ج13 - نية الصوم ويوم الشك
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه أجمعين
محمد وآله الطاهرين
وهنا فوائد ينبغي التنبيه عليها قبل الشروع في المقصود الأولى ـ الصوم لغة الإمساك ، قال في القاموس : صام صوما
وصياما واصطام : أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير. وقال في المصباح
المنير : قيل هو مطلق الإمساك في اللغة ثم استعمل في الشرع في إمساك مخصوص ، وقال
أبو عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم ، قال خيل صيام وخيل غير صائمة
ـ تحت العجاج واخرى تعلك اللجما. أى قيام بلا اعتلاف. انتهى. وقال ابن دريد : كل
شيء سكنت حركته فقد صام يصوم صوما. وفي الآية الشريفة حكاية عن مريم عليهاالسلام «إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً» (1) أى صمتا. وكلماتهم متفقة على انه
حقيقة في الإمساك وان كان عن كل شيء بنسبته ، واما في الشرع فإنه عبارة عن إمساك
مخصوص يأتي بيانه.
الثانية ـ قال العلامة في المنتهى : ان الصوم ينقسم الى
واجب وندب ومكروه ومحظور ، فالواجب ستة : صوم شهر رمضان والكفارات ودم
__________________
(1) سورة مريم الآية 28.
المتعة والنذر وما في معناه من اليمين
والعهد والاعتكاف على بعض الوجوه وقضاء الواجب ، والندب جميع أيام السنة إلا
العيدين وأيام التشريق لمن كان بمنى ، والمؤكد منه أربعة عشر : صوم ثلاثة أيام في
كل شهر وأيام البيض والغدير ومولد النبي صلىاللهعليهوآله ومبعثه ودحو
الأرض وعرفة لمن لا يضعفه عن الدعاء وعاشوراء على جهة الحزن والمباهلة وكل خميس
وكل جمعة وأول ذي الحجة ورجب وشعبان ، والمكروه أربعة : صوم عرفة لمن يضعفه عن
الدعاء أو شك في الهلال والنافلة سفرا عدا ثلاثة أيام الحاجة بالمدينة والضيف
نافلة بغير اذن مضيفه وكذا الولد من غير اذن الوالد والصوم ندبا لمن دعي إلى طعام
، والمحظور تسعة : صوم العيدين وأيام التشريق لمن كان بمنى ويوم الشك بنية الفرض
وصوم نذر المعصية وصوم الصمت وصوم الوصال وصوم المرأة والعبد ندبا من غير اذن
الزوج والمالك وصوم الواجب سفرا عدا ما استثنى. انتهى.
وروى ثقة الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه مسندا في
الأول ومرسلا في الثاني عن الزهري عن على بن الحسين (عليهماالسلام) (1) قال : «قال لي
يوما يا زهري من أين جئت؟ فقلت من المسجد. قال فيم كنتم؟ قلت تذاكرنا أمر الصوم
فاجمع رأيي ورأى أصحابي على انه ليس من الصوم شيء واجب إلا صوم شهر رمضان. فقال :
يا زهري ليس كما قلتم الصوم على أربعين وجها. وفي كتاب الفقه
الرضوي (2) قال : «اعلم
ان الصوم على أربعين وجها» ونحن نسوق الحديث بالروايتين ونشير الى مواضع الزيادة
والنقصان من أحدهما متى اتفق ـ فعشرة أوجه منها واجبة كوجوب شهر رمضان وعشرة أوجه
منها صيامهن حرام وأربعة عشر وجها منها صاحبها بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر
وصوم الاذن على ثلاثة أوجه وصوم التأديب وصوم الإباحة وصوم السفر والمرض.
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من بقية الصوم الواجب.
(2) ص 23.
ففي حديث الفقه بعد ذلك «اما الصوم
الواجب» وفي حديث الزهري «قلت جعلت فداك فسرهن لي» قال : اما الواجب فصيام شهر
رمضان وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار لقول الله تعالى (وَالَّذِينَ
يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا). الى قوله
تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) (1) وصيام شهرين
متتابعين في من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا ، وصيام شهرين متتابعين في قتل
الخطأ لمن لم يجد العتق واجب لقول الله تعالى (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ). إلى قوله
تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ
تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (2). وفي كتاب
الفقه اقتصر على قوله «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتابِعَيْنِ» وصوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب
لمن لم يجد الإطعام قال الله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ
أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) (3) كل ذلك متتابع
وليس بمتفرق ، وصيام أذى حلق الرأس واجب قال الله تبارك وتعالى (4) (أَوْ
بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (5) فصاحبها فيها
بالخيار فان صام صام ثلاثة أيام ، وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدى قال الله
تبارك وتعالى (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ) (6) الى قوله (فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (7) وصوم جزاء
الصيد واجب قال الله تبارك وتعالى (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) (8) الى قوله(أَوْ
عَدْلُ ذلِكَ
__________________
(1) سورة المجادلة الآية 5 و 6.
(2) سورة النساء الآية 95.
(3) سورة المائدة الآية 92.
(4) «فَمَنْ
كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ...» هكذا في كتب الحديث.
(5 و 7) سورة البقرة الآية 193.
(6) «فَمَنْ
تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ ...» هكذا في كتب الحديث.
(8) في كتب الحديث هكذا «وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ
طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً».
صِياماً) (1) ، ففي حديث
الزهري هنا «أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري؟ قال قلت لا أدرى فقال يقوم
الصيد قيمة عدل ثم تفض تلك القيمة على البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف
صاع يوما» وفي كتاب الفقه الرضوي «واروى عن العالم عليهالسلام انه قال : أتدرون
كيف يكون عدل ذلك صياما؟ فقيل له لا. فقال يقوم الصيد قيمة ثم يشترى بتلك القيمة
البر ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما» وصوم النذر واجب وصوم
الاعتكاف واجب. واما الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى وثلاثة أيام التشريق
وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه : أمرنا أن نصومه من شعبان (2) ونهينا عنه ان
ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس. ففي كتاب الفقه «فان لم يكن صام
من شعبان شيئا ينوي به ليلة الشك أنه صائم من شعبان» وفي حديث الزهري «فقلت له
جعلت فداك فان لم يكن صام من شعبان شيئا كيف يصنع؟ قال ينوي ليلة الشك أنه صائم من
شعبان فان كان من شهر رمضان أجزأ عنه وان كان من شعبان لم يضره» ففي حديث الزهري
هنا «فقلت وكيف يجزئ صوم تطوع عن فريضة؟ فقال لو أن رجلا صام يوما من شهر رمضان
تطوعا وهو لا يعلم انه من شهر رمضان ثم علم بعد ذلك لأجزأ عنه لأن الفرض إنما وقع
على اليوم بعينه» وفي كتاب الفقه. ولو ان رجلا صام شهرا تطوعا في بلد الكفر فلما
ان عرف كان شهر رمضان وهو لا يدرى ولا يعلم انه من شهر رمضان وصام بأنه من غيره ثم
علم بعد ذلك أجزأ عنه من رمضان لأن الفرض إنما وقع على الشهر بعينه» وصوم الوصال
حرام وصوم الصمت حرام وصوم نذر المعصية حرام وصوم الدهر حرام. واما الصوم الذي
صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة والخميس والاثنين وصوم أيام البيض وصوم ستة
أيام من شوال بعد الفطر بيوم. وفي
__________________
(1) سورة المائدة الآية 97.
(2) في كتب الحديث هكذا : «مع صيام شعبان».
حديث الزهري هنا «وصوم ستة أيام من
شوال بعد شهر رمضان وصوم عرفة وصوم يوم عاشوراء» ولعل هذين اليومين سقط ذكرهما
غلطا من النساخ (1) فان الكتاب
غير خال من الغلط. فكل ذلك صاحبه فيه بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر. واما صوم
الإذن فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه
والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحب البيت (2) قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من نزل على
قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم. واما صوم التأديب فإنه يؤمر (3) الصبي إذا بلغ
سبع سنين بالصوم تأديبا وليس ذلك بفرض. وزاد في كتاب الفقه هنا «وان لم يقدر إلا
نصف النهار يفطر إذا غلبه العطش» وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم قوى بقية
يومه أمر بالإمساك عن الطعام بقية يومه تأديبا وليس بفرض ، وكذلك المسافر إذا أكل
من أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض. وزاد في
رواية الزهري «وكذلك الحائض إذا طهرت أمسكت بقية يومها» واما صوم الإباحة فمن أكل
أو شرب ناسيا أو قاء من غير تعمد فقد أباح الله له ذلك وأجزأ عنه صومه. واما صوم
السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك فقال قوم يصوم وقال آخرون لا يصوم وقال
قوم ان شاء صام وان شاء أفطر (4) واما نحن
فنقول يفطر في الحالين جميعا فان صام في السفر أو في حال المرض
__________________
(1) في الفقه الرضوي المطبوع هكذا : «وصوم ستة أيام من شوال
بعد الفطر بيوم ويوم عرفة ويوم عاشوراء وكل ذلك.
(2) هكذا في الفقه ، وفي كتب الحديث الناقلة لحديث الزهري «إلا
بإذن صاحبه».
(3) هكذا في الفقيه ج 2 ص 48 ، وفي الفروع ج 1 ص 186 والتهذيب
ج 1 ص 430 «يؤخذ الصبي» وفي الجميع «إذا راهق» بدل «إذا بلغ سبع سنين» نعم ذلك في
الفقه الرضوي.
(4) المغني ج 3 ص 149 والمحلى ج 6 ص 247 ونيل الأوطار ج 4 ص
237 وبداية المجتهد ج 1 ص 285 ولم أقف ما في حضرني من كتب العامة على وجوب الصوم
في المرض نعم في الفقه على المذاهب الأربعة قسم العبادات ص 456 عن الشافعية
فعليه القضاء فان الله تعالى يقول (فَمَنْ
كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (1) فهذا تفسير
الصيام». انتهى.
أقول : وسيأتي تحقيق القول في كل من هذه الأشياء
المعدودة هنا في محله ان شاء الله تعالى.
قال المحدث الكاشاني في كتاب الوافي بعد نقل حديث الزهري
: بيان ـ محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري راوي هذا الحديث وان كان خصيصا بعلي بن
الحسين (عليهماالسلام) وكان له ميل
ومحبة إلا انه لما كان من العامة وفقهائهم أجمل عليهالسلام معه في الكلام
ولم يذكر له صيام السنة ولا صيام الترغيب لعدم اشتهار خصوصهما بين العامة ، وما
زعمته العامة من صيام الترغيب والسنة سماه عليهالسلام بالذي فيه
الخيار لصاحبه تنبيها له على عدم الترغيب فيه فان أكثره من ما ترك صيامه أولى
ولصيام بعضه شرائط كما يأتي في الأخبار إنشاء الله تعالى (2) قوله عليهالسلام : «أن ينفرد
الرجل بصيامه» اضافة الى الفاعل وانفراده به عبارة عن افراده عن سائر أيام شعبان
بالصيام فإنه مظنة لاعتقاده وجوبه وكونه من شهر رمضان ، أو المراد انفراده من بين
جمهور الناس بصيامه من شهر رمضان مع عدم ثبوت كونه منه ، يدل على هذا حديث الزهري
الآتي في باب صيام يوم الشك في هذا المعنى فإنه نص فيه وهو بعينه هذا الحديث إلا
انه أورده بابين من هذا ، ويأتي تمام تحقيق هذا المقام في ذلك الباب مع معنى قوله عليهالسلام : «وأمرنا به
أن نصومه مع صيام شعبان» ان شاء الله تعالى. انتهى.
أقول : والظاهر ان الرضا عليهالسلام جرى على ذلك
في الكتاب المذكور تقية.
الثالثة ـ لا ريب ان الصوم من أفضل الطاعات وأشرف
العبادات إذا وقع على الوجه المأمور به ، ولو لم يكن فيه إلا الارتقاء من حضيض
حظوظ النفس
__________________
لا يجوز الفطر للصحيح الذي يظن بالصوم حصول المرض. إلا ان هذا
يرجع الى اعتبار المرض بالفعل.
(1) سورة البقرة الآية 181.
(2) ارجع الى الاستدراكات في آخر الكتاب.
البهيمية إلى ذروة النشبة بالملائكة
الروحانية لكفى به فضلا ومنقبة ، وقد استفاضت الأخبار بفضله :
فروى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم
عن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام (1) قال : «بني
الإسلام على خمسة أشياء : على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية». وبهذا
المضمون أخبار عديدة (2).
وروى عمرو بن جميع (3) قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام قال قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله في حديث طويل
: الصيام جنة من النار».
وروى حفص بن غياث (4) قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول ان شهر
رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا. فقلت له فقول الله عزوجل : (يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (5)؟ قال إنما فرض
الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضا
على رسول الله صلىاللهعليهوآله وعلى أمته».
وروى في الفقيه عن ابى عبد الله عليهالسلام مرسلا وفي
الكافي مسندا (6) قال : «أوحى
الله الى موسى عليهالسلام ما يمنعك من
مناجاتي؟ فقال يا رب أجلك عن المناجاة لخلوف فم الصائم. فأوحى الله إليه يا موسى
لخلوف فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك».
وروى في الفقيه عن ابى عبد الله عليهالسلام (7) قال : «للصائم
فرحتان : فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه».
وروى فيه عن رسول الله صلىاللهعليهوآله (8) قال : «قال
الله الصوم لي وأنا أجزي به».
__________________
(1 و 3 و 6 و 7 و 8) الوسائل الباب 1 من الصوم المندوب.
(2) الوسائل الباب 1 من مقدمة العبادات.
(4) الوسائل الباب 1 من أحكام شهر رمضان.
(5) سورة البقرة الآية 180.
وروى في الكافي عن الكناني عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «ان
الله تبارك وتعالى يقول الصوم لي وأنا أجزي عليه».
وروى الصدوق في الفقيه عن الصادق عليهالسلام (2) قال : «نوم
الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله متقبل ودعاؤه مستجاب».
وروى في الكافي مسندا والفقيه مرسلا (3) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام من صام لله
يوما في شدة الحر فأصابه ظمأ وكل الله به الف ملك يمسحون وجهه ويبشرونه حتى إذا
أفطر قال الله تعالى : ما أطيب ريحك وروحك ملائكتي اشهدوا انى قد غفرت له».
وروى في الفقيه (4) قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ما من صائم
يحضر قوما يطعمون إلا سبحت له أعضاؤه وكانت صلاة الملائكة عليه وكانت صلاتهم
استغفارا». الى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن ذكرها المقام.
الرابعة ـ قد أورد ههنا سؤال مشهور على حديثي الكناني
والفقيه المتقدمين المتضمنين للحديث القدسي وقوله عزوجل : «الصوم لي
وأما أجزي عليه» بان كل الأعمال الصالحة لله فما وجه تخصيص انه له تبارك وتعالى؟
وأجيب بوجوه : الأول ـ انه اختص بترك الشهوات والملاذ في
الفرج والبطن وذلك أمر عظيم يوجب التشريف. وعورض بالجهاد فان فيه ترك الحياة فضلا
عن الشهوات ، وبالحج فان فيه الإحرام ومحظوراته كثيرة.
الثاني ـ ان الصوم يوجب صفاء العقل والفكر بواسطة ضعف
القوى الشهوانية بسبب الجوع ولذلك قال عليهالسلام (5) «لا تدخل
الحكمة جوفا مليء طعاما». وصفاء العقل والفكر يوجبان حصول المعارف الربانية التي
هي أشرف أحوال النفس الإنسانية.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 1 من الصوم المندوب.
(3) الوسائل الباب 3 من الصوم المندوب.
(4) الوسائل الباب 9 من آداب الصائم.
(5) ارجع الى الاستدراكات في آخر الكتاب.
ورد بأن سائر العبادات إذا واظب عليها
المكلف أورثت ذلك خصوصا الجهاد ، قال الله تعالى «وَالَّذِينَ
جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» (1) وقال الله تعالى «اتَّقُوا
اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ
لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ» (2).
الثالث ـ ان الصوم أمر خفي لا يمكن الاطلاع عليه فلذلك
شرف بخلاف الصلاة والحج والجهاد وغيرها من الأعمال. وعورض بان الايمان والإخلاص
وأفعال القلوب خفية مع ان الحديث متناول لها ، ويمكن دفعه بتخصيص الأعمال بأفعال
الجوارح لأنه المتبادر من اللفظ.
وقال بعض المحققين هب ان كل واحد من هذه الأجوبة مدخول
بما ذكر فلم لا يكون مجموعها هو الفارق فان هذه الأمور لا تجتمع في غير الصوم. وهو
جيد.
الخامسة ـ في علة فرض الصوم ، روى الصدوق في الصحيح عن
هشام بن الحكم (3) «انه سأل أبا
عبد الله عليهالسلام عن علة الصيام
فقال إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغنى والفقير وذلك ان الغنى لم يكن ليجد مس
الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه فأراد الله أن يسوى بين
خلقه وأن يذيق الغنى مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع». ورواه في
كتاب العلل عن هشام ابن الحكم (4) وزاد «ثم سألت أبا الحسن عليهالسلام فأجابني بمثل
جواب أبيه».
وبإسناده عن صفوان بن يحيى عن موسى بن بكر عن زرارة عن
الصادق عليهالسلام (5) قال : «لكل شيء
زكاة وزكاة الأجسام الصيام».
وبإسناده عن محمد بن سنان عن ابى الحسن الرضا عليهالسلام في ما كتب
اليه من جواب مسائله (6) «علة الصوم
لعرفان مس الجوع والعطش ليكون ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا صابرا ، ويكون ذلك
دليلا له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظاً له في
العاجل دليلا على الآجل ليعلم شدة مبلغ ذلك من أهل
__________________
(1) سورة العنكبوت الآية 70.
(2) سورة الحديد الآية 29.
(3 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 1 من وجوب الصوم ونيته.
الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة».
وبإسناده عن حمزة بن محمد (1) «انه كتب الى
ابى محمد عليهالسلام لم فرض الله
الصوم؟ فورد في الجواب ليجد الغنى مس الجوع فيمن على الفقير» ورواه الكليني مثله (2) إلا انه قال :
«ليجد الغنى مضض الجوع فيحنو على الفقير».
وروى في الفقيه عن الحسن بن على بن ابى طالب عليهالسلام (3) قال : «جاء
نفر من اليهود الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فسأله أعلمهم
عن مسائل فكان في ما سأله انه قال له لأي شيء فرض الله عزوجل الصوم على
أمتك بالنهار ثلاثين يوما وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي صلىاللهعليهوآله ان آدم عليهالسلام لما أكل من
الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما ففرض الله على ذريته ثلاثين يوما الجوع والعطش
والذي يأكلونه بالليل تفضل من الله عليهم وكذلك كان على آدم ففرض الله ذلك على
أمتي. ثم تلا هذه الآية «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيّاماً
مَعْدُوداتٍ» (4) قال اليهودي
صدقت يا محمد صلىاللهعليهوآله فما جزاء من
صامها؟ فقال النبي صلىاللهعليهوآله ما من مؤمن
يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله له سبع خصال : أولاها يذوب الحرام في جسده ،
والثانية يقرب من رحمة الله ، والثالثة يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم ، والرابعة
يهون الله عليه سكرات الموت ، والخامسة أمان من الجوع والعطش يوم القيامة ،
والسادسة يعطيه الله براءة من النار ، والسابعة يطعمه الله من طيبات الجنة. قال
صدقت يا محمد صلىاللهعليهوآله».
السادسة ـ في آداب الصائم ، روى الكليني في الحسن عن
محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليهالسلام (5) قال : «إذا
صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك. وعدد
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 1 من وجوب الصوم ونيته.
(3) الوسائل الباب 1 من أحكام شهر رمضان.
(4) سورة البقرة الآية 180 و 181.
(5) الوسائل الباب 11 من آداب الصائم.
أشياء غير هذا. وقال لا يكون يوم صومك
كيوم فطرك».
وعن جراح المدائني عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «ان
الصيام ليس من الطعام والشراب وحده. ثم قال : قالت مريم «إِنِّي
نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً» (2) أى صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم
وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا. قال : وسمع رسول الله صلىاللهعليهوآله امرأة تسب
جارية لها وهي صائمة فدعا رسول الله صلىاللهعليهوآله بطعام فقال
لها كلى فقالت إني صائمة فقال كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟ ان الصوم ليس من
الطعام والشراب. قال : وقال أبو عبد الله عليهالسلام إذا صمت فليصم
سمعك وبصرك من الحرام والقبيح ودع المراء وأذى الخادم وليكن عليك وقار الصائم ولا
تجعل يوم صومك كيوم فطرك».
وعن جابر عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله لجابر بن عبد
الله الأنصاري يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردا من ليله وعف بطنه
وفرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر. فقال جابر يا رسول الله صلىاللهعليهوآله ما أحسن هذا
الحديث فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله يا جابر ما
أشد هذه الشروط».
وعن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عن آبائه (عليهمالسلام) (4) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله ما من عبد
صائم يشتم فيقول انى صائم سلام عليك لا أشتمك كما تشتمني إلا قال الرب تبارك
وتعالى استجار عبدي بالصوم من شر عبدي قد أجرته من النار».
وفي كتاب الفقه الرضوي (5) : واعلم رحمك
الله ان الصوم حجاب ضربه الله
__________________
(1) الوسائل الباب 11 من آداب الصائم.
(2) سورة مريم الآية 28.
(3) الوسائل الباب 11 من آداب الصائم. والرواية عن ابى جعفر (ع).
(4) الفروع ج 1 ص 187 وفي الوسائل الباب 12 من آداب الصائم.
(5) ص 23.
عزوجل على الألسن
والأسماع والأبصار وسائر الجوارح حتى يستر به من النار وقد جعل الله على كل جارحة
حقا للصائم فمن أدى حقها كان صائما ومن ترك شيئا منها نقص من فضل صومه بحسب ما ترك
منها.
السابعة ـ قد اختلف في رمضان فقيل انه علم للشهر كرجب
وشعبان ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون ، وقيل انه اسم من أسماء الله تعالى ،
وعلى هذا فمعنى شهر رمضان شهر الله.
ويدل عليه ما رواه في الكافي عن هشام بن سالم في الصحيح
عن سعد عن ابى جعفر عليهالسلام (1) قال : «كنا
عنده ثمانية رجال فذكرنا رمضان فقال لا تقولوا هذا رمضان ولا ذهب رمضان ولا جاء
رمضان فان رمضان اسم من أسماء الله عزوجل لا يجيء ولا
يذهب وإنما يجيء ويذهب الزائل ولكن قولوا (شَهْرُ رَمَضانَ) فان الشهر
مضاف الى الاسم والاسم اسم الله عزوجل وهو الشهر
الذي أنزل فيه القرآن جعله مثلا وعيدا». ورواه الصدوق بإسناده عن البزنطي عن هشام
بن سالم عن سعد الخفاف (2) ورواه سعد بن
عبد الله في كتاب بصائر الدرجات عن احمد بن محمد بن عيسى عن احمد بن محمد بن ابى
نصر عن هشام بن سالم عن سعد بن طريف مثله (3).
وروى في الكافي أيضا عن غياث بن إبراهيم عن ابى عبد الله
عن أبيه (عليهماالسلام) (4) قال : «قال
أمير المؤمنين عليهالسلام لا تقولوا
رمضان ولكن قولوا شهر رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان». ورواه الصدوق في الفقيه عن
غياث مثله (5) وكذا رواه في
كتاب معاني الأخبار والذي قبله أيضا (6).
وقال الفيومي في كتاب المصباح المنير : قال بعض العلماء
يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه إذا أريد به الشهر وليس معه قرينة تدل عليه وإنما
يقال جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث (7) «لا تقولوا رمضان فان رمضان اسم من أسماء الله تعالى
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 19 من أحكام شهر رمضان.
(7) سنن البيهقي ج 4 ص 201 و 202.
ولكن قولوا شهر رمضان». وهذا الحديث
ضعفه البيهقي وضعفه ظاهر لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء ان رمضان من أسماء الله
تعالى فلا يعمل به. والظاهر جوازه من غير كراهة كما ذهب إليه البخاري وجماعة من
المحققين لأنه لم يصح في الكراهة شيء وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على
الجواز مطلقا كقوله (1) «إذا جاء رمضان
فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين». وقال القاضي عياض : وفي قوله
: «إذا جاء رمضان» دليل على جواز استعماله من غير لفظ شهر خلافا لمن كرهه من
العلماء. انتهى.
وفيه دلالة على ان الحديث بذلك مروي من طرقهم أيضا ولكن
بعضهم حكم بضعفه. وكيف كان فهو مرغوب عنه بعد ورود الأخبار عندنا بذلك. وما ورد في
بعض أخبارنا أيضا من ذكره مجردا عن الشهر محمول على الجواز وهو لا ينافي الكراهة.
ويؤيد ما قلناه ما نقله في كتاب مجمع البحرين عن الأزهري
قال : العرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان.
قال شيخنا الشهيد (قدسسره) في كتاب نكت
الإرشاد : فائدة ـ نهى عن التلفظ برمضان بل يقال شهر رمضان في أحاديث من أجودها
ما أسنده بعض الأفاضل إلى الكاظم عن أبيه عن آبائه (عليهمالسلام) (2) قال : «لا
تقولوا رمضان فإنكم لا تدرون ما رمضان فمن قاله فليتصدق وليصم كفارة لقوله ولكن
قولوا كما قال الله عزوجل (شَهْرُ
رَمَضانَ)» (3). انتهى.
أقول : ما نقله (قدسسره) من الخبر قد
نقله السيد السعيد ذو المقامات
__________________
(1) سنن البيهقي ج 4 ص 202 واللفظ فيه وفي المصباح «إذا جاء»
ولذا أوردناه كذلك وان كان الوارد في رواية «إذا دخل» كما ذكر ذلك في المجموع ج 6
ص 248.
(2) الوسائل الباب 19 من أحكام شهر رمضان.
(3) سورة البقرة الآية 182.
والكرامات رضى الدين بن طاوس في كتاب
الإقبال عن كتاب الجعفريات وهي ألف حديث بإسناد واحد الى مولانا موسى بن جعفر
الكاظم عليهالسلام (1) والظاهر ان
الكفارة فيه محمولة على الاستحباب وتغليظ الكراهة لما ثبت في كثير من الأخبار من
وروده مجردا عن لفظ شهر.
ثم انه على تقدير ما هو المشهور من انه اسم للشهر فقد
اختلفوا في اشتقاقه فعن الخليل (رحمهالله) انه من الرمض
بسكون الميم وهو مطر يأتي وقت الخريف يطهر وجه الأرض من الغبار ، سمى الشهر بذلك
لأنه يطهر الأبدان عن أوضار الأوزار. وقيل من الرمض بمعنى شدة الحر من وقع الشمس ،
قال الزمخشري في الكشاف : رمضان مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. سمى بذلك اما
لارتماضهم فيه من حر الجوع كما سموه ناتقا لأنه كان ينتقهم أى يزعجهم لشدته عليهم
أو لأن الذنوب ترمض فيه أى تحترق. وقيل انهم لما تقلوا أسماء الشهور عن اللغة
القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق الشهر أيام رمض الحر فسمى بذلك.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان البحث في هذا الكتاب يقع في مقاصد
ثلاثة :
المقصد الأول ـ في بيان الصوم وما يتحقق به وما يفسده
ومن يصح منه والكفارة المترتبة على الإفساد :
وفيه مطالب المطلب الأول ـ في النية والكلام فيها يقع في
مواضع الأول ـ لا ريب في وجوبها إذ لا عمل إلا بنية ، والأمر فيها عندنا سهل كما
قدمناه في كتاب الطهارة ، والكلام في كونها شرطا أو شطرا لا ثمرة فيه لأن القدر
المطلوب هو اعتبار النية في الصوم بحيث يبطل بتركها عمدا أو سهوا وهو ثابت على كل
من التقديرين. ولم يقم لنا دليل على اعتبار ما ذكروه فيها من القيود في هذا المقام
ولا غيره زائدا على القربة له عزوجل للآيات
والروايات الصريحة في توقف صحة العبادة على ذلك (2).
__________________
(1) الوسائل الباب 19 من أحكام شهر رمضان.
(2) اما الآيات فكقوله تعالى في سورة البينة الآية 5 «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا
وقد وقع الخلاف هنا في مواضع ثلاثة أحدها ـ انه هل يكفي
في شهر رمضان نية أنه يصوم غدا متقربا من غير اعتبار نية التعيين بكونه من شهر
رمضان أم لا بد من نية التعيين؟ قولان أولهما منقول عن الشيخ وبه صرح جملة من
الأصحاب : منهم ـ المحقق والعلامة في جملة من كتبه ، ونقل عن بعض الأصحاب الثاني.
احتج المحقق على ما اختاره بان المراد من نية التعيين وقوع
الفعل بها على أحد وجهيه فإذا لم يكن للفعل إلا وجه واحد استغنى عن نية التعيين
كرد الوديعة وتسليم الأمانات ، قال ويمكن أن يحتج عليه بقوله تعالى «فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ» (1) فإذا حصل مع نية التقرب فقد حصل
الامتثال وكان ما زاد منفيا.
واعترض عليه بما حاصله ان امتثال الأمر فرع تعقل المأمور
أن الآمر أمره بذلك الفعل فإذا لم يعتقد ان الصوم غدا من ما أمر الشارع بالإتيان
به فيه لم يكن ممتثلا للتكليف بالصوم غدا ، ونحن لا نعني بالتعيين سوى هذا إذ به
يتعين كونه من رمضان.
أقول : وعندي في هذا الخلاف ـ والبحث الذي أطالوا به
الكلام من ما ذكرنا وما أعرضنا عن نقله في هذا المقام من أصله ـ نظر فإنهم إن
أرادوا بهذه النية التي اختلفوا في اشتراط التعيين فيها وعدمه ما هو عبارة عن
التصوير الفكري ـ والحديث النفسي الذي يترجمه قول الصائم «أصوم غدا من شهر رمضان قربة
الى الله» كما ذكروه في الصلاة والطهارة ونحوهما من التصوير المشتمل على القيود
التي ذكروها ـ فهذا ليس هو النية كما حققناه في كتاب الطهارة بما لا مزيد عليه ،
وان أريد بالنية هو المعنى الذي حققناه ثمة وأوضحناه ـ من أنه القصد البسيط الذي
لا يكاد
__________________
اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ»
وقوله
تعالى في سورة الزمر الآية 17 «قُلِ
اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي»
واما
الروايات فكالروايات الدالة على توقف العمل على النية وقد أوردها في الوسائل في
الباب 5 من مقدمة العبادات وفي أبواب متفرقة منها الباب 2 من وجوب الصوم ونيته.
(1) سورة البقرة الآية 182.
ينفك عنه عاقل عند ارادة الفعل وانه
أمر جبلي لو كلف الله بعدمه لكان تكليفا بما لا يطاق ـ فهذا الكلام لا معنى له ،
وذلك لأن التكليف بصيام شهر رمضان من الضروريات الدينية ، وحينئذ فكل مكلف دخل
عليه هذا الشهر وبادر الى صيامه قربة الى الله تعالى فان تعين كونه من شهر رمضان
أمر لا يتصور انفكاكه عنه ولا خلوه منه حتى يصح أن يكون مطرحا للخلاف بأنه لو صام
مع عدم تعيين كونه من شهر رمضان هل يصح صومه أم لا من ما يؤذن بأنه يمكن الإتيان
بالصيام مع عدم اعتقاد كونه من شهر رمضان. نعم يمكن فرض ذلك نادرا ممن عرض له
السهو عن كونه في شهر رمضان وهو خارج عن محل المسألة وغير صالح لمطرح الخلاف.
وثانيها ـ انهم اختلفوا أيضا في انه هل يشترط في نية صوم
النذر المعين قصد التعيين أم لا؟ فنقل عن المرتضى وابن إدريس الثاني وقواه العلامة
في المنتهى واعتمده في المدارك ، وقيل بالأول وهو منقول عن الشيخ وجماعة واختاره
في المختلف.
حجة القول الثاني انه زمان تعين بالنذر للصوم فكان كشهر
رمضان ، واختلافهما بأصالة التعين وعرضيته لا يقتضي اختلافهما في هذا الحكم.
واحتج في المختلف على القول الأول بأنه زمان لم يعينه
الشارع في الأصل للصوم فافتقر الى التعيين كالنذر المطلق. وبان الأصل وجوب التعيين
إذ الأفعال إنما تقع على الوجوه المقصودة ، ترك ذلك في شهر رمضان لأنه زمان لا يقع
فيه غيره فيبقى الباقي على الأصالة.
ورد الأول بأنه مصادرة على المطلوب وإلحاقه بالنذر
المطلق قياس مع الفارق والثاني بمنع أصالة الوجوب ، ولأن الوجه الذي لأجله ترك
العمل بالأصل الذي ذكره في صوم شهر رمضان آت في النذر المعين ، فإنه ان أريد بعدم
وقوع غيره فيه استحالته عقلا كان منفيا فيهما وان أريد امتناعه شرعا كان ثابتا
فيهما.
أقول : لا يخفى أيضا ان هذا الخلاف انما يجرى في النية
التي هي عبارة عن ذلك التصوير الفكري والحديث النفسي الذي أشرنا اليه وبينا أنه
ليس هو النية
حقيقة ، واما النية بالمعنى الذي
حققناه فإنه لا معنى لهذا الكلام بالكلية ، فإن من نذر صوما معينا ثم قصد الإتيان
بذلك فإنه لا ريب في حصول التعيين عنده ، بل لو أراد الصوم على الوجه المذكور من
غير التعيين لم يتيسر له ولهذا عد في تكليف ما لا يطاق من حيث انه جبلي لا يمكن
الانفكاك عنه مع القصد المذكور إلا أن يكون ساهيا أو ذاهلا وهو خارج عن محل البحث.
وثالثها ـ انه هل يعتبر نية الوجه من الوجوب أو الندب؟
قولان وظاهر جماعة ممن قال باعتبار نية الوجه سقوطه هنا من حيث عدم إمكان وقوع شهر
رمضان بنية الندب للمكلف به فلا يحتاج الى التمييز عنه. إلا أن يقال بوجوب إيقاع
الفعل بوجهه من وجوب أو ندب كما ذكره المتكلمون فيحب ذلك وان لم يكن مميزا.
قال في المسالك بعد ذكر ذلك : ولا ريب ان اضافة الوجوب
إلى القربة أحوط وضم التعيين إليهما أفضل والتعرض للأداء مع ذلك أكمل. انتهى. وفيه
نظر وتحقيق البحث في المسألة قد مر مستوفى في كتاب الطهارة.
هذا في ما كان متعينا واما غيره كالقضاء والنذر المطلق
والكفارة والنافلة فقد صرحوا بأنه لا بد من التعيين لوقوعه على وجوه متعددة فافتقر
إلى نية التعيين ليتميز المنوي عن غيره. قال في المعتبر : وعلى ذلك فتوى الأصحاب.
أقول : ما ذكروه هنا متجه لا إشكال فيه لأن الفعل الواحد
الواقع على أنحاء متعددة لا ينصرف إلى أحدها إلا بقصده ونيته ولكن يكفي في ذلك
تعينه بأول القصد إلى إيقاعه ولا يحتاج بعده الى تصوير ولا حديث في النفس كما هو
النية المشهورة بينهم.
الثاني ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا
بد من إيقاع النية ليلا في أوله أو آخره ، وبعبارة أخرى لا بد من حصولها عند أول
جزء من الصوم أو تبييتها ، لأن الإخلال بكل من الأمرين يقتضي مضى جزء من الصوم
بغير نية
فيفسد لفوات شرطه والصوم لا يتبعض.
ولو نسيها ليلا جددها ما بينه وبين الزوال فلو زالت الشمس زال محلها.
وقال ابن أبى عقيل : يجب على من كان صومه فرضا عند آل
الرسول (عليهمالسلام) أن يقدم
النية في اعتقاد صومه ذلك من الليل. وهو ظاهر في وجوب تبييتها ، ويمكن حمله على
تعذر المقارنة بها فان الطلوع لا يعلم إلا بعد وقوعه فتقع النية بعده وهو يستلزم
فوات جزء من النهار بغير نية.
وقال ابن الجنيد : ويستحب للصائم فرضا وغير فرض أن يبيت
الصيام من الليل لما يريد به ، وجائز أن يبتدئ بالنية وقد بقي بعض النهار ويحتسب
به من واجب إذا لم يكن أحدث ما ينقض الصيام ، ولو جعله تطوعا كان أحوط. وظاهره
جواز تجديد النية في الفرض وغيره بعد الزوال مع الذكر والنسيان ، وحمل كلامه على
ان مراده بالفرض غير المعين وإلا فهو باطل.
وقال المرتضى (رضياللهعنه) : ووقت النية
في الصيام الواجب من قبل طلوع الفجر الى قبل زوال الشمس. فان كان مراده بالامتداد
الى وقت الزوال ما هو أعم من وقت الاختيار والاضطرار ليخص الامتداد الى الزوال
بالناسي ونحوه فهو صحيح وإلا فهو مشكل. وظاهر الدليل الذي نقله عنه في المختلف هو
ان مراده الامتداد ولو للمختار حسبما سيأتي في قضاء شهر رمضان ، وحينئذ فيكون
كلامه مخالفا لما عليه الأصحاب في المسألة.
واما ان الناسي للنية ليلا يجددها ما بينه وبين الزوال
فقال المحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة والمنتهى انه موضع وفاق بين الأصحاب.
واستدلوا عليه بما روى (1) «ان ليلة الشك
أصبح الناس فجاء أعرابي إلى النبي.
__________________
(1) لم أقف حتى في كتب الحديث للعامة على حديث بهذا اللفظ
والمضمون وقد نقل البيهقي في السنن ج 4 ص 211 و 212 عدة أحاديث في هذا الموضوع :
أولها عن عكرمة عن ابن عباس وهو يتضمن شهادة الأعرابي الواحد وفي آخره قال (ص) «يا
بلال أذن في
صلىاللهعليهوآله فشهد برؤية
الهلال فأمر النبي صلىاللهعليهوآله مناديا ينادى
من لم يأكل فليصم ومن أكل فليمسك». قال في المنتهى فإذا جاز مع العذر وهو الجهل
بالهلال جاز مع النسيان
__________________
الناس أن يصوموا غدا». والثاني أيضا عن عكرمة عن ابن عباس وقد
تضمن مجيء الأعرابي ليلة هلال رمضان وفي آخره : فنادى ان صوموا. والثالث عن عكرمة
«أنهم شكوا في هلال رمضان مرة فأرادوا أن لا يقوموا ولا يصوموا فجاء أعرابي من
الحرة فشهد انه رأى الهلال فاتى به النبي (ص). الى ان قال فأمر (ص) بلالا فنادى في
الناس أن يقوموا وان يصوموا». ثم قال البيهقي : قال أبو داود : ورواه جماعة عن
سماك عن عكرمة مرسلا ولم يذكر القيام أحد إلا حماد بن سلمة. ثم نقل من كتاب
المستدرك لأبي عبد الله الحافظ نفس الحديث بطريق ينتهي إلى حماد بن سلمة عن سماك
عن عكرمة عن ابن عباس. والرابع يتضمن رؤية ابن عمر الهلال واخباره رسول الله (ص)
وانه صام وأمر الناس بصيامه. والخامس يتضمن رؤية الهلال بعد رسول الله (ص) والسادس
عن فاطمة بنت الحسين يتضمن الشهادة عند على (ع). هذه أحاديث الباب. ولم يتعرض
للحديث في كتبهم الفقهية في مقام التعرض لوجوب الإمساك وعدمه في يوم الشك لو ظهر
انه من شهر رمضان نهارا والحديث المنقول في المتن من المعتبر يشبه ان يكون هو
الحديث الثالث الذي نقلناه من غير طريق حماد بن سلمة إلا ان الحديث من غير هذا
الطريق مشعر أيضا بأن دعوى الرؤية كانت في الليل إذ لم يشتمل على النداء بان من لم
يأكل فليصم ومن أكل فليمسك. فالحديث المذكور بهذا المضمون لا وجود له في ما حضرني
من كتب الحديث والفقه للعامة كما لا وجود له في كتب الحديث للخاصة. نعم النداء
بالنحو المذكور فيه وارد في صوم عاشوراء بطريق العامة وقد نقل الأحاديث في هذا
الموضوع في السنن ج 4 ص 288 باب (من زعم ان صوم عاشوراء كان واجبا ثم نسخ وجوبه)
وفي أحدها «انه (ص) أمر رجلا من أسلم ان اذن في الناس ان من أكل فليصم بقية يومه
ومن لم يكن أكل فليصم فان اليوم يوم عاشوراء» وفي آخر : انه (ص) أرسل صبيحة
عاشوراء الى قرى الأنصار التي حول المدينة ان من كان أصبح صائما فليتم صومه ومن
كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه. وكيف كان فلا يخفى ان الأحاديث الثلاثة الأول
التي نقلناها من السنن في موضوع الشهادة بهلال شهر رمضان تضمنت سؤال النبي (ص) من
الشاهد الشهادة بالتوحيد والنبوة واجابة الشاهد بالإثبات.
قال في المدارك : ويمكن أن يستدل عليه بفحوى ما دل على
انعقاد الصوم من المريض والمسافر إذا زال عذرهما قبل الزوال ، وأصالة عدم اعتبار
تبييت النية مع النسيان.
وربما استدل على ذلك أيضا بحديث (1) «رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان». فإن إيجاب القضاء يقتضي عدم رفع النسيان.
أقول : لم أقف في هذا المقام على نص من الأخبار وهذه
الأدلة كلها لا تخلو من شوب الاشكال الموجب لعدم الاعتماد عليها في تأسيس حكم شرعي
، أما الرواية المذكورة فالظاهر انها من طريق الجمهور فانى لم أقف عليها في شيء
من الأصول ، ومع هذا فهي مختصة بالجاهل والمساواة ممنوعة ، على انها لا تقتضي
تحديد الحكم بالزوال كما هو المدعى بل هي أعم وهم لا يقولون به. واما الاستدلال
بفحوى ما ذكر فهو متوقف على ثبوت العلة وأولويتها في الفرع وهو ممنوع ، على ان
الدليل المشار اليه إنما ورد في المسافر واما المريض فلم يرد فيه نص بذلك كما
سيأتي بيانه في محله وانما ذكر الأصحاب ذلك واستدلوا عليه ببعض الأدلة الاعتبارية.
واما أصالة عدم اعتبار تبييت النية ففيه ان الأصل يرتفع بما دل على اعتبار النية
في صحة العبادة كلا أو بعضا. واما حديث «رفع عن أمتي» فالظاهر ان المراد منه رفع
المؤاخذة والعقاب ولا دلالة فيه على عدم القضاء. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب
الإشكال
إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما تقدم انما هو بالنسبة إلى
الواجب المعين واما الواجب الغير المعين كالقضاء والنذر المطلق فقد قطع الأصحاب
بأن وقت النية فيه يستمر من الليل الى الزوال إذا لم يفعل المنافي نهارا.
ويدل عليه أخبار كثيرة : منها ـ ما رواه الكليني في
الصحيح عن عبد الرحمن ابن الحجاج عن ابي الحسن عليهالسلام (2) «في الرجل يبدو
له بعد ما يصبح ويرتفع النهار
__________________
(1) الوسائل الباب 30 من الخلل الواقع في الصلاة والباب 56 من
جهاد النفس.
(2) الوسائل الباب 2 من وجوب الصوم ونيته.
في صوم ذلك اليوم ليقضيه من شهر رمضان
ولم يكن نوى ذلك من الليل؟ قال : نعم ليصمه وليعتد به إذا لم يكن أحدث شيئا».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن سنان عن أبى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «من
أصبح وهو يريد الصيام ثم يدا له أن يفطر فله أن يفطر ما بينه وبين نصف النهار ثم
يقضى ذلك اليوم ، فان بدا له أن يصوم بعد ما ارتفع النهار فليصم فإنه يحسب له من
الساعة التي نوى فيها».
وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح (2) قال : «سألته
عن الرجل يقضى رمضان إله أن يفطر بعد ما يصبح قبل الزوال إذا بدا له؟ فقال إذا كان
نوى ذلك من الليل وكان من قضاء رمضان فلا يفطر ويتم صومه. قال : وسألته عن الرجل
يبدو له بعد ما يصبح ويرتفع النهار أن يصوم ذلك اليوم ويقضيه من رمضان وان لم يكن
نوى ذلك من الليل؟ قال نعم يصومه ويعتد به إذا لم يحدث شيئا».
وعن هشام بن سالم في الصحيح عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قلت له
الرجل يصبح ولا ينوي الصوم فإذا تعالى النهار حدث له رأى في الصوم؟ فقال ان هو نوى
الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي
نوى».
وعن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) قال : «سألته
عن الرجل يصبح وهو يريد الصيام ثم يبدو له فيفطر؟ قال هو بالخيار ما بينه وبين نصف
النهار. قلت هل يقضيه إذا أفطر؟ قال نعم لأنها حسنة أراد أن يعملها فليتمها قلت :
فان رجلا أراد ان يصوم ارتفاع النهار أيصوم؟ قال نعم».
وروى الشيخ في القوى عن صالح بن عبد الله عن أبي إبراهيم
عليهالسلام (5) قال : «قلت له
: رجل جعل لله عليه صيام شهر فيصبح وهو ينوي الصوم ثم يبدو له
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 1 ص 405 وفي الوسائل الباب 4 و 2 من وجوب
الصوم ونيته.
(3 و 5) الوسائل الباب 2 من وجوب الصوم ونيته.
(4) الوسائل الباب 4 من وجوب الصوم ونيته.
فيفطر ويصبح وهو لا ينوي الصوم فيبدو
له فيصوم؟ فقال هذا كله جائز».
وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الموثق والصحيح (1) قال : «سألت
أبا الحسن موسى عليهالسلام عن الرجل يصبح
ولم يطعم ولم يشرب ولم ينو صوما وكان عليه يوم من شهر رمضان إله أن يصوم ذلك اليوم
وقد ذهب عامة النهار؟ قال نعم له أن يصوم ويعتد به من شهر رمضان».
وعن احمد بن محمد بن ابى نصر في الصحيح عن من ذكره عن
أبى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «قلت له
الرجل يكون عليه القضاء من شهر رمضان ويصبح فلا يأكل إلى العصر أيجوز أن يجعله
قضاء من شهر رمضان؟ قال نعم».
وعن ابن بكير عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «سئل عن
رجل طلعت عليه الشمس وهو جنب ثم أراد الصيام بعد ما اغتسل ومضى من النهار ما مضى؟
قال يصوم ان شاء وهو بالخيار الى نصف النهار».
وفي الموثق عن عمار الساباطي عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) «عن الرجل يكون
عليه أيام من شهر رمضان يريد أن يقضيها متى يريد ان ينوي الصيام؟ قال هو بالخيار
الى أن تزول الشمس فإذا زالت الشمس فان كان نوى الصوم فليصم وان كان نوى الإفطار
فليفطر. سئل فإن كان نوى الإفطار يستقيم أن ينوي الصوم بعد ما زالت الشمس؟ قال لا».
وتنقيح الكلام في المقام يتوقف على رسم مسائل الأولى ـ المشهور
بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان منتهى وقت النية في القضاء والنذر المطلق هو
زوال الشمس فبعد زوالها يفوت الوقت ، وظاهر كلام ابن الجنيد المتقدم استمرار وقت
النية ما بقي من النهار شيء ، واختاره الفاضل الخراساني في الذخيرة.
ويدل على القول المشهور موثقة عمار ورواية عبد الله بن
بكير ، ويدل على
__________________
(1 و 2 و 4) الوسائل الباب 2 من وجوب الصوم ونيته.
(3) الوسائل الباب 20 من ما يمسك عنه الصائم.
قول ابن الجنيد ظاهر موثقة عبد الرحمن
بن الحجاج وصحيحته فان المتبادر من عامة النهار أي أكثره ، ومرسلة أحمد بن محمد بن
أبي نصر.
وأجاب العلامة في المختلف عن الرواية الأولى باحتمال أن
يكون قد نوى قبل الزوال ويصدق عليه انه ذهب عامة النهار على سبيل المجاز. وعن
الثانية بالطعن بالإرسال وباحتمال أن يكون قد نوى صوما مطلقا مع نسيان القضاء فحاز
صرفه اليه.
ورد الأول بأن المتبادر من ذهاب عامة النهار ذهاب أكثره
وهو لا يحصل بما قبل الزوال. والثاني بأنه ليس في شيء من الروايات دلالة على
الاحتمال الذي ذكره فلا يمكن المصير اليه.
والمحقق في المعتبر استدل للمشهور بان الصوم الواجب يجب
أن يؤتى به من أول النهار أو بنية تقوم مقام الإتيان به من أوله ، وقد روى «ان من
صام قبل الزوال حسب له يومه». ثم نقل رواية هشام بن سالم المتقدمة ، قال وأيد ذلك
بما رواه عمار الساباطي. ثم ساق موثقة عمار المذكورة.
وأنت خبير بأن صحيحة هشام المشار إليها لا دلالة فيها
صريحا بل ولا ظاهرا على ما ذكره بل الظاهر أن المراد منها إنما هو صوم النافلة لأن
قوله في آخرها «وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى» لا ينطبق على
الواجب وانما يمكن تطبيقه على النافلة بمعنى ان الفضل الكامل في صيامها يحصل
بالنية قبل الزوال واما بعده فلا يثاب عليه إلا بمقدار ما بقي من النهار. نعم
موثقة عمار ظاهرة في ما ذهب اليه. والظاهر ان بناء استدلال المحقق بصحيحة هشام
المذكورة على حمل قوله : «وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي نوى» على
بطلان الصيام فإنه إذا لم يحسب له صيام اليوم كملا كان باطلا ، وحساب هذا الجزء
الباقي بمعنى اثابته عليه لا يستلزم صحة صيام اليوم كملا. وبالجملة فالمسألة محل
إشكال.
الثانية ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه
يمتد وقت نية
النافلة أيضا الى الزوال ، ونقل عن
المرتضى والشيخ وجماعة من الأصحاب امتداده الى الغروب ، قال الشيخ (رحمهالله) وتحقيق ذلك
أن يبقى بعد النية من الزمان ما يمكن صومه إلا أن يكون انتهاء النية مع انتهاء
النهار. واليه مال الفاضل الخراساني في الذخيرة.
واستدل العلامة على القول المشهور في المختلف بأنه عليهالسلام «نفى العمل
بغير نية» (1). ومضى جزء من
النهار بغير نية يستلزم نفى حكمه ، ترك العمل به في صورة ما إذا نوى قبل الزوال
لمعنى يختص به وهو صيرورة عامة النهار منويا فيبقى الباقي على الأصل. ولأنه عبادة
مندوبة فيكون وقت نيتها وقت نية فرضها كالصلاة ، ويؤيده ما رواه هشام بن سالم في
الصحيح. ثم ساق الرواية كما قدمناها. ثم قال : وترك الاستفصال عقيب إكمال السؤال
يدل على تعميم المقال. انتهى.
ويدل على القول الثاني موثقة أبي بصير (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الصائم
المتطوع تعرض له الحاجة؟ قال هو بالخيار ما بينه وبين العصر ، وان مكث حتى العصر
ثم بدا له أن يصوم ولم يكن نوى ذلك فله أن يصوم ذلك اليوم ان شاء».
ويدل على ذلك إطلاق صحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله
عليهالسلام (3) قال : «كان
أمير المؤمنين عليهالسلام يدخل إلى أهله
فيقول عندكم شيء؟ وإلا صمت فان كان عندهم شيء أتوه به وإلا صام».
وصحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر عليهالسلام (4) قال : «قال
على عليهالسلام إذا لم يفرض
الرجل على نفسه صياما ثم ذكر الصيام قبل أن يطعم طعاما أو يشرب
__________________
(1) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات والباب 2 من وجوب الصوم
ونيته.
(2) الوسائل الباب 3 من وجوب الصوم ونيته.
(3) الوسائل الباب 2 من وجوب الصوم ونيته ، والراوي هشام بن
سالم.
(4) الوسائل الباب 2 من وجوب الصوم ونيته.
شرابا ولم يفطر فهو بالخيار ان شاء
صام وان شاء أفطر».
ومن ذلك يعلم قوة هذا القول وضعف ما استدل به في المختلف
للقول المشهور
الثالثة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا
يشترط في النية من الليل الاستمرار على حكم الصوم بل يجوز أن ينوي ليلا ويفعل
بعدها ما ينافي الصوم الى قبل الفجر ، ولا فرق في ذلك بين الجماع وغيره ، وتردد في
البيان في الجماع وما يوجب الغسل من أنه مؤثر في صيرورة المكلف غير قابل للصوم
فيزيل حكم النية ، ومن حصول شروط الصحة وزوال المانع بالغسل. وضعف الوجه الأول من
وجهي الترديد ظاهر فإنه مجرد دعوى خالية من الدليل.
الرابعة ـ لو أخل بالنية ليلا عمدا في الواجب المعين فسد
صومه لفوات الشرط ووجب القضاء ، وهل تجب الكفارة؟ قيل نعم وحكاه الشهيد في البيان
عن بعض مشايخه نظرا الى ان فوات الشرط والركن أشد من فوات متعلق الإمساك. وقيل لا
وبه قطع في المنتهى لأصالة البراءة السالمة من المعارض. وهو جيد.
الخامسة ـ لو جدد النية في أثناء النهار فهل يحكم له
بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية أو من ابتداء النهار أو يفرق بين ما إذا
وقعت النية بعد الزوال فيكون كالثاني وقبله فيكون كالأول؟ أوجه يدل على الأخير
منها قوله في صحيحة هشام بن سالم المتقدمة (1) «ان هو نوى
الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي
نوى» ويدل على الأول منها قوله في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة أيضا (2) «فان بدا له أن
يصوم بعد ما ارتفع النهار فليصم فإنه يحسب له من الساعة التي نوى فيها». اللهم إلا
أن يحمل ارتفاع النهار على وقت الزوال ليصير ما بعده ما بعد الزوال ، إلا انه بعيد
إذ المتبادر من ارتفاع النهار انما هو وقت الضحى. ويمكن الجمع بين الخبرين بان
الحساب الاستحقاقي إنما هو من وقت النية التي هي شرط في صحة العمل إذ لا عمل إلا
بالنية غاية الأمر انها إذا وقعت قبل الظهر حسب
__________________
(1 و 2) ص 22.
له ما تقدم عليها تفضلا.
الثالث ـ المشهور بين الأصحاب المتأخرين انه لا بد في كل
يوم من شهر رمضان من نية ، ونقل عن الشيخين والمرتضى وابى الصلاح وسلار (رضى الله
عنهم) ان شهر رمضان يكفى فيه نية واحدة من أوله.
قال المرتضى (رضى الله عنه) في الانتصار بعد الاحتجاج
بالإجماع من الطائفة : ان النية تؤثر في الشهر كله لأن حرمته حرمة واحدة كما أثرت
في اليوم الواحد لما وقعت في ابتدائه.
وقال (قدسسره) في المسائل
الرسية على ما نقله عنه العلامة في المختلف : تغني النية الواحدة في ابتداء شهر
رمضان عن تجديدها في كل ليلة وهو المذهب الصحيح الذي عليه إجماع الإمامية ولا خلاف
بينهم فيه ولا رووا خلافه. ثم اعترض نفسه بأنه كيف تؤثر النية في جميع الشهر وهي
متقدمة في أول ليلة منه؟ وأجاب بأنها تؤثر في الشهر كله كما تؤثر في اليوم كله وان
وقعت في ابتداء ليلته ، ولو شرطت مقارنة النية للصوم لما جاز ذلك مع الإجماع على
جوازه ، ولو اشترط في تروك الأفعال في زمان الصوم مقارنة النية لها لوجب تجديد
النية في كل حال من زمان كل يوم من شهر رمضان لأنه في هذه الأحوال كلها تارك لما
يوجب كونه مفطرا ، وقد علمنا ان استمرار النية طول النهار غير واجب وان النية قبل
طلوع الفجر كافية مؤثرة في كون تروكه المستمرة طول النهار صوما ، فكذا القول في
النية الواحدة إذا فرضنا انها لجميع شهر رمضان انها مؤثرة شرعا في صيام جميع أيامه
وان تقدمت. انتهى.
وأورد على ما ذكره منع ان حرمته حرمة واحدة بمعنى كون
المجموع عبادة واحدة بل صوم كل يوم أمر مستقل بنفسه غير متعلق بغيره ولهذا تتعدد
الكفارات بتعدد المفطر. ومنع ثبوت الإجماع.
ورد المحقق كلام المرتضى أيضا بأنه قياس محض لا يتمشى
على أصولنا ، قال
لكن علم الهدى ادعى على ذلك الإجماع
وكذلك الشيخ أبو جعفر ، والأولى تجديد النية لكل يوم في ليلته لأنا لا نعلم ما
ادعياه من الإجماع.
قال في الذخيرة بعد البحث في المقام : نعم لقائل أن يقول
تحصيل العلم بالبراءة من التكليف الثابت يقتضي وجوب تجديد النية بناء على ما ذكرنا
سابقا من عدم ثبوت كون النية شرطا خارجا وعدم ثبوت كون الصوم حقيقة شرعية في نفس
الإمساك من غير اعتبار استجماع الشرائط المؤثرة في الصحة. إلا ان بهذا الوجه لا
يثبت وجوب القضاء عند الإخلال بالتجديد. وكيف ما كان فلا ريب في أولوية التجديد.
وقال العلامة : ان قلنا بالاكتفاء بالنية الواحدة فإن
الأولى تجديدها بلا خلاف.
واستشكل هذا الحكم شيخنا الشهيد الثاني بناء على ان
القائل بالاكتفاء بنية واحدة للشهر يجعله عبادة واحدة كما صرح به في دليله ومن شأن
العبادة الواحدة المشتملة على النية الواحدة ان لا يجوز تفريق النية على أجزائها
كما هو المعلوم من حالها وحينئذ يشكل أولوية تعدد النية بتعدد الأيام لاستلزامه
تفريق النية على اجزاء العبادة الواحدة التي تفتقر إلى النية الواحدة ، قال
والطريق المخرج من الاشكال الجمع بين نية المجموع وبين النية لكل يوم. انتهى.
واعترض عليه بما لا مزيد طائل في إيراده بعد ما ستقف عليه ان شاء الله تعالى من
التحقيق الرشيق.
ثم انهم قد صرحوا أيضا بأنه لو فاتته النية في أول الشهر
لعذر أو غيره هل يكتفى بالنية في ثاني ليلة أو ثالث ليلة للباقي من الشهر؟ تردد
فيه العلامة في المنتهى واستوجه الشهيد في البيان عدم الاكتفاء بذلك.
أقول ـ وبالله الهداية والتوفيق الى سواء الطريق ـ أنه
لا بد من الكلام هنا في تحقيق النية زيادة على ما قدمناه في كتاب الطهارة ليكون
أنموذجا لك في كل مقام ويتضح به ما في كلام هؤلاء الأعلام وان كانوا هم القدوة
والمعتمد في النقض والإبرام :
فنقول : ينبغي ان يعلم انه لا ريب ان أفعال العقلاء كلها
من عبادات وغيرها لا تصدر إلا بعد تصور الدواعي الباعثة على الإتيان بها وهي
المشار إليها في كلامهم بالعلل الغائية ، مثلا يتصور الإنسان ان الإتيان بهذا
الفعل يترتب عليه النفع الفلاني فإذا تصورت النفس هذا الغرض انبعث منها شوق الى
جذبه وتحصيله ، فقد يتزايد هذا الشوق ويتأكد ويسمى بالإرادة ، فإذا انضم إلى
القدرة التي هي هيئة للقوة الفاعلة انبعثت تلك القوة لتحريك الأعضاء إلى إيقاع ذلك
الفعل وإيراده وتحركت الى إصداره وإيجاده لأجل غرضها الذي تصورته أولا ، فانبعاث
النفس وتوجهها وقصدها الى ما فيه غرضها هو النية ، نعم قد يحصل بسبب تكرر الفعل
والاعتياد عليه نوع ذهول عن تلك العلة الغائية الحاملة على الفعل إلا ان النفس
بأدنى توجه والتفات تستحضر ذلك كما هو المشاهد في جملة أفعالنا المتكررة منا.
وحينئذ فليست النية بالنسبة إلى الصلاة والطهارة والصيام
ونحو ذلك من العبادات إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه وقعوده وأكله
وشربه ونكاحه ونومه ومغداه ومجيئه ونحو ذلك ، ولا ريب ان كل غافل غير ذاهل لا يصدر
عنه فعل من هذه الأفعال ونحوها إلا بنية وقصد ، مع انه لا يتوقف شيء من ذلك على
هذه النية التي ذكروها والاختلافات التي سطروها.
ولا فرق بين ما ذكرنا من هذه الأفعال وبين العبادات إلا
قصد القربة لله سبحانه في العبادات ، وهذا لا يوجب ما ذكروه في أمثال هذا المقام.
وحينئذ فإذا كان المكلف عالما بوجوب الصوم عليه وانه
عبارة عن الإمساك عن تلك الأمور المذكورة لله سبحانه كما هو الآن ضروري لعامة
الناس فإنه برؤية هلال الشهر المذكور يوطن نفسه على ذلك ويكف عن هذه الأشياء في كل
يوم من طلوع الفجر الى غروب الشمس ومتى فعل ذلك فان صومه صحيح شرعي ، وهذا هو الذي
جرى عليه السلف زمن النبي صلىاللهعليهوآله والأئمة (عليهمالسلام) وما بعدهم ،
فإنه متى دخل عليهم الشهر اجتنبوا ما حرم الله عليهم في نهاره وكفوا عنه قاصدين
بذلك التقرب اليه سبحانه مراعين حرمته
زيادة على غيره من الشهور ولم يقع التكليف من الشارع بأزيد من هذا.
وانى لأعلم علما لا يخالجه الظن ان جميع هذه الأبحاث
والمقالات والتدقيقات التي ذكروها لم تخطر بخاطر أحد من الصحابة زمنه صلىاللهعليهوآله ولا زمن أحد
من الأئمة (عليهمالسلام) مع انه لا
ريب في صحة صومهم ، على انها من ما لم يقم عليها دليل شرعي.
والأنسب بقواعد الشريعة المحمدية وسعتها الواضحة الجلية
هو جعل ذلك من قبيل ما ورد من السكوت عن ما سكت الله عنه وإبهام ما أبهمه :
فروى الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) في كتاب المجالس
بسنده عن أمير المؤمنين عليهالسلام (1) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله ان الله تعالى
حد لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها
وحرم عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا لكم عن أشياء رحمة منه من غير نسيان فلا
تتكلفوها».
وروى في كتاب عوالي اللئالي عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليهالسلام (2) «ان عليا عليهالسلام كان يقول :
أبهموا ما أبهم الله».
وروى الصدوق في الفقيه (3) من خطبة أمير
المؤمنين عليهالسلام حيث قال : «ان
الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها
نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها. الحديث».
ومن أراد مزيد تحقيق لما ذكرناه من هذا الكلام فليرجع
الى شرحنا على كتاب مدارك الأحكام وما قدمناه في كتاب الطهارة من هذا الكتاب.
__________________
(1) البحار ج 2 ص 263 رقم 11 الطبع الحديث.
(2) البحار ج 2 الباب 33 من كتاب العلم.
(3) باب (نوادر الحدود) وفي الوسائل الباب 12 من صفات القاضي
وما يجوز ان يقضى به.
وبذلك يظهر ان جميع ما ذكروه من الأبحاث في النية في
كتاب الصيام وكتاب الصلاة وكتاب الطهارة ونحوها من ما لا أثر يترتب عليه ولا حاجة
تلجئ اليه بل هو من باب «اسكتوا عن ما سكت الله عنه» (1).
وكلامهم في جميع هذه المواضع كلها يدور على النية التي
اصطلحوا عليها وهي الكلام النفسي والتصوير الفكري الذي قدمنا ذكره وقد عرفت انه
ليس هو النية حقيقة.
الرابع ـ انه لا يقع في شهر رمضان صوم غير الصوم الواجب
فيه بالأصالة فلو نوى غيره واجبا كان أو ندبا فإنه لا يقع ، وهل يجزئ عن شهر رمضان
أم لا؟
والخلاف هنا وقع في موضعين أحدهما ـ انه هل يقع في شهر
رمضان صوم غيره أم لا؟ المشهور الثاني.
فعلى هذا لو أراد المسافر صومه ندبا بناء على جواز الصوم
المندوب في السفر أو واجبا بالنذر كما إذا قيده بالحضر والسفر لم يكن له ذلك :
أما أولا ـ فلأن العبادات توقيفية متلقاة من الشارع
فيتوقف جواز ذلك على النقل وليس فليس فيكون فعله بدعة محرمة.
واما ثانيا ـ فلما رواه الشيخ عن الحسن بن بسام الجمال
عن رجل (2) قال : «كنت مع
أبى عبد الله عليهالسلام في ما بين مكة
والمدينة في شعبان وهو صائم ثم رأينا هلال شهر رمضان فأفطر قلت له جعلت فداك أمس
كان من شعبان وأنت صائم واليوم من شهر رمضان وأنت مفطر؟ فقال : ان ذلك تطوع ولنا
أن نفعل ما شئنا وهذا فرض فليس لنا أن نفعل إلا ما أمرنا».
وما رواه عن إسماعيل بن سهل عن رجل (3) قال : «خرج
أبو عبد الله عليهالسلام من المدينة في
أيام بقين من شهر شعبان وكان يصوم ثم دخل عليه شهر رمضان وهو
__________________
(1) أورده بهذا اللفظ القضاعي في الشهاب في حرف الالف.
(2 و 3) الوسائل الباب 12 ممن يصح منه الصوم.
في السفر فأفطر فقيل له تصوم شعبان
وتفطر شهر رمضان؟ فقال نعم شعبان الي أن شئت صمت وان شئت لا وشهر رمضان عزم من
الله على الإفطار».
ونقل عن الشيخ في المبسوط انه جوز التطوع بالصوم من
المسافر في شهر رمضان ، وهو ضعيف لما عرفت من انتفاء التوقيف مع انه عبادة تتوقف
على ذلك وإلا لم تكن مشروعة ، ولأن الرواية التي اعتمد عليها في جواز صيام النافلة
في السفر قد تضمنت لعدم وقوعه في شهر رمضان.
الموضع الثاني ـ انه مع نية غيره هل يجزئ عن شهر رمضان
متى كان حاضرا أم لا؟ قولان اختار أولهما جمع من الأصحاب : منهم ـ الشيخ والمحقق
والمرتضى (رضى الله عنهم) وثانيهما جماعة من الأصحاب : منهم ـ ابن إدريس والعلامة
، واليه جنح في المدارك.
والظاهر انه لا خلاف في الاجزاء مع الجهل بالشهر كما
اعترف به الأصحاب في صيام يوم الشك بنية الندب واجزائه عن شهر رمضان مع تبين كونه
منه ، إنما الخلاف مع العلم.
حجة الأول ـ كما استدل به في المعتبر ـ ان النية
المشروطة حاصلة في نية القربة وما زاد لغو لا عبرة به فكان الصوم حاصلا بشرطه
فيجزئ عنه.
وأورد عليه بأنه يشكل بان من هذا شأنه لم ينو المطلق
لينصرف الى رمضان وانما هو نوى صوما معينا فما نواه لم يقع وغيره ليس بمنوي فيفسد
لانتفاء شرطه.
حجة الثاني كما ذكره العلامة في المختلف التنافي بين نية
صوم رمضان ونية غيره ، وبأنه منهي عن نية غيره والنهى مفسد ، وبان مطابقة النية
للمنوي واجبة.
وأجيب : اما عن الأول فبأن التنافي مسلم لكن لم لا يجوز
أن يكفي في صحة صيام رمضان نية الإمساك مع التقرب ولا يعتبر فيها نية خصوصية كونه
صوم رمضان؟ لا بد لنفي ذلك من دليل.
أقول : فيه ان الذي علم من الاخبار وهو الموافق للقواعد
الشرعية من قولهم
(عليهمالسلام) (1) «لكل امرئ ما
نوى». و «لا عمل إلا بنية» (2). ونحوهما
والذي جرى عليه السلف من زمن التكليف الى الآن هو نية الصيام المخصوص بهذا الشهر ،
فهذا هو الذي علم صحته وإثبات صحة ما عداه يحتاج الى دليل لأن العبادات توقيفية
والذي علم من الأدلة هو ما ذكرناه ، فلا بد لإثبات ما ذكره من دليل إذ مقتضى
الأصول عدمه لا انه لا بد لنفيه من دليل كما ادعاه.
واما عن الثاني فبان النهى متعلق بخصوصية نية كونه غير
صوم رمضان وهي أمر خارجة عن حقيقة العبادة فلا يستلزم النهى عنها بطلان الصوم.
أقول : يمكن أن يكون مراد المستدل بما ذكره إنما هو انه
لما كان منهيا عن هذه النية فالنهي عنها موجب لفسادها وحينئذ فتبقى العبادة التي
أتى بها خالية من النية. وقوله ـ ان النية خارجة عن حقيقة العبادة فلا يستلزم
النهى عنها بطلان الصوم ـ مردود بما اتفقوا عليه من أن النية لا تخرج عن كونها
شرطا أو شطرا من العبادة ، وعلى أى منهما فالنهي عنها يوجب البطلان لما قرروه من
أن النهى عن العبادة أو شرطها أو جزئها موجب لفسادها.
واما عن الثالث فبان وجوب مطابقة النية بجميع أجزائها
وخصوصياتها للمنوي غير مسلم ، وان أراد المطابقة في الجملة فهي حاصلة في موضع
البحث.
أقول : يلزم بمقتضى ما ذكره من الاكتفاء بهذه المطابقة
الجملية في هذا المقام صحة صلاة الظهر لو نوى بها العصر وبالعكس لاشتراكهما في
كونهما صلاة كما اشترك صوم رمضان وصوم ما نواه من غيره في كونهما صوما ولا أظنه
يلتزمه.
وبالجملة فإن ما ذكره من هذه المناقشات ليس فيه مزيد فائدة.
وكيف كان فالمسألة لخلوها من النص لا تخلو من اشكال
وإثبات الأحكام الشرعية بمجرد هذه التعليلات مجازفة محضة والاحتياط لا يخفى.
الخامس ـ لو نوى الوجوب بكونه من شهر رمضان في يوم الشك
وهو آخر
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات والباب 2 من وجوب
الصوم ونيته.
يوم من شعبان فالمشهور انه يكون فاسدا
ولا يجزئ عن أحدهما ، لا عن شهر رمضان وان ظهر كونه منه لوقوعه في شهر شعبان ظاهرا
والأحكام الشرعية إنما بنيت على الظاهر ، ولا عن شعبان لعدم نيته ، فما نواه غير
واقع بحسب الظاهر الذي هو مناط التكليف وما هو واقع غير منوي ، وعلى ذلك تدل
الأخبار الآتية.
والى هذا القول ذهب الشيخ والمرتضى والصدوقان وأبو
الصلاح وسلار وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس والفاضلان وغيرهم وهو المعتمد ،
وذهب ابن ابى عقيل وابن الجنيد إلى انه يجزئه عن شهر رمضان واليه ذهب الشيخ في
الخلاف.
واستدل على القول الأول بما رواه الشيخ في الصحيح عن
محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليهالسلام (1) «في الرجل يصوم
اليوم الذي يشك فيه من رمضان؟ فقال عليهالسلام عليه قضاؤه
وان كان كذلك».
والاستدلال بهذا الخبر مبنى على تعلق قوله «من رمضان»
بقوله «يصوم» بمعنى انه لا يجوز صيام يوم الشك على انه من شهر رمضان فلو صامه وظهر
كونه من شهر رمضان لم يجزئ عنه ووجب قضاؤه ، واما لو علق بقوله «يشك» فلا دلالة
فيه ويحمل الأمر فيه بالقضاء على التقية لاتفاق العامة على عدم الاجزاء عن شهر
رمضان لو ظهر كونه منه (2).
__________________
(1) الوسائل الباب 6 من وجوب الصوم ونيته.
(2) في نيل الأوطار بعد ذكر أحاديث المنتقى بعنوان باب (ما جاء
في يوم الغيم والشك) ج 4 ص 201 قال ص 204 : وقد استدل بهذه الأحاديث على المنع من
صوم يوم الشك ، قال النووي وبه قال مالك والشافعي والجمهور. وحكى الحافظ في الفتح
عن مالك وابى حنيفة انه لا يجوز صومه عن فرض رمضان ويجوز عن ما سوى ذلك. قال ابن
الجوزي في التحقيق : ولا حمد في هذه المسألة وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم
أو غيره ليلة الثلاثين من شعبان ثلاثة أقوال : أحدها ـ يجب صومه على انه من رمضان.
وثانيها ـ لا يجوز فرضا ولا نقلا مطلقا بل قضاء وكفارة ونذرا ونفلا يوافق عادة. وثالثها
ـ المرجع إلى رأى الامام في الصوم والفطر. وذهب جماعة من الصحابة إلى
ومثله في ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن هشام بن سالم
عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) «انه قال في
يوم الشك : من صامه قضاه وان كان كذلك. يعنى من صامه على انه من شهر رمضان بغير
رؤية قضاه وان كان يوما من شهر رمضان لأن السنة جاءت في صيامه على انه من شعبان
ومن خالفها كان عليه القضاء».
وقوله : «يعنى من صامه. الى آخره» يحتمل أن يكون من كلام
الشيخ في التهذيب ويحتمل أن يكون من كلام أحد الرواة تقييدا لإطلاق الخبر.
والاحتمال الذي قدمناه في الخبر الأول قائم أيضا هنا وبه
صرح الشيخ في الاستبصار أيضا.
والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه الكليني في الكافي
في الموثق عن سماعة (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام رجل صام يوما
وهو لا يدرى أمن شهر رمضان هو أم من غيره فجاء قوم فشهدوا انه كان من شهر رمضان
فقال بعض الناس عندنا لا يعتد به فقال بلى فقلت انهم قالوا صمت وأنت لا تدري أمن
شهر رمضان هذا أم من غيره؟ فقال بلى. فاعتد به فإنما هو شيء وفقك الله له إنما
يصام يوم الشك من شعبان ولا يصومه من شهر رمضان لأنه قد نهى ان ينفرد الإنسان
بالصيام في يوم الشك وإنما ينوي من الليلة أنه يصوم من شعبان فان كان من شهر رمضان
أجزأ عنه بتفضل الله تعالى وبما قد وسع على عباده ولو لا ذلك لهلك الناس».
__________________
صومه. وعد قسما منهم ثم قال وجماعة من التابعين. الى أن قال :
وقال جماعة من أهل البيت باستحبابه وقد ادعى المؤيد بالله انه أجمع على استحباب
صومه أهل البيت. وفي المجموع ج 6 ص 403 و 408 ذكر مذاهب العلماء في صوم يوم الشك
بعد ان ذكر ص 399 ان الشافعية لا يجوز عندهم صوم يوم الشك عن رمضان ، وفي المغني ج
3 ص 89 والمحلى ج 7 ص 23 وبدائع الصنائع ج 2 ص 78 ذكر الاختلاف فيه ايضا.
(1) الوسائل الباب 6 من وجوب الصوم ونيته.
(2) الوسائل الباب 5 من وجوب الصوم ونيته.
والظاهر ان معنى قوله «لأنه قد نهى أن ينفرد الإنسان
بالصيام في يوم الشك» يعنى بصيامه من شهر رمضان مع عدم ثبوته وكون الناس إنما
يعدونه من شعبان.
والظاهر ان معنى قوله «ولو لا ذلك لهلك الناس» أي لو لا
التكليف بالظاهر دون الواقع ونفس الأمر ، إذ في وقوع التكليف بذلك لزوم تكليف ما
لا يطاق وهو موجب لما ذكره ، فالتكليف إنما وقع بصيامه من شعبان بناء على ظاهر
الحال وان كان في الواقع انه من شهر رمضان والاجزاء بعد ذلك إنما هو بتفضل منه
سبحانه.
ويدل ايضا على ما ذكرناه من القول المشهور ما تقدم في
أول الكتاب من حديث الزهري وحديث كتاب الفقه الرضوي وقولهما (عليهماالسلام) (1) «وصوم يوم الشك
أمرنا به ونهينا عنه : أمرنا أن نصومه من شعبان ونهينا عنه ان ينفرد الرجل بصيامه
في اليوم الذي يشك فيه الناس. الى آخر ما تقدم» وقوله : «ونهينا أن ينفرد الرجل
بصيامه» يعنى ما قدمنا ذكره من أن المراد صيامه من شهر رمضان.
والشيخ في التهذيب (2) قد روى عن الزهري قال : «سمعت على بن
الحسين عليهالسلام يقول يوم الشك
أمرنا بصيامه ونهينا عنه : أمرنا أن يصومه الإنسان على انه من شعبان ونهينا عن ان
يصومه على انه من شهر رمضان وهو لم ير الهلال». وهو ظاهر الدلالة في المراد.
__________________
(1) ص 5 س 8.
(2) ج 4 ص 164 و 183 الطبع الحديث ، وفي الوسائل الباب 6 من
وجوب الصوم ونيته. والسند فيه يختلف عن سند الحديث الذي يرويه ص 296 وقد تقدم ص 3
فان ذلك يرويه عن الكليني وهذا يرويه بسند آخر مستقل.
واستدل السيد السند (قدسسره) في المدارك
للقول المشهور أيضا بأن إيقاع المكلف الصوم في الزمان المحكوم بكونه من شعبان على
انه من شهر رمضان يتضمن إدخال ما ليس من الشرع فيه فيكون حراما لا محالة كالصلاة
بغير طهارة فلا يتحقق به الامتثال. وهو جيد.
واما ما أجاب به الفاضل الخراساني في الذخيرة عن ذلك ـ من
أن غاية ما يستفاد من هذا الدليل تحريم نية كونه من رمضان ولا يلزم من ذلك فساد
العبادة لأن النهي متعلق بأمر خارج عن العبادة ـ
ففيه ما قدمنا ذكره قريبا من أن النية لا تخلو من أن
تكون شرطا أو شطرا من العبادة ، وعلى أى منهما فتوجه النهي إليها موجب لبطلان
العبادة إذ لا خلاف بينهم في ما أعلم في أن توجه النهي إلى العبادة أو جزئها أو
شرطها موجب لبطلانها ولم نقف للقول الثاني على دليل إلا ما نقل عن الشيخ في الخلاف
من انه احتج على ذلك بإجماع الفرقة واخبارهم على انه من صام يوم الشك أجزأ عن شهر
رمضان ولم يفرقوا. وأورد عليه بان الفرق في النص وكلام الأصحاب متحقق كما تقدم.
قال السيد السند (قدسسره) في المدارك :
ولا يخفى ان نية الوجوب مع الشك إنما يتصور من الجاهل الذي يعتقد الوجوب لشبهة أما
العالم بانتفائه شرعا فلا يتصور منه ملاحظة الوجوب إلا على سبيل التصور وهو غير
النية فإنها إنما تتحقق مع الاعتقاد كما هو واضح. انتهى.
أقول : لا يخفى أن تخصيص محل الخلاف بما فرضه هنا من
الجاهل الذي يعتقد الوجوب لشبهة موجب للقدح في استدلاله الذي قدمنا نقله عنه من أن
إيقاع المكلف الصوم في الزمان المحكوم بكونه من شعبان على انه من شهر رمضان يتضمن
إدخال ما ليس من الشرع فيه ، فان للقائل أن يقول ان هذا الكلام انما يتوجه الى العالم
إذ الجاهل من حيث الشبهة التي فرضها لا يكون الزمان عنده محكوما
بكونه من شهر شعبان فلا يتضمن إدخال
ما ليس من الشرع فيه ، وكون ذلك واقعا كذلك لا مدخل له في المقام إذ الكلام بالنظر
الى ظاهر اعتقاد المكلف.
وبالجملة فإن الدليل المذكور لا يتم مع فرض المسألة كما
ذكره ومع بطلان هذا الدليل الذي هو معتمدة في المسألة يصير اختياره للقول المشهور
عاريا عن الدليل ، لأنه قد استدل بعد هذا الدليل بصحيحة محمد بن مسلم وقد قدمنا ما
يرد عليها ثم استدل بموثقة سماعة ورواية الزهري وهما باصطلاحه من الضعيف الذي لا
يقوم حجة ولا يثبت دليلا كما لا يخفى.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان بعض الأخبار المتعلقة بهذه
المسألة زيادة على ما ذكرنا لا تخلو من الإجمال وقيام الاحتمال :
ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب أو حسنته (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام الرجل يصوم
اليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان فيكون كذلك؟ فقال هو شيء وفق له».
فان قوله : «من شهر رمضان» يحتمل تعلقه ب «يصوم» يعنى
يصوم يوم الشك بنية كونه من شهر رمضان ، وحينئذ فقوله عليهالسلام «هو شيء وفق
له» دليل على القول الثاني ، وعلى هذا الاحتمال اعتمد في الذخيرة وجعل الخبر
المذكور معارضا لصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة بناء على استدلال الأصحاب بها.
ويحتمل تعلقه ب «يشك فيه» وحينئذ فيكون الخبر موافقا لما ذكره الأصحاب ودلت عليه
الأخبار من استحباب صوم يوم الشك بنية كونه من شعبان وانه يجزئ عن شهر رمضان.
والظاهر هو رجحان هذا الاحتمال لأن جملة الأحاديث المشتملة على انه يوم وفق له
إنما وردت في صيامه بنية كونه من شعبان كما تقدم في موثقة سماعة ومثلها غيرها من
ما سيأتي ان شاء الله تعالى. وبه يظهر بطلان الاحتمال الأول الذي عول عليه في
الذخيرة.
__________________
(1) الوسائل الباب 5 من وجوب الصوم ونيته.
ومنها ـ رواية سماعة (1) قال : «سألته عن اليوم الذي يشك فيه
من شهر رمضان لا يدرى أهو من شعبان أو من رمضان فصامه من شهر رمضان؟ قال هو يوم
وفق له ولا قضاء عليه».
وهذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب (2) نقلا عن
الكافي هكذا وهي بظاهرها دالة على القول الثاني ومؤيدة للاحتمال الأول في صحيحة
معاوية بن وهب المتقدمة ، إلا أن الرواية في الكافي (3) هكذا : «فصامه
فكان من شهر رمضان» وبذلك يظهر حصول الغلط في الخبر ونقصان «فكان» من رواية الشيخ
كما هو معلوم من طريقته في الكتاب المذكور وما جرى له فيه من التحريف والتغيير
والزيادة والنقصان في متون الأخبار وأسانيدها ، وبذلك تكون الرواية موافقة لما
عليه الأصحاب والاخبار.
وبما حققناه في المقام يظهر قوة القول المشهور وانه
المؤيد المنصور وان ما ذكره في الذخيرة من الاستشكال في المسألة بناء على ما قدمنا
نقله عنه لا يخلو من القصور.
السادس ـ الظاهر انه لا خلاف في انه لو صام يوم الشك
بنية الندب ثم ظهر كونه من شهر رمضان فإنه يجزئ عنه ولا يجب عليه قضاؤه.
ويدل على ذلك الأخبار المتكاثرة ومنها ما تقدم من موثقة
سماعة وروايته الثانية بناء على رواية صاحب الكافي.
وما رواه الكليني والشيخ عنه في الصحيح عن سعيد الأعرج (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام انى صمت اليوم
الذي يشك فيه فكان من شهر رمضان أفاقضيه؟ قال لا هو يوم وفقت له».
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 5 من وجوب الصوم ونيته.
(2) ج 1 ص 403.
(3) الفروع ج 1 ص 185.
وعن محمد بن حكيم (1) قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن اليوم الذي
يشك فيه فان الناس يزعمون ان من صامه بمنزلة من أفطر يوما من شهر رمضان؟ فقال
كذبوا ان كان من شهر رمضان فهو يوم وفق له وان كان من غيره فهو بمنزلة ما مضى من
الأيام».
وعن بشير النبال عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن صوم يوم الشك فقال صمه فإن يك من شعبان كان تطوعا وان يك من شهر رمضان فيوم
وفقت له».
وعن الكاهلي في الحسن (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن اليوم الذي
يشك فيه من شعبان قال لأن أصوم يوما من شعبان أحب الى من أن أفطر يوما من شهر
رمضان».
ومعناه ان صيام هذا اليوم من شعبان أحب الى من أن أفطر
فيظهر كونه من شهر رمضان فيكون بمنزلة من أفطر في شهر رمضان ووجب عليه القضاء.
وروى شيخنا المفيد (قدسسره) في المقنعة (4) قال : وروى
أبو الصلت عبد السلام بن صالح قال حدثني على بن موسى الرضا عن أبيه عن جده (عليهمالسلام) انه قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله من صام يوم
الشك فرارا بدينه فكأنما صام الف يوم من أيام الآخرة غرا زهرا لا يشاكان أيام
الدنيا».
قال (5) وروى أبو خالد عن زيد بن على بن
الحسين عن آبائه عن على بن أبى طالب (عليهمالسلام) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله صوموا سر
الله. قالوا يا رسول الله وما سر الله؟ قال يوم الشك».
واما ما دل بظاهره على خلاف ما دلت عليه هذه الاخبار من
تحريم صوم يوم الشك ـ مثل ما رواه الشيخ في التهذيب عن قتيبة الأعشى (6) قال : «قال
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 5 من وجوب الصوم ونيته.
(4 و 5) الوسائل الباب 16 من أحكام شهر رمضان.
(6) الوسائل الباب 6 من وجوب الصوم ونيته والباب 1 من الصوم
المحرم والمكروه.
أبو عبد الله عليهالسلام نهى رسول الله
صلىاللهعليهوآله عن صوم ستة
أيام : العيدين وأيام التشريق واليوم الذي يشك فيه من شهر رمضان».
وما رواه فيه عن عبد الكريم بن عمرو (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام انى جعلت على
نفسي أن أصوم حتى يقوم القائم؟ فقال لا تصم في السفر ولا العيدين ولا أيام التشريق
ولا اليوم الذي يشك فيه».
ورواه في الفقيه عن عبد الكريم أيضا (2). وما رواه
الشيخ في التهذيب عن محمد بن الفضيل (3) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن اليوم الذي
يشك فيه لا يدرى أهو من شهر رمضان أو من شعبان؟
فقال : شهر رمضان شهر من الشهور يصيبه ما يصيب الشهور من
الزيادة والنقصان فصوموا للرؤية وأفطروا للرؤية ولا يعجبني أن يتقدمه أحد بصيام
يوم وذكر الحديث» ـ.
فقد حمله الشيخ على صومه بنية شهر رمضان واستدل بحديث
الزهري المتقدم ، والأقرب عندي حمل النهى عن صومه على التقية لما أشارت إليه جملة
من الأخبار المتقدمة من الرد على العامة في ما ذهبوا اليه من تحريم صومه (4).
تنبيهات
الأول ـ ينبغي أن يعلم ان المراد بيوم الشك في هذه
الأخبار ليس هو مطلق الثلاثين من شعبان بل المراد به إنما هو في ما إذا حصل
الاختلاف في رؤية هلال شعبان على وجه لم تثبت الرؤية فإن اليوم الثلاثين بناء على
دعوى الرؤية قبل ذلك يكون أول شهر رمضان وعلى دعوى العدم يكون من شهر شعبان ، أو
حصل الاختلاف في رؤية هلال شهر رمضان كذلك فإنه على تقدير دعوى الرؤية يكون
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 6 من وجوب الصوم ونيته.
(3) الوسائل الباب 5 من أحكام شهر رمضان.
(4) ارجع الى التعليقة 2 ص 34.
من شهر رمضان وعلى تقدير عدمها يكون
من شهر شعبان ، وكذا في صورة ما إذا علم هلال شعبان لكن اتفق حصول غيم مانع من
الرؤية ليلة الثلاثين ، فإنه في جميع هذه الصور يكون يوم شك ، وهذا هو الذي وردت
الاخبار باستحباب صومه وانه ان ظهر من شهر رمضان فهو يوم وفق له. واما لو كان هلال
شعبان معلوما يقينا ولم يدع أحد الرؤية ليلة الثلاثين منه ولم تكن في السماء علة
مانعة من الرؤية فإن هذا اليوم من شعبان قطعا وليس هو بيوم شك.
ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه ثقة الإسلام في الكافي
والشيخ في التهذيب بسنديهما عن هارون بن خارجة (1) قال : «قال أبو عبد الله عليهالسلام عد شعبان تسعة
وعشرين يوما فان كانت متغيمة فأصبح صائما وان كانت صاحية وتبصرته ولم تر شيئا
فأصبح مفطرا».
وما رواه الشيخ في التهذيب عن الربيع بن ولاد عن أبى عبد
الله عليهالسلام (2) قال : «إذا
رأيت هلال شعبان فعد تسعة وعشرين يوما فإن أصبحت فلم تره فلا تصم وان تغيمت فصم».
وهما ظاهران في أن أمره عليهالسلام بالصوم مع
الغيم إنما هو من حيث كونه يوم الشك الذي ورد فيه ما تقدم من انه يوم وفق له واما
مع الصحو فليس هو كذلك.
ويدل على ذلك ايضا ما رواه الشيخ في التهذيب عن معمر بن
خلاد عن أبى الحسن عليهالسلام (3) قال : «كنت
جالسا عنده آخر يوم من شعبان فلم أره صائما فأتوه بمائدة فقال ادن. وكان ذلك بعد
العصر قلت له جعلت فداك صمت اليوم. فقال لي ولم؟ قلت جاء عن أبى عبد الله عليهالسلام في اليوم الذي
يشك فيه انه قال يوم وفق له فقال أليس تدرون إنما ذلك إذا كان لا يعلم أهو من
شعبان أم من شهر رمضان فصامه الرجل فكان من شهر رمضان فكان يوما وفق له؟ فاما وليس
علة ولا شبهة
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 16 من أحكام شهر رمضان.
(3) الوسائل الباب 5 و 4 من وجوب الصوم ونيته.
فلا. فقلت أفطر الآن؟ فقال لا. فقلت
وكذلك في النوافل ليس لي أن أفطر بعد الظهر؟ قال نعم».
والظاهر ان ما دل عليه الخبران الأولان صريحا والثالث
ظاهرا من عدم صوم يوم الثلاثين مع عدم العلة والشبهة هو مستند الشيخ المفيد (قدسسره) في ما نقل
عنه من كراهية صوم هذا اليوم مع الصحو كما نقله عنه في البيان حيث قال : ولا يكره
صوم يوم الشك بنية شعبان وان كانت الموانع من الرؤية منتفية ، وقال المفيد يكره مع
الصحو إلا لمن كان صائما قبله. انتهى.
وما نقل هنا عن الشيخ المفيد (قدسسره) لعله من غير
المقنعة لأن كلامه في المقنعة صريح في الاستحباب مطلقا كما لا يخفى على من راجعه.
ثم لا يخفى عليك ان ظاهر كلام جملة من أصحابنا ان يوم
الشك عندهم هو يوم الثلاثين مطلقا كما لا يخفى على من راجع عباراتهم ومنها عبارة
البيان المنقولة هنا.
وفيه ما عرفت من دلالة الأخبار التي قدمناها على ان يوم
الثلاثين من شعبان مع عدم العلة في السماء وعدم الاختلاف في الرؤية ليس بيوم شك
ولا يستحب صومه من حيث كونه يوم شك.
وربما سبق الى بعض الأوهام من هذه الأخبار التي قدمناها
دالة على عدم استحباب صوم هذا اليوم مع عدم العلة هو تحريم صيامه نظرا الى ظاهر
النهي في بعضها. وهو توهم ضعيف لما دل على استحباب الصوم مطلقا (1) وصوم شعبان
بخصوصه كلا أو بعضا (2) وما دل عليه
آخر رواية معمر بن خلاد من النهى عن الإفطار والحال ذلك وقول الراوي «وكذلك في
النوافل» يعنى غير هذا المؤذن بكونه من النوافل.
وأبعد من ذلك ما نقل ايضا عن بعض القاصرين من تحريم
الإفطار يوم الشك
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من الصوم المندوب.
(2) الوسائل الباب 28 من الصوم المندوب.
مطلقا فرضا ونفلا كما نقله بعض
الأفاضل.
الثاني ـ الحق الشهيدان بشهر رمضان في الاكتفاء بنية
الندب متى ظهر كونه من شهر رمضان كل واجب معين فعل بنية الندب مع عدم العلم ، ونفى
عنه البأس جملة ممن تأخر عنهما : منهم ـ السيد السند في المدارك والمحدث الكاشاني
في المفاتيح والفاضل الخراساني في الذخيرة.
وعندي فيه توقف لأن الإلحاق المذكور لا يخرج عن القياس
إذ مورد الدليل شهر رمضان خاصة واشتراك الصوم المعين مع شهر رمضان في التعين وكون
الزمان لا يصلح لغيره لا يوجب تعدى الحكم المذكور.
وبالجملة فالأحكام الشرعية مقصورة عندنا على الأدلة
الواضحة خصوصا أو عموما واما تعديها بمجرد المشاركة والمناسبة ونحو ذلك فهو لا
يطابق الأصول الواردة عن أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم).
وصرح الشهيد في الدروس ـ بعد حكمه بتأدي رمضان بنية
النفل مع عدم علمه ـ بتأدية وكذا تأدى كل معين بنية الفرض من غيره ايضا بطريق أولى
، ونفى عنه البعد في المدارك. وفيه ما عرفت.
الثالث ـ لو ردد في نيته بان نوى ان كان غدا من شهر
رمضان فهو صائم فرضا وان كان من شعبان فهو صائم نفلا فللشيخ في ذلك قولان : أحدهما
ـ الإجزاء ذكره في المبسوط والخلاف ، والثاني العدم ذكره في باقي كتبه ، وبالأول
قال ابن حمزة وابن ابى عقيل والعلامة في المختلف وهو ظاهر الدروس والبيان واليه
يميل كلام المحقق الأردبيلي والمحدث الكاشاني ، والى الثاني ذهب المحقق وابن إدريس
والعلامة في الإرشاد واختاره في المدارك ونسبه الى أكثر المتأخرين.
حجة القول الأول انه نوى الواقع فوجب أن يجزئه ، وانه
نوى العبادة على وجهها فوجب أن يخرج من العهدة ، أما المقدمة الأولى فلأن الصوم ان
كان من شهر رمضان كان واجبا وان كان من شعبان كان مندوبا ، واما الثانية فظاهرة.
وبان
نية القربة كافية وقد نوى القربة.
وأجيب عن الأول والثاني بالمنع من كون النية مطابقة
للواقع وكون العبادة واقعة على وجهها ، فان الوجه المعتبر هنا هو الندب خاصة وان
فرض كون ذلك اليوم في الواقع من شهر رمضان ، فان الوجوب إنما يتحقق إذا ثبت دخول
الشهر لا بدونه والوجوب في نفس الأمر لا معنى له.
وعن الثالث بأنه لا يلزم من الاكتفاء في صوم شهر رمضان
بنية القربة الصحة مع إيقاعه على خلاف الوجه المأمور به بل على الوجه المنهي عنه.
وأجاب عنه في المعتبر أيضا بأن نية التعيين تسقط في ما
علم انه من شهر رمضان لا في ما لا يعلم.
حجة القول الثاني ان صوم يوم الشك إنما يقع على وجه
الندب ففعله على خلاف ذلك يكون تشريعا فلا يتحقق به الامتثال.
وأورد عليه ان غاية ما يستفاد من ذلك تحريم بعض خصوصيات
النية فلا يلزم فساد الصوم. وعندي ان هذا الجواب لا يخلو من نظر.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان المسألة ليس فيها نص في ما اعلم
يدل على نفى أو إثبات وإثبات الأحكام الشرعية بمثل هذه التعليلات مع سلامتها من
المناقض لا يخلو من مجازفة فكيف والمناقشة فيها قائمة من الطرفين ، وبذلك يظهر ان
المسألة محل توقف على ان حصول الترديد هنا لا يخلو من اشكال : اما بالنسبة إلى
العالم بان هذا اليوم بحسب ظاهر الشرع إنما هو من شعبان ـ وانه إنما يصام ندبا من
شعبان ولا يجوز صيامه من شهر رمضان كما هو المعلوم من الاخبار المتقدمة وعليه كافة
الفرقة الناجية إلا الشاذ القائل بجواز صيامه من شهر رمضان ـ فظاهر لأنه متى علم
ان الشارع إنما حكم به من شهر شعبان وانما جوز صيامه بنية شعبان وحرم صيامه بنية
شهر رمضان وأعلمه بأنه مع صيامه بنية شعبان يجزئه متى ظهر كونه من شهر رمضان فكيف
يردد في نيته ولما ذا يردد فيها وينوي ما منعه الشارع منه مع كونه
يحسب له وان لم ينوه؟ واما بالنسبة
إلى الجاهل بالحكم الشرعي فهو وان أمكن إلا ان حججهم وتعليلاتهم المذكورة لا تجتمع
عليه فان حجة القول الثاني لا تتم بالنسبة إلى الجاهل كما لا يخفى.
الرابع ـ صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو صام
يوم الشك بنية الندب ثم ظهر في أثناء النهار ولو قبل الغروب انه من شهر رمضان وجب
ان يجدد نية الوجوب. وهو متجه على تقدير القول بوجوب نية الوجه في شهر رمضان وقد
عرفت من ما قدمناه في بحث النية من كتاب الطهارة انه لم يقم دليل على اعتبار نية
الوجه في شيء من العبادات لا في هذا المقام ولا غيره وان القربة كافية. نعم نقل
النية إلى التعيين بكونه من شهر رمضان حيث ان النية الأولى انما تعلقت بغيره من ما
لا بد منه وان كان صوم شهر رمضان لا يفتقر الى تعيين لما علم من ان الزمان لا يصلح
لغيره ، إلا ان هذا من ما يحصل للمكلف بعد العلم بذلك من غير اعتمال ولا تكلف.
السابع ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو
أصبح في يوم الشك بنية الإفطار ثم ظهر كونه من شهر رمضان فان لم يتناول شيئا جدد
نية الصوم ما بينه وبين الزوال وأجزأه ولو زالت الشمس أمسك وقضاه عند الأكثر.
اما الحكم الأول فالظاهر انه لا خلاف فيه بينهم ، وظاهر
المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والتذكرة انه موضع وفاق بين العلماء.
واستدل عليه في المعتبر بما تقدم من حديث الأعرابي
المنقول في الموضع الثاني (1) واستدل عليه
في المدارك ايضا بما تقدم ثمة من فحوى ما دل على انعقاد الصوم من المريض والمسافر
إذا زال عذرهما قبل الزوال.
وقد تقدم ما في هذه الأدلة ونحوها من عدم الصلوح لتأسيس
الأحكام الشرعية والمسألة لذلك لا تخلو من توقف والعمل بالاحتياط فيها لازم.
__________________
(1) ص 19.
واما الحكم الثاني فهو المشهور وقد تقدم في الموضع
المشار اليه نقل كلام ابن الجنيد الدال على الاجتزاء بالنية بعد الزوال إذا بقي
جزء من النهار.
ولم نقف على دليل لشيء من القولين المذكورين ، والذي
تضمن التحديد بالزوال كموثقة عمار المتقدمة ورواية عبد الله بن بكير (1) مورده غير
صيام شهر رمضان ، وكذا ما دل ظاهره على الامتداد الى ما بعد الزوال إنما ورد في ما
عدا شهر رمضان ، فالحكم هنا لا يخلو من توقف في الموضعين المذكورين.
نعم ربما أمكن الاستناد في ذلك الى صحيحة هشام بن سالم
المتقدمة ثمة (2) قال : «قلت له
الرجل يصبح ولا ينوي الصوم فإذا تعالى النهار حدث له رأى في الصوم؟ فقال ان هو نوى
الصوم قبل أن تزول الشمس حسب له يومه وان نواه بعد الزوال حسب له من الوقت الذي
نوى». بان تحمل على ما هو أعم من شهر رمضان وان المعنى في قوله : «وان نواه بعد
الزوال حسب له من الوقت» انه متى نواه بعد الزوال فهو غير مجزئ وان كان يحسب له
ثواب صومه من ذلك الوقت الذي بنى فيه والمراد منه بطلان الصوم وان أثيب بمقدار هذا
الجزء الباقي.
ثم لا يخفى ان وجوب الإمساك بعد العلم بكونه من الشهر
بعد الزوال ليس من حيث كونه صوما لحكمهم بإيجاب قضائه وإنما هو لتحريم الأكل
والشرب في الشهر بغير شيء من الأعذار المنصوصة ، وكذا وجوب الإمساك عليه لو ظهر
كونه من الشهر بعد أن تناول المفطر.
الثامن ـ لو نوى الإفطار في يوم من شهر رمضان ثم جدد
النية للصوم قبل الزوال فالمشهور ـ بل ظاهر كلام جملة منهم الاتفاق عليه ـ هو عدم
الانعقاد ، لأن الإخلال بالنية في جزء من الصوم يقتضي فوات ذلك الجزء لفوات شرطه
ويلزم منه فساد الكل لان الصوم لا يتبعض فيجب قضاؤه ، وفي وجوب الكفارة بذلك
قولان.
__________________
(1) ص 23.
(2) الوسائل الباب 2 من وجوب الصوم ونيته.
وقال المحقق في الشرائع : لو نوى الإفطار في يوم من
رمضان ثم جدد قبل الزوال قيل لا ينعقد وعليه القضاء ، ولو قيل بانعقاده كان أشبه.
وربما حكى القول بالانعقاد عن ظاهر كلام الشيخ ، قيل :
ولعله نظر الى ظاهر ما دلت عليه صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في الموضع الثاني (1) باعتبار
دلالتها على انه بالنية قبل الزوال يحسب اليوم.
وفيه انا لم نجد أحدا من الأصحاب نقل ذلك عن الشيخ صريحا
ولا ظاهرا ، وعلى تقدير صحة النقل فالاستناد إلى الصحيحة المشار إليها لا يخلو من
نظر فان ظاهر سياق الخبر يعطي ان ذلك إنما هو بالنسبة إلى النافلة أو الواجب الغير
المعين.
وبالجملة فإن المسألة لما كانت عارية عن النص فالحكم
فيها مشكل والاحتياط فيها واجب وهو في جانب القول المشهور فيتعين العمل عليه ،
ويؤيده أنه الأوفق أيضا بالأصول الشرعية والقواعد المرعية فإن من قام وقعد وركع
وسجد لا بنية الصلاة لم تحسب له صلاة فكذلك من أمسك لا بقصد الصيام بل بقصد
الإفطار لا يسمى صياما ، والإخلال بالصيام عمدا لغير عذر في بعض اليوم يقتضي بطلان
صيام ذلك اليوم البتة. وبذلك يظهر ضعف توقف صاحب الذخيرة في هذه المسألة وانه من
جملة تشكيكاته الركيكة.
وقال شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في المسالك
بعد نقل قول المحقق : «ولو قيل بالانعقاد كان أشبه» : هذا ـ على القول بالاجتزاء
بنية واحدة مع تقدمها أو على القول بجواز تأخير النية الى قبل الزوال اختيارا ـ متوجه
لحصول النية المعتبرة والحاصل منها إنما ينافي الاستدامة الحكمية لا نفس النية ،
وشرطية الاستدامة أو توقف صحة الصوم عليها غير معلوم وان ثبت ذلك في الصلاة ، واما
على القول بوجوب إيقاع النية ليلا فأخل بها ثم جددها قبل الزوال ففي الصحة نظر لأن
الفائت هنا نفس النية في جزء من النهار وهي شرط في صحة الصوم نفسه فيفسد ذلك الجزء
__________________
(1) ص 22 وتقدمت ايضا ص 47.
والصوم لا يتبعض ، وحينئذ فيقوى عدم
الانعقاد. انتهى.
واعترض صدر كلامه المؤذن ببيان وجه الصحة لهذا القول
سبطه السيد السند في المدارك فقال انه غير جيد ، لأن القول الثاني غير متحقق
واللازم على الأول عدم اعتبار تجديد النية مطلقا للاكتفاء بالنية السابقة. ثم قال
: وكيف كان فلا ريب في ضعف هذا القول. انتهى. وهو جيد.
التاسع ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو
نوى الإفطار في أثناء النهار بعد أن عقد الصوم ثم جدد نية الصوم بعد نية الإفطار
كان صومه صحيحا ، ذهب اليه الشيخ والمرتضى وأتباعهما.
واستدلوا على ذلك بان النواقض محصورة وليست هذه النية من
جملتها فمن ادعى كونها ناقضة فعليه الدليل. وبان نية الإفطار إنما تنافي نية الصوم
لا حكمها الثابت بالانعقاد الذي لا ينافيه النوم والغروب إجماعا. وبان النية لا
يجب تجديدها في كل أزمنة الصوم إجماعا. فلا تتحقق المنافاة.
ونقل عن ابى الصلاح انه جزم بفساد الصوم بذلك وجعله
موجبا للقضاء والكفارة.
واختار العلامة في المختلف هذا القول أيضا ولكنه أوجب
القضاء دون الكفارة ، فاستدل على انتفاء الكفارة بالأصل السالم من المعارض ، وعلى
انه مفسد للصوم بأنه عبادة مشروطة بالنية وقد فات شرطها فتبطل. وبان الأصل اعتبار
النية في جميع اجزاء العبادة لكن لما كان ذلك منتفيا اعتبر حكمها وهو أن لا يأتي
بنية تخالفها ولا ينوي قطعها ، فإذا نوى القطع زالت النية حقيقة وحكما ، فكان
الصوم باطلا لفوات شرطه. وبأنه عمل خلا من النية حقيقة وحكما فلا يكون معتبرا في
نظر الشارع. وإذا فسد صوم جزء من النهار فسد صوم ذلك اليوم بالجمعة لأن الصوم لا
يتبعض.
وأجاب العلامة في المختلف عن احتجاج الشيخ المتقدم بانا
قد بينا الدليل على
ان هذه النية مبطلة للصوم من حيث انها
مبطلة لشرطه اعنى نية الصوم ومبطل الشرط مبطل للشروط ، ولا نسلم حصول الشرط لأن
ادامة النية شرط لما تقدم وقد فات ونحن قد بينا كون الدوام شرطا. انتهى.
أقول : لا يخفى أن مرجع الخلاف في هذه المسألة عند
التأمل في أدلة القولين المذكورين إلى انه هل يشترط استدامة النية في الصوم حقيقة
أو حكما أم لا؟ ومبنى القول المشهور على الثاني ومبنى القول الآخر على الأول ،
وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم في سابق هذا الموضع هو عدم الاشتراط.
قال في المدارك : وقد قطع الشيخ والمرتضى والمصنف في
المعتبر بعدم اشتراطها ثم قال : ولا بأس به لأنه الأصل وليس له معارض يعتد به ،
ومع ذلك فالمسألة محل تردد. انتهى.
وربما يقال انه يمكن الاستدلال على وجوب الاستدامة بقوله
عليهالسلام (1) «إنما الأعمال
بالنيات». وفيه انه يمكن أن يقال ان العمل هنا لم يقع إلا بنية فيدخل تحت الخبر ،
وليس في الخبر المذكور أزيد من أنه يجب وقوعه عن نية وقصد وهو كذلك واما انه يجب
استمرار ذلك القصد فلا دلالة فيه عليه.
ويمكن الاستدلال على الصحة في موضع البحث بما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : «سمعت
أبا جعفر عليهالسلام يقول : ما يضر
الصائم ما صنع
__________________
(1) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات والباب 2 من وجوب الصوم
ونيته.
(2) الوسائل الباب 1 من ما يمسك عنه الصائم. وقد رواه في
التهذيب ج 4 الطبع الحديث عن محمد بن مسلم بطرق ثلاثة : الأول ص 189 عن على بن
مهزيار عن ابن ابى عمير ، الثاني ص 202 عن الحسين بن سعيد عن ابن ابى عمير ،
الثالث ص 318 عن محمد ابن على بن محبوب عن يعقوب بن يزيد عن ابن ابى عمير ، وفي
الأولين اللفظ هكذا : «إذا اجتنب ثلاث خصال : الطعام والشراب والنساء والارتماس»
نعم في الثاني في التعليقة (1) ان في بعض المخطوطات «أربع» وفي الثالث «إذا اجتنب
أربع خصال ...» كما في الفقيه ج 2 ص 67 واللفظ في الأولين «لا يضر» وفي الثالث «ما
يضر» ولا يخفى ان
إذا اجتنب اربع خصال : الطعام والشراب
والنساء والارتماس». إلا انه يمكن تطرق الاحتمال الى تخصيص ذلك بأفعال الجوارح كما
يشير اليه قوله «ما صنع» أو كون الحصر إضافيا لا حقيقيا.
وبالجملة فالمسألة لعدم النص لا تخلو من الاشكال
والاحتياط فيها مطلوب على كل حال وهو في جانب القول الثاني.
بقي هنا شيء وهو ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله
عليهم) هو انه لا بد في صحة الصوم بعد نية الإفطار من تجديد نية الصوم وإلا كان
باطلا ، بل صرح العلامة بذلك في المنتهى فقال : قد بينا انه لو نوى الإفطار بعد
انعقاد الصوم لم يفطر لأنه انعقد شرعا فلا يخرج عنه إلا بدليل شرعي. هذا إذا عاد
ونوى الصوم اما لو لم ينو بعد ذلك الصوم فالوجه وجوب القضاء.
واعترضه في المدارك بعد نقل ذلك عنه بأنه غير جيد لأن
المقتضي للفساد عند القائل به العزم على فعل المفطر فان ثبت ذلك وجب الحكم
بالبطلان مطلقا وإلا وجب القول بالصحة كذلك كما أطلقه في المعتبر. انتهى.
وهو جيد وبه تزيد المسألة إشكالا فإن الحكم بصحة الصوم
بعد النية أولا ثم الرجوع عنها إلى نية الإفطار والاستمرار على هذه النية الى ان
ينقضي النهار من ما يكاد يقطع بعدمه.
والأقرب الى التحقيق في هذا المقام أن يقال ان العبادات
لما كانت توقيفية والمعلوم من الشرع وهو الذي عليه جرى السلف من زمنه صلىاللهعليهوآله هو وجوب النية
في الصوم بل غيره من العبادات واستصحاب تلك النية فعلا أو حكما الى آخر العبادة ،
فإنه لم يرد ولم ينقل صحته مع العدول عن تلك النية إلى نية تغايرها استمر عليها أو
لم يستمر ، فالحكم بالصحة في هذه الصورة خارج عن التوقيف المعلوم من
__________________
ابن ابى عمير يرويه عن حماد بن عثمان عن محمد بن مسلم وسيأتي
التعرض من المصنف (قدسسره) لذلك في المسألة الأولى من مسائل
المطلب الثاني.
الشرع ، وحينئذ فقول المستدل ـ ومن
ادعى كونها ناقضة فعليه الدليل ـ مردود بان الدليل على النقض خروجه عن التوقيف
الواجب اعتباره في العبادات ، فان الحكم بصحتها يتوقف على وقوعها على الوجه الذي
علم من صاحب الشريعة والذي علم منه يقينا هو اعتبار استمرار النية فعلا أو حكما
ولم يعلم منه جواز تركها أو العدول عنها الى ما ينافيها ، فالمدعى لصحة العبادة
على هذا الوجه عليه الدليل. وبذلك يظهر ان الأصح في المسألة ما ذهب إليه في
المختلف مع تأيده بالاحتياط كما عرفت.
العاشر ـ ذهب الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف إلى انه
يختص شهر رمضان بجواز تقديم نيته عليه فلو سها عن النية وقت دخوله اكتفى بالنية
الأولى ، ونقله في الخلاف عن الأصحاب وصرح بجواز تقديمها بيوم أو يومين.
قال المحقق في المعتبر بعد أن عزى ذلك الى الشيخ وذكر
انه لم يذكر له مستندا : ولعل ذلك لكون المقارنة غير مشروطة وكما جاز أن يتقدم من
أول ليلة الصوم وان تعقبها النوم والأكل والشرب والجماع جاز ان يتقدم على تلك
الليلة بالزمان المقارب كاليومين والثلاثة. لكن هذه الحجة ضعيفة لأن تقديمها في
أول ليلة الصوم مستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله (1) «من لم يبيت
نية الصوم من الليل فلا صيام له». ولأن إيقاعها قبل الفجر بحيث يكون طلوعه عند
إكمال النية عسر فينتفى ، وليس كذلك التقديم بالأيام ولأن الليلة متصلة باليوم
اتصال اجزاء النهار بخلاف الأيام. انتهى.
أقول : قد نقل العلامة في المختلف عن الشيخ انه احتج
بمضمون ما ذكره في المعتبر ثم رده بنحو ما ذكره في المعتبر ايضا. قال السيد السند
في المدارك بعد أن استجود كلام المعتبر : والأصح عدم
__________________
(1) سنن البيهقي ج 4 ص 202 عن حفصة عن النبي (ص) «من لم يبيت
الصيام من الليل فلا صيام له» وارجع في اختلاف لفظ الحديث باختلاف طرفه إلى المغني
ج 3 ص 91 ايضا.
الاكتفاء بالعزم المتقدم لان من شرط
النية المقارنة للمنوي ، خرج من ذلك تقديم نية الصوم من الليل بالنص والإجماع
فيبقى الباقي. انتهى.
ثم ان الشيخ (رحمهالله) صرح في
النهاية والمبسوط بان العزم السابق إنما يجزئ مع السهو عن تجديد النية عند دخول
الشهر ، بل قال الشهيد في البيان : ولو ذكر عند دخول الشهر لم يجزئ العزم السابق
قولا واحدا. ولا ريب ان هذا التفصيل من ما يوجب ضعف القول المذكور بناء على أصولهم
وقواعدهم ، فإن المقارنة ان كانت معتبرة كما هو المشهور في كلامهم والدائر على
ألسنة أقلامهم لم يمكن الاعتماد على العزم السابق مطلقا سها عن النية أو لم يسه
وان لم تكن معتبرة وجب الاكتفاء بالعزم السابق مطلقا.
وأنت خبير بان كلامهم هنا كله يدور على النية بالمعنى
الذي قدمنا نقله عنهم الذي هو عبارة عن الحديث النفسي والتصوير الفكري الذي يقارن
به الفعل بحيث يكون الفعل على آخره من غير فصل وزمان ، وقد عرفت ان النية ليست هذه
فإن الأمر فيها أهون من ما ذكروه ، وهذا البحث من أوله الى آخره كسائر ابحاثهم
المتقدمة ساقط على المعنى الذي حققناه آنفا.
الحادي عشر ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان
نية الصبي المميز صحيحة وصومه شرعي وكذا جملة عباداته شرعية ، بمعنى انها مستندة
الى أمر الشارع فيستحق عليها الثواب لا تمرينية ، ذهب اليه الشيخ وجمع : منهم ـ المحقق
وغيره لإطلاق الأمر ، ولأن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء ، بمعنى ان
الظاهر من حال الآمر كونه مريدا لذلك الشيء.
وقال العلامة في المختلف بعد أن نقل القول المذكور عن
الشيخ : وعندي في ذلك اشكال والأقرب انه على سبيل التمرين ، واما انه تكليف مندوب
إليه فالأقرب المنع ، لنا ـ ان التكليف مشروط بالبلوغ ومع انتفاء الشرط ينتفي
المشروط. انتهى
ويمكن تطرق القدح إليه بأن اعتبار هذا الشرط على إطلاقه
محل نظر ، فان
العقل لا يأبى توجيه الخطاب الى
المميز والعلوم من الشرع ان التكليف المتوقف على البلوغ إنما هو التكليف بالوجوب
والتحريم لحديث رفع القلم (1) ونحوه اما
التكليف المندوب فلا مانع منه عقلا ولا شرعا.
ويعضد ما قلناه ما ورد في الأخبار من جواز عتق الصبي ابن
عشر سنين وصدقته ووصيته :
ففي رواية زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام (2) قال : «إذا
أتى على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق وتصدق وأوصى على حد معروف
وحق فهو جائز».
وفي رواية عبد الرحمن بن ابى عبد الله البصري (3) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام إذا بلغ
الغلام عشر سنين جازت وصيته».
وبمضمون ذلك في الوصية أخبار عديدة (4).
وفي موثقة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (5) قال : «يجوز
طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيته وان لم يحتلم».
وفي رواية أبي بصير (6) «فإذا كان ابن
سبع سنين فاوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته».
ومنها ـ الأخبار الدالة على جواز إمامته كموثقة غياث بن
إبراهيم عن ابى عبد الله عليهالسلام (7) قال : «لا بأس
بالغلام الذي لم يبلغ الحلم ان يؤم القوم وان يؤذن». ونحوها رواية طلحة بن زيد (8) وبمضمونهما
عمل الشيخ وجمع من الأصحاب
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة العبادات ، وسنن البيهقي ج 8 ص
264.
(2 و 3 و 4 و 6) الوسائل الباب 44 من الوصايا.
(5) التهذيب ج 2 ص 385 وفي الوسائل الباب 15 من الوقوف
والصدقات وفيه «جميل بن دراج عن أحدهما ع» وفي التهذيب «جميل عن محمد بن مسلم عن
أحدهما ع».
(7 و 8) الوسائل الباب 14 من صلاة الجماعة.
ومن الظاهر ان اذن الشارع له في الصدقة والوقف والعتق
والإمامة موجب لترتب الثواب عليها فتكون شرعية ويدخل بها تحت الأوامر المطلقة
بالعتق والصدقة والإمامة ونحوها فيكون داخلا تحت الخطاب مستحقا للأجر والثواب.
وأصحابنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا النقل عنهم إنما
استندوا إلى أمر الشارع للولي بتكليف الصبي بالعبادة وان الأمر بالأمر بالشيء أمر
بذلك الشيء وما ذكرناه من الاخبار أوضح في الاستدلال وأبعد من تطرق الاحتمال
والنزاع في هذا المجال.
وبالجملة فالخطاب بإطلاقه في جميع أبواب العبادات شامل
له والفهم الذي هو شرط التكليف حاصل كما هو المفروض ومن ادعى زيادة على ذلك فعليه
الدليل ، وتخرج الأخبار التي ذكرناها شاهدة على ذلك.
ويتفرع على الخلاف المذكور وصف العبادة الصادرة منه
بالصحة وعدمها ، فان قلنا انها شرعية جاز وصفها بالصحة لأنها عبارة عن موافقة
الأمر ، وان قلنا انها تمرينية لم توصف بصحة ولا فساد.
وقال شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في كتاب
المسالك ـ بعد قول المصنف : نية الصبي المميز صحيحة وصومه شرعي ـ ما صورته : اما
صحة نيته وصومه فلا اشكال فيه لأنها من باب خطاب الوضع وهو غير متوقف على التكليف
، واما كون صومه شرعيا ففيه نظر لاختصاص خطاب الشرع بالمكلفين ، والأصح أنه تمريني
لا شرعي. انتهى.
واعترضه سبطه السيد السند في المدارك بأنه غير جيد ، قال
: لأن الصحة والبطلان اللذين هما موافقة الأمر ومخالفته لا يحتاج الى توقيف من
الشارع بل يعرف بمجرد العقل ككونه مؤديا للصلاة وتاركا لها ، فلا يكون من حكم
الشرع في شيء بل هو عقلي مجرد كما صرح به ابن الحاجب وغيره. انتهى.
أقول : مرجع كلام السيد السند الى منع كون الصحة
والبطلان من باب
خطاب الوضع وهو الذي صرح به ابن
الحاجب في المختصر وشارحة في الشرح ، وهو ظاهر العلامة في النهاية لما ذكره هنا من
انه بعد ورود أمر الشارع بالفعل فكون الفعل موافقا للأمر أو مخالفا وكون ما فعل
تمام الواجب حتى يكون مسقطا للقضاء وعدمه لا يحتاج الى توقيف من الشارع بل يعرف
بمجرد العقل ، فهو ككونه مؤديا للصلاة وتاركا لها سواء بسواء ، فلا يكون حصوله في
نفسه ولا حكمنا به من حكم الشرع في شيء بل هو عقلي مجرد ، وهذا بخلاف الأحكام
الوضعية التي هي عبارة عن الشرط والسبب والمانع الذي يكون حصوله في نفسه والحكم به
موقوفا على الشرع.
وأنت خبير بان من رجع الى الأخبار التي قدمناها لا يخفى عليه ضعف ما ذهب اليه شيخنا المذكور وكل من تقدمه وتأخر عنه وقال بأن عبادة الصبي تمرينية وليست بشرعية. واما قول شيخنا المشار إليه في منع كون صومه شرعيا ـ لاختصاص خطاب الشرع بالمكلفين ـ فقد عرفت جوابه.