ج1 - في الراكد البالغ كرا فما زاد

الفصل الثاني

في الراكد البالغ كرا فما زاد

وتحقيق القول فيه يقتضي بسطه في مسائل :

(المسألة الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (قدس الله تعالى أرواحهم) ان ما بلغ الكر من الراكد لا ينجس إلا بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة كما تقدم (1) وصريح الشيخ المفيد في المقنعة ـ وهو المنقول عن سلار ـ اختصاص الحكم المذكور بغير الحياض والأواني. والشيخ رضوان الله عليه ـ في التهذيب بعد نقل عبارة المقنعة المتضمنة للحكم المذكور ـ طوى البحث عن التعرض له فضلا عن الاستدلال عليه ، وحمله بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين على انه إنما فهم من عبارة المفيد (قدس‌سره) ان مراده إذا نقصت عن كر كما هو الأغلب ، قال : «وهو الظاهر ، لكن المتأخرين فهموا ـ من عبارة المقنعة وكلام سلار ـ أن الأواني والحياض ملحقان مطلقا بالماء القليل كما حكاه العلامة في المختلف» انتهى.

أقول : لا يخفى بعد ما استظهره (قدس‌سره) كما يظهر ذلك لمن لاحظ عبارة المقنعة ، حيث انه إنما ذكر التفصيل بالكرية وعدمها في ماء الغدران والقلبان ، سيما

__________________

(1) في المقالة الثالثة في الصحيفة 178.


وقد قرن الحياض والأواني في تلك العبارة بالبئر ، مع ان مذهبه فيها النجاسة وان بلغت كرا ، إلا انه ربما ظهر ذلك من كلام الشيخ أخيرا عند شرح قوله في المقنعة : «والمياه إذا كانت في آنية محصورة فوقع فيها نجاسة ، لم يتوضأ منها ووجب اهراقها» فقال الشيخ (رحمه‌الله) : «يدل على ذلك ما قدمنا ذكره من ان الماء متى نقص عن الكر فإنه ينجس بما يحله من النجاسات ، وإذا ثبت نجاسته فلا يجوز استعماله بلا خلاف» فإنه يدل بظاهره على انه فهم من عبارة المقنعة في الموضعين التخصيص بما نقص عن الكر ، ولعله فهم ذلك من خارج ، وإلا ففهم هذا المعنى من العبارة الاولى في غاية البعد ، لما عرفت. والظاهر ان هذا الكلام هو الحامل لشيخنا المشار اليه على الحمل الذي قدمنا نقله عنه إلا انه لم يشر اليه.

هذا. وظاهر عبارة النهاية أيضا موافقة الشيخ المفيد في الأواني. حيث قال : «والماء الراكد على ثلاثة أقسام : مياه الغدران والقلبان والمصانع. ومياه الأواني المحصورة ، ومياه الآبار. فاما مياه الغدران والقلبان ، فان كان مقدارها الكر فإنه لا ينجسها شي‌ء إلا ما غير لونها أو طعمها أو ريحها ، وان كان مقدارها أقل من الكر فإنه ينجسها كل ما يقع فيها من النجاسة. واما مياه الأواني المحصورة فإن وقع فيها شي‌ء من النجاسة أفسدها ولم يجز استعمالها» انتهى ملخصا. ثم ذكر بعد ذلك أحكام البئر.

وأنت خبير بان التفصيل بالكرية وعدمها ـ في القسم الأول وطي الكشح عنه في الثاني ـ ظاهر في الحكم بالنجاسة في الثاني مطلقا ، ولم يتعرض الأصحاب لنقل ذلك عنه في أقوال المسألة.

وحكى جملة من الأصحاب عن الشيخ المفيد وسلار في الاحتجاج على ذلك التمسك بعموم النهي عن استعمال مياه الأواني مع ملاقاة النجاسة. وردوه بان العموم ـ على تقدير ثبوته ـ مخصوص بصورة القلة ، جمعا بين الأخبار والعمومات وان تعارضت من الطرفين ،


إلا ان الترجيح في تخصيص هذا بذاك (أولا) ـ بقوة دلالة تلك الأخبار الدالة على عدم انفعال مقدار الكر. و (ثانيا) ـ باحتمال البناء في هذا العموم على ما هو الغالب من عدم بلوغ ماء الأواني كرا. ومع ذلك فالحجة المذكورة لا تشمل الحياض ، فتبقى خالية من الدليل.

وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور ، إلا انه روى أبو بصير في الموثق ، قال : «سألته عن كر من ماء ـ مررت به وانا في سفر ـ قد بال فيه حمار أو بغل أو إنسان. قال : لا تتوضأ منه ولا تشرب» (1).

والظاهر حمله على تغير موضع البول فينقص الباقي عن الكر فينجس. وربما حمل على الكراهة. والظاهر بعده.

ثم ان جملة من الأصحاب (2) ادعوا الإجماع على ان الكثير الواقف لا ينجس بملاقاة النجاسة ، فإن أرادوا بالواقف هو الساكن ، ففيه ما عرفت من خلاف هؤلاء الفضلاء ، وان أريد ما هو أعم منه ومن الجاري لا عن نبع ، ففيه ـ زيادة على ما ذكر ـ ما سيأتي ان شاء الله تعالى في الجاري لا عن نبع (3) من ذهاب جمع من الأصحاب الى عدم تقوي الأعلى بالأسفل ، حتى أورد عليهم لزوم نجاسة النهر العظيم بملاقاة النجاسة إذا لم يكن فوقها ما يبلغ الكر ، ولهذا ذهب بعض المحدثين من متأخري المتأخرين (4) الى ان هذا الفرد من الماء يوافق الجاري في بعض الأحكام والراكد في بعض كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى (5).

(المسألة الثانية) ـ هل يشترط في عدم انفعال الكر بالملاقاة مساواة سطحه الظاهر أم لا؟ قد اضطرب كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام ، لعدم

__________________

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) منهم : السيد السند صاحب المدارك في الكتاب المذكور (منه رحمه‌الله).

(3) في المسألة الثانية من هذا الفصل.

(4) هو المحدث الأمين الأسترآبادي قدس‌سره (منه رحمه‌الله).

(5) في المسألة الثانية من هذا الفصل.


النصوص الصريحة في ذلك عنهم (عليهم‌السلام).

وبالثاني صرح شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الروض وسبطه السيد السند في المدارك ، قال في الروض بعد كلام في المقام : «وتحرير المقام ان النصوص الدالة على اعتبار الكثرة ـ مثل قوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (1). وكلام أكثر الأصحاب ـ ليس فيه تقييد الكر المجتمع بكون سطوحه مستوية ، بل هو أعم منه ومن المختلفة كيف اتفق» ثم قال بعد كلام طويناه على غره : «والذي يظهر لي في المسألة ـ ودل عليه إطلاق النص ـ ان الماء متى كان قدر كر متصلا ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير ، سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها. الى آخر ما ذكره».

وما نقله (قدس‌سره) عن كلام أكثر الأصحاب فهو ظاهر كلام العلامة في جملة من كتبه ، حيث صرح ـ في مسألة الغديرين الموصل بينهما بساقية ـ بالاتحاد واعتبار الكرية فيهما مع الساقية ، وهو أعم من المستوي والمختلف ، وكذا أطلق القول في الواقف المتصل بالجاري وحكم باتحادهما من غير تقييد ، إلا انه في التذكرة قيده ، حيث قال في مسألة الغديرين : «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا ان اعتدل الماء وإلا في حق السافل ، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة» انتهى.

والمحقق في المعتبر صرح في مسألة الغديرين بما نقلناه عن العلامة (2) إلا انه قال بعد ذلك بلا فصل : «لو نقص الغدير عن كر فنجس فوصل بغدير فيه كر ، ففي طهارته

__________________

(1) تقدم الكلام فيه في التعليقة 3 في الصحيفة 191.

(2) حيث قال : «الفرع الثاني ، الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعهما مع الساقية كرا فصاعدا ، ثم قال : (الثالث) ـ لو نقص الغدير عن كر. الى آخر ما هو منقول في الأصل» (منه قدس‌سره).


تردد ، والأشبه بقاؤه على النجاسة ، لأنه ممتاز عن الطاهر» انتهى. وهو بظاهره مدافع لما ذكره أولا ، الا ان يحمل كلامه الأول على استواء سطحي الغديرين والثاني على اختلافهما (1).

والشهيد في الدروس قال : «لو كان الجاري لا عن مادة ولاقته النجاسة ، لم ينجس ما فوقها مطلقا ، ولا ما تحتها ان كان جميعه كرا فصاعدا إلا مع التغير» فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع ملاقاة النجاسة إذا كان مجموع الماء يبلغ كرا ولم يشترط استواء السطوح ، ثم قال بعد ذلك بقليل : «لو اتصل الواقف بالجاري اتحدا مع مساواة سطحهما أو كون الجاري أعلى لا بالعكس» فاعتبر في صدق الاتحاد مساواة السطحين أو علو الكثير.

وقال في الذكرى ـ بعد حكمه بأن اتصال القليل النجس بالكثير مماسة لا يطهره (2) ـ ما صورته : «ولو كانت الملاقاة ـ يعني ملاقاة النجاسة للقليل ـ بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير».

وفي البيان : «لو اتصل الواقف القليل بالجاري واتحد سطحهما أو كان الجاري

__________________

(1) العلامة في المنتهى والتحرير ـ بعد ان صرح في الغديرين بما نقلناه عنه من الاتحاد ـ ذكر انه لو نقص الغدير عن كر فوصل بغدير يبلغ الكر طهر به. وفي التذكرة ـ بعد ان صرح بما نقلناه عنه في المتن ـ ذكر هذا الفرع الثاني واختار البقاء على النجاسة مع مجرد الاتصال واشترط في الطهارة الممازجة. واما المحقق في المعتبر ، فإنه ـ كما نقلنا عنه ـ اختار في الفرع الأول الاتحاد ، وفي الفرع الثاني العدم ، فانقدح الاختلاف بين كلاميه الا ان يحمل على ما ذكرنا في الأصل (منه رحمه‌الله).

(2) حيث قال : «وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكر مماسة لم يطهر للتمييز المقتضى لاختصاص كل بحكمه ، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال. الى آخر ما هو مذكور في المتن» ولا يخفى عليك ما في هذه الفتاوي من الاضطراب والمخالفة بعضها لبعض (منه رحمه‌الله).


أعلى اتحدا ، ولو كان الواقف أعلى فلا».

وقال ـ المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف : «لو اتصل الواقف القليل بالجاري لم ينجس بالملاقاة» ـ ما لفظه : «يشترط في هذا الحكم علو الجاري أو مساواة السطوح أو فوران الجاري من تحت القليل إذا كان الجاري أسفل ، لانتفاء تقويه به بدون ذلك» انتهى. وهو صريح في تقييده إطلاقات العلامة في الوحدة في المسألة بالمساواة أو علو الكثير.

وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم بعد تقدم كلام في المسألة : «هذا ، وليس اعتبار المساواة في الجملة بالبعيد ، لان ظاهر أكثر الأخبار ـ المتضمنة لحكم الكر اشتراطا وكمية ـ اعتبار الاجتماع في الماء وصدق الوحدة والكثرة عليه. وفي تحقق ذلك ـ مع عدم المساواة في كثير من الصور ـ نظر. والتمسك ـ في عدم اعتبارها بعموم ما دل على عدم انفعال مقدار الكر بملاقاة النجاسة ـ مدخول ، لانه من باب المفرد المحلى ، وقد بينا في المباحث الأصولية أن عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حد صيغ العموم ، وانما هو باعتبار منافاة عدم إرادته للحكمة ، فيصان كلام الحكيم عنه. وظاهر ان منافاة الحكمة إنما يتصور حيث ينتفي احتمال العهد ، ولا ريب ان تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية عهد ظاهر. وهو في محل النزاع واقع إذ النص يتضمن السؤال عن الماء المجتمع ، وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه. نعم يتجه ثبوت العموم في ذلك المعهود بأقل ما يندفع به محذور منافاة الحكمة. وربما يتوهم ان هذا من قبيل تخصيص العام بناء على سبب خاص. وهو مرغوب عنه في الأصول. وبما حققناه يعلم انه لا عموم في أمثال موضع النزاع على وجه يتطرق اليه التخصيص» انتهى.

واعترض عليه بان الظاهر في أمثال هذه المواضع التي في مقام تعيين القوانين وتبيين الأحكام هو العموم ، وقد اعترف به ايضا من حيث منافاة عدم إرادته الحكمة


وما ذكره ـ من احتمال العهد باعتبار تقدم السؤال عن بعض أنواع الماهية ـ لا وجه له ، لأن السؤال إنما هو موجود في بعض الروايات ، وكثير من الروايات لا سؤال فيها ، وبعض ما فيه سؤال أيضا لا ظهور له في ان السؤال عن الماء المجتمع الذي لا اختلاف في سطوحه. سلمنا عدم الظهور في العموم. فلا شك في عدم ظهوره في عدمه ايضا ، وعند الشك يبقى الحكم على أصل الطهارة واستصحابها.

أقول : والحكم في المسألة لا يخلو من اشكال ، ينشأ من ان المستفاد من اخبار الكر تقارب اجزاء الماء بعضها من بعض.

كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة إسماعيل بن جابر (1) حين سأله عن الماء الذي لا ينجسه شي‌ء فقال : «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته».

ونحوها من الاخبار الدالة على التقدير بالمساحة.

وصحيحة صفوان (2) المتضمنة السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، حيث سأل (عليه‌السلام) فقال : «وكم قدر الماء؟ قال : قلت : الى نصف الساق والى الركبة وأقل. قال : توضأ».

ويؤيده ايضا ان الكر ـ الذي وقع تحديد الماء الذي لا ينفعل به ـ عبارة في الأصل عن مكيال مخصوص يكال به الطعام ، جعلوه (عليهم‌السلام) معيارا لما لا ينفعل من الماء بالملاقاة.

ويؤيده ايضا ان مع تقارب اجزاء الماء تتوزع النجاسة عليه وتنتشر فتضعف بذلك ، وانه بتقارب اجزائه يتقوى بعضها ببعض.

ويؤيده ايضا ان ذلك متفق عليه ومعلوم قطعا من الاخبار ، وما عداه في محل الشك. لعدم ظهور الدليل عليه من الاخبار ، وذهاب بعض الأصحاب إليه.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


والتمسك بأصالة الطهارة هنا ضعيف ، لما حققناه سابقا (1) من ان أفراد الكلية القائلة : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر». إنما هي الأشياء المقطوع بطهارتها شرعا والمعلومة كذلك بالنسبة إلى الأشياء المقطوع بنجاستها شرعا والمعلومة كذلك ، فإنه لا يحكم بخروج بعض أفراد الأول إلى الثاني إلا بعلم ويقين. والغرض منه ـ كما عرفت ـ هو دفع الوساوس الشيطانية والشكوك ، وعدم معارضتها للعلم واليقين الثابت أولا وان الماء من افراده ما هو طاهر يقينا وهو ظاهر ، ومنه ما هو نجس يقينا وهو القليل المعلوم ملاقاة النجاسة له ، فالكلية المذكورة قد أفادت انه لا يخرج عن الحكم الأول الى الثاني إلا بعلم ويقين. وهذا الماء المختلف السطوح ـ إذا كان قدر كر ولاقت النجاسة بعض اجزائه ـ ليس بمقطوع على طهارته ولا على نجاسته بل هو مشكوك فيه.

وبالجملة فالشك المنفي في مقابلة يقين الطهارة هو ما كان شكا في عروض النجاسة لا شكا في سببية النجاسة.

والتمسك بالاستصحاب إنما هو فيما إذا دل الدليل على الحكم مطلقا كما هو التحقيق في المسألة. وهو في موضع البحث ممنوع ، لما عرفت. ودلالته عليه قبل عروض النجاسة لا تقتضي انسحاب ذلك الى ما بعده إلا بدليل آخر ، لتغاير الحالين.

وينشأ من إطلاق الاخبار بان بلوغ الماء كرا عاصم له عن الانفعال بالملاقاة. والاخبار الدالة على التحديد بالمساحة وان أفهمت بحسب الظاهر اعتبار الاجتماع فيه إلا انه ، ان أخذ الاجتماع فيها على الهيئة التي دلت عليها فلا قائل به إجماعا ، وان أخذ الاجتماع الذي هو عبارة عن مجرد تساوي السطوح فلا دلالة لها عليه صريحا. مع معارضته بظهور احتمال محض التقدير كما تضمنته أخبار التقدير بالوزن. وباقي الوجوه المذكورة وان تضمنت نوع مناسبة لذلك إلا ان الظاهر انها لا تصلح لتأسيس حكم شرعي.

__________________

(1) في الصحيفة 190 السطر 2.


فمجال التوقف في الحكم المذكور لما ذكرنا بين الظهور ، والاحتياط لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فعلى تقدير عدم اشتراط المساواة والاكتفاء بمجرد الاتصال فهل يكفي الاتصال مطلقا وان كان بالتسنم من ميزاب ونحوه ، أو يشترط في الاختلاف التخصيص بالانحدار لا التسنم؟

ظاهر السيد السند في المدارك الأول ، ونقله ايضا عن جده (قدس‌سرهما) في فوائد القواعد (1) وتبعه بعض فضلاء متأخري المتأخرين ، وإطلاق عبائر جملة من لم يشترط التساوي ربما يشمله. لكن قد عرفت ـ فيما تقدم في المقالة الثامنة (2) في حكم ماء الحمام ـ انهم جمعوا ـ بين إطلاق القول بكرية المادة وإطلاق القول في الغديرين ـ بحمل الإطلاق الأول على ما إذا كان اتصال الماء بطريق التسنم والثاني على ما إذا كان الغديران متساويين أو مختلفين بطريق الانحدار. وهو كما ترى يؤذن بكون الاتصال بطريق التسنم ينافي الوحدة كما حققناه ثمة. والجواب ـ بان اعتبار الكرية في المادة لا لأجل عدم انفعال الحوض الصغير بالملاقاة ، بل ليكون حكم المادة حكم الماء الجاري أو لتطهير الحوض الصغير بعد نجاسته بإجراء المادة اليه واستيلائها عليه ـ مردود بما وقع التصريح به من اشتراط الزيادة على الكرية في تطهير الحياض كما تقدم بيانه (3) مع

__________________

(1) قال (قدس‌سره) ـ بعد نقله عن المعتبر والمنتهى إطلاق الحكم في الغديرين ـ كما قدمنا نقله عنهما ـ المقتضى لعدم الفرق بين متساوي السطوح ومختلفها ـ ما لفظه : «وينبغي القطع بذلك إذا كان جريان الماء في أرض منحدرة ، لاندراجه تحت عموم قوله (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» فإنه شامل لمتساوى السطوح ومختلفها ، وانما يحصل التردد فيما إذا كان الأعلى متسنما على الأسفل بميزاب ونحوه ، لعدم صدق الوحدة عرفا. ولا يبعد التقوى في ذلك ايضا كما اختاره جدي (قدس‌سره) في فوائد القواعد عملا بالعموم. انتهى. (منه رحمه‌الله).

(2) في الأمر الأول في الصحيفة 207.

(3) في الأمر الثالث في الصحيفة 211.


اتفاقهم أولا على اشتراط الكرية في المادة ، ومن الظاهر حينئذ ان هذا الاشتراط الأول إنما هو لعصمة الحياض الصغار عن الانفعال بالملاقاة (1).

ثم انه على تقدير جواز الاختلاف فلا إشكال في تقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر لو اختلفت السطوح كما صرحوا به ، إذ مقتضى الوحدة ذلك.

وعلى تقدير اشتراط التساوي فقد صرح جملة من القائلين به بأنه لو اتصل القليل بالكثير وكان الكثير أعلى فإن الأسفل يتقوى به دون العكس ، كما سلف في كلام المحقق الشيخ علي (2) والشهيد في الذكرى والدروس والبيان (3) وكذلك كلام العلامة في التذكرة (4) وظاهر كلام المحقق ايضا كما حكيناه (5).

وعلل المحقق الشيخ علي عدم تقوي الأعلى بالأسفل بأنهما لو اتحدا في الحكم للزم تنجيس كل أعلى متصل بأسفل مع القلة. وهو معلوم البطلان. وحيث لم ينجس بنجاسته لم يطهر بطهارته.

وأجاب في المدارك بان الحكم ـ بعدم نجاسة الأعلى بوقوع النجاسة فيه مع بلوغ المجموع منه ومن الأسفل الكر ـ انما كان لاندراجه تحت عموم الخبر ، وليس في هذا ما يستلزم نجاسة الأعلى بنجاسة الأسفل بوجه. مع ان الإجماع منعقد على ان النجاسة

__________________

(1) وملخص ما ذكروه ان عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكر مع تساوى سطح الماء بحيث تصدق عليه الوحدة عرفا ، أو باتصاله بمادة هي كر فصاعدا بشرط علوها ، قالوا : ولا يعتبر استواء السطوح في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما تحتها لصدق المادة الكثيرة مع الاختلاف. نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادة بعينها (منه رحمه‌الله).

(2) في الصحيفة 231.

(3) في الصحيفة 230.

(4 و 5) المتقدم في الصحيفة 229.


لا تسرى إلى الأعلى مطلقا. ثم ألزمهم أن ينجس كل ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وان كان نهرا عظيما. وهو معلوم البطلان.

أقول : الظاهر ان مقصود المستدل أن تقوي الأعلى بالأسفل لا دليل عليه إلا الاندراج تحت روايات الكر. والاندراج ليس بمسلم ، وإلا لزم تنجس الأعلى بنجاسة الأسفل (1) وحينئذ ففيه دلالة على ان حكمه بتقوي الأسفل بالأعلى ليس مبنيا على الاندراج المذكور. وبذلك يتضح ان الجواب المذكور غير متوجه. إلا انه قد أورد على ما ذكروه من تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس (2) بأنه ان كان مبنيا على الاندراج تحت العموم ، فالمستفاد من روايات الكر تساوي اجزائه في حكمي الطهارة والنجاسة ، فاجزاؤه متقوية بعضها ببعض (3) وان كان مبنيا على إطلاق المادة في باب البئر ، وكذا المادة الواردة في حياض الحمام ، وانها يحصل بها التقوى وان كانت أقل من كر ، فكذلك الأعلى ههنا ، فإنه مادة لما سفل عنه ، فيتقوى الأسفل به دون العكس ، ففيه (أولا) ـ انه لا حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المجموع. و (ثانيا) ـ انه مناف لما مر من اعتبارهم الكرية في مادة الحياض. وان كان مبنيا على تقوي اجزاء الماء الساكن بعضها ببعض ، فيلزمه ـ من باب مفهوم الموافقة ـ تقوي الأسفل بالأعلى دون العكس ، فيتوجه عليه ان العلة في تقوي اجزاء الساكن بعضها ببعض هو توزع النجاسة وانتشارها على اجزائه لسكونها وتقاربها ، فتكون النجاسة مضمحلة فيه. والنجاسة

__________________

(1) لأن الأعلى والأسفل متى كانا واحدا المقتضى دخولهما تحت عموم روايات الكر فلو نقصا جميعا عن الكر لزم تنجس الأعلى بنجاسة الأسفل تحقيقا للوحدة ، كما ان الماء القليل المجتمع إذا لاقته نجاسة نجس جميعه ، وهو باطل قطعا ، والا لتعذر التطهير بالصب من الأواني القلية الماء كالإبريق ونحوه (منه رحمه‌الله).

(2) هذا الإيراد للمحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على المدارك (منه قدس‌سره).

(3) فلا ينجس بعض منه دون بعض (منه رحمه‌الله).


الواقعة في الصورة المفروضة لم تتوزع على المجموع كما في الساكن ، فلا يتم كون تقوي الأسفل بالأعلى من باب الموافقة. وان كان مبنيا على وجه آخر فلا بد من إيراده لننظر في صحته وفساده.

أقول : بل الظاهر انه مبني على ما ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم (1) من ان الوجه فيه ان المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادة له ، ولا ريب ان تأثير المادة إنما هو باعتبار إفادتها الاتصال بالكثرة ، وليس الزائد منها على الكر بمعتبر في نظر الشارع ، فيرجع حاصل المقتضي الى كونه متصلا بالكر على جهة جريانه اليه واستيلائه عليه ، وهذا المعنى بعينه موجود فيما نحن فيه ، فيجب ان يحصل مقتضاه. ويؤيد ذلك حكم ماء الحمام ، فانا لا نعلم من الأصحاب مخالفا في عدم انفعاله بالملاقاة مع بلوغ المادة كرا ، والاخبار الواردة فيه شاهدة بذلك ايضا ، وليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل في ذلك. انتهى.

وأنت خبير بما فيه (اما أولا) ـ فلان ما ذكره ـ من ان المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادة له ـ إشارة إلى التعليل الذي تضمنته صحيحة محمد ابن إسماعيل بن بزيع (2) ولا يخفى ما فيه كما تقدم التنبيه عليه في المقالة الرابعة من الفصل الأول (3).

__________________

(1) قال (قدس‌سره) في الكتاب المذكور ـ بعد الكلام في الاستدلال على اعتبار المساواة بما قدمنا نقله عنه في متن الكتاب ـ : «فان قلت هذا الاعتبار يقتضي انفعال غير المستوي مطلقا ، مع ان الذاهبين الى اعتبار المساواة مصرحون بعدم انفعال القليل المتصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى ـ وقد سبق نقله عن البيان والذكرى ـ فما الوجه في ذلك؟ وكيف حكموا بالاتحاد مع علو الكثير ونفوه في عكسه؟ والمقتضى للنفي على ما ذكرت موجود فيهما قلت : لعل الوجه» ثم ساق الكلام كما نقلناه في متن الكتاب (منه رحمه‌الله).

(2) المتقدمة في الصحيفة 188.

(3) في الصحيفة 189 السطر 7.


و (اما ثانيا) ـ فلان قوله : «ليس لخصوصية الحمام عند التحقيق مدخل» إنما يتم على القول المشهور من اشتراط الكرية في المادة. واما على القول بعدم الاشتراط كما هو الظاهر من الاخبار على ما حققناه سابقا (1) يكون الحكم مقصورا حينئذ على موضع النص.

و (اما ثالثا) ـ فلأن العلامة مع اشتراطه في المنتهى والتذكرة وغيرهما كرية المادة توقف في الكتابين المذكورين في إلحاق الحوض الصغير ذي المادة في غير الحمام به ، وبذلك يظهر ان ما ذكره أولئك الفضلاء من الفرق (2) لا يخلو من المناقشة.

ثم لا يخفى عليك ايضا انه بعد تسليم عموم انفعال القليل بالملاقاة واشتراط التساوي في اجزاء الكر فإخراج هذا الفرد من البين تحكم محض. وتعليل صاحب المعالم قد عرفت ما فيه. اللهم إلا ان يخص منع تقوي الأعلى بالأسفل بما إذا كان الأعلى متسنما على الأسفل بميزاب ونحوه ، فان ثبوت الاتحاد وشمول العموم في المسألة لمثل ذلك في غاية البعد.

واما الإلزام الذي ذكره في المدارك ـ بنجاسة كل ما كان تحت النجاسة من الماء المنحدر إذا لم يكن فوقه كر وان كان نهرا عظيما (3) وهو معلوم البطلان ـ فيمكن

__________________

(1) في الموضع الثالث في الصحيفة 204.

(2) بين الأعلى والأسفل فيتقوى الأسفل بالأعلى دون العكس (منه رحمه‌الله).

(3) لأن الأعلى متى كان أقل من كر لم يفد ما تحته تقوية فينجس الموضع ، وما تحته ايضا لكونه أسفل لا يفيده تقوية ، لعدم تقوى الأعلى بالأسفل كما هو مفروض. ويلزم أيضا نجاسة ما تحته ، لعدم تقوية ما سفل عنه ، فينجس ما سفل بالسراية شيئا فشيئا ، لعدم تقوى شي‌ء من تلك الأجزاء المتنجسة بالسراية بما انحدر عنه ، فلو لم يتقو الأعلى بالأسفل لزم نجاسة جميع ما جاور النجاسة لا المنتهى السفلى وان كان نهرا عظيما ، مع حكمهم بعدم النجاسة (منه رحمه‌الله).


الجواب عنه بما ذكره في المعالم من التزام عدم انفعال ما بعد عن موضع الملاقاة بمجردها قال : «لعدم الدليل عليه ، إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب ، وليس مجرد الاتصال بالنجس موجبا للانفعال في نظر الشارع ، والا لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل ، لصدق الاتصال حينئذ ، وهو منفي قطعا ، وإذا لم يكن الاتصال بمجرده موجبا لسريان الانفعال فلا بد في الحكم بنجاسة البعيد من دليل. نعم جريان الماء النجس يقتضي نجاسة ما يصل اليه ، فإذا استوعب الاجزاء المتجددة ينجسها وان كثرت. ولا بعد في ذلك ، فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل ، فكما انه ينجس بملاقاة النجاسة له وان قلت وكان مجموعه في نهاية الكثرة فكذا هذه» انتهى. وأورد عليه (1) انه ـ بعد تسليم انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مع الاجتماع والتقارب ـ لا شك انه يلزم نجاسة جميع ماء النهر المذكور ، لأن النجاسة ملاقية لبعضه وذلك البعض ملاق للبعض الآخر القريب منه وهكذا ، فينجس الجميع إذ الظاهر ان القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لا يفرقون بين النجاسة والمتنجس. وما ذكره من ان مجرد الاتصال بالنجس لو كان موجبا للانفعال في نظر الشارع لنجس الأعلى بنجاسة الأسفل ، ففيه انه مخصص عن العموم بالإجماع ، فإلحاق ما عداه به مما لا دليل عليه بل قياس لا نقول به. على ان الفارق ايضا موجود كما ذكره بعض من عدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى.

وأنت خبير بان المفهوم من كلام المجيب المذكور اختصاص كل جزء من اجزاء الماء الجاري لا عن نبع بحكم نفسه ، وانه في حكم المياه القليلة المنفصل بعضها عن بعض لهرب السابق عن اللاحق ، كما ينادي به قوله : «فإنها لعدم استواء سطحها بمنزلة المنفصل» وحينئذ فلا تقوي بين اجزائه ولا سراية ، ومجرد الاتصال لا يوجب

__________________

(1) المورد هو الفاضل الخوانساري (رحمه‌الله) في شرح الدروس (منه رحمه‌الله).


السراية ، وإلا لسرت النجاسة من الأسفل إلى الأعلى ، لحصول الاتصال. ودعوى الإجماع على التخصيص مجازفة في أمثال هذه المقامات كما لا يخفى على من تتبع موارد الإجماعات. وعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى كما ذكره المورد مؤيد لما ذكرنا من كون كل سابق بالنسبة الى لاحقه بمنزلة المنفصل عنه ، ومن هنا ذهب المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) الى ان الماء الجاري لا عن مادة غير ملحق بالراكد مطلقا كما ذكره جمع من الأصحاب ، بل يلحق في بعض أحكامه بالجاري وفي بعض آخر بالراكد ، قال (قدس‌سره) بعد كلام في المقام ، وملخصه تقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا وعدم السراية أصلا ، لعدم الدلالة عليها كما سبق نقلا عن المحقق المذكور : «وعلى هذا الاحتمال حكم الجاري لا عن نبع حكم الجاري عن نبع في تقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا. وحكم الماء الساكن القليل في نجاسة أول جزء منه بملاقاة النجاسة وان كان المجموع كرا فصاعدا. ومما يؤيد الاحتمال الذي ذكرناه ما روي عن الصادق (عليه‌السلام) : «ماء الحمام بمنزلة الجاري» (1). وما روي عنهم (عليهم‌السلام) ايضا : «ماء الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا» (2). وجه التأييد عدم تقييد الجاري والنهر بالنابع ، وعدم تقييد ماء الحمام بكرية مادته أو كرية المجموع. ومما يؤيده أيضا إطلاق المادة الواردة في ماء البئر والواردة في ماء الحمام. والله اعلم» انتهى. وللمناقشة في بعض ما ذكره (قدس‌سره) مجال.

هذا. وينبغي ان يعلم ان الحكم بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر وعدم انفعال الماء بعروض النجاسة ـ سواء عرضت للأعلى أو الأسفل ـ إنما هو فيما إذا كان عروض النجاسة بعد الاتصال. اما قبله فالظاهر انه لا شك في النجاسة إذا كان ما لاقته أقل

__________________

(1 و 2) المتقدم في الصحيفة 203 السطر 4.


من كر عند من يقول بنجاسة القليل بالملاقاة ، فالماء القليل الواقف المتصل بالكثير أو الجاري إن عرضت له النجاسة قبل الاتصال تنجس بها ، ويطهر بالاتصال بالكثير على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال وإلا فبالممازجة ، وبعد الاتصال لا ينجس. وهكذا ماء المطر الجاري في الطرق بالقياس الى حال التقاطر وبعده. ومثل ذلك عندهم ايضا ما لو صب الماء من آنية حتى اتصل بالكثير أو الجاري ، فإنه إن عرضت له النجاسة بعد الاتصال لم تؤثر فيه ، وان عرضت له قبل الاتصال ينجس الماء والإناء ولا يطهر بمجرد اتصاله بعد ذلك. ويأتي على مذهب من منع تقوي الأعلى بالأسفل ثبوت النجاسة في الحالين.

وقال في كتاب الروض : «وعلى ما يظهر من إطلاق النص والفتوى يلزم طهارة الماء النجس عند صب بعضه في الكثير بحيث يطهر الإناء المماس للماء النجس وما فيه من الماء عند وصول أوله إلى الكثير. وهو بعيد بل هو على طرف النقيض لتفصيل المتأخرين. والمسألة من المشكلات ، ولم نقف فيها على ما يزيل عنها الالتباس. والله اعلم» انتهى.

والعجب منه (قدس‌سره) انه ـ قبل هذا الكلام بعد نقل جملة من كلمات القوم ـ قال : «والذي يظهر لي في المسألة ودل عليه إطلاق النص ان الماء متى كان قدر كر متصلا ثم عرضت له النجاسة لم تؤثر فيه إلا مع التغير سواء كان متساوي السطوح أم مختلفها ، وان كان أقل من كر نجس الماء بالملاقاة مع تساوي سطوحه والا الأسفل خاصة. ثم ان اتصل بالكثير بعد الحكم بنجاسته اعتبر في الحكم بطهره مساواة سطوحه لسطوح الكثير أو علو الكثير عليه ، فلو كان النجس أعلى لم يطهر. والفرق بين الموضعين ان المتنجس يشترط ورود المطهر عليه ولا يكفي وروده على المطهر خلافا للمرتضى (رحمه‌الله) فإذا كان سطحه أعلى من سطح الكثير لم يكن


الكثير واردا عليه» انتهى. ولا يخفى ما بينهما من التدافع.

(المسألة الثالثة) ـ إذا تغير بعض الكثير فلا يخلو اما ان يكون الباقي كرا أم لا ، وعلى كلا التقديرين اما ان يكون ساكنا أو جاريا ، فههنا صور أربع :

(الاولى) ـ ان يكون الباقي كرا والماء ساكنا ، ولا خلاف هنا في اختصاص النجاسة بالموضع المتغير وطهارة الباقي.

(الثانية) ـ كون الباقي أقل من كر مع كون الماء ساكنا ، ولا خلاف في نجاسته عند من قال بنجاسة القليل بالملاقاة.

(الثالثة) ـ كون الباقي كرا والماء جاريا ، فلا يخلوا اما ان تقطع النجاسة عمود الماء أم لا ، وعلى التقديرين فاما ان يكون الأعلى كرا أم لا ، وعلى التقادير الأربعة فاما ان يكون الأسفل عن النجاسة كرا أيضا أم لا.

وتفصيل ذلك. ان قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل كرا ، فلا اشكال ولا خلاف في اختصاص التنجيس بالمتغير حال الملاقاة. الا انه يأتي على ما ذكره المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا نقله عنه (1) نجاسة ما سفل عن النجاسة بعد مرور ذلك الماء على الاجزاء السافلة.

وان قطعت النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر ، فظاهر كلامهم انه لا خلاف في نجاسة الأسفل عند من قال بالنجاسة بمجرد الملاقاة ، لكونه أقل من كر ، ويظهر من كلام المحدث الأمين (قدس‌سره) العدم ، لعدم استواء سطح الماء ، فاجزاؤه في حكم الماء المنفصل بعضه عن بعض ، لهرب السابق عن اللاحق ، إلا بعد السيلان على الاجزاء السافلة كما ذكروه. واما الأعلى فظاهر كلامهم الاتفاق على عدم نجاسته ، لعدم تعقل سريان النجاسة إلى الأعلى.

__________________

(1) في الصحيفة 239.


ومن هذا الكلام يعلم حكم صورتي ما لو قطعت النجاسة عمود الماء وكان الأعلى كرا والأسفل أقل من كر وبالعكس.

وان لم تقطع النجاسة عمود الماء وكان كل من الأعلى والأسفل يبلغ الكر ، فلا اشكال ولا خلاف في اختصاص التنجيس بالمتغير إلا بعد سيلان ذلك الماء على الاجزاء السافلة بناء على ما ذكره ذلك المحقق المشار اليه.

وان كان كذلك (1) وكان كل من الأعلى والأسفل أقل من كر لكن المجموع يبلغ الكر ، فعلى تقدير القول بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر لا إشكال في الطهارة ، وعلى تقدير القول بتقوي الأسفل بالأعلى دون العكس يلزم نجاسة الأسفل ، لأن الأعلى لقلته لا يقوي ما سفل عنه فيلزم نجاسته لقلته ، وبذلك صرح في المعالم (2).

وان كان كذلك ايضا وكان الأعلى قدر كر والأسفل أقل من كر ، فلا خلاف في تقوي الأسفل به وطهارة الجميع واختصاص التنجيس بموضع التغير.

وبالعكس فالحكم كذلك أيضا ، لأن الأعلى لا تسري إليه النجاسة إجماعا ، والأسفل قد عصم نفسه عن الانفعال بالكرية ، فيختص التنجيس بموضع التغير.

(الرابعة) ـ كون الباقي بعد التغير أقل من كر والماء جاريا وحكمها يعلم بالتأمل في تلك الشقوق ، الا انه يظهر من كلام المحدث الأمين (قدس‌سره) كما

__________________

(1) اى لم تقطع النجاسة عمود الماء (منه رحمه‌الله).

(2) قال (قدس‌سره) ـ بعد ان صرح بان القليل المتصل بمادة هي كر فصاعدا في حكم الكر المتساوي السطوح ، وانه لا يعتبر استواء في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما تحتها ـ ما لفظه : «نعم يعتبر الاستواء في عدم انفعال المادة بعينها ، فلو لاقتها نجاسة وهي غير مستوية ، نجس موضع الملاقاة ، ويلزم منه نجاسة ما تحتها ايضا ما لم يكن فيه كر مجتمع» ثم أشار الى الإشكال المورد في المقام وأجاب عنه بما قدمنا نقله عنه (منه رحمه‌الله).


قدمنا نقله (1) اختصاص التنجيس بموضع النجاسة ، لمنعه السراية وحكمه بتقوي الأسفل بالأعلى وان لم يكن المجموع كرا فيختص التنجيس بموضع التغير.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في كتاب الروض قد أورد ههنا تناقضا على من منع من تقوي الأعلى بالأسفل بأنهم قد حكموا ـ في صورة ما إذا تغير بعض الجاري لا عن نبع بالنجاسة ـ بعدم نجاسة الأعلى مطلقا وعدم نجاسة الأسفل إذا بلغ الباقي كرا الا ان تستوعب النجاسة عمود الماء فيشترط كرية الأسفل ، وهذا القول يستلزم تقوي الأعلى بالأسفل وإلا لزم نجاسة الأسفل مطلقا إلا إذا كان الأعلى كرا ولم يستوعب التغير عمود الماء ، لان الجزء الأعلى الملاقي للنجاسة على هذا يصير نجسا والفرض انه لا يتقوى بما تحته فينجس حينئذ وينجس ما تحته لذلك ايضا وهكذا.

ووجه الجواب عن ذلك ما قدمنا نقله عن المحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ويمكن الجواب ايضا باحتمال قصر الحكم المذكور على الواقف المتصل بالكثير أو الجاري دون الجاري نفسه ، فكأنهم يشترطون في التقوى وحدة الماءين في العرف أو يكون القوي أعلى ، فالماء الجاري في العرف عندهم ماء واحد وان كان بعضه أعلى وبعضه أسفل. واما الماء الواقف المتصل بالكثير أو الجاري فمتى كان أسفل ينتفي فيه الأمران فلا يتقوى بهما.

ويمكن الجواب بما أشرنا إليه آنفا من تخصيص الحكم المذكور بما إذا لم تكن اجزاؤه منحدرة بل يكون العلو بطريق التسنم كالميزاب ونحوه.

(المسألة الرابعة) ـ طريق تطهير الماء المذكور إذا تغير بالنجاسة ان يقال : لا يخلو اما ان يتغير جميعه أو بعضه ، وعلى الثاني فاما ان يبقى قدر الكر أم لا ، فههنا أقسام ثلاثة :

__________________

(1) في الصحيفة 240.


(الأول) ـ ان يتغير بعضه مع كون الباقي كرا ، والظاهر انه لا خلاف في طهارته بتموجه بعضه في بعض مع زوال التغير بذلك أو قبله. هذا على القول باشتراط الامتزاج. واما على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال فيكفي مجرد زوال التغير.

(الثاني والثالث) ـ ان يكون الباقي أقل من كر أو يتغير الجميع ، وقد ذكر جملة من الأصحاب ان تطهيره بإلقاء كر عليه دفعة ، فان زال التغير وإلا فكر آخر وهكذا حتى يزول التغير ، وانه لا يطهر بزوال التغير من قبل نفسه ولا بتصفيق الرياح ولا بوقوع أجسام طاهرة تزيل عنه التغير. وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع :

(الأول) ـ ان ما ذكروه من إلقاء كر فكر حتى يزول التغير إنما يلزم لو لم يزل التغير اما من قبل نفسه أو بعلاج أو بماء قليل وإلا أجزأ كر واحد ، وكذا إنما يلزم لو تغير الكر الملقى على وجه لم يبق من المجموع قدر كر وإلا كان حكمه ما تقدم في القسم الأول.

(الثاني) ـ انه لا يختص التطهير بما ذكروه ، بل يطهر بالمطر ايضا على التفصيل المتقدم ، وبالجاري عن نبع أولا عن نبع مع كريته ، لكن مع زوال التغير بكل من هذه الأشياء أو قبله ، واشتراط علو الجاري مطلقا أو مساواته أو نبع الماء من تحته بقوة وفوران بحيث يستهلك الماء النجس لا بمثل الترشح. واعتبار علو الجاري هنا أو مساواته متفق عليه حتى من القائلين بتقوي كل من الأعلى والأسفل بالآخر ، لأنهم يخصون ذلك ـ كما عرفت مما قدمنا نقله عن شيخنا الشهيد الثاني (1) ـ بملاقاة النجاسة بعد الاتصال ، ووجه الفرق بين المقامين قد تقدم في كلامه. لكن ينقدح على الفرق المذكور الاشكال بتساوي السطوح ، إذ لا يتحقق فيه ورود الطاهر حينئذ

__________________

(1) في الصحيفة 241.


مع اتفاقهم على القول بالطهارة كما عرفت. وأجاب في الروض بأن جماعة من الأصحاب منهم : المصنف (رحمه‌الله) في التذكرة والشهيد في الذكرى شرطوا في طهر المتنجس في هذه الحالة امتزاج الطاهر به ولم يكتفوا بمجرد المماسة ، وهذا الشرط في الحقيقة يرجع الى علو الجاري ، إذ لا يتحقق الامتزاج بدونه ، وحينئذ يتحقق الشرط وهو ورود الطاهر على النجس ويزول الاشكال ، وهذا الشرط حسن في موضعه. انتهى.

ولا يخفى عليك ان التزامه اشتراط الامتزاج في الصورة المذكورة لضرورة دفع الاشكال وإلا فهو خلاف مقتضى مذهبه كما سيأتي من الاكتفاء بمجرد الاتصال ، ويشير الى ذلك قوله أخيرا : «وهذا الشرط حسن في موضعه».

(الثالث) ـ ما ذكروا من اعتبار الدفعة في الكر الملقى هو أحد القولين في المسألة ، وسيأتي تحقيق القول في ذلك في الكلام في بيان تطهير الماء القليل ان شاء الله تعالى.

(الرابع) ـ ما ذكروا ـ من عدم طهره بمجرد زوال التغير من قبل نفسه الى آخر ما تقدم ـ هو أشهر القولين في المسألة وأظهرهما.

وقيل بطهره بمجرد ذلك ، وهو منقول عن الفاضل يحيى بن سعيد في الجامع ، واحتمله العلامة في النهاية.

وصرح جمع من الأصحاب بأن القول بطهارة المتغير بزوال التغير لازم لكل من قال بالطهارة بالإتمام.

وتنظر فيه بعض أفاضل متأخري المتأخرين بما حاصله : ان القول بالطهارة بالإتمام ، إما لخبر «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (1). اي يطهره ، أو لغيره

__________________

(1) هذا مرسل السيد والشيخ (قدس‌سرهما) وسيأتي التعرض منه (قده) له في تطهير القليل النجس بإتمامه كرا. وقال ابن الأثير في النهاية في مادة كر : في حديث ابن سيرين «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر». وفي رواية «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا».


من الوجوه المذكورة في أدلتهم. فإن كان المستند غير الخبر المذكور فوجه عدم اللزوم ظاهر ، وان كان الخبر المذكور فكذلك أيضا ، لأنه وان دل بعمومه على ان الماء إذا بلغ كرا لم يظهر فيه خبث ، الا ان ذلك العموم مخصوص نصا وإجماعا بالخبث الذي لا يكون مغيرا للماء ، والا لكان منجسا للماء البتة ، فإذا ثبتت النجاسة بالتغير كان حكمها مستصحبا الى ان يعلم المزيل كما ذكره القائلون بعدم الطهارة بالإتمام ، ولو قيل : ان القدر الثابت من المخصص هو التخصيص بالمتغير ما دام متغيرا ، واما ما بعد زوال التغير فهو داخل في العموم. لقيل : ان هذا بعينه يرد على من تمسك بالرواية المشهورة (1) وهي «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». كما لا يخفى (2).

حجة القول المشهور ان النجاسة وزوالها حكمان شرعيان متوقفان على النص من الشارع ، فكما حكم بالنجاسة بالتغير لثبوت ذلك عنه. فلا يحكم بالطهارة بالزوال الا مع ثبوت ذلك عنه ايضا ، والا فيكون حكم النجاسة مستصحبا الى ان تحصل الطهارة بما جعله مطهرا. وليس الاستصحاب هنا من قبيل الاستصحاب المتنازع فيه بل مرجعه هنا الى العمل بعموم الدليل.

أقول : وتحقيق القول في الاستصحاب وجملة اقسامه قد تقدم في المقدمة الثالثة (3).

__________________

وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة (519) الكر بالضم مكيال لأهل العراق ، ومنه : حديث ابن سيرين «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا».

(1) تقدم الكلام فيها في التعليقة 3 في الصحيفة 191.

(2) وذلك لأنها مخصوصة بغير المتغير نصا وإجماعا ، فالكر المتغير كلا أو بعضا نجس ، وبعد زوال التغير بمقتضى الإيراد المذكور يندرج في العموم ، مع انهم لا يقولون به بل يستصحبون حكم النجاسة الى ان تحصل الطهارة بأحد المطهرات الشرعية (منه رحمه‌الله).

(3) في الصحيفة 51.


وظاهر كلام المستدل هنا ان الاستصحاب المذكور من قبيل القسم الثالث المذكور هناك الذي هو عبارة عن إطلاق النص ، دون القسم الرابع الذي هو محل النزاع ، وهذا الموضع أحد المواضع التي أشرنا هناك الى الشك والتردد في اندراجها تحت القسم الثالث أو الرابع من تلك الأقسام.

وتحقيق القول في ذلك ان يقال : إذا تعلق حكم بذات لأجل صفة ـ كالماء المتغير بالنجاسة والماء المسخن بالشمس والحائض أي ذات دم الحيض ـ فهل يحكم ـ بمجرد زوال التغير وزوال السخونة وانقطاع الدم ـ بخلاف الأحكام السابقة ، أو يحكم بإجراء الأحكام السابقة إلى ظهور نص جديد؟ إشكال ، ينشأ من ان الحكم في هذه النصوص ـ الواردة في هذه الأفراد المعدودة ونحوها ـ محتمل لقصره على زمان وجود الوصف ، بناء على ان التعليق على الوصف مشعر بالعلية. وان المحكوم عليه هو العنوان لا الفرد وقد انتفى ، وبانتفائه ينتفي الحكم ـ ومحتمل للإطلاق ، بناء على ان المحكوم عليه انما هو الفرد لا العنوان ، والعنوان إنما جعل آلة لملاحظة الفرد ، فمورد الحكم حقيقة هو الفرد. فعلى الاحتمال الأول يكون من القسم الرابع ، فان تغير الماء هنا بالنجاسة نظير فقد الماء في مسألة المتيمم الداخل في الصلاة ثم يجد الماء ، وكما ان وجود الماء هناك حالة أخرى مغايرة للأولى ، فتعلق النص بالأولى لا يوجب استصحابه في الثانية لمكان المخالفة ، فكذا هنا زوال الوصف حالة ثانية مغايرة للأولى لا يتناولها النص المتعلق بالأولى. وعلى الاحتمال الثاني يكون من قبيل القسم الثالث وهو الذي ذكره السيد (قدس‌سره) في المدارك ، واليه جنح ايضا المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على المدارك. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال. والله سبحانه العالم بحقيقة الحال.

(المسألة الخامسة) ـ لو جمد الكثير ثم أصابته نجاسة بعد الجمود فالظاهر ـ كما استظهره بعض المحققين ـ النجاسة في خصوص موضع الملاقاة كسائر الجامدات ،


لخروجه بالجمود عن اسم الماء عرفا ولغة ، ويطهر بإلقاء النجاسة وما يكتنفها ان كان لها عين والا فالموضع الملاقي لها ، ويطهر ايضا باتصال الكثير به بعد زوال العين.

ونقل عن العلامة في المنتهى انه قال : «لو لاقت النجاسة ما زاد على الكر من الماء الجامد فالأقرب عدم التنجيس ما لم تغيره» واحتج لذلك بان الجمود لم يخرجه عن حقيقته بل هو مؤكد لثبوتها ، فان الآثار الصادرة عن الحقيقة كلما قويت كانت آكد في ثبوتها ، والبرودة من معلولات طبيعة الماء وهي تقتضي الجمود ، وإذا لم يكن ذلك مخرجا له عن الحقيقة كان داخلا في عموم قوله (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (1). وفيه ما عرفت من ان الجمود يخرجه عن الاسم الذي هو المدار في الحفظ عن انفعال القليل لغة وعرفا فيزول بزواله. ولعله (قدس‌سره) قاس ذلك على مثل الدبس والدهن ونحوهما ، فإنها بالجمود لا تخرج عن الحقيقة ، إلا انه قياس مع الفارق ، فان الظاهر في الماء الجامد ان أحدا لا يطلق عليه اسم الماء ، والموجود في الأخبار إطلاق اسم الثلج عليه. وبالجملة فإنه لا ريب في ضعفه. واستشكل الحكم في التحرير ، ونقل عنه في النهاية القول بالمشهور.

(المسألة السادسة) ـ في القدر الذي لا ينفعل بالملاقاة من الراكد ، وتنقيح الكلام فيه يستدعي بسطه في مواضع :

(الموضع الأول) ـ اعلم انه قد ورد بتقدير ما لا ينفعل من الماء روايات بغير لفظ الكر لا يخلو ظاهر تقديراتها من تدافع.

(فمنها) ـ رواية عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شي‌ء ، والقلتان جرتان».

و (منها) ـ رواية عبد الله بن المغيرة أيضا عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


السلام) (1) قال : «الكر من الماء نحو حبي هذا. وأشار الى حب من تلك الحباب التي تكون بالمدينة».

و (منها) ـ رواية زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له : راوية من ماء سقطت فيها فأرة أو جرذ أو صعوة ميتة؟ قال : إذا تفسخ فيها فلا تشرب من مائها ولا تتوضأ وصبها ، وان كان غير متفسخ فاشرب منه وتوضأ ، واطرح الميتة إذا أخرجتها طرية ، وكذا الجرة وحب الماء والقربة وأشباه ذلك من أوعية الماء».

هذه جملة ما وقفت عليه من ذلك ، وهي مشتملة على التحديد بالقلتين تارة وبكونه نحو ذلك الحب المشار إليه أخرى ، وبكونه قدر راوية أو حب أو قربة أو شبه ذلك ، فلا بد من بيان انطباق مصاديق هذه الألفاظ على ما يصدق عليه الكر الذي بنى عليه الأصحاب وجعلوه المعيار في هذا الباب ، ليزول التنافي من البين وتجتمع الأدلة من الطرفين. ويكون ذلك ضابطا كليا وقانونا جليا :

فنقول : اما الرواية الأولى فحملها الشيخ (رحمه‌الله) في الاستبصار (3) ـ بعد الطعن فيها أولا بالإرسال ـ على التقية ، قال : «لانه مذهب كثير من العامة» ثم قال : «ويحتمل ان يكون مقدار القلتين مقدار الكر ، لان ذلك ليس بمنكر لأن القلة هي الجرة الكبيرة في اللغة» انتهى.

أقول : ويؤيد الحمل على التقية ان المدار عندهم على القلتين كما ان المدار عندنا على الكر ، كما ورد في الخبر المتفق على صحته عندهم (4) : «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا».

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(3) في الصحيفة 7 من طبع النجف.

(4) قال ابن تيمية في الجزء الأول من المنتقى في الصحيفة 24 بعد ان ذكر هذا


وحمل أيضا في الاستبصار الرواية الثانية على ان الحب لا يمتنع ان يسع من الماء مقدار الكر ، وعلى ذلك حمل الجرة والراوية والحب والقربة.

وجملة متأخري الأصحاب (رضوان الله عليهم) أعرضوا عن النظر في هذه الاخبار وأطبقوا على اخبار الكر ، والظاهر ان ذلك اما بناء على ما اعتمدوه من الاصطلاح في تقسيم الحديث ، وان هذه الروايات ضعيفة الأسانيد ، فلا تبلغ قوة المعارضة لتلك الأخبار الصحيحة أو الضعيفة المجبورة عندهم بعمل الطائفة ، أو انها عندهم غير منافية بناء ما ذكره الشيخ (قدس‌سره).

__________________

الحديث : رواه الخمسة. وهم باصطلاحه ـ كما ذكر ذلك في أول الكتاب ـ : احمد بن حنبل في مسنده وأبو عيسى الترمذي في جامعه. وأبو عبد الرحمن النسائي في كتاب السنن. وأبو داود السجستاني في كتاب السنن. وابن ماجة القزويني في كتاب السنن. الا ان النص الذي ذكره : «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وقال : وفي لفظ ابن ماجة ورواية لأحمد «لم ينجسه شي‌ء». وفي كنز العمال في الجزء الخامس في الصحيفة 95 «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث». وروى البيهقي في الجزء الأول من سننه في الصحيفة 260 و 261 الحديث بالنص المتقدم وفي الصحيفة 261 منه ايضا بالنص المذكور في الكتاب. وفي مصابيح السنة للغوى في الجزء الأول في الصحيفة 33 «إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسا».

وقد ورد الكر أيضا في رواياتهم ، ويحكى عن بعضهم انه هو المعيار في هذا الباب ، قال الجصاص في أحكام القرآن في الجزء الثالث في الصحيفة 419 في قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» بعد ان نقل المذاهب في الماء الكثير : «وقال مسروق والنخعي وابن سيرين : إذا كان الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». وقال ابن الأثير في النهاية في مادة كر : في حديث ابن سيرين «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر». وفي رواية «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا». وفي تاج العروس في الجزء الثالث في الصحيفة 519 في مادة كر : الكر بالضم مكيال لأهل العراق ومنه : حديث ابن سيرين «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل نجسا». وفي رواية «إذا كان الماء قدر كر لم يحمل القذر» ..


هذا. والذي وقفت عليه من كلام أهل اللغة في ذلك ، اما بالنسبة إلى القلتين فقال في كتاب المصباح المنير : «والقلة إناء للعرب كالجرة الكبيرة شبه الحب ، قال الأزهري : ورأيت القلة من قلال هجر والأحساء تسع مل‌ء مزادة ، والمزادة شطر الراوية ، وكأنها سميت قلة لأن الرجل القوي يقلها اى يحملها. وعن ابن جريح قال : أخبرني من رأى قلال هجر : ان القلة تسع فرقا ، قال عبد الرزاق : والفرق يسع أربعة أصواع بصاع النبي (ص) ، الى ان قال : ويجوز ان يعتبر قلال هجر البحرين ، فان ذلك أقرب عرف لهم ، ويقال : كل قلة تسع قربتين» انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين «القلة بضم القاف وتشديد اللام إناء للعرب كالجرة الكبيرة تسع قربتين أو أكثر ، ومنه قلال هجر ، وهي شبه الحباب» وقال في القاموس : «القلة الحب العظيم أو الجرة العظيمة» انتهى. وقال المحقق في المعتبر : «ان أبا علي ابن الجنيد قال في المختصر : الكر قلتان مبلغ وزنه الف ومائتا رطل ، وقال ابن دريد : القلة في الحديث من قلال هجر وهي عظيمة ، وزعموا أن الواحدة تسع خمس قرب» انتهى. ونقل العلامة في المنتهى ايضا عن ابن دريد انه قال : «القلة من هجر عظيمة تسع خمس قرب» انتهى.

وأنت خبير بان المستفاد من كلام هؤلاء ان القلة والجرة والحب متقاربة المقادير وان كلا منها مما يختلف صغرا وكبرا ، وان القلة منها : ما تسع قربتين ومنها : ما تسع خمس قرب ، فلا بعد حينئذ في حمل تلك الظروف المروية في الاخبار على ما يسع الكر.

واما الحب فقال في المصباح : «والحب بالضم الخابية فارسي معرب» وقال في المجمع : «والحب بالضم الجرة الضخمة» وقال في القاموس : «والحب الجرة أو الضخمة منها».

وأنت خبير بان تفسير الحب بالخابية التي تختلف إفرادها صغرا وكبرا ، وتفسير


القلة به ـ وهي كما عرفت سابقا ـ يعطي ايضا انه مما يختلف مقاديره ، فلا يمتنع ان يكون ذلك الحب المشار اليه من الحباب الكبار التي تسع كرا من ماء.

ويؤيد ذلك صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن حب ماء فيه الف رطل وقع فيه أوقية بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال : لا يصلح». وحينئذ فلا بعد في الحمل على ذلك ، ومثل ذلك الجرة والقربة ، فإنها مما يتفاوت أفرادها أيضا صغرا وكبرا.

واما الرواية فهي في الأصل تقال على الدابة التي يستقى عليها الماء ثم استعملت في المزادة كما يعطيه كلام صاحب المغرب ، أو انها حقيقة فيهما كما يفهم من غيره ، وعلى أيهما فالمراد به في الحديث المزادة ، قال في القاموس : «ولا تكون إلا من جلدين تفأم بثالث بينهما لتتسع» انتهى. وقال في كتاب مجمع البحرين : «المزادة الراوية ، وسميت ذلك لأنها يزاد فيها جلد آخر من غيرها ، ولهذا أنها أكبر من القربة» انتهى. ومتى كان كذلك فبلوغها الكر لا خفاء فيه. ومع المناقشة في ذلك فالحمل على التقية التي هي الأصل في اختلاف الاخبار عندنا ـ كما تقدم بيانه واشتد بنيانه في المقدمة الاولى من مقدمات الكتاب ـ وان لم يكن بمضمونها قائل من العامة كما علمته مبرهنا. واخبار الكر معتضدة بعمل الطائفة عليها قديما وحديثا فهي مجمع عليها ، ومخالفة للعامة قطعا (2) فيتعين القول بها. والله سبحانه وأولياؤه اعلم.

(الموضع الثاني) ـ للأصحاب (رضوان الله عليهم) في معرفة الكر طريقان ، وبكل منهما وردت الاخبار ، وان كان على وجه يحتاج الى التطبيق بينها في ذلك المضمار.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يوضح ذلك.


(الطريق الأول) ـ معرفة ذلك بالوزن وهو الف ومائتا رطل ، ولا خلاف بينهم في هذا المقدار.

وعليه تدل صحيحة محمد بن ابي عمير عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «الكر من الماء الذي لا ينجسه شي‌ء ألف ومائتا رطل».

وانما اختلفوا في المراد من الرطل في هذا الخبر ، هل هو الرطل العراقي أو المدني؟ فالمشهور حمله على الأول ، وهو مائة وثلاثون درهما على المشهور ، وقيل انه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، ذكره العلامة في نصاب الغلات من التحرير والمنتهى (2) والظاهر انه غفلة. وقيل بحمله على الثاني وهو مائة وخمسة وتسعون درهما ، وبه قال للمرتضى في المصباح والصدوق في الفقيه.

واستدل على الأول بوجوه : (أحدها) ـ عموم قوله (عليه‌السلام) : «كل ماء طاهر حتى يعلم انه قذر» (3). والعلم لا يتحقق مع الاحتمال.

و (ثانيها) ـ ان الأقل متيقن والزائد مشكوك فيه فيجب نفيه بالأصل.

و (ثالثها) ـ ان ذلك هو المناسب لرواية الأشبار الثلاثة (4).

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) ما ذهب اليه (قدس‌سره) في ذلك منقول عن العامة ومخالف لما صرح به في باقي كتبه ، قال بعض المتأخرين : «والظاهر ان هذا سهو منه ، وكأنه كان (ره) عند وصوله الى هذا الموضع ناظرا في كتبهم وتبعهم فيه ذاهلا عن مخالفة نفسه في المواضع الأخر ومخالفة الأخبار وأقوال سائر الأصحاب» انتهى. وهو في محله (منه رحمه‌الله).

(3) المروي في الوسائل في الباب ـ 1 و 4 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المروية في الباب ـ 9 و 10 ـ ورواية المجالس المروية في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة من الوسائل ، وسيأتي منه (قده) ذكرهما في الطريق الثاني.


و (رابعها) ـ ما فيه من الجمع بين الرواية المذكورة (1) وبين صحيحة محمد ابن مسلم عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «والكر ستمائة رطل». بحملها على أرطال مكة ، إذ لم يذهب أحد إلى حملها على الأرطال العراقية أو المدنية ، والرطل المكي رطلان بالعراقي.

و (خامسها) ان الأصل طهارة الماء خرج ما نقص عن الأرطال العراقية بالإجماع ، فيبقى الباقي.

ويرد على الأول ما تقدم في المقدمة الحادية عشرة (3) في معنى الحديث المذكور ومرت إليه الإشارة أيضا في المقالة الرابعة من الفصل الأول (4) ونزيده هنا بيانا وتأكيدا فنقول : ان الجهل هنا ـ الذي هو عبارة عن عدم العلم بالقذارة الموجب للتمسك بأصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة ـ اما ان يكون متعلقا بإصابة النجاسة للماء ، بمعنى ان المكلف يجهل إصابة النجاسة للماء ولا يعلمها ، واما ان يكون متعلقا بالنجاسة ، بمعنى انه يجهل كون هذا الشي‌ء موجبا للتنجيس ، واما يجهل الحكم بالتنجيس بان يعلم ملاقاة النجاسة لكن يشك في تأثيرها كموضع البحث. ومقتضى الدليل العقلي ـ الدال على امتناع تكليف الغافل عن الخطاب بلزوم تكليف ما لا يطاق ، والنقلي الدال على ذلك كنفي الحرج ـ انما يقوم على العذر بالنسبة إلى القسم الأول دون الأخيرين. واخبار معذورية الجاهل خاصها وعامها إنما تدل على الأول وهو الجاهل المحض ، دون العالم بالنجاسات وإفرادها وما يترتب على الملاقاة من الحكم ، فربما علم بالملاقاة لكن

__________________

(1) وهي صحيحة محمد بن ابى عمير المتقدمة في الصحيفة 254.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(3) في الموضع الأول في الصحيفة 134.

(4) في الصحيفة 190.


جهل الحكم بالتنجيس في بعض الموارد ، للشك في بعض الشروط كموضع البحث ، أو للشك في بعض الأشياء بكونها موجبة للتنجيس كنطفة غير الإنسان مثلا ، بل دلت الاخبار على ان الحكم في الفردين الأخيرين وجوب الفحص والسؤال ، ومع العجز فالوقوف على جادة الاحتياط.

كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج «في رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا بل عليهما ان يجزى كل واحد منهما الصيد. قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط» (1).

ومثلها حسنة بريد الكناسي الواردة فيمن علمت ان عليها العدة ولم تدر كم هي؟

حيث قال (عليه‌السلام) : «إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة ، فتسأل حتى تعلم» (2).

وبالجملة فمورد الخبر المذكور هو العالم بموجبات تنجيس الماء وشرائطه ، فإنه متى جهل إصابة النجاسة حكم بالطهارة الى ان يعلم الإصابة ، وما عدا هذا الفرد ففرضه التوقف في الحكم والاحتياط في العمل.

ومما ذكرنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني أيضا ، فإن الوجه في أصالة البراءة التي اعتمدوا عليها هو ما قدمنا من الدليل العقلي والنقلي. ولزوم الحرج وتكليف الغافل في صورة بلغنا فيها حكم شرعي ولكن اشتبه علينا المراد منه هل هو الزائد أو الناقص؟ ممنوع ، لما عرفت من الروايتين المتقدمتين.

وأورد على الثالث انه وان ناسب رواية الأشبار الثلاثة (3) لكن المشهور

__________________

(1) تقدم الكلام فيها في التعليقة 2 في الصحيفة 73.

(2) تقدم الكلام فيها في التعليقة 4 في الصحيفة 82 والتعليقة 1 في الصحيفة 83.

(3) تقدم بيانها في التعليقة 4 في الصحيفة 254.


على تقدير المساحة ـ إنما هو العمل على رواية أبي بصير (1) البالغ تكسير ما اشتملت عليه الى اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر ، وليس تباعد المدني عنها أبعد من تباعد العراقي.

وعلى الرابع ايضا ما ذكره الشهيد الثاني (رحمه‌الله) من انه يجوز ان يحمل الستمائة على الأرطال المدنية ليوافق قول القميين برواية الأشبار الثلاثة (2) بناء على ان الالف والمائتين العراقية توافق رواية الأشبار بزيادة النصف كما ذكره جماعة : منهم ـ الشهيد في الذكرى. ومن ثم عدل بعض متأخري المتأخرين عن كيفية الاستدلال بالرواية إلى نحو آخر ، فقال : «لو لم يحمل على العراقي لم يمكن الجمع بين روايات الأرطال ، بخلاف ما لو حمل عليه ، فإنها تجتمع على ذلك».

ويرد على الخامس أيضا (أولا) ـ ان الأصل المذكور اما عبارة عن الدليل ، وليس إلا الخبر المتقدم في الوجه الأول وأمثاله. وقد عرفت ما فيه. واما عبارة عن الحالة السابقة أو الحالة الراجحة التي إذا خلي الشي‌ء ونفسه ، وكل منهما قد اخرج عنه معلومية ملاقاة النجاسة ، فاستصحابها في موضع النزاع فرع صحة الاستدلال بالاستصحاب في مثل ذلك ، وقد حققنا لك في المقدمة الثالثة (3) بطلانه وهدمنا أركانه ، فإنه بتجدد الحالة الثانية أعني ملاقاة النجاسة هنا لا يمكن الجزم بالبقاء على الحكم الأول.

و (ثانيا) ـ ايضا ان المستفاد ـ من قوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء

__________________

(1) الآتي ذكرها في الصحيفة 261.

(2) وسيأتي بيانها في الصحيفة 262.

(3) في الصحيفة 51.


كرا لم ينجسه شي‌ء» (1). وأمثاله ـ ان حصول الكرية موجب لعدم الانفعال وانتفاءها موجب للانفعال ، فإذا حصل الشك في الكرية كان حكمها في الانفعال وعدمه مشكوكا فيه ، وتعيين أحدهما يحتاج الى دليل (فان قيل) : الدليل هو العمومات الدالة على طهارة الماء (قلنا) : العمومات على تقدير تسليمها مخصوصة بالخبر المذكور ، والشك إنما حصل في كون محل النزاع فردا للمخصص أم لا ، فتعيين أحدهما يحتاج الى دليل.

احتج الآخرون بان الحمل على المدني يقتضي الاحتياط ، حيث ان الأقل مندرج تحته. وبأنه (عليه‌السلام) كان من أهل المدينة ، فالظاهر انه (عليه‌السلام) أجاب بما هو المعهود عنده.

وأجيب عن الأول بأن الاحتياط ليس بدليل شرعي. مع انه معارض بمثله ، فان المكلف مع تمكنه من الطهارة المائية لا يسوغ له العدول إلى الترابية ، ولا يحكم بنجاسة الماء إلا بدليل شرعي ، فإذا لم يقم على النجاسة فيما نحن فيه دليل كان الاحتياط في استعمال الماء لا في تركه. وعن الثاني بأن المهم في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ، وذلك إنما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاحه ، ولم يعلم ان السائل كان مدنيا ، وغالب الرواة عنه (عليه‌السلام) كانوا من أهل العراق ، فلعل السائل كان منهم حملا على الغالب.

(قلت) : ويؤيد بأن المرسل وهو ابن ابي عمير كان عراقيا ، وبجوابه (عليه‌السلام) ـ لمحمد بن مسلم الذي هو من الطائف توابع مكة ـ بستمائة رطل المتعين أو الظاهر حملها على الأرطال المكية. لما تقدم ، وبقوله (عليه‌السلام) في حديث الكلبي النسابة (2) لما سأله عن الشن الذي ينبذ فيه التمر للشرب والوضوء : «وكم كان يسع

__________________

(1) تقدم الكلام فيه في التعليقة 3 في الصحيفة 191.

(2) المروي في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل من كتاب الطهارة.


من الماء؟ فقال ما بين الأربعين إلى الثمانين الى ما فوق ذلك. فقلت : بأي الأرطال؟ قال : أرطال مكيال العراق».

وأجاب المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ عن المعارضة الموردة على الجواب الأول ـ بأن الأخبار الدالة على اعتبار الكرية اقتضت كونها شرطا لعدم انفعال الماء بالملاقاة ، فما لم يدل دليل شرعي على حصول الشرط يجب الحكم بالانفعال ، ثم قال : «وبهذا يظهر ضعف احتجاجهم بالأصل على الوجه الذي قرروه ، لان اعتبار الشرط مخرج عن حكم الأصل».

وفيه نظر ، لان كون الكرية شرطا لعدم الانفعال لا يقتضي الحكم بالانفعال في صورة عدم العلم بالشرط ، إذ عند عدم الشرط في الواقع ينتفي المشروط لا عند عدم العلم به. على انه معارض بأن الأخبار المذكورة كما تدل على كون الكرية شرطا لعدم الانفعال كذلك تدل على كون القلة شرطا للانفعال ، فما لم يدل دليل على حصول الشرط يجب الحكم بعدم الانفعال.

والظاهر ان ابتناء ما ذكره في المعالم على ما اشتهر بينهم ، وبه صرح والده (قدس‌سرهما) في تمهيد القواعد في مبحث تعارض الأصلين ، حيث قال : «إذا وقع في الماء نجاسة وشك في بلوغه الكرية فهل يحكم بنجاسته أو طهارته؟ فيه وجهان (أحدهما) ـ الحكم بنجاسته ، وهو المرجح ، لأن الأصل عدم بلوغه الكرية. و (الثاني) ـ انه طاهر ، لأن الأصل في الماء الطهارة. ويضعف بأن ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل لأن ملاقاتها سبب في تنجيس ما تلاقيه» ثم ذكر ما يدل على ان هذا هو القول الشائع بين الفقهاء. انتهى. وفيه ـ بمعونة ما قررناه سابقا ـ توجه المنع الى قوله : «بأن ملاقاة النجاسة رفعت هذا الأصل» فإن مجرد ملاقاة النجاسة لا يوجب التنجيس كما ذكره ، بل مع القلة. وهي غير متحققة.


والتحقيق ـ في هذا المقام بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم‌السلام) ـ ان يقال : ان مقتضى الأخبار الواردة في الكر ـ القائلة بأنه إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء ، الدالة بمنطوقها على انه مع العلم ببلوغ الكرية لا ينجسه شي‌ء ، وبمفهومها الذي هو حجة صريحة صحيحة على انه مع العلم بعدم بلوغه كرا ينجس بالملاقاة ـ تعليق الحكم بنجاسة ذلك الماء على العلم بعدم بلوغه كرا ، وتعليق الحكم بطهارته على العلم ببلوغه كرا (1) ومقتضى هذين التعليقين ـ ومقتضى الأخبار الدالة على وجوب التوقف في كل ما لم يعلم حكمه على التعيين ـ هو وجوب التوقف عن الحكمين والوقوف على جادة الاحتياط في العمل. قولهم ـ : الاحتياط ليس بدليل شرعي ـ على إطلاقه ممنوع ، لما عرفت في المقدمة الرابعة من ان الاحتياط في مثل هذه الصورة من الأدلة الشرعية كما صرحت به الاخبار ، ومنها : الخبران المتقدمان (2) والمعارضة التي ذكرها المجيب مندفعة بأنه قد ظهرت الدلالة على وجوب الاحتياط ، وانه دليل شرعي على وجوب الاجتناب عن هذا الماء ، فالاحتياط الذي ذكره المعارض غير متجه. وان أردت مزيد إيضاح للفرق بين الاحتياط الواجب الذي هو أحد الأدلة الشرعية والمستحب الذي توهموا حمل ذلك الفرد الآخر عليه ، فارجع الى ما حققناه في المقدمة المذكورة. على ان قول القائل : الأصل عدم بلوغ الكرية لا ينطبق على شي‌ء من معاني الأصل التي صرحوا بها كما تقدم في المقدمة الثالثة في بحث

__________________

(1) ووجه أخذ العلم من جانب المنطوق والمفهوم ما تقدم لك بيانه في المقدمة الحادية عشرة من ان مناط الحكم بالطهارة والنجاسة هو علم المكلف بذلك لا مجرد كونه كذلك واقعا كما تقدم بيانه ثمة مبرهنا مشروحا (منه رحمه‌الله).

(2) وهما صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة بريد الكناسي المتقدمتان في الصحيفة 256.


البراءة الأصلية (1) وحينئذ فمقتضى الاحتياط الواجب في هذا الماء متى لاقته النجاسة هو التوقف في الحكم بالطهارة أو النجاسة وترك استعماله والانتقال الى التيمم ، ومقتضى الاحتياط المستحب الوضوء بعد ذلك والقضاء. واما الوضوء به وضم التيمم ـ ثم يتطهر بعد حصول الماء ويطهر ما لاقى الماء الأول كما ذكره البعض بدون القضاء بعد ذلك ـ فلا يخفى ما فيه.

(الطريق الثاني) ـ هو معرفة الكر بالمساحة ، وقد اختلف فيه الأصحاب (رضوان الله عليهم).

فالمشهور انه ما كان كل واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار ونصف ، ومبلغ تكسيره اثنان وأربعون شبرا وسبعة أثمان شبر. وقيل : ما كان كل واحد من أبعاده ثلاثة أشبار ، ومبلغ تكسيره سبعة وعشرون شبرا ، وهو مذهب القميين ، واختاره جملة من المتأخرين منهم : العلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروضة والروض والمولى الأردبيلي والمحقق الشيخ علي في حواشي المختلف ، ونفى عنه البعد في كتاب الحبل المتين وقيل : ما بلغ تكسيره نحو مائة شبر ، ونقل عن ابن الجنيد. وقيل : ما بلغت ـ أبعاده الثلاثة ـ عشرة ونصفا ، ونقل عن القطب الراوندي. وقيل : ما بلغ تكسيره ستة وثلاثين شبرا ، وهو ظاهر المحقق في المعتبر ، واليه مال السيد في المدارك كما سيأتي إيضاحه ان شاء الله تعالى. وقيل بالاكتفاء بكل ما روي ، وعزي الى السيد جمال الدين ابن طاوس (قدس‌سره).

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة رواية أبي بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الكر من الماء كم يكون قدره؟ قال : إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه. فذلك الكر من الماء».

__________________

(1) في الصحيفة 41.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


ورواية الحسن بن صالح الثوري عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «الكر ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها».

وصحيحة إسماعيل بن جابر عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له : الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته».

وصحيحته الأخرى عنه (عليه‌السلام) (3) قال : «الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار».

وقال الصدوق (طاب ثراه) في كتاب المجالس (4) : «روي ان الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولا في ثلاثة أشبار عرضا في ثلاثة أشبار عمقا».

وقال في كتاب المقنع (5) : «روي ان الكر ذراعان وشبر في ذراعين وشبر».

وتنقيح البحث في هذه الأخبار مع ما يتعلق بها من كلام علمائنا الأبرار يتم برسم فوائد :

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 و 10 ـ من أبواب الماء المطلق والنص المذكور في الكتاب هو نص الكافي والتهذيب. وفي الاستبصار في الصحيفة 33 من طبع النجف رواها هكذا : «ثلاثة أشبار ونصف طولها في ثلاثة أشبار ونصف عمقها في ثلاثة أشبار ونصف عرضها» وفي التعليقة 4 من الصحيفة المذكورة ان هذه الزيادة لم ترد في النسخة المخطوطة بيد والد الشيخ محمد بن المشهدي صاحب المزار المصححة على نسخة المصنف.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 و 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) في الصحيفة 383 ، وفي الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق.

(5) في الصحيفة 4 ، وفي الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق.


(الاولى) ـ قد اتفقت هذه الاخبار ما عدا رواية المجالس في عدم ذكر البعد الثالث (1) وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروض ان رواية أبي بصير (2) قد اشتملت على الأبعاد الثلاثة ولكن أحدها وهو العمق لم يذكر تقديره. وقد تكلف شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين لبيان اشتمالها على مقادير الأبعاد الثلاثة بإعادة الضمير في قوله : «مثله» الى ما دل عليه قوله (عليه‌السلام) : «ثلاثة أشبار ونصفا» أي في مثل ذلك المقدار لا في مثل الماء ، إذ لا محصل له ، وكذا الضمير في قوله (عليه‌السلام) : «في عمقه» أي في عمق ذلك المقدار في الأرض. وفيه انه يؤذن بكون قوله : «في عمقه من الأرض» كلاما منقطعا ، وبه يكون الكلام متهافتا معزولا عن الملاحة لا يليق نسبته بتلك الساحة البالغة أعلى درجات البلاغة والفصاحة ، بل الظاهر من قوله : «في عمقه» انه اما حال من «مثله» أو نعت «لثلاثة أشبار» الذي هو بدل من «مثله» وعلى هذا تكون الرواية مشتملة على بيان مقدار العمق مع أحد البعدين الآخرين ، والبعد الثالث متروك.

وبالجملة فهذه الاخبار كلها مشتركة في عدم عد الأبعاد الثلاثة (3) ولم أجد لها رادا من هذه الجهة ، بل ظاهر الأصحاب قديما وحديثا الاتفاق على قبولها وتقدير البعد الثالث فيها ، لدلالة سوق الكلام عليه ، وكان ذلك شائعا كثيرا في استعمالاتهم وجاريا دائما في محاوراتهم ، ومنه : قول جرير :

كانت حنيفة أثلاثا فثالثهم
 

 

من العبيد وثلث من مواليها
 

وعد بعضهم من ذلك قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «حبب الي من دنياكم ثلاث :

__________________

(1 و 3) قد تقدم في التعليقة 1 في الصحيفة 262 اشتمال رواية الحسن بن صالح الثوري في النسخ المتداولة من الاستبصار على ذكر الأبعاد الثلاثة.

(2) المتقدمة في الصحيفة 261.


الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة» (1). قال : «فإن الصلاة ليست من لذة الدنيا ، فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما عد من ملاذ الدنيا اثنتين عزفت نفسه المقدسة عن ذكر الثالثة. فكأنه يقول : مالي ولملاذ الدنيا؟ قرة عيني في الصلاة ، فالواو الثانية استينافية.

(أقول) : وهو معنى لطيف مناسب لذلك المقام المنيف (2) ويؤيده أيضا

__________________

(1) هذا الحديث رواه الصدوق في الخصال عن انس بن مالك عن النبي (ص) بطريقين في الصحيفة 79 ولم ترد كلمة (ثلاث) في شي‌ء منهما في النسخة المطبوعة. ورواهما صاحب الوسائل عنه في الباب ـ 89 ـ من أبواب آداب الحمام والتنظيف. وقد أورد كلمة (ثلاث) في أحدهما ، وإليك نصهما كما في الوسائل : «حبب الي من الدنيا ثلاث : النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة». «حبب الي من دنياكم النساء والطيب وجعل قرة عيني في الصلاة».

وفي سنن البيهقي ج 7 ص 78 عن ثابت عن أنس ان رسول الله (ص) قال : «انما حبب الي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة». ورواه بهذا اللفظ السيوطي في الجامع الصغير. وفي سنن النسائي ج 2 ص 156 «حبب الي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة».

وقال المناوى في فيض القدير ج 3 ص 370 : «لم يرد في الحديث لفظ ثلاث كما قال الحافظ العراقي والزركشي وابن حجر في تخريج الكشاف ، ومن زادها كالزمخشري والقاضي فقد وهم ، فإنها مفسدة للمعنى ، إذ لم يذكر بعدها الا النساء والطيب.

(2) قال الصدوق في الخصال في الصحيفة 79 بعد ذكر الحديثين : «قال مصنف هذا الكتاب : ان الملحدين يتعلقون بهذا الخبر ويقولون ان النبي (ص) قال : حبب الى من دنياكم النساء والطيب ، وأراد ان يقول الثالث فندم وقال : قرة عيني في الصلاة. وكذبوا ، لانه لم يكن مراده بهذا الخبر إلا الصلاة وحدها ، لانه قال : «ركعتان يصليهما متزوج أفضل عند الله من سبعين ركعة يصليهما غير متزوج». وانما حبب الله اليه النساء لأجل الصلاة. وهكذا قال : «ركعتان يصليهما متعطر أفضل من سبعين ركعة يصليهما غير متعطر». وانما حبب اليه الطيب أيضا لأجل الصلاة. ثم قال : «وجعل قرة عيني في الصلاة». لأن الرجل لو تطيب وتزوج ثم لم يصل لم يكن له في التزويج والطيب فضل ولا ثواب» انتهى.


جملة من الأخبار (1) ومما يدخل في حيز هذا المقام قوله تعالى : «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ» (2) ففي الحديث عن الصادق (عليه‌السلام) في تفسير هذه الآية «أنها ثلاث آيات : مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثر فيه قدماه ، والحجر الأسود ، ومنزل إسماعيل» (3).

وللمحدث الأمين في كتاب الفوائد المدنية هنا كلام في توجيه عدم ذكر البعد الثالث في هذه الأخبار ، قال : «ومن أغلاط جمع منهم انهم يقولون في كثير من الأحاديث الواردة في كمية الكر : أنها خالية عن ذكر أحد الأبعاد الثلاثة. لكنه محذوف ليقاس المحذوف على المذكور ، والحذف مع القرينة شائع ذائع. وفي هذا دلالة على إسراعهم في تفسير الأحاديث وفي تعيين ما هو المراد منها ، والدلالة على ذلك كله ان أصح أحاديث هذا الباب هكذا : «ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته» (4). وجه الدلالة انه يفهم اعتبار أربعة أشبار في العمق وثلاثة في الأخيرين. فلم تبق دلالة على ان حكم المحذوف حكم المذكور مع وجود هذا الاحتمال ، وانه يفهم من هذا الحديث الشريف ان المراد من أحد المذكورين في الأحاديث العمق ومن الآخر السعة ، ومن المعلوم عند كل لبيب غير غافل ان معنى السعة مجموع الطول والعرض ، فلا حاجة الى القول بالحذف ، ومن له أدنى معرفة بأساليب كلام العرب يعرف انهم يقصدون بقولهم :

__________________

(1) فروى في الكافي في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ما أحب من دنياكم الا النساء والطيب». وروى فيه عنه (عليه‌السلام) عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «جعل قرة عيني في الصلاة ولذتي في الدنيا النساء وريحانتي الحسن والحسين». وجه التأييد انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يعد في هذه الأخبار الصلاة في الدنيا كما لا يخفى (منه قدس‌سره).

(2) سورة آل عمران. آية 92.

(3) رواه الكليني في الكافي في الباب ـ 10 ـ من كتاب الحج.

(4) وهو صحيح إسماعيل بن جابر المتقدم في الصحيفة 262.


ثلاثة في ثلاثة ـ في الثوب وشبهه ـ ان كل واحد من طوله وعرضه ثلاثة ، ويقصدون ـ في الحياض والآبار وشبههما ـ ان كل واحد من سعته وعمقه ثلاثة. وتوضيح المقام ان الكر في الأصل مكيال أهل العراق ، وإنما جرت عادة الأئمة (عليهم‌السلام) بذكر لفظ الكر في معرض بيان الفرق بين مقدار الماء الذي ينجس بمجرد ورود النجاسة عليه ، وبين مقدار الماء الذي ليس كذلك. لان مخاطبهم (عليهم‌السلام) كان من أهل العراق ، ومن المعلوم ان الكر مدور مثل البئر ، ومن المعلوم ان المناسب بمساحة المدور ان يذكر قطره وان يذكر عمقه ، وغير مناسب ان يذكر طوله وعرضه وعمقه» انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو كلام جيد منطبق على تلك الروايات سالم من تلك التقديرات سيما الصحيحة التي أشار إليها ، فإنها ظاهرة فيه بعيدة الحمل جدا على ما ينافيه ، إلا ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ قديما وحديثا ، اخباريهم ومجتهدهم ـ كلهم على اعتبار الأبعاد الثلاثة في تقدير الكر وحمل الروايات على ذلك ، وليس ذلك خاصا بالمجتهدين كما زعمه (قدس‌سره) وجعله من جملة اغلاطهم ، بل هذا الصدوق (قدس‌سره) في الفقيه والمقنع صرح باعتبار الأبعاد الثلاثة. فقال في الفقيه (1) : «والكر ثلاثة أشبار طولا في عرض ثلاثة أشبار في عمق ثلاثة أشبار» ونحوه في المقنع (2) والمجالس (3) استنادا إلى صحيحة إسماعيل بن جابر الثانية (4) الناطقة بأن الكر ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار. وما ذاك إلا بتقدير البعد الثالث فيها ، وتبعه على ذلك القميون الذين هم أساطين الأخباريين ، ولكنه (طاب ثراه) حيث كان مولعا بتتبع عثرات المجتهدين عثر

__________________

(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).

(2) في الصحيفة 4.

(3) في الصحيفة 383.

(4) المتقدمة في الصحيفة 262.


من حيث لا يشعر فخص ذلك بالمجتهدين ، بل نسبه الى جمع منهم مؤذنا بزيادة ضعفه وتمريضه.

ولا يخفى انه على تقدير ما ذكره لا يبلغ تكسير الكر الى القدر الذي اعتبروه على تقدير اعتبار البعد الثالث في كل من الروايات. ولكنه (طاب ثراه) قد بنى ذلك على ما تقدمت الإشارة إليه آنفا (1) من اعتبار الاجتماع في ماء الكر ، وبذلك صرح في تعليقاته على شرح المدارك ، فقال ـ بعد ان نقل ان المشهور بين الأصحاب حمل لفظ (في) الواقع في روايات هذا الباب على ضرب الحساب ، وانهم استفادوا منه التكسير ، وفرعوا على ذلك انه لو كان قدر الكر من الماء منبسطا على وجه الأرض لا ينفعل بالملاقاة ـ ما لفظه : «وفيه اشكال ، وذلك لان المتبادر من سياق الروايات اعتبار اجتماع اجزاء الماء ، وكون عمقه قدرا يعتد به ، والاعتبار العقلي مساعد على ذلك ، لأنه حينئذ يتقوى بعضها ببعض ، وتتوزع النجاسة الواقعة فيه على اجزائه ويؤيده ان الكر في الأصل مكيل معروف لأهل العراق ، والعادة في هيئات المكاييل ان يكون لها عمق يعتد به. وبعد التنزل نقول : مع قيام الاحتمال لا مجال للاستدلال على ان إجمال الخطاب يوجب رعاية الاحتياط كما مر تحقيقه» ثم أورد صحيحة محمد ابن مسلم (2) الدالة على السؤال عن غدير ماء مجتمع تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء». وصحيحة صفوان ابن مهران الجمال (3) المتضمنة للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ويتوضأ منها. قال : «وكم قدر الماء؟ قال : الى نصف الساق والى الركبة. فقال : توضأ منه». وصحيحة إسماعيل بن جابر المذكورة في كلامه آنفا (4).

__________________

(1) في الصحيفة 232.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) في الصحيفة 265.


ولا يخفى ان ما ذكره (قدس‌سره) وان احتمل احتمالا قريبا الا انه لا دليل عليه صريحا ، فكما انه بهذا الاحتمال لا يتعين القول المشهور ، فكذلك ما ذكره لا يتعين ، لعدم الدلالة الصريحة أو الظهور ، بل الظاهر ان العمل على إطلاقات الأخبار أظهر ، والأسئلة عن المياه المجتمعة ـ مع الإغماض عن المناقشة في كيفية هذا الاجتماع ـ وان ظهر في بعضها ما يؤيد ما ذكره لا يدل على التخصيص في الجواب كما تقرر في محله.

(الثانية) ـ قد طعن جملة من المتأخرين ـ منهم : السيد في المدارك ـ في سند رواية أبي بصير (1) بضعف الطريق باشتماله على احمد بن محمد بن يحيى ، فإنه مجهول ، وعثمان بن عيسى ، فإنه واقفي ، وابي بصير ، فإنه مشترك بين الثقة والضعيف (2) وفيه ان لفظ احمد بن محمد بن يحيى وان وقع في التهذيب لكن الموجود في الكافي محمد بن يحيى عن احمد بن محمد ، ولا ريب انه أحمد بن محمد بن عيسى ، لرواية محمد ابن يحيى العطار عنه ، وروايته هو عن عثمان بن عيسى مكررا. والظاهر ان ما في التهذيب تصحيف ، ولهذا ان جملة من متأخري المتأخرين لم يطعنوا في السند إلا بعثمان بن عيسى وابي بصير ، وكأنهم لاحظوا الرواية من الكافي. لكن الراوي عن ابي بصير هنا هو ابن مسكان ، ولا يخفى على الممارس انه عبد الله ، وهو قرينة ليث المرادي ، لتكرر روايته عنه في غير موضع ، والمدار في تعيين الرواة عندهم إنما هو على القرائن التي من جملتها قرينة القبلية والبعدية ونحوهما. إلا ان الفاضل الشيخ محمد ابن المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني ذكر في بعض حواشيه على التهذيب أو الاستبصار ، قال : «نقل بعض مشايخنا ان رواية ابن مسكان

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 261.

(2) وقد أورد الرواية شيخنا البهائي في الحبل المتين ايضا على ما في التهذيب وطعن فيها بما طعن به في المدارك ايضا (منه قدس‌سره).


عن ابي بصير تعين كونه ليث المرادي. ولا يخلو من تأمل ، لما قاله الوالد (رحمه‌الله) من انه اطلع على رواية فيها ابن مسكان عن يحيى بن القاسم ، وأظن اني وقفت على ذلك ايضا» انتهى.

(أقول) : لم نقف بعد الفحص والتتبع الزائد في كتب الأخبار على ذلك إلا انهم ذكروا ايضا ان رواية عاصم بن حميد عن ابي بصير مما يعين كونه ليث المرادي وقد وقفت في كتاب الاستبصار في باب وقت صلاة الفجر على رواية عاصم بن حميد عن ابي بصير المكفوف ، ومثله في التهذيب ايضا ، لكن الموجود في الفقيه والكافي في هذا السند بعينه عن ابي بصير ليث المرادي والمتن بحاله ، لكن فيه زيادة في رواية الشيخ في آخر الحديث ليست في رواية ذينك الشيخين.

وكيف كان ، ولو مع تقدير صحة رواية الشيخ وعدم تطرق احتمال الغلط أو السهو فيما نقله ، فلا شك ان الحمل على الأكثر المتكرر قرينة مرجحة كما صرحوا به في أمثال ذلك.

هذا ، وقد ذهب الفاضل ملا محمد باقر السبزواري الخراساني صاحب الكفاية وذخيرة المعاد في شرح الإرشاد ـ في الشرح المذكور ـ الى ان أبا بصير الذي هو يحيى بن القاسم أو ابن ابي القاسم ثقة ، وان المطعون فيه بالوقف والضعف إنما هو يحيى بن القاسم غيره ، وأبو بصير إنما هي كنية الأول خاصة ، وإنما نشأ الاشتباه من العلامة في الخلاصة ، وإلا فكتب علماء الرجال المتقدمين صريحة في التعدد. واستدل على ذلك بوجوه : (منها) ـ ان أبا بصير اسدي كما يظهر من رجال النجاشي والكشي واختيار الرجال والخلاصة ورجال العقيقي ، والآخر أزدي كما يفهم من رجال الكشي. و (منها) ـ انه ذكر الشيخ في (قر) (1) يحيى بن ابي القاسم يكنى أبا بصير مكفوف ، واسم ابي القاسم إسحاق. وقال بعده بلا فصل : يحيى بن ابي القاسم

__________________

(1) إشارة إلى أصحاب الباقر (عليه‌السلام).


الحذاء. وهذا يشهد بالمغايرة ، وفي (ظم) (1) يحيى بن القاسم الحذاء واقفي ، ثم قال : يحيى بن ابي القاسم يكنى أبا بصير. وهو أيضا يعطي المغايرة. و (منها) ـ انه ذكر النجاشي والشيخ في اختيار الرجال : ان أبا بصير مات سنة خمسين ومائة ، وهذا ينافي كونه واقفيا ، لأن وفاة الكاظم (عليه‌السلام) في سنة ثلاثة وثمانين ومائة. وكلامه (قدس‌سره) وان كان للمناقشة فيه مجال إلا انه لا يخلو من قرب.

وكيف كان فالمفهوم من تتبع الأخبار الواردة ـ وخطاب الأئمة (عليهم‌السلام) معه زيادة على ما قد روي في مدحه ـ جلالة شأنه. والاخبار الواردة بذمة قد ورد مثلها بل أشنع منها في من هو أجل قدرا وأشهر ذكرا منه ، والجواب في الموضعين واحد. على انا لا نرى الاعتماد في صحة الأخبار على هذا الاصطلاح ، بل عملنا إنما هو على اصطلاح متقدمي علمائنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا (2) إيضاحه بأتم إيضاح وافصحنا عنه أي إفصاح.

ومن ذلك يعلم الكلام أيضا في عثمان بن عيسى ، فإنه وان كان مما لا خلاف في كونه واقفيا الا ان الكشي نقل فيه قولا بأنه ممن اجتمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. مضافا الى ما نقله الشيخ في كتاب العدة مما يؤذن بالاتفاق على العمل بروايته ورواية أمثاله من ثقات الواقفية والفطحية. وهذا مع ان جملة منهم صرحوا بان ضعفها منجبر بالشهرة ، والأمران اصطلاحيان ، وحينئذ فالرواية معتمدة.

وقد طعن جماعة من متأخري المتأخرين ـ منهم : المحقق الشيخ حسن في المنتقى ، والسيد في المدارك ، وتبعهما جمع ممن تأخر عنهما (3) ـ في صحيحة

__________________

(1) إشارة إلى أصحاب الكاظم (عليه‌السلام).

(2) في المقدمة الثانية في الصحيفة 14.

(3) منهم : الشيخ على بن سليمان البحراني والعلامة السيد ماجد البحراني (قدس‌سرهما) (منه قدس‌سره).


إسماعيل بن جابر الثانية (1) التي هي مستند القميين ، قال في كتاب المنتقى بعد ذكر الحديث المشار اليه : «وهذا الحديث قد نص جمهور المتأخرين من الأصحاب على صحته. وليس بصحيح ، لان الشيخ رواه في موضع آخر من التهذيب عن الشيخ المفيد (رحمه‌الله) عن احمد بن محمد عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن احمد بن محمد عن محمد ابن خالد عن محمد بن سنان عن إسماعيل بن جابر ، فأبدل عبد الله بمحمد ، والراويان قبل وبعد متحدان كما ترى ، فاحتمال روايتهما له منتف قطعا ، لاختلافهما في الطبقة ، وقد ذكرنا في فوائد المقدمة ان الذي يقتضيه حكم الممارسة تعين كونه محمدا ، وفي الكافي رواه عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد عن البرقي عن ابن سنان ، والظاهر ان هذا صورة ما وقع في رواية البرقي له ، والتعيين من تصرف الراوي عنه ، فأخطأ فيه المخطئ وأصاب فيه المصيب» انتهى.

وأجاب عن ذلك شيخنا البهائي (قدس‌سره) في كتاب مشرق الشمسين ـ بعد ان ذكر الخبر المذكور ـ بما لفظه : «واما هذا السند فقد أطبق علماؤنا من زمن العلامة (طاب ثراه) الى زماننا هذا على صحته ولم يطعن أحد فيه. حتى انتهت النوبة الى بعض الفضلاء الذين عاصرناهم (قدس الله أرواحهم) فحكموا بخطإ العلامة واتباعه في قولهم بصحته ، وزعموا أن ملاحظة طبقات الرواة في التقدم والتأخر يقتضي ان ابن سنان ـ المتوسط بين البرقي وبين إسماعيل بن جابر ـ محمد لا عبد الله ، وان تبديل شيخ الطائفة له بعبد الله في سند هذا الحديث توهم فاحش ، لان البرقي ومحمد بن سنان في طبقة واحدة. فإنهما من أصحاب الرضا (عليه‌السلام). واما عبد الله بن سنان فليس من طبقة البرقي. لأنه من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) فرواية البرقي عنه بغير واسطة مستنكرة. وايضا فوجود الواسطة في هذه الرواية بين ابن سنان وبين الصادق (عليه‌السلام) تدل على انه محمد لا عبد الله ، لان زمان محمد متأخر عن زمانه (عليه

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 262.


السلام) بكثير ، فهو لا يروي عنه بالمشافهة ، بل لا بد من تخلل الواسطة. واما عبد الله ابن سنان فهو من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) والظاهر انه يأخذ عنه بالمشافهة لا بالواسطة. هذا حاصل كلامهم. وظني ان الخطأ في هذا المقام انما هو منهم لا من العلامة واتباعه (قدس الله أرواحهم) ولا من شيخ الطائفة (نور الله مرقده) فان البرقي وان لم يدرك زمان الصادق (عليه‌السلام) لكنه قد أدرك بعض أصحابه ونقل عنهم بلا واسطة ، ألا ترى الى روايته عن داود بن ابي يزيد العطار حديث من قتل أسدا في الحرم (1) وعن ثعلبة بن ميمون حديث الاستمناء باليد (2) وعن زرعة حديث صلاة الأسير في باب صلاة الخوف (3) وهؤلاء كلهم من أصحاب الصادق (عليه‌السلام) فكيف لا تنكر روايته عنهم بلا واسطة وتنكر الواسطة عن عبد الله بن سنان؟ وايضا فالشيخ قد عد البرقي في أصحاب الكاظم (عليه‌السلام) واما تخلل الواسطة بين ابن سنان وبين الصادق (عليه‌السلام) فإنما يدل على انه محمد لو لم توجد بين عبد الله وبينه (عليه‌السلام) واسطة في شي‌ء من الأسانيد ، لكنها توجد بينهما كتوسط عمر بن يزيد في دعاء آخر سجدة من نافلة المغرب (4) وتوسط حفص الأعور في تكبيرات الافتتاح (5)

__________________

(1) وهو حديث ابى سعيد المكاري المروي في الوسائل في الباب ـ 39 ـ من أبواب كفارات الصيد وتوابعها من كتاب الحج.

(2) وهو حديث ثعلبة بن ميمون والحسين بن زرارة الذي رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب نكاح البهائم ووطء الأموات والاستمناء من كتاب الحدود والتعزيرات.

(3) وهو حديث سماعة المروي في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب صلاة الخوف والمطاردة من كتاب الصلاة.

(4) في حديث عمر بن يزيد الذي رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 46 ـ من أبواب صلاة الجمعة وآدابها من كتاب الصلاة.

(5) في حديث حفص المروي في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب تكبيرة الإحرام من كتاب الصلاة. الا ان في الوسائل بعد كلمة حفص «يعنى ابن البختري».


وقد يتوسط شخص واحد بعينه بين كل منهما وبين الصادق (عليه‌السلام) كاسحاق ابن عمار ، فإنه متوسط بين محمد وبينه (عليه‌السلام) في سجدة الشكر (1) وهو بعينه ايضا متوسط بين عبد الله وبينه (عليه‌السلام) في طواف الوداع (2) وتوسط إسماعيل بن جابر في سندي الحديثين الذين نحن فيهما من هذا القبيل. والله الهادي إلى سواء السبيل» انتهى.

(الثالثة) ـ لا ريب ـ بعد ما عرفت ـ في دلالة رواية أبي بصير (3) على القول المشهور ، ودلالة صحيحة إسماعيل بن جابر (4) على قول القميين.

واما قول ابن الجنيد فلم نقف له على مستند.

وكذلك قول القطب الراوندي ، الا ان بعض متأخري المتأخرين حمله على ارادة معنى الجمع والمعية من لفظ (في) دون الضرب كما هو المشهور. ولا يخفى فيه من البعد ، لما في التحديد بذلك من التفاوت في التقديرات كما نبه عليه جملة من مشايخنا (طيب الله تعالى مضاجعهم) ، فان الماء الذي مجموع أبعاده الثلاثة ـ عشرة أشبار ونصف كما تكون مساحته مساوية لمساحة الكر على القول المشهور ، كما لو كان كل من الأبعاد الثلاثة ثلاثة أشبار ونصفا ، فقد تكون ناقصة عنها قريبة منها ، كما لو فرض طوله ثلاثة أشبار وعرضه ثلاثة وعمقه أربعة ونصف شبر ، فان مساحته حينئذ أربعون شبرا ونصف ، وقد تكون بعيدة عنها جدا ، كما لو فرض طوله ستة وعرضه

__________________

(1) في حديث إسحاق بن عمار الذي رواه الشيخ في التهذيب ج 1 ص 165 ، ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب سجدتي الشكر من كتاب الصلاة.

(2) في حديث إسحاق بن عمار الذي رواه الشيخ في التهذيب في باب (زيارة البيت) من كتاب الحج.

(3) المتقدمة في الصحيفة 261.

(4) المتقدمة في الصحيفة 262 السطر 5.


أربعة وعمقه نصف شبر ، فان مساحته اثنا عشر شبرا. وجعل شيخنا الشهيد الثاني في الروض أبعد الفروض منها ما لو كان كل من عرضه وعمقه شبرا وطوله عشرة أشبار ونصفا. قال شيخنا البهائي (رحمه‌الله) بعد نقل ذلك عنه : «وهو محل كلام ، لوجود ما هو أبعد منه ، كما لو كان طوله تسعة أشبار وعرضه شبرا واحدا وعمقه نصف شبر ، فان مساحته أربعة أشبار ونصف (1). وأيضا ففي كلامه (قدس‌سره) مناقشة أخرى ، إذ الأبعاد الثلاثة في الفرض الذي ذكره إنما هو اثنا عشر شبرا ونصف لا عشرة ونصف ، ثم قال : هذا. وأنت خبير بان صدور مثل هذا التحديد العظيم الاختلاف الشديد التفاوت من القطب الراوندي (رحمه‌الله) لا يخلو من غرابة ، كما ان صدور مثل هذا الكلام من شيخنا الشهيد الثاني غير خال من غرابة أيضا. ثم الذي يظهر ان مراد القطب الراوندي (رحمه‌الله) ان الكر هو الذي لو تساوت أبعاده الثلاثة لكان مجموعها عشرة أشبار ونصفا ، وحينئذ ينطبق كلامه على المذهب المشهور. والله أعلم بحقائق الأمور» انتهى كلامه (زيد مقامه) ولا يخفى ان ما ذكره أخيرا ـ من الحمل لكلام الراوندي ـ جيد لو أمكن تطبيق كلامه عليه.

واما ما نقل عن السيد جمال الدين ابن طاوس من العمل بكل ما روي فهو يرجع في التحقيق الى مذهب القميين ، فكأنه يحمل ما زاد على الاستحباب.

بقي الكلام في صحيحة إسماعيل بن جابر الدالة على التحديد بذراعين في العمق في ذراع وشبر في السعة (2) ويظهر من المحقق في المعتبر الميل الى العمل بها ،

__________________

(1) ثم كتب (قدس‌سره) في حاشية الكتاب ما صورته : «وقد يوجد ما هو أبعد من هذا ، كما لو كان طوله عشرة أشبار وعرضه ربع شبر وعمقه كعرضه ، فان مجموع أبعاده عشرة ونصف ومساحته خمسة أثمان شبر. انتهى. (منه رحمه‌الله).

(2) المتقدمة في الصحيفة 262.


حيث قال : ـ بعد ان ذكر صحيحة إسماعيل التي هي مستند القميين (1) وطعن فيها بقصور الدلالة ، ثم رواية أبي بصير (2) وطعن فيها بعثمان بن عيسى ، ثم هذه الصحيحة ـ ما لفظه : «فهذه حسنة ، ويحتمل ان يكون قدر ذلك كرا» انتهى. وربما اعترض عليه بوصفها بالحسن مع انها في أعلى مراتب الصحة. والجواب عن ذلك ان اصطلاح تقسيم الاخبار الى هذه الأقسام متأخر عنه ، فهو لم يرد بالحسن المعنى الذي تقرر بينهم وانما أراد الوصف بما يوجب قبولها والعمل عليها. ويظهر من السيد في المدارك الميل ايضا الى ذلك ، حيث قال ـ بعد ان ذكر روايتي أبي بصير (3) وإسماعيل الأخرى (4) وطعن فيهما بضعف الاسناد ـ ما صورته : «وأصح ما وقفت عليه في هذه المسألة من الأخبار متنا وسندا ما رواه الشيخ» وساق الرواية (5) ثم نقل عن المحقق الميل الى العمل بها ، وقال : «وهو متجه» وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا البهائي في الحبل المتين ، حيث قال بأنه لم يطلع على قائل بها من الأصحاب. ثم انه (قدس‌سره) ذكر أن الخبر المذكور غير شديد البعد عن التقدير المشهور ، فان المراد بالذراع ذراع اليد وهو شبران تقريبا ، وان المراد بكون سعته ذراعا وشبرا كون كل من طوله وعرضه ذلك المقدار ، فيبلغ تكسيره على هذا التقدير ستة وثلاثين شبرا.

هذا. ويأتي ـ على ما نقلنا آنفا (6) عن المحدث الأمين (قدس‌سره) من تفسيره السعة في الخبر ـ وكذا في جملة الأخبار ـ بمجموع الطول والعرض الذي هو عبارة عن قطر الدائرة لا كل من الطول والعرض ـ انه لا يخلو اما ان يخص الكر الذي لا ينفعل بما

__________________

(1 و 4) المتقدمة في الصحيفة 262.

(2 و 3) المتقدمة في الصحيفة 261.

(5) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة في الصحيفة 262 السطر 3.

(6) في الصحيفة 265.


كان على تلك الهيئة ، كما يعطيه ظاهر كلامه من الرد على القول المشهور في حمل لفظ (في) الواقع في روايات هذا الباب على ضرب الحساب ، وان المتبادر من الروايات اعتبار اجتماع اجزاء الماء ، وكون عمقه قدرا يعتد به. وفيه تضييق زائد بل لا يكاد يتفق كر على هذه الهيئة ، واما ان يعتبر الضرب فيه وتحصيل قدر المساحة. وطريق معرفة ذلك ـ كما هو مذكور في علم المساحة ـ أن يضرب نصف القطر ـ المعبر عنه في الحديث بالسعة وهو واحد ونصف ـ في نصف المحيط الذي هو تسعة تقريبا ، لما ثبت هناك ان القطر ثلث المحيط تقريبا ، فيكون نصف المحيط على هذا أربعة ونصفا ، وعند ضرب واحد ونصف في أربعة ونصف يحصل منه ستة وثلاثة أرباع ، وإذا ضربنا هذا في العمق الذي هو أربعة يكون الحاصل سبعة وعشرين شبرا ، فيكون موافقا لمذهب القميين. وفيه انه وان حصل به انطباق صحيحتي إسماعيل بن جابر (1) كل منهما على الأخرى ، الا انه ـ مع مخالفته لما نقلناه من ظاهر كلامه ـ بعيد غاية البعد ، وان قصر تقدير الكر ـ على شكل الأسطوانة المستديرة التي لا يعلم تقديرها حقيقة بل تقريبا ، ومع ذلك فمعرفتها بالتقريب المذكور يتوقف على المهارة في فن علم المساحة والحذاقة في فن علم الهندسة التي تتعذر على أكثر الناس ـ غير معهود وقوع مثله عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم) بل ربما يقال غير جائز الوقوع ، فيتعين حينئذ حمل الرواية على ما ذكره شيخنا البهائي من الستة والثلاثين شبرا. وقال المحدث الأمين في تعليقاته على شرح المدارك : «قد اعتبرنا الكر وزنا ومساحة في المدينة المنورة فوجدنا رواية ألف ومائتا رطل (2) مع الحمل على العراقي قريبة غاية القرب من هذه الصحيحة (3)» انتهى. والظاهر ان اعتباره بناء على ما ذكره مما يرجع الى سبعة وعشرين شبرا.

__________________

(1) المتقدمتين في الصحيفة 262.

(2) وهي صحيحة ابن ابى عمير المتقدمة في الصحيفة 254.

(3) وهي صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدمة في الصحيفة 262 السطر 3.


(الموضع الثالث) ـ في بيان ضبط الكر بالأوزان المتعارفة في زماننا من المن المتعارف في بلادنا البحرين (حرسها الله من طوارق الشين) والمن التبريزي المتعارف في جملة من ولايات العجم (صانها الله تعالى عن العدم).

فنقول : اعلم ان المتعارف في بلادنا المذكورة ان المن عندهم ـ بالمثاقيل السوقية الموسومة عندهم بمثاقيل بار ـ خمسمائة مثقال واثنا عشر مثقالا ، وربع المن عندهم أربعة آلاف ، كل الف بالحساب المتقدم عبارة عن اثنين وثلاثين مثقالا ، والمن ستة عشر ألفا (1) ، ونصف الالف باصطلاحهم قياس ، وهي ستة عشر مثقالا ، وفي حدود السنة السابعة والثلاثين بعد المائة والالف قد اعتبرنا الصاع بالصنج المذكور لأجل زكاة الفطرة بالشعير ـ كما ذكره الأصحاب ـ فوجدناه مشتملا على نقصان فاحش ، ثم اعتبرناه بحساب المثاقيل الشرعية المتفق بين الخاصة والعامة على عدم تغيرها في جاهلية ولا إسلام ونسبناها الى مثاقيل البحرين ، فكان مبلغ الصاع الشرعي عبارة عن ثلاثة آلاف بالألف المتقدم في اصطلاحهم ، واثني عشر مثقالا بالمثاقيل المذكورة عندهم.

واما المن التبريزي فهو الآن في شيراز وما والاها عبارة عن تسع عباسيات بالفلوس السود ، وكل عباسية عبارة عن عشرين مرضوفا ، وكل مرضوف غازيان ، وهو عبارة عن أربعة مثاقيل صيرفية كما اعتبرناه ، فتكون العباسية ـ التي هي عبارة عن عشرين مرضوفا ـ عبارة عن ثمانين مثقالا صيرفيا ، ويكون المن التبريزي ـ الذي هو عبارة عن تسع عباسيات ـ سبعمائة مثقال وعشرين مثقالا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الرطل يقال بالاشتراك ـ كما تقدمت الإشارة اليه ـ على ثلاثة أوزان : العراقي والمدني والمكي.

__________________

(1) وليست الالف كما يتوهم في بادئ الرأي عبارة عن عدد وانما هي اسم للصنج المعروف عندهم (منه رحمه‌الله).


فأما العراقي فهو مائة وثلاثون درهما كما عليه الأصحاب ، ولا يلتفت الى ما ذكره العلامة مما قدمنا نقله عنه (1) فإنه غفلة بغير ريبة. وعلى ما ذكره الأصحاب تدل رواية جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (2) وفيها «ان الصاع ستة أرطال بالمدني وتسعة بالعراقي ، ثم قال : وأخبرني انه يكون بالوزن ألفا ومائة وسبعين وزنة». والمراد بالوزنة الدرهم. وهي مطابقة لما ذكرناه في تقدير العراقي فان تسع هذا المقدار المذكور مائة وثلاثون كما لا يخفى.

واما الرطل المدني فإنه مائة وخمسة وتسعون درهما ، وعليه يدل من الأخبار رواية إبراهيم بن محمد الهمداني عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (3) المتضمنة أن الصاع ستة أرطال بالرطل المدني ، وان الرطل مائة وخمسة وتسعون درهما.

واما الرطل المكي فهو رطلان بالعراقي عند الأصحاب ، ولم أقف في الاخبار على تحديد له ، وحينئذ فيكون الرطل العراقي ثلثي الرطل المدني ونصف الرطل المكي.

والرطل العراقي بالمثاقيل الشرعية عبارة عن أحد وتسعين مثقالا شرعيا ، لان كل عشرة دراهم تعدل سبعة مثاقيل شرعية كما ذكره غير واحد من أصحابنا وغيرهم وبالمثاقيل الصيرفية ثمانية وستون مثقالا وربع مثقال ، لأن المثقال الصيرفي مثقال وثلث من الشرعي ، والمثقال الشرعي ثلاثة أرباع الصيرفي ، فكل أربعة مثاقيل شرعية ثلاثة مثاقيل صيرفية.

والرطل المدني بالمثاقيل الشرعية عبارة عن مائة مثقال وستة وثلاثين مثقالا ونصف

__________________

(1) في الصحيفة 254.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب زكاة الفطرة من كتاب الزكاة.

(3) صاحب العسكر كما في التهذيب في باب (تمييز فطرة أهل الأمصار) وفي الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب زكاة الفطرة من كتاب الزكاة.


مثقال بالتقريب المتقدم ، وبالمثاقيل الصيرفية عبارة عن مائة مثقال ومثقالين وثلاثة أثمان مثقال كما يظهر بالمقايسة.

ولما كان الصاع ـ على ما ذكروه وورد به النص أيضا ـ تسعة أرطال بالعراقي وستة بالمدني ، فإذا نسب الى الرطل العراقي الذي هو أحد وتسعون مثقالا شرعيا يكون مقداره بالمثاقيل الشرعية ثمانمائة مثقال وتسعة عشر مثقالا ، وإذا نسب اليه بالمثاقيل الصيرفية يكون قدره ستمائة مثقال وأربعة عشر مثقالا وربع مثقال ، ومن ذلك يعلم حساب نسبته الى الرطل المدني بالمثاقيل الشرعية والصيرفية بزيادة نصف ما ذكر في العراقي على مقداره.

وحينئذ فإذا كان المن التبريزي سبعمائة مثقال وعشرين مثقالا صيرفيا ، والرطل العراقي بالمثاقيل الصيرفية ـ كما تقدم ـ ثمانية وستون مثقالا وربع مثقال ، فكل من تبريزي عشرة أرطال عراقية ونصف رطل وثلاثة مثاقيل صيرفية وثلاثة أثمان مثقال.

وأنت إذا قسمت عدد أرطال الكر الذي هو الف ومائتا رطل على عدد المن التبريزي المذكور ، ظهر لك ان مقدار الكر بالمن التبريزي مائة من وثلاثة عشر منا وثلاثة أرباع من وأربعة وثلاثون مثقالا صيرفيا وخمسة أجزاء من ستة عشر جزء من مثقال.

ونقل المحدث الكاشاني (قدس‌سره) في كتاب الوافي ان المن التبريزي كان في عصره ستمائة مثقال صيرفي ، فيكون الصاع بالمثقال الصيرفي يزيد عليه بأربعة عشر مثقالا وربع مثقال ، ثم قال : «ومنه يعلم مقدار الكر بالأرطال وهو مائة من وستة وثلاثون ونصف بالتبريزي» ولعل منشأ التفاوت بين ما ذكرنا وذكره بزيادة الصنج في هذه الأوقات.

واما الكر بوزن البحرين فهو عبارة عن ثمانية وعشرين منا وثمن من ، لان


الكر بالأصوع العراقية ـ كما يعلم بالحساب والمقايسة ـ مائة صاع وثلاثة وثلاثون صاعا وثلث صاع ، والصاع بوزن البحرين ـ كما عرفت ـ (1) عبارة عن ثلاثة آلاف بالصنج المتقدم في اصطلاحهم ، واثني عشر مثقالا بمثاقيلهم المتقدمة ، وهو ربع منهم الا عشرين مثقالا من مثاقيلهم ، ومتى كررت هذا المقدار بعدد أصوع الكر يظهر لك ما قلناه من كمية الكر بوزنهم (2) وقد وجدت بخط الوالد (طيب الله تعالى مرقده) انه وجد بخط بعض الفضلاء ما صورته : «وزن الصاع ـ في شهر رمضان من السنة السادسة والثلاثين بعد الألف ـ ربع والف وأربعة مثاقيل وربع مثقال شيرازي» انتهى. ولا يخفى ما فيه من التفاوت الزائد بالنسبة الى ما ضبطناه ، وذلك بزيادة الصنج أخيرا كما أشرنا إليه.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *