ج20 - أحكام الدين
المقصد الثاني
والبحث فيه يقع في مقامين الأول ـ في الدين المطلق ،
وفيه مسائل.
الأولى ـ قد صرح جملة من الأصحاب بأنه لو غاب المدين وجب
نية القضاء والعزل عند امارة الموت ، ولو آيس منه تصدق به عنه ، وان قطع بموته وانتفاء
الوارث كان للإمام عليهالسلام.
أقول : وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع : أحدها ـ ما
ذكروه من وجوب نية القضاء هو ظاهر جملة من الاخبار من غير تقييد بالغيبة.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : وجوب نيته القضاء
ثابت على كل من عليه حق ، سواء كان ذو الحق غائبا أم حاضرا ، لان ذلك من أحكام
الإيمان انتهى.
ومقتضى كونه من أحكام الايمان كما ذكره الخروج عنه لو لم
ينو ، وهو مشكل لعدم الوقوف على دليله ، الا ان يراد الايمان الكامل ، وكان
تخصيصهم وجوب النية بالغائب انه في المدين الحاضر يجب الدفع اليه عند الطلب ، وأما
الغائب فإن النية تقوم مقام ذلك ، الا
ان فيه ان مع الحضور قد لا يتمكن من الدفع ، فتجب النية حينئذ متى امكنه ذلك.
واما الاخبار التي أشرنا إليها فمنها ما رواه في الكافي
عن عبد الغفار المجازي (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل مات وعليه دين قال : ان كان أتى على يديه من غير فساد لم يؤاخذه الله عزوجل إذا علم بنيته
الا من كان لا يريد ان يؤدى عن أمانته فهو بمنزلة السارق ، وكذلك الزكاة أيضا
وكذلك من استحل ان يذهب بمهور النساء».
وما رواه في الفقيه عن أبى خديجة (2) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «أيما
رجل أتى رجلا فاستقرض منه مالا وفي نيته أن لا يؤديه فذلك اللص العادي».
وما رواه في الكافي عن ابن فضال عن بعض أصحابه (3) عن ابى عبد
الله عليهالسلام قال : «من
استدان دينا فلم ينو قضاءه كان بمنزلة السارق».
وما ذكره الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه
الرضوي (4) في كلام له عليهالسلام في الدين قال
: «فان لم ينو قضاءه فهو سارق ، فاتق الله وأد الى من له عليك ، وارفق بمن لك عليه»
الخبر.
ويدل على خصوص الغائب رواية زرارة بن أعين (5) في الصحيح قال
: «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يكون
عليه الدين لا يقدر على صاحبه ، ولا على ولى له ، ولا يدرى بأي أرض هو ، قال : لا
جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء».
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 99.
(2) الفقيه ج 3 ص 112.
(3) الكافي ج 5 ص 99.
(4) المستدرك ج 2 ص 489.
(5) التهذيب ج 6 ص 188.
ويؤكد هذه الاخبار ما رواه في الكافي عن حمدان بن
إبراهيم الهمداني (1) رفعه الى بعض
الصادقين عليهمالسلام قال : «انى
لأحب للرجل أن يكون عليه دين ينوي قضاءه».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن رباط (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام ، يقول : من
كان عليه دين ينوي قضائه كان معه من الله عزوجل حافظان
يعينانه على الأداء عن أمانته فإن قصرت نيته عن الأداء قصرا عنه من المعونة بقدر
ما قصر من نيته».
وثانيها : ما ذكروه من وجوب العزل عند امارة الموت ،
والذي صرح به الشيخ رحمهالله هو الوجوب
مطلقا ، وابن إدريس قد منع ذلك.
قال في السرائر : وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ومن وجب
عليه دين وغاب عنه صاحبه غيبة لم يقدر عليها معها وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل
ماله عن ملكه ، وهذا غير واجب ، أعنى عزل المال بغير خلاف من المسلمين ، فضلا عن
طائفتنا انتهى.
وقال في المسالك : وأما العزل عند الوفاة فظاهر كلامهم
خصوصا على ما يظهر من المختلف أنه لا خلاف فيه ، والا لأمكن تطرق القول بعدم
الوجوب ، لأصالة البراءة مع عدم النص انتهى.
أقول : الذي وقفت عليه في المختلف هو أنه بعد أن نقل
عبارة النهاية المتقدمة وكلام ابن إدريس قال : ليس عندي بعيدا من الصواب حمل قول
الشيخ على من حضرته الوفاة ، أو حمل العزل على استبقاء ما يساوى الدين بمعنى أنه
يجوز له التصرف في جميع أمواله بالصدقة وغيرها الا ما يساوى الدين ، فإنه يجب عليه
إبقاءه للايفاء انتهى.
وفي فهم عدم الخلاف من هذه العبارة نظر ، إذ لعل ذلك
بالنسبة الى ما يرجحه
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 93.
(2) الكافي ج 5 ص 95 التهذيب ج 6 ص 185.
ويختاره في المسألة.
وكيف كان فأصالة العدم مع عدم ورود نص في المقام أقوى
مستمسك ، قال المحقق الأردبيلي (قدسسره) : وأما وجوب
العزل فذكروه ايضا ، ودليله غير ظاهر ، الا ما يتخيل أنه غاية ما يمكن وأنه أقرب
الى الوفاء ، وبعيد عن تصرف الغير ، ولكن تمسك الأصحاب بمثل هذا مشكل ، الا أن
يكون إجماع ونحوه ، ويشكل أيضا تعينه بذلك بحيث لو تلف يكون من مال الغريم من غير
ضمان الا مع التفريط والتقصير ، والقول به بعيد انتهى وهو جيد.
نعم يمكن القول بوجوب الوصية به كما ذكره بعض الأصحاب
أيضا لأنه مع ترك الوصية ربما أدى الى فواته ، وبقاء ذمته مشغولة بالدين ، لعدم
علم الورثة ، بل ظاهر جملة من الأصحاب القول بوجوب الوصية مطلقا بما له وعليه ،
ويدل عليه جملة من الاخبار الآتية في محلها إنشاء الله تعالى والله العالم.
وثالثها : الصدقة به عنه ، قال العلامة في المختلف : إذا
غاب المالك غيبة منقطعة ومات ولم يعرف له وارث قال الشيخ في النهاية : يجتهد
المديون في طلب الوارث ، وان لم يظفر به تصدق عنه ، وتبعه ابن البراج ، وقال ابن
إدريس : يدفعه الى الحاكم إذا لم يعلم له وارثا ، فان قطع أنه لا وارث له كان
لإمام المسلمين لأن الإمام يستحق ميراث من لا وارث له.
والمعتمد أن نقول : ان لم يعلم انتفاء الوارث وجب حفظه ،
فان آيس من وجوده والظفر به أمكن أن يتصدى به ، وينوي القضاء عند الظفر بالوارث ،
وان علم انتفاء الوارث كان للإمام.
أما الأول فلأنه مال معصوم يجب حفظه على مالكه ، كغيره
من الأموال ومع اليأس من الظفر بالوارث ، وعدم العلم به يمكن التصدق به ، لئلا
يعطل المال إذ لا يجوز له التصرف فيه ، ولا يمكن إيصاله إلى مستحقه فأشبه اللقطة
فحكمه ، ان الحكم المنوط بها حكم اللقطة موجود هنا ، فيثبت الحكم عملا بوجود
المقتضى.
وأما الثاني فلأن له ميراث من لا وارث له ، فيكون للإمام
(عليهالسلام)
انتهى.
وقال شيخنا الشهيد الثاني (نور الله تعالى مرقده) في
المسالك بعد أن ذكر الاجتهاد في طلبه : فان آيس منه قال الشيخ «رحمة الله عليه» :
يتصدق عنه ، وتبعه عليه جماعة من الأصحاب وتوقف المصنف هنا ، والعلامة في كثير من
كتبه لعدم النص على الصدقة ومن ثم ذهب ابن إدريس الى عدم جوازها ، لأنها تصرف في
مال الغير غير مأذون فيه شرعا ، ولا شبهة في جوازه ، انما الكلام في تعينه ، ووجه
الصدقة أنها إحسان محض بالنسبة إلى المالك ، لأنه ان ظهر ضمن له عوضها أن لم يرض
بها ، والا فالصدقة أنفع له من بقائها المعرض لتلفها بغير تفريط ، المؤدي إلى سقوط
حقه ، وقد قال الله تعالى (1) «ما
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ».
خصوصا ورود الأمر بالصدقة في نظائره كثيرة ، وحينئذ
فالعمل بهذا القول أجود ، خصوصا مع تعذر قبض الحاكم لها ، أما معه فهو أحوط ، وحيث
يمكن مراجعته فهو اولى من الصدقة بغير اذنه ، وان كان جائزا لأنه أبصر بمواقعها
ومصرفها انتهى.
أقول : هذه جملة من كلماتهم في المقام أطلنا بنقلها
لتحيط خبرا بالأقوال في المسألة والتعليلات التي اعتمدوها أدلة لما صار كل منهم
اليه ، وظاهرهم بل صريح عبارة المسالك عدم وجود نص في المسألة ، مع أن النصوص
موجودة ، وان كانت لا تخلو عن تناف بحسب الظاهر.
والذي وقفت عليه منها ما تقدم من صحيح زرارة (2) «الدال على أنه
لا جناح عليه بعد أن يعلم الله منه أن نيته الأداء».
قال العلامة في التذكرة بعد نقله أنه يدل من حيث المفهوم
على منع التصدق ووجوب الطلب دائما : ولا يخفى ما فيه لان الطلب مع اليأس وعدم
إمكان الوجدان عبث لا يحسن أن يأمر به عليهالسلام فيمكن حمله
على عدم اليأس ، والأظهر عندي أن الغرض
__________________
(1) سورة التوبة الآية ـ 91.
(2) التهذيب ج 6 ص 188.
من السؤال انما هو أنه هل يؤاخذ لشغل
الذمة على هذه الحال أم لا؟ فأخبره بأنه لا جناح عليه إذا علم الله سبحانه من نيته
الأداء.
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم)
بأسانيدهم وفيها الصحيح عن معاوية بن وهب (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام في رجل كان له
على رجل حق ففقده ولا يدرى أين يطلبه ، ولا يدرى أحي هو أم ميت ، ولا يعرف له
وارثا ولا نسبا ولا ولدا ، قال : أطلب قال : ان ذلك قد طال ، فأتصدق به؟ قال :
أطلبه». قال : في الفقيه وقد روى في هذا خبر آخر «ان لم تجد له وارثا وعلم الله
منك الجهد فتصدق به».
أقول : ربما أشعر ظاهر هذا الخبر أيضا بوجوب الطلب دائما
، ولو مع اليأس ، وفيه ما عرفت آنفا ، والواجب حمله على إمكان الوجود وعدم اليأس ،
أو الاستحباب والتخيير جمعا بينه وبين ما يأتي ، ومنه المرسلة المذكورة ، وهذا
المرسلة ظاهرة فيما ذهب الى الشيخ ، ومن تبعه من وجوب الصدقة.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن (نصر بن) حبيب (2) صاحب الخان
قال : «كتبت الى عبد صالح عليهالسلام قال : قد وقعت
عندي مائتا درهم (وأربعة دراهم) ، وانا صاحب فندق فمات صاحبها ، ولم أعرف له ورثة
فرأيك في إعلامي حالها ، وما أصنع بها فقد ضقت بها ذرعا؟ فكتب أعمل فيها وأخرجها
صدقة قليلا قليلا حتى تخرج». قال في الاستبصار (3) : «إنما له أن يتصدق بها إذا ضمن
لصاحبها أو أنها للإمام ، فأمره أن يتصدق عنه».
أقول : الظاهر بعد الاحتمال الثاني ، لأن عدم معرفته
الورثة لا يدل على العدم ، سيما أنه لم يطلب ولم يفحص ، وكون ذلك للإمام مشروط
بالعلم بعدم الوارث كما لا يخفى ، وبه يظهر أن هذا الخبر دليل على قول الشيخ ومن
تبعه ، وأن ما ذكره
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 241 التهذيب ج 6 ص 188.
(2) التهذيب ج 9 ص 389 وفيه عن فيض بن حبيب.
(3) الاستبصار ج 4 ص 197.
الأصحاب من عدم النص على ذلك غفلة عن
الوقوف عليه وعلى أمثاله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الهيثم ابن أبى روح صاحب
الخان (1). قال : «كتبت
الى عبد صالح عليهالسلام أنى أتقبل
الفنادق فينزل عندي الرجل فيموت فجأة ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ، ولا ورثته فيبقى
المال عندي كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟ فقال : اتركه على حاله». وظاهر هذا الخبر
بقاؤه أمانة عنده حتى يظهر له طالب.
وعن هشام بن سالم (2) قال : «سأل «خطاب الأعور» أبا
إبراهيم عليهالسلام وأنا جالس ،
فقال : انه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالأجر ففقدناه ، وبقي من أجره شيء ولا
نعرف له وارثا قال : فاطلبوه قال : قد طلبناه ولم نجده ، فقال : مساكين وحرك يديه
، قال : فأعاد عليه قال : اطلب واجهد فإن قدرت عليه ، والا هو كسبيل مالك حتى يجيء
له طالب ، فان حدث بك حدث فأوص به ان جاء له أن يدفع اليه».
قال المحدث الكاشاني : في ذيل هذا الحديث «مساكين» يعنى
أنتم مساكين حيث ابتليتم بهذا ، أو حيث لم تعرفوا أنه لمن هو فإنه للإمام عليهالسلام ، فكأنه عليهالسلام ، لم ير
المصلحة في الإفصاح بذلك ، ويؤيد هذا المعنى ما يأتي في باب من مات وليس له وارث ،
أو فقد وارثه من كتاب الجنائز من الاخبار ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله «مساكين»
يدفع الى المساكين أو رأيك أن تدفع الى المساكين على سبيل الاخبار أو الاستفهام
كما يدل عليه الخبران الإتيان انتهى.
أقول : الظاهر عندي بعد ما ذكره من الاحتمالين ، فان عجز
الخبر ينادى بصريحه أنه بعد مراجعة السائل أمره أنه يكون عنده في ذمته حتى يجيء
طالبه ، وهو أحد الوجوه في المسألة كما سيأتي إيضاحه إنشاء الله تعالى ، وحينئذ
فالمراد بقوله مساكين انما هو الترحم لهم لأجل ابتلائهم بذلك كما هو المعنى الأول
الذي ذكره.
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 154 التهذيب ج 9 ص 389.
(2) التهذيب ج 9 ص 389 وفيه (حفص الأعور).
وما رواه في التهذيب عن هشام بن سالم (1) في الموثق قال
: «سأل حفص الأعور أبا عبد الله عليهالسلام ، وأنا عنده
جالس ، فقال : أنه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه وله عندنا دراهم ، وليس له وارث
، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : تدفع الى
المساكين ، ثم قال : رأيك فيها ، ثم أعاد عليه المسألة فقال له : مثل ذلك فأعاد
عليه المسألة ثالثة ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : تطلب له
وارثا ، فان وجدت له وارثا ، والا فهو كسبيل مالك ، ثم قال : ما عسى أن نصنع بها ،
ثم قال : توصي بها فان جاء طالبها والا فهي كسبيل مالك».
أقول : قوله «وليس له وارث» يعنى باعتبار علمنا ، والا
فلو كان عدم الوارث معلوما كان من الأنفال ، ولم يتجه الجواب هنا بما ذكره عليهالسلام ، ثم أن الخبر
قد تضمن أولا جوابه عليهالسلام بالدفع الى
المساكين ، يعنى الصدقة به كما دل عليه الخبران المتقدمان ، فيكون مؤيدا لقول
الشيخ ومن تبعه ، ثم انه بعد مراجعة السائل ثانيا أجابه بذلك ايضا ، وبعد المراجعة
ثالثا أجابه بأنه بعد طلب الوارث وعدم وجوده يكون كسبيل ماله.
والظاهر أن المراد بذلك الكناية عن جواز التصرف فيه ،
والتملك له بشرط الرد ان ظهر طالب ، والوصية بذلك عند الموت ، كما دل عليه هذا
الخبر ، وخبر خطاب الأعور المتقدم ، وحينئذ فيجب حمل الخبر على التخيير بين
الأمرين المذكورين كما يجمع به بين الاخبار المتقدمة ، فإن بعضا منها دل على
الصدقة ، وبعضا على أنه كسبيل ماله ، وربما أشعر هذا الخبر بأن الأفضل هو الصدقة ،
وان جاز التملك مع الضمان ، حيث أنه عليهالسلام ، انما سوغ له
الثاني بعد المراجعة ثلاثا ، ولعل قصد السائل في هذه المراجعات مع أمره له بالصدقة
أولا وثانيا هو أنه قد سمع جواز التملك مع الضمان ، وكان رغبته في ذلك فجوزه عليهالسلام له أخيرا.
وما رواه في الفقيه في الصحيح عن صفوان بن يحيى عن ابن
جنيد عن هشام
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 177.
بن سالم (1) قال : «سأل
حفص الأعور أبا عبد الله عليهالسلام ، وأنا حاضر
فقال : كان لأبي أجير وكان له عنده شيء ، فهلك الأجير ولم يدع وارثا ولا قرابة ،
وقد ضقت بذلك فكيف أصنع؟ فقال : رأيك المساكين ، فقلت : جعلت فداك انى ضقت بذلك ،
فكيف أصنع؟ فقال : هو كسبيل مالك ، فان جاء طالب أعطيته».
وهذا الخبر موافق لعجز سابقه ، ولخبر خطاب الأعور وأنت
خبير بما ذيلنا به هذه الاخبار ، أن بعضا منها دل على الصدقة ، وبعضا على الأمانة
في يده ، وبعضا دل على التملك ، وأنه كسبيل ماله يتصرف فيه كما شاء مثل سائر
أمواله مع الضمان والوصية به ، والجمع بينهما بالحمل على التخيير بين الأمور
الثلاثة.
والأصحاب القائلون بالصدقة قيدوها بأنه يتصدق به عن
المالك ، ومتى ظهر المالك ورضى بذلك فلا اشكال : ومع عدم رضاه فيغرم للمتصدق له ،
ويكون ثواب الصدقة للمتصدق ، ولا بأس به ، وان كانت الأخبار مطلقة إذ التصدق بمال
الغير بغير اذنه والتصرف فيه كذلك ممنوع عقلا ونقلا ، وأما التصدق به على الوجه
المذكور فاحسان محض ، «وما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» لانه قد نوى
التصدق به على المالك ، فان اتفق موته قبل الصدقة أو بعدها فقد وصل اليه ثواب
الصدقة ، وان اتفق حياته ورجوعه الى ماله ، فهو مخير بين قبول ثواب الصدقة ،
وغرامة ماله ، ورجوعه عليه ، فالاحسان ظاهر ، وفي بقائه أمانة ـ من خطر التلف بغير
تفريط الموجب لعدم الضمان ـ ما هو ممكن ، وكذا في جواز التصرف فيه وتملكه مع
الوصية من حيث احتمال عدم رجوعه وظهوره ، فالتصدق على كل حال أرجح (2).
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 241.
(2) ومن جملة الفروع على ذلك قالوا لو دفعها الى الحاكم فلا
ضمان وان تلف في يده بغير تفريط ولم يرض المالك ، أما مع بقاء عينها معزولا في يده
أو يد وارثه فينبغي أن يكون حكمها حكم ما لو كانت في يد الحاكم ، لأن الإذن الشرعي
في عزلها يصيرها أمانة في يده ، فلا يتبعه الضمان مع احتماله ، لأن الأمانة هنا
شرعية لا مالكية والأمانة
ثم ان ما ذكره الأصحاب من الرجوع للحاكم الشرعي وأطالوا
به ، وفرعوا عليه لا وجود له في أخبار المسألة كما سمعت ، الا أن العذر لهم ظاهر
من جهة عدم ذكرهم لما نقلناه من هذه الاخبار ، بل عدم وقوفهم عليها ، وأن كانوا غير
معذورين من جهة التتبع للأدلة من مظانها ، والاستعجال في التصنيف وجمود من اللاحق
على ما ذكره السابق ، نسأل الله سبحانه لنا ولهم المسامحة في زلات الاقدام ،
والعفو عن هفوات الأقلام ، وزيغ الأفهام في الأحكام.
قال في المسالك : ومصرف هذه الصدقة مصرف المندوبة ، وان
وجبت على المديون أو وارثه بالعارض ، فإنه بمنزلة الوكيل والوصي الذي يجب عليه
الصدقة وان كانت في أصلها مندوبة انتهى.
ورابعها : ما ذكروه من أنه مع القطع بموته وعدم وجود
الوارث فهو للإمام عليهالسلام وهو مما لا
خلاف فيه بين علمائنا الاعلام ، وبه استفاضت الاخبار كما تقدمت الإشارة إليه في
كتاب الخمس في بحث الأنفال ، وحيث أنا لم نعط المسألة حقها ثمة من التحقيق ونقل
جملة الأخبار المتعلقة بها ، حيث أن هذا الخاطر انما خطر لنا في الكتب الأخيرة
فتنقل هنا جملة أخبار المسألة وما يتعلق بها من البحث والتحقيق.
فمنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) «عن أبى جعفر عليهالسلام قال : من مات
وليس له وارث من قرابته ، ولا مولى عتاقه قد ضمن جريرته فماله من الأنفال».
وفي رواية حماد بن عيسى (2) الطويلة
المتقدمة في الكتاب المشار اليه آنفا قال : «فيه وهو وارث من لا وارث له».
__________________
الشرعية قد يتبعها الضمان انتهى. وظاهر الشهيد في الدروس
التخيير بين الدفع للحاكم وبين إبقائه في يده أمانة وبين الصدقة مع الضمان ـ منه رحمهالله.
(1) التهذيب ج 9 ص 387 الفقيه ج 4 ص 242.
(2) الكافي ج 7 ص 169.
وما رواه الصدوق في الفقيه عن أبان بن تغلب (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام في رجل يموت
لا وارث له ولا مولى له؟ قال : هو من أهل هذه الآية «يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفالِ».
وما رواه في الكافي عن الحلبي (2) في الصحيح أو
الحسن عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من مات
وترك دينا فعلينا دينه وإلينا عياله ، ومن مات وترك مالا فلورثته ، ومن مات وليس
له موالي فماله من الأنفال».
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن والشيخ في الموثق
عن محمد الحلبي (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام «في قول الله عزوجل (4) «يَسْئَلُونَكَ
عَنِ الْأَنْفالِ» قال : من مات وليس له مولى فماله من
الأنفال».
وأما ما رواه في الكافي والتهذيب عن داود عمن ذكره (5) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «مات
رجل على عهد أمير المؤمنين (عليهالسلام) لم يكن له
وارث فدفع أمير المؤمنين عليهالسلام ميراثه الى
همشهريجه».
وما رواه في الكافي عن خلاد السندي (6) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : كان على
عليهالسلام يقول في الرجل
يموت ويترك مالا وليس أحد : أعط الميراث همشاريجه».
وما رواه في التهذيب عن خلاد عن السري (7) رفعه الى أمير
المؤمنين عليهالسلام ، «في الرجل
يموت ويترك مالا ليس له وارث قال : فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : أعط
همشاريجه». فقد أجاب الشيخ عن هذه الروايات بعد الطعن
__________________
(1) الفقيه ج 2 ص 23 التهذيب ج 9 ص 387.
(2) الكافي ج 7 ص 168.
(3) الكافي ج 7 ص 169 التهذيب ج 9 ص 386.
(4) سورة الأنفال الآية ـ 1.
(5 ـ 6) الكافي ج 7 ص 169 التهذيب ج 9 ص 387.
(7) التهذيب ج 9 ص 387.
في الأسانيد ـ بالحمل على تبرعه بحقه
، لا أن هذا حكم كل مال لا وارث له ، وهو جيد.
وقال الصدوق في الفقيه : متى كان الامام ظاهرا فماله
للإمام عليهالسلام ومتى كان
الإمام غائبا فماله لأهل بلده متى لم يكن له وارث ، ولا قرابة أقرب إليه بالبلدية.
أقول : أنت خبير بما فيه فان قصد بذلك الجمع بين هذه
الاخبار بما ذكره ففيه أن اخبار الدفع الى أهل البلد صريحة في وجود الامام عليهالسلام ، فان الدافع
هو أمير المؤمنين عليهالسلام فكيف يصح
حملها على زمن الغيبة ، والاخبار الاولى وان كانت مطلقة الا أن هذه الاخبار ظاهرة
في زمن الحضور ، وان كان ذلك حكما كليا لا بالنظر الى هذه الاخبار فلا دليل عليه
والله العالم.
المسألة الثانية : لو كان لأحد في ذمة آخر دين فباعه
بأقل منه عينا أو قيمة على وجه لا يحصل فيه الربا ، ولا الإخلال بشروط الصرف لو
كان العوضان من الأثمان ، فالمشهور بين الأصحاب أنه يجب على الذي عليه الدين دفع
ذلك الدين كملا إلى المشتري ، لأنه قد انتقل اليه بالعقد الصحيح كما انتقل الثمن
بأجمعه إلى البائع.
وقال الشيخ وجماعة : انه لا يلزم المدين أكثر مما دفعه
المشترى من الثمن ، ولا ريب في مخالفة هذا القول للقواعد الشرعية ، والضوابط
المرعية ، الا أنه قد وردت به الاخبار وعليها اعتمد الشيخ (رحمة الله عليه) فيما
أفتى به هنا.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن الفضيل عن
أبي حمزة (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل كان
لرجل عليه دين ، فجاء رجل فاشترى منه بعرض ، ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال
له : أعطني مال فلان عليك ، فانى قد اشتريته منه ، كيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال
أبو جعفر (عليهالسلام) يرد عليه
الرجل الذي عليه الدين ماله الذي اشترى به من الرجل الذي له الدين».
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 100 التهذيب ج 6 ص 189.
وعن محمد بن الفضيل (1) قال : «قلت للرضا عليهالسلام : رجل اشترى
دينا على رجل ، ثم ذهب الى صاحب الدين ، فقال له : ادفع الى ما لفلان عليك فقد
اشتريته منه؟ قال : يدفع اليه ما دفع الى صاحب الدين ، وبريء الذي عليه المال من
جميع ما بقي عليه».
والمشهور بين المتأخرين رد الخبرين بضعف الاسناد ،
ومخالفة القواعد الشرعية كما ذكرناه آنفا ، خصوصا الرواية الثانية المتضمنة لبراءة
المدين عليه المال من جميع ما بقي عليه ، فإنه لا يعقل هيهنا وجه للبراءة لأنه قبل
البيع ملك البائع وبعد البيع فاما أن ينتقل بالبيع إلى المشتري أم لا؟ فان انتقل
فالواجب دفع الجميع إلى المشترى ، والا فلا موجب لخروجه عن ملك الأول.
وأما الرواية الأولى فيمكن حملها على مساواة ما اشترى به
الدين الذي اشتراه فإنها وان كانت مطلقة ، لكن تنزيلها على ما ذكرناه ممكن لئلا
يخرج عن مقتضى القواعد الصحيحة والضوابط الصريحة.
وبالجملة فالمسألة بمحل من الإشكال ، إذ الخروج عن مقتضى
القواعد المذكورة مشكل ، وطرح الخبرين من غير معارض في المقام أشكل ، ولو وقع
بطريق الصلح صح ولا اشكال ، ولا يراعى فيه شروط الصرف ، لاختصاصه بالبيع ، أما
الربا فينبغي مراعاته للقول بعدم اختصاصه بالبيع ، كما تقدم في بابه (2).
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 100 ، التهذيب ج 6 ص 191.
(2) ومما يؤيد الخبرين المذكورين ، رواه في الكافي والتهذيب عن
عمر بن يزيد (الكافي ج 5 ص 259) «قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح
عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه» فإنه ظاهر في براءة ذمة المضمون عنه فيما
زاد عن مال الصلح ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا في هذه المسألة والفرق بين المسألتين
لا يخلو من خفاء واشكال ، وان أمكن تكلفه الا أن الخبر المذكور لا يخلو من تأييد
لما نحن فيه. منه رحمهالله.
وللعلامة في المختلف هنا مع ابن إدريس كلام قد بسط فيه
لسان الطعن على ابن إدريس والتشنيع لنسبته الى التجهيل مع التأويل للخبرين
المذكورين لا بأس بنقله في المقام ، وان طال به زمام الكلام ، لما فيه من الفوائد
الظاهرة لذوي الأفهام.
قال (قدسسره) في الكتاب
المذكور : لو باع الدين بأقل مما له على المديون ، قال الشيخ : لم يلزم المدين
أكثر مما وزن المشترى من المال ، وتبعه ابن البراج على ذلك ، وقال ابن إدريس : قول
الشيخ طريف عجيب يضحك الثكلى ، وهو أنه إذا كان الدين ، ذهبا كيف يجوز أن يبيعه
بذهب أقل منه ، وان كان فضة كيف يجوز بيعه بفضة أقل منه ، أو ان كان ذهبا فباعه
بفضة ، أو فضة فباعه بذهب ، كيف يجوز انفصالهما من مجلس البيع الا بعد أن يتقابضا
الثمن والمثمن ، يقبض البائع الثمن ، والمشترى المثمن ، فان هذا لا خلاف فيه بين
طائفتنا ، بل لا خلاف فيه بين المسلمين ، وقوله لم يلزم المدين أكثر مما وزن
المشترى من المال ان كان البيع صحيحا لزم المدين تسليم ما عليه جميعه إلى المشتري
، لأنه صار مالا من أمواله بالشراء ، وقد يشتري الإنسان ما يساوى خمسين قنطارا
بدينار واحد ، إذا كان البائع من أهل الخبرة ، وانما هذه أخبار آحاد أوردها على ما
وجدها إيرادا لا اعتقادا.
ثم قال العلامة : واعلم أن كلام الشيخ قد اشتمل على
حكمين ، الأول ـ جواز بيع الدين بأقل منه. ولا ريب في جوازه ، ونسبة ابن إدريس
كلام الشيخ فيه الى أنه طريف عجيب يضحك به الثكلى جهل منه ، وقلة تأمل وسوء فهم ،
وعدم بصيرة وانتفاء التحصيل لكلام العلماء ، وعدم معرفة بمدلول أقوالهم ، فإن
الشيخ لم يحصر هو ولا غيره من المحصلين الدين في النقود ، بل يجوز أن يكون ذهبا أو
فضة أو غيرهما من الأقمشة والأمتعة ، ثم لم يحصروا بيع الدين بالنقود ، ولا أوجبوا
أن يكون الثمن من الذهب ، أو الفضة حتى يتعجب من ذلك ، ويظهر للعامة قلة إدراكه
وعدم تحصيل وسوء أد به ومواجهة مثل هذا الشيخ المعظم الذي هو رأس المذهب والمعلم
له ، والمستخرج للمعاني من كلام الأئمة (عليهمالسلام) ، بمثل هذه
السفه
والقول الردى ، وهل منع أحد من
المسلمين بيع قفيز حنطة في الذمة يساوي دينارا بربع دينار ، أو بيع الدينار الدين
بربع القفيز ، فإن أداه سوء فهمه وقلة تحصيله الى اشتراط المساواة في الجنس
باعتبار لفظة أقل كان ذلك غلطا ظاهرا ، وجعل المال ما لا يدخل فيه الربا فيه ،
لظهور مثل هذه القواعد الممهدة والقوانين الموطدة من تحريم الربا ، على انه في
باقي كلامه صرح بجواز ذلك حيث تعجب من عدم التزام المديون بجميع الدين ، وسوغ بيع
ما يساوى خمسين قنطارا بدينار ، لكن هذا الرجل لقلة تحصيله لا يفهم وقوع التناقض
في كلامه ، وتعجبه بنفسه لا يبالي أين يذهب.
الحكم الثاني ـ عدم إلزام المديون بأكثر مما وزنه
المشترى والشيخ عول في ذلك على رواية محمد بن الفضيل ، ثم ذكر الرواية كما قدمناه
، ثم ذكر رواية أبي حمزة ، ثم قال : ولا ريب في صحة البيع ولزومه ووجوب إيفاء
المشتري ما على المديون.
ولا بد حينئذ من محمل للروايتين وليس بعيدا من الصواب أن
يحملا على أحد الأمرين ، الأول ـ الضمان ويكون إطلاق البيع عليه والشراء بنوع من
المجاز ، إذ الضامن إذا أدى عن المضمون باذنه عرضا عوضا عن الدين كان له المطالبة
بالقيمة ، وهو نوع من المعاوضة يشبه البيع ، بل هي هو في الحقيقة ، وانما ينفصل
عنه بمجرد اللفظ لا غير.
المحمل الثاني أن يكون البيع وقع فاسدا فإنه يجب على
المديون دفع ما ساوى مال المشتري إليه بالإذن الصادر من صاحب الدين ، ويبرئ من
جميع ما بقي عليه من المشترى ، لا من البائع ، ويجب عليه دفع الباقي الى البائع
لبرائته من المشترى ، وهذان المحملان قريبان ، يمكن صرف الروايتين إليهما ، وكلام
الشيخ أيضا يحمل عليهما من غير أن ينسب الشيخ الى ما نسبه ابن إدريس انتهى كلامه
زيد مقامه.
ولا يخفى ما في كل من محمليه للخبرين من التكلف والتعسف
، الذي يقطع
بعدمه ، وربما يفهم من مثل هذا التشنيع
من العلامة هنا ومثله ما وقع في كلام شيخنا المفيد في مقام الرد على الصدوق ـ في
مسألة نفى السهو عن المعصوم ، وفي شرح الاعتقادات ومثلهما غيرهما أيضا من
المتأخرين ـ جواز الغيبة واستثنائها من التحريم المتفق عليه في مثل هذه المواضع ،
والا فالأمر مشكل ، فان جلالة مثل هؤلاء المشايخ وعدالتهم وورعهم وتقواهم الظاهر
كالشمس في رابعة النهار ، يمنع من قدومهم على هذا الأمر المتفق على تحريمه نصا
وفتوى ، وان كانوا لم يصرحوا بذلك في مستثنيات الغيبة. والله سبحانه العالم.
تذنيب : قال في المختلف : قال ابن إدريس : الدين المؤجل
لا يجوز بيعه على غير من هو عليه بلا خلاف ، والوجه عندي الكراهة ، للأصل الدال
على الجواز والإجماع ممنوع ، وأما ان كان حالا لم يجز بيعه بدين آخر مثله ، وهل
يجوز بيعه نسيئة؟ قال في النهاية : يكره ذلك مع أنه منع من بيعه بدين آخر مثله ،
وقال ابن إدريس : لا يجوز بيعه نسيئة ، بل هو حرام محظور ، لانه بعينه بيع الدين
بالدين ، وهو حسن انتهى.
أقول : قد تقدم في مباحث الفصل الثاني في السلف ما يتعلق
بهذا المقام ويأتي إنشاء الله تعالى في بعض مسائل هذا الكتاب ما فيه كفاية لذوي
الأفهام.
المسألة الثالثة ـ قال الشيخ في النهاية : إذا رأى صاحب
الدين المديون في الحرم لم يجز له مطالبته فيه ولا ملازمته ، بل ينبغي أن يتركه
حتى يخرج من الحرم ، ثم يطالبه كيف شاء.
وقال على بن بابويه على ما نقله عنه العلامة في المختلف
والشهيد في الدروس : إذا كان لك على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا تطالبه ،
ولا تسلم عليه ، فتفزعه الا أن يكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس بأن تطالبه به
في الحرم.
وقال ابن إدريس : قول الشيخ محمول على أن صاحب الدين
طالب المديون خارج الحرم ، ثم هرب منه فالتجأ الى الحرم ، فلا يجوز لصاحب الدين
مطالبته ولا إفزاعه ، فأما إذا لم يهرب الى الحرم ولا التجأ اليه خوفا من المطالبة
بل وجده
في الحرم وهو مليء بماله موسر بدينه
، فله مطالبته وملازمته ، وقول ابن بابويه ـ الا ان يكون أعطيته حقك في الحرم فلك
أن تطالبه في الحرم ـ يلوح ما ذكرناه ، ولو كان ما روى صحيحا لورد ورود أمثاله متواترا
، والصحابة والتابعون والمسلمون في جميع الأمصار يتحاكمون الى الحكام في الحرم ،
ويطالبون الغرماء بالديون ، ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء الى عصرنا هذا من
غير تناكر منهم في ذلك ، والإنسان مسلط على أخذ ماله ، والمطالبة عقلا وشرعا.
وقال العلامة في المختلف : والأقرب عندي كراهة ذلك على
تقدير الإدانة خارج الحرم ، دون التحريم ، عملا بالأصل والإباحة مطلقا على تقدير
الإدانة في الحرم ، وبما ذهب اليه الشيخ في النهاية من التحريم صرح ابن إدريس وأبو
الصلاح ، إلا أنهما أضافا إلى الحرم مسجد النبي (صلىاللهعليهوآله) ومشاهد
الأئمة (عليهمالسلام).
أقول : أما ما ذهب اليه الشيخ من التحريم في الحرم فيدل
عليه موثق سماعة (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل لي عليه مال فغاب عنى زمانا فرأيته يطوف حول الكعبة ، فأتقاضاه؟ قال : فقال
: لا تسلم عليه ولا تروعه حتى يخرج من الحرم». وظاهر العلامة الاستدلال بهذه
الرواية على الكراهة كما اختاره.
وفيه أن النهى حقيقة في التحريم كما صرح به هو وغيره في
الأصول ، والحمل على خلافه يحتاج إلى قرينة ، وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه
فهو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي على النهج الذي كررنا ذكره في كتب العبادات ، حيث
إنه (2) قال (عليهالسلام) «ان كان لك
على رجل حق فوجدته بمكة أو في الحرم فلا تطالبه ، ولا تسلم عليه فتفزعه ، الا أن
تكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس أن تطالبه في الحرم».
وهي عين عبارة الشيخ المذكور ، كما قدمنا ذكره في جملة
من المواضع ، سيما في كتب العبادات في إفتاء الشيخ المذكور في رسالة الى ابنه
بعبارات الكتاب ،
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 194.
(2) المستدرك ج 2 ص 493.
ونحوه ابنه الصدوق في الفقيه ، كما
تقدم التنبيه عليه في الكتب المذكورة ، ومن ثم اعتمدنا على الكتاب المذكور لاعتماد
هذين العمدتين عليه.
وأنت خبير بأنه لا منافاة بين الخبرين ، فان الخبرين
متفقان على أن تحريم المطالبة انما هو في صورة ما إذا كان الدين خارج الحرم ، ثم
انه وجده في الحرم ، وأما لو كانت الاستدانة في الحرم فحكمها في موثق سماعة غير
مذكور ، إذ مورده ظاهرا انما هو ما قلناه ، فاشتمال رواية الكتاب المذكور على حكم
الاستدانة في الحرم لا معارض لها ، فيجب العمل بها كما عمل بها الشيخ المذكور.
وقال المحدث الكاشاني (رحمهالله عليه) في
المفاتيح في ضمن عد جملة من المستحبات : وأن لا يطالبه في الحرم ، بل لا يسلم عليه
، ولا يروعه حتى يخرج ، كذا في الخبر ، أما لو التجأ المديون اليه لم يجز مطالبته
فيه ، بل يضيق عليه في المطعم والمشرب ، الى أن يخرج ، لقوله تعالى (1) «وَمَنْ
دَخَلَهُ كانَ آمِناً» كذا قالوه انتهى.
أقول : ما نقله عنهم من الكلام الأخير لم أقف عليه فيما
حضرني من كلامهم في الدين. نعم ذلك في الجناية كما وردت به الأخبار ، وصرح به
الأصحاب.
وأما ما ذكره ابن إدريس وطول به من الكلام فهو نفخ في
غير ضرام ، وأى موجب لتأويل كلام الشيخ مع وجود الرواية به ، وأي منافاة في الخبر
المذكور مع ما علم من اختصاص الحرم بأحكام عديدة لا يشاركه غيره فيها ، فتخصص به
العمومات ، وهذا من جملتها. ثم من الذي اشترط في الاخبار ـ الواردة في الأحكام ـ ورودها
متواترة في كل حكم حكم ، وجزئي جزئي حتى أنه يرد هذه الرواية لعدم كونها كذلك.
ثم أى دليل فيما احتج به من فعل الصحابة والتابعين ومن
بعدهم الى يومه ، والجميع انما هم من قضاة المخالفين ، وعلمائهم ـ الذين نسبهم إلى
الإسلام هنا ـ
__________________
(1) سورة آل عمران الآية ـ 97.
مع قوله بكفرهم ونجاستهم ونحو ذلك مما
تقدم في كتب العبادات ، وهل يدعي أحد أنه منذ وقت موت النبي صلىاللهعليهوآله الى يومنا هذا
صار للشيعة حكم وقضاة ، يحكمون ويقضون في الحرم أو غيره ، يحسبون ونحو ذلك مما
ذكره حتى أنه يمكنه الاحتجاج بما ذكره ، ما هذا الا تحكمات باردة ، وتمحلات شاردة.
والعجب منه عفى الله تعالى عنه في رده هذا الاخبار
وأمثالها ، وتكذيبه بها مع ما استفاض عنهم عليهمالسلام من النهى عن
التكذيب بما جاء عنهم ولو جاء به خارجي أو قدري ، وأن ما رانت له قلوبكم فاقبلوه ،
وما اشمأزت منه فردوه إلينا ، ما هذه الا جرءة زائدة من هذا الفاضل النحرير ،
وخروج عن الدين من حيث لا يشعر صاحبه نسأل الله ـ تعالى ـ المسامحة لنا وله من
هفوات الأقلام ، وزلات الاقدام.
وأما ما ذكره العلامة من التفصيل ـ تبعا لابن بابويه
لكنه حكم بالكراهة فيما حكم به ابن بابويه بالتحريم ـ ففيه ما عرفت من أن ظاهر
الرواية هو التحريم ، وحمله لها على الكراهة يحتاج الى دليل.
والاستناد الى الأصل في مقابلة الخبر الذي ظاهره التحريم
غير مسموع ، هذا بالنسبة إلى الاستدانة خارج الحرم ، وأما مع وقوعها في الحرم فجيد
، لما عرفت من كلام الرضا عليهالسلام في الكتاب
المتقدم ، والأنسب له هنا الاستناد الى الأصل ، فإنه في محله ، وتخرج الرواية
المذكورة شاهدة على ذلك.
وأما إضافة مسجد النبي صلىاللهعليهوآله والمشاهد
المقدسة إلى الحرم كما ذكره الفاضلان المتقدمان فلم نقف له على مستند ، وكأنهما
لاحظا اشتراك الجميع في شرف المكان ، وهو قياس محض والله العالم.
المسألة الرابعة ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في
أنه بموت ـ المديون تحل ديونه المؤجلة ، وانما الخلاف في الحل بموت الغريم ، فذهب
جماعة منهم الشيخ في النهاية وأبو الصلاح وابن البراج والطبرسي الى ذلك.
والمشهور وهو قول الشيخ في الخلاف ، والمبسوط خلافه ،
وعلل الأول بأن بقاء الدين على الميت بعد موته لا معنى له ، ومعلوم أنه لم ينتقل إلى
ذمة الورثة ،
للأصل (1) ، ولعدم تكليف
أحد بفعل غيره ، وعلل الثاني بأن المال كان مؤجلا وانتقل الى الوارث ، وينبغي أن
يكون كما كان ، لعدم لزوم شيء على أحد بموت غيره ، وللاستصحاب.
والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام ما رواه في الكافي
مسندا عن أبى بصير (2) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام والصدوق في
الفقيه مرسلا «قال : قال أبو عبد الله (عليهالسلام) : إذا مات
الرجل حل ماله ، وما عليه من الدين».
وما رواه في التهذيب والفقيه عن السكوني (3) عن جعفر عن
أبيه ع «أنه قال : إذا كان على رجل دين إلى أجل ومات الرجل حل الدين».
وما رواه في التهذيب عن الحسين بن سعيد (4) في الصحيح قال
: «سألته عن رجل أقرض رجلا دراهم إلى أجل مسمى ، ثم مات المستقرض أيحل مال القارض
عند موت المستقرض منه ، أو للورثة من الأجل ما للمستقرض في حياته؟ فقال : إذا مات
فقد حل مال القارض».
والقائلون بالحلول بموت الغريم استندوا إلى رواية أبي
بصير المذكورة ، وظاهر الصدوق بناء على قاعدته المذكورة في صدر كتابه القول بذلك
أيضا ، ولكن لم أطلع على من نقله عنه ، الا أنه لازم مما ذكرناه ، حيث أنهم
يستندون المذهب إليه في هذا الكتاب بما ذكرناه ، وغاية ما أجاب به المتأخرون عن
الخبر المذكور
__________________
(1) أقول : والأظهر تعليله بأن الحق لا ينتقل من شخص الى آخر
الا برضاء صاحب الحق فلا ينتقل إلى ذمة الوارث بمجرد موت المورث وأظهر في الدلالة
قوله سبحانه «مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» تمنع الورثة من التصرف في التركة إلا
بعد أداء الدين ومحل المسألة داخل تحت إطلاق الآية كما لا يخفى والعمدة مع ذلك ـ الأخبار
المذكورة مضافا الى الاتفاق على الحكم. منه رحمهالله.
(2) الكافي ج 5 ص 99 الفقيه ج 3 ص 116.
(3) التهذيب ج 6 ص 190 الفقيه ج 3 ص 116.
(4) التهذيب ج 6 ص 190.
هو رده بضعف السند ، كما ذكره جملة
منهم ، وهو مشكل عند من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، سيما ان الخبر من
مرويات الفقيه التي يعتمدونها في غير مقام.
وحمله بعض الأفاضل ـ (1) في حواشيه على كتاب الفقيه ـ على
سائر الحقوق غير الدين ، مثل العمرى الموقت بحياته ، والإجارة ، والعارية ،
والشركة ، والقراض ، والأمانات ، قال : ومعنى حلولها انتهاء العقد ، فيلزم تسليمها
إلى الورثة ، أو تسليم العقد انتهى.
ولا يخفى ما فيه من البعد عن الظاهر ، فان الخبر مصرح
بالدين ، فكيف يحمل على غير الدين ، ومع قطع النظر عن ذلك فهو ظاهر في مساواة ماله
لما عليه ، مع اتفاقهم على الحلول فيما عليه من الدين ، فيكون ماله كذلك.
وبالجملة فإن الخبر لا معارض له الا ما تقدم من
التعليلات العقلية الراجعة إلى الاستصحاب ، وفيها ما لا يخفى على ذوي الأفهام
والألباب ، والحكم لذلك موضع اشكال والله العالم.
تذنيب : قال المرتضى رضى الله عنه في المسائل الناصرية :
هذه المسألة ـ وأشار بها الى أن الدين المؤجل لا يصير حالا بموت من عليه الدين ـ لا
أعرف إلى الان لأصحابنا فيها نصا معينا فأحكيه ، وفقهاء الأمصار كلهم يذهبون الى
أن الدين المؤجل يصير حالا بموت من عليه ، ويقوى في نفسي ما ذهب اليه الفقهاء ،
ويمكن أن يستدل عليه بقوله ـ تعالى (2) «مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» علق القسمة
بقضاء الدين ، فلو أخرت تضررت الورثة ، ولانه يلزم انتقال الحق من ذمة الميت إلى
ذمة الورثة ، والحق لا ينتقل الا برضاء من له انتهى.
وليت شعري كيف غفل عن الروايات الواردة في المسألة ،
ولكنه قليل
__________________
(1) هو الفاضل الشيخ محمد بن الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني
«قدس الله أرواحهم» منه رحمهالله.
(2) سورة النساء الآية ـ 11.
المراجعة للاخبار ، كما لا يخفى على من
له أنس بطريقته (رضى الله عنه) وقاعدته.
المسألة الخامسة : قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه يجوز اقتضاء الدين من أثمان المحرمات على المسلم ، إذا كان المديون البائع
ذميا مستترا ، والتقييد بالذمي لإخراج الحربي ، إذ لا يجوز أخذ ثمن ذلك منه ، لعدم
إقرار الشريعة له على ذلك ، والمسلم لعدم جواز بيعه وبطلانه ، وبالاستتار الاحتراز
عما لو تظاهر به ، فإنه لا يجوز أخذ ذلك لما ذكر ، فان من شرائط الذمة عدم التظاهر
بأمثال ذلك.
والواجب أولا ذكر ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم
الكلام فيها بما يسر الله سبحانه فهمه منها.
ومن الاخبار المذكورة ما رواه ثقة الإسلام والشيخ (عطر
الله مرقديهما) عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام ورواه الشيخ
أيضا في التهذيب بسند آخر عن داود بن سرحان (2) في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل كان له
على رجل دراهم فباع خمرا أو خنازير وهو ينظر اليه فقضاه؟ قال : لا بأس به ، أما
للمقتضي فحلال ، وأما للبائع فحرام».
وما رواه في الكافي عن زرارة (3) في الصحيح عن
أبى عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل
يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا أو خنزيرا ثم يقضى عنها فقال : لا بأس أو قال
: خذها».
وما رواه الشيخ عن محمد بن يحيى الخثعمي (4) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون
لنا عليه الدين فيبيع الخمر والخنازير فيقضينا فقال : لا بأس به ليس عليك من ذلك
بأس.
وعن أبى بصير (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل يكون
له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمرا أو خنازير يأخذ ثمنه قال لا بأس».
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 231.
(2) التهذيب ج 6 ص 195.
(3) الكافي ج 5 ص 232.
(4 ـ 5) التهذيب ج 7 ص 137.
وما رواه في الكافي عن منصور (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : لي على رجل
ذمي دراهم فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر فهل لي أن آخذها؟ فقال : انما عليه
دراهم فقضاك دراهمك».
وأنت خبير بأن إطلاق الروايات الأربع المتقدمة ظاهر في
حل أخذ ذلك ولو من المسلم ، إذ لا تقييد فيها بالذمي ، ولا قائل به فيما أعلم إلا
ما يظهر عن صاحب الكفاية ، حيث قال : قال بعضهم : ولو كان البائع مسلما لم يجز ،
وهو مناف لإطلاق أخبار كثيرة ، فالحكم به مشكل ، الا أن يكون المقصود المنع
بالنسبة إلى البائع انتهى ملخصا.
أقول : ويمكن تأييد ما ذكره من حمل المنع على البائع
خاصة ، وان جاز لصاحب الطلب أخذه بقوله عليهالسلام أما للمقتضي
فحلال ، وأما للبائع فحرام ، الا أنه لا يخلو من الإشكال أيضا ، فإن تحريمه على
البائع يوجب رده على مالكه ، لبطلان البيع فكيف يكون حلالا على المقتضى.
ومما يؤيد ما دل عليه ظاهر إطلاق الاخبار المذكورة ما
رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) عن أبى جعفر عليهالسلام «في رجل ترك
غلاما له في كرم له يبيعه عنبا أو عصيرا فانطلق الغلام فعصره خمرا ثم باعه قال :
لا يصلح ثمنه ، ثم قال : ان رجلا من ثقيف اهدى الى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم روايتين من
خمر بعد ما حرمت فأمر بهما رسول الله صلىاللهعليهوآله فأهريقتا وقال
: ان الذي حرم شربها قد حرم ثمنها ، ثم قال : أبو عبد الله عليهالسلام ان أفضل خصال
هذه التي باعها الغلام أن يتصدق بثمنها».
وما رواه في الكافي عن أبي أيوب الخراز (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 232.
(2) التهذيب ج 7 ص 136.
(3) الكافي ج 5 ص 231.
: رجل أمر غلامه أن يبيع كرمه عصيرا
فباعه خمرا ثم أتاه بثمنه؟ فقال : ان أحب الأشياء الى أن يتصدق بثمنه».
والأمر بالتصدق في هذين الخبرين مع بطلان البيع وتحريم
الثمن الموجب لرده على صاحبه لا يجتمعان ، الا أن يحمل على عدم معرفة المشتري ، أو
عدم إمكان تحصيله ، وهو غاية البعد.
وبالجملة فإن ظاهر الخبرين مشعر بالحل في هذه الصورة
واليه يميل كلام بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين (1) حيث قال : ولا
يبعد القول بكون البائع مالكا للثمن ، لأنه أعطاه المشترى باختياره وان كان فعل
فعلا حراما ، ثم قال : المقطوع به في كلام الأصحاب وجوب الرد انتهى.
ويمكن تأييده أيضا بما رواه في الكافي عن يونس (2) «في مجوسي باع
خمرا أو خنازير إلى أجل مسمى ثم أسلم قبل أن يحل المال؟ قال : له دراهمه ، وقال :
ان أسلم رجل وله خمر وخنازير ثم مات وهي في ملكه وعليه دين قال : يبيع ديانه أو
ولى له غير مسلم خمره وخنازيره ويقضى دينه ، وليس له أن يبيعه وهو حي ولا يمسكه». الا
أن الاخبار متظافرة بتحريم بيع الخمر والخنازير كما تقدم شطر منها في المقدمة
الثالثة ، وان ذلك من السحت ، ومن الممكن وان كان لا يخلو عن بعد تقييد هذه
الاخبار بالذمي كما اشتمل عليه الخبر الأخير.
لكن يبقى الإشكال أيضا عن وجهين أحدهما ما اشتمل عليه
بعضها صريحا وبعضها ظاهرا من حضور المسلم البيع ، مع ان الأصحاب قيدوا الجواز
بالتستر كما عرفت ، وصرحوا بالعدم مع عدمه ، والحمل على أن الذمي يبيع في بيته أو
نحوه من الأماكن المستورة ، وان اطلع عليه صاحب الطلب من حيث لا يشعر به بعيد غاية
البعد ، أو يقال : بعدم كون التستر مشروطا عليهم في الذمة ، ولعله الأقرب وان كان
خلاف ما
__________________
(1) هو شيخنا المجلسي (قدسسره) في حواشيته على كتب الاخبار ـ منه رحمهالله.
(2) الكافي ج 5 ص 232.
عليه ظاهر الأصحاب فإن الذي وقفت عليه
في الاخبار بالنسبة إلى شرائط الذمة خال من ذلك ، بل من أكثر الشروط التي ذكرها
الأصحاب رضوان الله عليهم (1).
وثانيا ما اشتمل عليه الخبر الأول من قوله «أما للمقتضي
فحلال ، وأما للبائع فحرام» والظاهر أنه لا اشكال فيه بعد حمل الخبر على أهل الذمة
، لما ورد في أخبار أخذ الجزية مع التصريح بحل أخذها من ثمن خمورهم وخنازيرهم ،
كما في
صحيحة محمد بن مسلم (2) عن أبى عبد الله عليهالسلام «حيث قال :
فيها عليهم الجزية في أموالهم ، تؤخذ منهم من ثمن لحم الخنزير أو الخمر ، فكل ما
أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم ، وثمنه للمسلمين حلال ، ويأخذونه في جزيتهم».
ونحوه روى شيخنا المفيد في المقنعة عن محمد بن مسلم (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام.
وظاهر هذين الخبرين هو عدم التستر ايضا ، واحتمال كون المراد
ذلك بحسب الواقع مع عدم علم المسلمين الظاهر بعده ، وبذلك يظهر ما في توقف بعض (4)
__________________
(1) ومنه ما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا
يأكلوا الربا ولا يأكلوا لحم الخنزير ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ ولا بنات
الأخت ، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمة الله وذمة رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وقال : وليست لهم اليوم ذمة ، وزاد
في خبر آخر على أن لا يهودوا أولادهم ولا ينصروا ، ولم أقف على غير هذين الخبر بعد
التتبع والله العالم ـ منه رحمهالله.
(2 ـ 3) الوسائل الباب ـ 70 ـ من أبواب كتاب الجهاد.
(4) وهو المحقق الأردبيلي قدسسره حيث قال بعد ذكر رواية المشار إليها أن
فيها تأملا لأنه إن حملت على كون البائع مسلما ، فظاهر الأصحاب وبعض الاخبار عدم
جواز الأخذ ، وان حملت على الذمي فقوله للبائع حرام محل التأمل ، إذ يجوز له ذلك
خاصة الا أن يحمل على الإظهار كما هو الظاهر ، ولو سلم تحريمه للبائع حينئذ فكونه
حراما للقابض مشكل ، وبالجملة هذا لا يخلو عن اشكال انتهى أقول : وبما ذكرناه
وأوضحناه فلا اشكال بحمد الله سبحانه في هذا المجال ـ منه رحمهالله.
المحققين في تحريمه على البائع وحله
للقابض ـ مع تسليمه حمل الخبر على الذمي فإنه لا وجه له بعد تصريح هذه الاخبار
بذلك ، والفرق بين الجزية وقضاء الدين غير ظاهر.
وكيف كان فان القول المشهور هو الأوفق بالاحتياط المطلوب
في الدين ، كما لا يخفى على الحاذق المكين ، فيتعين حمل إطلاق الاخبار المتقدمة
على أهل الذمة وارتكاب جواز ذلك للمسلم مع استفاضة الأخبار بتحريم ذلك عليه ،
وبطلان بيعه مضافا الى اتفاق الأصحاب على ذلك لا يخلو من شناعة ، وحينئذ فلا يلتفت
الى ما ذكره أولئك الفضلاء المشار إليهم آنفا والله العالم.
المسألة السادسة ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله
عليهم) أنه إذا كان لاثنين فصاعدا مال في ذمم غيرهم وأرادوا قسمته ، فإنه لا تصح
ما لم يقبض ، ولو اقتسموا والحال كذلك لم يصح ، بل يكون كل ما خرج فهو على الشركة
، وما توى على الجميع.
ويدل على ذلك جملة من الاخبار منها ما رواه الشيخ في
الصحيح عن سليمان بن خالد (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجلين كان
لهما مال بأيديهما ومنه متفرق عنهما ، فاقتسما بالسوية ما كان في أيديهما ، وما
كان غائبا عنهما ، فهلك نصيب أحدهما مما كان غائبا ، واستوفى الآخر عليه أن يرد
على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب بماله». ورواه الصدوق بإسناده عن ابن مسكان عن
سليمان بن خالد (2) مثله.
وعن عبد الله بن سنان (3) في الموثق عن
أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجلين بينهما مال منه دين ومنه عين ، فاقتسما العين والدين ، فتوى الذي كان
لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر أيرد على صاحبه؟ قال : نعم ما يذهب
بماله».
__________________
(1 ـ 2) التهذيب ج 6 ص 207 الفقيه ج 3 ص 23.
(3) التهذيب ج 7 ص 186.
وعن أبي حمزة (1) قال : سئل أبو جعفر (عليهالسلام) عن رجلين
بينهما مال منه بأيديهما ، ومنه غائب عنهما فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كل واحد
منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الأخر ، قال : ما اقتضى أحدهما
فهو بينهما ، وما يذهب بينهما».
نعم روى الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن
الحسن (2) عن جده على بن
جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهماالسلام قال : «سألته
عن رجلين اشتركا في السلم أيصلح لهما أن يقتسما قبل أن يقبضا قال : لا بأس». وحمل
على الجواز دون اللزوم.
وبما ذكرنا من الاخبار الصريحة الدلالة على القول
المذكور يظهر لك ما في كلام المحقق الأردبيلي (رحمهالله عليه) هنا من
القصور ، حيث انه لم يقف في المقام الا على رواية غياث المذكورة ، فقال بعد ذكر
كلام الأصحاب : ما لفظه الحكم مشهور بينهم ، ومستندهم رواية غياث ثم ساق الرواية
الى أن قال : والشهرة ليست بحجة ، وابن إدريس مخالف ، ونقل عنه ان لكل واحد ما
اقتضى كما هو مقتضى القسمة ، والمستند غير معتبر ، لوجود غياث كأنه ابن إبراهيم
البتري ، وأدلة لزوم الشرط تقتضيه ، وكذا التسلط على مال نفسه ، وجواز الأكل مع
التراضي والتعيين التام ليس بمعتبر في القسمة ، بل يكفي في الجملة كما في
المعاوضات ، فإنه يجوز البيع ونحوه ، ولان الدين المشترك بمنزلة دينين لشخصين ،
وللمالك ان يخص أحدهما دون الأخر ، فلو كان قابل بتخصيص كل واحد قبل القسمة بحصة
لأمكن ذلك أيضا ، فإن الثابت في الذمة أمر كلي قابل للقسمة ، وانما يتعين بتعيين
المالك فله ان يعين ، ولكن الظاهر انه لا قائل به قبل القسمة ، وبعدها القول به
نادر من غير دليل ، والشهرة مع الخبر المجبور بها يمنع ذلك ، ويؤيد بالاستصحاب
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 185.
(2) الوسائل الباب ـ 29 ـ من أبواب الدين الرقم ـ 2.
والاحتياط فتأمل انتهى.
وليت شعري كيف ذهب عليه الوقوف على هذه الاخبار مع تعددها
ـ وروايتها في الأصول متكثر الطرق ـ حتى ارتكب ما ارتكب من هذه التمحلات ـ التي لا
تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ـ وتجاوز ذلك الى احتمال القول بتخصيص كل واحد قبل
القسمة بحصة ، ولم يمنعه منه الا عدم وجود القائل ، والكل كما عرفت نفخ في غير
ضرام ، كما لا يخفى على من وقف على ما نقلناه من أخبارهم عليهمالسلام.
وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : والحيلة في تصحيح
ذلك أن يحيل كل منهما صاحبه بحصته التي يريد إعطائها صاحبه ، ويقبل الآخر بناء على
صحة الحوالة ممن ليس في ذمته دين ، فلو فرض سبق دين له عليه فلا إشكال في الصحة ،
ولو اصطلحا على ما في الذمم بعضها ببعض فقد قرب في الدروس صحته ، وهو حسن بناء على
أصالته انتهى.
أقول : ما ذكره من الحيلة ـ في تصحيح ذلك بالحوالة ـ فيه
أن رواية أبي حمزة ورواية غياث ظاهرتان في عدم صحتها ، وأنها لا تفيد فائدة ، بل
الواجب هو اقتسام ما خرج وما ذهب فهو على الجميع ، ويمكن بناؤه على ما ذكره من عدم
صحة الحوالة ممن ليس في ذمته دين ، فيكون الخبران المذكوران حجة لذلك ، وأما ما
ذكره من الصلح فالظاهر صحته لعموم أدلة الصلح.
ويؤيده ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح أو
الحسن عن أحدهما عليهماالسلام «أنه قال في
رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند صاحبه
، فقال كل واحد منهما : لك ما عندك ولي ما عندي قال : لا بأس إذا تراضيا ، وطابت
أنفسهما».
ومن هذه الرواية وأمثالها يظهر أن الصلح عقد برأسه ، لا
متفرع على البيع كما أشار إليه ، لعدم صحة البيع في الصورة المذكورة ، والرواية
المذكورة وان لم تكن من محل البحث ، الا أن صحة الصلح على هذه الكيفية مستلزمة
للصحة
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 258.
فيما نحن فيه ، فإنه إذا جاز مع هذه
الجهالة التامة ففيما نحن فيه اولى ، والجميع مشترك في كون المال في الذمم والله
العالم.
المسألة السابعة ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو دفع
المديون عروضا عما في ذمته من غير مساعرة ، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القبض ، لأنه
إنما دفعها عوضا عما في ذمته ، والظاهر أنها تدخل في ملك الغريم بمجرد القبض ، وان
لم تحصل المساعرة.
ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن
الصفار (1) قال : «كتبت
إليه في رجل كان له على رجل مال فلما حل عليه المال أعطاه بها طعاما أو قطنا أو
زعفرانا ولم يقاطعه على السعر ، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الزعفران
والطعام والقطن أو نقص بأي السعرين يحسبه؟ قال : لصاحب الدين (2) سعر يومه الذي
أعطاه وحل ماله عليه ، أو يوم حاسبه؟ فوقع عليهالسلام ليس له الا
على حسب سعر وقت ما دفع اليه الطعام إنشاء الله ، قال : وكتبت اليه الرجل استأجر
أجيرا ليعمل له بناء أو غيره من الأعمال وجعل يعطيه طعاما وقطنا أو غيرهما ثم
يتغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة ، أفيحتسب له
بسعره يوم أعطاه أو بسعر يوم شارطه؟ فوقع عليهالسلام يحتسب له بسعر
يوم شارطه فيه ان شاء الله».
وروى في الكافي عن محمد بن يحيى (3) في الصحيح قال
: «كتب محمد بن الحسن الى أبى محمد عليهالسلام رجل استأجر
أجيرا يعمل له بناء وغيره وجعل يعطيه طعاما وقطنا أو غير ذلك ثم تغير الطعام
والقطن من سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة أفيحتسب له بسعره يوم أعطاه أو
سعر يوم شارطه؟ فوقع عليهالسلام : يحسب له بسعر
يوم شارطه فيه إنشاء الله ، وأجاب عليهالسلام في المال
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 196.
(2) الظاهر زيادة لفظة قال.
(3) الكافي ج 5 ص 181 مع اختلاف يسير.
يحل على الرجل فيعطى به طعاما عند
محله ولم يقاطعه ثم تغير السعر ، فوقع عليهالسلام : له سعر يوم
أعطاه الطعام». والخبران صريحان في المدعى بالنسبة إلى محل المسألة.
وأما بالنسبة إلى الأجرة وقوله عليهالسلام بسعر يوم
شارطه فلا يخلو من اشتباه وخفاء ، والأظهر عندي رجوعه الى يوم القبض ايضا ، كما في
السؤال الأخر وتوضيحه أنه لا ريب أنه بالاستيجار يستحق الأجرة وان توقف وجوب الدفع
على العمل ، وحينئذ فإذا دفع عروضا في ذلك الوقت انتقل اليه بالملك ، وصار عوضا عن
أجرته كما أنه بالحلول ـ في السؤال الآخر ـ يستحق المال ، وكل ما يدفع اليه من
العروض فإنه يملكه عوضا عما في ذمة المستدين ، وحينئذ فيعتبر في كلا المسألتين قيمة
ذلك الوقت الذي دخل فيه في ملك القابض ، فكأنه بمنزلة نقد دفعه إليه في ذلك الوقت
، ولا ينافيه حصول مدة مثلا لو فرض بين يوم الإجارة ويوم القبض ، لان ظاهر الخبر
أن السعر واحد في ذلك المدة ، وانما تغير بعد تمام القبض ، كما يشير اليه قوله في
أحد الخبرين «بعد شهرين أو ثلاثة» يعنى من وقت القبض.
وحينئذ فلا منافاة في إطلاق سعر يوم الشرط على يوم القبض
، فإنه مبنى على عدم الفاصلة المعتد بها على استمرار القيمة وامتدادها ، وأنه لم
يحصل التغير الا بعد مدة مديدة ، وباب التجوز في الكلام أوسع من ذلك.
والظاهر ايضا انسحاب الحكم في النقدين لو كان أحدهما في
ذمته وأعطاه الأخر قضاء عن دينه من غير محاسبة ثم تغير السعر بعد مدة ، فإنه يحتسب
يوم القبض.
ويدل عليه جملة من الاخبار منها ما رواه المشايخ الثلاثة
نور الله مراقدهم عن إسحاق بن عمار (1) في الموثق قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يكون
لي عليه المال فيقضيني بعضا دنانير وبعضا دراهم ، فإذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون
قد تغير سعر الدنانير ، أى السعرين أحسب له؟ الذي يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي
الذي
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 248 التهذيب ج 7 ص 107 الفقيه ج 3 ص 185.
أحاسبه؟ فقال : سعر يوم أعطاك
الدنانير ، لأنك حبست منفعتها عنه» (1).
والظاهر أن قوله «حبست منفعتها عنه» كناية عن انتقالها
الى القابض بالملك ، وبزوال ملك الدافع عنها ، فلا انتفاع له بها بالكلية ،
لخروجها عن ملكه ، وبه يحصل حبس منفعتها عنه ، وإذا انتقلت الى ملك القابض سقط
بإزائها من تلك الدراهم ما قابلها بصرف ذلك اليوم ، لأنها لم ينتقل اليه مجانا ،
وانما انتقلت عوضا فلا بد من سقوط عوضها ذلك اليوم بذلك الصرف الأول.
ومنها ما رواه في التهذيب عن يوسف بن أيوب (2) شريك إبراهيم
بن ميمون عن أبى عبد الله عليهالسلام «قال في الرجل
يكون له على الرجل دراهم فيعطيه دنانير ولا يصارفه ، فتغير الدنانير بزيادة أو
نقصان قال : له سعر يوم أعطاه».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الملك بن عتبة
الهاشمي (3) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل
يكون عنده دنانير لبعض خلطائه فيأخذ مكانها ورقا في حوائجه وهو يوم قبضت سبعة
وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلب صاحب المال بعض الورق ، وليست حاضرة فيبتاعها له من
الصيرفي بهذا السعر ، ثم يتغير السعر قبل ان يحتسبا حتى صار الورق اثنى عشر درهما
بدينار ، فهل يصلح له ذلك وانما هي بالسعر الأول من يوم قبضت كانت سبعة؟ وسبعة
ونصف بدينار ، قال : إذا دفع اليه الورق بقدر الدينار فلا يضره كيف كان الصرف ،
ولا بأس».
__________________
(1) وأما حمل حبس المنفعة على ظاهره ـ من انه كان يمكن صاحب
الدنانير أن يبيعها بقيمة أزيد من ذلك الوقت ـ فلا يطرد كليا ، لان الكلام في
تغيير السعر مطلقا زيادة ونقيصة ، فإنها قد ينقص صرفها بعد ذلك عن يوم القبض
فالنفع حاصل لصاحب الدنانير كما لا يخفى ، بل المراد انما هو حبس الانتفاع بها
لصيرورتها ملكا للقابض وخروجها عن ملك الدافع كما ذكرناه في الأصل ـ منه رحمهالله.
(2) التهذيب ج 7 ص 108.
(3) التهذيب ج 7 ص 106 الكافي ج 5 ص 245.
أقول : لعل المعنى في قوله عليهالسلام «إذا دفع اليه
الورق» الى آخره أنه إذا كان دفع الورق على جهة العوض عن الدنانير ، وأداء لها
فإنه ينصرف مقدار قيمة الدينار في ذلك الوقت الى ما يقابلها من تلك الدنانير ، لان
الفرض ان دفع تلك الورق انما هو لتفريغ ذمته من الدنانير التي عليه ، لا لغرض آخر.
وحينئذ فلا يضره زيادة الصرف أو نقصانه بعد وقوع التهاتر والتساقط بين تلك الورق
والدنانير ، فإنه قد برئت الذمة وخلت العهدة بما دفعه عن قدر ما دفعه كلا أو بعضا.
ومنها ما رواه الشيخ في الموثق عن إبراهيم بن عبد الحميد
عن (1) عبد صالح عليهالسلام ، قال : «سألته
عن الرجل يكون له عند الرجل دنانير أو خليط له ، يأخذ مكانها ورقا في حوائجه وهي
يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلبها الصيرفي وليس الورق حاضرا فيبتاعها
له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة نصف ثم يجيء يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير
فصار باثني عشر كل دينار ، هل يصلح ذلك له؟ أو انما هي له بالسعر الأول يوم قبض
منه الدراهم فلا يضره كيف كان السعر؟ قال : يحسبها بالسعر الأول فلا بأس به».
ومنها ما رواه الصدوق والشيخ عن إسحاق بن عمار (2) في الموثق قال
: «قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام : الرجل يكون
له على الرجل الدنانير فيأخذ منه دراهم ثم يتغير السعر؟ قال : فهي له على السعر
الذي أخذها منه يومئذ ، وان أخذ دنانير فليس له دراهم عنده ، فدنانيره عليه يأخذها
برؤسها متى شاء». كذا في رواية الشيخ ، وفي رواية الصدوق «وليس له دراهم عنده» الى
آخره.
قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل الخبر برواية
التهذيب ما صورته : بيان : يعنى وقع الفضل بينهما بأخذه الدراهم أو لإمكان دنانيره
ثم ان أخذ دنانير ثانيا بعد ذلك ، فليس للمعطي أن يجعلها في مقابلة دنانيره التي
كانت
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 107.
(2) التهذيب ج 7 ص 107 الفقيه ج 3 ص 184.
له عليه أولا ، ويطلب منه دراهمه ، إذ
لا دراهم له عليه حينئذ بل ليس له الا دراهمه التي أعطاها ثانيا يأخذها متى شاء
انتهى.
أقول : ما ذكره جيد بالنظر الى ما نقله من رواية الشيخ ،
وأما على تقدير رواية الصدوق بالواو فالظاهر أن المعنى أن صاحب الطلب إذا أخذ
دنانير عوض دنانيره ، والحال أنه لم يقبض دراهم عوض طلبه كما في الفرض الأول ،
فهذه الدنانير عوض دنانيره التي في ذمة المديون يأخذها برؤسها متى شاء.
والحق أن الخبر لا يخلو من إجمال بالنسبة إلى قوله ثم «تغير
السعر» الى آخره ، وأنه هل أراد سعر الدراهم أو سعر الدنانير؟ فيحتمل أن يكون
المراد سعر الدنانير ، ويكون حاصل المعنى أنه إذا أقرض رجل رجلا دنانير ثم أخذ
المقرض عوض دنانيره دراهم من غير مساعرة ، ثم تغير سعر الدنانير بالزيادة أو
النقصان ، فما الذي يعمل عليه يوم المحاسبة؟ فأجاب عليهالسلام بقوله «فهي له»
أى الدنانير للمقرض ، بسعر اليوم اقترضها فيه للمستدين ، فعليه أداء قيمتها بسعر
ذلك اليوم ، وحينئذ فيحسب له قيمة الدنانير من تلك الدراهم التي دفعها اليه بالسعر
المذكور ، وان أخذ المقرض من المستدين دنانير بجنسها لا بالتبديل ، والحال أنه ليس
له دراهم عنده بالتبديل ، فهذه الدنانير عوض دنانيره حسبما قدمناه في كلامنا على
صاحب الوافي.
وأنت خبير بان هذا المعنى مبنى على نسخة (الواو) كما في
الفقيه ، ويحتمل أن المراد سعر الدراهم وضمير هي راجع إليها ، بمعنى أنه إذا تغير
سعر الدراهم من وقت دفعها الى سعر آخر يوم المحاسبة ، فتلك الدراهم للمقرض يأخذها
بسعر يوم أخذها ، لا يوم المحاسبة ، ثم ذكر صورة أخرى بقوله «وان أخذ» يعنى المقرض
دنانير والحال أنه لم يكن دراهم سابقة في ذمة معطي الدنانير ليكون أخذه عوضا عنها
، فليس له ذلك ، بل هي عليه يأخذها صاحبها برؤسها هذا على نسخة الواو ، وعلى نسخة
الفاء يكون المعنى ما قدمنا نقله عن الوافي ـ والله العالم.
المسألة الثامنة ـ إذا قتل المديون عمدا ولا مال له قال
الشيخ في النهاية : لم
يكن لأوليائه القود الا بعد تضمين
الدين عن صاحبهم ، فان لم يفعلوا ذلك لم يكن لهم القود ، وجاز لهم العفو بمقدار ما
يصيبهم ، وبه قال أبو الصلاح وابن البراج ونسب هذا القول في الدروس الى المشهور ،
وقال أبو منصور الطبرسي (1) : إذا بذل
القاتل الدية لم يكن للأولياء القود الا بعد ضمان الدين ، وان لم يبذل جاز لهم
القود من غير ضمان ، وقال ابن إدريس والمحقق والعلامة : ان للورثة استيفاء القصاص
، وان بذل الجاني الدية من غير ضمان للدين ، واحتجوا على ذلك بأن موجب العمد
القصاص ، وأخذ الدية اكتساب ، وهو غير واجب على الوارث في دين مورثه ، ولعموم قوله
تعالى (2) «فَقَدْ
جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً» وقوله تعالى (3) «النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ».
ونقل العلامة في المختلف عن الشيخ أنه احتج بما رواه عبد
الحميد بن سعيد (4) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن رجل قتل
وعليه دين ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدية من قاتله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال
: نعم ، قال : قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : إذا أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا
عنه الدين».
ثم أجاب عن الرواية المذكورة بالمنع من الدلالة على محل
النزاع ، قال : أما أولا فلاحتمال أن يكون القتل خطاء أو شبهة ، واما ثانيا فلان
السؤال وقع عن أولياء أخذوا الدية ، ونحن نقول بموجبه ، فإن الورثة لو صالحوا
القاتل على الدية وجب قضاء الدين منها انتهى.
__________________
(1) الظاهر أن المراد بالطبرسي هنا هو الشيخ أبو منصور احمد بن
أبي طالب الطبرسي صاحب الاحتجاج ، فإنه صاحب هذه الكنية ، ولم أقف على نقل قوله في
الفقه الا هذا المكان وسيأتي جملة من المواضع لفظ الطبرسي خاصة ، وهو يحتمل
للمذكور هنا وللشيخ ابى على صاحب مجمع البيان ـ منه.
(2) سورة الإسراء الآية 33.
(3) سورة المائدة الآية 45.
(4) التهذيب ج 6 ص 192.
أقول : ما أجاب به عن الرواية المذكورة جيد ، الا أن
إيراده هذه الرواية دليلا للشيخ رحمة الله عليه ليس في محله ، بل هنا رواية أخرى
صريحة فيما ذهب اليه الشيخ ، والظاهر أنها هي المستند له فيما ذهب إليه في نهايته.
والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام من الروايات منها
ما رواه في التهذيب والصدوق في الفقيه عن أبى بصير (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل قتل
وعليه دين وليس له مال ، فهل لأوليائه أن يهبوا دمه لقاتله وعليه دين؟ فقال : أن
أصحاب الدين (هم الخصماء) للقاتل ، وان وهب أولياؤه دمه للقاتل ضمنوا الدية
للغرماء ، والا فلا».
ورواه الشيخ أيضا بطريق آخر عن أبى بصير (2) ايضا مثله ،
الا انه قال : «فان وهبوا أولياؤه دية القاتل فهو جائز ، وان أرادوا القود ليس لهم
ذلك ، حتى يضمنوا الدين للغرماء ، والا فلا». وهذه الرواية هي التي أشرنا إليه
بأنها دليل لما ذهب اليه الشيخ ، قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : انما جاز لهم
الهبة ولم يجز القود حتى يضمنوا ، لانه مع الهبة يتمكن الغرماء من الرجوع الى
القاتل بحقهم ، بخلاف ما إذا قيد منه.
أقول : ان الخبر الأول قد دل على أنهم يضمنون الدين مع
الهبة أيضا ، ويدل على ذلك أيضا الخبر الاتى ، ومقتضاهما أن الورثة بالهبة يضمنون
دين الغرماء ، وأنه ليس لهم العفو بدون ذلك ، وهو أحد الأقوال في المسألة أيضا على
ما نقله في المسالك ، فكيف يتم الحكم بجواز الهبة لهم ، ورجوع الغرماء على القائل
بالدين ، كما يظهر من كلامه.
والعجب أنه نقل هذه الاخبار كلها في باب واحد ، ولم يتفطن
لما ذكرناه ، ولا يحضرني وجه للجواب عن ذلك الا بأن تحمل الرواية على جواز الهبة
فيما يخصهم من الدية ،
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 119 التهذيب ج 10 ص 180 وفيه (هم الغرماء).
(2) التهذيب ج 6 ص 312.
إذا كان فيها زيادة على الدين ، كما
يشير اليه كلام الشيخ فيما تقدم من عبارته ، وقوله «وجاز لهم العفو بمقدار ما
يصيبهم» فان حاصل كلامه أنهم ان لم يفعلوا ذلك أى ان لم يضمنوا الدين لم يكن لهم
القود ، بل تعين عليهم أخذ الدية ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم من الدية بعد
الدين ، بحمل ذلك على زيادة الدية على الدين.
ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن أسلم عن على بن أبي
حمزة (1) عن أبى الحسن
موسى بن جعفر عليهماالسلام ، قال : «قلت
له : جعلت فداك رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ وعليه دين ومال فأراد أولياؤه أن يهبوا
دمه للقاتل؟ فقال : ان وهبوا دمه ضمنوا الدين ، قلت : فإنهم أرادوا قتله فقال : ان
قتل عمدا قتل قاتله ، وأدى عنه الامام الدين من سهم الغارمين ، قلت : فان هو قتل
عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية فعلى من الدين؟ على أوليائه من الدية أو على
امام المسلمين؟ فقال : بل يؤدوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه فإنه أحق
بديته من غيره».
وأجاب الشهيد (قدسسره) في كتاب نكت
الإرشاد عن رواية أبي بصير التي برواية الشيخ خاصة ، لأنها هي المتضمنة لمحل البحث
، بضعف السند وندورها ، فلا تعارض الأصول ، وحملها الطبرسي المتقدم ذكره على ما
إذا بذل القاتل الدية ، فإنه يجب على الأولياء قبولها ، ولا يجوز للأولياء القصاص
الا بعد الضمان ، حسبما قدمنا من نقل كلامه.
وأنت خبير بأن رد الخبر بضعف السند غير مرضى على رأينا
ولا معتمد ، وكذا ارتكاب تأويله من غير معارض ، ولا معارض له الا ما نقلناه عنهم
آنفا من العمومات ، والواجب تخصيصها به ، إذ لا منافاة بين المطلق والمقيد والخاص
والعام ، وهذا مقتضى قواعدهم في غير مقام.
ويؤيد الخبير المذكور ما دل من الخبرين المذكورين ، على
أنه ليس لأولياء الدم هبته حتى يضمنوا الدين ايضا (2).
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 83.
(2) وجه التأييد هو أن ظاهر هذه الاخبار مراعاة تقديم أداء
الدين وبراءة
وإذا عرفت ذلك فاعلم ان الأشهر الأظهر أن الدية في حكم
المال المقتول يقضى منها دينه ويقضى منه وصاياه وترثها ورثته ، وقيل انها لا تصرف
في الدين لتأخر استحقاقها عن الحياة التي هي شرط الملك ، والدين كان متعلقا بالذمة
حال الحياة ، وبالمال بعدها ، والميت لا يملك بعد وفائه.
ولا يخفى ما فيه ، فإنه اجتهاد في مقابلة النصوص ، وجرءة
على أهل الخصوص ، وقد عرفت دلالة الروايات المتقدمة على وجوب أداء الدين منها.
ونحوها ما رواه في الكافي في الصحيح عن يحيى الأزرق (1) وهو مجهول عن
أبى الحسن عليهالسلام «في رجل قتل
وعليه دين ولم يترك مالا فأخذ أهله الدين من قاتله أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال :
نعم قال : قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا
دينه».
ونحوها رواية أخرى له ، وأصرح من ذلك ما ورد من الاخبار
الدالة على انه يرثها الورثة على كتاب الله وسنة نبيه (2) صلىاللهعليهوآله مثل صحيحة
سليمان بن خالد وصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة محمد بن قيس وفي بعضها عدم إرث
الأخوات من الام من الدية.
وبالجملة فإن القول المذكور ظاهر القصور ، وقيل : أيضا
بالفرق بين دية الخطاء ودية العمد ، إذا رضي الوارث بها معللا بأن العمد انما يوجب
القصاص ، وهو حق للوارث فإذا رضي بالدية كانت عوضا عنه ، فكانت أبعد من استحقاق
الميت
__________________
ذمة الميت ، فليس لهم عفو عن الدم أو قصاص حتى يضمنوا الدية ،
إيثارا لبراءة ذمته وخلو عهدته من الدين ، فلعل استيفاء القصاص وان كان حقا لهم
كما دلت عليه الآيات والروايات ، لكنه ينبغي في تقييدها بغير صورة الدين مع انحصار
المال في الدية ، كما هو فرض المسألة ، فيجب أخذ الدية البتة ومع عدم أخذها
باختيار القصاص أو العفو عن الدم فيجب عليهم ضمانها كما ذكرنا منه ـ رحمهالله.
(1) التهذيب ج 9 ص 167 وص 245 الفقيه ج 4 ص 167.
(2) التهذيب ج 9 ص 375.
من دية الخطاء وفيه ما في سابقه من
الضعف والقصور ، لعموم جملة من الاخبار المتقدمة وخصوص روايات أبى بصير الثلاثة
ولا سيما الأخيرة لقوله فيها «بل يؤدوا دينه من ديته التي صالح عليها أولياؤه فإنه
أحق بديته من غيره».
بقي الكلام في أن خبر أبى بصير الثالث ظاهر في أنه مع
اختيار الورثة القتل في العمد فالدين على الإمام يؤديه عن الميت من سهم الغارمين ،
وخبره الثاني يدل على انه على الورثة كما هو فول الشيخ رحمهالله ، وأنه لا
يجوز لهم اختيار القتل الا بعد ضمان الدين ، ويمكن الجمع بينهما بحمل الخبر الثالث
على وجود الامام وتمكنه من القيام بذلك وحمل الأخر على عدم ذلك والله العالم.
المسألة التاسعة : إذا جحد المديون المال ولا بينة
للمدعى فهنا صورتان الاولى ـ أن يحلف المديون ، والأشهر الأظهر عدم جواز مطالبته ،
وان أقام البينة بذلك ، لان اليمين قد ذهب بحقه ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على
ذلك في المسألة الخامسة (1) من المقام
الثاني من الفصل الأول في البيع وأركانه.
وقد ورد بإزائها من الاخبار ما يدل على خلاف ذلك. وقد
تقدم وجه الجمع بينها ثمة ، وفي المسألة أقوال آخر شاذة (2) يأتي ذكرها
إنشاء الله تعالى في بابها.
نعم لو رجع الحالف بعد ذلك وأتى بالمال من قبل نفسه من
غير طلب ، وأكذب نفسه فإنه يجوز قوله ، صرح بذلك الشيخ في النهاية ، فقال : إذا
جحد المديون المال ولا بينة فحلفه المدعى عند الحاكم لم يجز له بعد ذلك مطالبته
بشيء ، فإن جاء الحالف ثانيا ورد عليه ماله جاز له أخذه ، فإن أعطاه مع رأس المال
ربحا أخذ رأس المال ونصف الربح انتهى. وبه صرح ابن البراج.
__________________
(1) ج 18 ص 409.
(2) منها قول الشيخ بسماع البينة مطلقا ، وقول آخر له في موضع
آخر بسماعها مع عدم علمه بها أو نسيانها ، واليه ذهب ابن إدريس ، وقول آخر للشيخ
المفيد وهو انها تسمع الا مع اشتراط سقوطها ـ منه رحمهالله.
وقال ابن إدريس : ان كان المال دينا أو قرضا أو غصبا
واشترى الغاصب في الذمة ، ونقد المغصوب فالربح كله له دون المالك ، وان اشترى
بالعين المغصوبة فالصحيح بطلان البيع ، والأمتعة لأصحابها ، والأرباح والأثمان
لأصحابها ، وان كان مضاربة شرط له من الربح النصف صح قول الشيخ وحمل عليه ، وخص ما
ورد من الاخبار بذلك ، فان العموم قد يخص ، للدلالة ، وقال العلامة في المختلف بعد
نقل القولين المذكورين : أقول : الشيخ رحمهالله لم يتعرض
لبيان مستحق الربح ، وانما قال : إذا دفع الحالف المال والربح أخذ المالك المال
لاستحقاقه إياه ، وأخذ نصف الربح من حيث ان الحالف أباحه الأخذ ، وكان ينبغي ان
يأخذ نصفه على عادات العاملين في التجارات انتهى.
أقول : الذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق
والشيخ في كتابيهما عن مسمع (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : انى كنت
استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي ، ثم انه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي كنت
استودعته إياه ، فقال : هذا مالك فخذه ، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي
لك مع مالك ، واجعلني في حل فأخذت المال منه ، وأبيت أن آخذ الربح منه ، ووقفت
المال الذي كنت استودعته ، وأتيت حتى أستطلع رأيك فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف
الربح ، وأعطه النصف ، وحلله ان هذا رجل تائب والله يحب التوابين». وبمضمونه أفتى
الصدوق في باب بطلان حق المدعى بالتحليف ، وان كان له بينة من كتاب الفقيه ، فقال
: متى جاء الرجل الذي حلف على حق ثانيا وحمل ما عليه ما ربح فيه فعلى صاحب الحق أن
يأخذ منه رأس المال ونصف الربح ، ويرد عليه نصف الربح ، فان هذا رجل تائب انتهى.
وما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليهالسلام ، وإذا أعطيت
رجلا مالا فجحدك وحلف عليه ثم أتاك بالمال بعد مدة وبما ربح فيه وندم على ما كان
منه فخذ منه رأس
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 180 الفقيه ج 4 ص 194.
مالك ، ونصف الربح ، ورد عليه نصف
الربع هذا رجل تائب انتهى (1).
ثم ان الظاهر ان مناقشة ابن إدريس هنا واهية ، وتخصيصه
جواز الأخذ بالمضاربة وشرط نصف الربح أبعد بعيد ، فإنه لا يخفى أن المتعارف بين
التجار كما هو الآن المعمول عليه بينهم فكذا في الأزمنة السابقة أن الاشتراء انما
يقع في الذمة ، فالبيع صحيح بلا اشكال ، والربح للمشتري بلا خلاف ، ولكن الرجل لما
قصد التوبة وندم على ما وقع منه ظن أن ما حصله من الربح بواسطة هذا المال انما هو
لصاحب المال فاتى به ليطلب طيب نفسه ، وأن يحلله ويبرئ ذمته ، والامام عليهالسلام أمره بأخذ رأس
المال لانه حقه في ذمته ، وان لم يجز له المطالبة به بعد الرضا باليمين ، فلما
بذله الرجل واعترف به جاز له أخذه وامره بأخذ نصف الربح في مقابلة تحليله وإبراء
ذمته ورضاء نفسه لا تكون ذلك حقا شرعيا ، فهو من قبيل الصلح على ذلك ، وانما خصه
بالنصف إيثارا للرجل المديون من حيث توبته ، وأن الله تعالى يحبه من هذه الجهة ،
فينبغي أن يسامحه له نصف الربح ، وان كان هو قد سمح بالربح ، هذا هو الظاهر من
سياق الخبرين (2) المذكورين.
ثم ان الظاهر من كلام الأصحاب أنه لو أكذب نفسه وان لم
يأت بالمال فإنه يجوز مطالبته ، وتحل مقاصته مما يجده الغريم من أمواله متى امتنع
من التسليم ، ولم أقف فيه على نص : ومورد الروايتين المتقدمتين انما هو بذل
المديون المال ، والإتيان به ، بل ربما ظهر من رواية المسئلة ـ الدالة على أنه إذا
استحلفه فليس
__________________
(1) أقول : قال عليهالسلام في كتاب الفقه بعد هذا الكلام بيسير
فإن أتاك الرجل بحقك بعد ما حالفته من غير ان تطالبه ، فان كنت مؤسرا أخذته فتصدقت
به ، وان كنت محتاجا أخذت لنفسك ، والظاهر حمله على الاستحباب جمعا بينه وبين
كلامه المذكور في الأصل ـ منه رحمهالله.
(2) هذا الأمر هنا مفهوم من سياق الكلام وان لم يقع التصريح به
في الخبر الا أنه ظاهر بغير اشكال منه رحمهالله.
له أن يأخذ منه شيئا ، وان لم يستحلفه
فهو على حقه ـ هو عدم الجواز ، لأنها شاملة بإطلاقها لما لو أكذب نفسه ، أو بقي
على إنكاره ، نعم خرج منها مورد النص المذكور من إعطائه المال من قبل نفسه ، ويبقى
ما عداه والى ما ذكرنا يشير كلام صاحب الكفاية (1).
الثانية ـ أن يجحد نفسه ويتعذر استيفائه منه ، ولا إشكال
في جواز الأخذ منه مقاصة ، وان أمكن إقامة البينة بالحق عند الحاكم ، وقيل : بعدم
الجواز مع إمكان الإثبات عند الحاكم الشرعي ، وقد تقدم تحقيق في هذا المقام في
المسألة المشار إليها في صدر هذا الكلام مفصلا جليا والله العالم.
المسألة العاشرة ـ من المستحبات في هذا الباب هو أنه
يستحب للغريم الإرفاق بالمديون في الاقتضاء والمسامحة في الحساب وعدم الاستقضاء ،
ويدل على ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب عن حماد بن عثمان (2) قال : «دخل
رجل على أبى عبد الله عليهالسلام فشكى اليه
رجلا من أصحابه فلم يلبث أن جاء المشكو فقال له : أبو عبد الله عليهالسلام ما لأخيك فلان
يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت منه حقي قال : فجلس مغضبا فقال : كأنك إذا
استقضيت حقك لم تسئ أرأيت ما حكى الله تعالى في كتابه فقال «وَيَخافُونَ
سُوءَ الْحِسابِ» (3) أترى أنهم
خافوا الله أن يجور عليهم ، لا والله ما خافوا الا الاستقضاء فسماه الله عزوجل سوء الحساب ،
فمن استقضى
__________________
(1) حيث قال : قالوا ولو أكذب نفسه جاز مطالبته ، وحل مقاصته
مما يجده له مع امتناعه من التسليم ، لتصادقها على بقاء الحق في ذمة الخصم ، لكن
ظاهر الروايات المذكورة على خلافه انتهى ، وممن صرح بالحكم المنقول عنهم (رضوان
الله عليهم) المحقق في الشرائع ، فقال : أما لو أكذب الحالف نفسه جاز مطالبته ،
وحل مقاصته مما يجد له مع امتناعه من التسليم ـ منه رحمهالله.
(2) التهذيب ج 6 ص 194 الكافي ج 5 ص 101.
(3) سورة الرعد الآية ـ 23.
فقد أساء». وروى العياشي في تفسيره عن
حماد بن عثمان (1) مثله وروى
الصدوق في كتاب معاني الاخبار عن حماد بن عثمان (2) عن أبى عبد
الله عليهالسلام أنه قال :
لرجل يا فلان مالك ولأخيك؟ قال : جعلت فداك كان لي عليه شيء فاستقضيت عليه حقي
فقال أبو عبد الله عليهالسلام : أخبرني عن
قول الله عزوجل «يَخافُونَ
سُوءَ الْحِسابِ» أتريهم يخافون أن يحيف الله عليهم أو
يظلمهم ولكن خافوا الاستقضاء والمداقة».
وما رواه في الكافي (3) عن محمد بن يحيى رفعه الى أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : قال له
رجل : ان لي على بعض الحسنيين مالا وقد أعياني أخذه وقد جرى بيني وبينه كلام ، ولا
آمن أن يجرى بيني وبينه ما اغتم له ، فقال له أبو عبد الله عليهالسلام ليس هذا طريق
التقاضي ، ولكن إذا أتيته فاطل الجلوس ، والزم السكوت قال الرجل : فما فعلت ذلك
الا يسيرا حتى أخذت مالي».
ومنها الانظار والتحليل ـ ويدل على الأول بعد الآية أعنى
قوله عزوجل (4) (وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ)» ـ الأخبار فروى
في الكافي عن معاوية بن عمار (5) في الصحيح عن
أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من
أراد أن يظله الله يوم لا ظل الا ظله ، قالها ثلاثا وهابه الناس أن يسألوه فقال :
فلينظر معسرا أو يدع له من حقه». وبهذا المضمون أخبار عديدة في كتاب ثواب الأعمال.
وروى في التهذيب عن إبراهيم بن عبد الحميد (6) في الصحيح قال
: «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لعبد
الرحمن بن سيابة دينا على رجل قد مات ، وكلمناه أن يحلله فأبى ، قال : ويحه أما
يعلم أن له بكل درهم عشرة دراهم إذا حلله ، فان لم يحلله فإنما له درهم بدرهم».
__________________
(1 ـ 2) الوسائل الباب 16 ـ من أبواب الدين والقرض.
(3) الكافي ج 5 ص 101.
(4) سورة البقرة الآية 280.
(5) الكافي ج 4 ص 35.
(6) التهذيب ج 6 ص 195 الفقيه ج 3 ص 117.
وأما ما رواه في التهذيب عن هيثم الصيرفي (1) عن رجل عن أبى
عبد الله عليهالسلام «في رجل كان له
على رجل دين وعليه دين ، فمات الذي عليه فسأل أن يحلله منه أيهما أفضل يحلله منه
أو لا يحلله قال : دعه ذا بذا». فقيل : انه محمول على ما إذا كان صاحب الدين معسرا
عن أداء ما عليه من الدين ، فإنه لعل الله أن يتيح له من يقضى دين ذلك الميت فيقضى
به الحي دينه.
ومنها حسن القضاء ، فروى في الفقيه مرسلا (2) «قال النبي صلىاللهعليهوآله : ليس من غريم
ينطلق من عند غريمه راضيا الا صلت عليه دواب الأرض ، ونون البحور ، وليس من غريم
ينطلق صاحبه غضبان وهو مليء إلا كتب الله له بكل يوم يحبسه وليلة ظلما».
وروى في الكافي عن أبى بصير (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : المدين
ثلاثة ، رجل كان له فأنظر ، وإذا كان عليه أعطى ولم يمطل ، فذاك له ولا عليه ،
ورجل إذا كان له استوفى ، وإذا كان عليه أوفى فذاك لا له ولا عليه ، ورجل إذا كان
له استوفى ، وإذا كان عليه مطل فذاك عليه ولا له».
ومنها أن لا ينزل على غريمه ، ولا يأكل طعامه وشرابه ،
فان فعل فلا يزيد على ثلاثة أيام ، وأن يحتسب ما يهديه اليه من دينه.
فروى في الكافي والتهذيب عن جراح المدائني (4) عن ابى عبد
الله عليهالسلام أنه كره أن
ينزل الرجل على الرجل وله عليه دين ، وان كان قد صرها له الا ثلاثة أيام».
وروى المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن سماعة
(5) في الموثق قال
: «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل ينزل
على الرجل وله عليه دين أياكل من طعامه فقال : نعم يأكل من طعامه ثلاثة أيام ، ثم
لا يأكل بعد ذلك شيئا».
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 189.
(2) الفقيه ج 3 ص 113.
(3) الكافي ج 5 ص 97.
(4 و 5) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 204.
وروى في التهذيب عن جميل بن دراج (1) في الصحيح عن
أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يأكل
عند غريمه أو يشرب من شرابه أو يهدي له الهدية؟ قال : لا بأس به».
وروى في التهذيب عن الحلبي (2) في الصحيح عن
أبى عبد الله عليهالسلام «أنه كره للرجل
أن ينزل على غريمه ، قال : لا يأكل من طعامه ، ولا يشرب من شرابه ، ولا يعتلف من
علفه».
وروى في الفقيه (3) مرسلا قال : «وسئل أبو جعفر عليهالسلام عن الرجل يكون
له على الرجل الدراهم والمال ، فيدعوه الى طعامه أو يهدي له الهدية قال : لا بأس».
وروى في الكافي والتهذيب عن غياث بن إبراهيم (4) عن أبى عبد
الله عليهالسلام «ان رجلا أتى
عليا فقال له : ان لي على رجل دينا فأهدى الى هدية فقال عليهالسلام : احسبه من
دينك عليه».
أقول : المستفاد من هذه الاخبار ـ بعد ضم بعضها الى بعض
بحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مبينها وبه صرح الأصحاب أيضا ـ هو كراهة
النزول على الغريم مطلقا ، وان كانت الثلاثة أخف كراهة وهي وان كانت سنة بالنسبة
إلى الضيف النازل على أهل البلد ، لكن في غير صورة الدين ، والمنقول عن الحلي
التحريم فيما زاد على الثلاثة ، ويحتمل خروج الثلاثة من الكراهة بالنظر الى ما
قلناه ، وتخصيصها بما عدا الثلاثة ، وأنه ، يستحب احتساب الهدية من الدين ، كما
قدمنا ذكره في صدر الكلام.
ومثل رواية غيث في الدلالة على ذلك مفهوم رواية هذيل بن
حيان الصيرفي المتقدمة في الموضع الأول من المقصد الأول في القرض ، وقوله فيها «ان
كان يصلك
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 204.
(2) التهذيب ج 6 ص 204.
(3) الفقيه ج 3 ص 181.
(4) الكافي ج 5 ص 103.
قبل أن تدفع اليه مالك فخذ ما يعطيك»
فان مفهومه المنع من قبول ذلك لو لم يكن كذلك ، وقد قدمنا ثمة بيان حمله على
الكراهة ، والاستحباب أن يحسبه من الدين
قال في الدروس : ويستحب احتساب هدية الغريم من دينه ،
للرواية عن على عليهالسلام ويتأكد فيما
لم يجر عادته به انتهى. والظاهر أنه أشار بقوله ويتأكد الى آخره الى ما ذكرنا من
رواية هذيل بن حبان ، فإنها هي المتضمنة لذلك مما وصل إلينا من الاخبار.
وكيف كان فما ذكرناه من كراهة النزول ينبغي حمله على ما
لم يظهر من المديون كراهة النزول عليه ، والتأذي بالجلوس عنده وأكل طعامه ، والا
فلا يبعد التحريم ، والاحتياط لا يخفى.
ومنها ترك التعرض للمديون في الحرم وقد تقدم تحقيق
الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة من هذا المقصد.
ومنها استحباب التقصير على نفسه لأجل التوصل إلى أداء
دينه ، وبه يجمع بين ما دل من الاخبار على وجوب ذلك ، كروايتي سماعة المتقدمتين في
صدر هذا الكتاب ، وبين ما دل على العدم ، كرواية أبي موسى ورواية موسى بن بكر
ومرسلة على بن إسماعيل المتقدم جميعه ثمة (1).
قال في الدروس : ويجب على المديون الاقتصاد في النفقة ،
ويحرم الإسراف ، ولا يجب التقتير ، وهل يستحب؟ الأقرب ذلك إذا رضي عياله.
ومنها استحباب الاشهاد على الدين فروى في الكافي عن جعفر
بن إبراهيم (2) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «أربعة
لا يستجاب لهم دعوة ، الرجل جالس في بيته يقول اللهم ارزقني ، فيقال له : ألم آمرك
بالطلب ، ورجل كانت له امرأة فدعا عليها ، فيقال له : ألم أجعل أمرها إليك ، ورجل
كان له مال فأفسده ، فيقول : اللهم ارزقني ، فيقال : ألم آمرك بالاقتصاد ، ألم
آمرك بالإصلاح ، ثم قال : «وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا
__________________
(1) ص 100.
(2) أصول الكافي ج 2 ص 511.
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً» ورجل كان له مال فأدانه بغير بينة ،
فيقال له : ألم آمرك بالشهادة». وعن عمران بن أبى عاصم (1) قال : «قال أبو
عبد الله عليهالسلام أربعة لا
يستجاب لهم دعوة ، أحدهم رجل كان له مال فأدانه بغير بينة ، يقول : الله عزوجل ألم آمرك
بالشهادة». وعن عبد الله بن سنان (2) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من ذهب
حقه على غير بينة لم يؤجر».
ومنها استحباب ترك الاستدانة مع الاستغناء وقد تقدمت
الأخبار الدالة على ذلك في صدر هذا الكتاب.
ومنها انه يستحب أداء الدين على الأبوين ويتأكد بعد
الموت ، فروى الحسين بن سعيد في كتاب الزهد عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح عن
أبى جعفر عليهالسلام قال : «ان
العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضى عنهما الدين ولا يستغفر
لهما فيكتبه الله عاقا ، وانه ليكون غير بار لهما في حياتهما فإذا ماتا قضى عنهما
الدين ، واستغفر لهما ، فيكتبه الله بارا ، قال : وقال أبو عبد الله عليهالسلام أن أحببت أن
يزيد الله في عمرك فبر أبويك ، وقال : البر يزيد في الرزق».
وعن سالم الحناط (4) عن أبى جعفر عليهالسلام قال : قلت له
: أيجزي الولد الوالد؟ قال : لا إلا في خصلتين يجده مملوكا فيشترى فيعتقه ، أو
يكون عليه دين فيقضيه عنه». ورواه الكليني وكذا الذي قبله.
المسألة الحادية عشر ـ لو ضمن أحد عن الميت دينه ،
فالظاهر أنه لا خلاف في أنه تبرأ ذمته وينتقل المال إلى ذمة الضامن ، سواء كان في
مرض الموت أو قبله أو بعده ، واستدل عليه بأن الضمان ناقل فهو بمنزلة الأداء ،
والمعتمد في ذلك انما هو الاخبار المتفقة على الحكم المذكور.
ومنها ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب
في الصحيح عن عبد الله
__________________
(1 ـ 2) الوسائل الباب ـ 10 من أبواب الدين.
(3 ـ 4) الوسائل الباب ـ 30 من أبواب الدين.
بن سنان (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام «في الرجل يموت
وعليه دين فيضمنه ضامن للغرماء ، فقال : إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمة الميت».
وما رواه الشيخ في التهذيب عن إسحاق بن عمار (2) في الموثق عن
أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يكون
عليه دين فحضره الموت فيقول وليه : على دينك قال : يبرؤه ذلك وان لم يوفه وليه من
بعده ، وقال : أرجو ان لا يأثم وانما إثمه على الذي يحبسه».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن الجهم (3) في الموثق قال
: «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل مات
وله على دين وخلف ولدا رجالا ونساء وصبيانا فجاء رجل منهم فقال : أنت في حل مما
لأبي عليك من حصتي ، وأنت في حل مما لإخوتي وأخواتي وأنا ضامن لرضاهم عنك ، قال :
تكون في سعة من ذلك وحل ، قلت : فان لم يعطهم؟ قال : ذلك في عنقه ، قلت : فان رجع
الورثة على؟ فقالوا أعطنا حقنا فقال : لهم ذلك في الحكم الظاهر ، فأما ما بينك
وبين الله عزوجل فأنت في حل
إذا كان الرجل الذي أحل لك يضمن لك عنهم رضاهم فيحتمل لما ضمن لك ، قلت : فما تقول
في الصبي لامه أن تحلل؟ قال : نعم إذا كان لها ما ترضيه أو تعطيه ، قلت : وان لم
يكن لها ، قال : فلا ، قلت : فقد سمعتك تقول : أنه يجوز تحليلها ، فقال : إنما
أعني بذلك إذا كان لها ، قلت : فالأب يجوز تحليله على ابنه فقال له : ما كان لنا
مع أبى الحسن عليهالسلام أمر يفعل في
ذلك ما شاء ، قلت : فان الرجل ضمن لي عن ذلك الصبي ، وأنا من حصته في حل فان مات
الرجل قبل أن يبلغ الصبي فلا شيء عليه؟ قال الأمر جائز على ما شرط لك».
وأنت خبير بأنه بالنظر الى هذه الاخبار لا اشكال فيما
ذكرنا من الحكم المذكور ، انما الإشكال في أن المشهور اشتراط صحة الضمان برضا
المضمون
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 99 التهذيب ج 6 ص 187.
(2) التهذيب ج 6 ص 188.
(3) التهذيب ج 9 ص 167.
له ، ونقل عن الشيخ العدم ، وهذه
الاخبار قد اختلفت في ذلك ، فظاهر صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة بل صريحها الدلالة
على القول المشهور.
وظاهر الخبرين الأخيرين الدلالة على القول الأخر ،
ومثلهما أيضا في الدلالة على ذلك ، ما رواه الشيخ عن حبيب الخثعمي (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «قلت له
: الرجل يكون عنده المال وديعة يأخذ منه بغير اذن صاحبه؟ قال : لا يأخذ الا أن
يكون له وفاء ، قال : قلت : أرأيت ان وجد من يضمنه ولم يكن له وفاء وأشهد على نفسه
الذي يضمنه يأخذ منه؟ قال : نعم».
قال في الوافي يعني وأشهد الضامن على نفسه بأنه ضامن ،
وينبغي حمله على ما إذا كان الضامن مليا ، لما تقدم في موثقة الحسين بن الجهم ،
والمسألة لذلك محل اشكال ، حيث أنه لا يحضرني الان وجه يجمع به بين هذه الاخبار ـ ثم
انه لا يخفى ان موثقة الحسين بن الجهم قد اشتملت على فوائد لطيفة ، ونكت شريفة
يحسن التنبيه عليها في المقام.
الفائدة الأولى ـ يفهم من الخبر المذكور أن الأحكام
الشرعية انما تبنى على ما هو الظاهر دون الواقع ونفس الأمر ، كما أشرنا إليه في
غير موضع مما تقدم ، سيما في كتب العبادات ، فإنه حكم بجواز رجوع الورثة عليه في
الحكم الظاهر ، وان كان في الواقع صار بريء الذمة بضمان الولي.
الفائدة الثانية ـ فيه دلالة على القاعدة المشهورة من
تقييد المطلق وتخصيص العام ، حيث أنه بعد ان أفتى بأن تحليل الام مشروط بأن يكون
لها مال ، قال له السائل : انى سمعت تقول أنه يجوز تحليلها مطلقا ، أجاب عليهالسلام بأني إنما
أردت بذلك أن يكون لها مال ، فصار فتواه في هذا الخبر مخصصا لما أطلقه أولا مما
سمعه الراوي قبل هذه المسألة.
الثالثة ـ ما ذكره عليهالسلام من جواز تحليل
الأب على ابنه ، لعله محمول على الاستحباب ، بمعنى أنه يستحب للابن الرضا بذلك ،
كما يشير حكايته عن أبيه عليهالسلام
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 180 الفقيه ج 3 ص 194.
وأنه ليس لهم معه أمر ، وأنه يفعل في
أموالهم ما يشاء ، وقد تقدم تحقيق المسألة وأن الحق انه ليس للأب التصرف في مال
ابنه زيادة على النفقة الواجبة الا على جهة القرض ، وان دل جملة من الاخبار على
الجواز مطلقا ، مثل ظاهر هذا الخبر ، وقد ذكرنا أن الأظهر حملها على التقية ، واما
هذا الخبر فالظاهر حمله على الاستحباب كما ذكرناه.
الرابعة ـ فيه دلالة على اشتراط أن يكون الضامن مليا
لانه عليهالسلام شرط في تحليل
الام أن يكون لها مال ـ وبه صرح الأصحاب أيضا ـ إلا مع رضاء المستحق بضمان المعسر
، فإنه يلزم أيضا ، ويدل عليه حديث ضمان على بن الحسين عليهالسلام لدين عبد الله
بن الحسن (1).
الخامسة ـ ظاهر الخبر المذكور وكذا خبر إسحاق بن عمار
صحة الضمان بغير الصيغة التي اشترطها الأصحاب ، حتى أن بعضهم صرح بأنه لو قال :
على دينه أو ما عليه على ، فإنه لا يوجب الضمان ، لجواز إرادته أن للغريم تحت يده
مال ، أو أنه قادر على تخليصه ، مع أن موثقة إسحاق صريح في براءة ذمته ، لقوله على
دينك ، وهو مما يؤيد ما قدمناه من سعة الدائرة في العقود الشرعية.
المسألة الثانية عشر ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) أنه يجب على المديون دفع جميع ما يملكه في الدين مع حلول الدين وطلب
صاحبه ، ولا يجوز تأخيره والحال هذه ، فإن أخره كان عاصيا ، ووجب على الحاكم حبسه.
__________________
(1) وهو ما رواه في الفقيه والتهذيب عن عيسى بن عبد الله انه
احتضر عبد الله بن الحسن عليهالسلام فاحتج عليه غرماؤه وطالبوه بديونهم
فقال : لا مال عندي فأعطيكم ولكن ارضوا بمن شئتم من بنى عمى على بن الحسين عليهماالسلام أو عبد الله بن جعفر (رضى الله عنه)
فقال الغرماء : اما عبد الله بن جعفر فملي مطول ، وعلى بن الحسين رجل لا مال له
صدوق ، وهو أحبها إلينا فأرسل إليه أخبره بالخبر فقال : أضمن لكم المال إلى غلة
ولم يكن له غلة ، فقال القوم : قد رضينا وضمنه ، فلما أتت الغلة أتاح الله عزوجل ـ
له بالمال فاداه منه ـ رحمهالله. ـ التهذيب ج 6 ص 211 الفقيه ج 3 ص 55.
ويستثني له من ما يملكه دار السكنى ، وعبد الخدمة وفرس
الركوب ان كان من أهلهما ، وقوت يوم وليلة له ولعياله ، وثياب تجمله ، وكذا ثياب
عياله ، وزاد بعض استثناء كتب العلم.
ولعل مستندهم في الحكم الأول عموم أدلة وجوب أداء الدين
وإبراء الذمة من أموال الناس مع القدرة والتمكن ، وكأنه مجمع عليه بينهم ، بل قيل
: بين المسلمين وحينئذ فلا بد لكل ما استثنى من دليل ، فأما دار السكنى فنقل في
التذكرة إجماع علمائنا على عدم جواز بيعها ، خلافا للعامة.
ويدل على ذلك جملة من الاخبار ، منها ما رواه في الكافي
عن عثمان بن زياد (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : ان لي على
رجل دينا وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني فقال له أبو عبد الله عليهالسلام : أعيذك بالله
ان تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من ظل رأسه ، أعيذك بالله أن تخرجه من
ظل رأسه».
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن إبراهيم بن هاشم (2) «أن محمد بن
أبى عمير كان رجلا بزازا فذهب ماله وافتقر ، وكان له على رجل عشرة آلاف درهم فباع
دارا له كان يسكنها بعشرة آلاف درهم ، وحمل المال الى بابه فخرج اليه محمد بن أبى
عمير فقال : ما هذا فقال : هذا مالك الذي لك على قال : ورثته؟ قال : لا ، قال :
وهب لك؟ قال : لا ، قال : فهل هو ثمن ضيعة بعتها؟ قال : لا ، قال : فما هو؟ قال :
بعت داري التي أسكنها لأقضي ديني ، فقال : محمد بن أبى عمير حدثني ذريح المحاربي
عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : لا يخرج
الرجل عن مسقط رأسه بالدين ، ارفعها فلا حاجة لي فيها ، والله انى لمحتاج في وقتي
هذا الى درهم واحد ، وما يدخل ملكي منها درهم واحد».
وما رواه في الكافي عن الحلبي (3) في الصحيح أو
الحسن عن أبى عبد الله
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 97 لكن فيه مرة واحدة (أعيذك بالله) الى
آخره.
(2) التهذيب ج 6 ص 198 الفقيه ج 3 ص 117.
(3) الكافي ج 5 ص 98.
عليهالسلام قال : «لا
تباع الدار ولا الجارية في الدين ، وذلك أنه لا بد للرجل من ظل يسكنه وخادم يخدمه».
وما رواه الشيخ عن مسعدة بن صدقة (1) قال : «سمعت
جعفر بن محمد عليهماالسلام يقول وسئل عن
رجل عليه دين وله نصيب في دار وهي تغل غلة فربما بلغت غلتها فوته ، وربما لم تبلغ
حتى يستدين ، وان هو باع الدار وقضى دينه بقي لا دار له؟ فقال : ان كان في داره ما
يقضى به دينه ويفضل منها ما يكفيه وعياله فليبع الدار والا فلا».
وعن ذريح المحاربي (2) في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : لا
يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدين.
وقال الصدوق : كان شيخنا محمد بن الحسن رضى الله عنه (3) «يروى انه ان
كانت الدار واسعة يكتفى صاحبها ببعضها فعليه أن يسكن منها ما يحتاج ويقضى ببقيتها
دينه ، وكذا ان كفته دار بدون ثمنها باعها واشترى بثمنه دارا ليسكنها ويقضى بباقي
الثمن دينه».
وهذه الروايات كما ترى ظاهرة في استثناء الدار كما ذكره
الأصحاب ، ودلت صحيحة الحلبي أو حسنته على استثناء الجارية أيضا ، وفي معناها
العبد أيضا ، ولعل ذكر الجارية إنما خرج مخرج التمثيل.
والظاهر أن الاستثناء انما هو بالنسبة الى ما يجب عليه
من وجوه الأداء ، بمعنى أنه لا يجب عليه بيع داره لوفاء دينه ، ولا يجبره الحاكم
على ذلك ، أو يبيع عليه قهرا ، أما لو اختار هو قضاء دينه ببيع داره فالظاهر أنه
لا مانع منه ، وأما حديث ابن ابى عمير وامتناعه من القبول ، فالظاهر أنه لمزيد
ورعه وتقواه ، فعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام الأصحاب بقولهم لا يجوز بيع الدار
ونحوها على ما ذكرناه بمعنى أنه لا يقهر على ذلك ويلزم به.
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 198.
(2 ـ 3) الفقيه ج 2 ص 118.
وأما ما رواه الشيخ بسنده عن سلمة بن كهيل (1) قال : «سمعت
عليا عليهالسلام يقول لشريح :
انظر الى أهل المعك والمطل ورفع حقوق الناس من أهل القدرة واليسار ممن يدلي بأموال
المسلمين الى الحكام فخذ للناس بحقوقهم منهم ، وبع فيها العقار والديار ، فانى
سمعت رسول الله عليهالسلام يقول : مطل
المسلم الموسر ظلم للمسلم ، ومن لم يكن له عقار ولا دار ولا مال فلا سبيل عليه»
الحديث.
ورواه الصدوق عن الحسن بن محبوب عن عمر بن أبى المقدام
عن أبيه عن سلمة بن كهيل (2) مثله ، فقيل
انه مخصوص بالغني إذا أمطل وأخفى ماله ، واحتمل فيه أيضا الحمل على ما يزيد على
قدر الحاجة ، والأقرب عندي الحمل على التقية كما يفهم من عبارة التذكرة المتقدمة ،
وممن نقل عنه ذلك لشريح المذكور في هذا الخبر ، الشافعي ومالك في تتمة الخبر ـ مما
لم نذكره ـ ما يساعد على هذا الاحتمال أيضا (3).
وما نقله الصدوق عن شيخه المذكور يدل عليه خبر مسعدة بن
صدقة (4) والعمل به
متجه ، ولا منافاة فيه ، لباقي أخبار المسألة لأن الظاهر منها كما يشير اليه قوله عليهالسلام في خبر عثمان
بن زياد «أعيذك بالله أن تخرجه». الى آخره انما كونه مع بيع الدار يبقى بلا دار
بالكلية» واليه يشير أيضا قوله في رواية الحلبي لا بد للرجل من ظل يسكنه.
وأما ما يدل على استثناء الخادم فالظاهر أنه الإجماع ،
مضافا الى رواية الحلبي
__________________
(1 ـ 2) التهذيب ج 6 ص 225 الفقيه ج 3 ص 8.
(3) حيث قال فيه «ورد اليمين على المدعى مع بينته ، فان ذلك
اجلى للعمى وأثبت في القضاء» فان اليمين لا محل لها هنا عندنا ، لأن وظيفة المدعى
البينة ، فإذا أقام البينة ثبت حقه ، ولا يكلف اليمين معها ، وانما هو مذهب جملة
من العامة ، واحتمل بعض مشايخنا الاختصاص بشريح المخاطب بهذا الكلام حيث انه ليس
أهل للقضاء ـ منه رحمهالله.
(4) التهذيب ج 6 ص 198.
المتقدمة ، واما غيرهما فلم أقف عليه
في شيء من الاخبار ، والظاهر انه من أجل ذلك اقتصر المحدث الكاشاني في المفاتيح
عليهما ، مع أن عادته غالبا اقتفاء اثر المشهور في هذا الكتاب ، ولعل المستند فيه
هو الضرورة والحاجة مع انه قد روى في الكافي عن عمر بن يزيد (1) قال : «اتى
رجل أبا عبد الله عليهالسلام يقتضيه وانا
حاضر فقال له : ليس عندنا اليوم شيء ولكن يأتينا خطر ووسمة فتباع ونعطيك إنشاء
الله تعالى فقال له الرجل : عدني فقال له : كيف أعدك وانا لما لا أرجو أرجى منى
لما أرجو».
وأنت خبير بما في هذا الخبر من الدلالة على التوسعة وعدم
ما ذكروه من التضييق ، فإنه يبعد كل البعد ان لا يكون له (عليهالسلام) مال بالكلية
سوى المستثنيات المذكورة ، إذ المستفاد من الاخبار أنه كان ذا ثروة وأملاك وان تعذر
عليه النقد في ذلك الوقت.
ويؤيده أيضا ما رواه في الكافي والتهذيب والفقيه عن بريد
العجلي (2) في الصحيح في
بعضها قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ان على
دينار ـ وأظنه قال : ـ لأيتام ـ وأخاف ان بعت ضيعتي بقيت وما لي شيء ، فقال : لا
تبع ضيعتك ولكن أعطه بعضا وأمسك بعضا». واحتمال انظار الولي له ، أو انه عليهالسلام رخص له
لولايته العامة كما قيل الظاهر بعده ، سيما انا لم نقف لهم لما ذكروه من التضييق
هنا على الوجه المذكور في كلامهم على دليل واضح من كتاب وسنة ، ونحو صحيحة بريد
المذكور فيما دلت عليه قوله عليهالسلام
في كتاب فقه الرضوي (3) «وان كان له
ضيعة أخذ منه بعضها ، وترك البعض إلى ميسرة». على أنه مما يبعد كل البعد استثناء
مثل الخادم والفرس ونحوهما مما تقدم مع عدم جواز أزيد من قوت يوم وليلة ، مع أن
القوت أضر ، وبالجملة فالمسألة لا يخلو من شوب الإشكال (4).
__________________
(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 98 التهذيب ج 6 ص 186.
(3) المستدرك ج 2 ص 491.
(4) أقول وملخص ما ذكر أنه مع ثبوت المنع من بيع هذه الأشياء
في الدين
وأما ما تقدم من أنه مع القدرة على الوفاء والمقابلة
بالمطل فإنه يحبس ، فيدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن عمار بن موسى (1) في الموثق عن
أبى عبد الله عليهالسلام قال : «كان
أمير المؤمنين عليهالسلام يحبس الرجل
إذا التوى على غرمائه ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسمه
بينهم يعنى ماله».
وعن غياث (2) «عن جعفر عن
أبيه عن على عليهمالسلام ، انه كان يحبس
بالدين فإذا تبين له إفلاس وحاجة خلى سبيله حتى يستفيد مالا». وفي معناهما أخبار
أخر.
وما رواه في التهذيب عن السكوني (3) عن جعفر عن
أبيه عليهماالسلام أن عليا عليهالسلام ، كان يحبس في
الدين ثم ينظر فان كان له مال اعطى الغرماء ، وان لم يكن له المال دفعه الى
الغرماء فيقول لهم اصنعوا به ما شئتم ، ان شئتم آجروه وان شئتم استعملوه». الحديث
هذا ـ ولا يخفى ما فيه.
أما ما دل عليه خبر السكوني من أنه دفعه الى الغرماء
ليؤجروه أو يستعملوه مع ظهور إفلاسه ، ظاهر المنافاة لما دل عليه خبر غياث ، وما
في معناه من أنه يخلى سبيله حتى يستفيد مالا ،
وظاهر جملة من الأصحاب حمل خبر السكوني على من يمكنه
التكسب وأنه مع إمكان ذلك يجب عليه ، وهو أحد القولين في المسألة ، وبه قال ابن
حمزة والعلامة في المختلف والشهيد في الدروس (4) ومنع ذلك الشيخ في الخلاف
__________________
واستثنائها لأجل الضرورة ، أو لورود النص في بعضها لا يدل على
وجوب بيع ما سواها في الدين ، كما ادعوه ، لما عرفت من حديث الصادق عليهالسلام مع غريمه ، ونحوه الذي بعده ، فإنه لو
كان الأمر كما ذكروه لم يتجه لما دل عليه هذان الخبران من حمل يحملان عليه منه رحمهالله.
(1) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 191.
(2 ـ 3) التهذيب ج 6 ص 299.
(4) قال في الدروس : ويجب التكسب لقضاء الدين على الأقوى بما
يليق
وابن إدريس لأصالة البراءة ، وللاية
وهي قوله عزوجل (1) «وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» أقول : ويدل عليه
أيضا خبر غياث المذكور.
ونحوه ما رواه الصدوق والشيخ مرسلا عن الأصبغ بن نباتة (2) عن أمير
المؤمنين (عليهالسلام) في خبر قال
فيه : «وقضى (عليهالسلام) في الدين أنه
يحبس صاحبه ، وان تبين إفلاسه والحاجة فيخلى سبيله حتى يستفيد مالا».
ويؤيد أيضا ما رواه الشيخ عن السكوني (3) «عن جعفر عن
أبيه عن على عليهالسلام أن امرأة
استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا فأبى أن يحبسه ، وقال (إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)». والتقريب
فيه أنه لو وجب الاكتساب لأمره به ، وحيث ان الشيخ في الخلاف (4) انما احتج
بالآية أجاب في المختلف عنها
__________________
(1) سورة البقرة الآية ـ 280.
(2) التهذيب ج 6 ص 232 الفقيه ج 3 ص 19.
(3) التهذيب ج 6 ص 299.
(4) أقول ظاهر العلامة في التذكرة اختيار ما ذهب اليه الشيخ
وابن إدريس حيث ، قال : إذا ثبت إعسار المديون لم يجز حبسه ، ولا ملازمته ، ووجب
إنظاره
بانا نمنع من إعسار المكتسب ، ولهذا
تحرم عليه الزكاة ، والظاهر أن له أن يجيب عن هذه الاخبار بالحمل على من لا يمكنه
التكسب جمعا بينها وبين خبر السكوني المذكور الا أن الظاهر بعده ، والمسألة لا
تخلو من الاشكال ولا يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة ، ولعل رواية السكوني
إنما خرجت مخرج التقية.
المسألة الثالثة عشر ـ الظاهر انه لا خلاف بينهم في
تحريم بيع الدين بالدين ، ويدل ، على ذلك من طريق الخاصة رواية طلحة ابن زيد (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا يباع
الدين بالدين».
ومن طريق العامة (2) ما رووه عن النبي صلىاللهعليهوآله «لا يجوز بيع
الكالي بالكالي». قال في النهاية الأثيرية : أنه نهى عن بيع الكالي بالكالي اى
النسيئة بالنسيئة وذلك أن يشترى الرجل شيئا الى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضى
به ، فيقول بعنيه الى آخر بزيادة شيء فيبيعه منه ، ولا يجرى بينهما تقابض انتهى.
والحكم مما لا إشكال فيه في الجملة إلا أن الاشكال هنا
في موضعين أحدهما أن المفهوم من كلام أكثر أهل اللغة اختصاص اسم الدين بالمؤجل ،
وبه صرح في القاموس والغريبين الا أن المفهوم من كتاب المصباح للفيومى على الحال ،
وقد تقدم ذلك في آخر المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام السلم من الفصل
العاشر في السلم لا أن الظاهر من كلام الأصحاب هو ما صرح به في القاموس.
وثانيهما أن المشهور إطلاق الدين على ما يقع تأجيله في
العقد ، وقيل : وهو
__________________
بقوله تعالى «وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» ثم استدل بخبر من طريق العامة ، وخبر
غياث المذكور في الأصل منه رحمهالله.
(1) الكافي ج 5 ص 100.
(2) المستدرك ج 2 ص 491.
اختيار شيخنا الشهيد الثاني بأنه
مخصوص بما كان كذلك قبل العقد ، وأما ما يقع فيه التأجيل بالعقد ، فإنه لا يصدق
عليه بيع الدين بالدين ، وقد تقدم نقل ذلك في الموضع المشار اليه آنفا ، وكذا قبله
في الشرط السابع من شروط السلم.
ومنع ابن إدريس من بيع الدين على غير المديون ، استنادا
الى دليل قاصر ، وتقسيم غير حاصر ، كما أوضحه شيخنا العلامة في المختلف ، والمشهور
الصحة لعموم الأدلة.
وقال في الدروس : ولو كان الدين مؤجلا لم يجز بيعه مطلقا
، وقال ابن إدريس : لا خلاف في تحريمه على من هو عليه ، ويلزم بطريق أولى تحريمه
على غيره ، وجوز الفاضل بيعه على من هو عليه ، فيباع بالحال لا بالمؤجل ، ولو كان
حالا جاز بيعه بالعين والدين ، والحال لا بالمؤجل أيضا انتهى.
أقول : أما ما ذكره من عدم جواز بيع الدين المؤجل مطلقا
، يعنى لا بحال ولا مؤجل فهو المشهور بينهم ، لانه لا يستحقه قبل حلول الأجل وهو
مذهب العلامة في التذكرة ووافقه في المسالك الجواز وقد تقدم تحقيق ذلك في المسألة
الثانية من المقام الثاني في أحكام السلم.
واما ما ذكره من أولوية التحريم على غير من هو عليه ،
بناء على ما ذكره ابن إدريس ، فلأنه إذا امتنع فيمن عليه المال مع أنه مقبوض
بالنسبة إليه فإن يمتنع في غيره لعدم المقبوضية أولى ، الا أنه قد أجاب في المسالك
بأنه لا يشترط المقبوضية حين العقد ، بل يكفي إمكانه وتحققه بعد الحلول ، وقد تقدم
ذكر ذلك في الموضع المشار اليه.
وأما اشتراط العلامة مع الجواز البيع بالحال لا بالمؤجل
، فلانه بالمؤجل يدخل تحت بيع الدين بالدين ، وأما البيع بالحال فلا مانع منع. الا
ما يدعونه من عدم استحقاقه يومئذ ، واشتراط القبض وقت العقد ، وفيهما ما عرفت كما
أوضحه في المسالك.
وأما أنه مع الحلول فإنما يجوز بالحال دون المؤجل ،
فالظاهر أنه مبنى على
ما قد قدمنا نقله عن المسالك من صدق
اسم الدين على المبيع قبل حلوله وبعده ، كما تقدم نقله عنه في الموضع المشار إليه
، فإنه يلزم على ذلك بيع الدين بالدين المنهي عنه ، ولم نقف لهم في هذه الدعوى على
مستند ، سيما مع تصريح أكثر أهل اللغة بأن الدين اسم للمؤجل خاصة ، وموافقتهم على
ذلك في الأثمان فليتأمل المقام ، فإنه حرى بالتدبر التام والله العالم.
المسألة الرابعة عشر : ظاهر الاخبار وهو ظاهر اتفاق كلمة
الأصحاب أنه لا يؤدى عن المديون من سهم الغارمين الا مع إنفاق الدين في غير معصية
، وأنه لا يعطى منه ، وانما الخلاف فيما إذا جهل حاله ، فقال الشيخ : انه كالثاني
، وقال ابن إدريس : بالأول ، وبه صرح الأكثر.
ونقل عن الشيخ أنه احتج بما رواه في الكافي عن محمد بن
سليمان (1) «عن رجل من أهل
الجزيرة يكنى أبا (نجاد) قال : سأل الرضا عليهالسلام رجل وأنا أسمع
، فقال له : جعلت فداك ان الله عزوجل يقول «وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» أخبرني عن هذه
النظرة التي ذكرها الله عزوجل في كتابه لها
حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر؟ وقد أخذ مال هذا الرجل وأنفقه
على عياله ، وليس له غلة ينتظر إدراكها ، ولا دين ينتظر محله ، ولا مال غائب ينتظر
قدومه ، قال : نعم فينظر بقدر ما ينتهى خبره الى الامام ، فيقضي عنه ما عليه من
الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزوجل ، وان كان
أنفقه في معصية الله فلا شيء على الامام له ، قلت : فما لهذا الرجل الذي ائتمنه
وهو لا يعلم فيما أنفقه في طاعة الله عزوجل أم في معصيته؟
قال : يسعى له في ماله فيرده عليه وهو صاغر».
وردها الأكثر بضعف الاسناد فلا يمكن التعويل عليها في
إثبات حكم مخالف للأصل ، لأن الأصل في تصرفات المسلمين وقوعها على وجه الصحة
والمشروع ،
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 93 التهذيب ج 6 ص 185 في الكافي والتهذيب
يكنى أبا محمد.
ولان تتبع مصارف الأموال عسير.
أقول : قد سبق البحث في هذه المسألة في كتاب الزكاة من
كتب العبادات وأوضحنا ثمة ان الرواية لا دلالة فيها على ما ادعوه ، من أنه لو جهل
حال إنفاقه لم يدفع له من سهم الغارمين ، فليرجع اليه من أراد تحقيق الحال.
فروع : الأول والثاني مما فرعوه على وجوب أداء الدين مع
الحول وطلب صاحب وإمكان دفعه حبسه ، كما تقدم ، وبطلان صلاته ما لم يتضيق الوقت ،
قال في التذكرة إذا ثبت هذا فلو أصر على الالتواء كان فاسقا لا تقبل شهادته ، ولا
تصح صلاته في أول الوقت ، بل إذا تضيق ، ولا يصح شيء من الواجبات الموسعة
المنافية للقضاء في أول وقتها ، وكذا غير الدين من الحقوق الواجبة كالزكاة والخمس
، وان لم يطالب به الحاكم ، لأن أربابها في العادة يطالبون ، وأيضا الحق ليس لشخص
معين حتى يتوقف على الطلب.
أقول لا يخفى أن ما ذكروه هنا مبنى على ثبوت أن الأمر
بالشيء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، وهو مما لم يقم عليه دليل شرعي ان لم تكن
الأدلة قائمة على عدمه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في مواضع من كتب العبادات ،
وبالعدم صرح جملة من المحققين ، منهم شيخنا الشهيد الثاني عطر الله مرقده.
الثالث ـ الظاهر من جملة الاخبار أنه لو مات المديون ولم
يتمكن من القضاء أو تمكن ولكن لم يطالب بالحق ، سواء خلف ما يقضى به عنه أو لم
يخلف ، وسواء قضى عنه أو لم يقض ، والحال أن عزمه ونيته كانت على القضاء في جميع
هذه الصور وكان مصرف الدين الذي عليه في الأمور المباحة ، فإنه لا يؤاخذ ولا يعاقب
وأما مع عدم شيء من هذه القيود ، فالظاهر الإثم والمؤاخذة والملخص أنه في جميع ما
ذكرنا أولا لا يجب الأداء ، وعليه ترتب عدم المؤاخذة.
ومما يدل على ما قلناه رواية عبد الغفار الجازي (1) المتقدمة في
صدر هذا المقصد
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 99 التهذيب ج 6 ص 191.
فيمن مات وعليه دين حيث قال عليهالسلام : «ان كان أتى
على يديه من غير فساد لم يؤاخذه الله عزوجل إذا علم نيته»
الخبر.
وفي صحيحة (1) زرارة المتقدمة ثمة أيضا «في الرجل
عليه الدين لا يقدر على صاحبه ، ولا على ولى له ، قال : لا جناح عليه بعد أن يعلم
الله منه أن نيته الأداء» ، ونحو ذلك رواية نضر بن سويد (2) ومجمل ذلك انه
متى كان من نيته الأداء واتفق موته على أحد الوجوه المذكورة فإنه غير مؤاخذ.
الرابع : المفهوم من جملة من الاخبار انه متى لم يتمكن
المديون من أداء الدين وجب على الامام ان يؤدى عنه من سهم الغارمين إذا كان قد
أنفق ما استدانه في طاعة أو في مباح ، فلو أنفقه في معصية لم يكن له ذلك.
ومنها رواية «أبي نجاد» المتقدمة (3) ومنها رواية
موسى بن بكر (4) وقد تقدمت في
صدر هذا الكتاب.
ورواية صباح بن سيابة (5) عن ابى عبد
الله عليهالسلام قال قال رسول
الله صلىاللهعليهوآله : أيما مؤمن
أو مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الامام ان يقضيه ، وان لم
يقضه فعليه اثم ذلك ، ان الله تبارك وتعالى يقول «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» ـ الاية ـ فهو
من الغارمين ، وله سهم عند الإمام ، فإن حبسه عنه فإثمه عليه».
ورواية أيوب بن عطية الحذاء (6) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : كان
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 188 وقد قدمنا ان المراد من صحيحة زرارة
انما هو السؤال عن المؤاخذة لثبوت الذمة على هذه الحال وعدمها ، وأجاب عليهالسلام بما يدل على عدم المؤاخذة والحال هذه
منه رحمهالله.
(2) الكافي ج 5 ص 93 التهذيب ج 6 ص 183.
(3 ـ 4) الكافي ج 5 ص 93 وفي الكافي (أبا محمد).
(5) المستدرك ج 1 ص 525.
(6) الوسائل الباب ـ 3 ـ من أبواب ضمان الجريرة الرقم ـ 14.
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : انا
أولى بكل مؤمن من نفسه ، ومن ترك مالا فللوارث ، ومن ترك دينا أو ضياعا فالى وعلى».
أقول الضياع بالفتح العيال.
ورواية عطاء (1) عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «قلت له
: جعلت فداك ان على دينا إذا ذكرته فسد على ما انا فيه ، فقال : سبحان الله أما
بلغك أن رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يقول في
خطبته من ترك ضياعا فعلى ضياعه ، ومن ترك دينا فعلى دينه ، ومن ترك مالا (فأكله)
فكفالة رسول الله صلىاللهعليهوآله ميتا ككفالته
حيا فقال الرجل : نفست عني جعلني الله فداك».
قيل انما كان له صلىاللهعليهوآله يأكله لأنه
وارث من لا وارث له ، وان معنى قوله نفست عني لأنه علم به انه يقضى دينه بضمان
النبي صلىاللهعليهوآله على يد من شاء
الله.
أقول : وينبغي ان يزاد على ما ذكره انه ان لم يتفق
الأداء في الدنيا ، فإنه صلىاللهعليهوآله في الآخرة
يقضيه عنه ، ولو بإرضاء غريمه ، وتعويضه كما يستفاد من بعض الاخبار.
وقال في كتاب الفقه الرضوي (2) «فإن كان غريمك
معسرا وكان أنفق ما أخذ منك في طاعة الله فانظره إلى ميسرة ، وهو ان يبلغ خبره الى
الامام فيقضي عنه ، أو يجد الرجل طولا فيقضى دينه وان كان أنفق ما أخذه منك في
معصية الله فطالبه بحقك ، فليس هو من أهل هذه الآية».
أقول : ويحتمل بالنظر الى هذا الكلام منه عليهالسلام في هذا المقام
حمل رواية السكوني الدالة على دفعه الى الغرماء على ما إذا كان ما أخذه قد صرفه في
معصية الله وانه لا يسامح ولا يترك مؤاخذة له بسوء عمله ، وان كان معسرا فإنه غير
داخل تحت الآية على الإنظار إلى ميسرة ، وتحمل تلك الروايات الدالة على انه يخلى
سبيله على ما إذا كان مصرف الدين في طاعة أو مباح ، وهو بمقتضى كلامه عليهالسلام في هذا الكتاب
وجه حسن في الجمع بين هذه الاخبار ، الا ان الذي صرح به في
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 9 ـ من أبواب الدين (فلأهله) نسخة.
(2) المستدرك ج 2 ص 493.
الدروس هو عموم وجوب الانظار ، وهو
ظاهر أكثر عباراتهم.
قال في الكتاب المذكور ولا فرق في وجوب انظار المعسر بين
من أنفق بالمعروف وغيره ، وقال الصدوق ولو أنفق في المعصية طولب وان كان معسرا
وفيه بعد ، مع ان المنفق في المعروف أوسع مخرجا بحل الزكاة له انتهى.
أقول الظاهر ان مستند الصدوق هنا فيما ذكره هو ما ذكره عليهالسلام في هذا الكتاب
، كما أوضحناه عما يكشف عن وجهه نقاب الارتياب في مواضع عديدة من كتب العبادات ،
وقبله والده في رسالته اليه.
ويمكن تأييده أيضا بما يشير اليه قوله عليهالسلام في رواية أبي
نجاد المتقدمة ، فيرد عليه ماله وهو صاغر ، فان المراد بذلك ـ كما يعطيه سياق
الخبر ـ انه مع الفقر والاستحقاق ، فإن الإمام يؤدى عنه من سهم الغارمين ان أنفق
ما استدانه في طاعة ، وان أنفق في معصية فلا شيء له على الامام ، بل عليه ان يرد
عليه ماله وهو صاغر ، وهو كناية عن عدم إنظاره كما لا يخفى ، وانه يطالب وان كان
معسرا كما ذكره الصدوق.
وأما قوله في الدروس مع أن المنفق في المعروف أوسع مخرجا
مشيرا به الى انه متى كان يجب إنظاره في صورة تحل له الزكاة ففي الصورة التي لا
تحل له بطريق اولى.
ففيه انه يمكن ان يقال ان وجوب المطالبة في الصورة
المذكورة ، وعدم إنظاره انما وقع عقوبة له ، ومؤاخذة بما فعله من الأمر الغير
المشروع ، كما قدمنا الإشارة إليه ، فلا تثبت الأولوية بظهور الفارق.
الخامس : الظاهر انه لا خلاف في انه يقضى على الغائب إذا
قامت البينة ، ولكن بالكفلاء ويكون الغائب على حجته.
ويدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم (1) عن أبى جعفر عليهالسلام» قال : الغائب
يقضى عنه إذا قامت البينة عليه ويباع ماله ويقضى عنه وهو
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 102 التهذيب ج 6 ص 191.
غائب ، ويكون الغائب على حجته إذا قدم
، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البينة إلا بكفلاء إذا لم يكن مليا».
وذهب جمع من الأصحاب إلى ضم اليمين هنا إلى البينة ، كما
في الدعوى على الميت ، والخبر كما ترى خال من ذلك ، وليس في المسئلة غيره فيما
أعلم ، وتعليلهم بما ذكروه من الوجوه التخريجية. عليل.
السادس : المعروف من كلام جل الأصحاب (رضوان الله عليهم)
وبه صرح جملة منهم أنه لا يبطل الحق بتأخير المطالبة ، وان طالت المدة ، وقال
الصدوق من ترك دارا أو عقارا أو أرضا في يد غيره فلم يتكلم ولم يطالب. ولم يخاصم
في ذلك عشر سنين فلا حق له.
ويدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب عن يونس (1) عن العبد
الصالح عليهالسلام قال : «قال :
ان الأرض لله عزوجل جعلها وقفا
على عباده ، فمن عطل أرضا ثلاث سنين متوالية بغير سبب ، أو علة أخرجت من يده ،
ودفعت الى غيره ، ومن ترك مطالبة حق له عشر سنين فلا حق له». وروى الشيخان
المذكوران عن يونس (2) أيضا عن رجل
عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «من
أخذت منه أرض ثم مكث ثلاث سنين لا يطلبها لا يحل له بعد ثلاث سنين أن يطلبها». ومن
ذكر هذه المسألة من الأصحاب رد هذه الاخبار بضعف الاسناد حتى صاحب المفاتيح.
أقول : أما الكلام في الأرض فهو محمول على أنها من أرض
الخراج وقد تقدم البحث فيها في المقدمة الرابعة من مقدمات كتاب البيع ، وبيان هذه
المسألة ثمة فليراجع.
وأما بالنسبة إلى ترك الحق عشر سنين كما دل عليه عجز
الخبر الأول فإن مما يؤيده أيضا ما رواه الشيخان المتقدمان عن على بن مهزيار (3) قال : «سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن دار كانت
لامرأة وكان لها ابن وابنة ، فغاب الابن في البحر ، وماتت
__________________
(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 297 التهذيب ج 7 ص 233.
(3) التهذيب ج 9 ص 390 الكافي ج 7 ص 154.
المرأة فادعت ابنتها ان أمها كان صيرت
هذه الدار لها ، فباعت أشقاصا منها ، وبقيت في الدار قطعة الى جنب دار لرجل من
أصحابنا وهو يكره أن يشتريها لغيبة الابن ، ويتخوف من أن لا تحل له شراؤها ، وليس
يعرف للابن خبر ، فقال لي : ومنذ كم غاب؟ فقلت : منذ سنين كثيرة ، فقال : ينتظر به
غيبته عشر سنين ثم يشترى ، فقلت فإذا انتظرته غيبة عشر سنين حل شراؤها؟ قال : نعم».
وطريق هذه الرواية وان كان ضعيفا في الكافي حيث أن فيه
سهل بن زياد ، الا أنه في التهذيب صحيح ، لروايته لها عن على بن مهزيار ، وطريقه
إليه في المشيخة صحيح ، وهي ظاهرة الدلالة فيما ذكره الصدوق من زوال حقه بعد عشر
سنين ، وهي وان كان موردها الغائب الا أن ظاهرهم عدم الفرق في ذلك بين الغائب
والحاضر ، فان من ملك مالا لم يزل ملكه عنه بغير ناقل شرعي ولم يعد هذا عندهم منها
، ولم يفرقوا بين الغائب والحاضر.
وبه يظهر أن قول الصدوق قريب سيما مع ما عرفت ، من أن
الطعن بضعف الاسناد ليس عندنا بمحل من الاعتماد ، الا أن ظاهر الشيخ المفيد تخصيص
هذا الخبر بالمفقود ، حيث أن الأصحاب اختلفوا في مال المفقود على أقوال.
منها قول الشيخ المذكور بأنه بالنسبة إلى عقاره ينتظر به
عشر سنين ، ومع ذلك يكون البائع ضامنا درك الثمن ، فان رجع المفقود خرج اليه من
حقه ، وبالسنة إلى سائر أمواله جوز اقتسام الورثة لها بشرط الملائة والضمان على
تقدير ظهوره ، واستدل على الأول بصحيحة على بن مهزيار المذكورة ، وعلى الثاني
بموثقة إسحاق بن عمار ، وفي ما ذكره رحمهالله من الاستدلال
في كلا الموضعين بحث ليس هنا موضع ذكره ، وسيأتي إنشاء الله تعالى في محله.
وبالجملة فالمسألة غير خالية من شوب الاشكال لما عرفت
والله العالم :
السابع : يجوز تعجيل بعض الديون المؤجلة بنقصان منها
بإبراء أو صلح أو بمد الأجل في الباقي ، ولا يجوز تأجيل منها بزيادة.
ويدل على ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان (1) في الصحيح عمن
حدثه عن أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سالته
عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن يحل الأجل : عجل النصف من حقي
على أن أضع عنك النصف ، أيحل ذلك لواحد منهما؟ قال : نعم».
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «سئل
عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول له : انقدني كذا وكذا وأضع
عنك بقيته ، أو يقول : انقدني بعضه وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك؟ قال : لا ارى
به بأسا انه لم يزدد على رأس ماله ، قال الله جل ثناؤه «فَلَكُمْ
رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ». وفي التهذيب «الرجل
يكون عليه الدين». وهو أظهر وعلى تقدير هذه النسخة كان اللام بمعنى على ، وقد تقدم
ما يتعلق بهذا المقام أيضا في المسألة العاشرة من الفصل السادس.
الثامن : الظاهر انه لا خلاف في ان الكفن مقدم على الدين
، ويدل عليه ايضا ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن
زرارة (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل مات
وعليه دين بقدر كفنه قال : يكفن بقدر ما ترك ، الا أن يتجر عليه انسان فيكفنه ،
ويقضى بما ترك دينه».
وما رواه الشيخ عن إسماعيل بن ابى زياد (4) «عن جعفر عن
أبيه عليهماالسلام قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : ان أول ما
يبدأ به من المال الكفن ، ثم الدين ، ثم الوصية ، ثم الميراث».
وقال الرضا عليهالسلام (5) في كتاب الفقه
الرضوي : «وإذا مات رجل عليه دين ولم يكن له الا قدر ما يكفن به كفن به ، فان تفضل
عليه رجل بكفن ، كفن به ويقضى ما ترك دينه ، وإذا مات رجل وعليه دين ولم يخلف شيئا
فكفنه رجل من زكاة ماله ،
__________________
(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 258 التهذيب ج 6 ص 206 و 207.
(3 ـ 4) التهذيب ج 6 ص 187 الفقيه ج 4 ص 143.
(5) المستدرك ج 1 ص 108 مع اختلاف يسير.
فهو جائز له ، فان اتجر عليه رجل آخر
بكفن كفن من الزكاة وجعل الذي اتجر عليه لورثته يصلحون به حالهم لان هذا ليس بتركة
الميت انما هو شيء صار إليهم بعد موته وبالله الاعتصام».
أقول : فيه دلالة على أن ما يصير الى الميت بعد الموت
ويوهب له لا يجب صرفه في الدين ، ويحل للورثة أكله ، سيما مع الإعسار والحاجة.
التاسع : يجوز القرض في بلد مع شرط أن يقضيه في بلد آخر ،
وادعى عليه في التذكرة الإجماع.
وعليه تدل جملة من الاخبار منها صحيحة أبي الصباح (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام «في الرجل يبعث
مالا إلى أرض ، فقال الذي يريد ان يبعث به : أقرضنيه وانا أوفيك إذا قدمت الأرض
قال : لا بأس بهذا» وفي التهذيب «يريد ان يبعث به معه». وهو أظهر.
وعن زرارة (2) في الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام ، ويعقوب بن
شعيب عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قلت :
يسلف الرجل الرجل الورق على أن ينقده إياه بأرض أخرى ، ويشترط عليه ذلك؟ قال : لا
بأس».
وروى السكوني (3) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : لا بأس أن
يأخذ الرجل الدراهم بمكة ، ويكتب سفاتج أن يعطوها بالكوفة».
أقول : السفاتج جمع سفتجة بالضم (4) والمراد أنه
يدفع ماله لأحد في
__________________
(1 ـ 2) التهذيب ج 6 ص 203.
(3) الكافي ج 5 ص 256.
(4) قال في مجمع البحرين في حديث محمد بن صالح الا رجل واحد
كانت عليه سفتجة بأربعمائة دينار : السفتجة قيل بضم السين وقيل بفتحها وأما التاء
فمفتوحة فيهما فارسي معرب ، وفسرها بعضهم فقال : هي كتاب صاحب المال لوكيله أن
يدفع مالا قرضا يأمن به خطر الطريق ، وفي الدر السفتجة كقرطبة أن تعطى مالا لأحد
بعض البلدان فيكتب ذلك المدفوع اليه
كتابا بأن يدفع اليه ذلك المال في بلد أخرى ، وأن الكتاب بهذه الصورة يسمى سفتجة.
وصحيحة إسماعيل بن جابر (1) عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «قلت له
، ندفع الى الرجل الدراهم فاشترط عليه أن يدفعها بأرض أخرى سودا بوزنها ، وأشترط
ذلك؟ قال : لا بأس».
قال بعض المحققين بعد ذكر الحكم المذكور وإيراد صحيحة
يعقوب بن شعيب : هذا ظاهر ، انما البحث في أنه يلزم ذلك أم لا؟ بل يجوز له أن يطلب
أينما يريد ، ظاهر كلامهم في عدم لزوم الأجل في القرض ـ وان القرض جائز دائما الا
أن يشترط في عقد لازم ـ الجواز ، ومقتضى أدلة لزوم الشرط عدمه ، وكذا نفى الضرر
إذا فرض ، إذ قد يتعسر أو يكون قليلا في بلد المطالبة دون بلد الشرط ، ونحو ذلك من
الضرر ، وأما العكس فالظاهر أنه ليس بلازم ، بل كان للمقترض دفع ذلك ويجب القبول ،
تأمل في الفرق انتهى.
أقول : الظاهر من لزوم العقد بناء على القول به هو
اللزوم من الطرفين ، فكما أنه لا يجوز للمقرض المطالبة في غير ذلك المكان كما ذكره
، كذلك لا يجوز للمقترض الدفع في غيره ، وحديث الضرر الذي ذكره جار أيضا في الجانب
الآخر ، بل ربما كان أظهر فإن ظاهر هذه الاخبار أن الغرض من هذه المعاملة المذكورة
هو خوف المقرض على ماله بالسفر به الى تلك البلد ، وهو مضطر الى نقله الى تلك
البلاد على وجه لا يحصل عليه ، فدفعه الى ذلك الرجل ليدفعه له في تلك البلد بنفسه
أو وكيله أو سفاتج تكتب بينهم ، فلو جوزنا للمقترض أن يدفع ذلك في بلد القرض مثلا
أو بلد أخرى غير البلد التي وقع الاشتراط عليها ، لربما تضرر المقرض بإيصاله إلى
__________________
والآخذه مال في بلد فيوفيه إياها ثم ، فيستفيد آمن الطريق
وفعله السفتجة بالفتح والجمع «السفاتج» انتهى. منه.
(1) التهذيب ج 7 ص 110.
تلك البلد باحتمال الخطر ، وخوف
الطريق في السفر.
وبالجملة فلزوم العقد يقتضي تعلقه بالطرفين كما في البيع
وغيره ، وما ذكره من الفرق غير ظاهر ، بل الظاهر ، انما هو عدمه ، فإنه قضية
اللزوم كما عرفت والله العالم.
العاشر : قد اشتهر بين جملة من الأصحاب وجود القول بأنه
متى قتل أحد أحدا ظلما ، فإنه ينتقل جميع ما في ذمة المقتول من الحقوق المالية
وغيرها الآدمية الإلهية إلى ذمة القاتل ، وربما نسب الى شيخنا الشهيد (عطر الله
مرقده) وردوه بالضعف وعدم الدليل ، وقد وقفت في بعض الأجوبة المنسوبة إلى السيد
العلامة السيد ماجد البحراني ـ المدفون بشيراز في تحت قبة السيد أحمد بن مولانا
الكاظم عليهالسلام المشهور بشاة
چراغ ـ الجواب عن هذه المسألة بما هذه صورته حيث قال السائل : سيدنا ما قولكم فيمن
قتل شخصا هل ينتقل كلما على ذمة المقتول الى القاتل من الإلهية والآدمية مالية
وغيرها؟ فأجاب السيد المشار اليه (قدسسره) بما لفظه أما
انتقال ما على المقتول إلى ذمة القاتل من الحقوق المالية والإلهية فلا نعرف له
وجها ، وان وجد في بعض الفوائد منقولا عن بعض الأعيان انتهى.
أقول : وقد وقفت في بعض الاخبار على ما يدل بظاهره على
القول المذكور وهو ما رواه شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب عقاب الأعمال
بسنده عن الباقر عليهالسلام قال (1) : من قتل
مؤمنا أثبت الله على قاتله جميع الذنوب ، وبريء المقتول منها ، وذلك قول الله عزوجل (2) «إِنِّي
أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النّارِ».
وهو كما ترى صريح الدلالة في انتقال الحقوق الإلهية من
ذمة المقتول إلى ذمة القاتل وبه يظهر أن ما ذكره المفسرون في معنى الآية المذكورة
نفخ في
__________________
(1) ثواب الأعمال ص 328 ط طهران.
(2) سورة المائدة الآية ـ 29.
غير ضرام ، المعتمد عندنا في تفسير
القرآن انما هو ما ورد عنهم عليهمالسلام حيث تأولوا
الاية بتقدير مضاف ، في قوله «بِإِثْمِي» أى بإثم قتلي
ان قتلتني ، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي» أو المراد اثمى لو بسطت يدي إليك ،
وإثمك ببسط يدك الى. ومما يؤيد القول المذكور أيضا بالنسبة إلى الحقوق المالية ما
رواه في الكافي بسند حسن عن الوليد بن صبيح (1) قال : «جاء رجل الى أبى عبد الله عليهالسلام يدعى على
المعلى بن خنيس دينا فقال : ذهب بحقي فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ذهب بحقك
الذي قتله ، ثم قال للوليد : قم الى الرجل فاقضه من حقه ، فإني أريد أن أبرد عليه
جلده وان كان باردا».
فان ظاهر قوله «ذهب بحقك الذي قتله» يعطي أن القاتل هو
المؤاخذ بذلك ، وهو الذي ذهب بحقه دون المقتول ، واحتمال التجوز ـ باعتبار حيلولة
القاتل بينه وبين أداء الدين بسبب قتله إياه ، فكأنه ذهب به ـ ان أمكن لكن ينافيه
قوله عليهالسلام أريد أبرد
جلده وان كان باردا فإنه انما يكون باردا ببراءة الذمة من الدين ، الحال أنه ليس هنا
شيء موجب للبراءة سوى ما يدعيه من القتل ، وانما أراد الإمام بدفعه ذلك زيادة
تبريده ، وان لم يستحق عنده شيئا.
وبالجملة فإن ظاهر الخبر هو ما قلناه وارتكاب التأويلات
ـ وان بعدت والتكلفات وان غمضت ـ غير عسير الا أن الاستدلال انما بنى على الظواهر
، وارتكاب التأويل إنما يلجئ اليه وجود معارض أقوى ، والحال أنه ليس هنا ما يعارض
ذلك ، بل الموجود انما هو ما يؤيده ، ولا سيما الاعتضاد بظاهر الآية ، والخبر
المتقدم ، وبما ذكرنا يظهر أن المسألة لا يخلو عن شوب الاشكال ، والله سبحانه
وأولياؤه أعلم بحقيقة الحال.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 94.
المقام الثاني في دين العبد
والواجب أولا نقل الأخبار الواردة في هذا المقام ، ثم
الكلام فيما ذكره الأصحاب من الأحكام وما يستفاد من كلامهم عليهمالسلام الأول : ما
رواه في الكافي والتهذيب عن ظريف الأكفاني (1) قال : «كان اذن لغلام له في الشراء
والبيع فأفلس ولزمه دين ، فأخذ بذلك الدين الذي عليه ، وليس يساوى ثمنه ما عليه من
الدين ، فسأل أبا عبد الله عليهالسلام ، فقال : ان
بعته لزمك الدين وان أعتقت لم يلزمك الدين ، فأعتقه ولم يلزمه شيء».
الثاني : ما رواه الشيخان المذكوران عن زرارة (2) في الموثق قال
: «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن رجل مات
وترك عليه دينا وترك عبدا له مال في التجارة وولدا ، وفي يد العبد مال ومتاع ،
وعليه دين استدانه العبد في حياة سيده في تجارته ، فإن الورثة وغرماء الميت
اختصموا في ما في يد العبد من المال والمتاع وفي رقبة العبد ، فقال : ارى أن ليس
للورثة سبيل على رقبة العبد ، ولا على ما في يده من المتاع والمال الا أن يضمنوا
دين الغرماء جميعا فيكون العبد وما في يده من المال ، للورثة ، فإن أبوا كان العبد
وما في يده للغرماء ، يقوم العبد وما في يده من المال ، ثم يقسم ذلك بينهم بالحصص
فان عجز قيمة العبد وما في يده عن أموال الغرماء رجعوا على الورثة فيما بقي لهم ان
كان الميت ترك شيئا ، وان فضل من قيمة العبد وما كان في يديه عن دين الغرماء رد
على الورثة».
الثالث : ما رويا عن أبى بصير (3) والظاهر أنه
ليث المرادي بقرينة رواية عاصم وحميد عنه في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام ، قال : «قلت
له : رجل يأذن لمملوكه في التجارة فيصير دين عليه؟ قال : ان كان أذن له أن يستدين؟
فالدين على
__________________
(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 303 التهذيب ج 6 ص 199.
(3) الكافي ج 5 ص 303 التهذيب ج 6 ص 200.
مولاه ، وان لم يكن أذن له أن يستدين؟
فلا شيء على المولى ، ويستسعى العبد في الدين.
الرابع : ما رواه الشيخ في الموثق عن وهب بن حفص (1) عن أبى جعفر عليهالسلام ، قال : «سألته
عن مملوك يشترى ويبيع قد علم بذلك مولاه حتى صار عليه مثل ثمنه؟ قال : يستسعى فيما
عليه».
الخامس ـ ما رواه الشيخ أيضا عن شريح (2) قال : «قال
أمير المؤمنين عليهالسلام في عبد بيع
وعليه دين قال : دينه على من أذن له في التجارة ، وأكل ثمنه».
السادس ـ ما رواه بهذا الاسناد عن أشعث (3) «عن الحسن عليهالسلام في رجل يموت
وعليه دين قد أذن لعبده في التجارة ، وعلى العبد دين قال : يبدأ بدين السيد».
السابع ـ ما رواه عن روح بن عبد الرحيم (4) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام ، في رجل
مملوك استئجره مولاه فاستهلك مالا كثيرا ، قال : ليس على مولاه شيء ولكنه على
العبد ، وليس لهم أن يبيعوه ، ولكن يستسعى وان حجر عليه مولاه فليس على ـ مولاه شيء
ولا على العبد».
الثامن ـ ما رواه عن أبى بصير (5) والظاهر انه
المرادي بقرينة الراوي في الصحيح عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل يستأجر
مملوكا فيستهلك مالا كثيرا فقال : ليس على مولاه شيء وليس لهم ان يبيعوه ، ولكن
يستسعى وان عجز عنه فليس على مولاه شيء ولا على العبد شيء».
التاسع ـ ما رواه ايضا عن ظريف (6) بياع الأكفان
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 200.
(2 ـ 3) التهذيب ج 8 ص 248.
(4) التهذيب ج 7 ص 229.
(5) الوسائل الباب 11 ـ من أبواب كتاب الإجارة.
(6) التهذيب ج 6 ص 196.
عن غلام لي كنت أذنت له في الشراء
والبيع فوقع عليه مال للناس ، وقد أعطيت به مالا كثيرا فقال أبو عبد الله عليهالسلام : ان بعته
لزمك ما عليه ، وان أعتقته فالمال على الغلام وهو مولاك».
إذا عرفت ذلك فتحقيق القول في هذا المقام يقع في مواضع الأول
ـ قد تقدم ان الأصح هو ان المملوك يصح تملكه وان كان محجورا عليه التصرف فيما
يملكه بدون اذن السيد ، وبطريق الاولى تصرفه في نفسه بإجارة أو استدانة أو نحو ذلك
من الحقوق ، فإنه لا يجوز بدون اذن السيد (1).
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو أذن السيد لعبده في الاستدانة
لنفسه ، أى لنفس العبد ، كان الدين لازما للمولى ان استبقاه أو باعه ، وأما لو
أعتقه فقيل : انه يستقر الدين في ذمة العبد ، وقيل : يكون باقيا في ذمة المولى ،
والقولان للشيخ (رحمهالله) أولهما في
النهاية ، وتبعه عليه جماعة منهم العلامة في المختلف ، وهو ظاهر الشهيد في اللمعة
، والثاني في الاستبصار ، وبه قال ابن إدريس ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك ، والروضة ، وهو الأظهر.
وأما لو كانت الاستدانة للسيد ، فلا خلاف في كونه عليه
دون العبد ، كما ذكره في المسالك ، احتج القائلون بالقول الأول بالرواية الاولى
والتاسعة ، وأنت خبير بأن غاية ما يدل عليه الخبران المذكوران هو الاذن في التجارة
، وهو لا يستلزم الاذن في الاستدانة ، كما دل عليه الخبر الثالث.
__________________
(1) قال في كتاب النهاية إذا استدان العبد باذن مولاه ، فان
باعه أو مات لزم المولى قضاءه وان أعتقه كان المال في ذمة العبد ، ولا يلزم المولى
شيئا مما عليه انتهى.
وأنت
خبير بأنه قد فرض المسألة في استدانة العبد باذن المولى ، والروايتان اللتان استند
إليهما خاليتان من ذلك ، وانما تضمنت الاذن في التجارة ، وبه يظهر ضعف الاستدلال
بهما في المقام ، مضافا الى مخالفة الأصول الشرعية ، فإنه متى كان مأذونا له في
الاستدانة ، فأي فرق بين حال العتق وعدمه ـ منه رحمهالله.
وحينئذ فالخبران ليسا من محل البحث في شيء ، فلا يحتاج
الى ردهما بمخالفة القواعد الشرعية كما ذكره في المسالك ، بل ما تضمناه بناء على
ما قلناه موافق للقواعد ، إلا أنهما ليسا من محل البحث في شيء ، ومقتضاهما بناء
على ما ذكرناه أن الدين انما هو على العبد حيث أنه لم يؤذن له في الاستدانة كما
صرح به في الخبر الثالث.
وأنه انما يلزم المالك إذا باعه من حيث حيلولته بين
أصحاب الدين وبين العبد ببيعه ، لا من حيث أن المال لازم له بأصل الاذن في التجارة
، والحال أنه لم يحصل الاذن في الاستدانة كما عرفت.
ومما يدل على لزوم ذلك للمولى في صورة البيع خبر شريح ،
مع قضية الاذن في التجارة خاصة ، وليس ذلك الا لما قلناه ، لما عرفت من أن الاذن
في التجارة لا يستلزم الاذن في الاستدانة ، فلا وجه لكونه على المولى الا من هذه
الجهة المذكورة.
وأما الاستدلال على هذا القول برواية عجلان (1) عن الصادق عليهالسلام «في رجل أعتق
عبدا وعليه دين ، قال : دينه عليه ، لم يزده العتق الا خيرا». واستدل به العلامة
في المختلف فلا دلالة فيه ، لإمكان حمله على الاستدانة بغير اذن المولى كما ذكرنا
في ذينك الخبرين.
وبالجملة فإن الاستدانة إن وقعت باذن المولى سواء كانت
للمولى أو للعبد فالغرم على المولى ، والا فهو على المملوك ، ويعضده ما ذكره في
المسالك من أن العبد هنا بمنزلة الوكيل ، وإنفاقه المال على نفسه في المعروف باذن
المولى إنفاق لمال المولى ، فيلزمه كما لو لم ينعتق.
وبذلك يظهر أن ما ذهب اليه الشيخ ـ ومن تبعه هنا من
تخصيص كون الدين على العبد في صورة العتق دون صورة الاستبقاء ـ لا وجه له.
واحتج القائلون بالقول الثاني بالرواية الثانية ، وهي
ظاهرة بل صريحة ،
__________________
(1) التهذيب ج 8 ص 248.
فيما ذكروه ، مع صحة السند هذا خلاصة
تحريم الكلام في المقام.
وأما ما ذكره في المختلف احتجاجا لما ذهب اليه فهو لا
يخلو من تهافت بمنع التعويل عليه.
الثاني : لو اذن له في التجارة دون الاستدانة ، وحصل
عليه ديون ، قال الشيخ في النهاية : ما يحصل عليه من الدين يستسعى فيه ، ولا يلزم
مولاه من ذلك شيء ، وقال في المبسوط : إذا أذن لعبده في التجارة فركبه دين ، فان
كان أذن له في الاستدانة ، فإن كان في يده مال قضى عنه ، وان لم يكن في يده مال
كان على السيد القضاء عنه ، وان لم يكن أذن له في الاستدانة كان ذلك في ذمة العبد
يطالبه به إذا أعتق ، وقد روى أنه يستسعى العبد في ذلك ، وكذا قال في الخلاف ، الا
انه أسقط ذكر الرواية.
وقال ابن حمزة : ان كان المدين علم أنه غير مأذون في
الاستدانة بقي في ذمته الى أن يعتق ، وان لم يعلم استسعى فيه إذا تلف المال ، وأبو
الصلاح لم يفصل إلى المأذون له في التجارة وغيره ، بل إلى المأذون له في الاستدانة
وغيره ، وقال عن الثاني : انه لا ضمان على المولى ، ولا على العبد الا أن يعتق
فيلزمه الخروج إلى مدينة مما عليه.
وقال ابن إدريس : لا يستسعى بل يتبع بعد العتق ، وقال في
المختلف : والمعتمد أن يقول : ان استدان لمصلحة التجارة لزم المولى أداءه كالأجنبي
، وان لم يكن لمصلحته لم يلزم مولاه شيء وتبع به بعد العتق عملا بأصالة براءة ذمة
المولى ، ولانه فعل غير مأذون فيه ، والحديث الذي رواه أبو بصير في المسألة
السابقة يعطى وجوب الاستسعاء ، وليس ببعيد ، فان المولى عاد بالإذن في التجارة
فوجب عليه التمكين من السعى انتهى.
أقول الظاهر من الاخبار المتقدمة بعد ضم بعضها الى بعض
وحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها أنه متى استدان العبد بغير اذن مولاه
فالدين لازم للعبد ، وأنه يستسعى في الدين ، لكن بشرط اذن المولى ، فان لم يأذن
المولى ـ حيث إن المولى غر صاحب الدين بالاذن للعبد في التجارة ـ مردود بما تضمنه
رواية
روح «من أنه متى حجر عليه مولاه فليس
على مولاه شيء ، ولا على العبد شيء» وحينئذ فالواجب تقييد إطلاق الصحيحة
المذكورة بهذه الرواية ، وحمل ما تضمنته من الاستسعاء على رضى المولى ، جمعا بين
الخبرين ، ولكنه معذور بعدم اطلاعه على الخبر المذكور حيث لم يورده في المقام.
وأما استثناء ما استدانه لمصلحة التجارة مع عدم الاذن له
في الاستدانة وأنه يكون على المالك ، فالظاهر أن وجهه عندهم أنه حيث كان مأذونا في
التجارة فهو مأذون فيما يتعلق بمصالحها التي من جملتها ذلك ، وهو وان احتمل ، الا
أن إطلاق صحيحة أبي بصير يرده ، وتخصيصها بمجرد ما ذكروه بعيد.
الثالث : قد صرح الأصحاب بأنه لو مات المولى الدين في
تركته ، ولو كان له غرماء كان غريم العبد من جملتهم ، والوجه فيه ظاهر بعد الحكم
بلزوم دينه للمولى ، وعليه يدل الخبر الثاني ، وحينئذ فيسقط الدين على الغرماء
أجمع ، الا أن ظاهر الخبر السادس بل صريحه تقديم غرماء المولى ، فعلى هذا لو لم
يبق شيء سقط غرماء العبد مع أن الجميع لازم لذمة المولى ، وهو مشكل ، ولم أر من
تعرض لنقل الرواية المذكورة ، فضلا عن الجواب عما اشتملت عليه من الحكم المذكور ،
ومقتضي اصطلاح المتأخرين طرح الرواية المذكورة لضعفها ، ويعضده مخالفتها للقواعد
الشرعية والله العالم.
الرابع ـ قال الشيخ في النهاية لو لم يأذن له في التجارة
ولا في الاستدانة لا يلزم المولى منه شيء ، ولا يستسعى المملوك بل كان ضائعا ،
وقال ابن حمزة يكون ضائعا إلا إذا بقي المال في يده ، أو كان قد دفع الى سيده.
وقال ابن إدريس : يتبع به بعد العتق وبه فسر قول الشيخ
كان ضائعا ، وهو اختيار أبى الصلاح أيضا قال في المختلف : وهو المعتمد.
أقول : ظاهر الرواية الرابعة أنها من هذا القبيل ، فان
قوله يشترى ويبيع قد علم بذلك مولاه يشعر بأنه غير مأذون منه في شيء من الأمرين ،
وانما رآه يشترى ويبيع ، ولم ينكر ذلك عليه ، مع أنه حكم بأنه يستسعى فيما عليه ،
وظاهره الاستسعاء
في حياة المالك ، وهو مشكل ، لان
منافع العبد مملوكة للمالك ، وكسبه له فاستسعاؤه متفرع على ضمان المالك ، مع أنه
لا ضمان عليه ، لعدم الإذن بالكلية ، فلا بد من حمل الاستسعاء على كونه بعد العتق
، وحينئذ يكون الرواية دالة على قول ابن إدريس ، وهو الأوفق بالقواعد الشرعية.
الخامس : إذا اقترض المملوك مالا فأخذه المولى وتلف في
يده تخير المقرض في المطالبة للعبد أو المولى ، وعلل بان كلا منهما قد ثبت يده على
المال ، فيتخير في الرجوع على من شاء منهما ، فان رجع على المولى قبل ان يعتق
العبد لم يرجع المولى على العبد وان عتق ، لاستقرار التلف في يده ، ولان المولى لا
يثبت له مال في ذمة عبده ، وان كان الرجوع على المولى بعد عتق العبد ، فان كان عند
أخذه المال عالما بأنه قرض فلا رجوع له على العبد أيضا ، وان كان قد غره العبد بأن
المال له ، ومن جملة أمواله وليس بقرض اتجه رجوعه على العبد ، للغرور.
ولو رجع المقرض على العبد بعد عتقه ويساره فله الرجوع
على المولى لاستقرار التلف في يده ، الا ان يكون قد غر المولى ، فلا رجوع عليه كما
تقدم ، كذا قيل ، وفي بعض المواضع منه تأمل ، ومنها قوله لا يثبت له مال في ذمة
عبده ، فان الظاهر أنه مبنى على أن العبد لا يملك ، والا فمع القول بملكه وان كان
محجورا عليه كما هو الأظهر ، فإنه لا مانع من رجوعه عليه.
ومنها أنه إذا كان العبد مأذونا في الاقتراض وقلنا بملكه
فإنه يكون المال للعبد. قد ملكه بالاقتراض والقبض ، فلا يجوز للمالك أخذه ، ومقتضى
ذلك رجوع المقرض على العبد. لاستقرار المال في ذمته وملكه له ، ورجوع العبد على
سيده لانه غاصب.
ومنها إذا كان الاقتراض للمولى وكان عن إذنه فإنه لا رجوع للمولى على العبد ، وبالجملة فإن كلامهم هذا انما يتم فيما إذا كان القرض بغير اذن المولى ، سواء اقترضه لنفسه أو للمولى ، فان القرض يكون حينئذ باطلا فيلزمه لوازم القبض بالعقد الفاسد والله العالم.