ج5 - الإستحالة والإنقلاب وغيرهما

المسألة الرابعة

من المطهرات عند الأصحاب الاستحالة إلا انهم قد اتفقوا على مواضع منها واختلفوا في مواضع : فاما ما وقع عليه الاتفاق فالنطفة والعلقة إذا استحالتا حيوانا طاهرا والخمر إذا انقلب خلا والدم إذا صار قيحا ، وقد نقل العلامة في المنتهى الإجماع على الحكم في كل من هذه المذكورات وأضاف إلى القيح الصديد ايضا ، وفيه كلام تقدم في آخر الفصل الرابع في نجاسة الدم وهو ان الصديد قيح يخالطه الدم كما لا يخفى ، ومن ذلك أيضا استحالة الماء النجس بولا لحيوان مأكول اللحم والغذاء النجس روثا لحيوان مأكول اللحم.

واما ما وقع فيه الخلاف من الافراد فمنه ـ ما تقدم في مسألة التطهير بالنار ، ومنه ـ الكلب إذا وقع في المملحة فصار ملحا فذهب المحقق في المعتبر والعلامة في عدة من كتبه الى عدم الطهارة ، قال في المنتهى : إذا وقع الخنزير وشبهه في ملاحة فاستحال ملحا والعذرة في البئر فاستحالت حمأة لم تطهر وهو قول أكثر أهل العلم خلافا لأبي حنيفة (1) وبنحو ذلك صرح المحقق في المعتبر ، واحتجا بأن النجاسة قائمة بالأجزاء لا بالصفات فلا تزول بتغير أوصاف محلها وتلك الأجزاء باقية فتكون النجاسة باقية لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها. والمشهور في كلام المتأخرين عنهما هو القول بالطهارة لما قدمنا ذكره في بحث تطهير النار من ان الأحكام تابعة للاسم الجاري على حقائق الأشياء وجارية على ذلك ، والكلب بعد استحالته ملحا قد صارت حقيقته إلى حقيقة الملح وسمي باسم آخر باعتبار ما صار اليه ، فما ورد من الأخبار الدالة على نجاسة الكلب لا تصدق في محل البحث والاخبار الدالة على طهارة الملح وحله جارية عليه في هذه الحالة بعين ما وافقوا عليه في الافراد المتقدمة ، ولو صحت هذه التعليلات العليلة لجرت ايضا فيما وافقوا على طهارته بالاستحالة.

__________________

(1) كما في البحر الرائق ج 1 ص 227.


ولا بأس بالتعرض لنقل كلام جملة من الأصحاب في الباب ليزول عنك الشك فيما ذكرنا والارتياب. قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد بعد ان ذكر عبارة المصنف المؤذنة بالتوقف في الحكم المذكور في بيان وجهي التوقف : من ان اجزاء النجاسة باقية لم تزل وانما تغيرت الصورة وكما ان النجاسة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل كذا حصول الطهارة موقوف على الدليل ولم يثبت ، ومن ان مناط النجاسة هي تلك الصورة مع الاسم لأن أحكام الشرع جارية على المسميات بواسطة الأسماء لأن المخاطب بها كافة الناس فينزل على ما هو المتفاهم بينهم عرفا أو لغة كما يليق بالحكمة ، ولا ريب ان الذي كان من افراد نوع الكلب قبل الاستحالة بحيث يصدق عليه اسمه قد زال عنه ما كان وصار في الفرض من افراد الملح بحيث لا يصدق عليه ذلك الاسم بل يعد إطلاقه غلطا ، وكذا القول في العذرة بعد صيرورتها ترابا فيجب الآن ان تجري عليها الأحكام المترتبة شرعا على التراب والملح ، على ان جميع ما أجمعوا على طهارته من نحو العذرة تصير دودا والمني يصير حيوانا طاهر العين ونحو ذلك لا يزيد على هذا ، فكان التوقف في الطهارة هنا لا وجه له. انتهى كلامه. وهو جيد وجيه وبالجملة فإن المعلوم من الشرع والنصوص الواردة عن أهل الخصوص (عليهم‌السلام) هو دوران الأحكام مدار الأسماء الثابتة لتلك المسميات فإذا حكم الشارع بنجاسة الكلب مثلا أو العذرة بقي الحكم ثابتا ما ثبت هذا الاسم وإذا حكم بطهارة الملح وحله وطهارة التراب ثبت ايضا ما ثبت الاسم كائنا ما كان ، وقد تقدم كلام صاحب المدارك في ذلك في سابق هذه المسألة ونحوه كلام جده ، وقال المحقق الشيخ حسن في المعالم في هذه المسألة بعد نقل القول بالنجاسة عن الفاضلين والطهارة عن فخر المحققين والمحقق الشيخ علي والشهيد ووالده ـ ما صورته : وهو الأظهر لنا ـ ان الحكم بالنجاسة منوط بالاسم كما هو الشأن في سائر الأحكام الشرعية فيزول بزواله والمفروض في محل النزاع انتفاء صدق الاسم الأول ودخوله تحت اسم آخر فيجب زوال الحكم الأول ولحوق


أحكام الاسم الثاني له ، ثم نقل حجة الفاضلين المتقدمة وقال : والجواب ان قيام النجاسة بالأجزاء مسلم لكن لا مطلقا بل بشرط الوصف لانه المتبادر من تعليق الحكم بالاسم والمعهود في الأحكام الشرعية ولا ريب في انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه. انتهى.

وهو جيد وجيه.

فرعان

(الأول) ـ قد نبه جملة من الأصحاب في الصورة المفروضة على اشتراط كرية ماء المملحة. والظاهر ان الوجه فيه تنجس الماء والأرض لو كان الماء أقل من كر وكذا الملح الملاقي له في المملحة ، فطهارته بالاستحالة بعد تنجس جميع ذلك لا يجدي في زوال النجاسة العارضة به أولا وكذا استحالة الماء ملحا بعد نجاسة أرضه لا يجدي في زوال النجاسة عنه.

(الثاني) ـ ينبغي ان يعلم ان طهارة العذرة مثلا باستحالتها ترابا والحكم بطهارة التراب في الصورة المذكورة انما هو فيما إذا كانت العذرة التي كانت في الأرض يابسة ثم استحالت اما لو كانت رطبة ثم استحالت فإن الأرض قد تنجست بها في حال الرطوبة فهي وان استحالت إلا ان الأرض باقية على النجاسة بذلك السبب وان كانت عرضية ، وهكذا كل نجاسة رطبة استحالت أرضا.

واما باقي المطهرات العشرة كما عده الأصحاب فمنه ـ الإسلام والأمر فيه ظاهر ، والانقلاب وقد تقدمت الإشارة إليه في الاستحالة بانقلاب الخمر خلا والعصير ، وعليه تدل جملة من الاخبار ومنها ـ موثقة عبيد بن زرارة (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يأخذ الخمر فيجعله خلا؟ قال لا بأس». وموثقة أخرى له ايضا عن الصادق (عليه‌السلام) (2) انه قال : «في رجل باع عصيرا فحبسه السلطان حتى

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 31 من الأشربة المحرمة.


صار خمرا فجعله صاحبه خلا؟ فقال إذا تحول عن اسم الخمر فلا بأس». وفي هذا الخبر كما ترى دلالة على ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام الشرعية للاسم طهارة ونجاسة وحلا وحرمة ومنها ـ نقصان العصير وقد تقدم جملة من الأخبار الدالة عليه في فصل نجاسة الخمر. ومنها ـ الانتقال كالدم المنتقل إلى البعوضة والقمل ونحوهما والحكم فيه ايضا مما لا خلاف فيه ولا اشكال يعتريه والله العالم.

(المقصد الثالث) ـ في الأواني والكلام يقع في حكم تطهيرها وبيان ما يجوز استعماله منها وما لا يجوز فالكلام في هذا المقصد يقع في مطلبين (الأول) في حكم تطهيرها وفيه مسائل :

(الأولى) اختلف الأصحاب في كيفية تطهير الإناء من ولوغ الكلب بالماء القليل ، فالمشهور انه يطهر بغسله ثلاث مرات أولاهن بالتراب. وقال المفيد (قدس‌سره) في المقنعة يغسل ثلاثا وسطاهن بالتراب ثم يجفف. وأطلق جملة من الأصحاب : منهم ـ المرتضى (رضي‌الله‌عنه) والشيخ في الخلاف انه يغسل ثلاثا إحداهن بالتراب وقال الصدوق في الفقيه بعد تقدم ذكر الإناء : «وان وقع فيه كلب أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم يجفف» وكذا نقله عن أبيه في الرسالة أيضا بعين هذه العبارة ، وقال ابن الجنيد في مختصره : «والأواني إذا نجست بولوغ الكلب أو ما جرى مجراه غسل سبع مرات أولاهن بالتراب».

والذي وقفت عليه من الأخبار في المسألة صحيحة أبي الفضل البقباق المروية في التهذيب عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء». وروى هذه الرواية المحقق في المعتبر وكذا العلامة في المنتهى وزادا لفظ «مرتين» بعد قوله «بالماء».

وما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه‌السلام) (2) : «ان وقع كلب في الماء أو شرب منه أهريق الماء وغسل الإناء ثلاث مرات مرة بالتراب ومرتين بالماء ثم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من الأسآر و 12 من النجاسات.

(2) ص 5.


يجفف». انتهى. ومن هذه العبارة أخذ الصدوق في الفقيه وكذا في المقنع وأبوه في الرسالة ما ذكراه حسبما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى في جملة من الأحكام الآتية في كتاب الصلاة والكتب التي بعده.

وما رواه الشيخ في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ؟ قال تغسله سبع مرات وكذلك الكلب». والظاهر ان هذا الخبر مستند ابن الجنيد في ما نقل عنه من السبع والخبر وان كان خاليا من ذكر التراب إلا انه يمكن أخذه من الخبر المتقدم.

وتحقيق البحث في المسألة يتوقف على بسط الكلام في موارد (الأول) ـ مورد الخبرين المتقدمين شرب الكلب من الإناء والأصحاب عبروا في هذا الموضع بالولوغ وهو لغة ـ على ما نص عليه في الصحاح وغيره ـ شرب الكلب بطرف لسانه ، وزاد في القاموس إدخال لسانه في الإناء وتحريكه.

ونص جماعة من متأخري الأصحاب على ان لطع الكلب بلسانه اي لحسه للإناء في معنى الولوغ ايضا وان لم يصدق عليه اسمه حقيقة نظرا إلى انه اولى بالحكم من الولوغ فيتناوله الدليل بمفهوم الموافقة ، وصرح به في المدارك واستحسنه في المعالم وهو غير بعيد.

ونص العلامة في النهاية على انه لو حصل اللعاب بغير الولوغ فالأقوى إلحاقه به إذ المقصود قلع اللعاب من غير اعتبار السبب ، قال وهل يجري عرقه وسائر رطوباته واجزائه وفضلاته مجرى لعابه؟ إشكال الأقرب ذلك لان فمه أنظف من غيره ولهذا كانت نكهته أطيب من غيره من الحيوانات لكثرة لهثه ، مع انه قال في المنتهى : لا يغسل بالتراب إلا من الولوغ خاصة فلو ادخل الكلب يده أو رجله أو غيرهما كان كغيره من النجاسات ، ثم نقل عن ابن بابويه التسوية بين الوقوع والولوغ ونقل أقوال بعض العامة ثم أجاب عنه بأنه تكليف غير معقول المعنى فيقف على النص وهو انما دل

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.


على الولوغ ، ثم نقل حجة المخالف بان كل جزء من الحيوان يساوي بقية الاجزاء في الحكم ، ثم أجاب بأن التساوي ممنوع والفرق واقع إذ في الولوغ تحصل ملاقاة الرطوبة اللزجة للإناء المفتقرة إلى زيادة في التطهير. وقد اقتفى في هذه الحجة المحقق في المعتبر ومنها يعلم الجواب عما صار إليه في النهاية ، ومن العجب انه قال فيها بعد الكلام المتقدم بسطر واحد تقريبا : ولو ادخل يده أو رجله أو غيرهما من اجزائه كان كغيره من النجاسات وقيل بمساواته للولوغ ، والأصحاب قد نقلوا عن ابني بابويه إلحاق الوقوع بالولوغ وردوه بعدم الدليل.

قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما : والمشهور بين الأصحاب قصر الحكم على الولوغ وما في معناه وهو اللطع ، والوجه فيه ظاهر إذ النص انما ورد في الولوغ وادعاء الأولوية في غيره مطلقا في حيز المنع وبدونها يكون الإلحاق قياسا. انتهى.

أقول : العذر لهم واضح حيث انهم لم يقفوا على هذا الكتاب الذي هو مستندهم في جميع ما يستغربونه من الأحكام التي يقول بها ولم يوجد مستندها في الكتب المشهورة. لكن الاولى بهم في مثل المقام ان يحملوا كلامهما على وصول خبر إليهما ولم يصل الى المتأخرين حيث انهما من أرباب النصوص الذين لا يعولون إلا عليها على الخصوص لا على مفهوم أولوية ولا قياس ولا نحوهما مما لا يخرج عن شبهة الالتباس ، وبالجملة فقد عرفت مستندهما في ما ذكراه فلا ورود لما أورد عليهما.

والعجب ايضا ان ممن صرح بإلحاق الوقوع بالولوغ المفيد (قدس‌سره) والظاهر ان مستنده أيضا في ذلك هو الكتاب المذكور وان كانت عبارته على غير نهج عبارة الكتاب حيث قال : إذا شرب منه كلب أو وقع فيه أو ماسة ببعض أعضائه فإنه يهراق ما فيه من ماء ثم يغسل مرة بالماء ومرة ثانية بالتراب ومرة ثالثة بالماء ويجفف ويستعمل. ومنه يظهر قوة ما ذهب إليه في النهاية بالنسبة الى اجزاء الكلب. نعم ما ذكره زيادة على ذلك من عرقه وسائر رطوباته محل توقف لعدم الدليل.


(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب من غير خلاف يعرف متقدميهم ومتأخريهم هو وجوب المرتين بالماء مع ان الخبر الذي نقله الشيخ خال من ذلك ولفظ المرتين انما وجد في الخبر بنقل المعتبر ومن أجل ذلك اعترضهم في المدارك فقال بعد نقل الخبر عن الشيخ : كذا وجدته في ما وقفت عليه من كتب الأخبار ونقله كذلك الشيخ (قدس‌سره) في مواضع من الخلاف والعلامة في المختلف إلا ان المصنف في المعتبر نقله بزيادة لفظ «مرتين» بعد قوله : «اغسله بالماء» وقلده في ذلك من تأخر عنه ، ولا يبعد ان تكون الزيادة وقعت سهوا من قلم الناسخ ، ومقتضى إطلاق الأمر بالغسل الاكتفاء بالمرة الواحدة بعد التعفير إلا ان ظاهر المنتهى وصريح الذكرى انعقاد الإجماع على تعدد الغسل بالماء فان تم فهو الحجة وإلا أمكن الاجتزاء بالمرة لحصول الامتثال بها. انتهى أقول : ان ذكر المرتين لو اختص بمن تأخر عن المحقق لتم ما ذكره ولكنه موجود في كلام المتقدمين كالشيخين والصدوقين والمرتضى وغيرهم. واما ما ادعاه من توهم السهو في النقل فقد أجاب عنه شيخنا البهائي في الحبل المتين بان عدم اطلاعنا على هذه الزيادة في الأصول المتداولة في هذا الزمان غير قادح وان كلام المحقق في المعتبر يعطي انه نقل بعض الأحاديث المذكورة من كتب ليست في أيدي أهل زماننا إلا أسماؤها ككتب الحسن بن محبوب واحمد بن محمد بن ابي نصر والحسين بن سعيد والفضل بن شاذان وغيرهم ، ولعله (قدس‌سره) نقل هذه الزيادة من بعض هذه الكتب. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ما عرفت من تصريح أساطين الفرقة الناجية بذلك ووجود ذلك في كتاب الفقه فلا مجال للتوقف فيه.

(الثالث) ـ قد عرفت مما تقدم انه أطلق جملة من الأصحاب الغسل ثلاثا إحداهن بالتراب ، وبعض قيد بتقديم التراب وبعض جعله متوسطا ، وظاهر الجميع الاتفاق على عدم جواز التأخير. بقي الكلام في القولين المذكورين وصحيحة البقباق


قد صرحت بالتقديم. واما القول بالتوسط كما ذهب اليه شيخنا المفيد فلم نقف له على مستند.

(الرابع) ـ اختلف الأصحاب في الغسلة التي بالتراب هل يجب المزج فيها بالماء أم لا؟ فذهب إلى الأول الراوندي وابن إدريس ومال إليه العلامة في المنتهى خاصة ، والمشهور العدم لكنهم بين ساكت عن حكم المزج وبين مصرح بجوازه واجزائه في التطهير ، وممن صرح بالاجزاء الشهيد في الدروس والبيان وهو ظاهر الشهيد الثاني في المسالك أيضا إلا انه اشترط بان لا يخرج التراب بالمزج عن اسمه.

قال ابن إدريس على ما نقله عنه العلامة في المختلف : كيفية غسله بالتراب ان يمزج الماء بالتراب ثم يغسل به الإناء أول مرة لأن حقيقة الغسل جريان المائع على المحل. وقال في المنتهى قال ابن إدريس الغسل بالتراب غسل بمجموع الأمرين منه ومن الماء لا يفرد أحدهما عن لآخر إذ الغسل بالتراب لا يسمى غسلا لان حقيقته جريان المائع على الجسم المغسول والتراب وحده غير جار ، وفي اشتراط الماء نظر وان كان ما قاله قويا. انتهى.

أقول : ومن هذا الكلام علم دليل القول المذكور وملخصه ان حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم المغسول والتراب وحده لا يحصل به الجريان فيعتبر مزجه بالماء تحصيلا لحقيقة الغسل.

وأجاب عنه المحقق الشيخ علي بأنه خيال ضعيف فان الغسل حقيقة إجراء الماء فالمجاز لازم على تقدير ذلك مع ان الأمر بغسله بالتراب والممزوج ليس ترابا.

وأجاب عنه الشهيد في الذكرى تبعا للعلامة في المختلف بأنه لا ريب في انتفاء الحقيقة على التقديرين والخبر مطلق فلا ترجيح. وهو يرجع في الحقيقة إلى الأول وتوضيحه ان ادعاء صدق مفهوم الغسل مع المزج ان كان بالنظر الى الحقيقة فالمزج ليس بمحصل لحقيقة الغسل قطعا إذ الغسل حقيقة انما هو بالماء أو نحوه من المائعات المشابهة له ، وان كان باعتبار المجاز فهو صادق بالتراب وحده ، وليس على ترجيح


أحد المجازين دليل ، والإطلاق الواقع في الخبر يدل بظاهره على الاكتفاء بأقل ما يتحقق معه الاسم فيحتاج إثبات الزائد عليه الى دليل.

ويمكن دفعه بان يقال ان التراب الممتزج وان لم يسم غسلا حقيقة إلا أنه أقرب الى حقيقة الغسل من الدلك بالتراب وحده ومع تعذر الحقيقة يصار إلى أقرب المجازات إلا انه ربما تطرق القدح ايضا الى هذا الوجه بأنه على تقدير المزج يلزم ارتكاب تجوزين (أحدهما) في الغسل كما اعترف به ، و (ثانيهما) في التراب فان الممزوج بالماء على وجه يحصل فيه الجريان لا يسمى ترابا كما تقدم في كلام المحقق الشيخ علي ، واما على الوجه الآخر وهو الغسل بالتراب وحده فإنما يلزم ارتكاب مجاز واحد في لفظ الغسل.

وربما بنى الكلام في المقام على معنى الباء في قوله (عليه‌السلام) «بالتراب» فان حملناها علي الاستعانة كما في قولهم «كتبت بالقلم» والظرف حينئذ لغو ومتعلقة خاص مذكور تعين التجوز في لفظ الغسل بإرادة الدلك منه بنوع من العلاقة وكان الخبر واضح الدلالة على القول المشهور ، وان حملناها على المصاحبة كما في قولهم «دخلت عليه بثياب السفر» فالظرف على هذا التقدير حال من الغسل المدلول عليه بالأمر وهو حينئذ مستقر لكون متعلقة امرا عاما واجب الحذف وهو الكون والاستقرار كما قرر في محله من الكتب النحوية ، وعلى هذا فلا حاجة الى التجوز في الغسل بل يبقى على حقيقته إلا انه يحتاج الكلام الى تقدير متعلق الجار ويصير حاصل الكلام واغسله حال كون الغسل كائنا بمصاحبة التراب ، وليس في هذا الوجه ما ربما يستبعد به إلا تقدير متعلق الجار وهو وان كان خلاف الأصل إلا ان مقتضى القواعد النحوية ذلك ، وبهذا الوجه يكون الخبر حجة لابن إدريس ومن قال بمقالته وربما رجح ايضا بقلة استعمال الغسل في الدلك بالتراب وبعده عن الفهم وليس الإضمار لمتعلق الجار بهذه المثابة بل هو شائع الاستعمال. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من الاشكال لما عرفت والاحتياط بالتراب وحده والتراب الممزوج مما لا ينبغي تركه.


تذنيب

قال العلامة في التذكرة. ان قلنا بمزج التراب بالماء فهل يجزئ لو صار مضافا؟ اشكال ، وعلى تقديره هل يجزئ عوض الماء ماء الورد وشبهه؟ اشكال ، وبنى الحكم في النهاية على ان التعفير هل ثبت تعبدا أو استظهارا في القلع بغير الماء؟ فعلى الأول يتوقف فيه مع ظاهر النقل وعلى الثاني يجزئ عوض الماء غيره من المائعات كالخل وماء الورد ولا يضر خروج الماء عن الإطلاق بالمزج بطريق أولى.

أقول : أنت خبير بان الظاهر ان الأمر بالتعفير انما هو تعبد شرعي والتعليل بإزالة الأجزاء اللعابية علة مستنبطة مع تخلفها في كثير من الموارد كما لا يخفى ، والمعلوم من الشرع عدم مدخلية غير الماء المطلق في التطهير مطلقا ، وصدق التراب مع صيرورة الماء به مضافا لا يخلو من اشكال ، وبالجملة فإن إدخال هذه الفروع في المسألة لا يخلو من الاشكال.

(الخامس) ـ قد نص جمع من الأصحاب على اشتراط طهارة التراب التفاتا الى ان المطلوب منه التطهير والنجس لا يطهر ، واحتمل العلامة في النهاية أجزاء النجس ووجهه بان المقصود من التراب الاستعانة على القلع بشي‌ء آخر وشبهه حينئذ بالدفع بالنجس وأنت خبير بما فيه لان التعليل بما ذكره وان تكرر في كلام جملة منهم إلا انه غير معلوم من النص بل هو علة مستنبطة بأهل القياس انسب. وظاهر كلام صاحبي المعالم والمدارك الجواز بالنجس نظرا إلى إطلاق النص إلا انه قال في المعالم بعد ذلك : ولعل ارادة الطاهر تتبادر الى الفهم عند الإطلاق. وقال في المدارك بعد ان نقل عن العلامة في المنتهى اشتراط طهارة التراب لان المطلوب منه التطهير وهو غير مناسب للنجس : ويشكل بإطلاق النص وحصول الإنقاء بالطاهر والنجس.

أقول : والتحقيق عندي هو ما تقدمت الإشارة إليه في مسألة تطهير الأرض من ان الأظهر الاستدلال على مثل هذا الحكم بالحديث الوارد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله)


بعدة طرق من قوله (1) : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». فإنه شامل للطهارة الحدثية والخبثية ، والطهور ـ كما تقدم تحقيقه في صدر الكتاب ـ هو الطاهر المطهر ، فيجب الحكم هنا بطهارة التراب وان غفل عنه الأصحاب في هذا الباب.

(السادس) ـ نقل العلامة في المختلف عن ابن الجنيد انه يجزئ في الغسلة الأولى التراب أو ما قام مقامه وهو يدل على عدم تحتم التراب عنده بل يجزئ ما قام مقامه في إزالة النجاسة عن المحل وظاهره التخيير بين التراب وغيره مما في معناه ، وجمهور الأصحاب على خلافه وقوفا على النص الوارد في المسألة كما تقدم ، ولعل ذهاب ابن الجنيد الى ذلك مبني على ما نقله الأصحاب عنه من العمل بالقياس ، قال الشيخ في الفهرست في ترجمة ابن الجنيد : وكان جيد التصنيف حسنة إلا انه كان يرى القول بالقياس فترك لذلك كتبه ولم يعول عليها. وقال النجاشي في كتابه : أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب وجه في أصحابنا ثقة جليل القدر صنف فأكثر وانا ذاكرها بحسب الفهرست الذي ذكرت فيه ، ثم ذكرها الى ان قال سمعت شيوخنا الثقات يقولون انه كان يقول بالقياس. وقال العلامة في الخلاصة : انه كان وجها في أصحابنا ثقة جليل القدر ، ثم نقل كلام الشيخ المتقدم. أقول : لا يخفى ما في كلامه وكذا كلام النجاشي قبله من الإشكال لأن وصفه بالجلالة والوثاقة مع نقلهم عنه القول بالقياس مما لا يجتمعان فإن أصحابنا مجمعون على ان ترك العمل بالقياس من ضروريات مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) لاستفاضة الأخبار بالمنع منه فكيف يجامع القول به الوثاقة؟ وظاهر كلام الشيخ الجزم بذلك والنجاشي قد نقل عن شيوخه الثقات ذلك فكيف يصفه مع ذلك بما ذكره في صدر الترجمة؟ وبالجملة فكلامهم هنا لا يخلو من النظر الواضح.

(السابع) ـ نقل المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه قال : إذا لم يوجد التراب اقتصر على الماء وان وجد غيره كالأشنان وما يجري مجراه أجزأ. ثم نقل ذلك

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من التيمم.


عن ابن الجنيد ايضا ، ثم قال : ووجه ما ذكراه ان الأشنان أبلغ في الإنقاء فإذا طهر بالتراب فبالأشنان أولى ، ثم تردد فيه فقال وفيه تردد منشأه اختصاص التعبد بالتراب وعدم العلم بحصول المصلحة المرادة منه بغيره ، على انه لو صح ذلك لجاز مع وجود التراب. انتهى. وهو جيد ، وفيه تأييد لما قدمناه من ان الأمر بالغسل بالتراب انما هو أمر تعبدي لا لما ذكروه من الوجه الاستنباطي ، إلا انه قد نقل عن ابن الجنيد ما ذكره من ان ما عدا التراب من الأجسام المشابهة له انما يصار اليه بعد فقد التراب ، والذي نقله عنه في المختلف كما تقدم ومثله الشهيد في الذكرى ايضا هو القول بالتخيير. وكيف كان فإنه بالنظر الى توجيه المحقق لهذا القول ـ إذ لا وجه له ظاهرا سواه ـ فالأرجح هو قول ابن الجنيد بالتخيير لان أولويته في الإزالة والقلع من التراب لا أقل تقتضي مساواته فيجوز به وان كان التراب موجودا ويرجع الى التخيير بين التراب المذكور في النص وبين غيره بحكم الأولوية إلا ان فيه ما أورده عليه في المعتبر.

واقتفى الشيخ في ما ذكره من هذا الحكم جمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في كثير من كتبه ، وتوقف في النهاية ، وقال في المنتهى ان عدم اجزاء غير التراب هو الأقوى لأن المصلحة الثابتة من التعبد باستعمال التراب لو حصلت بالأشنان وشبهه لصح استعماله مع وجود التراب.

ونقل عن المحقق الشيخ علي انه انتصر لهذا القول فقرب دليله واستوجهه ثم استدرك بان جمعا من الأصحاب ذكروا الاجتزاء بالمشابه مع فقد التراب والخروج عن مقالتهم أشد إشكالا. ولا يخفى ما فيه فان غاية ما شاع بينهم تناكره هو عدم جواز احداث القول في مقام دعوى الإجماع لا في مقام الخلاف واختيار أحد القولين في المسألة والأمر هنا من قبيل الثاني لا الأول.

ثم انه لا يخفى ان ظاهر عبارة الشيخ المنقولة التخيير عند عدم التراب بين الاقتصار على الماء واستعمال ما يشبه التراب ولم نقف على قائل بذلك صريحا في كلامهم نعم نقل


عن العلامة في التذكرة والنهاية انه ذكر ذلك احتمالا.

(الثامن) ـ يعزى الى الشيخ القول باجزاء الماء وحده عند عدم التراب وشبهه واليه ذهب العلامة في جملة من كتبه والشهيد ، وعبارة الشيخ المتقدمة في سابق هذا المورد لا تدل عليه وانما تدل على ما قدمنا ذكره اللهم إلا ان يكون وصل إليهم من موضع آخر.

ثم انه على تقدير الاجتزاء بالماء مع فقد التراب وشبهه فهل يجب الغسل ثلاث مرات أو مرتين؟ احتمالان مبنيان على انه مع فوات التراب وشبهه ينتقل الى ما هو أبلغ منه وهو الماء فتجب الثلاث حينئذ أو انه بفقد التراب يسقط التكليف به وقيام غيره مقامه يحتاج الى دليل فيكتفى بالغسلتين لان الحكم ببقاء الإناء على النجاسة والحال هذه تكليف بالمشقة. وقواه العلامة في التحرير والمنتهى على ما نقل عنه ، وفي القواعد اختار الثلاث. وأورد على أصل المسألة المذكورة بأن مقتضى اشتراط حصول الطهارة للإناء بالغسل المعين بالتراب والماء عند عروض هذا النوع من النجاسة هو انتفاء المشروط عند فقدان شرطه كما هو القاعدة في مثله ، ومن البين ان الشرط إذا كان مركبا من أمرين أو أمور كفى في انتفائه انتفاء جزئه ، وادعاء قيام البدل عن الجزء المفقود أو سقوط اشتراطه عند تعذره يحتاج الى الدليل ، ألا ترى ان الجزء الآخر للشرط هنا وهو الماء لا يتفاوت الحال في انتفاء المشروط عند انتفائه بين إمكان وجوده وتعذره؟ وما ذاك إلا لفقد الدليل على سقوط اعتباره في حال التعذر وقيام البدل مقامه. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، ومن ذلك يظهر ضعف ما بنى على أصل المسألة من احتمال المرتين أو الثلاث بل الظاهر هو بقاء الإناء على النجاسة لعدم حصول المطهر الشرعي الذي قرره الشارع لهذه النجاسة المخصوصة ، وبه صرح ايضا جمع من المتأخرين نظرا الى ما تقدم وقد عرفت جودته وقوته.

(التاسع) ـ قد ذكر جملة من المتأخرين ومتأخريهم ما صرح به الصدوقان


والمفيد من الحكم بالتجفيف. واعترضوه بأنه منفي بالأصل والنص فان ظاهره الاكتفاء بمضمونه. أقول : قد عرفت ان مستندهم في ذلك انما هو كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي ولكن حيث لم يبلغهم ذلك أوردوا عليهم ما أوردوه وبه يجب الخروج عن الأصل المذكور. واما النص المشار إليه في كلام المحقق وهو صحيحة البقباق فغايتها ان تكون مطلقة فيحمل إطلاقها على الخبر المذكور ويقيد به فلا اشكال.

(العاشر) ـ اختلف الأصحاب فيما لو خيف فساد المحل باستعمال التراب ، فقيل بان الحكم فيه كما لو فقد التراب من المرتين أو الثلاث كما تقدم وهو منقول عن العلامة في المنتهى والتذكرة والتحرير إلا انه في التذكرة صرح بالاجتزاء بالماء ولم يتعرض لذكر العدد وفي المنتهى رجح المرتين.

وقيل ببقاء الإناء على النجاسة وبه صرح الشهيد الثاني في الروضة ونقله في المعالم عن بعض مشايخه الذين عاصرهم ، والوجه فيه ظاهر مما تقدم حيث ان الدليل يقتضي توقف حصول الطهارة على التراب والماء وليس على استثناء حال التعذر دليل يعتمد عليه فيبقى على أصالة النجاسة.

وفصل ثالث بان خوف الفساد باستعمال التراب ان كان باعتبار توقف إيصاله إلى الآنية على كسر بعضها كما في الأواني الضيقة وأمكن مزج التراب بالماء وإنزاله إليها وخضخضتها به على وجه يستوعبها وجب وأجزأ ، وان كان باعتبار نفاسة الآنية بحيث يترتب الفساد على أصل الاستعمال اكتفى بالماء قال وكذا إذا امتنع في الصورة الأولى إنزاله ممتزجا على الوجه الذي ذكر ، وفرق بين هذا وبين ما إذا فقد التراب حيث مال ثمة الى بقائه على النجاسة بأن الحكم بذلك هنا يفضى الى التعطيل الدائم وهو غير مناسب لحكمة الشرع وتخفيفه واما هناك فحصول التراب مرجو فلا تعطيل.

أقول : والتحقيق في المقام انه ان قيل باجزاء الممزوج بالماء كما هو أحد الأقوال المتقدمة فما ذكره هذا المفصل في الوجه الأول جيد لان هذا أحد أفراد التطهير بالتراب


بل لقائل أن يقول انه متى أمكن وضع التراب فيه وان كان ضيق الرأس وتحريكه في مواضع النجاسة فإنه يحصل التطهير به إذ الدلك غير مشترط فلا اشكال ولا ضرورة إلى المزج ، واما ما ذكره في الوجه الثاني من تفصيله من الاكتفاء بالماء فضعيف والفرق بينه وبين فقد التراب الذي اختار فيه البقاء على النجاسة غير ظاهر. وما استند اليه من الفرق بالحكمة مزيف فان الخروج من يقين النجاسة المخصوصة بمطهر مخصوص مع عدم وجود مطهرها بمثل هذه التخريجات الواهية مجازفة ، واي ضرر على المالك في تعطيل إناء من خزف أو غيره لا ينتفع به؟ وكثير من الأشياء غير قابل للتطهير أصلا مع قابليته للانتفاع ، وبالجملة فإن التفات الشارع الى التخفيف في الصورة المذكورة ونحوها غير معلوم من الشرع ، وان قلنا بعدم اجزاء الممزوج كما هو أحد الأقوال فالحق هو القول الثاني كما جزم به شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلا انه يرد على شيخنا المذكور ان ما اختاره في هذه المسألة وصرح به في الروضة لا يلائم ما اختاره في المسالك في مسألة المزج من اجزائه. اللهم إلا ان يقول انه بالمزج على الكيفية التي في كلام هذا المفصل يخرج التراب عن اسمه كما قيد به قوله في المسالك فلا منافاة. والله العالم.

(الحادي عشر) ـ قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ كلبان أو كلاب في إناء واحد لم يجب أكثر من غسل الإناء ثلاث مرات ، ثم ذكر ان جميع الفقهاء لم يفرقوا بين الواحد والمتعدد إلا من شذ من العامة فأوجب لكل واحد العدد بكماله ، واحتج الشيخ على ما ذكره بان النص خل من التعرض للفرق بين الواحد والأكثر والكلب جنس يقع على القليل والكثير. وهذا الحكم قد ذكره أيضا أكثر الأصحاب وزادوا فيه ايضا تكرر الولوغ من الواحد ، واحتج عليه الفاضلان في المعتبر والمنتهى بأن النجاسة واحدة فقليلها ككثيرها لأنها لا تتضمن زيادة عن حكم الاولى. وهو جيد إلا ان تعليل الشيخ (قدس‌سره) أجود وأقوى لأن سوق الخبر يساعده حيث انه صريح في


كون السؤال عن الجنس حيث قال فيه (1) : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم اترك شيئا إلا سألته عنه؟ فقال لا بأس به ، حتى انتهيت الى الكلب فقال رجس نجس لا يتوضأ بفضله. الحديث». هذا كله فيما لو كان قبل التطهير اما لو وقع في الأثناء فقد صرح جملة منهم بالاستئناف وعدم التداخل ، قال في الروض ولو تكرر الولوغ قبل التطهير تداخل وفي الأثناء يستأنف. ونحوه في الذكرى ايضا.

(الثاني عشر) ـ قال الشيخ في الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء نجس الماء الذي فيه فان وقع ذلك الماء على بدن الإنسان أو ثوبه وجب غسله ولا يراعى فيه العدد ثم حكى عن بعض العامة إيجاب غسل الموضع الذي يصيبه ذلك الماء بقدر العدد المعتبر في الإناء ، ثم قال بعد ذلك دليلنا ان وجوب غسله معلوم بالاتفاق لنجاسة الماء واعتبار العدد يحتاج الى دليل وحمله على الولوغ قياس لا نقول به. وذكر نحو ذلك المحقق ايضا وزاد على ما ذكره الشيخ من البدن والثوب الإناء أيضا ، والظاهر ان كلام الشيخ (قدس‌سره) انما خرج مخرج التمثيل فيكون ما ذكره عاما ، وقال الشهيد في الذكرى : ولا يعتبر التراب في ما ينجس بماء الولوغ. ونقل عن العلامة في النهاية انه استقرب إلحاق هذا الماء بالولوغ وعلله بوجود الرطوبة اللعابية. ورده جملة ممن تأخر عنه بالضعف وهو كذلك.

(الثالث عشر) ـ المعروف من كلام أكثر الأصحاب ان الحكم في غسالة الإناء كسائر النجاسات فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه ، قال العلامة في المنتهى : ليس حكم الماء الذي يغسل به إناء الولوغ حكم الولوغ في انه متى لاقى جسما يجب غسله بالتراب لأنها نجاسة فلا يعتبر فيها حكم المحل الذي انفصلت عنه ، ثم حكى عن بعض الجمهور انه يجب غسله بالتراب وان كان المحل الذي انفصل عنه غسل بالتراب وعن بعض آخر

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسآر.


منهم انه أوجب غسله من الغسلة الأولى ستا بناء على قولهم بوجوب السبع في الولوغ ومن الثانية خمسا ومن الثالثة أربعا ، وكذا لو كانت قد انفصلت عن محل غسل بالتراب غسل محلها بغير تراب وان كانت الاولى بغير تراب غسلت هذه بالتراب (1) ثم قال وهذا كله ضعيف والوجه أنه يساوي غيره من النجاسات لاختصاص النص بالولوغ. انتهى. وهو جيد.

وللمحقق الشيخ علي (قدس‌سره) هنا كلام في بعض كتبه لا يخلو من غفلة في مقام ونظر في آخر حيث انه نقل عن العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى انه لا يعتبر التراب فيما نجس بماء الولوغ ثم ناقش في ذلك بان عدم اعتبار التراب في هذه الصورة ان كان منوطا بتقديم تعفير إناء الولوغ على غسله بالماء الذي فرضت الملاقاة به فهو حق وكذا ان كان الجسم الملاقي به غير إناء وإلا فالظاهر اعتباره لأنها نجاسة الولوغ ، ثم ذكر ان قوله : «والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات» مشكل لان حكم النجاسة يخف شرعا بزيادة الغسل ويشتد بنقصانه فلا تتجه التسوية. انتهى كلامه.

أقول : اما وجه الغفلة في هذا الكلام فإن العبارة التي أسندها إلى العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى انما هي في حكم ماء الولوغ نفسه والشهيد انما ذكرها كما قدمناها عنه في سابق هذا المورد في بيان ذلك وكلام العلامة الذي ذكر من جملته قوله : «والوجه مساواة هذا الماء لباقي النجاسات» انما هو في ما يغسل به إناء الولوغ الذي صرح به الشهيد في الذكرى وهو الذي ولغ فيه الكلب في الإناء ، فالمسألتان مفترقتان كما أشرنا إليه في مورد كل منهما ، والعلامة لم يتعرض في المنتهى لحكم ماء الولوغ الذي نقله عنه بهذه العبارة وانما هذه العبارة التي نقلها عنهما هي عبارة الشهيد في الذكرى خاصة.

واما وجه النظر في كلامه فمن وجهين (أحدهما) ـ قوله في المناقشة الأولى

__________________

(1) كما في المغني ج 1 ص 56.


مع كون مورد محل المناقشة غير العبارة التي ذكرها كما عرفت : «فالظاهر اعتباره لأنها نجاسة الولوغ» اي الظاهر اعتبار تعفير ذلك الإناء الذي لاقاه ماء الغسالة التي لم يعفر إناؤها أولا لأنها نجاسة ماء الولوغ ، فإنه منظور فيه بأنه ان أراد بكونها نجاسة ماء الولوغ بمعنى انها مسببة عنه فلا يجدي نفعا وان أراد انه يصدق عليها العنوان المرتب عليه الحكم فمنعه أوضح من ان يخفى ، إذ ماء الولوغ الذي يترتب عليه التعفير والعدد انما هو الماء الذي ولغ فيه الكلب لا ما غسل به اناؤه ، وما أبعد قوله هنا بوجوب التعفير والغسل بعده كما في أصل ماء الولوغ وبين قول الشيخ في الخلاف كما نقله عنه جملة من الأصحاب من طهارة غسالة ماء الولوغ.

و (ثانيهما) ـ ما ذكره من الإشكال فإنه لا وجه له عند التأمل في كلام العلامة وذلك فان غرضه من الحكم بالمساواة المذكورة انما هو الرد على الأقوال التي نقلها عن العامة من التعدد الذي ذكروه في تلك المراتب فإنها موقوفة على الدليل وليس فليس فالمتجه كونها نجاسة كغيرها من النجاسات ، والتعلق بان حكم النجاسة يضعف ويشتد موقوف على الدليل الدال على التعدد في تلك المراتب واما مع عدم الدليل فليس إلا الرجوع الى الأمر الإجمالي من الاتصاف بالتنجيس واعتبار ما يصدق به زوالها. وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه. والله العالم.

(الرابع عشر) ـ قال في المنتهى : لو وقع فيه نجاسة بعد غسله بعض العدد فان كانت ذات عدد مساو للباقي كان كافيا وإلا حصلت المداخلة في الباقي واتى بالزائد وهكذا لو وقع فيه نجاسة قبل الغسل إلا ان التراب لا بد منه للولوغ ثم ان كانت النجاسة تفتقر الى الغسل ثلاثا وجب الثلاث من غير تراب ، وبالجملة إذا تعددت النجاسة فإن تساوت في الحكم تداخلت وان اختلفت فالحكم لا غلظها. انتهى. أقول : ما ذكره من التداخل في ما حصل الاتفاق فيه جيد إلا انه مخالف لمقتضى ما صرحوا به في غير موضع من ان تعدد الأسباب موجب لتعدد المسببات.


(الخامس عشر) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) سقوط التعدد في الغسل إذا وقع الإناء في الماء الكثير ، وهكذا كل متنجس يحتاج الى العدد إلا انه لا بد من تقديم التعفير في إناء الولوغ.

ونقل عن الشيخ في الخلاف والمبسوط انه قال : إذا ولغ الكلب في الإناء ثم وقع ذلك الإناء في الماء الكثير الذي بلغ كرا فما زاد لا ينجس الماء ويحصل له بذلك غسلة من جملة الغسلات ولا يطهر الإناء بذلك بل إذا تمم غسلاته بعد ذلك طهر. ومقتضاه وجوب التعدد في الكثير.

قال في المعالم : ومستند الشيخ في هذا ان الأمر بالعدد متناول للقليل والكثير فلا بد للتخصيص من دليل ، والجماعة عولوا في التخصيص على ان اللفظ إذا أطلق ينصرف الى المعنى المتعارف المعهود وظاهر الحال ان المتعارف في محال الأمر بالتعدد هو الغسل بالقليل ، قال ويعضد ذلك في الجملة من جهة الاعتبار ان الماء الكثير إذا استولى على عين النجاسة وان كانت مغلظة بحيث اقتضى شيوع اجزائها فيه واستهلاكها سقط حكمها شرعا وصار وجودها فيه كعدمها فإذا وقع المتنجس في الكثير واستولى الماء على آثار النجاسة فبالحري ان يسقط حكمها ويجعل وجودها كعدمها وإلا لكان الأثر أقوى من العين ، ويؤيده من جهة النص ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة». انتهى وهو جيد.

أقول : ومثل صحيحة محمد بن مسلم المذكورة ما صرح به مولانا الرضا (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (2) حيث قال : «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره». وبهذه العبارة عبر الصدوق في الفقيه كما قدمنا ذكره. وذكرنا ان المراد بالراكد في كلامه (عليه‌السلام) القليل.

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من النجاسات.

(2) ص 6.


بقي هنا شي‌ء آخر في كلام الشيخ (قدس‌سره) فان ظاهره حصول غسلة واحدة له وان لم يتقدم التعفير بالتراب ، وهو مشكل بل الظاهر ضعفه لقيام الدليل الصحيح الصريح على وجوبه مطلقا وغاية الكلام انما هو في وجوب تعدد الغسل بالماء في الكثير وعدمه وإلا فالتراب لا بد منه على كل حال.

ويظهر من العلامة في المختلف موافقة الشيخ في هذا المقام وان لم يقل بوجوب التعدد كما هو ظاهر كلام الشيخ حيث قال بعد نقل كلام الشيخ المتقدم : والوجه عندي طهارة الإناء بذلك لانه حال وقوعه في الكثير لا يمكن القول بنجاسته حينئذ لزوال عين النجاسة إذ التقدير ذلك والحكم زال بملاقاة الكر.

وفيه (أولا) ـ ما عرفت من دلالة النص الصحيح الصريح على التعفير مطلقا فيمتنع الحكم بالطهارة بدونه.

و (ثانيا) ـ ان استبعاده البقاء على النجاسة مع كونه في كثير وقد زالت عين النجاسة مسلم لو انحصر التطهير في الماء هنا كما في سائر النجاسات ، واما إذا ضم له الشارع مطهرا آخر فجعل المطهر حينئذ مركبا من أمرين ولم يحصل أحدهما فلا مجال هنا للاستبعاد المذكور ، ونظيره في هذا المقام وضع كر من ماء في جلد ميتة فإن الماء يكون طاهرا مع نجاسة الجلد فلا منافاة حينئذ بين بقائه على النجاسة وكونه في ماء كثير (فان قيل) انه يأتي على قول من جعل الغسل بالتراب تعبدا شرعيا كما اخترتموه آنفا دون ان يكون مطهرا ما قررتم منه هنا (قلنا) ان أحدا لم يقل بان التراب غير مطهر وانه لا دخل له في التطهير وانما معنى قولنا تعبدا هو ان الشارع تعبد المكلفين بالتطهير به هنا ردا على من قال ان الغرض منه انما هو قلع النجاسة وانه أبلغ من الماء في ذلك حتى رتبوا على هذا جملة من الأحكام المتقدمة التي قد عرفت ما فيها.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ظاهر كلام المحقق في المعتبر موافقة الشيخ في ما ذكره من وجوب التعدد في الكثير إلا ان ظاهره الاكتفاء في حصول التعدد في الجاري


بتعاقب الجريتين ، ومقتضاه انه لو كان التطهير في الكثير الواقف الذي لا جريان فيه فالواجب التعدد حقيقة كما ذكره الشيخ وبه صرح أيضا في الكتاب المذكور ، قال لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شي‌ء ولو وقع في كثير لم ينجس ويحصل له غسلة واحدة ان لم يشترط تقديم التراب ، ولو وقع في جار ومر عليه جريات قال في المبسوط لم يحكم له بالثلاث. وفي قوله اشكال وربما كان ما ذكره حقا ان لم يتقدم غسله بالتراب لكن لو غسل مرة بالتراب وتعاقب عليه جريات كانت الطهارة أشبه. انتهى.

ونقل عن الفاضل الشيخ نجيب الدين في الجامع اعتبار التعدد في الراكد دون الجاري ولعله التفاتا الى ما ذكره المحقق من انه في الجاري تتعاقب عليه الجريات فيحصل التعدد دون الكثير الواقف.

وظاهر العلامة في المنتهى ايضا اقتفاء المحقق في ذلك إلا انه في آخره قد ناقض اوله. ولا بأس بنقل كلامه وبيان ما فيه ، قال (قدس‌سره) : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يحتسب بغسلة ، ولو وقع في كثير لم ينجس وهل تحصل له غسلة أم لا؟ الأقرب انه لا تحصل لوجوب تقديم التراب ، هذا على قولنا اما على قول المفيد فان الوجه الاحتساب بغسلة ، ولو وقع في ماء جار ومرت عليه جريات متعددة احتسب كل جرية بغسلة خلافا للشيخ إذ القصد غير معتبر فجرى مجرى ما لو وضعه تحت المطر ولو خضخضه في الماء وحركه بحيث تخرج تلك الأجزاء الملاقية عن حكم الملاقاة ويلاقيه غيرها احتسب بذلك غسلة ثانية كالجريات ، ولو طرح فيه ماء لم يحتسب به غسلة حتى يفرغ منه سواء كان كثيرا بحيث يسع الكر أو لم يكن خلافا لبعض الجمهور فإنه قال في الكثير إذا وسع قلتين لو طرح فيه ماء وخضخض احتسب له غسلة ثانية ، والوجه انه لا يكون غسلة إلا بتفريغه منه مراعاة للعرف ، ثم قال : والأقرب عندي بعد ذلك كله ان العدد انما يعتبر لو صب الماء فيه اما لو وقع الإناء في ماء كثير أو جار وزالت


النجاسة طهر. انتهى. ولا يخفى ما في آخر كلامه من المدافعة لما قدمه ، وظاهر آخر كلامه الرجوع الى ما ذهب إليه في المختلف وقد عرفت ما فيه. وقد ذكر بعض محققي أصحابنا من متأخري المتأخرين انه كانت عنده من المنتهى نسختان وان العبارة الأخيرة غير موجودة فيهما ونسخة اخرى عبارتها كما ذكرناه وذكر ان بينهما تفاوتا بالزيادة والنقصان في مواضع ووجهه بأنه خرجت منه نسخة الكتاب أولا كما كتبه ثم حصل له عدول في مواضع في النسخة الأخيرة وما هنا من جملة ذلك وهو قريب. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ في بيان باقي ما يجب فيه التعدد وذلك في مواضع :

(منها) ـ الخنزير وقد اختلف الأصحاب في عدد ما يجب من ولوغه فالمشهور بين المتأخرين وجوب السبع ذهب إليه العلامة ومن تأخر عنه ، وقال الشيخ في الخلاف ان حكمه حكم الكلب ، ونفى ذلك المحقق وجعل حكمه حكم غيره من النجاسات مع انه كما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة الآتية يختار المرة فيها.

ويدل على المشهور وهو المؤيد المنصور ما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال يغسل سبع مرات».

احتج الشيخ ـ على ما نقل عنه ـ على ما ذهب اليه بوجهين : (أحدهما) ان الخنزير يسمى كلبا في اللغة فتتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب. و (الثاني) ان الإناء يغسل ثلاث مرات من سائر النجاسات والخنزير من جملتها.

وأجيب عن الأول بمنع الصدوق حقيقة. وعن الثاني بأن غاية دليله الذي ادعاه مع تسليمه هو عموم ما دل على الثلاث للخنزير والصحيحة المذكورة خاصة فيجب تقييد العموم بها كما هو القاعدة ، مع ان فيه ايضا ان ملاحظة هذا الوجه تقتضي الاكتفاء بالماء

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من النجاسات.


وحده وملاحظة الأول تقتضي وجوب التراب معه فعلى كل تقدير لا ينتظم أحد وجهي الدليل على ما ادعاه.

والمحقق في المعتبر قد حمل صحيحة علي بن جعفر على الاستحباب مع انه لا معارض لها في الباب ، قيل ولعل المانع له من العمل بالرواية عدم وجود القائل بها من المتقدمين قبله وهو كثيرا ما يراعي ذلك ونحوه في العمل بالاخبار ، والقرينة على هذا انه لم يذكره قولا مع حكايته الخلاف في المسألة ، ولهذا ان العلامة في المنتهى قال لو قيل بوجوب غسل الإناء منه سبع مرات كان قويا لما رواه علي بن جعفر ، وذكر الحديث ثم قال وحمله على الاستحباب ضعيف إذ لا دليل عليه مع ثبوت ان الأمر للوجوب.

و (منها) ـ الخمر وقد اختلف كلام الأصحاب في ذلك فقيل بالسبع ايضا ذهب اليه جمع من الأصحاب : منهم ـ المفيد وسلار والشهيد في أكثر كتبه والمحقق الشيخ علي والشيخ في المبسوط والجمل وجمع من المتأخرين. وقيل بالثلاث ذهب اليه المحقق في غير المعتبر والعلامة في بعض كتبه واليه ذهب الشيخ في النهاية والتهذيب كذا نقله عنه في المدارك ، والذي وجدته في النهاية انما هو سبع لا ثلاث كما نقله حيث قال بعد ذكر الأواني. فإن أصابها خمر أو شي‌ء من الشراب المسكر وجب غسلها سبع مرات ، واما ما نقله عن التهذيب فلم أقف عليه لانه بعد ان ذكر عبارة المفيد الدالة على غسل الأواني من الخمر والأشربة المسكرة أورد جملة من الأخبار الدالة على نجاسة أواني الخمر ومنها موثقة عمار الآتية الدالة على غسل الإناء منه ثلاثا ولم يستدل لما ذكره في المقنعة من السبع بشي‌ء من الأخبار ، وبمجرد نقل الرواية بذلك لا يعد ذلك مذهبا له كما لا يخفى ، واحتمال كونه ذكر ذلك في غير موضع المسألة ممكن إلا ان الأمر كما ترى فينبغي التأمل والمراجعة في هذه البقول وان كانت من الفحول ، والى القول بالثلاث ذهب الشيخ في الخلاف ايضا لكن لا من حيث الخصوصية كما ذهب اليه الفاضلان بل من حيث وجوب الثلاث عنده في سائر النجاسات كما يأتي نقله. وقيل بالمرة اختاره المحقق في


المعتبر والعلامة في أكثر كتبه كغيره من النجاسات عدا الولوغ ، وهو اختيار الشهيد الثاني في الروض أيضا إلا انه أطلق الاجتزاء بالمرة ، والفاضلان في المعتبر والمختلف قيداه بكونه بعد ازالة العين ، واختار هذا القول السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم. وقيل بالمرتين وهو مذهب الشهيد في اللمعة حيث انه أوجب المرتين في غسل الإناء من جميع النجاسات بل في غير الإناء أيضا وان وجب تقديم التعفير في إناء ولوغ الكلب ، هذا ما وقفت عليه من الأقوال في المسألة.

والذي وقفت عليه من اخبارها منها ـ موثقة عمار بن موسى عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «في الإناء يشرب فيه النبيذ؟ فقال تغسله سبع مرات». والى هذه الرواية استند أصحاب القول الأول.

ومنها ـ موثقة عمار الأخرى عنه (عليه‌السلام) (2) «انه سئل عن قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. سئل أيجزيه ان يصب فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». وبهذا الخبر أخذ من قال بالقول الثاني.

واما من اكتفى بالمرة فإنه رد الخبرين بضعف السند واعتمد على ما دل على الأمر بالغسل الحاصل بالمرة المزيلة للعين ، قال المحقق في المعتبر ـ بعد ان ذكر عبارة النافع المطابقة لعبارته في الشرائع بإيجاب الثلاث ـ ما صورته : هذا مذهب الشيخ ثم نقل قوله بالسبع ثم احتج للثلاث بموثقة عمار المتقدمة ، ثم قال : مسألة ـ ويغسل الإناء من سائر النجاسات مرة والثلاث أحوط ، الى ان قال بعد كلام في البين : والذي يقوى عندي الاقتصار في اعتبار العدد على الولوغ وفيما عدا ذلك على إزالة النجاسة وغسل الإناء بعد ذلك مرة واحدة لحصول الغرض من الإزالة ولضعف ما ينفرد به عمار

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 51 من النجاسات و 30 من الأشربة المحرمة.


وأشباهه وانما اعتبرنا في الخمر والفأرة الثلاث ملاحظة لاختيار الشيخ والتحقيق ما ذكرناه. انتهى أقول : كم قد عمل في غير موضع من كتابه بموثقة عمار وان تفرد بها كما قدمنا ذكره ولكنهم لا قاعدة لهم يقفون عليها.

ثم ان ما ذكره ومثله العلامة كما قدمنا نقله عنهما من اعتبار ازالة عين النجاسة أولا ثم الاكتفاء بالمرة قد اعترضهما فيه الشهيد الثاني في الروض حيث اكتفى بالمرة التي يحصل بها الإنقاء فقال ويحتمل اعتبار المرة بعد زوال العين ان كانت موجودة وهو خيرة المعتبر إذ لا اثر للماء الوارد مع وجود سبب التنجيس. ويضعف بأن الباقي من البلل وغيره في المحل عين نجاسة فيأتي الكلام فيه.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام اما على تقدير ما ذكره هؤلاء من اطراح هذين الخبرين وان قبلوا أمثالهما في غير موضع فالاكتفاء بالمرة ظاهر ، واما من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح أو يراه ويتستر ببعض الاعذار كالجبر بالشهرة ونحوه فإنه لا خروج عما دل عليه الخبران المذكوران وانما يبقى الكلام في الجمع بينهما فظاهر من قال بخبر الثلاث حمل خبر السبع على الاستحباب جمعا واما من قال بالسبع فلا اعرف لاطراحه رواية الثلاث وجها مع الاشتراك في السند وعدم إمكان الترجيح ، وربما دل كلام بعضهم على ترجيحها بالشهرة وفيه ما فيه. ويقرب عندي في وجه الجمع بين الخبرين المذكورين الحمل على اختلاف الأواني في قلع النجاسة المذكورة منها فمنه ما يحصل بالثلاث ومنه ما يتوقف على السبع ، وهو وان كان ايضا لا يخلو من تأمل إلا انه في مقام الجمع لا بأس به وكيف كان فالاحتياط لا يخفى. واما القول بالمرتين فلا اعرف له وجها.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان بعض من صرح بالسبع كالشيخين في المقنعة والنهاية والمبسوط جعلوا حكم سائر المسكرات كالخمر في ذلك وبعض اقتصر على ذكر الخمر خاصة ومورد الرواية انما هو النبيذ ومقتضاها تخصيص الحكم بما يصدق عليه هذا اللفظ ، والذي يظهر لي كما مر تحقيقه من صدق الخمر على الجميع انه لا منافاة بين التعبير بالخمر وحده


وبه مع ضم سائر الأشربة المسكرة لصدق الخمر على الجميع ، نعم لفظ الخبر ورد بالنبيذ وهو أخص من الخمر ولعلهم فهموا منه ان المراد به مطلق الخمر كما صرحت به الرواية الثانية ، نعم يأتي على قول من خص اسم الخمر بعصير العنب كما قدمنا نقله عن جملة منهم الإشكال في المقام.

ثم ان جملة ممن طعن في الخبرين بالضعف صرح باستحباب السبع خروجا من خلاف من أوجها ، ولا يخفى وهنه لما حققناه في غير موضع مما تقدم من ان الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل فالخبر المذكور ان صلح للحجية والاستدلال فليحمل على ظاهره من الوجوب وان كان لا يصلح فلا معنى للحمل المذكور ، ثم اي مخرج يحصل بالحمل على الاستحباب المؤذن بجواز الترك وعدم الإثم عن الوجوب الموجب تركه للمؤاخذة والعقاب؟ والله العالم.

و (منها) ـ موت الفأرة فيه فأوجب الشيخ فيه سبعا وتبعه على ذلك جملة من الأصحاب ، واكتفى المحقق في الشرائع ومختصره والعلامة في جملة من كتبه والشيخ في الخلاف بالثلاث إلا ان مذهب الشيخ الى ذلك بالاعتبار المتقدم في سابق هذا الموضع ، وقيل بالمرة وهو مذهب المحقق في المعتبر. والعلامة في أكثر كتبه بالاعتبار المتقدم ثمة ، وقيل بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة بالاعتبار المذكور ايضا.

والذي وقفت عليه هنا من الأخبار موثقة عمار عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبعا». وهي ظاهرة الدلالة على مذهب الشيخ ومن تبعه ، وردها المحقق في المعتبر فقال بعد ذكر عبارة المختصر التي اختار فيها القول بالثلاث ونقل القول بالرواية عن الشيخ ـ ما صورته : وحجته رواية عمار ثم ساقها ثم قال والرواية ضعيفة لانفراد الفطحية بها ووجود الخلاف في مضمونها فان الشيخ يقتصر على الثلاث في جميع النجاسات عدا الولوغ ولأن ميتة الفأرة والجرذ لا تكون

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من النجاسات.


أعظم نجاسة من ميتة الكلب والخنزير ، ولان امتثال الغسل يحصل بالثلاث فلا يجب ما زاد ، ولانه يحتمل ان يكون هذا الحكم مختصا بالجرذ فلا يتناول الفأرة. انتهى. ثم انه رجع عن ذلك الى القول بالاكتفاء بالواحدة في كلامه الذي قدمنا نقله ، وكلامه (رحمه‌الله) قوي من حيث الاعتبار إلا ان إطراح النص من غير معارض مما لا وجه له ، وطعنه فيه بالضعف غير مسموع مع عمله بمثله وأمثاله في غير مقام من كتابه.

نعم يبقى الإشكال في ان مورد النص الجرذ وهو ضرب من الفأر كما ذكره في الصحاح فيشكل تعديته الى ما هو أعم منه وقد أشار الى ذلك في المعتبر كما قدمناه عنه ، وللمحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في شرح القواعد هنا كلام لا يخلو من الغفلة. قال بعد قول المصنف (قدس‌سره) : «ومن الجرذ والخمر ثلاث مرات ويستحب السبع» ما صورته : الأصح وجوب السبع فيهما لخبري عمار عن الصادق (عليه‌السلام) الدالين على وجوب السبع فيهما وضعف عمار منجبر بالشهرة ولا تضر المعارضة بخبره الدال على الثلاث لأن الشهرة مرجحة ، وليس الحكم مقصورا على الخمر بل المسكر المائع كله كذلك ولا يبعد إلحاق الفقاع بها. واما الجرذ فهو بضم الجيم وفتح الراء المهملة والذال المعجمة أخيرا ضرب من الفأر والمراد الغسل من نجاسة موته ، وهل يكون الغسل من غير هذا الضرب من الفأر واجبا؟ الظاهر عدم التفاوت نظرا إلى إطلاق اسم الفأر على الجميع وقد صرح به جمع من الأصحاب وان توقف فيه صاحب المعتبر. انتهى. أقول لا يخفى ان كلامه هذا انما يتجه لورود لفظ الفأر في خبر ليتمشى ما ذكره والوارد انما هو أخص منه كما عرفت. غير ان ظاهر كلامه هنا إلحاق الفقاع بالخمر في السبع ايضا ولم أقف على من ذكره سواه ويمكن ان يكون منشأه تكاثر الأخبار بإطلاق اسم الخمر عليه كما تقدم والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ اختلف الأصحاب في غسل الإناء من باقي النجاسات فقيل بالثلاث في ما عدا الولوغ مطلقا وهو مذهب الشيخ في الخلاف وابن الجنيد في مختصره


على ما نقل عنه واختاره الشهيد في الذكرى والدروس والمحقق الشيخ علي ، وقيل بالمرة وهو قول المحقق في المعتبر وتبعه الشهيدان في البيان والروض ، وقيل بالمرتين.

احتج الشيخ على ما ذهب إليه بطريقة الاحتياط فإنه مع الغسل ثلاثا يحصل العلم بالطهارة ، وبموثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سئل عن الكوز أو الإناء يكون قذرا كيف يغسل وكم مرة يغسل؟ قال يغسل ثلاث مرات : يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه ذلك الماء ثم يصب فيه ماء آخر فيحرك فيه ثم يفرغ منه وقد طهر وقال اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرات». ورده المتأخرون أما الاحتياط فإنه ليس بدليل شرعي واما الرواية فبضعف السند.

واما حجة من قال بالمرة فهي ظاهرة من رد الرواية المذكورة ، فإن امتثال الأمر بالغسل يحصل بالمرة ومسمى الإزالة يتحقق معها.

والأظهر القول بما دلت عليه الرواية المذكورة عند من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح أو يراه ولكن يحكم بجبر ضعف الرواية بالشهرة كما صرح به غير واحد في المقام

نعم قال الشيخ في المبسوط : ويغسل الإناء من سائر النجاسات ثلاث مرات ولا يراعى فيها التراب وقد روي غسله مرة واحدة والأول أحوط. إلا انا لم نقف على هذه الرواية فيما وصلنا من كتب الأخبار.

وصرح جمع من الأصحاب بأنه لو ملأ الإناء ماء كفى إفراغه منه عن تحريكه وانه يكفي في التفريغ مطلقا وقوعه بآلة لكن يشترط عدم إعادتها قبل تطهيرها وقيده بعضهم بكون الإناء مثبتا بحيث يشق قلعه. أقول : ما ذكروه من اشتراط عدم الإعادة إلا بعد التطهير متجه على تقدير القول بنجاسة الغسالة ، وما ذكر من التقييد بكونه مثبتا لا وجه له لانه لا فرق في حصول الطهارة بين إخراج ماء الغسالة منه بان يكفئه أو يخرجه بالآلة بالشرط المذكور.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من أبواب النجاسات.


واما حجة القول بالمرتين كما ذهب إليه في اللمعة فقد عرفت انها غير مختصة بهذا المقام حيث انه ذهب الى وجوب المرتين في إزالة جميع النجاسات في ثوب أو بدن أو آنية أو غير ذلك ، والظاهر ان الوجه فيه عنده ورود التعدد بالمرتين في إزالة البول عن الثوب والبدن وان اعتباره في البول يدل بمفهوم الموافقة على اعتباره في غيره من النجاسات كما تقدم ذكره في مسألة إزالة نجاسة البول وان غير الثوب والبدن مثلهما في الحكم بالتقريب المتقدم ، ويؤيده ورود الاخبار بالتعدد في خصوص الإناء كما ينبه عليه حكم الولوغين والفأرة والخمر ، ويضاف الى ذلك أصالة البراءة مما زاد على المرتين الذي وردت به الأخبار الصحيحة واستضعاف الأخبار الدالة على الزيادة ، هذا أقصى ما يمكن ان يتكلف لتوجيه الحجة له (قدس‌سره) في المقام. ولا يخفى ما فيه على ذوي الأفهام فان إلحاق ما عدا البول به وما عدا الثوب والبدن بهما لا يخرج عن القياس سواء سمي مفهوم موافقة أو أولوية أو لم يسم سيما مع ورود الاخبار في تطهير الأواني بأعداد مخصوصة تباين ما ذكره. والله العالم.

تتميم يشتمل على مسألتين

(الأولى) ـ المفهوم من كلام أكثر الأصحاب ان أواني الخمر كلها قابلة للتطهير سواء في ذلك الصلب الذي لا يشتف كالصفر والرصاص والحجر والمغضور وغير الصلب كالقرع والخشب والخزف غير المغضور إلا انه يكره استعمال غير الصلب ونسب الفاضلان في المعتبر والمنتهى الى ابن الجنيد القول بعدم طهارة غير الصلب بأنواعه المذكورة ، قال في المعالم بعد نقل ذلك عنهما : ولم أره في مختصره. والعلامة في المختلف نسب الى ابن البراج القول بعدم جواز استعمال هذا النوع ايضا غسل أو لم يغسل.

وكيف كان فالواجب أولا ذكر الأخبار الواردة في المقام وبيان ما تدل عليه من الأحكام ، ومنها ـ ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم في


الصحيح عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «سألته عن نبيذ سكن غليانه ، الى ان قال : وسألته عن الظروف فقال نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الدباء والمزفت وزدتم أنتم الحتم يعني الغضار والمزفت يعني الزفت الذي يكون في الزق ويصير في الخوابي ليكون أجود للخمر. قال وسألته عن الجرار الخضر والرصاص قال لا بأس بها». وفي التهذيب عوض «الحتم» «الحنتم» وهو الموجود في اللغة. أقول الدباء هو القرع والمزفت هو الإناء الذي يطلى بالزفت بالكسر وهو القير والغضار بالفتح هو الطين اللازب الأخضر الحر ، والحنتم بالحاء المهملة ثم النون ثم التاء المثناة الفوقانية على ما في النهاية : جرار خضر مدهونة كانت تحمل فيها الخمر إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحدة حنتمة ، وانما نهى عن الانتباذ فيها لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها ، وقيل انها تعمل من طين يعجن بالدم والشعر فنهى عنها ليمتنع من عملها. انتهى.

وما روياه ايضا عن ابي الربيع الشامي عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن كل مسكر فكل مسكر حرام. فقلت له فالظروف التي يصنع فيها منه؟ فقال نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير. فقلت وما ذلك؟ قال الدباء القرع والمزفت الدنان والحنتم جرار خضر والنقير خشب كان أهل الجاهلية ينقرونها حتى يصير لها أجواف ينبذون فيها».

وما رواه في الكافي عن جراح المدائني عن الصادق (عليه‌السلام) (3) «انه منع مما يسكر من الشراب كله ومنع النقير ونبيذ الدباء. الحديث».

وما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الموثق عن عمار (4) قال : «سألته عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون فيه خل أو ماء أو كامخ أو زيتون؟ قال

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 52 من النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 25 من الأشربة المحرمة.

(4) رواه في الوسائل في الباب 51 من النجاسات.


إذا غسل فلا بأس وعن الإبريق وغيره يكون فيه خمر أيصلح ان يكون فيه ماء؟ قال إذا غسل فلا بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. الحديث». وقد تقدم تمامه قريبا.

وموثقته الأخرى المتقدمة أيضا في الإناء الذي يشرب فيه النبيذ وانه يغسله سبع مرات.

وما رواه في الكافي عن حفص الأعور (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني آخذ الزكاة فيقال انه إذا جعل فيها الخمر وغسلت ثم جعل فيها البختج كان أطيب لها فنأخذ الركوة فنجعل فيها الخمر فنخضخضه ثم نصبه ونجعل فيها البختج؟ قال لا بأس به». قال في الوافي : الزكاة بضم المعجمة زق الشراب. أقول الذي في كلام أهل اللغة بالراء المهملة زق يتخذ للخمر والخل وفي القاموس زق صغير. هذا ما وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد استدل للقول المشهور بأمرين : (أحدهما) ان الواجب إزالة النجاسة المعلومة والاستظهار بالغسل وتحصيل هذا القدر ممكن وما لا يعلم من النجاسة لا يجب تتبعه واللازم من ذلك حصول الطهارة حينئذ ، وبأنه بعد ازالة عين النجاسة يرتفع المانع من الاستعمال فيكون سائغا ، اما المقدمة الأولى فظاهرة لأن البحث على تقدير ارتفاع العين عن المحل وكون المقتضى للمنع ليس إلا تلك العين. واما الثانية فلان المنع لو بقي بعد ارتفاع سببه لزم بقاء المعلول بعد العلة وذلك يخرجها عن العلية. و (ثانيهما) رواية عمار المتقدمة والتقريب فيها انها دالة بإطلاقها على قبول أواني الخمر التطهير مغضورة أو غيره مغضورة صلبة أو غير صلبة ونحوها روايته الثانية ولو كان غير المغضور لا يطهر لوجب الاستفصال في الجواب.

واحتج للقول الآخر بوجهين (أحدهما) صحيحة محمد بن مسلم ورواية أبي الربيع الشامي المتقدمتان. و (الثاني) ان للخمر حدة ونفوذا في الأجسام الملاقية له فإذا لم تكن

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المحرمة.


الآنية مغضورة دخلت اجزاء الخمر في باطنها فلا ينالها الماء.

وأجيب عن الأول بأن النهي للكراهة. وأجاب في المدارك عن ذلك بان النهي عن ذلك لا يتعين كونه للنجاسة إذ من الجائز ان يكون لاحتمال بقاء شي‌ء من اجزاء الخمر في ذلك الإناء فيتصل بما يحصل فيه المأكول والمشروب انتهى. وعن الثاني بأن نفوذ الماء أشد من نفوذ غيره فان ما يشرب الخمر يشرب الماء فيصل الماء الى ما يصل اليه الخمر. وأجاب في المدارك عن ذلك بأنه مع تسليم ما ذكر فإنه لا ينافي طهارة الظاهر وجواز استعماله الى ان يعلم ترشح اجزاء من الخمر المستكن في الباطن إليه.

أقول : لا يخفى على المتأمل في هاتين الروايتين ان النهي عن استعمال هذه الظروف المعدودة في الانتباذ لأنها تسرع الشدة فيها لأجل دهنها فيصير مسكرا ويشير الى ذلك ما تقدم في كلام صاحب النهاية ، ولو كان النهي عنها انما هو من حيث نفوذ الخمر فيها وعدم قبولها للتطهير كما فهمه المستدل والمجيب لم يكن لذكر المزفت وهو المطلي بالزفت الذي هو القير معنى لانه لا نفوذ فيه وكذلك الحنتم وهي الجرار الخضر المغضورة ، ويشير الى ما ذكرنا قوله في رواية جراح المدائني «انه منع نبيذ الدباء» يعني ما ينبذ فيه ، وبالجملة فالظاهر من الأخبار المذكورة انما هو النهى عن النبيذ فيها خوفا من التغيير والانقلاب الى المحرم لا عن الاستعمال بقول مطلق كما ظنوه وحينئذ فلا تكون الأخبار المذكورة من محل البحث في شي‌ء ويبقى إطلاق الاخبار الأولة سالما عن المعارض. واما الوجه الاعتباري الذي أضافوه الى هاتين الروايتين فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بعد بطلان دلالة الخبرين المذكورين مع ما عرفت من الجواب عنه بالوجهين المتقدمين ، وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور.

بقي الكلام هنا في شي‌ء آخر وهو ان ظاهر صحيحة محمد بن مسلم لا يخلو من حزازة حيث انه في آخر الخبر نفى البأس عن الجرار الخضر مع انه في صدر الخبر قال بعد ذكر ما نهى (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عنه «وزدتم أنتم الحنتم» وقد عرفت ان المراد


به الجرار الخضر المدهونة. ويمكن الجمع بحمل الجرار الخضر التي نفى البأس عنها على ما لا تكون مدهونة ويمكن ايضا الفرق باعتبار المعنى الثاني للنهي من حيث العمل من الطين المعجون بالدم والشعر بان يحمل نفي البأس أخيرا من حيث عدم العمل من ذلك الطين واما الجمع ـ بأن النهي عن الحنتم في صدر الخبر لم يسنده له (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وانما قال : «وزدتم أنتم» فلا ينافيه نفي البأس في آخر الخبر ـ فيضعف بحصول النهي عنه في حديث ابي الربيع الشامي كما عرفت. والله العالم.

(الثانية) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان أواني المشركين طاهرة حتى تعلم النجاسة ، قال في المعتبر : أواني المشركين طاهرة ما لم يعلم نجاستها بمباشرتهم لها أو ملاقاة نجاسة ، والضابط أن الآنية في الأصل على الطهارة فلا يحكم بالنجاسة إلا مع اليقين بورود النجس وحينئذ اما ان يكون ذلك معلوم الحصول فتكون نجسة أو معلوم الانتفاء فتكون طاهرة أو مشكوكا فيه فيكون استعمالها مكروها ، ويستوي في ذلك المجوسي ومن ليس من أهل الكتاب ، وفي الذمي روايتان أشهرهما النجاسة نجاسة عينية ونجاسة ما يلاقيه بالمائع ، ثم نقل خلاف العامة واختلاف أقوالهم. أقول : وبذلك صرح الشيخ في المبسوط وغيره إلا انه قال في الخلاف لا يجوز استعمال أواني المشركين من أهل الذمة وغيرهم ، وقال الشافعي لا بأس باستعمالها ما لم يعلم فيها نجاسة وبه قال أبو حنيفة ومالك ، وقال احمد ابن حنبل وإسحاق لا يجوز استعمالها (1) ثم استدل على المنع بقوله تعالى «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» (2) وبإجماع الفرقة ورواية محمد بن مسلم (3) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن آنية أهل الذمة والمجوس فقال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم التي يشربون فيها الخمر». ولم أقف في كتب أصحابنا على من نقل

__________________

(1) كما في الأم ج 1 ص 7 والمغني ج 1 ص 82 وبدائع الصنائع ج 1 ص 63.

(2) سورة التوبة ، الآية 28.

(3) المروية في الوسائل في الباب 14 من النجاسات.


خلافه في هذه المسألة مع ان كلامه صريح في ذلك ، وأغرب منه دعواه الإجماع عليه مع انه لم يقل بذلك غيره فيما اعلم ، واستند الأصحاب هنا الى التمسك بأصالة الطهارة حتى يعلم وجود الرافع وهو قوى منصوص في غير خبر كما تقدم في مقدمات الكتاب. وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة زيادة على ما أشرنا إليه في المقدمات في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من مسائل المقصد الثاني في الأحكام من هذا الباب. ثم ان غاية ما تدل عليه الآية التي ذكرها مع الإغماض عن المناقشات التي أوردت عليها هو نجاسة المشركين وهو مما لا نزاع فيه هنا ومن القواعد المقررة المتفق عليها ان عين النجاسة لا يحكم بتعدي نجاستها إلا مع العلم واليقين بذلك. واما الخبر فهو محمول على الاستحباب كما حققناه في المسألة المشار إليها.

(المطلب الثاني) ـ في ما يجوز استعماله من الأواني والآلات وما لا يجوز ، لا خلاف بين الأصحاب في تحريم الأكل والشرب وكذا سائر الاستعمالات كالتطيب وغيره في أواني الذهب والفضة ، وادعى عليه العلامة في التذكرة وغيره الإجماع ، ونقل عن الشيخ في الخلاف انه قال يكره استعمال الذهب والفضة. وصرح جملة ممن تأخر عنه بحمل العبارة المذكورة على التحريم ، وهو جيد.

والاخبار بذلك مستفيضة من طرق الخاصة والعامة ، فروى الجمهور عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (1) انه قال : «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة». وعن علي (عليه‌السلام) (2) انه قال : «الذي

__________________

(1) رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب الأكل في إناء مفضض الا ان فيه «ولنا في الآخرة» بدل «ولكم في الآخرة» ورواه أبو داود في السنن ج 3 ص 337 هكذا : «ان رسول الله (ص) نهى عن الحرير والديباج وعن الشرب في آنية الذهب والفضة وقال هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة».

(2) رواه ابن ماجة في السنن ج 2 ص 335 عن النبي (ص) ولم نجد روايته عن علي (ع).


يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم».

ومن طريق الأصحاب ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قال : «سألت الرضا (عليه‌السلام) عن آنية الذهب والفضة فكرههما فقلت قد روى بعض أصحابنا انه كان لأبي الحسن مرآة ملبسة فضة؟ فقال لا والحمد لله انما كانت لها حلقة من فضة وهي عندي ، ثم قال ان العباس حين عذر عمل له قضيب ملبس من فضة من نحو ما يعمل للصبيان تكون فضته نحوا من عشرة دراهم فأمر به أبو الحسن فكسر». أقول العذر بالعين المهملة ثم الذال المعجمة بمعنى الاختتان وعذر الغلام اختتانه. وعن الحلبي في الحسن أو الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «لا تأكل في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة». وعن داود بن سرحان عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «لا تأكل في آنية الذهب والفضة». وعن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (4) «انه نهى عن آنية الذهب والفضة». وعن موسى بن بكر عن ابي الحسن موسى (عليه‌السلام) (5) قال : «آنية الذهب والفضة متاع (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)». ورواه في الفقيه مرسلا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (6) وفي الفقيه بطريقه الى ابان عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (7) قال : «لا تأكل في آنية ذهب ولا فضة». وفي الكافي عن سماعة بن مهران في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (8) قال : «لا ينبغي الشرب في آنية الذهب والفضة». وعن يونس بن يعقوب عن أخيه يوسف (9) قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليه‌السلام) في الحجر فاستسقى ماء فاتى بقدح من صفر فقال رجل ان عباد بن كثير يكره الشرب في الصفر فقال لا بأس. وقال (عليه‌السلام) للرجل ألا سألته أذهب هو أم فضة؟». ورواه الصدوق ايضا. وفي حديث المناهي من الفقيه (10) قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الشرب في آنية الذهب

__________________

(1 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 9 و 10) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات.

(2) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.


والفضة». وفي قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (1) «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) نهاهم عن سبع : منها ـ الشرب في آنية الذهب والفضة». وروى في الكافي عن بريد في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «انه كره الشرب في الفضة وفي القدح المفضض وكذلك ان يدهن في مدهن مفضض والمشطة كذلك». ورواه الصدوق بإسناده عن ثعلبة عن بريد مثله (3) وزاد «فان لم يجد بدا من الشرب في القدح المفضض عدل بفمه عن موضع الفضة». وهذه الزيادة محتملة لأن تكون من كلامه أو من أصل الخبر. وروى الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب (4) قال «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الشرب في القدح فيه ضبة من فضة؟ قال لا بأس إلا ان تكره الفضة فتنزعها». وعن عبد الله بن سنان في الحسن بالوشاء عن الصادق (عليه‌السلام) (5) قال : «لا بأس ان يشرب الرجل في القدح المفضض واعزل فمك عن موضع الفضة». وهذه الرواية وصفها في المدارك بالصحة وهو كما ترى. وروى في المحاسن بسنده عن عمرو بن ابي المقدام (6) قال : «رأيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) قد اتى بقدح من ماء فيه ضبة من فضة فرأيته ينزعها بأسنانه». ورواه الكليني عن جعفر بن بشير عن عمرو بن ابي المقدام. وروى في الكافي عن الفضيل بن يسار عن الصادق (عليه‌السلام) (7) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن السرير فيه الذهب أيصلح إمساكه في البيت؟ فقال ان كان ذهبا فلا وان كان ماء الذهب فلا بأس». وفي الصحيح عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه‌السلام) (8) قال : «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض فقال نعم إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة حديد». وعن صفوان بن يحيى (9) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن ذي الفقار سيف رسول الله (صلى الله عليه

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 65 من النجاسات.

(2 و 3 و 4 و 5 و 6) رواه في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.

(7 و 8 و 9) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات.


وآله) قال نزل به جبرئيل من السماء وكانت حلقته فضة». وروى نحوه في عيون الأخبار (1) إلا ان فيه عوض «حلقته» «وكانت حليته من فضة» وعن يحيى بن ابي العلاء (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول درع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها وحلقتان من ورق في مؤخرها وقد لبسها علي (عليه‌السلام) يوم الجمل». وروى الصدوق في الصحيح عن محمد بن قيس عن الباقر (عليه‌السلام) (3) قال : «ان اسم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى ان قال وكان له درع تسمى ذات الفضول لها ثلاث حلقات فضة حلقة بين يديها وحلقتان خلفها. الحديث». وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن المرآة هل يصلح إمساكها إذا كان لها حلقة فضة؟ قال نعم انما يكره استعمال ما يشرب به. قال وسألته عن السرج واللجام فيه الفضة أيركب به؟ قال ان كان مموها لا يقدر على نزعه منه فلا بأس وإلا فلا يركب به». ورواه على بن جعفر في كتابه (5) ورواه الكليني في أحكام الدواب (6) وروى ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من جامع البزنطي (7) قال : «سألته عن السرج واللجام.». وذكر مثل ما تقدم.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار المناسبة للمقام الداخلة في سلك هذا النظام ، وتحقيق البحث فيها يقع في مواضع :

(الأول) ـ المفهوم من كلام جملة من الأصحاب ان النهي عن الأكل في أواني الذهب والفضة انما ينصرف إلى الأخذ والتناول منها فيأثم بذلك دون ما فيها فلا يتعلق به نهي ولا تحريم متى كان مباحا قال في المبسوط : ومن أكل أو شرب في آنية ذهب أو فضة فإنه يكون قد فعل محرما ، ولا يكون قد أكل محرما إذا كان المأكول مباحا

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 7) رواه في الوسائل في الباب 67 من النجاسات.

(5) البحار ج 5 ص 154.

(6) ج 2 ص 230.


لأن النهي عن الأكل فيه لا يتعدى الى المأكول. وعلى هذا النحو كلام من تأخر عنه ، ونقل في المدارك عن المفيد (قدس‌سره) تحريم المأكول والمشروب ، قال ولو استدل بقول علي (عليه‌السلام) (1) «انما يجرجر في بطنه نار جهنم» أجيب عنه بأن الحقيقة غير مرادة والمتبادر من المعنى المجازي كون ذلك سببا في دخول النار بطنه وهو لا يستلزم تحريم نفس المأكول والمشروب. انتهى.

أقول : يمكن توجيه كلام المفيد (قدس‌سره) بان يقال ان النهي أولا وبالذات وان كان عن تناول المأكول والمشروب لكن يرجع ثانيا وبالعرض إلى المأكول بأن يقال ان هذا المأكول يكون حراما متى أكل على هذه الكيفية ، وظاهر النصوص يساعده لأنها تضمنت النهي عن الأكل حال كونه في هذه الأواني والأكل حقيقة عبارة عن المضغ في الفم والازدراد في الحلق وحمل الأخبار على مجرد التناول مجاز فهذا الطعام أو الشراب الذي في الآنية وان كان حلالا في حد ذاته يجوز أكله بأي نحو كان إلا انه بوضعه في هذه الآنية واكله فيها عرض له التحريم ، ونظيره تحريم أخذ الحق الشرعي بحكم حاكم الجور وانه سحت كما دلت عليه الأخبار مع جواز التوصل إلى أخذه مقاصة فضلا عن التوصل بحكم حاكم العدل. وبالجملة فإنه إذا قال الشارع لا تأكل في آنية الذهب مثلا والأكل انما هو عبارة عن المعنى الذي قدمناه والنهي حقيقة في التحريم فإنه لا وجه للتحريم إلا من حيث عدم صلاحية المأكول للأكل من هذه الجهة فيرجع التحريم إلى المأكول بالأخرة لا من حيث ذاته بل من هذه الحيثية المخصوصة. والله العالم

(الثاني) ـ قد صرح المحقق في المعتبر وقبله الشيخ في المبسوط بأنه لو تطهر من آنية الذهب والفضة لم يبطل وضوؤه ولا غسله. والشيخ ذكر الحكم ولم يعلله بشي‌ء والمحقق نقل في المعتبر عن بعض الحنابلة المنع (2) معللا له بأنه استعمله في العبادة فيحرم

__________________

(1) راجع التعليقة 2 ص 504.

(2) حكاه في المغني ج 1 ص 76 عن ابى بكر وهو من شيوخ الحنابلة.


كالصلاة في الدار المغصوبة. ثم قال (قدس‌سره) في الاستدلال لما اختاره : لنا ـ ان انتزاع الماء ليس جزء من الطهارة بل لا يحصل الشروع فيها إلا بعده فلا يكون له أثر في بطلان الطهارة ، وقوله هو استعمال في العبادة قلنا اما انتزاع الماء فهو استعمال لكنه ليس جزء من الطهارة. ونحو ذلك ذكر العلامة في المنتهى إلا انه استوجه بعد ذلك البطلان فقال بعد موافقة المعتبر فيما ذكره في المقام : ولو قيل ان الطهارة لا تتم إلا بانتزاع الماء المنهي عنه فيستحيل الأمر بها لاشتمالها على المفسدة كان وجها وقد سلف نظيره. انتهى.

أقول لا ريب ان النهى في الاخبار المتقدمة ما بين مقيد بالأكل والشرب وما بين مطلق ومقتضى قواعدهم في مثل ذلك حمل المطلق على المقيد ، وحينئذ فلا دليل على حكم الوضوء من آنية الذهب والفضة وان الوضوء هل يكون صحيحا أو باطلا؟ وقضية الأصل الصحة إلا ان ظاهر الأصحاب هو حمل النهي المطلق على النهي عن الاستعمال مطلقا ، وقد نقل في المنتهى الإجماع على تحريم الاستعمال مطلقا. وحينئذ فالنهي عن الاستعمال في الوضوء لا يستلزم بطلان الوضوء كما ذكروه بل غايته حصول الإثم بالاستعمال خاصة وهذا بخلاف النهى عن الأكل والشرب كما حققناه آنفا نعم لو كان ورود النهي عن الوضوء من آنية الذهب لتوجه القول بالبطلان لورود النهي على الوضوء وتوجه النهي إليه موجب لبطلانه بمقتضى القاعدة المقررة من ان توجه النهي إلى العبادات موجب لبطلانها إلا ان الاخبار خالية من ذلك وغاية ما يفهم من مطلقاتها النهي عن الاستعمال ان لم يرتكب فيها التقييد كما قدمنا ذكره ، نعم يأتي ما ذكره العلامة من لزوم اجتماع الأمر والنهي في شي‌ء واحد ، وقد تقدم نبذة من القول في ذلك ويأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة.

(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب تحريم اتخاذ الأواني المذكورة وان كان للقنية والادخار صرح بذلك المحقق في المعتبر ونقله عن الشيخ (قدس‌سره) ولم ينقل فيه خلافا إلا


عن الشافعي حيث جوزه (1) واستدل في المعتبر على ذلك بان فيه تعطيلا للمال فيكون سرفا لعدم الانتفاع ، وبرواية محمد بن مسلم المتقدمة (2) المتضمنة للنهي عن آنية الذهب والفضة ، قال : وهو على إطلاقه. بمعنى ان النهي أعم من الاتخاذ والاستعمال فتكون الرواية دالة بإطلاقها على محل البحث ، ثم أورد رواية موسى بن بكر. أقول : ويدل على ذلك أيضا إطلاق صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنها وان تضمنت الكراهة إلا ان الكراهة هنا بمعنى التحريم اتفاقا كما هو شائع في الاخبار وتحريمها على الإطلاق شامل للقنية والاتخاذ وغيرهما ، ونقل في المدارك عن العلامة في المختلف انه استقرب الجواز استضعافا لأدلة المنع واستحسنه وجعل المنع اولى. والظاهر ضعفه لما عرفت.

(الرابع) ـ قد عرفت اتفاق كلمة الأصحاب على تحريم استعمال أواني الذهب والفضة وانما الخلاف في المفضضة والمذهبة فعن الخلاف ان حكمها حكم أواني الفضة والذهب ، وذهب في المبسوط الى الجواز لكن أوجب عزل الفم عن موضع الفضة وهو اختيار عامة المتأخرين ومتأخريهم : منهم ـ المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم.

واستدل الشيخ (قدس‌سره) على ما نقل عنه بحسنة الحلبي أو صحيحته المتقدمة المتضمنة للنهي عن الأكل في آنية فضة أو مفضضة. أقول : ويدل عليه أيضا موثقة بريد المتقدم نقلها عن الكافي والفقيه فإنه ساوى فيها بين الفضة والمفضض ، والرواية وان وردت بلفظ الكراهة لكن قد عرفت ان المراد بها هنا هو التحريم اتفاقا ، ونقل الشهيد في الذكرى على اثر هذه الرواية عنه (عليه‌السلام) قال : وقوله «في التور يكون فيه تماثيل أو فضة لا يتوضأ منه ولا فيه» قال والنهي للتحريم. وهذه الرواية لم أقف عليها فيما حضرني الآن من كتب الأخبار.

واستدل على القول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة ، وظاهر المتأخرين القائلين بالجواز حمل الأخبار الأولة على الكراهة جمعا بينها وبين الحسنة المذكورة حتى

__________________

(1) كما في المغني ج 1 ص 77.

(2) ص 55.


ان صاحب المعتبر استدل على ذلك بموثقة بريد المذكورة حيث تضمنت لفظ الكراهة مع ان القدح المفضض فيها انما عطف على الفضة ولا خلاف عندهم في التحريم فيها ، إلا ان يقول بجواز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ان قلنا انه حقيقة في أحدهما أو معنييه ان قلنا بالاشتراك وهم لا يقولون به كما صرحوا به في أصولهم ، ولهذا ان شيخنا الشهيد في الذكرى نظم هذه الرواية في أدلة الشيخ كما أشرنا إليه آنفا وقال في تقريب الاستدلال بها : والعطف على الشرب في الفضة مشعر بإرادة التحريم. إلا انه (قدس‌سره) اختار الجمع بين الأخبار بالكراهة كما أشرنا اليه وقال في التفصي عن هذه الرواية : واستعمال اللفظة فيها في التحريم مجاز يصار إليه بقرينة. ولا يخفى ما فيه فإنه خروج عن قواعدهم المقررة في أصولهم وأي قرينة هنا تدل على الجواز في المفضض؟ ومجرد وجود الخبر النافي ليس من قرائن المجاز.

وقال العلامة في المنتهى بعد اختيار الجواز : احتج الشيخ على القول الثاني برواية الحلبي (1) قال : «لا تأكلوا في آنية من فضة ولا في آنية مفضضة». والعطف يقتضي التساوي في الحكم وقد ثبت التحريم في آنية الفضة فيثبت في المعطوف ، وبرواية بريد عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «انه كره الشرب في الفضة وفي القداح المفضضة». والمراد بالكراهة في الأول التحريم فيكون في الثاني كذلك تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولانه لولا ذلك للزم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو اللفظ الواحد في معنى الحقيقة والمجاز وذلك باطل ، ثم قال والجواب عن الحديث الأول ان المعطوف والمعطوف عليه قد اشتركا في مطلق النهي وذلك يكفي في المساواة ويجوز الافتراق بعد ذلك بكون أحدهما نهى تحريم والآخر نهى كراهة ، وكذا الجواب عن الرواية الثانية إذ استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه أو في الحقيقة والمجاز غير لازم إذ

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 66 من النجاسات.


المراد بالكراهة مطلق رجحان العدم غير مقيد بالمنع من النقيض وعدمه فكان من قبيل المتواطئ. انتهى.

أقول : فيه (أولا) ـ ما عرفت مما أسلفنا ذكره في غير مقام من ان الجمع بين الاخبار بالكراهة والاستحباب مما لا دليل عليه من سنة ولا كتاب ولا عقل يصفو عن شوب الارتياب. و (ثانيا) ـ ان ما أجاب به عن الخبر الأول لا يخلو من غرابة فإنه قد صرح في كتبه الأصولية وكذا غيره من المحققين بأن النهي من حيث هو حقيقة في التحريم كما ان الأمر حقيقة في الوجوب ، ومقتضاه ان الحمل على الكراهة والاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة ، وبذلك يظهر لك ما في كلامه هنا من قوله «ان المعطوف والمعطوف عليه قد اشتركا في مطلق النهي. إلخ» فإن فيه زيادة على ما عرفت انهما متى اشتركا في مطلق النهي والنهي حقيقة في التحريم فقد ثبت التحريم في الجميع فلا معنى لهذا الافتراق ولا دليل عليه سوى مجرد التحكم ، وكذا ما أجاب به عن الرواية الثانية فإنه أغرب وأعجب فإن حمل الكراهة على مطلق رجحان العدم الشامل للتحريم والكراهة الاصطلاحية مجرد دعوى ألجأت إليها ضرورة الوقوع في شباك الإلزام وإلا فمعنى الكراهة لا يخرج عن التحريم أو الكراهة الاصطلاحية ولو قامت هذه الاحتمالات البعيدة والتمحلات الغير السديدة في دفع الأدلة وصرفها عن ظاهرها لا نسد باب الاستدلال إذ لا قول إلا وهو قابل للاحتمال.

والأظهر عندي هو القول المشهور من الجواز على كراهية والاستدلال بالأخبار المذكورة ، والتقريب فيها مبني على جواز استعمال المشترك في معنييه أو اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهو وان منعوه في الأصول كما عرفت إلا ان ظواهر كثير من الاخبار وقوعه كما أشرنا إليه في غير مقام ومنه هذه الأخبار ، والاشكال في الاستدلال بها انما يتجه على من يعمل بهذه القواعد الأصولية ومنها هذه القاعدة ، وما استندوا إليه في الخروج عن الاشكال بعد التزامهم بالقاعدة المذكورة قد عرفت ما فيه. نعم هنا احتمالات أخر أيضا في الجمع بين أخبار


المسألة إلا ان الظاهر هو ما ذكرناه.

بقي الكلام في انه على تقدير القول بالجواز كما هو المشهور هل يجب العزل عن موضع الفضة أم لا وان استحب؟ الظاهر الأول كما اختاره الشيخ في المبسوط والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى لحسنة عبد الله بن سنان (1) وقوله (عليه‌السلام) فيها «واعزل فمك عن موضع الفضة». واختار المحقق في المعتبر الاستحباب وتبعه في المدارك واستند في المعتبر إلى رواية معاوية بن وهب المتقدمة. قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو حسن فان ترك الاستفصال في جواب السؤال مع قيام الاحتمال يفيد العموم. وفيه ان غاية ما يدل عليه الخبر المذكور هو جواز استعمال المفضض لا موضع الفضة وأحدهما غير الآخر ، وما استند اليه من العموم الناشئ من ترك الاستفصال مخصوص برواية عبد الله بن سنان الدالة على الأمر بعزل الفم عن موضع الفضة كما لا يخفى.

(الخامس) ـ مورد الأخبار تحريما أو كراهة الإناء المفضض وهل يكون الإناء المذهب ايضا كذلك؟ الظاهر نعم ان لم يكن اولى لاشتراكهما في أصل الحكم. وقال العلامة في المنتهى : الأحاديث وردت في المفضض وهو مشتق من الفضة ففي دخول الآنية المضببة بالذهب نظر ولم أقف للأصحاب فيه على قول ، والأقوى عندي جواز اتخاذه عملا بالأصل والنهي انما يتناول استعمال آنية الذهب والفضة ، نعم هو مكروه إذ لا ينزل عن درجة الفضة. انتهى. واختياره الجواز في المذهب جرى على اختياره الجواز في المفضض كما سلف نقله عنه. وقال الشهيد في الذكرى : هل ضبة الذهب كالفضة؟ يمكن ذلك كأصل الإناء والمنع لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (2) في الذهب والحرير : «هذان محرمان على ذكور أمتي». والظاهر ضعفه والحديث المذكور ان ثبت فالظاهر منه ارادة اللبس كما يشير اليه ذكر الحرير.

__________________

(1) ص 506.

(2) رواه ابن ماجة في السنن ج 2 ص 335 والنسائي في السنن ج 2 ص 285.


(السادس) ـ الظاهر دخول مثل المكحلة وظرف الغالية في الإناء وبذلك صرح الشهيد في الذكرى فقال : الأقرب تحريم المكحلة منهما وظرف الغالية وان كانت بقدر الضبة لصدق الإناء أما الميل فلا. وبنحو ذلك صرح العلامة في جملة من كتبه وتردد في المدارك للشك في إطلاق اسم الإناء حقيقة على ذلك. أقول : ومما يؤيد صدق الإناء على ما نحن فيه ما ذكره الفيومي في المصباح المنير حيث قال : الإناء والآنية الوعاء والأوعية وزنا ومعنى. وهو صريح في المراد لأنها وعاء لما يوضع فيها. واما الميل فالظاهر انه من قبيل الآلات فلا يتعلق به حكم الأواني وبه جزم الشهيد في الذكرى كما تقدم. والله العالم.

(السابع) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى وغيرهم بجواز نحو الحلقة للقصعة وقبضة السيف والسلسلة واتخاذ الأنف من الذهب وربط الأسنان به. وظاهر كلامهم جواز ذلك بلا كراهة ، واستندوا في ذلك الى انه كان للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قصعة فيها حلقة من فضة ولموسى بن جعفر (عليه‌السلام) مرآة كذلك وان قبضة سيف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كانت من فضة ولدرعه حلق من فضة.

أقول : لا ريب في صحة ما ذكروه ووجود الاخبار به كما تقدم (1) إلا انه قد ورد ايضا ما ظاهره المنافاة مثل حديث الفضيل بن يسار الوارد في السرير فيه الذهب حيث منع (عليه‌السلام) عن إمساك السرير في البيت ان كان فيه ذهب وانما جوز المموه بماء الذهب ، وصحيحة علي بن جعفر الواردة في اللجام والسرج فيه الفضة حيث منع من الركوب به ان كان فضة وجوزه ان كان مموها لا يقدر على نزعه ، وصحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة المشتملة على القضيب الملبس فضة وأمر الكاظم (عليه‌السلام) بكسره وحديث بريد المشتمل على المشط ، ويؤيد ذلك

ما روى عن

__________________

(1) ص 505 و 506 و 507.


الصادق (عليه‌السلام) (1) في القرآن المعشر بالذهب وفي آخره سورة مكتوبة بالذهب فلم يعب سوى كتابة القرآن بالذهب وقال : «لا يعجبني أن يكتب القرآن إلا بالسواد كما كتب أول مرة». وهذه الاخبار كما ترى ظاهرة في الكراهة ان تنزلنا عن التحريم وسؤال الفرق بينها وبين ما ورد في تلك الأخبار متجه ، وبالجملة فالظاهر هو الجواز في الآلات على كراهة وان تفاوتت شدة وضعفا في مواردها ، هذا في المذهب والمفضض منها واما المموه فالظاهر جوازه من غير كراهة إلا ان في صحيحة علي بن جعفر ما يشعر ايضا بكون الحكم فيه كذلك من قوله : «ان كان مموها لا يقدر على نزعه» والاحتياط لا يخفى.

(الثامن) ـ قد صرح جملة من الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز استعمال الأواني من غير هذين المعدنين من سائر الجواهر وان علا ثمنه. وهو جيد للأصل وعدم ما يوجب الخروج عنه.

(التاسع) ـ قد عرفت آنفا الخلاف في جواز الاتخاذ للقنية وعدم الاستعمال وعدمه ، ويتفرع على ذلك فروع : منها ـ عدم جواز كسر الآنية المذكورة وضمان الأرش لو كسرها على الأول دون الثاني لأنه لا حرمة لها من حيث التحريم ، ومنها ـ جواز بيعها على الأول دون الثاني إلا ان يكون المطلوب كسرها ووثق من المشتري بذلك.

(العاشر) ـ قال العلامة في المنتهى : تحريم الاستعمال مشترك بين الرجال والنساء لعموم الأدلة ، واباحة التحلي للنساء بالذهب لا يقتضي إباحة استعمالهن للآنية منه إذ الحاجة وهي التزيين ماسة في التحلي وهو مختص به فتختص به الإباحة. انتهى. وادعى في التذكرة الإجماع على الاشتراك المذكور. وهو جيد. والله العالم.

تذنيب

في أحكام الجلود والبحث فيها يقع في مواضع (الأول) المشهور بين الأصحاب

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب ما يكتسب به.


(رضوان الله عليهم) بل ادعى عليه الإجماع ان جلد الميتة مما هو طاهر في حال الحياة لا يطهر بالدباغ وادعى العلامة في المنتهى والمختلف الإجماع عليه من غير ابن الجنيد ، والشهيد في الذكرى ادعى الإجماع من غير استثناء ، وهو اما بناء على ان معلوم النسب خروجه غير قادح في الإجماع أو لعدم الاعتداد بخلافه لشذوذه وموافقة قوله لأقوال العامة ، ولم ينقلوا الخلاف هنا إلا عن ابن الجنيد خاصة حيث ذهب الى طهارته بالدباغ مما هو طاهر في حال الحياة لكن لا يجوز الصلاة فيه ، وعزى الشهيد في الذكرى الى ابي جعفر الشلمغاني من قدماء أصحابنا إلا انه تغير وظهرت منه مقالات منكرة ـ موافقة ابن الجنيد ، مع ان ظاهر الصدوق في الفقيه ذلك ايضا حيث روى في صدر الكتاب مرسلا عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «انه سئل عن جلود الميتة يجعل فيها اللبن والماء والسمن ما ترى فيه؟ فقال لا بأس». وهو ظاهر في الطهارة كما ترى وليس بين هذا الكلام وبين صدر الكتاب الذي قرر فيه انه لا يورد في كتابه إلا ما يعتقد صحته ويفتي به إلا أوراق يسيرة.

أقول : وقد قدمنا تحقيق القول في هذه المسألة في الفصل الخامس في الميتة من المقصد الأول واستوفينا الأخبار الواردة في المسألة وبينا الوجه فيها وفي الجمع بينها إلا انه قد وقع للمحقق الشيخ حسن في هذا المقام كلام لا بأس بنقله وبيان ما فيه من نقض وإبرام وقد سبقه الى ذلك ايضا صاحب المدارك إلا أنا نكتفي بالكلام على ما ذكره في المعالم حيث انه ابسط ومنه يعلم الجواب عما ذكره في المدارك.

قال في المعالم بعد نقل الخلاف في المسألة : إذا عرفت هذا فاعلم ان العمدة في الاحتجاج هنا لكل من القولين حسب ما ذكره المتأخرون هو الاخبار إلا ان الشيخ والفاضلين أضافوا إليها في الاحتجاج لعدم الطهارة عموم قوله تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» (2) تعويلا على تناوله لجميع أنواع الانتفاع ، واستصحاب النجاسة لثبوتها قبل

__________________

(1) ج 1 ص 9.

(2) سورة المائدة ، الآية 4.


الدبغ فكذا بعده ، ويلوح من الشهيد التمسك بالإجماع كما حكيناه عنه وهو صريح كلام الشيخ في الخلاف. وهذه الوجوه كلها ضعيفة ، اما التمسك بالآية فلأن المتبادر منها بحسب العرف تحريم الأكل كما سبق تحقيقه في بحث المجمل من مقدمة الكتاب ، واما الاستصحاب فلان التمسك به موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما في الأزمان كما سلف القول فيه محررا وقد تقدم في البحث عن نجاسة الميتة ان العمدة فيه على الإجماع وحينئذ فلا استصحاب ، واما الإجماع فلعدم ثبوته على وجه يصلح للحجية ولهذا لم يتعرض له المحقق ، وحال الشيخ والشهيد في الإجماع معلوم إذ قد أشرنا في غير موضع إلى أنهما داخلان في عداد من ظهر منه في أمر الإجماع ما أوجب حمله على غير معناه المصطلح الذي هو الحجة عندنا أو أفاد قلة الضبط في نقلهم. ثم ان الاخبار التي احتجوا بها لعدم الطهارة كثيرة : منها ـ ما رواه علي بن المغيرة قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) جعلت فداك الميتة ينتفع بشي‌ء منها؟ قال لا. قلت بلغنا. الحديث». وقد قدمناه في الموضع المشار اليه آنفا عن علي بن أبي المغيرة (1) ثم ذكر بعده رواية الفتح ابن يزيد الجرجاني وقد تقدمت ايضا (2) ثم روايات لا دلالة فيها في الحقيقة ، ثم قال فاما ما يدل من الاخبار على الطهارة فحديث واحد رواه الشيخ بإسناده ثم نقل رواية الحسين بن زرارة وقد تقدمت أيضا في الموضع المشار اليه (3) ثم قال : وأنت إذا تأملت هذه الاخبار كلها وجدت ما عدا الأولين منها والأخير ليس من محل النزاع في شي‌ء ، ثم ساق الكلام في بيان ذلك الى ان قال : فالتعارض واقع بينهما وبينه ـ يعني الخبرين الأولين وخبر الحسين ـ والترجيح من جهة الاسناد منتف لأن رواية الفتح ضعيفة والخبران الآخران مشتركان في جهالة حال راوييهما ، وحينئذ فيمكن ان يجعل وجه الجمع حمل الروايتين الأوليين على الكراهة أو حمل رواية الطهارة على التقية ويرجح الثاني رعاية الموافقة لما عليه اتفاق أكثر الأصحاب ، ويؤيد

__________________

(1) ص 62.

(2 و 3) ص 61.


الأول موافقته لمقتضى الأصل من براءة الذمة بملاحظة ما قدمناه من عدم استقامة اعتبار الاستصحاب في مثله. انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على المتأمل النبيه (أما أولا) فإن ما ذكره من ان التمسك بالاستصحاب موقوف على ملاحظة دليل الحكم وكونه عاما فجيد ، واما قوله ـ ان العمدة في نجاسة الميتة انما هو الإجماع ـ فمردود بما قدمنا تحقيقه في الفصل المتقدم ذكره ونقلناه من الأخبار المستفيضة الدالة على الحكم المذكور وما ذيلنا به من التحقيق الظاهر في ذلك تمام الظهور ، وعلى هذا فالاستدلال بالاستصحاب في محله لأن الأخبار المذكورة قد دلت على نجاسة الميتة ومنها الجلد وهي مطلقة عامة شاملة لجميع الأزمان حتى يقوم الرافع فالاستصحاب هنا راجع الى الاستصحاب بعموم الدليل كما هو المدعى.

و (اما ثانيا) ـ فان ما ذكره من الطعن في الإجماع فهو حق على رأينا الواجب الاتباع وان كان قليل الاتباع من الاقتصار في الاستدلال على الكتاب والسنة لا على رأي من يعتمد على القواعد الأصولية كهذا القائل ونحوه. وذلك فإنه لا يخفى ان من قواعدهم العمل بالإجماع المنقول بالخبر الواحد ، ومنها ان خلاف معلوم النسب غير قادح في الإجماع والأمر هنا كذلك فيكون حجة ، وقد ادعاه هنا العلامة في المنتهى والمختلف وان استثنى ابن الجنيد منه ، وادعاه الشيخ في الخلاف والشهيد في الذكرى من غير استثناء بناء على القاعدة الثانية ، وبذلك اعترف هذا القائل في صدر كلامه فقال بعد نقل الإجماع عن العلامة كما حكيناه : وقال الشهيد في الذكرى لا يطهر جلد الميتة بالدباغ إجماعا فلم يحتفل باستثناء المخالف نظرا الى عدم اعتبار مخالفة معلوم الأصل في تحقق الإجماع انتهى. وحينئذ فالإجماع المدعى هنا بمقتضى قواعدهم حجة في المقام فلا معنى لقدحه فيه ، ووقوع التساهل من الشيخ والشهيد في دعوى الإجماع في غير هذا الموضع لا يقتضي رد ما نقلاه هنا من الإجماع المشتمل على شروط الإجماع المقبولة وإلا لأدى ذلك الى


عدم قبول الإجماع بين المتأخرين مطلقا ولا جعله دليلا شرعيا عندهم لان عمدة الإجماعات الأصل فيها هو الشيخ والمرتضى اللذان هما في الصدر الأول فإذا لم يعول على نقلهم الإجماع مع عدم ظهور فساده ولا مانع منه فبالطريق الأولى إجماعات المتأخرين الذين هم أبعد طبقة من معرفة أقوال المتقدمين ، غاية الأمر انه في مقام ظهور خلافه سيما إذا لم يعلم القائل به سوى المدعى أو مخالفة المدعى نفسه فيه في موضع آخر أو مخالفة غيره له فيه لا يعمل عليه ، وما لم يظهر فيه شي‌ء من ذلك ونحوه فإنه لا معنى لرده بمجرد التشهي كما لا يخفى.

و (اما ثالثا) ـ فان ما ذكره ـ من انه لا تعارض في الاخبار التي نقلها إلا بين روايتي علي بن المغيرة والفتح بن يزيد الجرجاني وبين رواية الحسين بن زرارة ـ فحق لا ريب فيه إلا ان قوله : «والترجيح من جهة الاسناد منتف» غفلة ظاهرة قد سبقه إليها صاحب المدارك ايضا ، وذلك فإن الرواية التي نقلاها عن علي بن المغيرة انما نقلاها من التهذيب وهي فيه كذلك وعلي بن المغيرة المذكور مجهول ذكره ولم يتعرضوا له بمدح ولا قدح واما في الكافي فإنما رواها عن ابن أبي المغيرة وهو ثقة كما في كتب الرجال والتحريف قد وقع من الشيخ كما لا يخفى على من له انس بطريقته وقد نبهنا على ذلك مرارا ، ويدل على ذلك انه انما نقل الحديث عن ابن يعقوب بالسند المذكور في الكافي ولكن حرف قلمه فسقط منه لفظ «ابي» والمحدثان الفاضلان محسن الكاشاني والشيخ الحر في الوافي والوسائل إنما نقلا الخبر بسند صاحب الكافي كما ذكرنا ولكن المحققين المذكورين لم يراجعا الكافي واعتمدا على التهذيب والحال كما ترى ، وحينئذ فالرواية المذكورة صحيحة صريحة في النجاسة ورواية الحسين بن زرارة قاصرة عن معارضتها ، واقصر منها وأضعف باصطلاحهم مرسلة الصدوق التي نوه بها في المدارك واعتمد عليها ، على ان أدلة القول بالنجاسة غير منحصرة في هاتين الروايتين بل هي عدة روايات قدمنا ذكرها في الموضع المشار اليه آنفا.


و (اما رابعا) فان ما ذكره ـ من وجهي الجمع بحمل رواية الطهارة على التقية أو حمل روايتي النجاسة على الكراهة وأيد الحمل الأول برعاية اتفاق أكثر الأصحاب والثاني بموافقة الأصل ـ ففيه ان وجه الجمع الموافق لقواعد أهل العصمة (عليهم‌السلام) التي وضعوها انما هو الأول لما استفاض عنهم من الأخبار في مقام اختلاف الروايات الواردة عنهم في الأحكام من العرض على الكتاب العزيز والأخذ بما وافقه والعرض على مذهب العامة والأخذ بخلافه والأخذ بالجمع عليه والأخذ بالأعدل ونحو ذلك ، واما الحمل على الكراهة والاستحباب والترجيح بالأصل كما اتخذوه قاعدة كلية في جميع الأبواب فهو اجتهاد صرف وتخريج بحت ورد لنصوص أهل الخصوص ، وليت شعري أرأيت حين خرجت عنهم (عليهم‌السلام) هذه القواعد في ترجيح الاخبار في مقام الاختلاف لم يعلموا بهذا الأصل وانه مما ترجح به الاخبار حتى أغفلوه وأهملوه أو علموا به ولم يذكروه والأول كفر محض فتعين الثاني وليس إلا لعدم صلاحيته للترجيح وإلا لعدوه في جملة هذه المرجحات.

وبهذا يظهر لك ايضا ما في كلام صاحب المدارك حيث قال بعد الكلام في المسألة : وبالجملة فالمسألة محل تردد لما بيناه فيما سبق من انه ليس على نجاسة الميتة دليل يعتد به سوى الإجماع وهو انما انعقد على النجاسة قبل الدبغ لا بعده ، وعلى هذا فيمكن القول بالطهارة تمسكا بمقتضى الأصل وتخرج الروايتان شاهدا. انتهى.

أقول : لا تردد بحمد الله تعالى في ذلك بعد وضوح المدارك فيها والمسالك من الأخبار المستفيضة بنجاسة الميتة على العموم والجلد على الخصوص المعلوم وحمل المخالف في الثاني على التقية كما استفاضت به الاخبار عن سادات البرية. والله الهادي لمن يشاء

(الثاني) ـ اشترط ابن الجنيد في حصول الطهارة بالدباغ ان يكون ما يدبغ به طاهرا ، قال في المختصر على ما نقل عنه : وليس يكون دباغها المحلل لها إلا بمحلل طاهر كالقرظ والشث والملح والتراب فإذا دبغت بشي‌ء من النجس لم تطهر كالدارش فإنها


تدبغ بخرء الكلاب وكذا اللنكا. انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : ولا نعلم حجته على هذا الشرط ويمكن ان يكون الوجه فيه علوق بعض اجزاء النجس به لسريانه في أعماق الجلد. انتهى. أقول : بل الظاهر ان الوجه فيه انما هو عدم وقوع التطهير بالنجس حيث انه جعل الدبغ مطهرا شرعا وقد تقرر في كلامهم انه لا بد في المطهر ان يكون طاهرا ليفيد غيره طهارة كما صرحوا به وعليه دلت الاخبار ايضا. أقول : قد روى الشيخان في الكافي والتهذيب عن السياري عن ابي يزيد القسمي عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (1) «انه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الخفاف فقال لا تصل فيها فإنها تدبغ بخرء الكلاب». والنهي في الخبر عن الصلاة في الخفاف المذكورة مخصوص بعدم تطهير الجلد وغسله وإلا فلو غسل فلا بأس ، صرح بذلك الفاضلان في المعتبر والمنتهى.

والمذكور في كلام جملة من الأصحاب انه لا يجوز الدباغ إلا بما كان طاهرا قاله الشيخ في المبسوط وكذا ابن إدريس والعلامة في المنتهى وظاهره تحريمه بالنجس ، ولا اعرف للتحريم وجها بعد حصول الطهارة بالغسل كما صرح به هنا ، ونحوه في المنتهى قال : يجوز استعمال الطاهر في الدباغ كالشث والقرظ والعفص وقشور الرمان وغيرها ، والقائلون بتوقف الطهارة على الدباغ من أصحابنا والجمهور اتفقوا على حصول الطهارة بهذه الأشياء أما الأشياء النجسة فلا يجوز استعمالها في الدباغ ، وهل يطهر أم لا؟ اما عندنا فإن الطهارة حصلت بالتذكية فكان ملاقاة النجس موجبة لتنجس الجلد ويطهر بالغسل ، واما القائلون بتوقف الطهارة على الدباغ فقد ذهب بعضهم الى عدم الطهارة ذكره ابن الجنيد وبعض الجمهور لأنها طهارة من نجاسة فلا تحصل بالنجس كالاستجمار والغسل الى ان قال وقد روي عن الرضا (عليه‌السلام) ثم نقل رواية أبي يزيد القسمي المتقدمة وردها أولا بضعف السند ثم قال ومع تسليمها تحمل على المنع من الصلاة قبل الغسل. انتهى.

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 71 من النجاسات.


وقد ضبط جملة من أصحابنا لفظ «الشث» هنا بالشين المعجمة والثاء المثلثة قال الجوهري انه نبت طيب الريح مر الطعم يدبغ به ، وفي الذكرى بعد ان ضبطه هكذا قال وقيل بالباء الموحدة وهو شي‌ء يشبه الزاج. والقرظ بالقاف والراء والظاء المعجمة قال الجوهري هو ورق السلم يدبغ به. واما الدارش فذكر الجوهري وغيره انه جلد معروف. واما ما ذكره ابن الجنيد من اللنكا فذكر في المعالم انه ليس بعربي إذ لم يذكره أهل اللغة.

(الثالث) ـ لو قلنا ببقاء جلود الميتة بعد الدباغ على النجاسة كما هو المشهور المنصور فهل يجوز الانتفاع بها في اليابس أم لا؟ صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى بالثاني. وعلله المحقق في المعتبر بعموم النهي عن الانتفاع ونحوه العلامة في المنتهى ، وزاد الشهيد في الذكرى عموم «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» (1).

واعترضهم في المعالم بأنه ليس بجيد لأن الآية غير صالحة لأن يتناول عمومها مثله كما بيناه والخبران العامان قد علم ضعف إسنادهما.

أقول : اما ما ذكره من منع دلالة الآية سابقا وفي هذا الموضع فهو جيد لما ذكره من ان المتبادر انما هو الأكل كما في قوله سبحانه «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ... الآية» (2) فإن المتبادر انما هو النكاح خاصة. واما الطعن في الخبرين الدالين على ذلك فهو ايضا جيد على أصله الغير الأصيل المخالف لما عليه كافة العلماء جيلا بعد جيل ، لإطباقهم على العمل بهذه الاخبار واتفاقهم على ذلك في جميع الأعصار وان اختلفوا في الوجه في ذلك فبين من يحكم بصحتها كما عليه كافة المتقدمين وجملة من متأخري المتأخرين وبين من يجبر ضعفها باتفاق الأصحاب على العمل بها وإجماعهم عليها. والله العالم.

(الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما

__________________

(1) سورة المائدة ، الآية 4.

(2) سورة النساء ، الآية 27.


اعلم ان ما عدا الكلب والخنزير والإنسان من الحيوانات الطاهرة مما لا يؤكل لحمه كالسباع ونحوها تقع عليها الذكاة وانما الخلاف في انه بعد التذكية هل يشترط في الانتفاع بجلده الدبغ أم لا؟ المشهور على ما ذكره في الذكرى الأول حيث قال : الأصح وقوع الذكاة على الطاهر في حال الحياة كالسباع لعموم «إِلّا ما ذَكَّيْتُمْ» (1) وقول الصادق (عليه‌السلام) (2) «لا تصل فيما لا يؤكل لحمه ذكاه الذبح أو لم يذكه». فيطهر بالذكاة ، والمشهور تحريم استعماله حتى يدبغ والفاضلان جعلاه مستحبا لطهارته وإلا لكان ميتة فلا يطهره الدبغ. انتهى. وربما أشعر صدر عبارته بالخلاف في وقوع التذكية.

أقول : لم أقف في كلام أحد من الأصحاب على نقل الخلاف في جواز الاستعمال قبل الدبغ إلا عن الشيخ والمرتضى خاصة حيث نقل عنهما التحريم كما في المعتبر والمختلف والمنتهى ، وشيخنا الشهيد في الذكرى قد ذكر انه هو المشهور وظاهر أكثر المتأخرين انما هو ما ذهب اليه الفاضلان من الجواز وان كان على كراهة خروجا من خلاف القائل بالتحريم ، نعم ظاهر كلام العلامة ان خلاف الشيخ والمرتضى انما هو في الطهارة لا في الاستعمال كما هو المفهوم من كلام غيره ، قال واما الحيوان الطاهر حال الحياة مما لا يؤكل لحمه كالسباع فإنه تقع عليه الذكاة ويطهر الجلد بها وهو قول مالك وابي حنيفة وقال الشيخ والمرتضى لا يطهر إلا بالدباغ وبه قال الشافعي واحمد في إحدى الروايتين وفي الأخرى لا يجوز الانتفاع بجلود السباع قبل الدبغ ولا بعده. إلخ (3). وهو غريب ونحوه كلام المحقق الشيخ علي في شرح القواعد حيث قال بعد قول المصنف «نعم يستحب الدبغ فيما لا يؤكل لحمه» : وقيل بالوجوب ومقتضى كلام القائلين به ان

__________________

(1) سورة المائدة ، الآية 4.

(2) الظاهر انه مضمون ما ورد في موثق ابن بكير المروي في الوسائل في الباب 2 من لباس المصلى من فساد الصلاة في كل شي‌ء من غير المأكول ذكاه الذبح أو لم يذكه.

(3) المغني ج 1 ص 66 و 71 وبداية المجتهد ج 1 ص 72.


الطهارة تحصل بالدبغ وهو مردود لأن الطهارة حاصلة بالتذكية إذ لولاها لكان ميتة فلا يطهر بالدبغ ، قال والأصح عدم الوجوب وان كان العمل به أحوط. وفيه ان مجرد القول بالوجوب لا يستلزم ما ذكره إذ يجوز ان يكون وجوب الدبغ الذي ذهبوا اليه انما هو لحل الاستعمال إلا ان يدعى ان حل الاستعمال تابع للطهارة فمتى قيل بها جاز الاستعمال ثم يستثني من ذلك الصلاة اتفاقا. ثم ان ظاهر الشهيد في الذكرى ونحوه في الدروس هو التوقف في المسألة حيث اقتصر على نقل الخلاف في المقام ولم يرجح شيئا.

وبالجملة فالذي يتلخص من كلام من وقفت على كلامهم في هذا المقام هو ان محل الخلاف انما هو جواز الاستعمال قبل الدبغ وعدمه فالشيخ والمرتضى على الثاني والمتأخرون كالفاضلين ومن تأخر عنهما على الأول.

ونقل عن الشيخ في الخلاف انه احتج بالإجماع على جواز الاستعمال بعد الدبغ ولا دليل قبله. وفيه منع ظاهر لتظافر الأدلة بالجواز ، ومنها ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن سماعة في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال اما لحوم السباع والسباع من الطير والدواب فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه».

وروى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن سماعة في الموثق الأوثق عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن لحوم السباع وجلودها فقال اما لحوم السباع من الطير والدواب فانا نكرهه واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه».

وروى في المحاسن عن ابن أسباط عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن ركوب جلود السباع قال لا بأس ما لم يسجد عليها».

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من الأطعمة المحرمة.

(2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلى.


وعن عثمان بن عيسى عن سماعة (1) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن جلود السباع قال فقال اركبوها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه».

قال شيخنا المجلسي في البحار ذيل هذين الخبرين : هذان الخبران يدلان على كون السباع قابلة للتذكية بمعنى إفادتها جواز الانتفاع بجلودها لطهارتها كما هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) بل قال الشهيد انه لم يعلم القائل بعدم وقوع الذكاة عليها سوى الكلب والخنزير. واستشكال الشهيد الثاني وبعض المتأخرين في الحكم بعد ورود النصوص المعتبرة وعمل القدماء والمتأخرين بها لا وجه له. انتهى.

أقول : ومن الأخبار في ذلك ايضا ما يأتي في كتاب الصلاة ان شاء الله تعالى من جواز الصلاة في الخز اتفاقا وفي جلود جملة من الحيوانات كالفنك والسنجاب والسمور والثعالب والأرانب ونحوها على خلاف في ذلك دون أصل اللبس فإنها ظاهرة في جوازه.

وقال في الفقه الرضوي (2) «ولا تجوز الصلاة في سنجاب أو سمور أو فنك فإذا أردت الصلاة فانزعه عنك وقد روى فيه رخصة وإياك ان تصلي في الثعالب ولا في ثوب تحته جلد ثعالب وصل في الخز إذا لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب. ولا تصل في جلد الميتة». انتهى.

وإطلاق هذه الأخبار شامل للمدبوغ وغيره وبه يظهر قوة القول المشهور ، وبالجملة فإنه متى ثبتت الطهارة بالتذكية جاز الاستعمال ومدعى الزيادة على ذلك عليه الدليل.

وبما سردناه من الأخبار يظهر ما في حكم أصحابنا (رضوان الله عليهم) بكراهة الاستعمال قبل الدبغ تفصيا من خلاف الشيخ والمرتضى فإنه لا يخفى ان الكراهة عندهم من الأحكام الشرعية المتوقف ثبوتها على الدليل فكيف يسوغ الحكم بها من غير دليل؟ ومجرد قول هذا القائل مع خلوه من الدليل ليس بدليل الكراهة ، وغاية ما يمكن

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 5 من لباس المصلى.

(2) ص 16.


التنزل اليه بعد الإغماض عما ذكرناه في غير موضع من التحقيق هو حمل دليله لو كان ثمة دليل على الكراهة جمعا كما هي قاعدتهم لا الحكم بالكراهة لمجرد التفصي من الخلاف فإنه لا يخفى ما فيه على ذوي الإنصاف.

(الخامس) ـ المشهور في كلام متأخري أصحابنا نجاسة الجلد لو وجد مطروحا وان كان في بلاد المسلمين جديدا أو عتيقا مستعملا أو غير مستعمل لأصالة عدم التذكية ونحو ذلك اللحم ايضا.

وأنت خبير بما فيه (اما أولا) فللقاعدة الكلية المتفق عليها نصا وفتوى من ان «كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه» (1). و «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر» (2). ومن قواعدهم المقررة ان الأصل يخرج عنه بالدليل والدليل موجود كما ترى ، فترجيحهم العمل بالأصل المذكور على هذه القاعدة المنصوصة خروج عن القواعد ، ويعضد هذه القاعدة المذكورة جملة من الاخبار كصحيحة سليمان بن جعفر الجعفري عن العبد الصالح موسى (عليه‌السلام) (3) «انه سأله عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية أيصلي فيها؟ قال نعم ليس عليكم المسألة ان أبا جعفر (عليه‌السلام) كان يقول ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ان الدين أوسع من ذلك». وبمضمونها روايات عديدة قد تقدمت ، والتقريب فيها دلالتها على الحل في موضع الاشتباه حتى في الصلاة.

و (اما ثانيا) ـ فلما رواه الشيخ عن السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (4) «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين؟ فقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يقوم ما فيها ثم يؤكل لانه يفسد وليس له بقاء فان جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل يا أمير المؤمنين

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من ما يكتسب به.

(2) راجع ص 255.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب النجاسات.


لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسي؟ قال هم في سعة حتى يعلموا». وهو صريح في المطلوب ، ونقل هذه الرواية في البحار (1) عن الراوندي بسنده عن موسى بن إسماعيل عن أبيه إسماعيل عن أبيه موسى. الحديث إلا ان فيه «لا نعلم أسفرة ذمي هي أم سفرة مجوسي».

و (اما ثالثا) ـ فان مرجع ما ذكروه من الأصل إلى استصحاب عدم الذبح نظرا الى حال الحياة. وفيه ـ مع الإغماض عما حققناه في مقدمات الكتاب من ان مثل هذا الاستصحاب ليس بدليل شرعي ـ انه صرح جملة من المحققين كما حققناه في الدرر النجفية بان من شرط العمل بالاستصحاب ان لا يعارضه استصحاب آخر يوجب نفى الحكم الأول في الثاني واستصحاب عدم التذكية هنا معارض باستصحاب طهارة الجلد حال الحياة ، وتوضيحه ان وجه تمسكهم بالأصل المذكور من حيث استصحاب عدم الذبح نظرا الى حال الحياة ولم يعلم زوال عدم المذبوحية لاحتمال الموت حتف انفه فيكون نجسا إذ الطهارة لا تكون إلا مع الذبح ، هكذا قالوا ، ونحن نقول ان طهارة الجلد في حال الحياة ثابتة ولم يعلم زوالها لتعارض احتمال الذبح وعدمه فيتساقطان ويبقى الأصل ثابتا لا رافع له.

و (اما رابعا) ـ فان ما اعتمدوه من الاستصحاب وان سلمنا صحته إلا انه غير ثابت هنا ولا موجود عند التأمل بعين التحقيق ، فإنه لا معنى للاستصحاب كما حقق في محله إلا ثبوت الحكم بالدليل في وقت ثم إجراؤه في وقت ثان لعدم قيام دليل على نفيه مع بقاء الموضوع في الوقتين وعدم تغيره فثبوت الحكم في الوقت الثاني متفرع على ثبوته في الوقت الأول والا فكيف يمكن إثباته في الثاني مع عدم ثبوته أولا؟ واستصحاب عدم المذبوحية في المسألة لا يوجب الحكم بالنجاسة كما توهموه لأن النجاسة لم تكن ثابتة في الوقت الأول وهو وقت الحياة ، وبيانه ان عدم المذبوحية لازم لأمرين

__________________

(1) ج 14 ص 766.


أحدهما الحياة وثانيهما الموت حتف الأنف والموجب للنجاسة ليس هو هذا اللازم من حيث هو بل ملزومه الثاني أعني الموت حتف الأنف فعدم المذبوحية اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحية اللازم للموت حتف الأنف والمعلوم ثبوته في الزمن الأول هو الأول لا الثاني وظاهر انه غير باق في الوقت الثاني. والله العالم.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *