ج1 - المقدمة الثانية

المقدمة الثانية

قد صرح جملة من أصحابنا المتأخرين بأن الأصل في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة المشهورة هو العلامة أو شيخه جمال الدين بن طاوس نور الله تعالى مرقديهما ، واما المتقدمون فالصحيح عندهم هو ما اعتضد بما يوجب الاعتماد عليه من القرائن والأمارات التي ذكرها الشيخ (قدس‌سره) في كتاب العدة. وعلى هذا جرى جملة من أصحابنا المحدثين وطائفة من متأخري متأخري المجتهدين كشيخنا المجلسي رحمه‌الله وجمع ممن تأخر عنه. وقد اتسع خرق الخلاف بين المجتهدين من أصحابنا والأخباريين في جمل عديدة من مسائل الأصول التي تبنى عليها الفروع الفقهية ، وبسط كل من علماء الطرفين لسان التشنيع على الآخر ، والحق الحقيق بالاتباع ما سلكه طائفة من متأخري المتأخرين كشيخنا المجلسي (طاب ثراه) وطائفة ممن أخذ عنه. فإنهم سلكوا من طرق الخلاف بين ذينك الفريقين طريقا وسطى بين القولين ونجدا أوضح من ذينك النجدين و (خير الأمور أوسطها). ونحن قد بسطنا الكلام في إيضاح هذا المرام في جملة من مؤلفاتنا ولا سيما كتاب المسائل ، فإنا قد أعطينا المسألة حقها من الدلائل ، ولا بأس بذكر طرف من ذلك في هذا الكتاب ، حيث انا قد قصدنا فيه ضرب الصفح غالبا عن الكلام في أسانيد الأخبار والطعن فيها بذلك. فربما يظن الناظر الغير العالم بطريقتنا ان ذلك عن عجز أو غفلة أو نحو ذلك ، فرأينا أن نبين هنا ان ذلك إنما هو من حيث ثبوت صحة تلك الاخبار عندنا والوثوق بورودها عن أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم).

فنقول : قد صرح شيخنا البهائي في كتاب مشرق الشمسين وقبله المحقق الشيخ حسن (أعلى الله رتبتهما) في مقدمات كتاب المنتقى بما ملخصه : ان السبب ـ الداعي إلى تقرير هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة ـ هو انه لما طالت المدة بينهم وبين الصدر الأول وبعدت عليهم الشقة وخفيت عليهم تلك القرائن التي أوجبت صحة الأخبار عند المتقدمين. وضاق عليهم ما كان متسعا على غيرهم ، التجأوا الى العمل بالظن بعد فقد العلم ، لكونه أقرب مجازا إلى الحقيقة عند تعذرها ، وبسبب التباس الأخبار غثها بسمينها وصحيحها بسقيمها التجأوا الى هذا الاصطلاح الجديد. وقربوا لنا البعيد ، ونوعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة. وزاد في كتاب مشرق الشمسين : انهم ربما سلكوا طريقة القدماء في بعض الأحيان ، ثم عد (قدس‌سره) مواضع من ذلك. هذا خلاصة ما ذكروا في تعليل ذلك ، ونحن نقول : لنا على بطلان هذا الاصطلاح وصحة أخبارنا وجوه.

(الأول) ما قد عرفت في المقدمة الاولى من أن منشأ الاختلاف في أخبارنا إنما هو التقية من ذوي الخلاف لا من دس الاخبار المكذوبة حتى يحتاج الى هذا الاصطلاح. على انه متى كان السبب الداعي إنما هو دس الأحاديث المكذوبة كما توهموه (رضوان الله عليهم) ففيه انه لا ضرورة تلجئ الى اصطلاحهم ، لأنهم (عليهم‌السلام) قد امرونا بعرض ما شك فيه من الاخبار على الكتاب والسنة فيؤخذ بما وافقهما ويطرح ما خالفهما ، فالواجب في تمييز الخبر الصادق من الكاذب مراعاة ذلك ، وفيه غنية عما تكلفوه ، ولا ريب ان اتباع الأئمة (عليهم‌السلام) اولى من أتباعهم.

(الثاني) ان التوثيق والجرح الذي بنوا عليه تنويع الاخبار إنما أخذوه من كلام القدماء ، وكذلك الأخبار التي رويت في أحوال الرواة من المدح والذم إنما أخذوها عنهم ، فإذا اعتمدوا عليهم في مثل ذلك فكيف لا يعتمدون عليهم في تصحيح ما صححوه من الاخبار واعتمدوه وضمنوا صحته كما صرح به جملة منهم ، كما لا يخفى على من لاحظ ديباجتي الكافي والفقيه وكلام الشيخ في العدة وكتابي الأخبار فإن كانوا ثقاتا عدولا في الاخبار بما أخبروا به ففي الجميع ، وإلا فالواجب تحصيل الجرح والتعديل من غير كتبهم وأنى لهم به (لا يقال) (1) إن أخبارهم بصحة ما رووه في كتبهم يحتمل الحمل على الظن القوي باستفاضة أو شياع أو شهرة معتد بها أو قرينة أو نحو ذلك مما يخرجه عن محوضة الظن (لأنا نقول) فيه (أولا) ان أصحاب هذا الاصطلاح مصرحون بكون مفاد الاخبار عند المتقدمين هو القطع واليقين وانهم إنما عدلوا عنه الى الظن لعدم تيسر ذلك لهم كما صرح به في المنتقى ومشرق الشمسين

__________________

(1) هذا أحد الأجوبة التي أجابوا بها فيما ذكرنا ، صرح به شيخنا أبو الحسن (قده) في كتاب العشرة الكاملة ، حيث انه في الكتاب المذكور كان شديد التعصب لهذا الاصطلاح وترويج القول بالاجتهاد ، الا ان مصنفاته الأخيرة تدل على عدوله عن ذلك وميله الى العمل بالاخبار ، وان كان دون طريقة الأخباريين بل من الجادة الوسطى التي قدمنا الإشارة إليها (منه رحمه‌الله).


(واما ثانيا) فلما تضمنته تلك العبارات مما هو صريح في صحة الاخبار بمعنى القطع واليقين بثبوتها عن المعصومين (فان قيل) تصحيح ما حكموا بصحته أمر اجتهادي لا يجب تقليدهم فيه ، ونقلهم المدح والذم رواية يعتمد عليهم فيها (قلنا) فيه ان أخبارهم بكون الراوي ثقة أو كذابا أو نحو ذلك إنما هو أمر اجتهادي استفادوه بالقرائن المطلعة على أحواله أيضا.

(الثالث) ـ تصريح جملة ـ من العلماء الاعلام وأساطين الإسلام ومن هم المعتمد في النقض والإبرام من متقدمي الأصحاب ومن متأخريهم الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح أيضا ـ بصحة هذه الأخبار وثبوتها عن الأئمة الأبرار ، لكنا نقتصر على ما ذكره أرباب هذا الاصطلاح في المقام ، فإنه أقوى حجة في مقام النقض والإلزام.

فمن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد (نور الله مضجعه) في الذكرى في الاستدلال على وجوب اتباع مذهب الإمامية ، حيث قال ما حاصله : انه كتب من أجوبة مسائل أبي عبد الله (عليه‌السلام) أربعمائة مصنف لاربعمائة مصنف. ودون من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام. وكذلك عن مولانا الباقر (ع) ، ورجال باقي الأئمة (ع) معروفون مشهورون أولوا مصنفات مشتهرة ، فالإنصاف يقتضي الجزم بنسبة ما نقل عنهم إليهم ، الى أن قال بعد عد جملة من كتب الاخبار وغيرها مما يطول تعداده بالأسانيد الصحيحة المتصلة المنتقدة والحسان والقوية : فالإنكار بعد ذلك مكابرة محضة وتعصب صرف. ثم قال : (لا يقال) فمن اين وقع الاختلاف العظيم بين فقهاء الإمامية إذا كان نقلهم عن المعصومين (ع) وفتواهم عن المطهرين (ع)؟ (لأنا نقول) محل الخلاف اما من المسائل المنصوصة أو مما فرعه العلماء ، والسبب في الثاني اختلاف الأنظار ومبادئها كما هو بين سائر علماء الأمة ، واما الأول فسببه اختلاف الروايات ظاهرا ، وقلما يوجد فيها التناقض بجميع شروطه ، وقد كانت الأئمة (ع) في زمن تقية واستتار من مخالفيهم. فكثيرا ما يجيبون السائل على وفق معتقده أو معتقد بعض الحاضرين أو بعض من عساه يصل اليه من المناوئين ، أو يكون عاما مقصورا على سببه أو قضية في واقعة مختصة بها أو اشتباها على بعض النقلة عنهم أو عن الوسائط بيننا وبينهم (عليهم‌السلام). انتهى.

ولعمري انه كلام نفيس يستحق ان يكتب بالنور على وجنات الحور ، ويجب ان يسطر ولو بالخناجر على الحناجر. فانظر الى تصريحه بل جزمه بصحة تلك الروايات التي تضمنتها هذه الكتب التي بأيدينا ، وتخلصه من الاختلاف الواقع بين الاخبار بوجوه تنفي احتمال تطرق دخول الأحاديث الكاذبة في أخبارنا.

ومن ذلك ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني (أعلى الله تعالى رتبته) في شرح الدراية ، حيث قال : «كان قد استقر أمر الإمامية على أربعمائة مصنف سموها أصولا فكان عليها اعتمادهم ، تداعت (1) الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول ، ولخصها جماعة في كتب خاصة تقريبا على المتناول. وأحسن ما جمع منها : الكافي. والتهذيب والاستبصار. ومن لا يحضره الفقيه».

فانظر الى شهادته (قدس‌سره) بكون أحاديث كتبنا هي أحاديث تلك الأصول بعينها (2) وحينئذ فالطاعن في هذه كالطاعن في تلك الأصول. ثم ان الظاهر ان تخصيصه هذه الكتب الأربعة بالأحسنية إنما هو من حيث اشتمالها على أبواب الفقه

__________________

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، وفي المطبوع من شرح الدراية (ثم تداعت).

(2) ويؤيد ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (قدس‌سره) في أول كتاب مشرق الشمسين ، حيث عد من جملة الأمور الموجبة للقطع بصحة الأخبار عند المتقدمين وجودها في كثير من الأصول الأربعمائة المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم‌السلام) ، قال : وكانت متداولة بينهم في تلك الأعصار مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رابعة النهار. انتهى. (منه رحمه‌الله).


كملا على الترتيب بخلاف غيرها من كتب الاخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار. ولا يتوهم ـ من ظاهر قوله : تداعت الحال الى ذهاب معظم تلك الأصول ولخصها الى آخره ـ ان تلخيص تلك الجماعة لها إنما وقع بعد ذهاب معظمها ، فان ذلك باطل (أما أولا) فلأن التلخيص وقع عطفه في كلامه بالواو ، دون ـ ثم ـ المفيدة للترتيب. (واما ثانيا) فلان الظاهر ـ كما صرح به بعض فضلائنا ـ إن اضمحلال تلك الأصول إنما وقع بسبب الاستغناء عنها بهذه الكتب التي دونها أصحاب الأخبار ، لكونها أحسن منها جمعا وأسهل تناولا. وإلا فتلك الأصول قد بقيت الى زمن ابن طاوس (رضي‌الله‌عنه) ، كما ذكر ان أكثر تلك الكتب كان عنده ونقل منها شيئا كثيرا كما يشهد به تتبع مصنفاته. وبذلك يشهد كلام ابن إدريس في آخر كتاب السرائر. حيث انه نقل ما استطرفه من جملة منها شطرا وافرا من الاخبار. وبالجملة : فاشتهار تلك الأصول في زمن أولئك الفحول لا ينكره إلا معاند جهول.

ومن ذلك ما صرح به المحقق الشيخ حسن ابن شيخنا الشهيد الثاني. حيث قال في بحث الإجازة من المعالم ما صورته : «ان أثر الإجازة بالنسبة إلى العمل انما يظهر حيث لا يكون متعلقا معلوما بالتواتر ونحوه ككتب أخبارنا. فإنها متواترة إجمالا ، والعلم بصحة مضامينها تفصيلا يستفاد من قرائن الأحوال ولا مدخل للإجازة فيه غالبا».

ومن ذلك ما صرح به شيخنا البهائي (نور الله مضجعه) في وجيزته ، حيث قال : «جميع أحاديثنا ـ إلا ما ندر ـ ينتهي إلى أئمتنا الاثني عشر (عليهم‌السلام) وهم ينتهون فيها إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى أن قال : وكان قد جمع قدماء محدثينا ما وصل إليهم من كلام أئمتنا (عليهم‌السلام) في أربعمائة كتاب تسمى (الأصول) ثم تصدى جماعة من المتأخرين (شكر الله سعيهم) لجمع تلك الكتب وترتيبها تقليلا للانتشار وتسهيلا على طالبي تلك الاخبار ، فالفوا كتبا مضبوطة مهذبة مشتملة على الأسانيد المتصلة بأصحاب العصمة (عليهم‌السلام) كالكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار. ومدينة العلم ، والخصال. والأمالي. وعيون الاخبار ، وغيرها».

هذا ما حضرني من كلامهم (نور الله تعالى مراقدهم) ، واما كلام المتقدمين ، كالصدوق في الفقيه ، وثقة الإسلام في الكافي ، والشيخ الطوسي في جملة من مؤلفاته ، وعلم الهدى وغيرهم ممن نقلنا كلامهم في غير هذا الكتاب ، فهو ظاهر البيان ساطع البرهان في هذا الشأن.

ثم العجب من هؤلاء الفضلاء الذين نقلنا كلامهم هنا انه إذا كان الحال على ما صرحت به عبائرهم من صحة هذه الاخبار عن الأئمة (عليهم‌السلام) فما الموجب لهم إلى المتابعة في هذا الاصطلاح الحادث؟ وأعجب من ذلك كلام شيخنا البهائي (ره) في كتاب مشرق الشمسين ، حيث ذكر ما ملخصه : ان اجتناب الشيعة لمن كان منهم ثم أنكر إمامة بعض الأئمة (عليهم‌السلام) كان أشد من اجتناب المخالفين في أصل المذهب. وكانوا يتحرزون عن مجالستهم والتكلم معهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم ، فإذا نقل علماؤنا رواية رواها رجل من ثقات أصحابنا عن أحد هؤلاء وعولوا عليها وقالوا بصحتها مع علمهم بحاله. فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح لا يتطرق اليه القدح ، ولا الى ذلك الرجل الثقة الراوي عمن هذا حاله ، كأن يكون سماعه منه قبل عدوله عن الحق وقوله بالوقف ، أو بعد توبته ورجوعه إلى الحق ، أو ان النقل إنما وقع من أصله الذي ألفه واشتهر عنه قبل الوقف ، أو من كتابه الذي ألفه بعد الوقف ولكنه أخذ ذلك الكتاب عن شيوخ أصحابنا الذين عليهم الاعتماد ككتب علي بن الحسن الطاطري ، فإنه وان كان من أشد الواقفية عنادا للإمامية إلا أن الشيخ شهد له في الفهرست بأنه روى كتبه عن الرجال الموثوق بهم وبروايتهم. الى غير ذلك من المحامل الصحيحة ، إلى آخر كلامه (طاب ثراه).

ولقد أجاد فيما أفاد ولكنه ناقض نفسه فيما أورده من العذر للمتأخرين في عدولهم الى تجديد هذا الاصطلاح ، لأن قوله ـ : كانوا يتحرزون عن مجالستهم فضلا عن أخذ الحديث عنهم. وقوله : فقبولهم لها وقولهم بصحتها لا بد من ابتنائه على وجه صحيح ـ يستلزم أن تكون أحاديث كتب هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين شهدوا بصحة ما رووه فيها كلها صحيحة.

(الرابع) ـ انه لو تم ما ذكروه وصح ما قرروه للزم فساد الشريعة وإبطال الدين ، لأنه متى اقتصر في العمل على هذا القسم الصحيح أو مع الحسن خاصة أو بإضافة الموثق ايضا ورمي بقسم الضعيف باصطلاحهم من البين والحال ان جل الاخبار من هذا القسم كما لا يخفى على من طالع كتاب الكافي أصولا وفروعا وكذا غيره من سائر كتب الاخبار وسائر الكتب الخالية من الأسانيد. لزم ما ذكرنا وتوجه ما طعن به علينا العامة من ان جل أحاديث شريعتنا مكذوبة مزورة ، ولذا ترى شيخنا الشهيد في الذكرى كيف تخلص من ذلك بما قدمنا نقله عنه دفعا لما طعنوا به علينا ونسبوه إلينا. ولله در المحقق (ره) في المعتبر حيث قال : أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى انقادوا لكل خبر وما فطنوا الى ما تحته من التناقض. فان من جملة الأخبار قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌ وآله) : «ستكثر بعدي القالة». الى أن قبل : واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كل سليم السند يعمل به. وما علم ان الكاذب قد يصدق والفاسق قد يصدق ولم يتنبه ان ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب. إذ لا مصنف إلا وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل ، الى أن قال : وكل هذه الأقوال منحرفة عن السنن. والتوسط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل به وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه. انتهى. وهو قوي متين بل جوهر ثمين.

(الخامس) ـ ان ما اعتمدوه من ذلك الاصطلاح غير منضبط القواعد والبنيان ولا مشيد الجوانب والأركان (أما أولا) فلاعتمادهم في التمييز بين أسماء الرواة المشتركة على الأوصاف والألقاب والنسب والراوي والمروي عنه ونحوها ، ولم لا يجوز اشتراك هذه الأشياء؟ وذلك ، لان الرواة عنهم (عليهم‌السلام) ليسوا محصورين في عدد مخصوص ولا في بلدة واحدة ، وقد نقل الشيخ المفيد (ره) في إرشاده : ان الذين رووا عن الصادق (ع) خاصة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات كانوا أربعة آلاف رجل. ونحو ذلك ذكر ابن شهرآشوب في كتاب معالم العلماء. والطبرسي في كتاب اعلام الورى ، والجميع قد وصفوا هؤلاء الأربعة آلاف بالتوثيق وهو مؤيد لما ادعيناه ومشيد لما أسسناه ، فإذا كان هؤلاء الرواة عن الصادق (عليه‌السلام) خاصة فما بالك بالرواة عن الباقر إلى العسكري (عليهم‌السلام)؟ فأين تأثير القرائن في هذه الاعداد؟ واين الوصول الى تشخيص المطلوب منها والمراد؟ (واما ثانيا) فلان مبنى تصحيح الحديث عندهم على نقل توثيق رجاله في أحد كتب المتقدمين. ككتاب الكشي. والنجاشي. والفهرست ، والخلاصة. ونحوها ، نظرا الى ان نقلهم ذلك شهادة منهم بالتوثيق ، حتى ان المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى لم يكتف في تعديل الراوي بنقل واحد من هؤلاء بل أوجب في تصحيح الحديث نقل اثنين منهم لعدالة الراوي ، نظرا إلى انها شهادة فلا يكفي فيها الواحد.

وأنت خبير بما بين مصنفي تلك الكتب وبين رواة الاخبار من المدة والأزمنة المتطاولة فكيف اطلعوا على أحوالهم الموجب للشهادة بالعدالة أو الفسق؟ والاطلاع على ذلك ـ بنقل ناقل أو شهرة أو قرينة حال أو نحو ذلك كما هو معتمد مصنفي تلك الكتب في الواقع ـ لا يسمى شهادة. وهم قد اعتمدوا على ذلك وسموه شهادة ، وهب ان ذلك كاف في الشهادة ، لكن لا بد في العمل بالشهادة من السماع من الشاهد لا بمجرد نقله في كتابه ، فإنه لا يكفي في كونه شهادة ، هب انا سلمنا الاكتفاء به في ذلك. فما الفرق بين هذا النقل في هذه الكتب وبين نقل أولئك ـ الأجلاء الذين هم أساطين المذهب ـ صحة كتبهم وانها مأخوذة عن الصادقين (عليهم‌السلام)؟ فيعتمد عليهم في أحدهما دون الآخر (واما ثالثا) فلمخالفتهم أنفسهم فيما قرروه من ذلك الاصطلاح فحكموا بصحة أحاديث هي باصطلاحهم ضعيفة كمراسيل ابن ابي عمير ، وصفوان بن يحيى ، وغيرهما. زعما منهم ان هؤلاء لا يرسلون إلا عن ثقة. ومثل أحاديث جملة من مشايخ الإجازة لم يذكروا في كتب الرجال بمدح ولا قدح. مثل احمد بن محمد بن الحسن بن الوليد ، واحمد بن محمد بن يحيى العطار ، والحسين بن الحسن بن ابان ، وابي الحسين ابن ابي جيد. وأضرابهم. زعما منهم ان هؤلاء مشايخ الإجازة وهم مستغنون عن التوثيق. وأمثال ذلك كثير يظهر للمتتبع (واما رابعا) فلاضطراب كلامهم في الجرح والتعديل على وجه لا يقبل الجمع والتأويل ، فترى الواحد منهم يخالف نفسه فضلا عن غيره ، فهذا يقدم الجرح على التعديل ، وهذا يقول لا يقدم إلا مع عدم إمكان الجمع ، وهذا يقدم النجاشي على الشيخ ، وهذا ينازعه ويطالبه بالدليل. وبالجملة : فالخائض في الفن يجزم بصحة ما ادعيناه ، والبناء من أصله لما كان على غير أساس كثر الانتقاض فيه والالتباس.

(السادس) ـ ان أصحاب هذا الاصطلاح قد اتفقوا على ان مورد التقسيم إلى الأنواع الأربعة إنما هو خبر الواحد العاري عن القرائن. وقد عرفت ـ من كلام أولئك الفضلاء المتقدم نقل كلامهم ، وبذلك صرح غيرهم ايضا ـ ان اخبار كتبنا المشهورة محفوفة بالقرائن الدالة على صحتها. وحينئذ يظهر عدم وجود مورد التقسيم المذكور في اخبار هذه الكتب. وقد ذكر صاحب المنتقى : ان أكثر أنواع الحديث المذكورة في دراية الحديث بين المتأخرين من مستخرجات العامة بعد وقوع معانيها في أحاديثهم وانه لا وجود لأكثرها في أحاديثنا. وأنت إذا تأملت بعين الحق واليقين وجدت التقسيم المذكور من هذا القبيل. الى غير ذلك من الوجوه (1) التي انهيناها في كتاب المسائل إلى اثني عشر وجها ، وطالب الحق المصنف تكفيه الإشارة والمكابر المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة.

__________________

(1) ومنها ـ ان التعديل والجرح موقوف على معرفة ما يوجب الجرح ومنه الكبائر. وقد اختلفوا فيها اختلافا شديدا ، فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدل وجرحه إلا مع العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العمل ، وهذا العلم مما لا يمكن أصلا ، إذ المعدلون والجارحون من علماء الرجال ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما ، قال شيخنا البهائي (قدس‌سره) على ما نقل عنه من المشكلات ، انا لا نعلم مذهب الشيخ الطوسي في العدالة وانه يخالف مذهب العلامة ، وكذا لا لعلم مذهب بقية أصحاب الرجال كالكشي والنجاشي ، وغيرهم ، ثم نقبل تعويل العلامة في التعديل على تعديل أولئك. وايضا كثير من الرجال ينقل عنه انه كان على خلاف المذهب ثم رجع وحسن إيمانه ، والقوم يجعلون روايته في الصحيح مع انهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع؟ بعد التوبة أم قبلها؟. وهذان المشكلان لا اعلم ان أحدا قبل تنبه لشي‌ء منهما. انتهى.

(ومنها) ـ ان العدالة بمعنى الملكة المخصوصة عند المتأخرين مما لا يجوز إثباتها بالشهادة ، لأن الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلا في المحسوسات لا فيما خفي كالعصمة فلا تقبل فيها الشهادة ، فلا اعتماد على تعديل المعدلين بناء على اعتقاد المتأخرين. وهذا مما أورده المحدث الأمين (قدس‌سره).

(ومنها) ـ انه قد تقرر في محله ان شهادة فرع الفرع غير مسموعة ، إذ لا يقبل إلا من شاهد الأصل أو شاهد الفرع خاصة ، على ان شهادة علماء الرجال على أكثر المعدلين والمجروحين انما هو من شهادة فرع الفرع ، فان الشيخ والنجاشي ونحوهما لم يلقوا أصحاب الباقر والصادق (ع) فلا تكون شهادتهم إلا من قبيل شهادة فرع الفرع بمراتب كثيرة فكيف يجوز التعويل شرعا على شهادتهم ثم بالجرح والتعديل. وهذا ايضا مما أورده المحدث الأمين (قدس‌سره) الى غير ذلك من الوجوه التي لا يسع الإتيان عليها. إلا ان المحقق المنصف تكفيه الإشارة والمعاند المتعسف لا ينتفع ولو بألف عبارة (منه ره).

(تتمة مهمة)

قد اشتهر بين أكثر متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) قصر العمل بالاخبار على ما في هذه الكتب الأربعة المشهورة ، زعما منهم ان غيرها لم يبلغ في الضبط والانتقاد على وجه يوجب الاعتماد على مثله. وقد علت ـ مما قدمنا من كلام شيخنا البهائي (رحمه‌الله) في الوجيزة ، ومثله ايضا شيخنا الشهيد في الذكرى مما طويناه في أثناء كلامه المتقدم ذكره ـ عدم الانحصار في الكتب المشار إليها ، وهو الحق الحقيق بالاتباع ، قال السيد المحدث السيد نعمة الله الجزائري (طيب الله مرقده) في مقدمات شرحه على التهذيب : «والحق ان هذه الأصول الأربعة لم تستوف الأحكام كلها ، بل قد وجدنا كثيرا من الأحكام في غيرها ، مثل عيون أخبار الرضا. والأمالي ، وكتاب الاحتجاج ، ونحوها. فينبغي مراجعة هذه الكتب وأخذ الأحكام منها ولا يقلد العلماء في فتاويهم ، فإن أخذ الفتوى من دليلها هو الاجتهاد الحقيقي ، وكم قد رأينا جماعة من العلماء ردوا على الفاضلين بعض فتاويهم لعدم الدليل فرأينا دلائل تلك الفتاوى في غير الأصول الأربعة ، خصوصا كتاب الفقه الرضوي الذي اتي به من بلاد الهند في هذه الأعصار إلى أصفهان وهو الآن في خزانة شيخنا المجلسي ، فإنه قد اشتمل على مدارك كثيرة للاحكام وقد خلت عنها هذه الأصول الأربعة وغيرها» انتهى كلامه زيد مقامه. ولقد أجاد فيما حرر وفصل وأشاد وطبق المفصل وعليه المعتمد والمعول. ولقد وفق الله تعالى شيخنا غواص بحار الأنوار الى استخراج كنوز تلك الآثار فجمعها في جامعه المشهور ب (البحار) بعد التقاطها من جميع الأقطار ، جزاه الله تعالى عن علماء الفرقة المحقة أفضل جزاء الأبرار. وقد جمع فيه أخبارا جمة من الأصول المندرسة وأظهر كنوزا من الأحكام كانت بمرور الأيام منطمسة. ومن جملتها كتاب الفقه الرضوي الذي ذكره السيد المتقدم ذكره. قال شيخنا المشار إليه في مقدمات كتاب البحار في ضمن تعداد الكتب التي نقل منها ما لفظه : «كتاب فقه الرضا (عليه‌السلام) أخبرني به السيد الفاضل المحدث القاضي أمير حسين (طاب ثراه) بعد ما ورد أصفهان. قال : قد اتفق في بعض سني مجاورتي ببيت الله الحرام ان أتاني جماعة من أهل قم حاجين. وكان معهم كتاب قديم يوافق تاريخه عصر الرضا (عليه‌السلام). وسمعت الوالد (رحمه‌الله) انه قال : سمعت السيد يقول : كان عليه خطه (صلوات الله عليه) وكان عليه إجازات جماعة كثيرة من الفضلاء. وقال السيد : حصل لي العلم بتلك القرائن أنه تأليف الإمام (عليه‌السلام) وأخذت الكتاب وكتبته وصححته. فأخذ والدي (قدس الله روحه) هذا الكتاب من السيد واستنسخه وصححه. وأكثر عباراته موافق لما يذكره الصدوق أبو جعفر بن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه من غير سند وما يذكره والده في رسالته اليه ، وكثير من الأحكام ـ التي ذكرها أصحابنا ولا يعلم مستندها ـ مذكورة فيه كما ستعرف في أبواب العبادات» انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه.

أقول : وما ذكره (قدس‌سره) ـ من مطابقة كلام الصدوق في الفقيه ووالده في رسالته لما في الكتاب المذكور ـ قد وقفت عليه في غير موضع وسيمر بك ان شاء الله تعالى في كتابنا هذا ، وقد اعتمدنا في الاستدلال في كتابنا هذا على ما اعتمده شيخنا المذكور من الكتب المعدودة في كتابه ، وستمر بك اخبارها في أثناء الأبحاث ان شاء الله تعالى.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *