تجزئ للوجه وغرفة للذراع؟ فقال : نعم إذا بالغت فيها والثنتان تأتيان على ذلك كله». فان ذلك كله مبني على سنة الإسباغ البتة ، وبعين ذلك يقال

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 326.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.


في رواية مؤمن الطاق (1) وما في معناها مما دل على ان الفريضة واحدة وزاد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية لسنة الإسباغ فيغسل بمجموعهما العضو لأجل الإسباغ ، والظاهر ان معنى قوله في رواية داود الرقي المنقولة عن الكشي (2) : «وأضاف إليها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية لضعف الناس». اي ضعف عقولهم بسبب عدم مقاومة الوساوس الشيطانية بالشك في وصول الماء إلى جميع العضو عند الاكتفاء بغرفة ، فسن (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الثانية ليحصل الجزم والاطمئنان باستيعاب العضو بالغسل.

(لا يقال) : ان زيادة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الغرفة الثانية لسنة الإسباغ ينافيه الحصر في المرة في قوله (عليه‌السلام) في موثقة عبد الكريم (3) : «ما كان وضوء علي (عليه‌السلام) إلا مرة مرة». والقسم في قوله (عليه‌السلام) في مرسلة الصدوق (4) : «والله ما كان وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا مرة مرة».

(لأنا نقول) : قد عرفت ان الإسباغ يحصل بأحد فردين : اما بالغرفة المبالغ فيها كما عرفت من ذينك الحديثين المتقدمين (5) أو الثنتين الغير المبالغ فيهما ، وهذان الخبران محمولان على الأول.

وبالجملة فإن بعض الأخبار تضمن أن الغرفة الثانية لسنة الإسباغ ، وبعض الأخبار تضمن الغرفة المملوءة والمبالغ فيها ، ومن الظاهر البين أن المبالغة فيها وملأ الكف بها انما هو لتحصيل سنة الإسباغ كما عرفت ، وبعض الأخبار جمعهما معا ، وبعض تضمن الغرفة أو المرة من غير ذكر المبالغة والملأ مع كونه مما يجب حمله على الوجه الأكمل ، وبعضها تضمن الثنتين من غير ذكر الإسباغ ، فالواجب حمل ما تضمن من الأخبار المرة أو الغرفة عاريا عن القيد على مقيدها ليكون واقعا على الوجه الأكمل ، وما تضمن التثنية

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 325.

(2) المتقدمة في الصحيفة 326.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(5) وهما صحيحا حماد وزرارة المتقدمان في الصحيفة 338.


عاريا عن ذلك القيد أيضا على مقيدها بذلك القيد ، وعليه تجتمع الأخبار ، على أنه يمكن أيضا أن يقال : انه يجوز أن تكون التثنية مخصوصة بغيرهم (صلوات الله عليهم) ممن بضعف عقله عن الاكتفاء بالواحدة ، كما يستفاد من ظاهر حديث الكشي المتقدم (1) ويؤيده ما تقدم من كلام ثقة الإسلام : «ان الذي جاء عنهم (عليهم‌السلام) انه قال : «الوضوء مرتان». إنما هو لمن لم تقنعه المرة واستزاده» ثم إنه حيث كالت سنة الإسباغ ـ كما عرفت ـ تحصل بالغرفة الثانية متى أضيفت إلى الأولى وغسل العضو بمجموعهما ، فالغرفة الثالثة حينئذ تكون بعد تمام الغسل فتوصف بالبدعة وعدم الأجر ، وهذا معنى ما رواه في مستطرفات السرائر عن الرضا (عليه‌السلام) (2) من «ان الفضل في واحدة واحدة ومن زاد على اثنتين لا يؤجر». اي الفضل في واحدة واحدة مملوءة لأن فيه سنة الإسباغ الذي فيه الفضل أو اثنتين غير مملوءتين كما هو المستفاد مما قدمناه ، وهو مطوي هنا في الكلام ومثله كثير ، ومن زاد على اثنتين لم يؤجر. وهذا هو الذي صرح به ثقة الإسلام والصدوق (قدس‌سرهما) فيما قدمنا في تحقيق كلامهما.

وأما قوله في مرسلة ابن أبي المقدام (3) : «إني لأعجب ممن يرغب أن يتوضأ اثنتين اثنتين وقد توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اثنتين اثنتين». مع استفاضة الأخبار البيانية بان وضوءه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ما كان إلا بغرفة غرفة ، فلعل المعنى فيه ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ انه كما واظب على الغرفة المملوءة في الأكثر كذلك توضأ في بعض الأوقات بغرفتين خفيفتين ، كما أمر به فيما نقله عنه أبناؤه (سلام الله عليهم) من انه زاد الثانية لسنة الإسباغ ، والامام (عليه‌السلام) هنا تعجب ممن رغب عن هذه السنة التي سنها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والحال انه قد اتى بها في بعض وضوءاته

__________________

(1) ص 326.

(2) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء. وقد تقدم في التعليقة 5 ص 325 ان الحديث عن الصادق (عليه‌السلام).

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.


وأما ما تضمنته رواية ابن بكير (1) من ان «من لم يستيقن أن الواحدة تجزيه لم يؤجر على الثنتين». فلعل معناه انه لما كانت الواحدة هي الفرض من الله سبحانه وان الواجب المفروض يتأدى بمثل الدهن كما استفاضت به الأخبار ، فمن لم يعتقد اجزاءها بل اعتقد فرض الثنتين كان مبدعا مشرعا في وضوئه ، لاعتقاده وجوب ما ليس بواجب وهو الثانية فلا يؤجر على وضوئه ، وهو عين ما ذكره الصدوق مما قدمنا نقله عنه.

واما ما تضمنته مرسلة ابن أبي عمير (2) ـ وهي مضمون عبارة الصدوق المتقدمة أولا من أن «الوضوء واحدة فرض واثنتان لا يؤجر والثالثة بدعة». ـ فيحتمل بمعونة ما ذكرناه في رواية ابن بكير أن الواحدة والاثنتين بمعنى الغرفة وان عدم الأجر على الثنتين مع عدم اعتقاد اجزاء الواحدة التي هي الفرض ، وأما الثالثة فهي بدعة لأنها زيادة على ما جاءت به السنة ، بخلاف الثانية ، فإنها سنة للاسباغ بها كما عرفت ، ولعل في التعبير بعدم الأجر إشارة إلى ذلك. ويحتمل حمل الواحدة والاثنتين على الغسلة والغسلتين ، ومعناه حينئذ أن الغسلة الواحدة فرض والغسلتان لا يؤجر. وقد عرفت ان معنى هذا اللفظ الكناية عن البدعية والتحريم ، وحينئذ فيكون المراد بلفظ البدعة في الثالثة بمعنى المبتدع المخترع لا ما قابل السنة ، وإلا فقد عرفت ان الثانية بدعة بذلك المعنى ، فمرجع عدم الأجر في الثانية والبدعية في الثالثة إلى أمر واحد.

وأما ما ذكره جملة من محققي متأخري متأخرينا ـ من عدم تحريم الغسلة الثانية بل عدم الكراهة ، مستندين إلى عدم الدليل على ذلك وان لفظ «لا يؤجر» في الأخبار غاية ما يفهم منه عدم الأولوية ـ ففيه ما عرفت في تحقيق كلام الشيخين المتقدمين ، ويزيده هنا انها مع زيادتها وعدم كونها جزء من العبادة ـ كما يعترفون به ـ فاما ان يعتقد المكلف في حال استعماله لها شرعيتها واستحبابها ، وهذا مما لا يستراب في تحريمه

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.


وتشريعه بناء على ما اعترفوا به كما قدمنا الإشارة اليه ، واما ان لا يعتقد ذلك بل يكون عابثا لاعبا ، وهذا لا اختصاص له بهذا المقام ليخص بالذكر في أخبارهم (عليهم‌السلام) بل يجري مثله في الثالثة ، مع انهم لا يخالفون في بدعيتها وتحريمها ، وان هذا اللفظ قد ورد في رواية زرارة المتقدمة (1) في تعداد الروايات المعارضة بعد قوله : «مثنى مثنى» ومن الظاهر بل المعلوم ان المراد به التحريم اتفاقا أعم من ان تجعل التثنية في الغسل كما هو المشهور أو في الغرفة كما ذكرنا ، لأن الزيادة هنا بمعنى التثليث ، وهو مما لا اشكال عندهم في تحريمه. ومما يدل أيضا على ان اللفظ إنما خرج كناية عن التحريم قول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة داود بن فرقد المروية في الكافي (2) : «إن أبي كان يقول ان للوضوء حدا من تعداه لم يؤجر ...». مع قول الباقر (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (3) : «إنما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ...». فان نفي الأجر في الأول عبارة عن كونه معصية كما في الثاني كما لا يخفى.

(الثالث) ـ قال في كتاب رياض المسائل وحياض الدلائل ـ بعد البحث في المسألة ، والجمع بين الأخبار بحمل بعضها على التجديد وبعضها على التقية وبعض على الغسلتين والمسحتين ـ ما لفظه : «بقي هنا شي‌ء ، وهو أنه لا خلاف في أنه إذا لم تكف الغرفة الأولى في غسل العضو وجبت الثانية وهكذا ، لعدم الخروج عن العهدة ، كما صرح به العلامة في المختلف وغيره ، كما انه لا خلاف في وقوع الخلاف في الثانية إذا كمل غسل العضو بالأولى. وأما لو لم يكمل غسل العضو بالأولى مع إمكان شمولها إياه واختار غسل العضو بغرفتين موزعتين عليه ، فهل يجري في الثانية الخلاف السابق أم لا؟ لم أقف للأصحاب فيه على صريح كلام ، وكلامهم فيه قابل للأمرين ، الى أن

__________________

(1) في الصحيفة ـ 325.

(2) ج 1 ص 7 وفي الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 52 ـ من أبواب الوضوء.


قال : والظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها ومراجعة ما حررناه إن استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه ، وان الاقتصار على الغرفة مع إمكان شمولها العضو ولو بالمبالغة فيها كما أو كيفا هو الأولى ، وانها ليست بمحرمة بل هي غاية الحد في الوضوء الذي لا يجوز تعديه ، من زاد عليه فقد أبدع» انتهى كلامه زيد مقامه.

وعندي فيه تأمل من وجوه : (أحدها) ـ ان الظاهر ـ من الأخبار الدالة على إجزاء ما يحصل به مسمى الغسل ولو كالدهن ، وبه قال الأصحاب أيضا ـ الاكتفاء في غسل العضو بالغرفة اليسيرة جدا ، وحينئذ فالظاهر من قول العلامة في المختلف ـ أنه مع عدم كفاية الكف الأول في غسل العضو يجب الثاني ولو لم يكفيا وجب الثالث وهكذا ـ انما هو من قبيل الفرض في المسألة لا أنه كذلك حقيقة ، حتى يصح جعل ما لو اختار غسل العضو بغرفتين موزعتين مع إمكان شمول الأولى له مطرحا لخلاف آخر في المسألة أيضا.

(ثانيها) ـ انك قد عرفت ان جملة من الأخبار دلت على كون الثانية إسباغا ، وأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد سنها لذلك ، ولا مجال لحملها على الغسلة ، لما فيه من المنافاة لأخبار الوحدة ، كما عرفت وحققه هو أيضا (قدس‌سره) في أول كلامه ، فتحمل على الغرفة ، ومن الظاهر حينئذ انها أعم من أن تكون الأولى تأتي على العضو كملا ولم يغسل بها أم لا ، وبذلك يظهر لك ما في دعواه (قدس‌سره) في آخر كلامه : أن الظاهر من الأخبار بعد التأمل فيها ان استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه ، فإنه غفلة زائدة عن ملاحظة هذه الأخبار ولا سيما روايتي الكشي وعلي بن يقطين (1) إلا أن عذره فيهما ظاهر ، حيث لم يتعرض لنقلهما في الكتاب المذكور ، ولعله (طاب ثراه) لم يطلع عليهما أو لم يخطرا بباله حال التصنيف.

__________________

(1) المتقدمين في الصحيفة 326 و 327.


(ثالثها) ـ ان صحيحة الأخوين (1) ـ كما عرفت ـ دلت على أن الثنتين تأتيان على ذلك كله بعد حكمه فيها بأن الغرفة المبالغ فيها مجزئة لذلك أيضا ، وقد عرفت شرح القول في معناها ، وهو أعم من إتيان الأولى على مجموع العضو وعدمه. وأما ما احتمله (طاب ثراه) في ضمن كلامه أولا في الرواية المذكورة ـ من كون لام الثنتين عهدية إشارة إلى الغرفتين المذكورتين أولا للوجه واليدين ، بمعنى أن الغرفة الواحدة للوجه والغرفة الواحدة للذراع مع المبالغة فيهما تأتيان على الوجه والذراع بحيث لا يحتاج إلى تثنية الغسلات ـ ففيه من التكلف بل البعد عن ساحة الإمكان ما لا يحتاج إلى الإيضاح والبيان.

(رابعها) ـ ان الظاهر أنه لا معنى لوصف الغرفة بالوجوب أو الاستحباب أو البدعية إلا باعتبار الغسل بها ، فالوصف انما يرجع إلى الغسل بها لا إليها نفسها ، فلا يتحقق كل من الأوصاف الثلاثة إلا بعد الغسل ، فإذا غسل بالأولى ـ وإن كانت تأتي على مجموع العضو ـ بعضه خاصة ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في وجوب غسل بقية العضو ولو بغرفة يمكن إتيانها عليه كملا ، وحينئذ فكيف يصح اجراء الخلاف فيها بعد الغسل بها؟ وكيف يصح مع هذا ان استئناف الغرفة الثانية غير مأجور عليه؟ نعم ربما احتمل اجراء كلامه في الثالثة ، حيث ان الثنتين المخففتين وان كان كل منهما يقوم بالغسل الواجب الذي هو ولو كالدهن ، إلا أنه لتحصيل سنة الإسباغ يستحب الغسل بهما معا ، فمع تفريقه لهما على شطر العضو وعدم غسله بهما معا مع إتيانهما عليه وأخذه ثالثة ، ربما تطرق إليها احتمال الدخول تحت أخبار بدعية الثالثة بحملها على ما هو أعم من ان يغسل بها بعد كمال الغسل بالثنتين أو قبله مع حصول الإسباغ بالثنتين وتقصيره في الغسل بهما ، الا أنه بعد لا يخلو من شوب الاشكال.

(خامسها) ـ قوله أخيرا في الغرفة الثانية : انها ليست بمحرمة ، وهو

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 337.


بناء منه (قدس‌سره) على ما فهمه من أخبار عدم الأجر على الثانية بحمل الثانية على الغرفة وعدم الأجر على الجواز وعدم الاستحباب ، كما قدمنا نقله عن جملة من الأصحاب. وقد حققنا لك ما فيه وكشفنا عن باطنه وخافية.

(الرابع) ـ المشهور بين الأصحاب تحريم الغسلة الثالثة ، وقد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الصدوق والشيخ في الخلاف فيما تقدم من عبارتيهما ببدعيتها ، ونقل عن المبسوط والنهاية أيضا. ونقل عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل القول بعدم التحريم ، لكن الذي في المختلف عن ابن أبي عقيل التعبير عن ذلك بنفي الأجر ، كما هو مضمون رواية زرارة المتقدمة (1) وقد عرفت ما في هذا اللفظ. والشيخ المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة اثبت التحريم فيما زاد على الثلاث وجعل الثالثة كلفة.

والأظهر المشهور ، ويدل عليه التصريح بالبدعية في مرسلة ابن أبي عمير المتقدمة (2) ونفي الأجر الذي هو ظاهر في التحريم أيضا كما أشرنا إليه آنفا ، ولأنها عبادة والإتيان بها بدون الاذن تشريع محرم.

وما يقال ـ من انه مع اعتقاد المشروعية فلا ريب في ذلك ولكن مجرد الإتيان بها لا يستلزمه ، وهب انه يستلزمه وانه اعتقد الاستحباب فغاية ما يلزم منه تحريم اعتقاد ندبيتها لافعلها بدون ذلك الاعتقاد بل مع ذلك الاعتقاد أيضا ، والكلام انما هو في حرمة الفعل لا الاعتقاد كما هو الظاهر. ثم ان حرمة ذلك الاعتقاد أيضا ممنوعة ، لأن الاعتقاد لو كان ناشئا من الاجتهاد أو التقليد فلا وجه لحرمته. غاية الأمر أن يكون خطأ ولا اثم على الخطأ كما تقرر عندهم ، كذا قرره بعض محققي متأخري المتأخرين ـ

ففيه نظر من وجوه : (أحدها) ـ ان ظاهر ما دل على البدعية والتحريم من الأخبار وكلام الأصحاب كون ذلك ناشئا عن اعتقاد المشروعية ، ردا على المخالفين القائلين باستحبابها والمؤكدين على المواظبة عليها ، حتى خرجت الأخبار بالأمر للشيعة بذلك تقية

__________________

(1 و 2) في الصحيفة 325.


منهم كما عرفت سابقا ، والمناقشة بجواز الإتيان بها لا بهذا الاعتقاد أمر خارج عن محل البحث ولا خصوصية له بهذا المقام بل هي مسألة على حيالها ، فان إدخال الأفعال الأجنبية في العبادة لا بقصد كونها منها بل لغرض آخر أو خالية من الغرض ان توجه له المنع من جهة أخرى غير جهة فعله امتنع من تلك الجهة وإلا فلا ، الا ترى ان الصلاة التي هي عبادة متصلة قد جوز الشارع اشتمالها على بعض الأفعال الأجنبية لأغراض خاصة وحرم بعضا آخر لمنافاته لها ، فالوضوء الذي هو عبادة منفصل بعضها عن بعض أجدر بالجواز ، الا انه ينقدح الاشكال فيما نحن فيه من وجه آخر ، وهو وجوب المسح ببلة الوضوء على الأشهر الأظهر ، والحال ان بلة الثالثة ليست منه اتفاقا من المحرمين والمجوزين ، لا من مجرد الإتيان بها ، والا فلو تمضمض أربعا أو زاد في غسل الوجه واليدين على الحدود المقررة شرعا لا بقصد العبادة في شي‌ء من ذلك ، فإنه لا ضرر فيه ، لما عرفت آنفا من ان الأفعال تابعة للقصود والنيات في تميز بعضها عن بعض وترتب آثارها عليها.

(ثانيها) ـ ما ذكره ـ من انه مع اعتقاد استحبابها فغاية ما يلزم منه تحريم الاعتقاد لا الفعل ـ ظاهر البطلان ، كيف والأفعال ـ كما عرفت ـ تابعة للقصود والنيات صحة وبطلانا وثوابا وعقابا ، ومما لا ريب فيه ان هذا الفعل منهي عنه عموما لدخوله في البدع المحرمة في الدين ، وخصوصا لما في مرسلة ابن أبي عمير ورواية زرارة السالفتين (1) ولا معنى للمحرم إلا ما نهى الشارع عنه نهيا توجب مخالفته الإثم ، وهو هنا كذلك.

(ثالثها) ـ انه لو تم ما رتبه من الغاية المذكورة لجرى فيما لو زاد ركعة في صلاته عامدا معتقدا وجوبها فضلا عن استحبابها ، فإن غاية الأمر تحريم اعتقاد وجوبها ولا يلزم منه تحريمها ، بل يلزم في كل مبدع في الدين ان يكون ما يأتي به من البدع جائزا غير محرم وان حرم قصده واعتقاده جواز ذلك فيأثم على مجرد هذا القصد والاعتقاد ،

__________________

(1) في الصحيفة 325.


ما هذه إلا سفسطة ظاهرة وكلمات متنافرة.

(رابعها) ـ ان ما ذكره ـ من منع حرمة ذلك الاعتقاد لو كان ناشئا عن اجتهاد أو تقليد ـ على إطلاقه ممنوع ، بل الوجه فيه انه إذا كان هذا الاجتهاد مقتضى ما ادى اليه فهمه من أدلة الكتاب والسنة بعد الفحص والتتبع للأدلة حسب الجهد والطاقة فهو كذلك ، ومن المعلوم ان ما نحن فيه ليس منه ، وإلا فهو مخطئ آثم في اعتقاده ومحتمل لإثم من قلده في ذلك ، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والسنة المحمدية ، وان أباه جملة من الأصحاب تبعا لما قرره العامة في هذا الباب كما حققناه في محل آخر.

(الخامس) ـ انه على تقدير تحريم الثالثة وبدعيتها فهل يبطل الوضوء بمجرد فعلها ، أو لا يبطل ، أو يبطل ان مسح بمائها مطلقا ، أو بخصوص ما إذا كانت الغسلة في اليد اليسرى؟ أقوال : أولها لأبي الصلاح ، وثانيها للمحقق في المعتبر ، وثالثها ظاهر الدروس والذكرى ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين ، ورابعها للعلامة في النهاية.

والأظهر عندي من هذه الأقوال الأول ، وهو مقتضى كلام الشيخين الأقدمين (الصدوق وثقة الإسلام) كما قدمنا بيانه وشيدنا بنيانه.

ويدل عليه من الأخبار رواية الكشي (1) حيث قال في أولها : «ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له» وفي آخرها : «توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه ، وانك ان زدت عليه فلا صلاة لك».

وما رواه في الفقيه (2) مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «من تعدى في وضوئه كان كناقضه».

ويؤيده ما رواه في الكافي (3) والتهذيب في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 326.

(2) ج 1 ص 25 وفي العلل ص 103 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(3) ج 1 ص 7 وفي التهذيب ج 1 ص 38 وفي الوسائل في الباب ـ 52 ـ من أبواب الوضوء.


عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ...». فإنه صريح ـ كما ترى ـ في عصيان من زاد على الوضوء المحدود ، ومن الظاهر ان العصيان انما نشأ هنا من مخالفة الأمر في العبادة المستلزمة للإبطال.

ثم لا يخفى انه لو أمكن المناقشة في بعض هذه الأدلة أو في كل منها إلا انه بالنظر إلى مجموعها ـ مع عدم المنافي لها من الأخبار ، مع ان بعضها من مرويات الفقيه الذي ضمن مصنفه فيه صحة ما يرويه ، كما اعتمدوا على ذلك في غير موضع من كلامهم ، مضافا إلى قول الشيخين المعتمدين بذلك ـ لا يبقى لتطرق الشك في الحكم المذكور وجه ، وقد مر أيضا ما يؤكده ويزيده تأييدا.

(المسألة الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (نور الله تعالى مراقدهم) في وجوب الموالاة كما ادعاه جماعة ، إنما الخلاف في معناها ، فقيل إنها مراعاة الجفاف بمعنى انه لا يؤخر بعض الأعضاء عن بعض بمقدار ما يجف ما تقدمه ، وقيل انها عبارة عن المتابعة اختيارا ومراعاة الجفاف اضطرارا.

وهل الإخلال بالمتابعة المذكورة هنا موجب للإثم خاصة أو للبطلان أيضا؟ قولان لأصحاب هذا القول ، والمشهور عندهم الأول ، وبه صرح العلامة في جملة من كتبه والمحقق في المعتبر ، وظاهر المبسوط الثاني ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة.

وظاهر المحقق الشيخ علي في شرح القواعد إنكار القول الثالث ، فإنه بعد ان نقل القولين ونقل عن بعض حواشي الشهيد قولا ثالثا جامعا بين التفسيرين قال : «وعندي ان هذا هو القول الأول ، لأن القائل به لا يحكم بالبطلان بمجرد الإخلال بالمتابعة ما لم يجف البلل ، فلم يبق لوجوب المتابعة معنى إلا ترتب الإثم على فواتها ، ولا يعقل تأثيم المكلف بفواتها إلا إذا كان مختارا ، لامتناع التكليف بغير المقدور» انتهى ويظهر ذلك أيضا من المختلف حيث لم ينقل فيه إلا القول بمراعاة الجفاف والقول بالمتابعة من غير تعرض لكلام المبسوط. وأنت خبير بأن عبارة الشيخ في المبسوط


ـ حيث قال : «الموالاة واجبة في الوضوء ، وهو ان يتابع بين الأعضاء مع الاختيار وان خالف لم يجزه» ـ ظاهرة الدلالة على الابطال مع المخالفة اختيارا كما نسبه اليه جمع من المتأخرين.

ونقل الصدوق في الفقيه (1) عن أبيه في رسالته إليه انه قال : «ان فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل ان تتمه فأتيت بالماء ، فتمم وضوءك ان كان ما غسلته رطبا ، وان كان قد جف فأعد وضوءك ، فان جف بعض وضوئك قبل أن تتم الوضوء من غير ان ينقطع عنك الماء ، فاغسل ما بقي جف وضوؤك أو لم يجف» انتهى. ويظهر منه ان اي الفردين من مراعاة الجفاف والتتابع خصل فهو كاف في صحة الوضوء ، فلو تابع بين أعضاء الوضوء واتفق الجفاف لضرورة كان أم لا صح وضوؤه ، ولو لم يتابع بل فرق بين الأعضاء لعذر كان أم لا روعي الجفاف وعدمه ، فان حصل بطل وضوؤه وإلا فلا.

وإلى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : منهم ـ المحدث الشيخ محمد ابن الحسن الحر العاملي في كتاب البداية وكتاب الوسائل ، حيث خص الابطال بجفاف السابق بصورة التراخي والتفريق (2) وبذلك يصير المسألة قول رابع. ثم ان ظاهر القول بكون الموالاة أحد واجبات الوضوء ترتب الإثم على تركها ، وبذلك صرح أصحاب القولين المذكورين ، وان القائلين بمراعاة الجفاف صرحوا بأنه مع التفريق بين الأعضاء حتى يجف السابق يأثم ويبطل الوضوء ، بل صرح الشهيد منهم في الدروس والبيان بأنه يأثم مع التفريق إذا أفرط في التأخير عن المعتاد وان لم يبطل الا مع الجفاف ، والقائلون بالمتابعة صرحوا بالإثم مع الإخلال بها وعدم البطلان الا بالجفاف ، وبعضهم ـ كما تقدم ـ قال بالإثم والابطال مع الإخلال بها. وفي ثبوت الإثم المذكور من الأدلة إشكال ، لعدم ما يدل عليه ولو في الجملة ، ومن ثم ذهب بعض من محققي متأخري المتأخرين إلى شرطية الموالاة في الوضوء بمعنى توقف صحته عليها ، فغاية

__________________

(1) ج 1 ص 35.

(2) في الباب ـ 33 ـ من أبواب الوضوء.


ما يلزم من فواتها بطلانه دون الوجوب المستلزم لاستحقاق الذم بالمخالفة ، اللهم إلا ان يثبت إجماع على الوجوب أو على حرمة إبطال العمل ، وربما كان الظاهر من كلام علي بن بابويه ذلك ، ومنه ربما ينتج بلوغ الخلاف في المسألة إلى أقوال خمسة.

ويدل على القول بمراعاة الجفاف من الأخبار صحيحة معاوية بن عمار (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : ربما توضأت فنفد الماء فدعوت الجارية فأبطأت علي بالماء فيجف وضوئي؟ فقال : أعد».

وموثقة أبي بصير (2) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا توضأت بعض وضوئك فعرضت لك حاجة حتى تنشف وضوؤك فأعد وضوءك. فان الوضوء لا يبعض».

واستدل بعض الأصحاب على ذلك أيضا برواية مالك بن أعين ومرسلة الصدوق المتقدمتين في الأمر السابع من البحث الثالث في مسح الرأس (3) لدلالتهما على اعادة الوضوء لمن نسي مسح رأسه وفقد البلة من أعضاء وضوئه.

وعندي في الدلالة نظر ، إذ من الجائز أن يكون استناد وجوب الإعادة المستلزم لبطلان الوضوء السابق انما هو للإخلال ببعض اجزاء الوضوء الذي هو المسح ، لعدم جوازه إلا ببلة الوضوء ، مع تعذرها كما هو المفروض ، دون الجفاف.

وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من الروايتين الأولتين اللتين هما مستند القول المذكور الأمر بالإعادة الدال على بطلان ما فعله سابقا ولا دلالة فيه على الذم والإثم بوجه ، بل ربما كان في سكوته (عليه‌السلام) عن الذم والإنكار بالتأخير حتى يجف الوضوء نوع إيماء إلى العدم ، وبذلك يظهر قوة القول بالشرطية خاصة. وما ربما يتوهم ـ من قوله في موثقة أبي بصير : «فان الوضوء لا يبعض». بناء على ان الجملة الخبرية هنا في معنى الإنشاء وان المعنى حينئذ انه لا يجوز تبعيضه ـ فمردود بأنه يجوز ان يكون

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 33 ـ من أبواب الوضوء.

(3) في الصحيفة 281.


المراد ان الوضوء الشرعي ليس بقابل للتبعيض ، بل تبعيضه يوجب الإتيان بوضوء غير مبعض ، لعدم الخروج عن العهدة ، فهو خبر أريد به خبر آخر هو لازمه وهو عدم صحة المبعض ، ووجوب إعادته من قبيل الكناية ، أو أريد به الإنشاء وهو الأمر بالإعادة. وشي‌ء منهما لا يدل على الإثم ، ويرشد إلى هذا انه وقع تعليلا للأمر بالإعادة مع الجفاف في مادة عروض الحاجة إلى الماء.

ثم ان مضمون الروايتين المشار إليهما أيضا حصول الابطال بالجفاف الناشي عن التفريق ، اما لو اتفق الجفاف لا مع التفريق فلا دلالة للخبرين المذكورين على الابطال ، وليس غيرهما في الباب.

وبه يظهر قوة ما ذهب اليه الصدوقان ومن تبعهما من انه لو تابع بين أعضاء الوضوء صح وضوؤه وان اتفق الجفاف ، لعذر كان من حرارة ونحوها أم لا ، وضعف ما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى والدروس من انه لو والى وجف بطل وضوؤه إلا مع إفراط الحر وشبهه ، وقال في الذكرى : «ظاهر ابني بابويه ان الجفاف لا يضر مع الولاء والأخبار الكثيرة بخلافه ، مع إمكان حمله على الضرورة» انتهى. وما ذكره من الأخبار الكثيرة الدالة على الابطال مع الجفاف في الصورة المذكورة لم نعثر منها في هذا الباب على غير ما قدمناه.

ويدل أيضا على ما ذكرناه ما ذكره في كتاب فقه الرضا (1) حيث قال (عليه‌السلام): «إياك ان تبعض الوضوء ، وتابع بينه كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم بالمسح على الرأس والقدمين ، فان فرغت من بعض وضوئك وانقطع بك الماء من قبل ان تتمه ثم أوتيت بالماء ، فاتمم وضوءك إذا كان ما غسلته رطبا ، فان كان قد جف فأعد الوضوء ، وان جف بعض وضوئك قبل ان تتم الوضوء من غير ان ينقطع عنك الماء ، فامض على ما بقي جف وضوؤك أم لم يجف». وقوله : وان فرغت

__________________

(1) في الصحيفة 1.


إلى آخره هو عين ما نقله الصدوق عن والده (قدس‌سرهما) وهو مؤيد لما صرحنا به في تتمة المقدمة الثانية من مقدمات الكتاب من اعتماد الصدوقين على الأخذ من الكتاب المذكور ونقلهما عبائره بعينها ، ويزيده تأييدا ان صدر عبارة الكتاب المذكور إلى قوله «فان فرغت» وان لم ينقله في الفقيه لكن نقله في الذكرى عن علي بن بابويه متصلا بما نقله في الفقيه ، وبذلك يظهر لك ان ما ذكره في الذكرى بعد نقل كلام علي بن بابويه المتقدم ـ من انه لعله عول على ما رواه حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) كما أسنده ولده في كتاب مدينة العلم ، وفي التهذيب وقفه على حريز ، قال : «قلت : ان جف الأول من الوضوء قبل ان اغسل الذي يليه؟ قال : جف أو لم يجف اغسل ما بقي ...». ـ ليس على ما ظنه (قدس‌سره) بل انما عول على ما قدمنا ذكره ، وهذه الرواية حملها في التهذيب على الجفاف بالريح الشديدة والحر العظيم أو التقية ، والأخير أقرب كما ذكره في البحار ، لأن في تمام الخبر «قلت : وكذلك غسل الجنابة؟ قال : هو بتلك المنزلة ، وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. قلت : وان كان بعض يوم؟ قال : نعم» إذ ظاهره هنا المساواة بين الوضوء والغسل ، فكما ان الغسل لا يعتبر فيه الريح الشديدة والحر كذلك الوضوء.

واستدل القائلون بالقول الثاني بوجوه نذكر ما هو أمتنها دلالة عندهم :

(فمنها) ـ قوله (عليه‌السلام) في صحيح زرارة (2) : «تابع بين الوضوء كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين ...». وقوله في رواية حكم ابن حكيم (3) : «ان الوضوء يتبع بعضه بعضا». وقوله (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (4) : «... اتبع وضوءك بعضه بعضا».

__________________

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء ، وفي الباب 29 و 41 من أبواب الجنابة.

(2) المروي في الوسائل في الباب ـ 34 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 33 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 33 و 35 ـ من أبواب الوضوء.


والجواب ان ظاهر الأخبار المذكورة ان المراد بالمتابعة فيها هو الترتيب بين الأعضاء بتقديم ما حقه التقديم وتأخير ما حقه التأخير ، فالمراد من المتابعة فيها من باب تبع فلان فلانا إذا مشى خلفه لا المتابعة بمعنى اللحوق والقرب والدنو كما هو المدعى ، بقرينة قوله في الرواية الأولى : «كما قال الله تعالى : ابدأ بالوجه. إلخ» على وجه التفسير والأبدال والتعليل ، وقوله في الثالثة قبل هذا الكلام : «إذا نسي الرجل ان يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وان كان انما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعتد على ما كان توضأ ، وقال : اتبع. إلخ» وقوله في الثانية بعد ان سأله الراوي عن رجل نسي من الوضوء الذراع والرأس قال : «يعيد الوضوء ، ان الوضوء. إلخ» على انه لو تم ما ادعوه منها لوجب الحكم بالبطلان دون مجرد الإثم بالمخالفة ، لعدم الإتيان بالفعل على الوجه المأمور به شرعا وأكثرهم لا يقول به كما عرفت وما ذكرناه في معاني الأخبار المذكورة ان لم يكن متعينا لما ذكرنا من قرائن سياقها فلا أقل ان يكون هو الأظهر ، وبذلك يبطل الاستناد إليها فيما ذكروا ، ومنه يعلم ضعف الاعتماد عليها في ثبوت الإثم لمن أخل بالمتابعة كما يدعونه ، فضلا عن حصول الابطال معه كما ادعاه في المبسوط.

و (منها) ـ اخبار الوضوء البياني (1) فإنها مبينة للأمر المجمل في الوضوء.

والجواب انه وان كان كذلك كما حققناه آنفا ، الا انه انما يحتج به مع عدم دليل من خارج يقتضي تقييد مطلقه وتبيين مجمله ، والأخبار الدالة على تخصيص الابطال بالجفاف في صورة التفريق مخصصة ، على انه يمكن منع دلالة الوضوء البياني هنا على الوجوب بالحمل على ان ذلك مقتضى العادة في مثله. وجريان مثل ذلك في أعلى الوجه ومرفقي اليدين ممنوع ، والغسل في كل منهما مجمل والوضوء البياني مبين له.

و (منها) ـ موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «ان

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 35 ـ من أبواب الوضوء.


نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه ...». وجه الاستدلال بها انه أمر بإعادة غسل الوجه الدال على فعله أولا ، وليس ذلك إلا لبطلان الوضوء بفوات المتابعة بين أعضاء الطهارة ، لا لفوات الترتيب ، لأنه يحصل بإعادة غسل الذراع خاصة.

والجواب انه لو كان الأمر كذلك لحصل المنافاة بين صدر هذه الرواية وعجزها حيث قال بعد ما قدمنا ذكره منها : «فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ، وان نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك» فإنه لو كان الأمر بإعادة غسل الوجه في صدرها انما هو لترك المتابعة ، لكان ينبغي الأمر بإعادة غسل الوجه في الفرضين الأخيرين ، مع انه اقتصر فيهما على اعادة ما أخر تقديمه نسيانا ثم اعادة ما قدمه عليه ليحصل الترتيب بين اجزاء الوضوء. نعم يرد الاشكال فيها من جهة أخرى وهو ان تحصيل الترتيب ممكن بدون اعادة غسل ما أخره نسيانا ، بان يعيد غسل ما قدمه عليه خاصة ثم ما بعده ، وهذه مسألة على حيالها قد تعارضت فيها الأخبار ، وسيجي‌ء تحقيقها ان شاء الله تعالى ، على ان ظاهر الرواية ـ بناء على ما يدعيه المستدل ـ الابطال بترك الموالاة ولو نسيانا ، وهم لا يقولون به ، بل غاية ما يدعونه حصول الإثم مع العمد دون النسيان ، والشيخ في المبسوط وان قال بالإبطال إلا ان الظاهر انه يخصه بصورة العمد أيضا ، وحينئذ فلا انطباق للرواية على ما يدعونه منها.

و (منها) ـ قوله في موثقة أبي بصير المتقدمة (1) : «فإن الوضوء لا يبعض». وهو صادق مع الجفاف وعدمه.

والجواب انك قد عرفت آنفا من معنى هذا اللفظ ان المراد به حيث وقع تعليلا للإعادة مع الجفاف بطلان المبعض وعدم صحته ، وحينئذ فلو أريد بالتبعيض فيه مجرد

__________________

(1) في الصحيفة 350.


التفريق كما يدعيه المستدل ، للزم القول ببطلان الوضوء بمجرد التفريق وان لم يحصل الجفاف ، وهو لا يقول به ، فالظاهر ان المراد بالتعليل ان الوضوء لا يبعض بان يصير بعضه رطبا وبعضه يابسا بالتفريق ، بمعنى انه لا يفرق على وجه يلزم منه يبس السابق.

و (منها) ـ رواية حكم بن حكيم المتقدمة (1) وجه الاستدلال بها ان المتابعة لو لم تكن واجبة لما حكم (عليه‌السلام) بإعادة الوضوء ، مؤيدا ذلك بالتعليل : «ان الوضوء يتبع بعضه بعضا». فإنه يدل على ان المراد بالمتابعة عدم الفصل لا الترتيب ، لان حصول الترتيب لا يتوقف على اعادة الوضوء بل يكفي فيه الإتيان على العضو المنسي وما بعده.

والجواب ان روايات نسيان بعض اجزاء الوضوء (2) قد اتفقت على ان الحكم في ذلك الإتيان بالجزء المنسي وما بعده ما لم يحصل الجفاف دون الابطال ، وهي مستفيضة ولا سيما الروايات الدالة على المسح بالبلة الباقية في أعضاء الوضوء لمن نسي مسح رأسه أو رجليه (3) المتضمن جملة منها لعدم ذكر ان ذلك الا بعد الدخول في الصلاة ، على انهم ـ كما عرفت آنفا ـ لا يقولون بالإعادة إلا في حال الجفاف ، وانما غاية ما يدعونه حصول الإثم مع التخصيص بصورة العمد ، وإلا لوردت عليهم الأخبار المذكورة ، وحينئذ فالواجب حمل هذه الرواية على اعادة الوضوء بالجفاف الموجب لفوات الموالاة ويحتمل أيضا حمل اعادة الوضوء على الإتيان بما نسي منه وما بعده وهو الأنسب بالتعليل واما على تقدير المعنى الأول فالأظهر في معنى التعليل المذكور حمله على ما تقدم في معنى قوله : «فان الوضوء لا يبعض» والمعنى حينئذ انه يعيد الوضوء لبطلان السابق بالجفاف ، فان الوضوء يتبع بعضه بعضا ولا يفرق على وجه يجف السابق ، وعليه

__________________

(1) في الصحيفة 352.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 35 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 21 ـ من أبواب الوضوء.


فتكون الرواية ثالثة لموثقة أبي بصير وصحيحة معاوية بن عمار المتقدمتين في الدلالة على البطلان مع الجفاف بالتفريق.

وأنت خبير بان ملخص ما ظهر ـ من مطاوي هذا البحث بعد استقصاء النظر في أدلته ـ أن الموالاة التي هي عبارة عن مراعاة الجفاف شرط في صحة الوضوء مع التفريق واما مع المتابعة فلا يضر جفاف ما سبق لعذر كان من حرارة هواء ونحوها أم لا كما لا يخفى ، والاحتياط بالمتابعة مما لا ينبغي تركه.

تنبيهات : (الأول) ـ هل المبطل على تقدير القول بمراعاة الجفاف هو جفاف جميع الأعضاء المتقدمة. أو جفاف عضو في الجملة ، أو العضو السابق على ما هو فيه؟ أقوال ثلاثة : أولها ظاهر المشهور ، وثانيها صريح ابن الجنيد على ما نقل عنه من اشتراط بقاء البلل في جميع ما تقدم إلا لضرورة ، وثالثها ظاهر السيد المرتضى وابن إدريس.

والظاهر هو القول المشهور ، لأصالة صحة الوضوء فيقتصر في بطلانه على القدر المتيقن وهو جفاف الجميع ، ولأن الروايتين الدالتين على الابطال مع الجفاف ان لم تكونا ظاهرتين في ترتب الابطال على جفاف الجميع فلا ظهور لهما في جفاف البعض.

ومما استدل به على ذلك أيضا الأخبار الدالة على الأخذ من بلة الوضوء لمن نسي مسح رأسه أو رجليه (1) ويضعف باحتمال اختصاص الحكم بالناسي كما هو مورد تلك الأخبار أو الضرورة كما يقوله ابن الجنيد.

(الثاني) ـ وقع في عبائر كثير من الأصحاب التقييد في الجفاف بالهواء المعتدل ، وظاهره ان تعجيل الجفاف في الهواء الشديد الحرارة وتأخيره في الهواء الشديد الرطوبة لا اعتبار به بل الاعتبار بحكم الهواء المتوسط بينهما فيحمل عليه كل من الطرفين ، الا ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : «لو كان الهواء رطبا جدا بحيث لو اعتدل جف البلل لم يضر لوجود البلل حسا ، وتقييد الأصحاب بالهواء المعتدل

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 21 ـ من أبواب الوضوء.


ليخرج طرف الإفراط في الحرارة» انتهى. وهو جيد ، لأن الإعادة إنما علقت في الخبرين المتقدمين على الجفاف ، وهو غير صادق هنا لا لغة ولا عرفا ، والجفاف التقديري لا دليل عليه ، لكن يبقى الإشكال أيضا في طرف الإفراط بالجفاف بالحرارة الشديدة من حيث ان الحكم معلق في الأخبار على الجفاف وقد تحقق كما هو المفروض والتقدير أيضا لا وجه له ، وتقييد النص بحال الاعتدال من غير دليل محل إشكال إلا ان يتمسك بالضرورة. وفيه انه يندفع بالتيمم أو الاستئناف.

(الثالث) ـ صرح جمع من الأصحاب بأنه لو تعذرت الموالاة فلم تبق بلة على اليد للمسح جاز الاستئناف للمسح ، للضرورة ، وصدق الامتثال ، واختصاص المسح بالبلة بحال الإمكان. ويحتمل الانتقال إلى التيمم. ولم أقف على نص في ذلك ، والاحتياط يقتضي التعجيل في الوضوء ، فان لم تبق بلة جمع بين الاستئناف والتيمم.

(المسألة الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء فيما عدا الرجلين إحداهما على الأخرى ، ووجوب الإعادة على ما يحصل معه مع مخالفته عمدا أو نسيانا قبل الجفاف ، وشرح الكلام في هذه المسألة ينتظم في فوائد :

(الأولى) ـ القول بوجوب الترتيب ـ بأن يبدأ بالوجه ثم باليد اليمنى ثم باليسرى ثم بالرأس ثم بالرجلين ـ مما انعقد عليه إجماعنا فتوى ورواية :

فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (1) قال : «تابع بين الوضوء كما قال الله عزوجل : ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين. ولا تقدمن شيئا بين يدي شي‌ء تخالف ما أمرت به ، فان غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع ، وان مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به». وهي صريحة

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الوضوء.


في تقديم الوجه على مجموع اليدين ، وهما على مجموع الرأس والرجلين ، وتقديم مسح الرأس على الرجلين.

وصحيحة منصور بن حازم عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «في الرجل يتوضأ فيبدأ بالشمال قبل اليمين؟ قال يغسل اليمين ويعيد اليسار». وهي دالة على الترتيب بين اليدين.

وموثقة أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (2) قال : «ان نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم اغسل ذراعك بعد الوجه ، فإن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ، وان نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك». وهذه الرواية قد استجمعت الترتيب بين الأعضاء ما عدا الرجلين ، إلى غير ذلك من الأخبار.

بقي الكلام فيما لو توضأ بالمطر المتقاطر عليه ، كما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل لا يكون على وضوء فيصيبه المطر حتى يبتل رأسه ولحيته وجسده ويداه ورجلاه ، هل يجزيه ذلك من الوضوء؟ قال : ان غسله فان ذلك يجزيه». أو في الماء ، فالظاهر ان المرجع في وجوب تقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره إلى القصد ، فلا عبرة بحصول الغسل في شي‌ء من تلك الأعضاء من غير اقترانه بالقصد المذكور ، وحينئذ فلو قدم في قصده عمدا أو سهوا بعض ما يجب تأخيره أبطل ووجبت الإعادة على ما يحصل به الترتيب.

(الثانية) ـ اختلف الأصحاب في وجوب الترتيب بين الرجلين وعدمه على أقوال ثلاثة : (أحدها) ـ الوجوب بتقديم اليمنى على اليسرى ، نقله في المختلف عن الصدوقين وابن الجنيد وسلار ، واختاره جملة من المتأخرين. و (ثانيها) ـ ما هو

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب الوضوء.

(3) رواه في الوسائل في الباب 36 من أبواب الوضوء.


المشهور من سقوط الوجوب فيجوز مسحهما دفعة واحدة بالكفين وتقديم اليمنى على اليسرى وبالعكس. و (ثالثها) ـ التخيير بين المقارنة وتقديم اليمنى دون العكس ، نقله في الذكرى عن بعضهم ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في البداية والوسائل واختاره بعض فضلاء متأخري المتأخرين.

والظاهر منها هو الأول ، ويدل عليه حسنة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «امسح على القدمين وابدأ بالشق الأيمن».

وما رواه النجاشي في كتاب الرجال (2) بإسناده عن عبد الله بن أبي رافع وكان كاتب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) انه كان يقول : «إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال من جسده».

وما استند اليه أصحاب القول المشهور ـ من إطلاق الأوامر وصدق الامتثال الذي هو غاية ما اعتمدوا عليه ـ ففيه انه يجب تقييد مطلق تلك الأوامر بما ذكرنا من الأخبار ، وصدق الامتثال مع ما ذكرنا ممنوع.

والجواب ـ بحمل الأخبار على الاستحباب وان كان الأمر من حيث هو حقيقة في الوجوب كما برهن عليه في الأصول ، معللا بكثرة الأوامر في الشريعة للندب ، فلا وثوق في الاحتجاج بها على الوجوب الموجب لاشتغال الذمة ، كما اعتمد عليه جملة من فضلاء متأخري المتأخرين وردوا لأجله الأوامر في جملة من الأحكام ـ مردود بأنه تخريص في الدين وجرأة على سيد المرسلين ، فإنه كما ان الأصل براءة الذمة كما تعلقوا به وردوا لأجله تلك الأوامر فلا يثبت اشتغالها إلا بدليل ، كذلك الأصل في الأمر الوجوب كما هو المسلم فلا يخرج عنه إلا بدليل ، وكثرة ورود الأخبار للندب ـ معتضدا أكثرها بالقرائن الحالية والمقالية على ذلك ـ لا يقتضي حمل ما ليس كذلك عليه ،

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الوضوء.

(2) في ص 5 وفيه (أبو محمد) بدل (أبي عبد الله) وفي الوسائل في الباب 34 من أبواب الوضوء.


والتحرز عن الوقوع في اشتغال الذمة ليس اولى من التحرز عن الوقوع في مخالفة الأمر الموجبة للإثم ، والتمسك بأصالة البراءة انما يتم قبل ورود الأمر أو بعده مع ظهور الدلالة على عدم الوجوب ، والتفصي عن المخالفة بالحمل على الاستحباب لا يسمن ولا يغني من جوع في هذا الباب ، إذ متى كان الحكم واجبا شرعا وقد أمر به حافظ الشريعة لذلك فحمل امره على الاستحباب المؤذن بجواز الترك تخرصا عين المخالفة لمقتضى امره والرد لنافذ حكمه. هذا ، وقد تقدم الجواب عن ذلك مستوفى في المقدمة السابعة (1) ويدل على القول الثالث

ما رواه الطبرسي (قدس‌سره) في كتاب الاحتجاج (2) من التوقيع الخارج من الناحية المحروسة في جملة أجوبة مسائل الحميري ، حيث سأل عن المسح على الرجلين : يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعا؟ فخرج التوقيع «يمسح عليهما جميعا معا ، فان بدأ بإحداهما قبل الأخرى فلا يبدأ إلا باليمين».

وأنكر جملة من محققي متأخري المتأخرين وجود دليل لهذا القول لعدم الوقوف على الرواية المذكورة حتى تكلف بعضهم الاستدلال عليه بما لا يخلو من شي‌ء.

(الثالثة) ـ لو خالف مقتضى الترتيب المذكور عمدا أو نسيانا ، فإنه تجب عليه الإعادة على ما يحصل به الترتيب مع عدم الجفاف ومعه فتجب الإعادة من رأس ، وظاهر العلامة في التحرير الإعادة مع العمد من رأس وان لم يجف ، وفي التذكرة عكسه وهو الإعادة مع النسيان من رأس وان لم يجف ، والتفصيل بالجفاف وعدمه مع العمد ، وهو غريب.

ثم انه هل يكفي في الإعادة مع عدم الجفاف اعادة ما قدم مما حقه التأخير دون ما أخر مما حقه التقديم لصحته ، إذ لا مانع من صحته إلا تقديم ما حقه التأخير عليه ، وهو غير صالح للمانعية لفساده ، أو يجب اعادة الجميع ، نظرا إلى انه كما بطل الأول لتقديمه في غير موضعه كذلك بطل الثاني لترتيبه عليه ووضعه أيضا في غير موضعه؟

__________________

(1) ج 1 ص 115.

(2) ص 255 وفي الوسائل في الباب 34 من أبواب الوضوء.


وجهان ، صرح بأولهما المحقق في المعتبر وجماعة ممن تأخر عنه.

والأخبار في ذلك مختلفة. فمما يدل على الأول ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب نوادر البزنطي عنه عن عبد الكريم بن عمرو عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثم استيقنت بعد أنك بدأت بها غسلت يسارك ثم مسحت رأسك ورجليك».

وعلى الثاني موثقة أبي بصير المتقدمة (2) وصحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) في حديث تقديم السعي على الطواف ، قال : «ألا ترى انك إذا غسلت شمالك قبل يمينك كان عليك ان تعيد على يمينك».

وقال الصدوق في الفقيه (4) : «روي في من بدأ بغسل يساره قبل يمينه انه يعيد على يمينه ثم يعيد على يساره. وقد روي انه يعيد على يساره». انتهى. والرواية الأولى منهما مما ينتظم في أدلة القول الثاني والثانية في أدلة القول الأول.

واما قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة المتقدمة (5) : «... فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه وأعد على الذراع ، وان مسحت الرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به». فالظاهر منها بقرينة اختصاص لفظ الإعادة بالذراع والرجل وقوع التذكر قبل غسل الوجه في الأول وقبل مسح الرأس. فأمره بالبدأة بغسل الوجه ثم الإعادة على الذراع والبدأة بمسح الرأس ثم الإعادة على الرجل ، ومثلها صحيحة منصور بن حارم المتقدمة في صدر المقالة (6) وعلى ذلك فلا دلالة في شي‌ء منهما على ما نحن فيه.

__________________

(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب الوضوء.

(2 و 6) ص 358.

(4) ج 1 ص 29 وفي الوسائل في الباب 35 من أبواب الوضوء.

(5) في الصحيفة 357.


ويمكن الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل موثقة أبي بصير وصحيحة منصور ونحوهما على ما دلت عليه صحيحة زرارة وصحيحة منصور الأخرى من التذكر قبل غسل العضو الأخير أو مسحه ، وحينئذ فيحمل لفظ الإعادة فيها على أصل الغسل مشاكلة لما بعده ، ويحتمل أيضا ـ كما ذكره بعض ـ حمل الموثقة المذكورة وأمثالها على ما إذا كان قد غسل العضو الأخير بقصد انه مأمور به على هذا الوجه. فإنه تجب الإعادة عليه لكون ذلك تشريعا محرما ، والروايات الأخر على ما إذا غسله لا من هذه الحيثية بل من حيث انه جزء من الوضوء وان كان بالقصد الحكمي المستمر كما في سائر الأجزاء ، ولا يخفى ما فيه من البعد. والجمع بين الأخبار بالتخيير لا يخلو من قرب ، وربما كان ذلك هو الظاهر من كلام الفقيه حيث نقل الخبرين المذكورين مع ظهورهما في التنافي ولم يجمع بينهما وقد ذكر بعض مشايخنا المتأخرين ان هذا دأبه فيما إذا لم يجمع بين الخبرين المتنافيين.

(المسألة الرابعة) ـ وجوب المباشرة مع الإمكان ـ وعدم جواز التولية في كل من الطهارات الثلاث ـ هو المشهور بين الأصحاب ، بل ادعى عليه في الانتصار الإجماع ونقل عن ابن الجنيد انه قال : «يستحب ان لا يشرك الإنسان في وضوئه غيره بان يوضئه أو يعينه عليه» ولا ريب في ضعفه ، لان المتبادر من الأوامر الدالة على الغسل والمسح كتابا وسنة مباشرة المتوضئ ذلك ، لان إسناد الفعل إلى فاعله هو الحقيقة وغيره مجاز لا يحمل عليه إلا مع الصارف عن الأول.

ويدل على ذلك رواية الوشاء (1) قال : «دخلت على الرضا (عليه‌السلام) وبين يديه إبريق يريد أن يتهيأ منه للصلاة ، فدنوت لأصب عليه فأبى ذلك وقال : مه يا حسن ، فقلت له : لم تنهاني أن أصب عليك ، تكره ان أوجر؟ قال : تؤجر أنت وأوزر أنا. فقلت له وكيف ذلك؟ فقال : أما سمعت الله يقول : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 47 من أبواب الوضوء.


رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (1) وها انا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد». وجه الاستدلال بها وقوع النهي عن الصب الذي هو حقيقة في التحريم ، مردفا له بما يزيده تأكيدا من ان قبول ذلك موجب للوزر والإثم الذي لا يكون إلا على ارتكاب محرم ، معللا لذلك بدخوله تحت النهي عن الشرك بعبادة ربه وكونه جزئيا من جزئيات ما نهى عنه سبحانه في هذه الآية التي لا مجال لإنكار كون النهي فيها للتحريم ، فيستلزم تحريم قبول الصب عليه ، ولما فيه من الجمع بينه وبين صحيحة أبي عبيدة الحذاء (2) قال : «وضأت أبا جعفر (عليه‌السلام) بجمع وقد بال فناولته ماء فاستنجى ثم صببت عليه كفا فغسل به وجهه وكفا غسل به ذراعه الأيمن وكفا غسل به ذراعه الأيسر. الحديث». ورواه الشيخ أيضا في موضع آخر بلفظ : «ثم أخذ كفا فغسل به وجهه. إلخ» بدل قوله : «ثم صببت» الا ان قول الراوي : «وضأت» إنما يلائم الأول كما لا يخفى ، وبذلك يظهر لك صحة الاستدلال بالرواية على تحريم التولية ، بحمل الصب فيها على الصب على أعضاء الطهارة ، دون الحمل على الاستعانة كما عليه الجمهور من أصحابنا ، وجعلها دليلا على كراهتها ، حملا للصب المنهي عنه على الصب في اليد وحمل الوزر على الكراهة بقرينة قوله في آخر الخبر : «فأكره» وتكلف الجمع بينها وبين صحيحة الحذاء المتقدمة بحمل الصحيحة المذكورة على الضرورة أو بيان الجواز. وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ ان استعمال الكراهة في المعنى المذكور اصطلاح أصولي طارئ والمفهوم من الأخبار استعمالها في التحريم كثيرا فلا يتقيد به النهي المتأصل في التحريم المؤكد المعلل بما أوضحنا بيانه وشيدنا أركانه.

ومثل رواية الوشاء فيما ذكرناه ما رواه الصدوق (رحمه‌الله تعالى) في الفقيه (3)

__________________

(1) سورة الكهف الآية 110.

(2) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الوضوء.

(3) رواه في الفقيه ج 1 ص 27 وفي العلل ص 103 وفي الوسائل في الباب 47 من أبواب الوضوء.


مرسلا وفي كتاب العلل مسندا عن الصادق (عليه‌السلام) «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كان لا يدعهم يصبون الماء عليه ويقول لا أحب ان أشرك في صلاتي أحدا». والطعن بكون «لا أحب» ظاهرا في الكراهة مردود بما في الأخبار من كثرة ورودها في مقام التحريم ، كما لا يخفى على من خاض في تيار عبابها وذاق صافي لبابها.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان المراد بالتولية المحرمة هي ان يتولى الغير غسل أعضائه أو مشاركته فيها ، واما مجرد صب الماء في اليد فليس منها بل هو من الاستعانة كما ذكره الأصحاب ، واما طلب إحضار الماء للطهارة فقد ذكر جمع من الأصحاب : منهم ـ السيد السند انه من الاستعانة المكروهة. وعندي في أصل الحكم بكراهة الاستعانة ـ وان كان مشهورا بين الأصحاب ـ إشكال ، لعدم الدليل عليه بل قيام الدليل على العدم ، وذلك فإنهم إنما استدلوا على الحكم المذكور برواية الوشاء ومرسلة الفقيه المتقدمتين ، وقد عرفت الحال فيهما ، فيبقى الحكم بناء على ما ذكرناه عاريا عن الدليل وصحيحة الحذاء ـ كما عرفت ـ قد دلت على الصب في يده (عليه‌السلام) ولا معارض لها بناء على ما اخترناه ، فتأويلها ـ بالحمل على الضرورة أو بيان الجواز من غير معارض ـ مشكل ، وطلب إحضار الماء للطهارة قد وقع في عدة من اخبار الوضوء البياني وغيرها كحسنة زرارة (1) قال : «حكى لنا أبو جعفر (عليه‌السلام) وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعا بقدح من ماء ...». وفي أخرى «فدعا بقعب من ماء». وفي ثالثة «فدعا بطشت أو تور». وحديث وضوء علي (عليه‌السلام) (2) وقول علي (عليه‌السلام) لابنه محمد بن الحنفية «ائتني بإناء من ماء أتوضأ للصلاة». الى غير ذلك. وارتكاب الحمل في الجميع من غير معارض سفسطة ظاهرة. وبالجملة فإني لم أقف على دليل على ذلك زائدا على مجرد الشهرة.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الوضوء.

(2) المروي في الوسائل في الباب 16 من أبواب الوضوء.


ثم ان ما ذكرناه من تحريم التولية مخصوص بحال الاختيار ، فلو اضطر إلى ذلك لمرض أو تقية أو غيرهما جاز اتفاقا ، ولنفي الحرج في الدين وسعة الحنيفية ، وعلى ذلك ينبغي حمل ما رواه الصدوق في كتاب المجالس (1) بسنده فيه عن عبد الرزاق قال : «جعلت جارية لعلي بن الحسين (عليه‌السلام) تسكب الماء عليه وهو يتوضأ فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه. الحديث». فإنه ظاهر في التولية وغسل الأعضاء ، فالواجب حمله على الضرورة لمرض ونحوه ، ولو حمل على صب الماء في اليد ـ وان بعد عن ظاهره ـ فسبيله سبيل الأخبار المتقدمة الدالة على جواز الاستعانة من غير معارض ، ولا ضرورة إلى حمله حينئذ على الضرورة ، لعدم الدليل على الكراهة كما عرفت.

(المسألة الخامسة) لا يجوز الغسل مكان المسح ولا العكس ، وهذا الحكم ثابت عندنا إجماعا فتوى ودليلا ، آية ورواية ، إذ مقتضى الآية الشريفة الواردة في الوضوء (2) غسل بعض ومسح بعض ، فالواجب الإتيان بكل منهما فيما عين فيه ، وإلا لبقي تحت العهدة ، لعدم الإتيان بالمأمور به ، وبذلك استفاضت الأخبار :

ففي صحيح زرارة المضمر (3) قال : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء».

وفي رواية محمد بن مروان (4) : «يأتي على الرجل ستون أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قال : قلت : وكيف ذلك؟ قال : لأنه يغسل ما أمر الله بمسحه».

وربما يبني القول بذلك على تباين حقيقتي الغسل والمسح باشتراط الجريان في الأول ومجرد إمرار اليد في الثاني كما هو أحد القولين ، الا ان الظاهر ـ كما

__________________

(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 41 من أبواب الوضوء.

(2) سورة المائدة الآية 8.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 25 من أبواب الوضوء.


استظهره جملة من محققي أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ ان النسبة بينهما العموم من وجه فيجتمعان في المسح باليد مع الجريان ، فعلى هذا لو مسح في الوضوء بنداوة زائدة يحصل بها الجريان مع قصده المسح دون الغسل ، فالظاهر الخروج من العهدة ، وصدق الغسل عليه ـ باعتبار الجريان وان لم يكن مقصودا ـ غير مضر ، لحصول الامتثال بما ذكرنا ، ولأن المتوضئ سيما المسبغ في وضوئه لا تخلو يده بعد الفراغ من بلة زائدة يحصل بها الجريان ولو أقله كما نشاهده في أنفسنا ، مع انه لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) نفض أيديهم بعد الغسل لأجل المسح ولا الأمر بذلك ، فالتكيف بالنفض والتجفيف حينئذ يحتاج إلى دليل ، وليس فليس. وربما يستأنس لذلك بصحيح زرارة المتقدم الدال بمفهومه على ان حصول الغسل مع عدم نيته وقصده لا يبطل الوضوء ، وحينئذ فالظاهر تخصيص الأخبار المانعة من الغسل والإجماع المدعى في المقام بالغسل المشتمل على الجريان من غير إمرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا لا مسحا ، فان الظاهر خروج تلك الأخبار في مقام التعريض بالعامة الموجبين للغسل بأحد الفردين.

وما يقال ـ من ان وقوع المقابلة بين الغسل والمسح في الآية يقتضي مخالفة حقيقة أحدهما لحقيقة الآخر وإلا فلا معنى للتقابل ـ ففيه انه ان أريد بالمخالفة التباين الكلي فالتقابل بهذا المعنى ممنوع ، وان أريد ما هو أعم فمسلم ، وهي متحققة في العموم من وجه ، إذ يصدق الغسل بدون المسح على مجرد الصب ونحوه من غير إمرار اليد ، والعكس على الإمرار بدون الجريان ، وهذا كاف في صحة التقابل وان اجتمعا في إمرار اليد مع الجريان. ولك ان تقول بمعونة صحيحة زرارة المتقدمة ان الغسل حقيقة فيما يحصل معه الجريان لا مع إمرار اليد أو معه بقصد كونه غسلا ، ويقابله المسح بإمرار اليد لا مع الجريان أو معه بقصد كونه مسحا ، وحينئذ فالنسبة بينهما التباين ، وعدم جواز كل منهما مكان الآخر ظاهر لما بينهما من التباين ، وإمرار اليد بما يستلزم الجريان في موضع المسح مع قصد كونه مسحا كما انه كذلك مع قصد كونه غسلا لا ينافي التباين حينئذ ، فإن كان


مراد المعترض وغيره ممن عبر بعدم جواز الغسل مكان المسح وبالعكس ما ذكرناه من الغسل المجرد عن إمرار اليد أو معه مع قصد كونه غسلا فمرحبا بالوفاق ، وإلا فهو محل نظر لما عرفت.

(المسألة السادسة) ـ الظاهر انه لا خلاف في ان من أخل بالترتيب بترك بعض الأعضاء نسيانا ، أعاد متى ذكر على ما يحصل به الترتيب ان ذكر قبل جفاف السابق ، وإلا فمن رأس ، ولو كان في الصلاة قطعها وأعادها بعد الوضوء مرتبا ، والأخبار به مستفيضة :

ففي حسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك ، فانصرف وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك». والإتمام هنا اما محمول على عدم فوات الموالاة أو انه كناية عن اعادة الوضوء.

وحسنته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (2) قال : «إذا نسي الرجل ان يغسل يمينه فغسل شماله ومسح رأسه ورجليه وذكر بعد ذلك ، غسل يمينه وشماله ومسح رأسه ورجليه ، وان كان انما نسي شماله فليغسل الشمال ولا يعيد على ما كان توضأ». والمراد من قوله : «ولا يعيد على ما كان توضأ» أي غسل ، والوضوء هنا بمعنى الغسل ، يعني لا يعيد ما غسله سابقا ، فلا ينافي وجوب مسح الرجل بعد غسل الشمال ، وعلى ذلك أيضا تحمل صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن رجل توضأ ونسي غسل يساره. فقال : يغسل يساره وحدها ولا يعيد وضوء شي‌ء غيرها». وحمله الشيخ (رحمه‌الله) على معنى لا يعيد وضوء شي‌ء غيرها مما تقدم دون ما تأخر ولا ضرورة إليه ، فإن الوضوء هنا ـ كما عرفت ـ بمعنى الغسل ، فينصرف إلى ما تقدم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 و 42 من أبواب الوضوء.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب الوضوء.


من غير تكلف الحمل على ذلك.

ورواية زرارة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «في الرجل ينسى مسح رأسه حتى يدخل في الصلاة؟ قال : ان كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه ورجليه فليفعل ذلك وليصل. قال : وان نسي شيئا من الوضوء المفروض فعليه أن يبدأ بما نسي ويعيد ما بقي لتمام الوضوء».

ورواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (2) «في رجل نسي أن يمسح على رأسه فذكر وهو في الصلاة؟ فقال : ان كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه ورجليه واستقبل الصلاة».

واما ما ورد في بعض الأخبار ـ في من نسي مسح رأسه مما ظاهره الاقتصار عليه ، كرواية الكناني (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة. قال : فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة». ونحوها رواية المفضل بن صالح وزيد الشحام (4) ـ فمحمول على ما تقدم من الروايات الدالة على انه يأتي بالمنسي وما بعده تحقيقا للترتيب.

ولا فرق في ظاهر الأصحاب بين كون المنسي عضوا كاملا أو بعضا منه ولو لمعة. فإنه يجب غسله وترتيب ما تأخر عليه ، الا انه نقل في المختلف عن ابن الجنيد انه إذا كان المنسي لمعة دون سعة الدرهم ، فإنه يكفي بلها من غير اعادة على ما بعد ذلك العضو ، ولم نقف له دليل إلا انه نقل فيه أيضا عن ابن الجنيد انه قال : «وقد روى توقيت الدرهم ابن سعيد عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) وابن منصور عن زيد ابن علي ، ومنه حديث أبي أمامة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله)» انتهى. وهو أعرف

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب 42 من أبواب الوضوء.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الوضوء.


بما نقل. لكن روى الصدوق (رضي‌الله‌عنه) في الفقيه (1) مرسلا عن الكاظم (عليه‌السلام) وفي كتاب عيون الأخبار مسندا عن الرضا (عليه‌السلام) انه «سئل عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضأ موضع لم يصبه الماء. فقال يجزئه ان يبله من جسده». وهو وان لم يكن واضح الدلالة على ما ذكره ابن الجنيد إلا انه مناف بظاهره لما عليه الأصحاب ، والحمل على الإتيان بما بعده وان كان بعيدا عن ظاهر اللفظ إلا انه لا مندوحة عن المصير اليه.

وربما ظهر من الصدوق العمل بظاهر الرواية المذكورة ، حيث نقلها ولم يتعرض لتأويلها ولا ردها ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في كتاب البداية. وجرى عليه أيضا في كتاب الوسائل ، حيث قال : «باب من نسي بعض العضو أجزأه ان يبله من بعض جسده» ثم نقل الرواية المذكورة بطريقي الفقيه والعيون.

وأنت خبير بأن إثبات الحكم المذكور ـ مع مخالفته لظواهر الأخبار المتعددة والقواعد الممهدة بمجرد هذه الرواية مع ضعف سندها وقبولها للتأويل ـ مشكل. وربما حملت أيضا على ما إذا لم يتيقن عدم اصابة الماء بل وجده جافا.

هذا. ومقتضى ما هو المعروف من كلام الأصحاب انه بعد غسل اللمعة المذكورة يرتب عليها ما تأخر عن ذلك العضو من الأعضاء ، واما انه يرتب أولا ما تأخر عن تلك اللمعة من العضو الذي هي فيه عليها أيضا فالمفهوم من كلام العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن الجنيد المتقدم تفريع ذلك على وجوب الابتداء من موضع بعينه وعدمه حيث قال : «ولا أوجب غسل جميع العضو بل من الموضع المتروك إلى آخره ان أوجبنا الابتداء من موضع بعينه ، والموضع خاصة ان سوغنا العكس» انتهى. وتحقيق الكلام في ذلك قد تقدم.

__________________

(1) ج 1 ص 36 وفي العيون ص 192 وفي الوسائل في الباب 43 من أبواب الوضوء.


(المسألة السابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف في تحريم الوضوء بالماء النجس ، ويدل عليه أيضا ما رواه الشيخ محمد الحر في كتاب الوسائل (1) عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في رسالة المحكم والمتشابه نقلا من تفسير النعماني بإسناده عن علي (عليه‌السلام) قال : «واما الرخصة التي هي الإطلاق بعد النهي ، فان الله تعالى فرض الوضوء على عباده بالماء الطاهر ، وكذلك الغسل من الجنابة. الحديث». ويدل عليه أيضا جملة من الأخبار الواردة بالنهي عن الوضوء بالماء النجس (2).

وانما الخلاف في المعنى المراد من التحريم في هذا المقام ، فقيل المراد به المعنى المتعارف وهو ما يترتب الإثم على فعله مع بطلانه ، وقيل انه عبارة عن مجرد البطلان والأول اختيار جماعة : منهم ـ المحقق الثاني في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في الروض ، وسبطه السيد السند في المدارك ، وعللوه بان استعماله فيما يسمى طهارة في نظر الشارع يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما ، إذ المراد التحريم على تقدير استعماله والاعتداد به في الصلاة. والقول الثاني اختاره العلامة في النهاية. والأول أقرب لأن اعتقاد الطهارة بما نهى الشارع عن الطهارة به تشريع البتة ، فيترتب عليه الإثم بلا اشكال.

ثم ان الابطال ـ ووجوب الإعادة وقتا وخارجا إذا كان عن عمد ـ مما لا خلاف ولا اشكال فيه ، والظاهر من كلامهم ان الطهارة به نسيانا في حكم العمد أيضا من حيث وجوب التحفظ عليه ، واما الطهارة به جهلا بالنجاسة فظاهر المشهور بين المتأخرين انه كذلك أيضا ، والمفهوم من كلام الشيخ في المبسوط وجوب الإعادة في الوقت دون الخارج ، وبذلك صرح ابن البراج. وهو ظاهر كلام ابن الجنيد ، وعبائر جل متقدمي علمائنا (رضوان الله عليهم) مطلقة في وجوب الإعادة من غير تفصيل بين الأفراد المذكورة.

__________________

(1) في الباب 51 من أبواب الوضوء.

(2) ذكر هذه الأخبار في الفصل الثالث من باب المياه في حكم القليل الراكد.


وقال العلامة في المختلف بعد نقل جملة من عبارات الأصحاب الواردة في هذا الباب : «والوجه عندي إعادة الصلاة والوضوء والغسل ان وقعا بالماء النجس ، سواء كان الوقت باقيا أولا ، سبقه العلم أو لا» وعلى منواله حذا جملة من المتأخرين ، واستدل على ما ذهب إليه في المختلف بورود الأخبار بالنهي عن الوضوء بالماء النجس ، مثل صحيحة حريز (1) الدالة على انه «إذا تغير الماء وتغير الطعم فلا تتوضأ منه». وصحيحة البقباق (2) الدالة على السؤال عن أشياء حتى انتهى إلى الكلب فقال (عليه‌السلام): «رحس نجس لا تتوضأ بفضله ...». قال : «والنهي يدل على الفساد ، فيبقى في عهدة التكليف. لعدم الإتيان بالمأمور به» ثم قال : «لا يقال : هذا لا يدل على المطلوب لاختصاصه بالعالم ، فإن النهي مختص به. لأنا نقول : لا نسلم الاختصاص ، فإنه إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره» ثم استدل أيضا بما رواه معاوية في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سمعته يقول لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة مما وقع في البئر إلا ان ينتن. فإن أنتن غسل الثوب وأعاد الصلاة». قال : «وهذا مطلق سواء سبقه العلم أو لا».

وقال الشهيد في الذكرى : «يحرم استعمال الماء النجس والمشتبه في الطهارة مطلقا ، لعدم التقرب بالنجاسة ، فيعيدها مطلقا وما صلاه ولو خرج الوقت ، لبقاء الحدث ، وعموم «من فاتته صلاة فليقضها» (4) يقتضي وجوب القضاء» انتهى.

وللنظر فيما ذكراه (قدس‌سرهما) مجال : اما ما ذكره العلامة (رحمه‌الله) من الاستدلال بالأخبار الدالة على النهي عن الوضوء بالماء النجس ، من حيث ان النهى

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق.

(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسآر و 11 من أبواب النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 14 من أبواب الماء المطلق.

(4) الظاهر انه مضمون مستفاد من الأخبار الواردة في قضاء الصلوات.


يدل على الفساد فيبقى في عهدة التكليف ، فمسلم بالنسبة إلى العامد والناسي ، واما بالنسبة إلى الجاهل فممنوع لعدم توجه النهي إليه كما ذكروا في غير موضع ، معللين له بقبح تكليف الغافل ، كما صرحوا به في مسألة الصلاة في الثوب المغصوب جاهلا والمكان المغصوب ، فإنه لا خلاف بينهم في الصحة ، وحجتهم على ذلك ما أشرنا إليه من عدم توجه النهي إلى الجاهل لقبح تكليف الغافل ، على ان الأظهر ـ كما هو المستفاد من الأخبار ، وعليه جملة من محققي علمائنا الأبرار ـ هو معذورية جاهل الحكم فضلا عن جاهل الأصل إلا ما خرج بدليل ، كما تقدم تحقيقه في المقدمة الخامسة. وما ذكره أخيرا ـ من منع اختصاص النهي بالعالم معللا بأنه إذا كان نجسا لم يكن مطهرا لغيره ـ ففيه انه ان كان المراد به ما كان نجسا في نظر المكلف فمسلم ولكنه ليس محل البحث ، وان أراد به ما كان كذلك واقعا وان لم يكن معلوما للمكلف حال الاستعمال فهو أول المسألة وكذلك ما ذكره في الذكرى من تعليله عدم ارتفاع الحدث به بأنه نجس ولا تحصل به الطهارة إلى آخر ما ذكره ، وتوضيحه ان التكاليف الواردة من الشارع انما جعلت منوطة بالظاهر في نظر المكلف دون الواقع ، والشارع لم يلتفت في ذلك إلى نفس الأمر ولم يكلف بالنظر اليه ، للزوم تكليف ما لا يطاق ، ولا نقول ان التكليف انما هو بالنظر إلى الواقع وان سقط الإثم بالمخالفة دفعا للحرج المذكور ، فلا بد في الصحة من مطابقته كما هو ظاهر الجماعة ، لقولهم (عليهم‌السلام): «كل ماء طاهر حتى تعلم انه قذر» (1). و «كل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر ...» (2). فإنه ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة على الحكم على كل ماء وكل شي‌ء بالطهارة والنظافة إلى وقت العلم بالقذارة ، وبعد العلم بالقذارة يحكم بأنه قذر ، فصفة النجاسة لا تثبت له شرعا إلا بعد

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب 1 من أبواب الماء المطلق.

(2) المروي في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات.


العلم ، ويؤيده قوله : «الناس في سعة ما لم يعلموا» (1). وقوله : «لا أبالي أبول أصابني أم ماء إذا لم اعلم» (2). الى غير ذلك من الأخبار ، وحينئذ فالمكلف إذا توضأ بهذا الماء الطاهر في اعتقاده وان لاقته نجاسة واقعا ، فطهارته شرعية مجزئة ، وصلاته بتلك الطهارة شرعية مجزئة إجماعا. فبعد ثبوت النجاسة في ماء وضوئه وانكشاف الأمر لديه فوجوب قضاء تلك العبادة التي مضت على الصحة من وضوء وصلاة وإعادتها يحتاج إلى دليل ، وليس فليس. وصدق الفوات على مثل هذه العبادة ـ كما ادعاه في الذكرى ـ ممنوع ، كيف وقد فعل المأمور به شرعا ، وامتثال الأمر يقتضي الاجزاء والصحة كما حقق في محله.

والتحقيق في هذا المقام ـ وان استدعى مزيد بسط في الكلام ، فإن المسألة مما لم يحم حول حريم تحقيقها أحد من الأقوام مع كونها كالأصل لابتناء جملة من الأحكام ـ ان يقال : الخلاف في هذه المسألة مبني على مسألتين أخريين : إحداهما ـ معذورية الجاهل وعدمها ، وثانيتهما ـ ان النجس شرعا هل هو عبارة عما لاقته النجاسة واقعا خاصة أو عما علم المكلف بملاقاة النجاسة له ، والمشهور بين الأصحاب في المسألة الاولى هو عدم معذورية الجاهل إلا في مواضع مخصوصة ، والمشهور من الأخبار ـ كما أسلفنا بيانه في المقدمة المشار إليها آنفا ـ هو المعذورية إلا في مواضع خاصة ، والمستفاد من كلامهم في المسألة الثانية ان النجس شرعا هو ما لاقته النجاسة وان لم يعلم به المكلف ، غاية الأمر انه مع عدم العلم ترتفع عنه المؤاخذة ، فعلى هذا لو صلى في النجاسة أو توضأ بماء متنجس كان كل من صلاته ووضوئه باطلا في الواقع وان ارتفع الإثم عنه في ظاهر الأمر ، نقل ذلك عنهم شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة في الفصل الثالث في المنافيات

__________________

(1) تقدم في التعليقة 2 ص 43 ج 1 ان الأصل في هذا الحديث هو قوله (ع) : «هم في سعة حتى يعلموا» في رواية السفرة المروية في الوسائل في الباب 50 من النجاسات و 38 من الذبائح و 23 من اللقطة.

(2) المروي في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.


للصلاة ، حيث قال المصنف : «الأول ـ نواقض الطهارة مطلقا ومبطلاتها كالطهارة بالماء النجس» قال الشارح : «سواء علم بالنجاسة أم لا حتى لو استمر الجهل به حتى مات ، فإن الصلاة باطلة غايته عدم المؤاخذة عليها ، لامتناع تكليف الغافل ، هذا هو الذي يقتضيه إطلاق العبارة وكلام الجماعة» انتهى. وحينئذ فيتجه القول بالبطلان. والمستفاد من الأخبار ان النجس ليس عبارة عما ذكروا بل هو عبارة عما علم المكلف بملاقاة النجاسة له ، كما ان الطاهر ليس عبارة عما لم تلاقه النجاسة بل عما لم يعلم ملاقاتها له ، وقد تقدم تحقيق المسألة في المقدمة الحادية عشرة (1) ويزيده هنا ما عرفت من الخبرين المتقدمين الدالين على ان «كل ماء طاهر ، وكل شي‌ء نظيف حتى تعلم انه قذر فإذا علمت فقد قذر» فإنهما كما دلا على ان الماء وغيره من الأشياء على أصل الطهارة من حيث عدم العلم بملاقاة النجاسة له وان حصل ذلك واقعا كذلك دلا على ان النجس الذي هو مقابل له بالمباينة هو ما علم ملاقاة النجاسة له تحقيقا للمباينة. وبذلك يظهر لك ما في كلامهم (رضوان الله عليهم) من الغفلة والمسامحة في الأصل المذكور وما يبتني عليه. هذا مقتضى ما ادى اليه الدليل بالنظر إلى هذا الفكر الكليل والذهن العليل والاحتياط يقتضي الوقوف على كلام الأصحاب (نور الله مراقدهم).

ولم أر من تنبه لما ذكرناه واختار ما حققناه سوى العلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري في رسالته التحفة ، والشيخ جواد الكاظمي في شرح الرسالة الجعفرية ، اما الأول منهما فإنه صرح بان الطاهر والنجس ما حكم الشارع بطهارته ونجاسته ، فالطاهر ليس هو الواقع في نفس الأمر بل ما حكم الشارع بطهارته وكذا النجس ، وليس له واقع سوى حكم الشارع بطهارة المسلمين فصاروا طاهرين ، صرح بذلك (قدس‌سره) في جواب شبهة بعض معاصريه من علماء العراق ممن اعتقد وجوب عزل السؤر عن الناس بزعم انهم نجسون قطعا أو ظنا. واما الثاني فإنه في الكتاب

__________________

(1) ج 1 ص 136.


المذكور ـ بعد ان نقل ما قدمنا من عبارة الذكرى ـ قال : «وفيه نظر ، فانا لا نسلم بقاء حدثه ، قولك : النجس لا تحصل به الطهارة قلنا النجس في نفس الأمر أو النجس في علم المكلف ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ، ويؤيده انا مكلفون مع عدم العلم بالنجاسة لا مع العلم بعدمها ، لاستلزام ذلك الحرج المنفي بالآي والأخبار ، وعلى هذا فكون صلاته فاسدة ممنوع ، وصدق الفوات بالنسبة إليه غير ظاهر ، كيف وهو قد فعل المأمور به شرعا وامتثال الأمر يوجب الاجزاء والصحة ، اما الأول فلأنه مأمور بالطهارة بماء محكوم بطهارته شرعا اي ما كان طاهرا في الظاهر لا في نفس الأمر ، لأن الشارع لم يلتفت إلى نفس الأمر لتعذره ، واما الثاني فلما ثبت في الأصول» انتهى.

وهذه المسألة من جملة ما أشبعنا الكلام في تحقيقها في كتاب المسائل ، إلا انا بعد لم نقف على كلام هذين الفاضلين. وبعض المعاصرين استبعد ما ذهبنا اليه لمخالفته ما هو المشهور ، حيث ان طبيعة الناس جبلت على متابعة المشهورات وان أنكروا بظاهرهم تقليد الأموات ، وقد وفق الله سبحانه للوقوف على كلام الفاضلين المذكورين فأثبتناه هنا لا للاستعانة على قوة ما ذهبنا اليه بل لكسر سورة نزاع من ذكرناه من المعاصرين ، لعدم قبولهم إلا لكلام المتقدمين.

(المسألة الثامنة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في بطلان الطهارة بالماء المغصوب عالما عامدا ، وهو لا اشكال فيه. اما مع الجهل فظاهرهم هنا الاتفاق على عدم التحريم والابطال ، لعدم توجه النهي اليه. واما نسيان الغصب فهل يكون حكمه حكم العمد كما ذكروا في ناسي النجاسة. فيتوجه إليه النهي ، لأن النسيان انما عرض له بقلة التكرار الموجب للتذكار ، أو حكم الجاهل لامتناع تكليف الغافل؟ قولان : اختار أولهما العلامة في القواعد ، وثانيهما أول الشهيدين في الرسالة ، وثانيهما في شرحها ، وثاني المحققين في شرح الرسالة المذكورة وفي رسالته الجعفرية ، وشارحاها في شرحيهما ، وهو الأظهر لما حققناه آنفا.


ثم ان الفرق بين جاهل الغصب والنجاسة كما ذكروا ـ معللين له بان مانع النجاسة ذاتي فلا يضره الجهل ، بخلاف الغصب ، فإنه عرضي بسبب النهي عن التصرف في مال الغير ، ومع الجهل والنسيان لا يتحقق النهي لعدم التكليف ، فينتفي المانع ـ محل نظر يظهر مما حققناه آنفا. هذا في جاهل الغصب وناسية.

اما جاهل حكم الغصب وناسية فهو عندهم في حكم العمد ، لوجوب التعلم عليهما وضمهما الجهل إلى التقصير فلا يعد تقصيرهما عذرا. وأنت خبير بما فيه من الوهن والضعف. لما أشرنا إليه آنفا من قيام دليلي العقل والنقل على معذورية الجاهل ، أعم من ان يكون جاهلا بالأصل أو الحكم ، وتقصيره في التعلم غاية ما يوجبه حصول الإثم لإخلاله بذلك على ما ذكرناه في كتاب الدرر النجفية ، حيث حققنا هناك المقام بمزيد بسط في الكلام لا يحوم حوله نقض ولا إبرام.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الغصب ـ على ما عرفوه ـ عبارة عن إثبات اليد على حق الغير عدوانا وظلما. واحترزوا بقيد العدوان عن إثبات الوكيل يده على مال الموكل ، ونحوه المرتهن والولي والمستأجر والمستعير ، وظاهرهم عدم الاكتفاء بشاهد الحال اعني ظن رضا المالك في الخروج عن الغصب ، وبذلك ينقدح الاشكال ويقع الداء العضال في مثل هذه المسألة ، فإنه متى سافر الإنسان من بلد إلى أخرى مسيرة شهر أو أزيد أو انقص ، يجب عليه حينئذ حمل ماء مملوك معه إلى ان يتمكن من تحصيل ماء مباح أو مأذون أو مشتري ، ولا يجوز له الأخذ من المياه التي يمر بها في الطرق لدخولها في باب الغصب ، وفيه من المشقة والحرج والعسر المنفي بالآية والرواية (1) ما لا يخفى ، ولعله لذلك صرح جمع : منهم ـ الشهيدان بجواز الشرب والوضوء والغسل من نحو القناة المملوكة والدالية والدولاب مطلقا عملا بشاهد الحال إلا ان يغلب على الظن الكراهة ، ونفى عنه البعد في الكفاية ، وهو جيد ، وحينئذ لا فرق بين كون ذلك الماء مملوكا

__________________

(1) راجع الصحيفة 151 من الجزء الأول.


أو مغصوبا ، لان شاهد الحال حاصل على التقديرين على حد ما يأتي بيانه ان شاء الله تعالى في المكان.

(المسألة التاسعة) ـ هل يشترط طهارة أعضاء الوضوء أولا من النجاسة لو كان ثمة نجاسة ثم اجراء ماء الوضوء عليها. أو يكفي ماء واحد لازالة الخبث والحدث؟ قولان : المشهور الأول ، وسيأتي تحقيق المقام في فصل غسل الجنابة ان شاء الله تعالى.

(المسألة العاشرة) ـ المشهور بين متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) اشتراط الإباحة في مكان الطهارة ، فلو توضأ في مكان مغصوب عالما عامدا بطلت طهارته للنهي عن الكون الذي هو من ضروريات الفعل ، وقطع المحقق في المعتبر بالعدم مع اختياره الاشتراط في الصلاة ، واليه جنح السيد في المدارك ، وتحقيق المسألة حسبما يقتضيه النظر سيأتي ان شاء الله تعالى في مبحث المكان من كتاب الصلاة.

(المسألة الحادية عشرة) ـ ظاهر كلام فقهائنا (رضوان الله عليهم) الاتفاق على ان من كان على أعضاء طهارته جبائر ـ وهي في الأصل تقال للعيدان والخرقة التي تشد على العظام المكسورة ، والظاهر من كلام الفقهاء إطلاقها على ما يشد على القروح والجروح أيضا ، لاشتراك الجميع في الحكم الوارد في الروايات التي هي المستند في هذا الباب ـ فإنه يجب عليه مع الإمكان نزع الجبائر أولا ، أو تكرار الماء عليها على وجه يصل إلى البشرة ويحصل منه الغسل المعتبر شرعا ، وظاهرهم التخيير في ذلك مع الإمكان بعدم التضرر بالنزع وعدم التضرر بتطهير ما تحت الجبيرة لو كان نجسا ، ولو تعذر النزع وأمكن إيصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب أيضا ، وإلا فيجب المسح عليها ، واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا ، وهو بعيد. ولو كانت الجبيرة نجسة ولم يكن تطهيرها ثم المسح عليها قالوا يضع عليها خرقة طاهرة ثم يمسح عليها ، واحتمل في الذكرى الاكتفاء بغسل ما حولها. وصرح بعضهم بان القرح والجرح لو كان خاليا من الجبيرة مسح عليه ان أمكن وإلا وضع عليه شيئا طاهرا ومسح عليه.


هذا إذا كانت الجبيرة في موضع الغسل ، اما إذا كانت في موضع المسح ، فان لم تستوعب محل المسح بحيث يبقى ما يتأدى به الفرض فلا اشكال ، وان استوعبت فإن أمكن نزعها والمسح على البشرة مع طهارتها أو أمكن تطهيرها وجب ذلك ، وإلا مسح على الجبيرة مع طهارتها ، ولا يكفي هنا تكرار الماء عليها بحيث يصل إلى البشرة ، لأن المسح انما يتحقق بإيصال اليد إلى البشرة فيجب مع الإمكان ولا يكفي إمرار الماء ، ومع نجاسة الجبيرة يضع عليها خرقة طاهرة ويمسح. هذا ما يستفاد من متفرقات كلماتهم في بحث الوضوء. ثم انهم في بحث التيمم جعلوا من جملة موجباته الخوف من استعمال الماء بسبب القروح والجروح من غير تقييد بتعذر وضع شي‌ء عليها والمسح عليه ، وكلامهم في هذا المقام لا يخلو من إجمال يحصل به الاشكال.

وها نحن نسوق جملة ما وفقنا الله تعالى للوقوف عليه من الأخبار ، ونتكلم بعدها بما رزقنا سبحانه فهمه من تلك الآثار ، معتصمين بحبل توفيقه من العثار :

فمن ذلك صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الكسير تكون عليه الجبائر أو تكون به الجراحة كيف يصنع بالوضوء أو عند غسل الجنابة وعند غسل الجمعة؟ قال يغسل ما وصل اليه الغسل مما ظهر مما ليس عليه الجبائر ، ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله ، ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته» ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان مثله إلا انه أسقط قوله : «أو تكون به الجراحة» (2).

وروى العياشي في تفسيره عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) (3) قال : «سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ

__________________

(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء.

(2) ولكن التعبير عنه (ع) ب (أبي إبراهيم) انما هو في التهذيب وفي الكافي عبر ب (أبي الحسن).


صاحبها ، وكيف يغتسل إذا أجنب؟ قال : يجزيه المسح عليها في الجنابة والوضوء. قلت : فان كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً)» (1).

ورواية عبد الله بن سنان أو صحيحته عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الجرح كيف يصنع به صاحبه؟ قال : يغسل ما حوله».

وقال في الفقيه (3) : «وقد روي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال : يغسل ما حولها».

وحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (4) انه «سأل عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء ، فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ. فقال : ان كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ، وان كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها قال : وسألته عن الجرح كيف اصنع به في غسله؟ قال : اغسل ما حوله».

ورواية عبد الأعلى (5) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى : قال الله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (6) امسح عليه».

ورواية كليب الأسدي (7) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل

__________________

(1) سورة النساء الآية 33.

(2 و 4 و 5 و 7) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء.

(3) ج 1 ص 29 وفي الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء.

(6) سورة الحج الآية 78.


إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : ان كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل».

وحسنة الوشاء (1) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الدواء إذا كان على يدي الرجل أيجزيه ان يمسح على طلي الدواء؟ قال : نعم يجزيه ان يمسح عليه».

ورواية جعفر بن إبراهيم الجعفري عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذكر له ان رجلا أصابته جنابة على جرح كان به فأمر بالغسل فاغتسل فكز فمات. فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : قتلوه قتلهم الله. الحديث».

وصحيحة داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح أو جروح أو يخاف على نفسه من البرد؟ فقال : لا يغتسل ويتيمم».

وحسنة محمد بن مسكين وغيره عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «قيل له : ان فلانا أصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات؟ فقال : قتلوه ، ألا سألوا ألا يمموه ، ان شفاء العي السؤال». وقال في الكافي (5) عقيب نقل هذه الرواية : «وروى ذلك ذلك في الكسير والمبطون يتيمم ولا يغتسل».

وحسنة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (6) قال : «سألته عن مجدور أصابته جنابة فغسلوه فمات. فقال : قتلوه ، ألا سألوا فإن دواء العي السؤال».

وصحيحة محمد بن مسلم (7) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الرجل يكون به القرح والجراحة يجنب. قال : لا بأس بان لا يغتسل ، يتيمم».

ورواه في الفقيه

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء.

(2 و 3 و 4 و 6 و 7) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب التيمم.

(5) ج 1 ص 20 وفي الوسائل في الباب 5 من أبواب التيمم.


بلفظ القروح والجراحات (1).

وموثقة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) «في الرجل تكون به القروح في جسده فتصيبه الجنابة؟ قال : يتيمم».

وصحيحة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «ييمم المجدور والكسير إذا أصابتهما الجنابة».

وموثقة عمار (4) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل ينقطع ظفره هل يجوز ان يجعل عليه علكا؟ قال : لا ولا يجعل عليه إلا ما يقدر على أخذه عنه عند الوضوء ، ولا يجعل عليه ما لا يصل اليه الماء».

وموثقته الأخرى (5) «في الرجل ينكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر ان يمسح عليه لحال الجبر إذا جبر ، كيف يصنع؟ قال : إذا أراد ان يتوضأ فليضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبر في الماء حتى يصل الماء إلى جلده. وقد أجزأه ذلك من غير ان يحله». ورواه الشيخ في موضع آخر عن إسحاق بن عمار مثله.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، والكلام فيها يقع في مواضع :

(الأول) ـ ان ما دلت عليه حسنة الحلبي ـ من المسح على الخرقة إذا كان يؤذيه الماء ، ورواية عبد الأعلى من المسح على المرارة لاستلزام رفعها المشقة والحرج ورواية كليب من الأمر بالمسح على الجبائر مقيدا بالخوف على نفسه ـ هو مستند الأصحاب فيما ذكروه من وجوب المسح على الجبيرة متى تعذر إيصال الماء إلى ما تحتها ، وإطلاق بعض الأخبار ـ الدالة على اجزاء المسح على الجبيرة من غير تعرض لتعذر إيصال الماء إلى ما تحتها كرواية العياشي وحسنة الوشاء ـ مقيد بهذه الأخبار.

__________________

(1) ج 1 ص 58 وفي الوسائل في الباب 5 من أبواب التيمم.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب التيمم.

(4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب الوضوء.


وناقش جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك في وجوب المسح على الجبيرة قائلا بأنه لو لا الإجماع على وجوب مسح الجبيرة لأمكن القول بالاستحباب والاكتفاء بغسل ما حولها ، واحتج على ذلك بصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج.

وأنت خبير بان المراد من قوله (عليه‌السلام) في الصحيحة المشار إليها : «ويدع ما سوى ذلك مما لا يستطيع غسله». يعني يدع غسل ما لا يستطيع غسله من الجبائر ، كما يدل عليه أيضا قوله أخيرا : «ولا ينزع الجبائر ولا يعبث بجراحته». وليس فيها نفي أو نهي عن المسح بل هي مطلقة بالنسبة اليه ، ولا ضرر فيه ، لاستفادة الحكم من تلك الأخبار المذكورة مؤيدا بدعوى الإجماع في المسألة ، فيكون إطلاق هذه الرواية مقيدا بتلك الروايات فلا منافاة ، واما ما عدا هذه الرواية مما دل على غسل ما حول الجرح فالظاهر منه ان الجرح خال من الجبيرة ، كما هو ظاهر الشهيد في الدروس ، فإنه بعد ان ذكر التفصيل في الجبائر وما في حكمها قال : «والمجروح يغسل ما حوله» وصريحه في الذكرى. وبالجملة فالرواية التي استند إليها فيما ذكره لا تنهض حجة في ذلك. نعم ربما كان الظاهر من كلام الصدوق في الفقيه هنا التخيير بين المسح على الجبيرة والاكتفاء بغسل ما حولها ، حيث قال (1) : «ومن كان به في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة أو جراحة أو دماميل ولم يؤذه حلها فليحلها وليغسلها ، وان أضربه حلها فليمسح يده على الجبائر والقروح ولا يحلها ولا يعبث بجراحته ، وقد روى في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) انه قال : يغسل ما حولها». انتهى ، وهذا بعينه ما ذكره في كتاب فقه الرضا حيث قال (عليه‌السلام) (2) : «ان كان بك في المواضع التي يجب عليها الوضوء قرحة أو دماميل ولم تؤذك فحلها واغسلها ، وان اضرك حلها فامسح يدك على الجبائر والقروح ولا تحلها ولا تعبث بجراحك ،. وقد نروي في الجبائر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : يغسل ما حولها».

__________________

(1) ج 1 ص 29.

(2) ص 2.


(الثاني) ـ المستفاد من ظاهر رواية عبد الله بن سنان وحسنة الحلبي ان القروح والجروح الخالية من الجبيرة إذا تضررت بالغسل يكتفى بغسل ما حولها ، واما ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ من انه مع تعذر الغسل يمسح عليها ومع تعذر المسح يضع عليها ما يمسح عليه فوقها ـ فلم أقف له على دليل في الأخبار ، وقد اعترف أيضا بذلك بعض متأخري علمائنا الأبرار ، وما علل به ـ من ان فيه تحصيلا لشبه الغسل عند تعذر حقيقته إذا كان الجرح في محل الغسل ، أو انه وسيلة إلى المسح الواجب في موضع المسح ـ فلا محصل له ، مع عدم الدليل الشرعي على ذلك ، وكذلك ما ذكروه من وضع خرقة على الجبيرة لو كانت نجسة وتعذر غسلها ، فإنه لا اشعار به في تلك الروايات بوجه ، والجبيرة إنما رخص في المسح عليها عند تعذر إيصال الماء إلى ما تحتها ، لصيرورتها بسبب ضرورة التداوي بها ولصوقها بالجسد كأنها منه ، وهذا بخلاف وضع الخرقة على هذا الوجه الذي ذكروه ، ولا بأس بالعمل بما ذهبوا إليه ، إذ لعلهم اطلعوا على ما لم نطلع عليه.

(الثالث) ـ ما دلت عليه رواية عبد الأعلى من المسح على المرارة التي على ظفره دليل ما ذكره الأصحاب من المسح على الجبيرة وان كانت في موضع المسح أيضا ، وعليه يدل أيضا إطلاق رواية كليب الأسدي وظاهر حسنة الحلبي. وهل يجب التخليل مع إمكانه وعدم إمكان النزع للتوصل إلى إيصال الماء للبشرة هنا ، كما لو كانت الجبيرة في موضع الغسل ، أو الواجب المسح على الجبيرة خاصة؟ ظاهر الأصحاب الثاني لما قدمنا نقله ، والمفهوم من كلام شيخنا صاحب رياض المسائل فيه الأول حيث قال : «ويجب التخليل مع إمكانه ولو في موضع المسح وان حصل الجريان عليه على الظاهر ، اما على تقدير عدم صدق الغسل المنهي عنه عرفا عليه فظاهر ، واما بتقدير الصدق فلانه ليس باعتقاد انه المفروض دون المسح بل باعتقاد أنه مقدمة ما أستطيع الإتيان به من المسح المأمور به وهو إيصال الماء إلى البشرة مع تعذره إلا مع الجريان وعدم المماسة


ولتصريح جمع من الأصحاب ـ كما هو الأقوى ـ بتعين الغسل على الرجلين لو تأدت التقية به وبالمسح على الخفين ، لكونه أقرب للامتثال ، وتعلقه بأعضاء الطهارة لا بأمر خارج عنها بل عن المتطهر ، كما يدل عليه فحوى ما رواه ابن بابويه في الفقيه (1) عن عائشة انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «أشد الناس حسرة يوم القيامة من رأى وضوءه على جلد غيره». ولظاهر إطلاق رواية إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه‌السلام) في الرجل ينكسر ساعده. الحديث كما تقدم (2). انتهى كلامه (قدس‌سره) وهو قوي وان أمكن المناقشة في بعض ما ذكره.

(الرابع) ـ ان ما دلت عليه موثقة عمار الاولى في من انقطع ظفره ـ من انه لا يجعل عليه إلا ما يمكن أخذه عنه عند الوضوء ، ولا يجعل عليه ما لا يصل اليه الماء ـ مما ينافي بظاهره الأدلة العقلية والنقلية. من وجوب دفع الضرر ، ورفع الحرج ، وسعة الحنيفية ، وخصوص جملة مما تلوناه من اخبار الجبيرة الدالة على جواز استعمالها وانه يمسح عليها مع تعذر إيصال الماء ، ولا سيما رواية عبد الأعلى الدالة على خصوص الظفر.

ويمكن حملها على عدم انحصار العلاج بذلك حتى ان بعض محققي متأخري المتأخرين جعل من مستحبات الوضوء ان لا يضع على أعضاء طهارته عند الحاجة إلى العلاج ما لا يقدر على أخذه عند الوضوء أو ما لا يصل اليه الماء إلا مع انحصار العلاج فيه ، ثم قال : «وفي حرمته تأمل ، ينشأ من عموم الرخصة ، ومن خصوص الموثقة المذكورة».

وفيه ما لا يخفى ، فان العمل بظاهر الرواية المذكورة ممنوع بما ذكرنا لك من الأدلة ، فطرحها رأسا لما ذكرنا ليس بذلك البعيد ، لا سيما والراوي عمار المتفرد برواية الغرائب ، كما طعن به عليه المحدث الكاشاني في مواضع من كتاب الوافي.

وحملها الشيخ في التهذيب على انه لا يجوز ذلك مع الاختيار ، فاما مع الضرورة

__________________

(1) ج 1 ص 30 وفي الوسائل في الباب 38 من أبواب الوضوء.

(2) تقدم في الصحيفة 381.


فلا بأس به ، قيل : «وهو مجمل محتمل لأن يراد بالاختيار المقابل بالضرورة ارتفاع الضرورة والحاجة مطلقا ، وارتفاع الضرورة الخاصة الداعية إلى العلاج الخاص مما لا يمكن نزعه عند الوضوء وما لا يصل اليه الماء ، وربما كان المتبادر من كلامه الأول» انتهى

وبالجملة فإن أمكن حملها على وجه تنتظم به مع تلك الأخبار وإلا فطرحها متعين ، فما وقع فيه بعض متأخري متأخرينا بسببها من الاشكال ليس بذلك القريب الاحتمال.

(الخامس) ـ ان ما دلت عليه موثقة عمار المروية في موضع آخر عن إسحاق ابن عمار (1) ـ في من انكسر ساعده أو موضع من مواضع الوضوء فلا يقدر ان يمسح على موضع الكسر لمحل الجبر ، من انه يضع إناء فيه ماء ويضع موضع الجبيرة فيه على وجه يصل إلى البشرة ـ لعله مستند الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما قدمنا نقله عنهم من انه لو تعذر النزع وأمكن إيصال الماء إلى ما تحت الجبيرة وجب مقدما على المسح على الجبيرة. والشيخ (رضوان الله عليه) حمل الرواية المذكورة على الاستحباب. قائلا انه مع الإمكان وعدم التضرر يستحب له ذلك. وفيه انه انما صير إلى المسح لتعذر الغسل فمع إمكانه على الوجه المذكور يكون واجبا لا مستحبا ، وحينئذ فالخبر محمول على إمكان إيصال الماء وان كان مطلقا في ذلك ، للإجماع ظاهرا ، ولزوم الحرج والمشقة المنفيين عقلا ونقلا ، والروايات المتقدمة.

(السادس) ـ ظاهر الروايات الدالة على المسح على الجبيرة استيعاب الجبيرة بالمسح ، وهو ظاهر المشهور ، وجعله الشيخ في المبسوط أحوط ، وحسنه في الذكرى مستشكلا في وجوب الاستيعاب بصدق المسح عليها بالمسح على جزء منها كصدق المسح على الرجلين والخفين عند الضرورة. ولقائل أن يقول ان تبعيض المسح في الرجلين انما هو لمكان الباء في المعطوف عليه وفي الخفين لتبعيته حينئذ لهما. واستدل أيضا في المعتبر على وجوب الاستيعاب بان المسح بدل من الغسل فكما يجب الاستيعاب في الغسل يجب في بدله. وصريح الأخبار

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 39 ـ من أبواب الوضوء.


المذكورة عدم وجوب اجراء الماء على الجبيرة وان أمكن فلا يجب حينئذ لعدم ورود الأمر به ، واحتمل العلامة في النهاية وجوب أقل ما يسمى غسلا. وهو بعيد.

(السابع) ـ ان ما دل عليه جملة من تلك الأخبار من الأمر بالتيمم لذي القروح والجروح مناف لما دل عليه الجملة الأخرى من المسح على الجبيرة وغسل ما حول الخالي عنها ، وقد اختلف كلام الأصحاب في وجه الجمع بينها على وجوه لا يخلو أكثرها من الإيراد والبعد عن المراد ، والذي يقوى في البال حمل روايات التيمم على التخصيص بالبدلية من الغسل ، سيما فيما إذا كانت القروح والجروح كثيرة متعددة في البدن ، وقوفا على ظواهر ألفاظها ، فإنها إنما وردت بالنسبة إلى الغسل خاصة ، ووقوع السؤال فيها عن القروح والجروح بلفظ الجمع ، ومن الغالب لزوم الحميات لذلك ، وبكشف البدن لأجل الغسل ربما أضر به ملاقاة الهواء لذلك ، كما تدل عليه رواية جعفر بن إبراهيم الجعفري ، فإنها تضمنت انه بعد الغسل كز فمات ، والكزاز كغراب داء يتولد من شدة البرد. وهو قرينة ما قلناه من لزوم الحميات للقروح والجروح وتضرر البدن لذلك بكشفه في الهواء ، ومثلها ظاهر روايتي محمد بن مسكين وابن أبي عمير وظاهر رواية العياشي ، فإنها صرحت أولا بأنه يجزيه المسح على الجبائر في الوضوء والغسل حيث لا يخاف على نفسه ، ومع الخوف على نفسه بإفراغ الماء على جسده فإنه ينتقل إلى التيمم ، لان قراءته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الآية المذكورة يريد المنع من الغسل والانتقال إلى بدله من التيمم.

وبالجملة فروايات التيمم مشعرة بكون السبب في العدول اليه هو التضرر بكشف البدن للغسل من أجل ما فيه من القروح والجروح ، بخلاف روايات المسح على الجبيرة والغسل لما حول الجرح ، فإنها اما صريحة في الوضوء بخصوصه كحسنة الحلبي ورواية عبد الأعلى وحسنة الوشاء واما فيه وفي الغسل لكن لا على الوجه الذي أشرنا إليه كصحيحة عبد الرحمن وصدر رواية العياشي واما عامة لهما كرواية عبد الله بن سنان


ورواية كليب الأسدي ، وحينئذ فالتيمم في هذه المسألة مخصوص بالبدلية عن الغسل على ذلك الوجه ، والمسح على الجبيرة والغسل لما حول الجرح والقرح مخصوص بالوضوء والغسل على غير ذلك الوجه وعلى ذلك تنتظم الأخبار على وجه واضح المنار ، والاحتياط لا يخفى.

(المسألة الثانية عشرة) ـ قد صرح أكثر الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان صاحب السلس ـ وهو الذي لا يمسك بوله ـ يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه بعده ، نظرا إلى أنه بتجدد البول يصير محدثا فتجب عليه الطهارة ويمنع من المشروط بها إلا ان ذلك لما امتنع اعتباره مطلقا لتعذره وجب عليه الوضوء لكل صلاة مراعاة لمقتضى الحدث حسب الإمكان.

ونقل عن الشيخ في المبسوط جواز الجمع بين صلوات كثيرة بوضوء واحد ، محتجا بأنه لا دليل على تجديد الوضوء وحمله على الاستحاضة قياس لا نقول به. وهذا الكلام محتمل لوجهين : (أحدهما) ـ عدم جعل البول بالنسبة إليه حدثا وحصر احداثه فيما عداه. و (ثانيهما) ـ عدم جعل ما يخرج بالتقاطر حدثا واما الذي يخرج بالطريق المعهود فيكون حدثا.

وذهب العلامة في المنتهى إلى جواز الجمع بين كل من الظهرين والعشاءين بوضوء واحد واختصاص الصبح بوضوء واحد واما ما عداها فيجب الوضوء لكل صلاة ، واحتج على ذلك بصحيحة حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) انه قال : «إذا كان الرجل يقطر منه البول والدم ، إذا كان حين الصلاة اتخذ كيسا وجعل فيه قطنا ، ثم علقه عليه وادخل ذكره فيه ، ثم صلى : يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر يؤخر الظهر ويعجل العصر بأذان وإقامتين ، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء بأذان وإقامتين ، ويفعل ذلك في الصبح». واما وجوب الوضوء لكل صلاة فيما عدا ما ذكر فوجهه ما تقدم من

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 19 ـ من نواقض الوضوء.


دليل القول الأول كما صرح به في المنتهى.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة صحيحة حريز المتقدمة.

وحسنة منصور بن حازم (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الرجل يعتريه البول ولا يقدر على حبسه؟ قال : فقال لي : إذا لم يقدر على حبسه فالله اولى بالعذر يجعل خريطة».

ورواية الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سئل عن تقطير البول. قال يجعل خريطة إذا صلى».

وموثقة سماعة (3) قال : «سألته عن رجل أخذه تقطير من فرجه اما دم واما غيره قال فليصنع خريطة وليتوضأ وليصل ، فان ذلك بلاء ابتلى به فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه».

وأنت خبير بان ما عدا صحيحة حريز من الروايات المذكورة لا تعرض فيها للوضوء بكونه لكل صلاة ولا لكل صلاتين بل هي مطلقة في ذلك ، وقصارى ما تدل عليه جواز الدخول في الصلاة في تلك الحال مع وجوب التحفظ من النجاسة بحسب الإمكان دفعا للحرج والمشقة المفهومين من أولوية الله سبحانه بالعذر وانه بلاء ابتلى به ، وان الخريطة بالنسبة إليه كجزء من بدنه لا ينقض من النجاسة إلا ما خرج منها دون ما بقي فيها ، ومقتضى القاعدة حمل مطلق الأخبار على مقيدها ، وبه يظهر قوة ما ذهب إليه في المنتهى ورجحه السيد في المدارك أيضا. واما ما عدا الفرائض اليومية فيشكل الوجه فيه لعدم الدليل الناص على حكمه. والاحتياط في المقام بوضع الخريطة المحشوة بالقطن والوضوء لكل صلاة في اليومية وغيرها. وقوله (عليه‌السلام) في آخر موثقة سماعة : «فلا يعيدن إلا من الحدث الذي يتوضأ منه». محتمل للمعنيين المتقدمين في كلام الشيخ

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 19 ـ من نواقض الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من نواقض الوضوء.


في المبسوط ، وكيف كان فهي ظاهرة في كون التقطير ليس حدثا بالنسبة إليه.

ثم انهم صرحوا بأنه متى كان للسلس فترة ينقطع فيها التقطير تسع الطهارة والصلاة وجب انتظارها ، لزوال الضرورة التي هي مناط التخفيف. ولا ريب في أولويته ورجحانه. وذكر البعض أيضا وجوب المبادرة إلى الصلاة بعد الوضوء ، وهو كذلك.

واما المبطون وهو من به داء البطن بخروج غائط أو ريح لا يتمكن من حبسه ، فقد ذكر جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه يتوضأ لكل صلاة.

والعلامة في المنتهى مع تصريحه بجمع ذي السلس بين الصلاتين صرح هنا بوجوب الوضوء لكل صلاة ومنع من الجمع ، معللا بان الغائط حدث فلا يستباح معه الصلاة إلا مع الضرورة وهي متحققة في الواحدة دون غيرها. ولا يخفى ان ما ذكره جار في السلس أيضا لكن كأنه قال بجواز الجمع هناك للصحيحة المتقدمة المختصة به.

وصرح الأكثر بأنه متى تطهر ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث فيها تطهر وبنى.

وذهب العلامة في المختلف إلى وجوب استئناف الطهارة والصلاة مع إمكان التحفظ بقدر زمانهما وإلا بنى بغير طهارة ، لأن الحدث المذكور لو نقض الطهارة لا بطل الصلاة ، لان من شروط الصلاة استمرار الطهارة ورد بان ما ذكره من التعليل مصادرة على المطلوب. وأجيب بمنع المصادرة بل هو احتجاج على هذه المقدمة بالإجماع. وفيه ما لا يخفى لمنع الاتفاق على الشرطية بالمعنى المدعى في موضع النزاع.

وذكر جمع من المتأخرين في ذلك تفصيلا وهو انه لا يخلو اما ان يكون له فترة تسع الطهارة والصلاة أم لا ، وعلى الثاني فلا يخلو اما ان يستمر حدثه بحيث لا يتمكن من الدخول في الصلاة على طهارة أم لا ، فعلى الأول يجب عليه انتظار حصول الفترة ، وعلى الأول من الثاني يتوضأ لكل صلاة ويغتفر حدثه الواقع بعد الوضوء ولو في أثناء الصلاة دفعا للحرج ، وعلى الثاني فالمشهور انه متى فاجأه في الصلاة فإنه يتوضأ ويبنى ، وقيل بالتفصيل الذي تقدم عن المختلف. ومحل الخلاف في المسألة غير منقح في كلامهم.


والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة موثقة محمد بن مسلم (1) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن المبطون. فقال : يبنى على صلاته».

وموثقته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (2) قال : «صاحب البطن يتوضأ ثم يرجع في صلاته فيتم ما بقي».

وصحيحته المروية في الفقيه عنه (عليه‌السلام) (3) قال : «صاحب البطن الغالب يتوضأ ويبنى على صلاته».

وهذه الروايات ـ كما ترى ـ مطلقة لا دلالة فيها على خصوص فرد من تلك الأفراد المفصلة ، والمفهوم من كلام بعضهم حملها على ما إذا كان ثمة فترة تسع الصلاة أو بعضها فتوضأ ودخل في الصلاة ثم فاجأه الحدث ، ومن كلام بعض آخر على ما إذا دخل في الصلاة متطهرا مطلقا أعم من ان تكون فترة تسع الصلاة كلا أو بعضا أو بمقدار الطهارة خاصة كما هو المفهوم من التفصيل المتقدم.

والتحقيق في المقام ان الروايات المذكورة مطلقة إلا انه ان كان الحدث المذكور متكررا بحيث يؤدي إعادة الوضوء بعد الدخول في الصلاة إلى العسر والحرج ويلزم منه الكثرة الموجبة لبطلان الصلاة ، فالظاهر وجوب الاستمرار في الصلاة وعدم إيجابه الوضوء عملا باخبار سهولة الحنيفية وسعة الشريعة ورفع الحرج في الدين ، وإلا فالظاهر دخوله تحت الأخبار ووجوب الوضوء والبناء. ويحتمل قريبا ان معنى الرواية الاولى والثالثة ان المبطون يبني على صلاته يعني لا يقطعها بالحدث الواقع في أثنائها ، وقوله في الأخيرة يتوضأ يعني قبل الدخول في الصلاة. إذ ليس فيها دلالة بل ولا إشارة إلى دخوله في الصلاة خاليا من الحدث ، بل ربما أشعر قوله في الأخيرة : «صاحب البطن الغالب ...» باستمرار خروج الحدث ، وحينئذ فتكون الروايتان دليلا لما ذكرناه

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 19 ـ من نواقض الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 19 ـ من نواقض الوضوء. وفي التهذيب والوافي والوسائل تقييد البطن فيها بالغالب.

(3) ج 1 ص 237.


في الشق الأول ، واما الرواية الوسطى فهي صريحة في كون الوضوء في أثناء الصلاة للفظ الرجوع وإتمام ما بقي فتجعل دليلا لما ذكرناه في الشق الثاني ، قال في الذكرى : «والظاهر انه لو كان في السلس فترات والبطن تواتر ، أمكن نقل حكم كل منهما إلى الآخر» انتهى.

ثم لا يخفى ان الروايات الواردة في السلس تضمنت انه بعد وضع الخريطة يصلي وان كان قد دخل في الصلاة بطهارة من الحدث والخبث ، فاجأه الحدث في أثنائها أم لا وروايات المبطون تضمنت اعادة الوضوء والبناء ، ولعل الوجه فيه ما أشرنا إليه آنفا من ان الخريطة المذكورة تكون كالجزء من بدنه ، والاحتياط في المقام بل وفي كل مقام من أعظم المهام.

(المسألة الثالثة عشرة) ـ ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو شك في شي‌ء من أفعال الوضوء فان كان على حاله اتى به وبما بعده ما لم يجف السابق وإلا أعاد ، وان انتقل إلى حال اخرى مضى ولم يلتفت.

وتحقيق هذا القول يقع في موارد : (الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في وجوب الإتيان بالمشكوك فيه متى كان على حال الوضوء اي مشتغلا بأفعاله وان كان في آخره وقد شك في شي‌ء من اوله.

لما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا كنت قاعدا على وضوئك ولم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه انك لم تغسله أو تمسحه مما سمى الله ما دمت في حال الوضوء. فإذا قمت من الوضوء وفرغت وقد صرت إلى حال أخرى في صلاة أو غير صلاة وشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوء فلا شي‌ء عليك ، وان شككت في مسح رأسك وأصبت في لحيتك بلة فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك ، وان لم تصب بلة فلا تنقض الوضوء بالشك وامض في صلاتك ، وان تيقنت انك لم تتم

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب ـ 42 ـ من أبواب الوضوء.


وضوءك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء». وهو ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة على انه ما لم يفرغ من وضوئه فإنه يتلافى ما شك فيه.

وروى عبد الله بن أبي يعفور في الموثق عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا شككت في شي‌ء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه».

وضمير غيره كما يحتمل رجوعه إلى الوضوء فيكون الحديث المذكور دالا على ما دلت عليه الصحيحة المذكورة كذلك يحتمل رجوعه إلى شي‌ء ، والظاهر انه الأقرب بحسب السياق ، وفيه حينئذ دلالة على عدم الرجوع إلى فعل مع الشك فيه بعد الدخول فيما يليه ، ولا نعلم به قائلا من الأصحاب في هذا المقام ، وعلى ذلك فيكون منافيا للصحيحة المتقدمة. وأظهر منه في المنافاة بذلك قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (2) : «إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس شي‌ء». وقوله (عليه‌السلام) في موثقة محمد بن مسلم (3) : «كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو». وقوله في رواية أبي بصير (4) : «كل شي‌ء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه». لصدق الشيئية على كل فعل من أفعال الوضوء وصدق الغيرية على كل منها بالنسبة إلى ما سواه ، وقصر معنى الشي‌ء في جميع هذه الأخبار على الوضوء مما لا يرام تجشمه ، وبذلك يظهر المنافاة بين جملة هذه الأخبار وبين الصحيحة المتقدمة.

وربما يجاب بقصر الأخبار الثلاثة الأخيرة على موردها وهو الصلاة كما تضمنه صدر كل منها من تعداد السؤال عن جملة من أفعال الصلاة ، أو عمومها وتخصيصها بالصحيحة المتقدمة ، ولعله أظهر لاستنادهم إلى العمل بالكلية المنصوصة فيها في مواضع عديدة غير الصلاة ، واما موثقة ابن أبي يعفور فيتعين حملها على المعنى الأول ،

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب ـ 42 ـ من أبواب الوضوء.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الخلل في الصلاة.

(4) المروية في الوافي في باب (الشك في اجزاء الصلاة).


ولا مندوحة عن ارتكاب التأويل في الروايات المذكورة وحمل الموثقة على ما ذكرنا لإطباق الأصحاب على ان محل الرجوع مدة كونه على وضوئه كما هو مقتضى الصحيحة المذكورة.

(الثاني) ـ هل الحال الذي يتلافى المشكوك فيها عبارة عن حالة الاشتغال بالوضوء فلو فرغ منه وان بقي في محله لا يلتفت حينئذ وان التقييد بالقيام والصيرورة إلى حال اخرى ـ كما اشتملت عليه صحيحة زرارة المتقدمة ـ إنما خرج مخرج الغالب من ان المتوضئ إذا فرغ من وضوئه فالغالب انه يقوم من محله أو يتشاغل بحالة أخرى ، أو انه عبارة عن البقاء في موضع وضوئه إلى ان يقوم أو يتشاغل بأمر آخر ما لم يطل القعود حملا لتلك الألفاظ المذكورة على ظاهرها؟ قولان : ظاهر الذكرى والدروس الثاني ، وبالأول صرح جمع من المتأخرين : منهم ـ ثاني المحققين وثاني الشهيدين في شرح القواعد والروض وشرح الرسالة والسيد السند في المدارك ، بل الظاهر انه المشهور في كلام المتأخرين ، واستظهره في كتاب رياض المسائل وحمل الصحيحة المتقدمة وما أشبهها من عبائر متقدمي الأصحاب على الخروج مخرج الغالب. وظاهر المولى الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد التوقف في ذلك بعد نسبته ذلك إلى ظاهر الأصحاب ، حيث قال بعد كلام في المسألة : «ولكن هنا خفاء في ان المراد بعدم الالتفات بعد الانصراف ما هو؟ ظاهر الأصحاب ان مجرد الفراغ يوجب ذلك ، وفي بعض الأخبار قيد بقوله : إذا فرغ وانتقل ودخل في شي‌ء آخر مثل الصلاة وغيره ، فهو محل تأمل وان كان ظاهر بعض الأدلة ما ذكره الأصحاب» انتهى. ولعله أشار بظاهر بعض الأدلة الدال على ما ذكره الأصحاب إلى حسنة بكير (1) قال : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ؟ قال هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك». فإنها صريحة في عدم الالتفات إلى الشك بعد إكمال الوضوء وان لم يحصل الانتقال إلى حالة اخرى ، وموثقة ابن أبي يعفور المتقدمة حيث قال

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 42 ـ من أبواب الوضوء.


في آخرها : «انما الشك إذا كنت في شي‌ء لم تجزه». يعني إنما الشك الموجب للعمل بمقتضاه من الانيان بالمشكوك فيه إذا كنت في شي‌ء لم تخرج عنه ولم تجزه ، وحينئذ فالمراد بقوله في صدرها : «وقد دخلت في غيره» كناية عن مجرد الفراغ ، والترجيح في المقام لا يخلو عن اشكال وان كان القول المشهور لا يخلو من قوة.

لكن يبقى في المقام إشكال أشار إليه السيد السند في المدارك فيما إذا تعلق الشك بالعضو الأخير ، لعدم تحقق الإكمال الموجب لإلغاء الشك. وربما يدفع بان الظاهر تحقق الإكمال والفراغ بمجرد ان يجد نفسه غير مشتغل بأفعال الوضوء بعد تيقن التلبس به فحينئذ لو طرأ الشك لم يعتد به.

وكيف كان فالأحوط بناء على هذا القول التدارك ما لم يحصل القيام أو ما في حكمه ، وبعض الأصحاب صار إلى القول الأول احتياطا ، ولا ريب انه أحوط.

(الثالث) ـ قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا اشتراط الأصحاب في الاكتفاء بالإتيان بالمشكوك وما بعده عدم جفاف ما تقدم ، وإلا فالواجب عندهم الإعادة تحصيلا للموالاة الواجبة. وأنت خبير بان الظاهر من الرواية المتقدمة (1) التي هي مستند هذا الحكم الإعادة على العضو المشكوك مطلقا بدون تقييد بعدم الجفاف. وما تقدم من الروايات الدالة على تفسير الموالاة بمراعاة الجفاف لا عموم فيه على وجه يشمل ما نحن فيه حتى يخصص به هذا الإطلاق ، إذ ليس إلا صحيحة معاوية بن عمار وموثقة أبي بصير كما حققناه سابقا (2) وموردهما خاص بنفاد الماء وعروض الحاجة ، ولعله إلى هذا يشير كلام المحدث الحر (قدس‌سره) في كتاب الوسائل حيث قال : «باب ان من شك في شي‌ء من أفعال الوضوء قبل الانصراف وجب ان يأتي بما شك فيه وبما بعده ، ومن شك بعد الانصراف لم يجب عليه شي‌ء ...» فإنه ظاهر في مراعاة الترتيب بالإتيان بما شك فيه وما بعده أعم من ان يجف ما قبله أم لا ، مع تخصيصه في كتاب البداية فيما تقدم

__________________

(1) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 391.

(2) ص 350.


الابطال بالجفاف بالتراخي والتفريق كما أوضحناه هناك ، والحق ان الكلام معهم (رضوان الله عليهم) يرجع إلى أصل المسألة. فإنهم حيث ذهبوا في تفسير الموالاة التي هي أحد واجبات الوضوء عندهم إلى مراعاة الجفاف مطلقا أو في صورة خاصة ، بناء على الخلاف المتقدم ، اتجه لهم تمشية ذلك في جملة فروع المسألة ، واما على ما حققناه آنفا من التخصيص فلا ، فالكلام هنا يتفرع على ذلك. وكيف كان فالأحوط هو الوقوف على ما قرروه شكر الله تعالى اجتهادهم وأجزل اسعادهم.

(الرابع) ـ صرح جمع : منهم ـ الشهيد في الذكرى بأنه لو كثر شكه فالأقرب إلحاقه بحكم كثير الشك في الصلاة دفعا للعسر والحرج ، وأيده السيد السند في المدارك بقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة وأبي بصير (1) الواردة في من كثر شكه في الصلاة بعد ان أمر بالمضي في الشك : «لا تعودوا الخبيث من أنفسكم نقض الصلاة فتطيعوه ، فان الشيطان خبيث معتاد لما عود». قال : «فان ذلك بمنزلة التعليل لوجوب المضي في الصلاة فيتعدى إلى غير المسؤول عنه» انتهى.

أقول : ويؤيده أيضا ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له رجل مبتلى بالوضوء والصلاة وقلت هو رجل عاقل؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : واي عقل له وهو يطيع الشيطان؟ فقلت له وكيف يطيع الشيطان؟ فقال : سله هذا الذي يأتيه من أي شي‌ء هو ، فإنه يقول لك من عمل الشيطان». فان الظاهر ان ابتلاءه بذلك باعتبار كثرة الشك في أفعالهما. واما حمله على ما يشمل الوسواس في النية ـ كما ذكره الشارح المازندراني في شرح أصول الكافي ـ فظني انه بعيد غاية البعد ، لأن النية في الصدر السابق ليست على ما يتراءى الآن من صعوبة الإتيان بها ولهذا لم يجر لها ذكر في كلام السلف ولا في الأخبار كما أوضحناه سابقا على وجه واضح

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 16 ـ من أبواب الخلل في الصلاة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب مقدمة العبادات.


المنار ساطع الأنوار ، والوسواس فيها انما حدث بما أحدثه متأخر وأصحابنا (رضوان الله عليهم) من البحث فيها وفي قيودها والمقارنة بها ونحو ذلك.

(الخامس) ـ الظاهر ـ كما صرح به بعض محققي المتأخرين ـ ان عدم الالتفات إلى ما شك فيه وتركه رخصة لا انه يحرم فعله ، وكذا في صورة تيقن الطهارة والشك في الحدث ، لعموم الاحتياط الموجب المشي على الصراط الذي هو عبارة عن الإتيان بما يتيقن به الخروج عن العهدة على جميع الاحتمالات. ويحتمل الثاني لعموم قوله (عليه‌السلام) في موثقة بكير (1) : «إذا استيقنت أنك أحدثت فتوضأ ، وإياك ان تحدث وضوء ابدا حتى تستيقن انك قد أحدثت». والظاهر حمل الخبر المذكور على المنع عن احداث الوضوء على سبيل الوجوب والحتم ، لعدم العمل به على ظاهره إجماعا نصا وفتوى.

(المسألة الرابعة عشرة) ـ لو شك في الطهارة مع تيقن الحدث أو تيقنها مع الشك فيه ، بنى على يقينه في الموضعين إجماعا نصا وفتوى.

ومن الأخبار الواردة في ذلك موثقة بكير المتقدمة ، وصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (2) في حديث قال فيه : «قلت : فان حرك إلى جنبه شي‌ء ولم يعلم به؟

قال : لا حتى يستيقن انه قد نام حتى يجي‌ء من ذلك أمر بين ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين ابدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر».

إذا عرفت ذلك ففي المقام فوائد ثلاث : (الاولى) ـ المفهوم من كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) استثناء صورة واحدة من هذه القاعدة ، وهو ما إذا بال ولم يستبرئ ثم خرج بلل مشتبه ، فإنهم صرحوا بوجوب الوضوء في الصورة المذكورة بلا خلاف ، بل عن ابن إدريس دعوى الإجماع عليه ، ويدل عليه مفهوم قول الصادق (عليه‌السلام)

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب نواقض الوضوء ، و 44 من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب نواقض الوضوء.


في صحيحة ابن البختري (1) : «ينتره ثلاثا ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبال». وقول الباقر (عليه‌السلام) في حسنة محمد بن مسلم (2) : «يعصر أصل ذكره إلى طرفه ثلاث عصرات وينتر طرفه ، فان خرج بعد ذلك شي‌ء فليس من البول ولكنه من الحبائل». وصريح صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (3) الواردة في غسل الجنابة حيث قال فيها : «وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء». ومضمرة سماعة (4) : «وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجى». وهاتان الروايتان وان أطلقتا الوضوء بخروج البلل وان كان مع الاستبراء إلا أنهما مقيدتان بالأخبار المتقدمة مضافة إلى الإجماع على عدم الوضوء مع الاستبراء ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا الأوحد في كتاب رياض المسائل ، حيث قال بعد نفل الاحتجاج على الحكم المذكور بمفهوم الروايتين المتقدمتين : «وهو ان لم يكن إجماعا محل تأمل» انتهى.

(الثانية) ـ قد أورد في المقام اشكال ، وهو ان الشك المتعلق بأحد النقيضين متى كان عبارة عن تساوي اعتقادي الوجود والعدم نافى اليقين المتعلق بالنقيض الآخر البتة ، لاقتضاء اليقين بوجود أحد النقيضين نفي النقيض الآخر ، فكيف يمكن اجتماع الشك في الحدث مع تيقن الطهارة وبالعكس؟

وأجاب شيخنا الشهيد في الذكرى بان قولنا : اليقين لا يرفعه الشك لا نعني به اجتماع اليقين والشك في الزمان الواحد لامتناع ذلك ، ضرورة ان الشك في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر ، بل المعنى به ان اليقين الذي كان في الزمن الأول لا يخرج عن حكمه

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب نواقض الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أحكام الخلوة.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب نواقض الوضوء و 36 من أبواب الجنابة.


بالشك في الزمن الثاني لأصالة بقاء ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظن والشك في الزمن الواحد فيرجح الظن عليه كما هو مطرد في العبارات. انتهى ، وحاصل كلامه (قدس‌سره) تغاير زماني الشك واليقين ، كأن يتيقن في الماضي كونه متطهرا ثم يشك في المستقبل في كونه محدثا ، فهذا الشك لا يرفع حكم اليقين السابق بل يستصحب ذلك الحكم السابق ويظن بقاءه إلى ان يتحقق الناقل.

وهو جيد إلا ان قوله : فيؤول إلى اجتماع الظن والشك. إلخ» محل بحث ، إذ عند ملاحظة ذلك الاستصحاب ينقلب أحد طرفي الشك ظنا والطرف الآخر وهما ، فلم يجتمع الظن والشك في الزمان الواحد ، كيف والشك في أحد النقيضين يرفع ظن الآخر كما يرفع يقينه ، كذا أورده بعض محققي المتأخرين عليه.

وأجيب بأن المراد بالشك في هذا المقام ما قابل اليقين ، كما تفهمه جملة الاستدراك في قوله في صحيحة زرارة المتقدمة : «ولكن ينقضه بيقين آخر» بل هذا المعنى هو الموافق لنص أهل اللغة ، واما إطلاقه على تساوي الاعتقادين فهو اصطلاح بعض أهل المعقول وحينئذ فالشك بالمعنى المذكور ـ وهو مطلق التجويز لكل من طرفي النسبة ـ لا انقلاب فيه عند ملاحظة ذلك الاستصحاب ولا يرفع يقينه ، ألا ترى انه قال : «فيؤول إلى اجتماع الظن والشك» أي إلى اجتماع ظن طرفي النسبة وتجويز مخالفه ، ولم يعبر بلفظ الانقلاب المؤدي إلى الانقلاب كما وقع في كلام المعترض. وهو جيد متين إلا ان فيه مناقشة من جهة أخرى سيأتي بيانها ان شاء الله تعالى.

وأجاب السيد السند في المدارك بحمل الحدث هنا على ما تترتب عليه الطهارة أعني نفس السبب لا الأثر الحاصل من ذلك ، قال : «وتيقن حصوله بهذا المعنى لا ينافي الشك في وقوع الطهارة بعده وان اتحد وقتهما» انتهى. وأنت خبير بان مجرد الحمل على نفس السبب لا يحسم مادة الإشكال ما لم يعتبر تعدد زماني الشك واليقين أو تعدد زمان متعلقيهما.


والأظهر في وجه الجواب ان يقال بجواز التزام اجتماع الشك واليقين في زمان واحد مع تعدد زمان متعلقيهما ، كأن يتيقن الآن حصول الحدث في زمان ماض أعم من ان يراد بالحدث نفس السبب أو الأثر المترتب عليه ثم يشك أيضا في ذلك الآن في وقوع طهارة سابقة متأخرة عن ذلك الحدث ، سواء أريد بالطهارة نفس الوضوء أو أثره المترتب عليه ، ولا شك ان اجتماع اليقين والشك هنا في زمن واحد مما لا شك فيه ولا خلل يعتريه ، لعدم تناقض متعلقيهما لاختلاف زمانيهما كمن تيقن عند الظهر وقوع التطهر صبحا وهو شاك في انقطاعه ، وحينئذ لا يحتاج إلى تكلف التخصيص بالسبب مع ما عرفت فيه. ولا حمل اليقين على الظن.

(الثالثة) ـ هل الظن المقابل لليقين حكمه حكم الشك في وجوب إطراحه بمعارضة اليقين أم لا؟ المشهور ذلك. وظاهر شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين المخالفة في ذلك ، حيث قال ـ بعد ان صرح أولا بان ما ذكروه من ان اليقين لا يرتفع بالشك يرجع إلى استصحاب الحال إلى ان يعلم الزوال ، فان العاقل إذا التفت إلى ما حصل بيقين ولم يعلم ولم يظن طرو ما بزيله حصل له الظن ببقائه ـ ما صورته : «ثم لا يخفى ان الظن الحاصل بالاستصحاب في من تيقن الطهارة وشك في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعف بطول المدة شيئا فشيئا بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان بل ربما يصير الطرف الراجح مرجوحا ، كما إذا توضأ عند الصبح ـ مثلا ـ وذهل عن التحفظ ثم شك عند الغروب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل ان المدار على الظن ، فما دام باقيا فالعمل عليه وان ضعف» ثم نقل عن العلامة في المنتهى ان من ظن الحدث وتيقن الطهارة لا يلتفت ، لان الظن انما يعتبر مع اعتبار الشارع له ، ولأن في ذلك رجوعا عن المتيقن إلى المظنون ، وقال بعده : «انتهى وفيه نظر لا يخفى على المتأمل فيما تلوناه» هذا كلامه (قدس‌سره).

وبعض محققي متأخري المتأخرين بعد ان جزم بموافقة المشهور في صورة الشك


في الحدث مع يقين الطهارة لدلالة ما قدمنا من الأخبار على ذلك استشكل في صورة العكس لعدم الدليل ، قائلا في توجيه الإشكال : «لأن صحيحة زرارة المتقدمة كما يمكن ان يستدل بها على عدم اعتبار الظن نظرا الى مفهوم «ولكن ينقضه بيقين آخر» كذلك يمكن ان يستدل بها على اعتباره بمفهوم «لا ينقض اليقين بالشك» مع ان الأصل براءة الذمة» انتهى.

أقول : وفيه ان ظاهر قضية الاستدراك يوجب عدم اعتبار الظن بل مساوقته للشك ثم ، وهو المفهوم من جملة الأخبار الواردة في عدم معارضة الشك باليقين ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره الى قوله : فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت ولم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». ومن المعلوم ان المراد بالشك هنا ما يشمل الظن ، ومثله في الأخبار غير عزيز يقف عليه المتتبع.

ثم أقول : أنت خبير بأن الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) لما بنوا الأحكام الشرعية على ما في الواقع ونفس الأمر وحملوا العلم واليقين في الأخبار المتعلقة بتلك الأحكام على ما هو المطابق للواقع ، أشكل عليهم المخرج في موارد كثيرة تقف عليها في أثناء مباحث هذا الكتاب ان شاء الله تعالى ، وأنت إذا تأملت بعين التحقيق والإنصاف علمت ان الله سبحانه لم يجعل شيئا من الأحكام الشرعية منوطا بالواقع ونفس الأمر دفعا للحرج ولزوم تكليف ما لا يطاق ، فان يقين الطهارة من النجاسة الذي أوجب الشارع البناء عليه ودفع الشك به في لباس المصلي وبدنه وماء طهارته ونحوها

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 و 37 و 41 و 42 و 44 ـ من أبواب النجاسات بنحو التقطيع.


ليس إلا عبارة عن عدم العلم بملاقاة النجاسة لا العلم بالعدم ، فكذلك أيضا يقين الطهارة للصلاة من وضوء وغسل وتيمم ليس إلا عبارة عن فعلها مع عدم العلم بناقض لها لا مع العلم بالعدم ، وحينئذ فالمراد بهذا اليقين المذكور في الأخبار ما هو أعم من اليقين الواقعي أعني العلم بالعدم والظن باصطلاحهم ، وليس له فرد يقابله إلا الشك خاصة الذي هو عبارة عن تجويز المخالفة واحتمالها ، والحمل على الشك الذي هو عبارة عن المعنى المشهور بينهم اصطلاح متأخر مخالف لكلام أهل اللغة ، حيث نص في القاموس والصحاح على ان الشك خلاف اليقين ، مع انهم قد قرروا في غير موضع وجوب حمل الألفاظ الواردة في كلام حافظ الشريعة مع عدم الحقيقة الشرعية أو العرفية الخاصة على المعنى اللغوي ، وحينئذ فالشك في الحدث مع تيقن الطهارة ـ مثلا ـ ليس إلا عبارة عن تيقن فعل الطهارة مع عدم العلم بالناقض لها ثم يحصل له بسبب عروض بعض الأشياء شك في انتقاض طهارته يعني احتمال وتجويز انتقاضها ، أعم من ان يكون ذلك الاحتمال والتجويز قويا كما ربما عبر عنه في الأخبار بالظن أو ضعيفا يعبر عنه بالوهم أو الشك ، واما لو توضأ صبحا ثم انه شك في آخر النهار بسبب طول المدة في انه هل أحدث أم لا وان كان من عادته في سائر الأيام الحدث في أثناء النهار وعدم الوضوء فهذا لا يخرج عما ذكرنا أيضا ، فالعمل على هذا الشك خيال نفساني بل وسواس شيطاني وان قوى حتى يبلغ مرتبة الظن ، بل هذا بمقتضى ما ذكرنا من الأخبار متطهر يقينا يعمل على يقين طهارته وبذلك يظهر لك ما في كلام هؤلاء الفضلاء (نور الله تعالى تربتهم وأعلى رتبتهم) ولا سيما كلام شيخنا البهائي. هذا هو التحقيق في المقام والله سبحانه الهادي إلى سواء الطريق في جملة الأحكام.

(المسألة الخامسة عشرة) ـ لو تيقن الطهارة والحدث معا وشك في المتأخر فقد أطلق الأكثر سيما المتقدمين وجوب الوضوء ، لعموم الأوامر الدالة على وجوب الوضوء عند إرادة الصلاة من الكتاب والسنة ، خرج منه متيقن الطهارة ، ويدل عليه


خصوص ما ذكره في كتاب فقه الرضا (1) قال (عليه‌السلام): «وان كنت على يقين من الوضوء والحدث ولا تدري أيهما سبق فتوضأ». وبهذه العبارة صرح في الفقيه من غير اسناد إلى امام كما هي عادته غالبا من كون ما ينقله فيه عاريا عن النسبة مأخوذا من هذا الكتاب كما أشرنا إليه آنفا ، ولانه من المعلوم المقطوع إيجاب الشارع الدخول في الصلاة بطهارة يقينية والمنع من الدخول بالحدث ، وهذان اليقينان هنا قد تصادما ، ولم يعلم من الشارع ترجيح لأحدهما ، فالعمل على أحدهما ترجيح من غير مرجح ، فيجب إلغاؤهما معا والرجوع إلى حكم الأصل من البقاء على الحدث الذي لا ينفك الإنسان عنه في سائر أحواله. ومع المناقشة فيما ذكرنا لا أقل ان يكون ذلك من قبيل الشبهات المأمور فيها بالاحتياط كما استفاض عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) ولا ريب ان الاحتياط في الطهارة (لا يقال) : ان الاحتياط ليس بدليل شرعي كما يتداوله جملة من المتأخرين ومتأخريهم (لأنا نقول) : قد قدمنا لك في المقدمة الرابعة ما يدل على كونه في مثل هذا المقام دليلا شرعيا.

وفي المسألة قولان آخران : (أحدهما) ـ لثاني المحققين صريحا وأولهما ظاهرا ، وهو انه ينظر إلى حاله قبل الطهارة والحدث المفروضين فان جهلها تطهر وان علمها أخذ بضد ما علمه ، واحتج عليه في المعتبر بأنه ان كان سابقا محدثا فقد تيقن رفع ذلك الحدث بالطهارة المتيقنة مع الحدث الآخر ، لأنها ان كانت بعد الحدثين أو بينهما فقد ارتفعت الأحداث السابقة بها ، وانتقاضها بالحدث الآخر غير معلوم للشك في تأخره ، فيكون متيقنا للطهارة شاكا في الحدث ، وان كان متطهرا فقد تيقن انه نقض تلك الطهارة بالحدث المتيقن مع الطهارة ، ورفعه بالطهارة الأخرى غير معلوم لجواز تقدمها عليه تجديدا للطهارة السابقة أو مع الذهول عنها ، فيكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة. وضعفه ظاهر ، لأن الأحداث السابقة في الصورة الاولى وان ارتفعت بالطهارة المجامعة

__________________

(1) في الصحيفة 2.


للحدث الأخير ، وكذلك الطهارة السابقة في الصورة الثانية وان ارتفعت بالحدث المجامع لتلك الطهارة الأخيرة ، لكن يبقى الشك في رفع ذلك الحدث الأخير بالطهارة المجامعة له ونقضها له من حيث الشك في تقدم أيهما على الآخر ، وغاية ما يفيده كلامه رفع الحالة السابقة من طهارة أو حدث واما محل الاشكال فهو باق على الاشتباه والاحتمال.

و (ثانيهما) ـ ما نقل عن المختلف ، حيث قال ـ بعد ان نقل عن الأصحاب إطلاق القول بإعادة الطهارة في المسألة ـ ما صورته : «ونحن فصلنا ذلك في أكثر كتبنا وقلنا ان كان في الزمن السابق على زمان تصادم الاحتمالين محدثا وجب عليه الطهارة ، وان كان متطهرا لم يجب ، ومثاله انه إذا تيقن عند الزوال انه نقض طهارة وتوضأ عن حدث وشك في السابق فإنه يستصحب الحال السابق على الزوال ، فان كان في تلك الحال متطهرا فهو على طهارته ، لانه تيقن انه نقض تلك الطهارة وتوضأ ولا يمكن ان يتوضأ عن حدث مع بقاء تلك الطهارة ، ونقض الطهارة الثانية مشكوك فيه فلا يزول عن اليقين بالشك ، وان كان قبل الزوال محدثا فهو الآن محدث ، لانه تيقن انه انتقل عنه إلى طهارة ثم نقضها والطهارة بعد نقضها مشكوك فيها» انتهى. وفيه ان ما ذكره يشعر بان طهارته لا تقع إلا رافعة وحدثه لا يكون إلا ناقضا ، والظاهر ان هذا بعينه ما ذكره في القواعد من قوله : «ولو تيقنهما متحدين متعاقبين وشك في المتأخر فان لم يعلم حاله قبل زمانهما تطهر وإلا استصحب» ومراده بالاتحاد تساوي اعداد الطهارات والأحداث وبالتعاقب وقوع الطهارة بعد الحدث وبالعكس ، ومثله في التذكرة أيضا ، وبذلك تخرج المسألة عن باب الشك إلا ان يحمل على انه باعتبار أول الأمر وفي عبارته في المختلف مناقشات رأينا الإغماض عن التطويل بالتعرض لها أولى.

(المسألة السادسة عشرة) ـ من تيقن بعد الصلاة بطهارتين ترك عضو من إحداهما أو وقوع حدث بعد إحداهما ففيه صور :

(الاولى) ـ من توضأ ثم أحدث وضوء آخر ثم صلى ثم ذكر الإخلال بعضو


من احدى الطهارتين ، فهذان الوضوء ان اما ان يكونا معا واجبين أو مندوبين أو الأول واجبا والثاني مندوبا أو بالعكس ، وعلى التقادير الأربعة اما ان تعتبر القربة خاصة أو يضم إليها الوجه فقط أو يضم إلى ذلك أحد الأمرين من الرفع والاستباحة ، وحيث انه لا دليل عندنا على زيادة شي‌ء وراء القربة فالصلاة المذكورة صحيحة ، لأن الإخلال ان كان من الأولى فالثانية صحيحة عندنا ، وان كان من الثانية فالأولى صحيحة اتفاقا ، فلا حاجة إلى إعادتها ولا إعادة الطهارة ، واما على تقدير ضم شي‌ء آخر إلى القربة ففيه تفاصيل يلزم في بعضها اعادة كل من الوضوء والصلاة ، ولا ثمرة مهمة عندنا في تطويل الكلام بالبحث عن تلك الشقوق ، مع ضرورة صرف الوقت فيما هو أهم من ذلك ، ومن أحب الوقوف عليها فليرجع إلى مطولات أصحابنا (شكر الله تعالى سعيهم) وأيضا فإنا قررنا في هذا الكتاب ان لا نطول البحث إلا في موضع أغفلوا تحقيقه ، الا ان الشهيد في البيان نقل عن السيد جمال الدين ابن طاوس (قدس‌سره) عدم الالتفات إلى هذا الشك مطلقا لاندراجه تحت الشك في الوضوء بعد الفراغ ، واستوجهه أيضا ، وقواه العلامة في المنتهى ، قال في المدارك بعد نقل ذلك تبعا لما لخصه في الذكرى : «ويمكن الفرق بين الصورتين بان اليقين هنا حاصل بالترك وانما حصل الشك في موضعه بخلاف الشك بعد الفراغ ، فإنه لا يقين فيه بوجه ، والمتبادر من الأخبار المتضمنة لعدم الالتفات إلى الشك في الوضوء بعد الفراغ الوضوء المتحد الذي حصل الشك فيه بعد الفراغ منه» انتهى. وفيه ان يقين حصول الترك انما حصل بالنظر إلى الوضوءين معا اما بالنظر إلى كل واحد على حدة فإنه غير متيقن الترك بل مشكوكة ، لأصالة الصحة واحتمال كون الترك من الآخر ، نظير ما قرره (قدس‌سره) في مسألة الإناءين المتيقن وقوع النجاسة في أحدهما من ان كل واحد متيقن الطهارة مشكوك النجاسة.

(الصورة الثانية) ـ وهي الأولى بعينها ولكنه صلى بالوضوء الأول فرضا وبالثاني فرضا آخر من غير تخلل حدث ، وقد صرح الشيخ في المبسوط بوجوب إعادة


الصلاة المتوسطة بين الطهارتين لاحتمال ان يكون الخلل واقعا من الطهارة الاولى ، واما الفريضة الأخيرة فصحيحة. وهذا واضح مع الحكم بصحة الوضوء الثاني كما اخترناه ، فإن الأخيرة حينئذ واقعة بوضوء صحيح اما الأول أو الثاني ، واما على تقدير العدم فيعيدهما معا ، وبه صرح ابن إدريس بناء على ان الوضوء الثاني عندهم لم يحصل به رفع ولا استباحة ، واختاره في المختلف لاشتراطه ذلك في النية أيضا. ويأتي على ما ذهب اليه جمال الدين والعلامة في المنتهى واختاره بعض محققي متأخري المتأخرين أيضا عدم إعادة شي‌ء من الصلاتين. ثم انه يأتي على القول الأول والثالث عدم اعادة الوضوء لحصول طهارة صحيحة عنده على الأول وصحتهما لعدم تأثير الشك في شي‌ء منهما على الثالث ، وعلى الثاني تجب الإعادة لعدم صحة شي‌ء منهما ، اما الأولى فباعتبار احتمال ترك العضو منها ، والثانية غير رافعة ولا مبيحة.

واستشكل بعض مشايخنا المحققين في وجوب إعادة الصلاة المتخللة كما هو قول المبسوط أو كلتا الصلاتين كما هو القول الآخر ، قائلا بأنه انما تجب إعادة الصلاة بعد الفراغ منها على تقدير تعين فسادها ، وهو انما يحصل على تقدير حصول كل احتمال ممكن الوقوع ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن أحد الاحتمالين الممكنين هنا كون الإخلال من الثانية فتصح الصلاتان على القولين ، فوجوب إعادتهما يستلزم نقض اليقين بالشك المنهي عنه عموما ، والخروج عن القاعدة المجمع عليها المندرج ما نحن فيه تحتها عموما من ان الشك بعد الفراغ لا يلتفت اليه ، وليس عدم تعين الصحة كافيا في الوجوب ، وادعاء ان الشك في الصحة كالشك في أصل الإيقاع ـ والأصل بقاء شغل الذمة بها حتى يعلم المزيل ـ دعوى عارية عن الدليل ، وان تمت فإنما تتم مع بقاء الوقت ، لان الشك في الإيقاع بعد الفوت لا يوجب القضاء ، لعدم كون وجوب الأداء كافيا في سببية وجوبه إذ هو بأمر جديد ، والأمر الجديد ب «من فاتته صلاة فليقضها كما فاتته» (1)

__________________

(1) هذا المضمون مستفاد من الأخبار الدالة على وجوب قضاء الصلوات الفائتة


لا يتناوله ، لعدم حصول ما علق عليه ، ولقول الصادق (عليه‌السلام) في حسنة زرارة والفضيل (1) : «ومتى استيقنت أو شككت في وقت فريضة انك لم تصلها أو في وقت فوتها انك لم تصلها صليتها ، وان شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل فلا اعادة عليك من شك حتى تستيقن ...». وليس فساد احدى الطهارتين بمقتض ليقين فساد احدى الصلاتين ، لجواز كون الفاسدة واقعا هي الثانية وفسادها لا يقتضي فساد إحداهما بل يقتضي صحتهما ، فظهر ان وجوب إعادة الطهارة ـ لما يستقبل من الصلاة على تقدير القول به كما هو مقتضى كلام الفاضلين ـ لا يقتضي وجوب إعادة شي‌ء من الصلاتين ، لان وجه وجوب إعادتهما عند يقين حدث سابق على الطهارتين الاندراج في حكم الشك في الطهارتين مع يقين الحدث ، باعتبار ان الشك في حصول الطهارة المبيحة أو الرافعة شك في أصلها وهو لا يعارض يقين الحدث ، وذلك لا يوجب إعادة الصلاة ، لأن الشك في الطهارة مع يقين الحدث انما يبطل من الصلوات ما وقع بعده بلا طهارة لا ما سبقه لمضيه على الصحة. ولم أقف لأحد من أصحابنا في هذا المقام على إيماء لما أشرنا اليه إلا ان الأدلة تدل عليه ، انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.

وقد تلخص مما ذكرنا في هذه الصورة أقوال أربعة : (أحدها) ـ وجوب إعادة الصلاة المتوسطة وعدم اعادة الوضوء كما هو مقتضى كلام المبسوط. و (ثانيها) ـ وجوب اعادة الوضوء والصلاتين معا كما هو قول ابن إدريس والمختلف. و (ثالثها) ـ عدم إعادة شي‌ء من الوضوء والصلاة كما هو مقتضى كلام السيد جمال الدين (قدس‌سره) و (رابعها) ـ صحة الصلاتين واعادة الوضوء كما يشعر به آخر هذا الكلام الأخير ، الا ان يحمل آخر كلامه على التنزل والمجاراة دون الاختيار لذلك ، وإلا فيرد عليه ان

__________________

المروية في الوسائل في الباب 1 من قضاء الصلوات ، ومنها صحيحة زرارة المروية في الباب 6 منه.

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 60 ـ من مواقيت الصلاة.


جل ما ذكره من التعليلات في عدم إعادة الصلاة يجري في الوضوء أيضا كما لا يخفى.

(الصورة الثالثة) ـ هي الثانية بعينها ولكن مع تخلل الحدث بعد الصلاة المتوسطة ، والظاهر انه لا ريب في إعادة الوضوء حينئذ ، لأنه ـ بالحدث السابق على الطهارة الاولى والحدث المتوسط مع احتمال كون العضو المتروك من كل من الطهارتين ـ يكون متيقنا للحدث شاكا في الطهارة ، ولا ريب أيضا في بطلان احدى الصلاتين لبطلان احدى الطهارتين ، لكن هل يجب حينئذ اعادة الفرضين معا لتوقف الخروج من العهدة يقينا عليه ، أم يخص ذلك بما إذا اختلفا عددا وإلا فيكفي الإتيان بفريضة واحدة مرددة في نيتها؟ الأكثر على الثاني ، وإلى الأول ذهب الشيخ في المبسوط بل أوجب أيضا بناء على ذلك قضاء الخمس لو صلاها بخمس طهارات ثم ذكر الإخلال المذكور في إحدى الطهارات مع تخلل الحدث بين كل طهارة وصلاة منها ، وتبعه أبو الصلاح وابن زهرة ، وربما لزم على تقدير ما ذهب اليه السيد جمال الدين عدم وجوب إعادة شي‌ء من الوضوء والصلاتين ، لصدق انه شك بعد الفراغ ، والظاهر انه لا يلتزمه.

ويدل على قول الأكثر ورود النص في من فاتته صلاة من الخمس مشتبهة انه يكتفي باثنتين وثلاث واربع مرددة (1) إما لكون العلة في الجميع واحدة ، أو لكون المتنازع فيه داخلا في موضوع الخبر ، بان يقال ان بطلان الصلاة ببطلان شرطها المتوقف صحتها عليه فوت يدخل في عموم «من فاتته. الخبر» ويؤيد ذلك أيضا قول ابي جعفر (عليه‌السلام) في حسنة زرارة (2) : «... وان نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وأنت في الصلاة أو بعد فراغك فانوها الاولى ثم صل العصر ، فإنما هي أربع مكان اربع ...». لكن يشكل من حيث اختلاف هيئتي الجهرية والإخفاتية جهرا وإخفاتا

__________________

(1) وهو مرسل على بن أسباط ومرفوع الحسين بن سعيد المرويان في الوسائل في الباب 11 من قضاء الصلوات.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 63 ـ من مواقيت الصلاة.


وان ذكروا انه مخير بين الجهر والإخفات في صورة اجتماعهما في الفرض المردد. وأورد عليه أيضا وجوب الجزم في النية مع الإمكان فلا تجزئ النية المرددة ، وهذا لازم على المورد في صورة مورد الخبر المتقدم.

(الصورة الرابعة) ـ ان يتوضأ وضوءين ويصلي بكل منهما فرضا ثم يذكر الحدث عقيب واحد منهما غير معين ، فان قلنا بالاكتفاء بالقربة فالطهارتان صحيحتان وانما يقع الشك في فريضة واحدة باعتبار احتمال كون الحدث عقيب الطهارة الأولى فتبطل الصلاة الأولى خاصة واحتمال كونه عقيب الثانية فتبطل الصلاة الثانية خاصة ، فيرجع الكلام حينئذ إلى ما تقدم من وجوب إعادتهما معا ان اختلفتا عددا تحصيلا ليقين البراءة ، وإلا فذلك العدد مرددا في النية ، ومقتضى ما نقل عن الشيخ آنفا اعادة الجميع مطلقا ، لكن لم أر من تصدى لنقل مذهبه هنا ، وان لم نقل بالاكتفاء بالقربة ـ حسبما تقدم في الصورة الاولى من التفصيل ـ وجب اعادة الجميع ، لاحتمال كون الحدث عقيب الاولى فتبطل الصلاة الواقعة بعدها ، والوضوء الثاني انما وقع بنية التجديد وهو غير مبيح ولا رافع فتبطل الصلاة الواقعة بعده ، وعلى كل تقدير فيجب إعادة الطهارة هنا لاحتمال وقوع الحدث بعد الطهارة الثانية فيلزم بطلانها مع سابقتها بخلاف صورة الإخلال فإنه إنما تبطل الطهارة التي وقع فيها خاصة فتسلم له الأخرى.

(المسألة السابعة عشرة) ـ يكره الوضوء بجملة من المياه : منها ـ الماء المشمس في الآنية على المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل نقل الشيخ في الخلاف الإجماع عليه لكنه اشترط في الحكم القصد إلى ذلك ، وصرح في المبسوط بالتعميم وأطلق في النهاية ، وهو الذي عليه جمهور الأصحاب.

والأصل في هذه المسألة رواية السكوني عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : الماء الذي تسخنه الشمس لا تتوضؤوا به

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء المضاف.


ولا تغتسلوا به ولا تعجنوا به ، فإنه يورث البرص».

وما رواه الصدوق (رضي‌الله‌عنه) في كتاب العلل (1) بسنده إلى ابن عباس قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : خمس تورث البرص. وعد منها التوضؤ والاغتسال بالماء الذي تسخنه الشمس».

وموثقة إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (2) قال : «دخل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على عائشة وقد وضعت قمقمتها في الشمس ، فقال يا حميراء ما هذا؟ قالت : اغسل رأسي وجسدي. قال : لا تعودي فإنه يورث البرص».

وحمل النهي على الكراهة لمرسلة محمد بن سنان عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «لا بأس بأن يتوضأ بالماء الذي يوضع في الشمس».

وربما علل الحمل على الكراهة بضعف سند الروايات المذكورة كما هو طريقة جملة من المتأخرين ومتأخريهم. وفيه ما تقدم في مقدمات الكتاب من ان ضعف السند ليس من جملة قرائن المجاز الصارفة عن الحمل على الحقيقة ، ولو علل بذكر وجه الحكمة في الخبر لكان أقرب.

تنبيهات :

(الأول) ـ ظاهر الخبر الأول والثاني ثبوت الكراهة ، سواء كان في آنية أو غيرها من حوض وساقية ، وسواء كانت الآنية منطبعة أم لا ، وسواء قصد إلى تسخينه أو تسخن من قبل نفسه ، وسواء كانت البلاد حارة أو معتدلة ، وبهذا الإطلاق حكم جملة من الأصحاب ، الا ان ظاهرهم نفى الكراهة في غير الآنية ، بل نقل عن العلامة في النهاية والتذكرة الإجماع عليه ، وظاهر العلامة في النهاية اشتراط كونه في الأواني المنطبعة غير الذهب والفضة ، قال : «لان الشمس إذا أثرت فيها استخرجت

__________________

(1) رواه في الخصال ج 1 ص 128.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء المضاف.


منها زهومة تعلو الماء ومنها يتولد المحذور» وفيه ان العلة المذكورة لبيان وجه الحكمة فلا يجب اطرادها ، وعلل الشرع ـ كما صرحوا به ـ معرفات لا علل حقيقة يدور المعلول مدارها وجودا وعدما.

(الثاني) ـ الحق جماعة من الأصحاب بالطهارة سائر وجوه الاستعمالات ، واقتصر جماعة : منهم ـ الشهيد في الذكرى على العجين وفاقا للصدوق ووقوفا على ظاهر النص

(الثالث) ـ هل يشترط القلة في الماء؟ قولان.

(الرابع) ـ الظاهر ترتب الأثر المذكور على المداومة دون مجرد المرة أو المرتين ولعل في قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في موثقة إبراهيم بن عبد الحميد ـ : «لا تعودي» من الاعتياد أو تعودي من العود ـ إيماء إلى ذلك.

(الخامس) ـ هل تبقى الكراهة وان زال التشميس أم لا؟ قولان ، قطع بأولهما الشهيد في الذكرى وتبعه جمع من المتأخرين ، تمسكا بالاستصحاب ، وبقاء التعليل وصدق الاسم بناء على ان المشتق لا يشترط في صدقه بقاء مأخذ الاشتقاق. ويرد على الأول عدم ثبوت حجية الاستصحاب في مثل هذا المقام ، إذ الاستصحاب الذي يستفاد من الأخبار جواز الاعتماد عليه هو ما إذا دل الدليل على حكم من غير تقييد بزمان ولا كيفية ولا حالة مخصوصة ، فإنه يستصحب الحكم المذكور في جميع الأزمان والحالات عملا بعموم الدليل كما تقدم تحقيقه في المقدمة الثالثة (1) الا انه ربما يقال هنا ان مقتضى الدليل الدال على كراهة الوضوء بالمتسخن بالشمس عموم ذلك لما بعد زوال السخونة ، وقد مر نظيره في المسألة الرابعة من الفصل الثاني من الباب الأول (2) وتكلمنا في ذلك بما اقتضاه المقام. وعلى الثاني ما تقدم هنا. وعلى الثالث (أولا) ـ عدم الدليل على صحة الاعتماد على هذه القاعدة كما تقدم تحقيقه في المقدمة التاسعة. و (ثانيا) ـ منع صدق الاسم ، فان صدق المشتق مع عدم بقاء مأخذ الاشتقاق لو سلم فهو مخصوص بما إذا لم يطرأ على المحل

__________________

(1) في الصحيفة 51.

(2) ج 1 ص 246.


وصف وجودي يضاده ، وهنا ليس كذلك لطرو وصف البرودة المضاد لوصف السخونة وما أجاب به في المعالم وتبعه بعض أفاضل متأخري المتأخرين ـ من ان الاشتقاق هنا من التسخين لا من السخونة ، وحينئذ ولو طرأ الوصف الوجودي لكنه لا يضاد الأول لاشتراط وحدة الفاعل في التضاد ـ ففيه ان الحكم منوط بالتسخن كما هو المشهور لا بالتسخين وان ذهب اليه الشيخ كما تقدم ذكره ، وحينئذ فالتضاد حاصل كما حققنا ذلك في كتاب الدرر النجفية.

(السادس) ـ صرح جملة من الأصحاب بأن الحكم بالكراهة مخصوص بما إذا وجد ماء غيره للطهارة ، إذ مع عدم وجدان غيره يتعين استعماله عينا وهو مناف لتعلق النهي به. واعترض عليه بأنه لا منافاة بين الوجوب عينا والكراهة في الصلاة ونحوها على بعض الوجوه ، واللازم من ذلك عدم زوال الكراهة بفقد غيره ، لبقاء العلة وعدم منافاة وجوب الاستعمال لها.

أقول : والتحقيق انه ان فسرت الكراهة بالمعنى المصطلح الأصولي وهو ما يترجح تركه على فعله فالمنافاة حاصلة سواء وجد ماء غيره أو لم يوجد ، فإنه كما لا ريب في منافاة تعلق الأمر الإيجابي العيني بشي‌ء مع النهي التنزيهي ، كذلك يأتي مثله في الأمر الإيجابي التخييري مع النهي التنزيهي ، إذ كما يكون الأمر بالشي‌ء امرا إيجابيا عينيا مانعا من تعلق النهي به المقتضى لمرجوحيته ، كذلك الأمر به امرا تخييريا المقتضى لرجحانه يمنع من تعلق النهي المقتضي لمرجوحيته ، وسيأتي تحقيق المسألة ان شاء الله تعالى.

و (منها) ـ الماء الآجن ، لحسنة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «في الماء الآجن؟ يتوضأ منه إلا ان يجد غيره فيتنزه عنه».

و (منها) ـ الماء الذي مات فيه عقرب ، لموثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق.


السلام) (1) وفيها «وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من ماء غيره». ومثلها موثقة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (2).

و (منها) ـ سؤر الحائض ، لموثقة الحسين (3) ـ والظاهر انه ابن أبي العلاء الخفاف ـ قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحائض يشرب من سؤرها قال : نعم ، ولا يتوضأ منه». وقيدها جملة من المتأخرين بالمتهمة ، ويدل على التقييد المذكور موثقة علي بن يقطين (4) وربما ظهر من التهذيب والاستبصار التحريم لظاهر النهي. وتحقيق المسألة قد تقدم في بحث الأسآر.

(المسألة الثامنة عشرة) ـ قد صرح جملة من الأصحاب بكراهة الوضوء في المسجد من حدث البول والغائط ، لصحيحة رفاعة (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الوضوء في المسجد فكرهه من البول والغائط». وقال الشيخ في النهاية وتبعه ابن إدريس : «لا يجوز التوضؤ من الغائط والبول في المساجد ولا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك» وسوى ابن إدريس بين المنع من الوضوء من الغائط والمنع من إزالة النجاسة فيها ، وفي المبسوط «لا يجوز إزالة النجاسة في المساجد ولا الاستنجاء من البول والغائط فيها ، وغسل الأعضاء في الوضوء لا بأس به فيها» ويحتمل قريبا ـ بل لعله الأقرب ـ حمل كلام الشيخ في النهاية على الاستنجاء وحمل الرواية المتقدمة أيضا على ذلك ، فان استعمال الوضوء بمعنى الاستنجاء ـ بل بمعنى مطلق الغسل ، والكراهة بمعنى التحريم ـ شائع في الأخبار وكلام المتقدمين.

وروى بكير في الحسن عن أحدهما (عليهما‌السلام) (6) قال : «إذا كان الحدث في المسجد فلا بأس بالوضوء في المسجد». ولعل المراد بالحدث في المسجد مثل النوم

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الأسآر.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الأسآر.

(5 و 6) المروية في الوسائل في الباب ـ 57 ـ من أبواب الوضوء.


والريح مثلا ، ومفهوم الرواية على ما ذكرنا انه لو كان النوم في غير المسجد كره الوضوء له في المسجد ، ولا ينافي ذلك مفهوم الرواية الأولى بناء على حمل الوضوء فيها على الرافع للحدث ، لان ذلك مفهوم لقب.

ثم انه لو اتفق حصول البول أو الغائط في المسجد اختيارا أو اضطرارا فهل يتصف الوضوء له في المسجد بالكراهة أم لا؟ ظاهر الرواية الأولى ـ بناء على كون الوضوء فيها بمعنى الرافع ـ ذلك ، ولكن ينافيه ظاهر الرواية الثانية ، الا ان تخص بما ذكرنا أو تحمل على ان وقوع حدث البول والغائط في المسجد لما كان نادرا أطلق الحكم بعدم البأس في المسجد من الحدث الواقع فيه. ويحتمل عدم الكراهة عملا بإطلاق الرواية الثانية وعمومها ، وحمل الاولى على ان البول والغائط لما كان حدوثهما في المسجد نادرا فلذا أطلق عليهما كراهة الوضوء لهما في المسجد ، ويعضده أصالة البراءة من الكراهة. والله العالم.

(المسألة التاسعة عشرة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كراهة التمندل بعد الوضوء ، وقيل بعدم الكراهة ، ونقله في المدارك عن ظاهر المرتضى في شرح الرسالة وأحد قولي الشيخ.

ويدل على الكراهة ما روي بعدة طرق في الكافي وثواب الأعمال والمحاسن (1) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «من توضأ وتمندل كتبت له حسنة ، ومن توضأ ولم يتمندل حتى يجف وضوؤه كتبت له ثلاثون حسنة».

ويدل على الجواز روايات كثيرة : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم (2) : «قال سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن التمسح بالمنديل قبل ان يجف. قال لا بأس به».

ورواية الحضرمي عنه (عليه‌السلام) (3) قال : «لا بأس بمسح الرجل وجهه بالثوب إذا توضأ إذا كان الثوب نظيفا».

وموثقة إسماعيل بن الفضل (4) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) توضأ

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 45 ـ من أبواب الوضوء.


للصلاة ثم مسح وجهه بأسفل قميصه ، ثم قال : يا إسماعيل افعل هكذا فاني هكذا افعل.

وصحيحة منصور بن حازم (1) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وقد توضأ وهو محرم ثم أخذ منديلا فمسح به وجهه».

وصحيحته المروية في المحاسن (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يمسح وجهه بالمنديل. قال : لا بأس به».

ومرسلة عبد الله بن سنان المروية فيه أيضا (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن التمندل بعد الوضوء. فقال : كان لعلي (عليه‌السلام) خرقة في المسجد ليس الا للوجه يتمندل بها». وروى مثله مسندا في الصحيح عن عبد الله بن سنان (4).

وبذلك الإسناد أيضا (5) قال : «كانت لعلي (عليه‌السلام) خرقة يعلقها في مسجد بيته لوجهه إذا توضأ تمندل بها».

وروى فيه أيضا عن محمد بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (6) قال : «كانت لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) خرقة يمسح بها وجهه إذا توضأ للصلاة ثم يعلقها على وتد ولا يمسها غيره».

وأنت خبير بانا لو خلينا وظاهر هذه الأخبار لكان المستفاد منها استحباب ذلك لظاهر حديث إسماعيل بن الفضل الدال بظاهره على مداومته (عليه‌السلام) على ذلك وكذلك اخبار المحاسن عن علي (عليه‌السلام) كما لا يخفى على المتأمل فيها ، فإنها ظاهرة في مداومته (عليه‌السلام) على ذلك ، ومن البعيد مداومته على ذلك الأمر المكروه ، والحديث الأول يضعف عن معارضتها لوحدته وتعددها. والجمع بين الأخبار بما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي ـ بحمل الخبر الأول على الأفضل والاولى وحمل خبر الحضرمي وصحيحة محمد بن مسلم على الرخصة والجواز وحمل خبر إسماعيل بن الفضل على الضرورة من برد وخوف شين وشقاق ـ وان احتمل بالنسبة إلى الأخبار التي ذكرها إلا ان اخبار فعل علي (عليه‌السلام) الدالة بظاهرها على المداومة على ذلك لا تقبل الحمل على

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) المروية في الوسائل في الباب ـ 45 ـ من أبواب الوضوء.


الضرورة ولا على مجرد الجواز كما لا يخفى ولعل الأقرب الحمل على التقية (1) الا ان

__________________

(1) اختلف فقهاء المذاهب في التمندل بعد الوضوء ، ففي المدونة لمالك ج 1 ص 17 «لا بأس بالمسح بالمنديل بعد الوضوء» وتبعه الزرقانى في شرح مختصر أبي الضياء ج 1 ص 47 قال : «لا يندب ترك مسح الأعضاء بخرقة بل يجوز» وفي المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 141 «لا بأس بتنشيف أعضائه بالمنديل من بلل الوضوء والغسل» قال : «وممن روى عنه أخذ المنديل بعد الوضوء عثمان والحسن بن على وانس وكثير من أهل العلم ، ونهى عنه جابر بن عبد الله ، وكرهه عبد الرحمن بن مهدي وجماعة من أهل العلم» وفي المنهاج للنووي الشافعي ص 4 «من سنن الوضوء ترك التنشيف في الأصح» وفي الوجيز للغزالي «لا ينشف الأعضاء فهي سنة على أظهر الوجهين» وفي شرح المنهاج لابن حجر ج 1 ص 101 «ان النووي في شرح مسلم اختار اباحة التنشيف مطلقا» وفي شرح الدر المختار للحصفكي الحنفي ج 1 ص 25 «من آداب الوضوء التمسح بمنديل».

ولا يفوت القارئ الكريم الوقوف على شي‌ء طالما طعن أهل السنة به على الشيعة الإمامية وهو العمل بالتقية التي جوزها الكتاب المجيد حيث يقول في آل عمران 28 : «لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْ‌ءٍ إِلّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً» ويقول في النحل 106 : «إِلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ» ولم يتباعد عن العمل بالتقية علماء أهل السنة ، ففي تفسير الالوسى ج 3 ص 121 في الآية الاولى «ان فيها دلالة على مشروعية التقية ، وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء سواء كان العداء لأجل اختلاف الدين أو للأغراض الدنيوية» ثم قال : «وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والظلمة والفسقة بالتبسم في وجوههم والانبساط معهم» وقال ابن العربي في (أحكام القرآن) ج 2 ص 223 في الحجرات 2 «لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» : جوز الشافعي ونظراؤه الائتمام في الجماعة خلف الفاسق ومن لا يؤتمن على حبة من مال ، وأصله ان الولاة الذين يصلون بالناس جماعة لما فسدت أديانهم ولم يمكن ترك الصلاة معهم ولا يستطاع إزالتهم صلى معهم وراءهم ، ومن الناس من إذا صلى معهم تقية أعادها ومنهم من يكتفى بها ، وانا أقول بوجوب إعادتها سرا ولكن لا ينبغي ترك الصلاة معهم» وقال الالوسى المفسر في رسالته (الأجوبة العراقية) ص 225 : «المسألة 22 ـ كنت أصلي الظهر في البيت بعد صلاة الجمعة وأنكر في قلبي على من يصليها


فيه أيضا ما لا يخفى ، قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار بعد نقل جملة من هذه الأخبار : «والذي يظهر لي انه لما اشتهر بين بعض العامة كأبي حنيفة وجماعة منهم نجاسة غسالة الوضوء وكانوا يعدون لذلك منديلا يجففون به أعضاء الوضوء ويغسلون المنديل ، فلذا نهوا عن ذلك وكانوا يتمسحون بأثوابهم ردا عليهم ، كما روى عن مروان بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : توضأ. ثم نقل حديث إسماعيل بن الفضل إلى ان قال : فيمكن حمل تلك الأخبار على التقية أو انه لم يكن بقصد الاجتناب عن الغسالة أو انه كان لبيان الجواز» انتهى. ولا يخفى ما فيه. والحكم لا يخلو من شوب الاشكال.

ثم انه هل يختص الحكم بالمسح بالمنديل فلا يلحق به غيره ، أو يشمل الذيل

__________________

في الجامع جماعة وانه ليضيق صدري ولا ينطلق لساني» وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي ج 1 ص 482 «لا تصح امامة الفاسق مطلقا وإذا لم تصح صلى معه دفعا للأذى ويعيد ، وقرأ المروزي على احمد بن حنبل ان انس بن مالك كان يصلى المكتوبة في منزله ويصلى الجمعة خلف الحجاج فلم ينكر ذلك احمد» وفي مناقب أبي حنيفة للخوارزمي ج 1 ص 171 حيدر اباد «ان أبا حنيفة كان يقول امام ابن هبيرة : «عمر أفضل من على تقية» وفيه ص 171 وفي مناقبه للبزار في ذيل مناقبه للخوارزمي ص 172 «كان المشايخ في زمان بنى أمية لا يذكرون عليا (ع) باسمه خوفا منهم والعلامة بينهم إذا رووا عن على ان يقولوا قال الشيخ كذا ، وكان الحسن البصري يتقي في الرواية عن على بن أبي طالب فيقول روى (أبو زينب) كناية عنه خوفا من بنى مروان» وروى ابن قدامة في المغني ج 2 ص 186 عن أبي الحارث «انه لا يصلى خلف مرجى‌ء ولا رافضي ولا فاسق إلا ان يخافهم فيصلي ويعيد» ولم يتعقب هذه الرواية. وفي تاريخ بغداد للخطيب ج 13 ص 380 «كان أبو حنيفة يعمل بالتقية خوفا» وفي تفسير المنار ج 3 ص 281 و (اقتضاء الصراط المستقيم) لابن تيمية ص 176 و (التبصير في الدين الإسلامي) للاسفرائينى ص 164 و (الروض الباسم) للوزير اليماني ج 2 ص 41 والنجوم الزاهرة لابن تغربردى الحنفي ج 2 ص 219 ما يؤيد ذلك.


والكم ونحوهما ، أو المنديل والذيل خاصة ، أو يلحق به التجفيف بالنار والشمس أيضا؟ أقوال ، ولعل الأظهر منها الاقتصار على المنديل وقوفا فيما خالف الأصل على موضع الوفاق ، ولاشتمال أكثر الأخبار المتقدمة عليه خاصة.

فائدة

لا يخفى ان المكروه في اصطلاح الأصوليين والفقهاء عبارة عما يكون عدمه راجحا على وجوده ، وهذا المعنى لما لم يتم إجراؤه في العبادات في المواضع التي ورد النهي عنها لرجحان الإتيان بها على عدمه ، فسروا الكراهة فيها بمعنى آخر وهو باعتبار اقلية الثواب فيها بالنسبة إلى عبادة أخرى.

وأورد عليه بان ذلك منتقض بكثير من المستحبات والواجبات التي بعض أفرادها أقل ثوابا من الآخر مع ان الأقل ثوابا منها بالنسبة إلى الأكثر لا يطلق عليه الكراهة.

وربما أجيب بأن المراد أقل ثوابا من مثله اي فرد أخر من نوعه.

وفيه أيضا ما تقدم ، فإن الصلاة في أحد المساجد أقل ثوابا بالنسبة إلى الصلاة في المسجد الحرام بل بعض المساجد بالنسبة إلى آخر مع انه لا يوسم الأقل منها بالنسبة إلى الأكثر بالكراهة ، وأيضا فإن صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء ليس أقل ثوابا من صوم آخر مع انه مكروه.

قيل : «والحق ان يقال المراد ان ضده أفضل منه ، مثلا ـ الدعاء يوم عرفة أفضل من الصوم المضعف عنه فمكروه العبادة انما يكون في صورة تكون فيها عبادتان متضادتان» انتهى أقول : أنت خبير بان مكروه العبادة ـ على ما عرفت ـ هو ما تعلق به النهي التنزيهي أعم من ان يكون معه عبادة أخرى مضادة أم لا ، فإن الصلاة في الحمام ونحوه ـ من الأماكن المنهي عنها في الأخبار والوضوء في المسجد وبالماء المشمس ونحوها ـ ليس لها عبادة أخرى مضادة لها.


والتحقيق في الجواب ان المراد بمكروه العبادة ما كان أقل ثوابا منها نفسها لو لم تكن كذلك بل كانت متصفة بأصل الإباحة ، ويدل على ذلك ما تقدم من حديث «من توضأ وتمندل كتبت له حسنة ومن توضأ ولم يتمندل كتبت له ثلاثون حسنة». وتوضيح ذلك ان يقال : ان العبادة قد تكون بحيث لا يتعلق بها أمر ولا نهي غير الأمر الذي تعلق بأصل فعلها ، وبهذا المعنى تتصف بالإباحة كالصلاة في البيت البعيد عن المسجد أو حال المطر ، وقد يتعلق بها أمر زائد على الأول باعتبار اتصافها أو اشتمالها على أمر راجح به كالصلاة في المسجد مثلا إلا مع عذر مسقط ، وربما انتهى إلى حد الوجوب كما إذا نذر إيقاعها فيه ، وقد يتعلق بها نهي بالاعتبار المذكور مع المرجوحية كالصلاة في الحمام ، وربما انتهى إلى حد التحريم كصلاة الحائض والصلاة في الدار المغصوبة على أشهر القولين ، وحينئذ فمكروه العبادة هو ما كان أقل ثوابا بالاعتبار المذكور آنفا منها نفسها لو لم تكن كذلك بل كانت متصفة بصفة الإباحة المذكورة ، فالصلاة في الحمام مكروهة بمعنى أنها أقل ثوابا منها في البيت مثلا لا في المسجد ، فلا يرد حينئذ ما أورد سابقا من ان الكراهة بمعنى اقلية الثواب توجب كون الصلاة في جميع المساجد مكروهة لكونها أقل ثوابا من الصلاة في المسجد الحرام ، فان المعتبر ـ كما عرفت ـ في المفضل عليه بالأقلية هو المتصف بأصل الإباحة ، وهكذا بالنسبة إلى ما لم يوجد فيه أمر زائد على الأول. والله العالم.

تم الجزء الثاني من كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ويتلوه الجزء الثالث في الغسل. والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعترته الطيبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *