ج3 - أسباب الجنابة
بِسْمِ
اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ومنه الواجب والمندوب ، فالكلام فيه يقع في مطلبين:
المطلب الأول
في الواجب وفيه فصول:
الفصل الأول
في غسل الجنابة ، ولما كان له
سبب وغاية وكيفية واجبة وآداب وأحكام متفرعة عليه ، فالبحث فيه يقع في مقاصد خمسة:
المقصد الأول
في السبب وهو الجنابة الحاصلة بأحد أمرين : الجماع
والانزال ، فلا بد من الكلام عليهما حينئذ في مقامين :
(المقام الأول) ـ في الجماع وفيه مسائل : (الأولى) ـ وجوب الغسل على الرجل والمرأة ـ بالجماع في القبل حتى تغيب الحشفة وان لم ينزل ـ مما انعقد عليه الإجماع نصا وفتوى :
فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة محمد
بن إسماعيل (1) قال : «سألت
الرضا (عليهالسلام) عن الرجل
يجامع المرأة قريبا من الفرج فلا ينزلان متى يجب الغسل؟ فقال : إذا التقى الختانان
فقد وجب الغسل. فقلت : التقاء الختانين هو غيبوبة الحشفة؟ قال : نعم».
وصحيحة داود بن سرحان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «إذا
أولجه فقد وجب الغسل.».
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (3) قال : «إذا
أدخله فقد وجب الغسل.». الى غير ذلك من الاخبار.
ثم ان جمعا من الأصحاب (نور الله مراقدهم) صرحوا بان
التقاء الختانين المرتب عليه وجوب الغسل في الاخبار عبارة عن تحاذيهما ، قالوا :
لأن الملاقاة حقيقة غير متصورة فإن مدخل الذكر أسفل الفرج وهو مخرج الولد والحيض
وموضع الختان أعلاه وبينهما ثقبة البول ، وحينئذ فالمراد من الالتقاء في الاخبار
التقابل كما يقال : «تلاقى الفارسان والتقيا» إذا تقابلا ، لكن في صحيحة علي بن
يقطين (4) «إذا وقع
الختان على الختان فقد وجب الغسل». وهو ظاهر الدلالة على ان المراد الملاصقة ،
وأظهر منها صحيحة الحلبي (5) «إذا مس الختان
الختان فقد وجب الغسل». ولعل توسط ثقبة البول بين الموضعين المذكورين لا يكون
مانعا من المماسة والملاصقة لانضغاطها بدخول الذكر فتحمل الاخبار كملا على ظاهرها.
ثم لا يخفى عليك ان جملة من الاخبار قد تضمنت تعليق وجوب
الغسل بالجماع على التقاء الختانين ، وصحيحة ابن بزيع المتقدمة قد تضمنت تفسير
التقاء الختانين بغيبوبة الحشفة من قبيل حمل السبب على المسبب ، والمراد انه يحصل
بغيبوبة الحشفة ،
__________________
(1 و 3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب
الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 54 من أبواب المهور.
وحينئذ فما ورد من الاخبار بلفظ
الإدخال والإيلاج مطلقا يجب تقييده بمقدار الحشفة لتنتظم الاخبار.
نعم روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن كتاب النوادر
لمحمد بن علي ابن محبوب في الصحيح عن محمد بن عذافر (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) متى يجب على
الرجل والمرأة الغسل؟ فقال : يجب عليهما الغسل حين يدخله ، وإذا التقى الختانان
فيغسلان فرجهما». وظاهره ان التقاء الختانين لا يوجب الغسل بل انما يوجب غسل كل
منهما فرجه. واحتمل فيه بعض مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) عطف قوله : «وإذا
التقى» على قوله : «حين يدخله» اي يجب عليهما الغسل إذا التقى الختانان ، وقوله : «فيغسلان»
حكم آخر. وظني بعده ، ولكن بمقتضى ما قدمنا نقله عن الأصحاب ـ من ان التقاء
الختانين انما هو عبارة عن تحاذيهما وان موضع دخول الذكر أسفل من ذلك ـ يمكن حينئذ
حمل التقاء الختانين في هذا الخبر على حقيقته بان يضع ذكره على موضع الختان ولا
يدخله فيما هو أسفل منه بقرينة انه جعله مقابلا لدخول الفرج.
(المسألة الثانية) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى
مضاجعهم) في حكم الوطء في دبر المرأة وكذا دبر الغلام : (اما الأول) ـ فالمشهور
وجوب الغسل بغيبوبة الحشفة فيه على الفاعل والمفعول بل نقل جمع من الأصحاب (رضوان
الله عليهم) عن المرتضى (رضياللهعنه) انه قال : «لا اعلم خلافا بين المسلمين في
ان الوطء في الموضع المكروه من ذكر أو أنثى يجري مجرى الوطء في القبل مع الإيقاب
وغيبوبة الحشفة في وجوب الغسل على الفاعل والمفعول به وان لم يكن انزل ، ولا وجدت
في الكتب المصنفة لأصحابنا الإمامية إلا ذلك ، ولا سمعت ممن عاصرني منهم من شيوخهم
نحوا من ستين سنة يفتي إلا بذلك ، فهذا إجماع من الكل ، واتصل لي في هذه الأيام عن
بعض الشيعة الإمامية ان الوطء في الدبر
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
لا يوجب الغسل تعويلا على ان الأصل
عدم الوجوب أو على خبر يذكر انه في منتخبات سعد أو غيره ، وهذا مما لا يلتفت اليه»
انتهى. ونقل عن الشيخ في الاستبصار والنهاية وسلار عدم الوجوب ، وهو ظاهر الصدوق (رحمهالله) في الفقيه
حيث روى فيه (1) ما يدل على
عدم الوجوب وهو صحيحة الحلبي الآتية (2) ولم ينقل شيئا من اخبار الغسل ، وهو
ظاهر ثقة الإسلام في الكافي أيضا حيث روى فيه (3) مرفوعة البرقي الآتية (4) ولم يورد ما
ينافيها.
واستدل على القول الأول بوجوه : (أحدها) قوله سبحانه : «... أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا
...» (5) وجه الاستدلال
انه جعل الملامسة سببا للتيمم مع فقد الماء ، والتيمم اما عن الوضوء أو عن الغسل ،
لا سبيل إلى الأول إذ الإجماع منا منعقد على عدم إيجاب فرد من افراد الملامسة
الوضوء فتعين الثاني ، خرج منه الملامسة في غير القبل والدبر بالإجماع وبالنقل عن
أهل الذكر (عليهمالسلام) كما رواه أبو
مريم الأنصاري في الصحيح عن ابي جعفر (عليهالسلام) (6) حيث سأله فقال
: «ما تقول في الرجل يتوضأ ثم يدعو جاريته فتأخذ بيده حتى ينتهي الى المسجد فان من
عندنا يزعمون أنها الملامسة؟ فقال : لا والله ما بذلك بأس وربما فعلته ، وما يعنى
بهذا : «أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ» إلا المواقعة
في الفرج». والفرج شامل للقبل والدبر لغة وشرعا (اما الأول) فلتصريح أهل اللغة
بذلك. و (اما الثاني) فلقوله سبحانه : «وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ» (7) مراد به الذكر
من الرجل.
__________________
(1) ج 1 ص 47.
(2) ص 8.
(3) ج 1 ص 15.
(4) ص 9.
(5) سورة النساء الآية 43. وسورة المائدة. الآية 6.
(6) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب نواقض الوضوء.
(7) سورة المؤمنون الآية 6 وسورة المعارج الآية 29.
وأنت خبير بان مرجع هذا الاستدلال الى صدق الفرج على
الدبر في هذا المقام وفيه انه وان صح إطلاقه عليه الا ان المتبادر منه فيما نحن
فيه بقرينة المقام هو القبل خاصة لأنه المتعارف المتكرر والمندوب اليه وغيره منهي
عنه فينصرف الإطلاق لذلك اليه ، ويؤيده ما صرح به الفيومي في كتاب المصباح المنير
، حيث قال : «والفرج من الإنسان القبل والدبر ، وأكثر استعماله في العرف في القبل»
انتهى. ويؤيد ذلك ايضا التعبير في جملة من الاخبار بالتقاء الختانين المختص بالقبل
، وسيجيء ما فيه مزيد تحقيق لذلك ان شاء الله تعالى ، وكيف كان فلا أقل من حصول
الاحتمال بما ذكرنا احتمالا مساويا لما ذكروه ان منع الرجحان ، وهو كاف في بطلان
الاستدلال.
و (ثانيها) ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) قال : «سألته
متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ فقال : إذا أدخله فقد وجب الغسل والمهر والرجم».
والإدخال صادق فيهما.
وفيه ما تقدم في الوجه الأول ، وزيادة ما عرفت آنفا من
تقييد هذه الرواية وأمثالها بالتقاء الختانين المفسر بغيبوبة الحشفة في صحيح ابن
بزيع المؤذن بالاختصاص بالقبل.
و (ثالثها) ـ صحيحة زرارة (2) الواردة في
قضية المهاجرين والأنصار واختلافهم في من يخالط اهله ولا ينزل ، حيث قالت الأنصار
: الماء من الماء. وقالت المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. وقول أمير
المؤمنين (عليهالسلام) فيها : «أتوجبون
عليه الحد والرجم ولا توجبون عليه صاعا من ماء؟ إذا التقى الختانان فقد وجب عليه
الغسل». الدال بالاستفهام الإنكاري على ان إثبات الحد والرجم مع عدم إيجاب الصاع
من الماء الذي هو كناية عن الغسل كالجمع بين النقيضين ، إذ هما معلولا علة واحدة
وإثبات أحدهما مع نفي الآخر يؤدي الى إثبات العلة ورفعها في وقت واحد وهو محال ،
أو على ان إيجاب الصاع من الماء اولى بالإثبات من إيجاب الحد لكون الحد مبنيا
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 6 من أبواب الجنابة.
على التخفيف بخلاف إيجاب الصاع ،
وحينئذ يقال : كلما ثبت الحد والرجم ثبت الغسل أو كان اولى بالثبوت ، والمقدم ثابت
بالإجماع والروايات فيثبت التالي ، كذا قرره بعض مشايخنا المحققين من متأخري
المتأخرين.
ويرد عليه ان هذا الاستدلال وان وجهه بما قال الا انه لا
يخرج بذلك عن القياس ولا يبرز عن ظلمة الالتباس وان كان على الثاني يكون من قبيل
قياس الأولوية ، فإنا لا نسلم ان العلة في وجوب كل من الغسل والحد هو الإيلاج ، بل
العلة هي أمر الشارع بذلك عند وقوع الإيلاج ، ولئن أطلق على ذلك علة فهو كما في
سائر علل الشرع لما صرحوا به انها من قبيل الأسباب والمعرفات ، لا انها علل حقيقية
يدور المعلول معها وجودا وعدما كالعلل العقلية حتى يلزم المحال بإثبات العلة
ورفعها في وقت واحد ، وحينئذ فحمل الغسل على الحد والرجم لاشتراكهما في جامع
الإيلاج قبلا قياس محض ، إذ ليس القياس إلا عبارة عن تعدية الحكم من جزئي إلى آخر
لاشتراكهما في جامع ، وهو هنا كذلك فإنه قد عدي الحكم وهو الوجوب من الحد والرجم
الى الغسل لاشتراكهما في العلة الجامعة وهو النكاح في القبل ، فاثبت وجوب الغسل في
كل موضع ثبت فيه الحد والرجم ، والاخبار الدالة على بطلان القياس في الشريعة أظهر
من ان يتعرض لنقلها في المقام. واما قياس الأولوية فهو وان سلم ثبوته هنا وذهب بعض
الأصحاب إلى القول به الا ان جملة من الأخبار تدفعه كما تقدم ذلك في المقدمة
الثالثة من مقدمات الكتاب (1) وحينئذ
فالأظهر في معنى الخبر المذكور ان يقال : ان كلامه (عليهالسلام) انما هو على
طريق الإلزام لأولئك المخالفين حيث انهم قائلون بالقياس ، أو انه (عليهالسلام) أنكر عليهم
ذلك مع مخالفته لاعتقادهم ، بمعنى انه كيف تقولون بهذا القول مع انه مخالف لمعتقدكم؟
ثم بين (عليهالسلام) الحكم بقوله
: «إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل». قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل
الخبر المذكور : «قد جادلهم (عليه
__________________
(1) ج 1 ص 60.
السلام) بالتي هي أحسن ، لأنهم كانوا
أصحاب قياس وكان مثل هذا التمثيل والمقايسة أوقع في نفوسهم وأقرب لقبولهم ، وحاشاه
(عليهالسلام) ان يقيس في
الدين أو يكون طريق (عليهالسلام) معرفته
بالأحكام القياس» انتهى.
و (رابعها) ـ رواية حفص بن سوقة عمن أخبره عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) (1) حيث «سأله عن
الرجل يأتي المرأة من خلفها. قال : هو أحد المأتيين فيه الغسل». وهو صريح الدلالة
الا انه ـ مع ضعف السند ـ معارض بما يأتي.
و (خامسها) ـ الإجماع المنقول في كلام السيد (رضياللهعنه).
وفيه ان الإجماع المذكور وان كثر نقله في كلامهم وتداولوه على رؤوس أقلامهم الا
انه لم تثبت حجيته عندنا ، كما تقدم القول فيه مفصلا في المقدمة الثالثة (2).
واستدل على القول الثاني أيضا بوجوه : (أحدها) ـ صحيحة
الحلبي (3) قال : «سئل
أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يصيب المرأة فيما دون الفرج أعليها غسل ان هو انزل ولم تنزل هي؟ قال : ليس عليها
غسل ، وان لم ينزل هو فليس عليه غسل».
وأجيب بأن الفرج هنا لا خصوصية له بالقبل بل هو شامل
للدبر ايضا. لصدق الفرج عليه كما تقدم.
وفيه (أولا) ـ ان المتبادر من الفرج ـ كما قدمنا ذكره ـ هو
القبل وعليه بناء الاستدلال ، فان الظاهر المتبادر من لفظ الإصابة هنا هو الكناية
عن الوطء والنكاح ، كما غبر به وبأمثاله في غير موضع من الاخبار الإمامية والآيات
القرآنية ، وذلك لا يكون في غير الفرجين.
و (ثانيا) ـ ان الصدوق في الفقيه (4) روى الخبر
المذكور بقوله : «فيما دون
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
(2) ج 1 ص 35.
(3) المروية في الوسائل في الباب 11 من أبواب الجنابة.
(4) ج 1 ص 47.
ذلك» عوض قوله : «فيما دون الفرج» ومن
الظاهر ـ سيما بانضمام افراد اسم الإشارة دون تثنيته ـ ظهوره في القبل ، إذ هو
المعهود والمتكرر فيختص بالإشارة ، وبالجملة فتطرق احتمال الدبر على بعد ـ كما يدعيه
الخصم ـ وان سلم الا انه لا يقاوم الظاهر المتبادر من اللفظ وما يتناقل في
عباراتهم ويدور في محاوراتهم ـ من انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام
شعري وخطاب جدلي ، إذ لو تم لانسد باب الاستدلال ، إذ لا لفظ الا وهو قابل
للاحتمال ولا دليل الا وللمنازع فيه بذلك مجال وبه ينسد باب إثبات الإمامة والنبوة
والتوحيد ، كما لا يخفى على الماهر الوحيد ومن القى السمع وهو شهيد.
و (ثانيها) ـ ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن
البرقي رفعه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
اتى الرجل المرأة في دبرها فلم ينزل فلا غسل عليهما ، وان انزل فعليه الغسل ولا
غسل عليها».
وأجيب بضعف الرواية بالإرسال ، مع المعارضة برواية حفص
المتقدمة ، وباحتمال الحمل على عدم غيبوبة الحشفة.
و (ثالثها ورابعها) ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن
محبوب عن بعض الكوفيين رفعه الى ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) «في الرجل يأتي
المرأة في دبرها وهي صائمة؟ قال : لا ينقض صومها وليس عليها غسل». وما رواه أيضا
في الصحيح عن علي بن الحكم عن رجل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «إذا
اتى الرجل المرأة في دبرها وهي صائمة لم ينقض صومها وليس عليها غسل».
وأنت خبير بان هذه الروايات الثلاث وان ضعف سندها بهذا
الاصطلاح المحدث الا انها لما كانت صريحة الدلالة على المطلوب ـ معتضدة بظاهر
صحيحة الحلبي المتقدمة مع انها لا معارض لها في صراحتها بل مطلقا على ما حققناه
آنفا إلا مرسلة حفص وهي لذلك تضعف عن المعارضة ـ كان أظهر القولين هو الثاني. الا
ان الحكم بعد لا يخلو
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 12 من أبواب الجنابة.
من شوب الاشكال ، لما ذكره السيد (قدسسره) من شيوع
الفتوى في عصره بما ذكره وعدم المخالف سابقا في ذلك ، فهو مما يثمر الظن الغالب
بكون أصحاب الطبقة المتصلة بأصحاب العصمة (سلام الله عليهم) كانوا على ذلك القول.
لكن فيه ما ذكرنا من اقتصار ثقة الإسلام والصدوق (قدسسرهما) في كتابيهما
الكافي والفقيه على الاخبار الدالة على عدم الغسل مع ما علم من حالهما في ديباجتي
كتابيهما سيما الصدوق. وكيف كان فالاحتياط ـ بان يغتسل ثم يحدث ثم يتوضأ ـ سبيل
النجاة ، عجل الله تعالى الفرج لمن بزبل عنا أمثال هذه الرتج.
ثم العجب من شيخ الطائفة (نور الله مرقده) حيث عمل في
هذا المقام على هذه الروايات واستند إليها في الحكم المذكور ، وطعن في رواية حفص
المعارضة لها ثم حملها على التقية (1) وفي كتاب الصوم من التهذيب طعن في
مرسلة علي بن الحكم بأنه خبر غير معمول عليه وهو مقطوع الاسناد ولا يعول عليه.
هذا. وصريح كلام السيد المتقدم هو وجوب الغسل بالوطء في
الدبر على كل من الفاعل والمفعول ، وهو ظاهر كل من قال بالوجوب ، الا ان المفهوم
من كلام العلامة في المنتهى انه تردد في الوجوب على المرأة ، حيث قال : «وهل يجب
على المرأة الموطوأة في الدبر الغسل مع عدم الانزال؟ فيه تردد» ونقل عن ظاهر كلام
ابن إدريس الوجوب ، واستدل له بقوله (عليهالسلام) (2) : «أتوجبون
عليه الحد والرجم. الى آخر
__________________
(1) في بدائع الصنائع ج 1 ص 36 والبحر الرائق ج 1 ص 58 ، توارى
الحشفة في القبل والدبر يوجب الغسل وان لم ينزل على الفاعل والمفعول به» وكذا في
الأم للشافعي ج 1 ص 32 والمهذب للشيرازي ج 1 ص 28 والمغني لابن قدامة ج 1 ص 199.
وفي الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 95 «عند المالكية يجب الغسل بإدخال الحشفة في
القبل أو الدبر مع الحائل أم لا».
(2) في صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 6.
كلامه» ويظهر ايضا من المحدث الكاشاني
في المفاتيح والوافي حيث قال في الثاني : «وأكثر أصحابنا على وجوب الغسل عليهما في
ذلك ، ولم تجد على وجوبه حديثا لا قول أمير المؤمنين (عليهالسلام): «أتوجبون
عليه الحد. إلخ ان أفاد ذلك» انتهى.
أقول : يمكن الاستدلال على ذلك بظاهر قوله (عليهالسلام) في رواية حفص
التي هي أصرح أدلة الوجوب : «هو أحد المأتيين» فإنه يظهر منه وجوب الغسل على كل
منهما في هذا المأتي كما انه في الآخر كذلك. ولا يخلو من شوب الاشكال. هذا بالنسبة
إلى دبر المرأة.
واما دبر الغلام فالأكثر ايضا على وجوب الغسل على الفاعل
والمفعول استنادا إلى الإجماع المركب الذي ادعاه المرتضى (رضياللهعنه) فإنه ادعى
ان كل من أوجب الغسل بالغيبوبة في دبر المرأة أوجبه في دبر الذكر وكل من نفاه هناك
نفاه هنا ، ولما كان الأول ثابتا بالأدلة علمنا ان الامام (عليهالسلام) قائل به ،
فيكون قائلا بالوجوب في الثاني ، هكذا ذكره جملة من الأصحاب.
وفيه (أولا) ـ ان صريح كلام السيد ـ كما قدمنا ذكره ـ دعوى
الإجماع على الوجوب في الموضعين فلا حاجة الى دعوى الإجماع المركب هنا.
و (ثانيا) ـ ان هذه الدعوى ممنوعة بما عرفته سابقا.
الا ان بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ حيث
انه ممن ذهب الى القول بالوجوب في المسألة الأولى واستدل بما نقلناه آنفا وأجبنا
عنه ـ استدل هنا على الوجوب بصحيحة زرارة المتقدمة في قضية المهاجرين والأنصار ،
بناء على ما قرره ثمة من دلالتها على الوجوب في دبر المرأة بما ذكره من الكلية
القائلة : كلما ثبت الحد والرجم ثبت الغسل أو كان اولى بالثبوت ، والمقدم ثابت
بالإجماع والروايات فيثبت التالي ، وقد ثبت الحد في وطء الغلام فيثبت الغسل. وقد
عرفت ما فيه مما كشف عن باطنه وخافية ، الا ان الأحوط ـ كما قدمنا ـ هو الغسل ثم
الحدث بعده ثم الوضوء.
ويمكن ان يستدل لوجوب الغسل بظاهر حسنة الحضرمي المروية
في الكافي (1) عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : من جامع
غلاما جاء جنبا يوم القيامة لا ينقيه ماء الدنيا. الحديث». فإنه ظاهر في ثبوت
الجنابة له مطلقا ، وإطلاقه شامل للجماع مع الانزال وعدمه ، واما كونه لا ينقيه
ماء الدنيا يعني ان غسله في الدنيا لا ينقيه من الجنابة ، فهو محمول على تغليظ
الحكم في المنع والردع عن ذلك ، وبذلك يظهر قوة القول بالوجوب.
هذا. وقد صرح جملة من الأصحاب بأنه لا فرق في الموضعين
بين كون المفعول حيا أو ميتا ، لعموم «حرمة المؤمن ميتا كحرمته حيا» (2). وفيه نظر ،
فإن أقصى ما يستفاد منه حصول الإثم بهتك حرمته بذلك ، واما ترتب الغسل على ذلك
فظني ان الخبر لا بفي به ، إذ وجوب الغسل على الفاعل لا تعلق له بحرمة الميت.
وربما استدل على ذلك بالظواهر المتضمنة لوجوب الغسل على
من أولج في الفرج وفيه ان أمثال ذلك انما يحمل على المتكرر المعهود ـ كما أشرنا
إليه في غير موضع ـ دون الأفراد النادرة الوقوع ، واما وجوب الغسل على الميت لو
فعل به ذلك فالظاهر عدمه ، لعدم الدليل عليه وعدم توجه التكليف اليه. وكذا لا دليل
على الوجوب على الولي ولا على غيره من سائر المسلمين.
(المسألة الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في الإيلاج في فرج البهيمة ، فنقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط العدم لعدم النص ،
واستحسنه المحقق وجمع من المتأخرين ومتأخريهم ، والظاهر انه المشهور ، وخالف فيه
العلامة في المختلف ، ونقل عن السيد المرتضى (رضياللهعنه) في تتمة كلامه المتقدم
ما يدل
__________________
(1) ج 2 ص 70.
(2) ورد هذا المضمون في حديث العلاء بن سيابة المروي في
الوسائل في الباب 51 من أبواب الدفن ، وأورد بعض الاخبار المشتملة عليه في الباب
25 من ديات الأعضاء.
على دعوى الإجماع عليه ايضا ، واستدل
عليه في المختلف بإنكار علي (عليهالسلام) على الأنصار
في صحيحة زرارة المتقدمة. وفيه ما عرفت سابقا ، مع ان المنقول عن العلامة التعزير
بوطء البهيمة دون الحد. وقال في الذكرى : «اما فرج البهيمة فلا نص فيه ، والحمل
على ختان المرأة قوى ، ولفحوى قضية الأنصار» انتهى. وضعفه ظاهر.
(المسألة الرابعة) ـ لو أولج الرجل في دبر الخنثى وجب
الغسل عليهما بناء على ما تقدم من الوجوب في الدبر. ولو أولج في قبله أو أولج
الخنثى في فرج امرأة لم يجب الغسل ، لاحتمال الزيادة في أحد هذين الفرجين وان يكون
رجلا على الأول وأنثى على الثاني ، فلا يتعلق به حكم. وقال في التذكرة بالنسبة إلى
الأول بعد ان نقل عن بعض علمائنا عدم الوجوب لما ذكرنا : «ولو قيل بالوجوب كان
وجها ، لقوله (عليهالسلام): «إذا التقى
الختانان فقد وجب الغسل» (1).، ولوجوب الحد
به» انتهى. وقال بالنسبة الى الثاني بعد ان افتى بالعدم لما قدمنا : «ويحتمل
الوجوب للعموم» وضعف ما ذكر من دليل الوجوب في الموضعين ظاهر. ولو أولج الرجل في
قبل الخنثى والخنثى في قبل المرأة كان الخنثى جنبا والرجل والمرأة كواجدي المني في
الثوب المشترك ، ويأتي على ما ذكره العلامة من الاحتمال الحكم بجنابة الجميع. هذا
كله بالنسبة إلى الخنثى المشكل وإلا فالواضح يتبع في حكمه ما يلحق به.
(المسألة الخامسة) ـ قد صرح الأصحاب (نور الله تعالى
مراقدهم) بان مقطوع الحشفة يجب الغسل عليه بغيبوبة قدرها من الذكر ، واستدل عليه
في المنتهى وتبعه جمع منهم بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في المسألة الأولى الدالة
على وجوب الغسل بمجرد الإدخال. وأنت خبير بان هذه الرواية وأمثالها مما دل على
وجوب الغسل بمجرد الإدخال ان عمل بها على ظاهرها في ما اتفقوا عليه ووردت به جملة
من الاخبار من التخصيص بإدخال الحشفة ، فلا بد حينئذ من تقييدها بذلك كما قدمنا
ذكره ، وبه تنتفي دلالة الرواية
__________________
(1) في صحيحة محمد بن إسماعيل المروية في الوسائل في الباب 6
من أبواب الجنابة.
المذكورة وأمثالها على المدعى ، فيقى
الحكم عاريا عن الدليل والأصل البراءة ، الا ان الاحتياط يقتضي الوقوف على ما عليه
الأصحاب (رضوان الله عليهم) سيما مع عدم المخالف ظاهرا.
(المقام الثاني) ـ في الانزال وفيه أيضا مسائل (الأولى) ـ
لا ريب انه كما يجب على الرجل والمرأة الغسل بالجماع على الوجه المتقدم كذا يجب
عليهما بإنزال الماء الأكبر يقظة ونوما على المعروف من مذهب الأصحاب بل لم ينقل
فيه خلاف ، الا انه يظهر من كلام الصدوق (قدسسره) في المقنع
الخلاف في المرأة إذا أنزلت بالاحتلام حيث قال : «وان احتلمت المرأة فأنزلت فليس
عليها غسل ، وروى ان عليها الغسل إذا أنزلت» وهو في الرجل مجمع عليه رواية ، واما
في المرأة فعلى أشهرها :
فمن الأخبار الدالة عليه في الرجل حسنة الحلبي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المفخذ
عليه غسل؟ قال : نعم إذا أنزل».
وحسنة الحسين بن ابي العلاء عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «كان
علي (عليهالسلام) يقول : انما
الغسل من الماء الأكبر».
ورواية عنبسة بن مصعب عنه (عليهالسلام) (3) قال : «كان
علي (عليهالسلام) لا يرى في شيء
الغسل إلا في الماء الأكبر».
والحصر في هذه الاخبار وأمثالها إضافي بالنسبة الى ما
يخرج من الذكر من المذي ونحوه ، فلا ينافي ما دل على الوجوب بمجرد التقاء الختانين
كما تفصح عنه رواية عنبسة عنه (عليهالسلام) (4) قال : «كان
علي (عليهالسلام) لا يرى في
المذي وضوء ولا غسلا ما أصاب الثوب منه الا في الماء الأكبر». الى غير ذلك من
الاخبار.
__________________
(1 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الجنابة.
واما المرأة فمما يدل على وجوب الغسل عليها بذلك أيضا صحيحة
محمد بن إسماعيل عن الرضا (عليهالسلام) (1) «في الرجل
يجامع المرأة فيما دون الفرج وتنزل المرأة هل عليها غسل؟ قال : نعم».
وصحيحة الحلبي عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل. قال : ان أنزلت فعليها الغسل وان لم تنزل
فليس عليها الغسل».
ورواية معاوية بن حكيم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «إذا
أمنت المرأة والأمة من شهوة ـ جامعها الرجل أو لم يجامعها ، في نوم كان ذلك أو في
يقظة ـ فإن عليها الغسل».
وحسنة أديم بن الحر (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة
ترى في منامها ما يرى الرجل عليها غسل؟ قال : نعم ولا تحدثوهن فيتخذنه علة».
أقول : ولعل المراد باتخاذ ذلك علة يعني للزناء أو
الخروج الى الحمامات.
الى غير ذلك من الاخبار كصحيحة عبد الله بن سنان (5) وصحيحة
إسماعيل ابن سعد الأشعري (6) وصحيحة محمد
بن إسماعيل الأخرى (7) واخبار أخر
أيضا.
وبإزاء هذه الاخبار ما يدل على عدم الوجوب كصحيحة عمر بن
يزيد (8) قال : «اغتسلت
يوم الجمعة بالمدينة ولبست ثيابي وتطيبت ، فمرت بي وصيفة ففخذت لها فأمذيت انا
وأمنت هي فدخلني من ذلك ضيق ، فسألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن ذلك. فقال
: ليس عليك وضوء ولا عليها غسل».
ورواية عبيد بن زرارة (9) قال : «قلت له
: هل على المرأة غسل من جنابتها إذا لم يأتها الرجل؟ قال : لا ، وأيكم يرضى ان يرى
أو يصبر على ذلك ان يرى
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 9) المروية في الوسائل في الباب
7 من أبواب الجنابة.
(8) المروية في الوسائل في الباب 12 من نواقض الوضوء و 7 من
أبواب الجنابة.
ابنته أو أخته أو امه أو زوجته أو
أحدا من قرابته قائمة تغتسل فيقول مالك؟ فتقول احتلمت وليس لها بعل. ثم قال : لا
ليس عليهن ذلك ، وقد وضع الله ذلك عليكم ، قال : «وَإِنْ
كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» (1) ولم يقل ذلك
لهن».
وصحيحة محمد بن مسلم (2) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : كيف جعل
على المرأة إذا رأت في النوم ان الرجل يجامعها في فرجها الغسل ولم يجعل عليها
الغسل إذا جامعها دون الفرج في اليقظة فأمنت؟ قال : لأنها لما رأت في منامها ان
الرجل يجامعها في فرجها فوجب عليها الغسل ، والآخر انما جامعها دون الفرج فلم يجب
عليها الغسل لانه لم يدخله ، ولو كان ادخله في اليقظة وجب عليها الغسل أمنت أو لم
تمن». ومثلها صحيحة عمر بن يزيد الأخرى (3) وصحيحة ابن
أذينة (4).
وقد تأول الشيخ (رضوان الله عليه) ومن تأخر عنه هذه
الاخبار بتأويلات في غاية البعد ، وصحتها وصراحتها في عدم الوجوب مما لا سبيل إلى
إنكاره ، فالأولى ردها الى العالم من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) والعمل
على تلك الأخبار الأولة ، لاعتضادها بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا ، وموافقتها
للاحتياط في الدين الذين هما من جملة المرجحات المنصوصة.
ويقرب عندي خروج هذه الاخبار مخرج التقية (5) (أما أولا) ـ فلجواز
وجود القائل به في تلك الأعصار وان لم ينقل عن أحد الأربعة المشهورة الآن بينهم ،
فإن شهرة هذه الأربعة وحصر مذهبهم فيها انما تجدد في الأعصار المتأخرة بقرب
__________________
(1) سورة المائدة الآية 9.
(2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(5) في نيل الأوطار للشوكانى ج 2 ص 195 بعد ان ذكر حديث خولة
بنت حكيم «سألت رسول الله (ص) عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل. قال ليس
عليها غسل حتى تنزل». قال : «يدل الحديث على وجوب الغسل على الرجل والمرأة إذا وقع
الانزال ، وهو إجماع إلا ما يحكى عن النخعي».
سنة الستمائة. والا فمذاهبهم في أعصار
الأئمة (عليهمالسلام) لا تكاد تحصى
كثرة وانتشارا ، كما نبه عليه جملة من علمائنا وعلمائهم ، وأوضحناه في مواضع من
رسائلنا.
و (اما ثانيا) ـ فلان المستفاد من الاخبار وان كان خلاف
ما اشتهر بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) الا ان فتواهم (عليهمالسلام) بالتقية
أحيانا لا يختص بوجود القائل بذلك من العامة ، بل كثيرا ما يقصدون (عليهمالسلام) الى مجرد
إيقاع الاختلاف في الحكم تقية كما مر بك تحقيقه في المقدمة الاولى من مقدمات
الكتاب واما ما يفهم من كلام المقنع ـ من العمل بما ورد من هذه الروايات في
الاحتلام دون ما ورد في اليقظة ـ فلا اعرف له وجها وجيها.
ولقد أشكل الأمر في هذه الاخبار على أصحاب هذا الاصطلاح
المتأخر من تقسيم هذه الاخبار الى الأقسام الأربعة ، لصحتها وصراحتها فلم يستطيعوا
ردها بضعف الاسناد كما هو المقرر بينهم والمعتاد. حتى قال صاحب المنتقى الذي هو من
جملة من شيد أركان هذا الاصطلاح بل زاد بزعمه في الإصلاح بعد نقله هذه الاخبار : «والعجب
من اضطراب هذه الاخبار مع ما لأسانيدها من الاعتبار».
فرع
ينبغي ان يعلم انه لو كان الخارج من المرأة انما هو من
مني الرجل يقينا أو مشكوكا في مصاحبته منيها ، فإنه لا يوجب الغسل يقينا على الأول
وفي الثاني على الظاهر تمسكا بالأصل سيما بعد الغسل ، كما تدل عليه صحيحة سليمان
بن خالد (1) المتضمّنة
للسؤال عن المرأة يخرج منها شيء من بعد الغسل فقال : «لا تعيد». وعلله بان ما
يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل ، ومثلها صحيحة منصور (2) ويدل على
الأول أيضا رواية عبد الرحمن البصري (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن المرأة
تغتسل
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة.
من الجنابة ثم ترى نطفة الرجل بعد ذلك
هل عليها غسل؟ فقال : لا». اما لو حصل الاشتباه في غير مورد الصحيحة المتقدمة
فالظاهر الرجوع الى الأوصاف المعتبرة عند الاشتباه كما سيأتي ان شاء الله تعالى ،
إذ هذه الأوصاف إنما توجد عند خروج منيها لا مطلق المني كما هو الظاهر.
(المسألة الثانية) ـ لو انزل من غير الموضع المعتاد فهل
يكون موجبا للغسل مطلقا مع تيقن كونه منيا. أو يلحق بالحدث الأصغر الخارج من غير
الموضع المعتاد على القول به هناك فيشترط في حدثيته الاعتياد أو انسداد الخلقي؟
قولان ، وبالأول صرح العلامة في التذكرة والمنتهى ، وبالثاني الشهيد في الذكرى.
ويدل على الأول إطلاق جملة من الاخبار الدالة على وجوب
الغسل بخروج المني كقولهم (عليهمالسلام) في جملة منها
(1) : «انما الغسل
من الماء الأكبر». وقولهم في بعض منها (2) : «إذا جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب
عليها الغسل». ولعل مستند القول الثاني ما تقدم في الحدث الأصغر.
وتردد بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين في
المسألة ، نظرا إلى أصالة البراءة من الوجوب ، ووجوب استصحاب حكم الطهارة حتى يعلم
المزيل ، والى إطلاق الاخبار.
وأنت خبير بان الظاهر ان إطلاق الاخبار موجب للخروج عن
الأصالة المذكورة والاستصحاب المذكور ، الا ان يمنع الاعتماد على الإطلاق في
الدلالة والظاهر انه لا قائل به. نعم لو كان الشك في العمل بالإطلاق من حيث احتمال
تقييده بالحمل على ما هو المعهود المتعارف من الخروج من الموضع الخلقي فيحمل إطلاق
الاخبار عليه لكان وجها ، الا انه يحتمل ان ذكر الخروج من الفرجين في بعض الاخبار
باعتبار كونه المتعارف المعتاد لا يدل
__________________
(1) المروي في الوسائل في الباب 9 من أبواب الجنابة.
(2) المروي في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
على الانحصار بوجه فلا يصلح لتقييد ما
أطلق منها ، والى هذا يميل كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في مسألة خروج
الحدث الأصغر من غير الموضع المعتاد ، والمسألة لا تخلو من تردد.
ومن هنا يعلم الحكم في الخنثى لو خرج من أحد مخرجيها لا
مع الاعتباد من أحدهما كما هو أحد القولين بل الظاهر انه أشهرهما ، والقول الآخر
اعتباره منهما الا مع الاعتياد من أحدهما ، واليه ذهب ثاني المحققين وثاني
الشهيدين.
(المسألة الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ـ كما نقله جملة منهم ـ في وجوب الغسل مع تيقن كون الخارج منيا وان لم
يكن على الصفات الآتية ، وان الرجوع إليها كلا أو بعضا انما هو مع الاشتباه ، ويدل
عليه الاخبار الكثيرة المتضمنة لترتب الغسل على مطلق الانزال وخروج الماء (1) وحينئذ فما
ورد في بعض الاخبار ـ من تقييد وجوب الغسل بالقيود الثلاثة من الشهوة والدفع وفتور
الجسد وانه مع عدم ذلك فلا بأس ، كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الرجل يلعب مع المرأة ويقبلها فيخرج منه المني فما عليه؟ قال : إذا جاءت الشهوة
ودفع وفتر فعليه الغسل ، وان كان انما هو شيء لم يجد له فترة ولا شهوة فلا بأس». أو
الشهوة فقط كصحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري (3) قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن الرجل
يلمس فرج جاريته حتى تنزل الماء من غير ان يباشر ، يعبث بها بيده حتى تنزل. قال :
إذا أنزلت من شهوة فعليها الغسل». ومثلها رواية محمد بن الفضيل (4) قال : «إذا
جاءت الشهوة وأنزلت الماء وجب عليها الغسل». ـ فمحمول على حال الاشتباه. قال الشيخ
(قدسسره) في التهذيب
بعد نقل صحيحة علي بن جعفر المذكورة : «ان قوله (عليهالسلام) ـ : «وان كان
انما هو شيء لم يجد له
__________________
(1 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
فترة ولا شهوة فلا يأس». ـ معناه إذا
لم يكن الخارج الماء الأكبر ، لأن من المستبعد من العادة والطبائع ان يخرج المني
من الإنسان ولا يجد له شهوة ولا لذة. وانما أراد انه إذا اشتبه على الإنسان فاعتقد
انه مني وان لم يكن في الحقيقة منيا يعتبره بوجود الشهوة من نفسه ، فإذا وجد وجب
عليه الغسل وإذا لم يجد علم ان الخارج منه ليس بمني» انتهى. وهو جيد مطابق لما
يحكم به الوجدان ويحققه العيان ، على انه لو أريد به ظاهره لوجب حمله على التقية
لموافقته لأشهر مذاهب العامة ، فإنه منقول عن أبي حنيفة ومالك واحمد (1) مع ان فيه
ايضا انه دلالة بمفهوم الشرط ، وهو انما يكون حجة إذا لم يظهر للشرط فائدة سوى
التعليق والتقييد ، ومن المحتمل خروج ذلك مخرج الغالب ان لم يدع اللزوم الكلي مع
عدم العارض من مرض ونحوه ، وبه تنتفي حجية المفهوم في نفسه فضلا ان يصلح لتقييد
ظواهر الأخبار المستفيضة.
ثم انه مع اشتباه الخارج فقد ذكر جمع من الأصحاب انه
يعتبر في الصحيح باللذة والدفق وفتور البدن ، وفي المريض باللذة والفتور ولا يعتبر
الدفق لأن قوة المريض ربما عجزت عن دفعه ، وزاد الشهيد في الذكرى والدروس علامة
أخرى للاشتباه ايضا وهو قرب رائحته من رائحة الطلع والعجين إذا كان رطبا وبياض
البيض جافا.
واحتجوا على اعتبار الأوصاف الثلاثة في الصحيح بأنها
صفات لازمة في الأغلب فمع الاشتباه يرجع إليها. وبصحيحة علي بن جعفر المتقدمة ،
وفي المريض بما تقدم من العجز ، وبصحيحة عبد الله بن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «قلت له
: الرجل يرى في المنام ويجد الشهوة فيستيقظ وينظر فلا يجد شيئا ثم يمكث بعد
__________________
(1) في المغني ج 1 ص 199 «الموجب للغسل خروج المنى وهو الماء
الغليظ الدافق الذي يخرج عند اشتداد الشهوة ، فإن حرج شبيه المنى لمرض أو برد لا
عن شهوة فلا غسل فيه وهو قول احمد ومالك وابى حنيفة ، وقال الشافعي يجب به الغسل
لقوله (ص) : «الماء من الماء» ولأنه مني خارج فأوجب الغسل كما لو خرج حال الإغماء».
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
فيخرج؟ قال : ان كان مريضا فليغتسل
وان لم يكن مريضا فلا شيء عليه ، قال : فقلت : فما فرق بينهما؟ فقال : لان الرجل
إذا كان صحيحا جاء الماء بدفقة وقوة وإذا كان مريضا لم يجيء إلا بعد».
أقول : ومن الاخبار الواردة أيضا في المريض صحيحة معاوية
بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن رجل احتلم فلما انتبه وجد بللا قليلا فقال : ليس بشيء الا ان يكون مريضا فإنه
يضعف فعليه الغسل».
وصحيحة زرارة (2) قال : «إذا كنت مريضا فأصابتك شهوة
فإنه ربما كان هو الدافق لكنه يجيء ضعيفا ليست له قوة لمكان مرضك ساعة بعد ساعة
قليلا قليلا فاغتسل منه».
ورواية محمد بن مسلم (3) قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : رجل رأى في
منامه فوجد اللذة والشهوة ثم قام فلم ير في ثوبه شيئا؟ فقال : ان كان مريضا فعليه
الغسل وان كان صحيحا فلا شيء عليه».
إلا ان هذه الرواية لا تخلو من اشكال لتضمنها وجوب الغسل
على المريض بمجرد وجود اللذة والشهوة مع عدم رؤية شيء بعد انتباهه. ولم يذهب اليه
ذاهب من الأصحاب ولم يرد به خبر آخر في الباب ، بل ربما دلت الاخبار على خلافه ،
ومنها ـ
حسنة الحسين ابن ابي العلاء (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يرى
في المنام حتى يجد الشهوة فهو يرى انه قد احتلم فإذا استيقظ لم ير في توبة الماء
ولا في جسده. قال : ليس عليه الغسل». وحينئذ فالواجب حمل تلك الرواية على وجود شيء
وإلا فطرحها رأسا. ثم لا يخفى ان غاية ما يستفاد من هذه الاخبار هو البناء على
الظن بواسطة أحد
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الجنابة.
هذه الأشياء في المريض بل الصحيح ايضا
حال الشك ، ومن المقطوع به نصا وفتوى انه لا يعارض يقين الطهارة ، لكن الظاهر من
الأصحاب (رضوان الله عليهم) الاتفاق على العمل بما دلت عليه هذه الأخبار وعدم
الراد لها ، ولعله على الاستثناء من قاعدة عدم نقض اليقين بالشك وتخصيصها بهذه
الأخبار ، إذ المراد بالشك هنا ما يشمل الظن كما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية
عشرة.
(المسألة الرابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في ان من نام ولم ير في منامه انه احتلم ثم وجد بعد الانتباه في ثوبه
أو على بدنه منيا فإنه يجب عليه الغسل للعلم بتحقق الجنابة بذلك ، وكثير من
الأصحاب عبروا في هذا المقام بان واجد المني على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ،
ومن الظاهر بعده عن مورد الأخبار المتعلقة بهذه المسألة :
ومنها ـ موثقة سماعة (1) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوبه
المني بعد ما يصبح ولم يكن رأى في منامه انه قد احتلم. قال : فليغتسل وليغسل ثوبه
ويعيد صلاته».
وموثقته الأخرى (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
ينام ولم ير في نومه انه احتلم فيجد في ثوبه أو على فخذه الماء هل عليه غسل؟ قال :
نعم».
واما ما رواه أبو بصير (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يصيب في ثوبه منيا ولم يعلم انه احتلم. قال ليغسل ما وجد بثوبه وليتوضأ». فحمله
الشيخ (رحمهالله) على ما إذا
شاركه في الثوب غيره جمعا بين الاخبار. ولعل الأقرب في وجه الجمع حمل موثقتي سماعة
على من وجد المني بعد النوم بغير فصل مدة بحيث يحصل له العلم أو الظن الغالب
باستناد المني اليه لا الى غيره كما يظهر من سياقهما ، ورواية أبي بصير على وجدانه
في الثوب في الجملة من غير تعقبه للنوم على الوجه المتقدم.
وكيف كان فالظاهر ان مفاد الموثقتين المذكورتين لا يخرج
عن مجرد الظن
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب الجنابة.
بخروج المني منه ، إذ دعوى حصول
اليقين بمجرد وجوده كذلك بعيدة ، وحينئذ فلا بد من تخصيص قاعدة عدم نقض اليقين
بالشك بذلك أيضا الا ان يقيد بذلك والمفهوم من كلام المحدث الكاشاني في الوافي
اعتبار حصول اليقين بحصول حدث الجنابة بتلك العلامة ، نظرا الى ان يقين الطهارة لا
يرتفع الا بيقين الحدث.
وبالجملة فالجمع بين الأخبار المذكورة لا ينحصر فيما
ذكروه ، حتى انهم بسبب ذلك جعلوها مسألة برأسها في البين وفرعوا عليها فروعا لا
اثر لها في النصوص ولا عين إذ من الممكن حمل الموثقين المذكورتين على ما ذكرنا من
انه وجد المني بعد الانتباه على وجه يحصل له العلم باستناده اليه كما يظهر من
سياقهما ، وحمل رواية أبي بصير على وجدانه في الثوب في الجملة ، فإنه يستصحب البقاء
على يقين الطهارة لعدم حصول العلم في الصورة المذكورة باستناده اليه ، وغاية ما
يمكن دعواه الظن وان كان غالبا وهو لا يعارض اليقين السابق ، والى هذا يميل كلام
المحدث الكاشاني في الجمع بين الاخبار المذكورة ولا ريب انه أقرب مما ذكروه ، إذ
لا قرينة في خبر تؤنس بالمشاركة في ذلك الثوب بل المتبادر من إضافته إلى الضمير
الاختصاص بصاحبه ، والأصحاب (رضياللهعنهم) ـ بناء على
ما صوروه من هذه المسألة التي طرحوها وجعلوها مقرا للبحث ـ عبروا بان واجد المني
على جسده أو ثوبه المختص به يغتسل ، ومن الظاهر بعده عن ظاهر الموثقتين المذكورتين.
إذ الظاهر منهما ـ كما عرفت ـ هو رؤية المني على وجه يوجب اليقين باستناده اليه لا
مجرد وجوده ، فإنه لا يوجب ذلك ، ومن الممكن احتماله لدفع سورة الاستبعاد انه يجوز
ان يكون احتلم في الثوب واغتسل ولم يعلم بالمني ثم رآه بعد يومين أو ثلاثة مثلا ،
فمجرد وجوده لا يوجب الحكم عليه بالجنابة مع ان يقين الطهارة لا يخرج عنه الا
بيقين النجاسة ، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا
من بين يديه.
فوائد : (الأولى) ـ لو كان الثوب الذي رأى فيه المني
مشتركا بينه وبين
غيره ـ اما بان يكونا معا مجتمعين فيه
دفعة كالكساء الذي يفترش أو يلتحف به ، أو كان بينهما على سبيل النوبة ـ فأكثر
الأصحاب على انه لا يجب الغسل عملا باستصحاب يقين الطهارة وعدم الخروج عنها الا
بيقين النجاسة. وفي حكمه المختص أيضا إذا احتمل كون المني الموجود عليه من غيره
كما حملنا عليه رواية أبي بصير ، وظاهر جمع : منهم ـ ثاني المحققين وثاني الشهيدين
تخصيص الاشتراك الموجب لسقوط الغسل بما كان على سبيل المعية ، اما المتناوب بينهما
فأوجبوا الغسل فيه على صاحب النوبة وان احتمل جواز التقدم كما صرح به في الروض
واليه يميل كلام الدروس ايضا ، ولهذا فسر شيخنا الشهيد الثاني (نور الله مرقده) في
الروض الثوب المختص الذي يوجب رؤية الجنابة فيه الغسل بما اختص بلبسه أو النوم
عليه حين الوجدان وان كان يلبسه أو ينام عليه هو وغيره تناوبا. وفيه ان المسألة
لما كانت خالية من النص فالواجب فيها الوقوف على مقتضى القواعد المقررة التي من
جملتها عدم جواز نقض اليقين بالشك كما هو المتفق عليه نصا وفتوى ، فالحكم بالوجوب
على صاحب النوبة مطلقا وان احتمل جواز التقدم مدفوع بعدم جواز الخروج عن يقين
الطهارة إلا بالعلم يكون المني من واجده ، نعم لو علم ذو النوبة انه منه بوجه من
الوجوه وجب الغسل عليه الا انه لا من حيث كونه صاحب النوبة ، وكذا لو علم السبق
سقط عنه قطعا ولم يجب على الأول الا مع التحقق ايضا وبالجملة فالمعتبر في الخروج
عن يقين الطهارة اليقين بكون المني من واجده والا لم يجب عليه شيء.
(الثانية) ـ الأشهر الأظهر انه لا يحكم على هذا الواجد
المحكوم عليه بوجوب الغسل بإعادة شيء من الصلوات الا ما جزم بتأخره عن الجنابة ،
وهي المتعقبة لآخر نومة وجد عقيبها المني المذكور ، عملا بأصالة عدم التقدم ،
واستصحابا للطهارة المتيقنة الى ان يتيقن الحدث ، وحينئذ يحكم عليه بكونه محدثا
ويجب عليه قضاء ما يتوقف على الطهارة من ذلك الوقت الى ان تحصل منه طهارة رافعة.
خلافا للشيخ (رحمهالله) في المبسوط
حيث حكم ـ كما نقل عنه ـ بوجوب قضاء
كل صلاة صلاها بعد آخر غسل رافع ، ولعله أخذ بالاحتياط كما حمله عليه جملة من
الأصحاب. الا ان فيه (أولا) ـ ان الاحتياط هنا ليس بدليل للوجوب. و (ثانيا) ـ انه
لا احتياط في إعادة ما وقع من الصلوات بعد آخر الأغسال الرافعة وقبل النوم. و (ثالثا)
ـ ان مقتضى الاحتياط ان يعيد ما صلاه قبل آخر الأغسال أيضا متى احتمل ان يكون خروج
المني سابقا عليه ، وحينئذ فمتى أريد سلوك جادة الاحتياط فالطريق إليها ان يعيد كل
صلاة لا يعلم سبقها على المنى ولم يفصل بينها وبينه على تقدير سبقه غسل رافع هذا
بالنسبة إلى الحدث.
واما بالنسبة إلى الخبث فتبني الإعادة منه على ما سيأتي
ان شاء الله في محله من الخلاف في وجوب إعادة المصلي في النجاسة جاهلا ، فعلى
القول بالوجوب يمكن ان يستند وجوب الإعادة هنا على تقديره الى كل من الحدث والخبث
، والى الحدث خاصة كما لو حصل إزالة النجاسة ولو اتفاقا ، والى الخبث خاصة كما لو
اتفق الغسل الرافع في البين. ونقل عن الشيخ في المبسوط هنا انه يستحب ان يعيد كل
صلاة صلاها من أول نومة نامها في ذلك الثوب. ويجب ان يعيد ما صلاه من آخر نومة
نامها فيه. ثم قوى عدم وجوب إعادة شيء من الصلوات الا ما لم يخرج وقتها. والظاهر
ان تقويته عدم اعادة ما خرج وقته بناء على عدم وجوب الإعادة على جاهل النجاسة بعد
خروج الوقت كما هو المنقول عنه في المبسوط في المسألة المشار إليها ، وبذلك يظهر
ما في كلام السيد السند في المدارك في هذا الموضع من الغفلة ان ثبت ما نقل عن
المبسوط في الموضعين المتقدمين فان الكتاب لا يحضرني الآن لاحقق ذلك منه ، حيث قال
السيد (قدسسره) في الكتاب
المذكور حاكيا خلاف الشيخ في المبسوط ما لفظه : «وذهب الشيخ في المبسوط أولا إلى
إعادة كل صلاة لا يعلم سبقها على الحدث ثم قوى ما اخترناه وقوته ظاهرة» انتهى. وأشار
بما اختاره الى ما ذكره أولا من انه انما يحكم على واجد المني بالجنابة من آخر
أوقات إمكانها.
(الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكم
المشتركين في الثوب الموجود عليه المني مع عدم تيقن اختصاصه بأحدهما بعد الاتفاق
على سقوط أحكام الجنب عن كل منهما في حد ذاته من وجوب الغسل وتحريم قراءة العزائم
ونحوهما من الأحكام الآتية ، فيجوز لهما معا دخول المسجد دفعة وقراءة العزائم كذلك
، وانما تظهر فائدة الخلاف هنا في انعقاد الجمعة بهما وائتمام أحدهما بصاحبه ،
فقيل بالقطع بوجود جنب فلا يصح انعقاد الجمعة بهما لأن أحدهما جنب البتة ، ولا تصح
صلاة المأموم منهما لانه نفسه أو امامه جنب ، واليه ذهب المحقق في المعتبر والشهيد
في الدروس وثاني المحققين وثاني الشهيدين ، ورجحه بعض مشايخنا المحققين من متأخري
المتأخرين وقيل بسقوط هذه الجنابة عن الجميع في نظر الشارع ، ومال إليه العلامة في
جملة من كتبه ، واختاره السيد السند في المدارك وغيرهما.
حجة الأول القطع بجنابة أحدهما البتة ، وسقوط بعض أحكام
الجنب انما كان لتعذر العلم بالجنب المستلزم للمحذور وهو منتف في موضع النزاع.
وأجيب بأنه ان أريد القطع بخروج المني من أحدهما فمسلم
لكن خروج المني من واحد لا بعينه لا يوجب حكما ، وان أريد القطع بكون أحدهما لا
بعينه جنبا لا تصح منه الأفعال التي لا تصح من الجنب ويتعلق به أحكامه فظاهر الفساد
، لان عدم صحة أفعال واحد منهما لا بعينه وتعلق أحكام الجنب به مع ان كل واحد
بعينه أفعاله صحيحة فلا يتعلق به حكم الجنب مما لا معنى له ، وبالجملة القدر
المسلم في اشتراط انعقاد الجمعة ان تكون صلاة كل من العدد صحيحة في الواقع وههنا
كذلك ، واما ما وراء ذلك فلا ، وكذا يلزم في صحة صلاة المأموم عدم علمه بفساد صلاة
الامام وقد تحقق هنا ، ومن يدعي زيادة على ذلك فعليه البيان.
حجة القول الآخر ـ زيادة على ما علم من الجواب المذكور ـ
التمسك بيقين الطهارة ولم يعارضه الا الشك في الحدث وكل منهما متيقن الطهارة شاك
في الحدث.
أقول : والمسألة لخلوها من نصوص أهل الخصوص لا تخلو من
الاشكال وان كان القول الثاني أوفق بالقواعد الشرعية وادخل في تلك الضوابط
المرعية.
(أما أولا) ـ فلما ذكر من التمسك بأصالة يقين الطهارة
التي هي أقوى متمسك
و (اما ثانيا) ـ فلان المفهوم من النصوص ان الشارع لم
يجعل الواقع مناطا لشيء من الأحكام وانما بناها على ما يظهر للمكلف ، ويعضده ان
الذي دلت عليه نصوص هذا الباب هو ان الشارع قد ناط حكم الجنابة بالنسبة إلى خروج
المني ، إما بالعلم بخروجه كما تضمنته النصوص المستفيضة ، أو بوجوده على بدن الجنب
أو ثوبه المختص به كما تقدم في موثقتي سماعة ، وما عدا ذلك فلم يدل عليه دليل ،
ولا يخفى على من تتبع مظان الإحكام انه كثيرا ما يغلب على الظن بالقرائن الحالية
أحد الأحكام الشرعية من نجاسة وحرمة ونحوهما ، والشارع بمجرد معارضة احتمال ينافي
ذلك وان بعد لا يلتفت الى ما غلب على الظن وترجح عنده كما في موثقة عمار الواردة
في الفأرة المتفسخة (1) ونحوها.
و (اما ثالثا) ـ فلان القول بثبوت الجنابة على واحد لا
بعينه ـ مع اتفاقهم على صحة أفعال كل واحد منهما وسقوط أحكام الجنب عنه وان مظهر
الخلاف انما هو في الصورتين المذكورتين ـ لا يخلو من تدافع.
الا ان الحكم بعد لا يخلو عندي من شوب الاشكال ، نظرا
الى ان المفهوم من النصوص في غير موضع من الأحكام ـ كما تقدم بسط الكلام عليه في
مسألة الإناءين ـ ان الشارع قد اعطى المشتبه بالنجس حكم النجس والمشتبه بالحرام
حكم الحرام في الافراد المحصورة ، ولم يلتفت الى أصالة الحلية والطهارة في تلك
المواضع ، كما في مسألة الإناءين واللحم المختلط ذكية بميتة ، والصلاة في كل من
الثوبين المتيقن نجاسة أحدهما لا بعينه ، ووجوب تطهير الثوب الذي أصاب بعض أجزائه
النجاسة مع اشتباه موضع الإصابة بباقي
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 4 من أبواب الماء المطلق.
الثوب ، الى غير ذلك من المواضع التي
يقف عليها المتتبع ، فان النصوص في جميع هذه المواضع قد أعطت المتيقن الطهارة
والحلية حكم المشتبه به ، وربما ظهر من ذلك تخصيص اخبار التمسك بيقين الطهارة
والحلية بغير مورد هذه الاخبار وهو الأشياء المعلومة بشخصها ويكون ذلك هو وجه
الجمع بين اخبار الطرفين. وكيف كان فالوقوف على ساحل الاحتياط ـ بالغسل لكل منهما
واجتناب ما يجتنبه الجنب قبله ـ سبيل السلامة والنجاة ، عجل الله تعالى الفرج
والظهور لمن به تحل مشكلات الأمور.
وجملة من أصحابنا بناء على اتفاقهم على سقوط وجوب الغسل
في المسألة صرحوا باستحبابه ، والظاهر ان منشأه الاحتياط لعدم دليل له على الخصوص.
(المسألة الخامسة) ـ لو خرج منه بلل بعد الغسل فلا يخلو
اما ان يعلم انه مني أو بول أو يعلم انه غيرهما أو لا يعلم شيئا من ذلك ، ولا خلاف
ولا إشكال انه في الصورة الاولى يكون موجبا للغسل وفي الثانية للوضوء وفي الثالثة
لا يوجب شيئا ، واما الصورة الرابعة فلا يخلو اما أن يكون قد بال قبل الغسل واجتهد
أو لم يأت بشيء منهما أو اتى بأحدهما أما البول أو الاجتهاد ، ثم انه مع الإتيان
بالاجتهاد خاصة فاما ان يكون مع إمكان البول أو مع عدم إمكانه ، فههنا صور خمس :
(الاولى) ـ ان يغتسل ثم يجد بللا مشتبها وقد بال واجتهد
، والظاهر انه لا خلاف في عدم وجوب شيء عليه من غسل أو وضوء ، ومما يدل على ذلك
عمومات الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك (1) وخصوصا ، اما
بالنسبة إلى سقوط الغسل فالأخبار لدالة على انه بالبول قبل الغسل يسقط عنه الغسل ،
كقول الصادق (عليهالسلام) في حسنة
الحلبي (2) : «ان كان بال
قبل ان يغتسل فلا يعيد الغسل».
وقوله (عليهالسلام) في صحيحة
محمد (3) وهو ابن مسلم
: «... الا ان يكون بال قبل أن يغتسل فإنه
__________________
(1) تقدم بعضها في الجزء الأول ص 142.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
لا يعيد غسله». ومثلهما أخبار كثيرة
طوينا نشرها للاتفاق على الحكم المذكور فتوى ورواية ، واما بالنسبة إلى سقوط
الوضوء فللأخبار الدالة على انه بالاجتهاد لا ينتقض بما يخرج كذلك ، كقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة حفص
بن البختري (1) : «ينتره
ثلاثا ثم ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي». وغيرها من الاخبار التي تقدمت في
مسألة الاستبراء من البول.
واما ما رواه ابن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «ثلاث
يخرجن من الإحليل وهن المني فمنه الغسل ، والودي فمنه الوضوء لانه يخرج من دريرة
البول.». فمحمول على ما قبل الاستبراء جمعا لصحيحة زيد الشحام وزرارة ومحمد بن
مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «ان سال
من ذكرك شيء من مذي أو ودي فلا تغسله ولا تقطع له الصلاة ولا تنقض له الوضوء ،
انما ذلك بمنزلة النخامة. الحديث».
واما صحيح محمد بن عيسى (4) قال : «كتب
اليه رجل هل يجب الوضوء مما خرج من الذكر بعد الاستبراء؟ قال : نعم». فحمله في
التهذيبين على الاستحباب ، وزاد في الاستبصار حمله على التقية لموافقته لمذهب أكثر
العامة (5).
أقول : وهو الأقرب ، ويحتمل ايضا حمل ذلك على ما إذا كان
الخارج بولا ، لتطرق الوهم الى ان ما خرج بعد الاستبراء لا ينقض وان كان بولا ،
ولعله (عليهالسلام) علم ذلك ،
فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يجيبون على علمهم من حال السائل وان لم يفصح
عنه السؤال.
(الثانية) ـ خروج البلل مع عدم البول والاستبراء ،
والمشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى ابن إدريس عليه الإجماع ـ وجوب الغسل ، وظاهر
الفقيه والمقنع الاكتفاء بالوضوء في هذه الصورة.
__________________
(1 و 4) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب نواقض
الوضوء.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب نواقض
الوضوء.
(5) راجع التعليقة (5) ج 2 ص 61.
ويدل على المشهور روايات : منها ـ موثقة سماعة (1) قال : «سألته
عن الرجل يجنب ثم يغتسل قبل ان يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال يعيد الغسل.».
وصحيحة سليمان بن خالد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن رجل أجنب فاغتسل قبل ان يبول فخرج منه شيء. قال : يعيد الغسل». وفي الصحيح عن
منصور بن حازم (3) مثله.
وصحيحة محمد بن مسلم (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يخرج من إحليله بعد ما يغتسل شيء. قال : يغتسل ويعيد الصلاة الا ان يكون بال قبل
ان يغتسل فإنه لا يعيد غسله. قال محمد : وقال أبو جعفر (عليهالسلام) : من اغتسل
وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فقد انتقض غسله ، وان كان بال ثم اغتسل ثم وجد
بللا فليس ينتقض غسله ولكن عليه الوضوء ، لان البول لم يدع شيئا».
وقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة
معاوية بن ميسرة (5) : «... وان لم
يبل حتى اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل».
ويدل عليه ايضا مفهوم الشرط في جملة من الاخبار : منها ـ
حسنة الحلبي المتقدمة لقوله : «ان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد الغسل».
(لا يقال) : ان هذه الاخبار انما تدل على خروج البلل مع
عدم البول بعد الغسل ولا تعرض فيها للاستبراء كما هو المدعى.
(لأنا نقول) : تعليق الحكم فيها على عدم البول ـ الذي هو
أعم من ان يكون مع عدم الاستبراء كما هو موضوع هذه الصورة ، أو معه مع إمكان البول
أو عدمه كما هو موضوع الصورة الآتية ـ كاف في الاستدلال ، وحينئذ فالاستدلال بها
من حيث الإطلاق.
الا انه قد ورد بإزاء هذه الاخبار ما يدل على عدم الوجوب
في الصورة المذكورة
__________________
(1 و 2 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب
الجنابة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة.
ومنه ـ رواية جميل (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
تصيبه الجنابة فينسى أن يبول حتى يغتسل ثم يرى بعد الغسل شيئا أيغتسل ايضا؟ قال :
لا قد تعصرت ونزل من الحبائل».
ورواية أحمد بن هلال (2) قال : «سألته عن رجل اغتسل قبل ان
يبول. فكتب : ان الغسل بعد البول الا ان يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل».
ورواية عبد الله بن هلال (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يجامع اهله ثم يغتسل قبل أن يبول ثم يخرج منه شيء بعد الغسل. فقال : لا شيء عليه
ان ذلك مما وضعه الله عنه».
ورواية زيد الشحام عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «سألته
عن رجل أجنب ثم اغتسل قبل ان يبول ثم رأى شيئا. قال لا يعيد الغسل ، ليس ذلك الذي
رأى شيئا».
ومما يعارضها أيضا الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين
بالشك
والشيخ جمع في بعضها بالحمل على ترك البول ناسيا وفي بعض
بالحمل على من اجتهد قبل الغسل ولم يتأت له البول ، وأورد على الحمل الأول دليلا
مضمرة أحمد بن هلال المذكورة ولم يورد للحمل الآخر مستندا.
ولا يخفى ما فيه من البعد ، اما الحمل على النسيان فلان
النسيان وان وقع في رواية جميل الا انه (أولا) ـ في كلام الراوي فلا يصلح للتقييد
، مع ضعف سند الرواية باشتماله على علي بن السندي وهو مهمل في كتب الرجال ، بل
ظاهر التعليل في الرواية بقوله : «تعصرت ونزل من الحبائل» الدلالة على عدم الفرق
بين حالتي النسيان والعمد. و (ثانيا) ـ ان الخارج مع عدم البول متى حكم بكونه منيا
فكيف يعذر الناسي فيه ، إذ الأسباب لا يفرق فيها بين الناسي والعامد. واما الحمل
على من اجتهد ولم يتمكن من
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب
الجنابة.
البول ففيه ـ مع عدم الدليل عليه في
الاخبار ـ ان عدم القدرة على البول لا يخرج الخارج عن كونه منيا ليسقط وجوب الغسل
، فان مقتضى العلة المستنبطة من جملة من الاخبار بل المنصوصة في صحيحة محمد بن
مسلم المتقدمة عن الباقر (عليهالسلام) حيث قال في
آخرها : «لان البول لم يدع شيئا». ان مع عدم البول وان تعذر لا يقطع بزوال المني
ونظافة المخرج منه.
واما الجمع بين الاخبار ـ بالحمل على الاستحباب كما صار
إليه جملة من متأخري المتأخرين ـ
ففيه (أولا) ـ انه وان اشتهر بينهم البناء على هذه
القاعدة في الجمع بين الاخبار بحمل ما يدل على الوجوب على الاستحباب وما يدل على
التحريم على الكراهة الا انه لم يرد بها اثر من الآثار ، والقواعد المقررة عن أهل
العصمة (صلوات الله عليهم) في اختلاف الأخبار خالية عنها.
و (ثانيا) ـ انه لا ريب ان الحمل على ذلك مجاز لا يصار
اليه الا مع القرينة ، ووجود المعارض ليس قرينة ، لجواز خروجه مخرج التقية (1) أو احتماله
لمعنى آخر.
وبالجملة فالتحقيق ان الاخبار المذكورة صريحة المنافاة
في الحكم المذكور ، وطريق الجمع بينها وبين ما تقدمها بعيد ، فالواجب النظر في
الطرق المرجحة للحمل على أحد الطرفين ورمى الطرف الآخر من البين ، ولا ريب انها مع
اخبار الإعادة لصحتها سندا وكثرتها وصراحتها دلالة وتعددها منطوقا ومفهوما ،
واعتضادها بعمل الطائفة قديما وحديثا ، وموافقتها للاحتياط في الدين ، وضعف ما
يعارضها ، فاما رواية جميل فيما
__________________
(1) في المغني ج 1 ص 301 «إذا احتلم أو جامع فأمنى ثم اغتسل ثم
خرج منه منى فالمشهور عن احمد لا غسل عليه بال أو لم يبل ، وفي رواية ثانية عنه ان
خرج بعد البول فلا غسل عليه وان خرج قبله اغتسل وبه قال أبو حنيفة ، وفي رواية
ثالثة عليه الغسل بكل حال وهو مذهب الشافعي».
عرفت من اشتمال سندها على علي بن
السندي ، واما رواية أحمد بن هلال فبضعف الراوي المذكور حتى ورد فيه انه كان غاليا
متهما في دينه ، وورد فيه ذموم عن سيدنا ابي محمد العسكري (عليهالسلام) مضافا الى
إضماره ، مع انه لا دلالة فيه على موضع البحث بوجه ، لعدم اشتماله على خروج شيء
بعد الغسل ، واما رواية عبد الله بن هلال فبعدم ذكره في كتب الرجال بمدح أو قدح ،
واما رواية الشحام فباشتمالها على ابي جميلة المفضل بن صالح ، وقد رمي بالكذب ووضع
الحديث كما ذكره العلامة في الخلاصة. هذا. والأقرب عندي خروج الاخبار المشار إليها
مخرج التقية ، إذ هي السبب التام في اختلاف اخبارهم (عليهمالسلام) وان لم يعرف
بذلك قائل من العامة كما تقدم تحقيقه في المقدمة الاولى. واما المعارضة بأخبار عدم
نقض اليقين بالشك فلا ورود لها ، إذ هو عام مخصوص كما تقدم تخصيصه غير مرة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض
المسائل وحياض الدلائل في الكتاب المذكور من التوقف في الحكم لتعارض الاخبار في
المسألة وجبر ضعف الأخبار الأخيرة بالاعتضاد بالأصل وباخبار عدم نقض اليقين بالشك.
وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ ان الترجيح بالأصل لا يعرف له أصل والا لذكر في جملة
المرجحات المنصوصة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم).
واما ما ذهب اليه الصدوق (قدسسره) ـ من
الاكتفاء هنا بالوضوء ، حيث قال في الفقيه (1) ـ بعد نقل صحيحة الحلبي الآتية
المتقدم عجزها في أدلة وجوب الإعادة ـ ما لفظه : «وروي في حديث آخر «ان كان قد رأى
بللا ولم يكن بال فليتوضأ ولا يغتسل انما ذلك من الحبائل». قال مصنف هذا الكتاب
رحمة الله عليه : اعادة الغسل أصل والخبر الثاني رخصة» ونحوه في المقنع ، واليه
يميل ظاهر المحدث الكاشاني (طاب ثراه) في الوافي ، حيث قال بعد نقل كلام الفقيه : «أقول
وبه يجمع بين الاخبار المتقدمة والآتية» ـ
__________________
(1) ج 1 ص 47 وفي الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
ففيه ان الخبر المذكور مع صحته وثبوته لا يعارض الأخبار
المتقدمة لما ذكرنا آنفا وان كان فتواه به لا يخلو من تأييد له ، الا ان الخبر
المذكور لا يخلو من اشكال ، لأن الحكم فيه بالوضوء مع قوله في آخره : «انما ذلك من
الحبائل». لا يخلو من تدافع ، إذ ما يخرج من الحبائل لا يوجب وضوء ، ولم أر من
تنبه لذلك من أصحابنا (رضوان الله عليهم) ولو حمل الوضوء في الخبر المذكور على
مجرد الغسل لذلك البلل لما ذكرنا لكان وجها ، وبه يخرج عن صلاحية الاستدلال.
وبالجملة فقوة القول المشهور مما لا ينبغي ان يرتاب فيها
بوجه ، لكن شيخنا الشهيد في الذكرى نقل عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في صدر
هذه الصورة هكذا : «قال محمد قال أبو جعفر (عليهالسلام) : من اغتسل
وهو جنب قبل ان يبول ثم وجد بللا فليس ينقض غسله ولكن عليه الوضوء».
ونزل رواية الفقيه التي استند إليها في الرخصة على هذه حيث
قال : «ورواه الصدوق بعد رواية إعادة الغسل مع ترك البول» انتهى.
وأنت خبير بان ما نقله لم نقف عليه في شيء من كتب
الاخبار بل ولا كتب الاستدلال ، بل الموجود في التهذيب والاستبصار وكذا في المنتهى
هو ما قدمناه ، والذي يخطر بالبال هو وقوع السهو في النقل أو الغلط في المنقول عنه
بترك ما بين «بللا» الأول إلى «بللا» الثاني. والله أعلم.
(الثالثة) ـ خروج البلل بعد البول بدون الاجتهاد ،
والمعروف من مذهب أكثر الأصحاب وجوب الوضوء خاصة ، ويدل عليه مفهوم الأخبار الدالة
على انه «بعد الاستبراء ان سال حتى يبلغ الساق فلا يبالي» كما في صحيحة حفص ،. و «ان
خرج بعد ذلك شيء فليس من البول ولكنه من الحبائل» كما في حسنة محمد بن مسلم ،. وقد
تقدمتا في مسألة الاستبراء من البول (1) وخصوص منطوق صحيحة محمد بن مسلم
المتقدمة في صدر الصورة الثانية. وموثقة سماعة (2) قال : «سألته عن الرجل يجنب ثم يغتسل
قبل
__________________
(1) ج 2 ص 54.
(2) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
ان يبول فيجد بللا بعد ما يغتسل. قال
: يعيد الغسل ، وان كان بال قبل ان يغتسل فلا يعيد غسله ولكن يتوضأ ويستنجي». ورواية
ابن ميسرة (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول في رجل
رأى بعد الغسل شيئا قال : ان كان بال بعد جماعه قبل الغسل فليتوضأ وان لم يبل حتى
اغتسل ثم وجد البلل فليعد الغسل».
وإطلاق هذه الروايات وان شمل وجوب الوضوء مع الاستبراء
بعد البول حيث رتب الوضوء فيها على البول خاصة أعم من ان يكون معه استبراء أم لا.
الا ان تصريح صحيحة حفص وحسنة محمد بن مسلم المشار إليهما آنفا ـ بنفي كون الخارج
بعد الاستبراء من البول بولا وان بلغ الساق ، مضافا الى عدم القائل بالوضوء مع
الاجتهاد ـ يوجب تقييد إطلاق الاخبار المذكورة ، وبالجملة فالصورة المفروضة ترجع
الى ما قدمنا في مسألة الاستبراء من البول ، إذ هي فرد من إفرادها وعدد من أعدادها
، والظاهر انه لا مدخل لخصوصية الجنابة في المقام ، ولا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في الوضوء في الحال المذكورة استنادا الى المفهوم المتقدم ذكره. واما
ما عارضه من صحيحتي ابن ابي يعفور وحريز فقد تقدم الجواب عنه ثمة (2).
الا انه ربما ظهر من كلام الشيخين (قدسسرهما) في المقنعة
والتهذيب والاستبصار عدم وجوب الوضوء في الصورة المذكورة ، قال في المقنعة : «وإذا
وجد المغتسل من الجنابة بللا على رأس إحليله أو أحس بخروج شيء منه بعد اغتساله ،
فإنه ان كان قد استبرأ بما ذكرناه قبل هذا من البول أو الاجتهاد فليس عليه وضوء
ولا اعادة غسل ، لان ذلك ربما كان وذيا أو مذيا وليس ينتقض من هذين ، وان لم يكن
استبرأ بما ذكرناه أعاد الغسل» وأشار بقوله : «بما ذكرناه» الى ما قدمه قبيل هذا
الكلام حيث قال : «وإذا عزم الجنب على التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما
بقي من المني في مجاريه ، فان لم يتيسر له ذلك فليجتهد في الاستبراء : بمسح تحت
الأنثيين
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.
(2) ج 2 ص 59.
الى أصل القضيب الى آخره» والمفهوم من
هذا الكلام انه بعد خروج البلل المشتبه بعد الغسل ان كان قد استبرأ أما بالبول مع
إمكانه أو بالاجتهاد خاصة مع عدم إمكانه فلا وضوء عليه ولا غسل ، وهو ظاهر في نفي
الوضوء مع البول الخالي من الاجتهاد.
واما الشيخ في التهذيب فإنه بعد ان أورد صحيحة محمد بن مسلم
ورواية معاوية ابن ميسرة قال : «فما تضمن هذان الحديثان من ذكر اعادة الوضوء فإنما
هو على طريقة الاستحباب ، لأنه إذا صح بما قدمنا ذكره ان الغسل من الجنابة مجزئ عن
الوضوء ولم يحدث هنا ما ينقض الوضوء فينبغي ان لا تجب عليه الطهارة ولا تعلق على
ذمته الطهارة إلا بدليل قاطع ، وليس ههنا دليل يقطع العذر ، ويحتمل ايضا ان يكون
ما خرج منه بعد الغسل كان بولا فيجب عليه حينئذ الوضوء وان لم يجب الغسل حسبما
تضمنه الخبر» ونحوه قال في الاستبصار (1) وظاهر هذا الكلام بل صريحه ان البلل
المشتبه بعد البول بدون الاستبراء لا يوجب اعادة الوضوء مطلقا.
ولا يخفى ما فيه (اما أولا) ـ فلما قدمنا في مسألة
الاستبراء من البول من دلالة مفهوم تلك الاخبار على ذلك ، مع انه نقل الروايات
المذكورة في باب وجوب الاستبراء من البول في أحكام الوضوء من الاستبصار ثم ذكر
بعدها في المنافي رواية محمد بن عيسى الدالة على اعادة الوضوء بعد الاستبراء
وحملها على الاستحباب ، وكيف يتم الحمل على الاستحباب بعد الاستبراء مع عدم الوجوب
قبله ، مع انه أفتى في المبسوط بما يوافق الجماعة من انتقاض الوضوء بالبلل المشتبه
إذا لم يستبرئ. وما استند اليه من اجزاء غسل
__________________
(1) فإنه قال بعد نقل خبر سماعة ومحمد بن مسلم ما لفظه : «وما
يتضمن خبر سماعة ومحمد ابن مسلم من ذكر اعادة الوضوء محمول على الاستحباب ، ويجوز
ان يكون المراد بما خرج بعد البول والغسل ما ينقض الوضوء فحينئذ يجب عليه الوضوء ،
ولأجل ذلك قال (عليهالسلام) «عليه الوضوء والاستنجاء» في حديث سماعة. وذلك لا
يكون الا فيما ينقض الوضوء» انتهى. منه (قدسسره).
الجنابة عن الوضوء مسلم بالنسبة الى
ما قبل الغسل ، فان كل ما يتجدد من الأحداث يندرج تحت الجنابة ، اما بعد الغسل
فلا. ومنعه من إيجاب البلل المشتبه الوضوء ممنوع ، لدلالة مفاهيم تلك الاخبار مع
مناطيق هذه على ذلك معتضدا بالبلل المشتبه الخارج بعد الغسل مع عدم البول الموجب
للغسل.
و (اما ثانيا) ـ فلبعد ما ذكره من التأويل بمعنييه ، اما
الحمل على الاستحباب فمردود بما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى من استفاضة الاخبار
بعدم مشروعية الوضوء مع غسل الجنابة ، واما الحمل على كون الخارج بولا ففيه انه لو
كان كذلك فكيف يتجه التفصيل في تلك الأخبار بأنه ان كان قبل البول فيجب اعادة
الغسل به أو بعده فلا يجب اعادة الغسل بل الوضوء ، إذ البول لا يوجب الغسل سواء
بال قبل الغسل أو لم يبل.
وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض
المسائل وحياض الدلائل في الكتاب المذكور ، حيث جمد على كلام الشيخين بعد نقله ،
واثبت الخلاف في المسألة بظاهر كلاميهما ، وقوى القول بعدم الوضوء بخروج البلل
المشتبه في شيء من الأحوال ، وأوجب حمل ما دل على الإعادة مطلقا أو في بعض
الأحوال منطوقا أو مفهوما على الاستحباب أو التقية أو على تخصيص الخارج بالناقض.
(الرابعة) ـ خروج البلل المذكور بعد الاجتهاد خاصة بدون
البول مع إمكانه والظاهر من كلام الأكثر وجوب الغسل ، وربما ظهر من عبارتي الشرائع
والنافع هنا العدم وهو ضعيف ، وعموم الأخبار ـ الدالة على إيجاب الغسل مع عدم
البول كما تقدم في الصورة الثانية ـ يدفعه.
(الخامسة) ـ الصورة المذكورة مع عدم إمكان البول ، وظاهر
الأكثر ـ ومنهم الشيخان فيما تقدم من كلاميهما في الصورة الثالثة ـ عدم وجوب شيء
هنا من غسل أو وضوء ، وتوقف في النهاية والمنتهى.
احتجوا على ذلك بالأخبار المتقدمة في الصورة الثانية
الدالة على عدم الغسل مع
عدم البول بحملها على عدم إمكانه. وقد
عرفت ما في هذا الحمل آنفا.
واحتج المحقق الثاني في شرح القواعد ايضا على ذلك بأصالة
البراءة لعدم العلم بكون الخارج منيا ، قال : «وإيجاب الإعادة فيما تقدم للدليل لا
يقتضي الوجوب هنا».
ولا يخفى عليك ما فيه من الوهن ، فإن أصالة البراءة يجب
الخروج عنها بعموم الأخبار المتقدمة الموجبة للإعادة مع عدم البول مطلقا ، وبه
يظهر ما في باقي كلامه.
واستند الشهيدان (قدسسرهما) في الذكرى
والروض الى
قوله (عليهالسلام) في رواية
جميل المتقدمة في الصورة الثانية : «قد تعصرت ونزل من الحبائل».
وفيه (أولا) ـ ان ذلك فرع الحمل على التعذر كما هو
المدعى ، وليس في الخبر المذكور ولا في غيره من الأخبار قرينة تؤنس به فضلا عن
الدلالة عليه. و (ثانيا) ـ ان مورد الخبر حال النسيان والمدعى أعم من ذلك فلا يقوم
حجة. و (ثالثا) ـ ان التعليل المذكور لا يخلو من الإشكال ، إذ حملهم له على ان
المراد انه مع ترك البول نسيانا اجتهد واستبرأ لا يساعده لفظ الرواية وغيره غير
ظاهر في البين.
وبالجملة فالأظهر والأحوط هو القول بوجوب الإعادة عملا
بعموم تلك الأخبار ، واليه مال جملة من فضلاء متأخري المتأخرين.
فرع
المعروف من مذهب الأكثر عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة
بعد الغسل وقبل خروج ذلك البلل الموجب له أو للوضوء ، لانه حدث جديد والصلاة
الواقعة قبله مستكملة لشرائط الصحة. وتخيل فساد الغسل ببقاء المني في مخرجه
واحتباسه في الطريق باطل ، لان موجب الجنابة خروجه من الفرج لا بروزه من مقره
الأصلي وان احتبس في المجرى.
ونقل عن بعض الأصحاب الميل الى بطلان الصلاة المذكورة ،
وهو باطل بما
ذكرنا. وربما استدل له بصحيحة محمد بن
مسلم المتقدمة في صدر الصورة الثانية ، والظاهر حملها على من صلى بعد وجدان البلل
وعدم الغسل منه ، ورجح بعض حملها على الاستحباب وهو بعيد الا انه أحوط. وربما احتج
على ذلك أيضا بمرسلة أحمد بن هلال المتقدمة لدلالتها على ان الغسل قبل البول لا
اعتداد به. وفيه مع ضعفها التقييد بحال العمد.
تذنيب
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل كاد يكون
إجماعا انه يجب الغسل على الكافر لان الكفار مكلفون بالفروع ، ولم ينقلوا في
المسألة خلافا عن أحد من الخاصة بل من العامة إلا عن أبي حنيفة ، قالوا : لكن لا
يصح منه حال كفره لاشتراط الصحة بالإسلام ولا يجبه الإسلام وان جب الصلاة لخروجها
بدليل خاص.
وما ذكروه (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم)
منظور فيه عندي من وجوه :
(الأول) ـ عدم الدليل على التكليف المذكور وهو دليل
العدم كما هو مسلم بينهم ، وما استدلوا به مما سيأتي ذكره مدخول بما سنذكره.
(الثاني) ـ الاخبار الدالة على توقف التكليف على الإقرار
والتصديق بالشهادتين ، ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (1) في الصحيح عن
زرارة قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) أخبرني عن
معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال : ان الله بعث محمدا (صلىاللهعليهوآله) الى الناس
أجمعين رسولا وحجة لله على خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتبعه
وصدقه فان معرفة الإمام منا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم
يصدقه ويعرف حقهما فكيف يجب عليه معرفة الامام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف
حقهما. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ
__________________
(1) الأصول ج 1 ص 180.
صريح الدلالة على خلاف ما ذكروه ،
فإنه متى لم تجب معرفة الإمام قبل الإيمان بالله ورسوله فبطريق الأولى معرفة سائر
الفروع التي هي متلقاة من الامام (عليهالسلام) والحديث صحيح
السند باصطلاحهم صريح الدلالة ، فلا وجه لرده وطرحه والعمل بخلافه إلا مع الغفلة
عن الوقوف عليه.
والى العمل بالخبر المذكور ذهب المحدث الكاشاني (قدسسره) حيث قال في
كتاب الوافي بعد نقله ما صورته : «وفي هذا الحديث دلالة على ان الكفار ليسوا
مكلفين بشرائع الإسلام كما هو الحق خلافا لما اشتهر بين متأخري أصحابنا» انتهى.
ويظهر ذلك ايضا من المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله
مرقده) في كتاب الفوائد المدنية ، حيث صرح فيه بأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون
تعلق التكاليف بالناس على التدريج ، بان يكلفوا أولا بالإقرار بالشهادتين ثم بعد
صدور الإقرار عنهم يكلفون بسائر ما جاء به النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : ومن
الأحاديث الدالة على ذلك صحيحة زرارة المذكورة في الكافي ، ثم ساق الرواية بتمامها
، وقال ايضا ـ بعد نقل جملة من اخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذر
بالتوحيد والإمامة ونقل جملة من الاخبار الدالة على فطرة الناس على التوحيد وان
المعرفة من صنع الله ـ ما لفظه : «أقول : هنا فوائد. الى ان قال : الثالثة ـ انه
يستفاد منها ان ما زعمه الا شاعرة ـ من ان مجرد تصور الخطاب ـ من غير سبق معرفة
الهامية بخالق العالم وبان له رضى وسخطا وانه لا بد من معلم من جهته ليعلم الناس
ما يصلحهم وما يفسدهم ـ كاف في تعلق التكليف بهم ـ ليس بصحيح» انتهى.
ومنها ـ ما رواه الثقة الجليل احمد بن ابي طالب الطبرسي
في كتاب الاحتجاج (1) عن أمير
المؤمنين (عليهالسلام) في حديث
الزنديق الذي جاء اليه مستدلا بآي من القرآن قد اشتبهت عليه ، حيث قال (عليهالسلام): «فكان أول
__________________
(1) ص 128 طبعة سنة 1302.
ما قيدهم به الإقرار بالوحدانية
والربوبية والشهادة ان لا إله إلا الله ، فلما أقروا بذلك تلاه بالإقرار لنبيه (صلىاللهعليهوآله) بالنبوة
والشهادة بالرسالة ، فلما انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج. الحديث».
ومنها ـ ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (قدسسره) في تفسيره عن
الصادق (عليهالسلام) في تفسير
قوله تعالى : «... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ
الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» (1) حيث قال (عليهالسلام) : «أترى ان
الله عزوجل طلب من
المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به حيث يقول : «وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ
كافِرُونَ» وانما دعى الله العباد للايمان به. فإذا آمنوا بالله
ورسوله افترض عليهم الفرائض».
قال المحدث الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الحديث
المذكور : «أقول : هذا الحديث يدل على ما هو التحقيق عندي من ان الكفار غير مكلفين
بالأحكام الشرعية ما داموا باقين على الكفر» انتهى.
ومما يدل على ذلك ايضا ما روي عن الباقر (عليهالسلام) في تفسير
قوله : «... أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...» (2) حيث قال : «كيف يأمر بطاعتهم ويرخص
في منازعتهم؟ انما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول».
(الثالث) ـ لزوم تكليف ما لا يطاق ، إذ تكليف الجاهل بما
هو جاهل به تصورا وتصديقا عين تكليف ما لا يطاق ، وهو مما منعته الأدلة العقلية
والنقلية ، لعين ما تقدم في المقدمة الخامسة في حكم معذورية الجاهل.
والى ذلك يشير كلام الفاضل الخراساني (طاب ثراه) في
الذخيرة في مسألة الصلاة مع النجاسة عامدا ، حيث نقل عن بعضهم الإشكال في إلحاق
الجاهل بالعامد وقال
__________________
(1) سورة فصلت الآية 5 و 6.
(2) سورة النساء الآية 62.
بعده : «والظاهر ان التكليف متعلق
بمقدمات الفعل كالنظر والسعي والتعلم ، وإلا لزم تكليف الغافل أو التكليف بما لا
يطاق ، والعقاب يترتب على ترك النظر ، الى ان قال : ولا يخفى انه يلزم على هذا ان
لا يكون الكفار مخاطبين بالأحكام وانما يكونون مخاطبين بمقدمات الأحكام ، وهذا
خلاف ما قرره الأصحاب ، وتحقيق هذا المقام من المشكلات» انتهى.
أقول : لا اشكال ـ بحمد الله ـ فيما ذكره بعد ورود
الأخبار بمعذورية الجاهل حسبما مر بك مشروحا في المقدمة الخامسة ، وورودها بخصوص
الكافر كما نقلنا هنا ، ولكنهم (قدسسرهم) يدورون مدار
الشهرة في جميع الأحكام وان خلت عن الدليل في المقام ، سيما مع عدم الوقوف على ما
يضادها من اخبار أهل الذكر (عليهمالسلام).
(الرابع) ـ الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم كقولهم (عليهمالسلام): «طلب العلم
فريضة على كل مسلم» (1). فان موردها
المسلم دون مجرد البالغ العاقل.
(الخامس) ـ انه كما لم يعلم منه (صلىاللهعليهوآله) انه أمر أحدا
ممن دخل في الإسلام بقضاء صلواته كذلك لم يعلم منه انه أمر أحدا منهم بالغسل من
الجنابة بعد الإسلام مع انه قلما ينفك أحد منهم من الجنابة في تلك الأزمنة
المتطاولة ، ولو أمر بذلك لنقل وصار معلوما كغيره ، واما ما رواه في المنتهى عن
قيس بن عاصم وأسيد ابن حصين ـ مما يدل على أمر النبي (صلىاللهعليهوآله) بالغسل لمن
أراد الدخول في الإسلام فخبر عامي (2) لا ينهض حجة.
(السادس) ـ اختصاص الخطاب القرآني ب (الَّذِينَ
آمَنُوا) ، وورود«يا أَيُّهَا
__________________
(1) المروي في الوسائل في الباب 4 من أبواب صفات القاضي.
(2) في سنن البيهقي ج 1 ص 171 عن قيس بن عاصم انه «اتى النبي (ص)
فأسلم فأمره أن يغتسل بماء وسدر» ورواه أبو داود في سننه ج 1 ص 98 والبغوي في
مصابيح السنة ج 1 ص 37 وفي تيسير الوصول ج 3 ص 101 «أخرجه أصحاب السنن».
النّاسُ» في بعض وهو
الأقل يحمل على المؤمنين حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص كما هو القاعدة
المسلمة بينهم.
احتج العلامة (قدسسره) في المنتهى
على ان الكفار مخاطبون بفروع العبادات بوجوه :
(منها) ـ قوله سبحانه : «...
وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...» (1) و «يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ...» (2).
و (منها) ـ ان الكفر لا يصلح للمانعية حيث ان الكافر
متمكن من الإتيان بالايمان أولا حتى يصير متمكنا من الفروع.
و (منها) ـ قوله تعالى : «لَمْ
نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» (3) وقوله تعالى : «فَلا صَدَّقَ وَلا صَلّى» (4) وقوله تعالى :
«... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ
الزَّكاةَ ...» (5).
والجواب عن الأول بما عرفته من الاخبار الدالة على عدم
التكليف الا بعد معرفة المكلف والمبلغ ، وبما ذكر في الوجه الثالث والسادس.
وعن الثاني انه مصادرة محضة.
وعن الثالث بعد تسليم جواز الاستدلال بظواهر الآيات
القرآنية ، أما الآية الأولى فبالحمل على المخالفين المقرين بالإسلام ، إذ لا
تصريح فيها بالكفار ، ويدل عليه ما ورد في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم
القمي (رضياللهعنه) من تفسيرها باتباع الأئمة (عليهمالسلام) اي لم نك من
اتباع الأئمة (عليهمالسلام) وهو مروي عن
الصادق (عليهالسلام) وفسر (عليهالسلام) المصلى في
الآية بمعنى الذي يلي السابق في الحلبة ، قال فذلك الذي عنى حيث قال : «لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ» اي لم نك من
اتباع
__________________
(1) سورة آل عمران الآية 97.
(2) سورة البقرة الآية 21.
(3) سورة المدثر الآية 44.
(4) سورة القيامة الآية 31.
(5) سورة فصلت الآية 5 و 6.
السابقين ، وعن الكاظم (عليهالسلام) يعني انا لم
نتول وصي محمد (صلىاللهعليهوآله) والأوصياء من
بعده ولم نصل عليهم. وفي هذه الاخبار وأشباهها ما يؤيد ما حققناه في المقدمة
الثالثة من عدم جواز المسارعة إلى الاستدلال بالظواهر بدون مراجعة التفسير عنهم (عليهمالسلام) واما الآية
الثانية فبجواز حمل الصلاة فيها على ما دلت عليه الاخبار في الآية الأولى ، فإن
اللفظة من الألفاظ المجملة المتشابهة المحتاج في تعيين المراد منها الى التوقيف ،
فالاستدلال بها والحال كذلك مردود بتصادم الاحتمالات فيها والدخول تحت قوله : «فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ... الآية» على
ان ما ذكرنا من المعنى هو الموجود في تفسير الثقة الجليل علي بن إبراهيم كما لا
يخفى على مراجعة. واما الآية الثالثة فيما عرفت في الوجه الأول من الخبر الوارد
بتفسيرها.
وقد جرى بيني وبين بعض مشايخي المعاصرين من علماء بلادنا البحرين كلام في هذه المسألة ، فأظهرت له صحيح زرارة المتقدم والخبر الوارد في تفسير قوله سبحانه : «... وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ...» ولم يحضر ببالي في ذلك الوقت سواهما ، فلم يجب عنهما بمقنع ، وهو لم يرجع عن القول المشهور متمسكا بالإجماع عليه وعدم المخالف ، وعلى هذا كانت طريقتهم (رضياللهعنهم) من الجمود على المشهورات سيما مع زخرفتها بالإجماعات.