ج23 - التحريم - النسب والرضاع
الفصل الثاني
والمشهور في كلامهم حصرها في ستة وهي : النسب ، والرضاع
، والمصاهرة واستيفاء العدد ، واللعان ، والكفر.
ولا يخفى أن الأسباب الموجبة للتحريم أكثر من ذلك كما
سيمر بك إن شاء الله في تضاعيف مباحث الكتاب ومنها المعقود عليها في العدة مع
العلم أو الدخول ، والمزني بها وهي ذات بعل أو في العدة الرجعية ، والمعقود عليها
كذلك مع الدخول والعلم ، والفجور بأبيها وأخيها ، والمفضاة بالدخول لأقل من تسع ،
والمقذوفة وهي صماء أو خرساء ، والمزني بأمها وبنتها ، والمعقود عليها في الإحرام
مع العلم بالتحريم.
وكيف كان فالبحث هنا يقع في مطالب ستة جريا على عادتهم (رضوان
الله عليهم) في جعل محل الكلام في هذه الستة المذكورة. فنقول وبالله التوفيق
لبلوغ المأمول ونيل المسئول :
المطلب الأول : فيما يحرم
بالنسب ، وهي سبعة أصناف من النساء حسبما تضمنته الآية أعني قوله عزوجل (1) «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ
وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ» وربما أنهاها
بعضهم إلى تسعة ، وهي الأم وإن علت ، والبنت وبنتها وإن نزلت ، وبنت الابن فنازلا
، والأخت وبنتها فنازلا ، وبنات الأخ كذلك ، والعمة والخالة فصاعدا فيهما.
والمراد بالأم هنا وإن علت هي كل امرأة ولدتك أو انتهى
نسبك إليها من العلو بالولادة لأب كان أو لام ، وبعبارة أخرى هي كل أنثى ولدتك أو
ولدت من ولدك ذكرا كان أو أنثى ، وبعبارة ثالثة هي كل أنثى ينتهي إليها نسبك بالولادة
بواسطة أو بغير واسطة.
والمراد بالبنت وبنتها وإن نزلت ، وبنت الابن فنازلا كل
من ينتهي إليك نسبه بالتولد ولو بوسائط ، وبعبارة اخرى أن ضابطها كل أنثى ولدتها
أو ولدت من ولدها ذكرا كان أو أنثى بواسطة أو غير واسطة.
والمراد بالأخت وابنتها هي كل امرأة ولدها أبواك أو
أحدهما وبعبارة أخرى هي كل امرأة ولدتها أبواك أو أحدهما ، أو انتهى نسبهما إليهما
أو أحدهما بالتولد ونحوها ابنة الأخ وإن نزلت ، فإنها داخلة تحت الضابط المذكور.
والمراد بالعمة فصاعدا هي كل أنثى هي أخت ذكر ولدتك
بواسطة أو غير واسطة من جهة الأب أو الأم أو منهما.
والخالة فصاعدا وضابطها كل أنثى هي أخت أنثى ولدتك
بواسطة أو غير واسطة.
والمراد بقولنا «فصاعدا» في العمة والخالة ليدخل عمة
الأب والام
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 24.
وخالتهما وعمة الجد والجدة وخالتهما
وهكذا ، لا عمة العمة وخالة الخالة فإنهما قد لا تكونان محرمتين ، وقد تكونان
محرمتين ، فلا يكون التحريم ضابطة كلية.
فأما بالنسبة إلى العمة فإن عمة العمة قد تكون محرمة كما
إذا كانت العمة القريبة عمته لأبيه وامه أو لأبيه ، فعمة هذه العمة تكون أخت جده
لأبيه فتكون عمته تحرم عليه ، مثل عمته القريبة ، وقد لا تكون محرمة كما لو كانت
عمته القريبة عمته لام ، بمعنى أنها أخت أبيه من الام ، فعمتها حينئذ تكون أخت زوج
جدته أم أبيه ، وأخت زوج الام لا تحرم ، فأخت زوج الجدة أولى.
وأما بالنسبة إلى خالة الخالة ، فإن الخالة القريبة قد
تكون خالة لأب وأم أو لام ، بمعنى أنها أخت امه من الأبوين أو من الام ، فخالتها
على هذا تحرم عليه لأنها أخت جدته لأمه.
أما لو كانت خالته لأب خاصة ، بمعنى أنها أخت امه من
الأب خاصة ، فإنها لا تحرم عليها لأن أم خالته القريبة تكون امرأة جده لا أم امه ،
فاختها تكون أخت امرأة الجد ، وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه.
وبالجملة فإن المحرم من هذه المذكورات في الآية الشريفة
أعم من أن تكون صدق هذه العنوانات عليه بطريق الحقيقة أو المجاز إلا الأخت فإنه لا
مجاز فيها ، وكذا أولاد البنات فنازلا في دخولهم في لفظ البنات بناء على المختار ،
وإن كان المشهور إنما هو المجاز.
وحينئذ فإما أن يكون المراد بالمذكور في الآية ما هو أعم
من الحقيقة والمجاز أو أن المراد به الحقيقة خاصة ، والمجاز إنما استفيد بدليل من
خارج.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن للأصحاب في ضبط المحرمات عبارات
تفصيلية وإجمالية ، فالأولى منهما ما ذكرناه ، ومن الثاني قولهم : أنه يحرم على
الإنسان
أصوله وفصوله ، وفصول أول أصوله (1) ، وأول فصل من
كل أصل بعده ، أي بعد أول الأصول.
قالوا : فالأصول الأمهات بالنسبة إلى الذكر والآباء
بالنسبة إلى الأنثى ، والفصول البنات والبنون بالنسبة إلى الأمرين ، وفصول أول
الأصول الاخوة بالنسبة إلى الرجل والأخوات للأنثى وأولاد الأخ وأولاد الأخت وإن
نزلوا ، وأول فصل من كل أصل بعد الأصل الأول الأعمام والعمات والأخوال والخالات.
ومن الثاني أيضا قولهم : أنه يحرم على الإنسان كل قريب
عدا أولاد العمومة والخؤولة وهي أخصر وأظهر ، وحينئذ فيحرم على الرجل نساء القرابة
مطلقا إلا من دخل في اسم ولد العمومة والخؤولة ، وعلى الأنثى ذكور القرابة إلا من
دخل في أحد الاسمين المذكورين.
تنبيهات
الأول : لا يخفى أن
ما تضمنته الآية من التحريم على الرجال مستلزم للتحريم على النساء ، بمعنى أنه كما
يحرم على الرجل امه ، يحرم على الام ابنها فإن الحكم بتحريم النكاح من أحد الطرفين
يقتضي التحريم من الطرف الآخر لا محالة ، وهذا هو النكتة في تخصيص الله عزوجل في الآية
المحرمات على الرجال ولم يذكر العكس ، وهكذا الكلام في البنت وباقي المحرمات التي
في الآية.
الثاني : لا خلاف بين
العلماء في أن النسب يثبت بالنكاح الصحيح ، والمراد به الوطي المستحق شرعا بعقد
صحيح أو تحليل أو ملك وإن حرم لعارض كالوطئ في الحيض ، ولا يعتبر علمه بكون الوطي
جائزا له ، فلو وطئ حليلته
__________________
(1) أقول : وبعبارة أخرى يحرم على الرجل أصوله وفروعه ، وفروع
أول أصوله وأول كل فرع من كل أصل وان علا. (منه ـ قدسسره ـ).
بظن أنها أجنبية قادما على الزنا لم
يقدح ذلك في كون الوطي شرعا وإن أثم بإقدامه على الحرام كما ذكره الأصحاب.
ويحتمل عندي عدم الإثم أيضا من حيث المصادفة واقعا لحل
النكاح ، ويلحق به وطئ الشبهة ، والمراد به الوطي الذي ليس بمستحق شرعا مع ظنه أنه
مستحق.
ويمكن إدراجه في تعريف النكاح الصحيح المتقدم ذكره بمحل
المستحق شرعا على ما هو أعم من كونه كذلك واقعا أو باعتبار ظنه.
والحق (1) بوطىء الشبهة وطئ المجنون والنائم
ومن في معناه والصبي الغير المميز.
وبعضهم فسروا وطئ الشبهة بالوطء الذي ليس بمستحق مع عدم
العلم بتحريمه قال : فيدخل فيه وطئ الصبي والمجنون والنائم وشبهه ، فيثبت به النسب
كالصحيح ولو اختصت الشبهة بأحد الطرفين اختص به الولد.
وأما الوطي بالزنا وهو وطئ المكلف من تحرم عليه بالأصالة
مع علمه بالتحريم ، فلا يثبت به النسب إجماعا ، لكن هل يثبت به التحريم الذي هو
أحد أحكام النسب ، فيحرم على الزاني نكاح المخلوقة من مائه ، وعلى الزانية نكاح
المتولد منها بالزنا؟
المشهور في كلام الأصحاب ذلك ، قالوا : لأنه من مائه فهو
يسمى ولدا لغة ، لأن الولد لغة حيوان يتولد من نطفة آخر من نوعه ، والأصل عدم
النقل خصوصا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، واستشكله جملة من المتأخرين
__________________
(1) أقول : ما أشرنا إليه من إلحاق وطئ المجنون ومن بعده بوطىء
الشبهة مبنى على تعريف وطئ الشبهة ، فمن أخذ في تعريفه ظن أنه مستحق جعله ملحقا
لان الظن المذكور لا يتيسر حصوله من هؤلاء ، ومن أخذ عدم العلم بتحريمه أدخله فيه
لصدق عدم العلم من هؤلاء كما لا يخفى. (منه ـ قدسسره ـ).
منهم المحقق الثاني في شرح القواعد.
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك بأن المعتبر إن كان هو
صدق الولد لغة لزم ثبوت باقي الأحكام المترتبة على الولد كإباحة النظر وعتقه على
القريب وتحريم حليلته وعدم القود من الولد بقتله ونحو ذلك.
وإن كان المعتبر لحوقه شرعا فاللازم انتفاء الجميع ،
فالتفصيل غير واضح إلا أن الظاهر من كلام العلامة في التذكرة كما نقل عنه وكذا
ولده فخر المحققين في شرح القواعد دعوى الإجماع على الحكم المذكور.
وحينئذ فالمعتمد في تخصيص التحريم دون غيره من متفرعات
النسب إنما هو الإجماع المذكور ، ويظهر من المحقق الثاني في شرح القواعد أن عمدة
ما تمسك به في ذلك هو الاحتياط.
أقول : وهو أقوى مستمسك في هذا المقام ، إذ لا يخفى أن
المسألة المذكورة من الشبهات بل من أعظمها «حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك
، فمن تجنب الشبهات نجى من الهلكات» (1).
والاحتياط هنا واجب كما حققناه في غير موضع من زبرنا ،
ولا شك في أنه في جانب القول المشهور وظاهر العلامة في القواعد التوقف في بعض شقوق
المسألة المذكورة والاستشكال فيها ، وهي ما قدمنا ذكره من جواز النظر وعتقه على
القريب ونحوه مما تقدم ذكره وما لم يذكر مما يتفرع على النسب.
ووجه الاشكال مما عرفت من أن مقتضى كونه ولدا لغة الموجب
لتحريم النكاح هو ترتب هذه الأحكام أيضا ، ومن أن الأصل تحريم النظر إلى سائر
النساء إلا إلى من ثبت له النسب الشرعي الموجب للتحليل ، وهو هنا مشكوك فيه ،
ونحوه الانعتاق كما لو ملك امه للشك في النسب أيضا ، وهكذا في باقي الأفراد
المذكورة.
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 6 ح 18 ، الوسائل ج 18 ص 114 ح 9.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أيضا التوقف (1) وإن كان قد
صرح أولا بأن الأقوى عدم ثبوت شيء من أحكام النسب غير التحريم ، إلا أنه قال
أخيرا بعد كلام في البين : والإنصاف أن القولين موجهان ، والإجماع حكم آخر.
وغاية ما تمسك به المحقق الثاني في شرح القواعد ـ في نصرة
القول المشهور من الفرق بين التحريم وسائر الأحكام المتفرعة على النسب ـ هو
الاحتياط ، حيث قال ـ بعد ذكر ما عدا التحريم من تلك الأشياء المعدودة وبيان
الإشكال في التحاقها بالتحريم وعدمه ما لفظه ـ : والأصح عدم الإلحاق في شيء من
هذه الأحكام أخذا بمجامع الاحتياط وتمسكا بالأصل حتى يثبت الناقل.
ولا ينافي ذلك تحريم النكاح لأن حل الفروج أمر توقيفي.
فيتوقف على النص وبدونه ينتفي لأصالة عدم الحل ، ولا تكفي في الخروج عدم القطع
بالمحرم ، لأنه مبني على كمال الاحتياط. انتهى ، وهو مؤيد لما قلناه من أن المسألة
من المتشابهات ، فالواجب فيها الأخذ بما فيه الاحتياط.
وأما قوله عليهالسلام في جملة من
الأخبار (2) «وللعاهر الحجر»
بمعنى أن المتولد من الزنا لا يلحق بمن تولد منه ، فالظاهر أنه مخصوص بمن تولد من
الزنا على فراش غيره كما ينادي به أول الخبر «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، وحينئذ
__________________
(1) أقول : صورة عبارته (قدسسره) هكذا : والأقوى عدم ثبوت شيء من
أحكام النسب غير التحريم ، وفيه ما عرفت ، فأما الفرق بين التحريم والنظر بأن
الأصل تحريم النظر إلى سائر النساء لا الى من ثبت له السبب الشرعي الموجب للتحليل
بينهما ولم يثبت وان حل النظر حكم شرعي فلا يثبت مع الشك في سببه فمثله وارد في
التحريم لأنه ان دخل الولد في قوله تعالى «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» دخل في قوله تعالى «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ» والإنصاف أن القولين موجهان ،
والإجماع حكم آخر. انتهى. (منه ـ قدسسره ـ).
(2) التهذيب ج 8 ص 183 ح 64 ، الوسائل ج 14 ص 565 ح 1.
فلا يكون في الخبر دلالة على ما نحن
فيه بنفي ولا إثبات.
ونقل عن ابن إدريس أنه علل التحريم في هذه المسألة بأن
المتولد من الزنا كافر فلا يحل للمسلم ، ورده في المسالك بأنه مبني على أصل مردود
، ومنقوض بما لو تولد من كافر فإنه يلزمه بحله المتولد منه. انتهى.
أقول : والكلام في إسلام ابن الزنا وكفره قد تقدم في
الجلد الثاني من كتاب الطهارة من مجلدات هذا الكتاب ، وما ذكر من النقص وارد.
الثالث : قد عرفت أن النسب كما يثبت بالنكاح الصحيح يثبت
أيضا بوطىء الشبهة ، فيمكن اجتماع الأمرين كما إذا وطئ الرجل زوجته ثم وطئها آخر
بالشبهة فأتت بولد فإنه يمكن أن تأتي فيه الصور الآتية الممكن فرضها في هذه الحال.
والمثال المشهور في كلام الأصحاب هنا هو ما إذا طلق
الرجل زوجته فوطأت بالشبهة ثم أتت بولد ، وسيأتي إن شاء الله بيان الوجه في تخصيص
التمثيل بذلك.
وموضع هذه المسألة إنما هو في بحث أحكام الأولاد الآتي
في آخر الكتاب إلا أن الظاهر أن ذكرهم لها هنا عدم الإلحاق من حيث التعلق بأحكام النسب
، وكيف كان فمرجع الاحتمالات في المسألة بالنسبة إلى إلحاق الولد بهما أو بأحدهما
أو عدم الإلحاق إلى صور أربع :
أحدها : أن تلد لأقل من ستة أشهر من وطئ الثاني ، ولأقصر
مدة الحمل فما دون من وطئ الأول ، ولا إشكال في كونه للأول لأن الفراش في هذه
المدة كلها منحصر فيهما ، وإلحاقه بالثاني وهو الواطئ بالشبهة ممتنع لعدم مضي مدة
يمكن ولادته منه ، فيتعين الأول سواء طلقها أو لم يطلقها (1).
__________________
(1) قوله ـ سواء طلقها. الى آخره ـ إشارة الى أن الحكم كذلك
على أى المقالين المتقدمين. (منه ـ قدسسره ـ).
ثانيها : أن تلده لستة أشهر فصاعدا إلى أقصى الحمل من
وطئ الثاني ، ولزيادة عن أقصى الحمل من وطئ الأول ، ولا ريب أنه للثاني وهو الواطئ
بشبهة لامتناع إلحاقه بالأول.
ثالثها : أنه تلده لأقل من ستة أشهر من وطئ الثاني
ولأكثر من أقصى الحمل من وطئ الأول ولا إشكال في أنه منتف عنهما معا لفقد شرط
اللحوق بواحد منهما.
رابعها : أن تلده لستة أشهر فصاعدا إلى ما دون الأقصى من
وطئ الثاني ولأقصى مدة الحمل فما دون من وطي الأول.
ولا ريب أن تولده من كل منهما محتمل لحصول الشرط الموجب
للإلحاق في كل منهما ، والأصحاب هنا بناء على فرضهم المسألة فيمن طلق امرأته ثم
نكحها آخر بالشبهة كما أشرنا إليه آنفا اختلفوا في حكم هذه الصورة ، فذهب الشيخ
فيها إلى اختيار القرعة لأنها لكل أمر مشكل من حيث إنها فراش لكل منهما وتولده
منهما ممكن ، فمن أخرجته القرعة حكم له به.
والمشهور بين الأصحاب الحكم به للثاني ، لأن فراش الأول
قد زال بالطلاق وفراش الثاني ثابت.
وأنت خبير بأن هذا الخلاف لا يجري في المثال الذي قدمنا
ذكره ، وهو من وطأ زوجته ، ثم وطأها آخر بشبهة أنها زوجته أيضا لثبوت الفراش
الملحق للنسب فيهما ، ولا يجري فيه ما ذكره أصحاب القول المشهور ثمة من أن فراش الأول
قد زال بالطلاق فتعين الا لحاق بفراش الثاني حينئذ ، والظاهر انحصار الحكم هنا في
القرعة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن كل من حكم بإلحاق الولد به تبعه
اللبن وترتب عليه أحكام الرضاع وغيره ، والله العالم.
الرابع : لو أنكر الولد ولاعن فلا إشكال في انتفائه عنه
، فلو كانت ابنة حرمت على الملاعن مع الدخول بأمها لأنها ربيبة امرأة مدخول بها ،
ولو لم يدخل بأمها قال : في تحريمها عليه احتمالان :
ووجه احتمال عدم التحريم انتفاؤها عنه شرعا كبنت المزني
بها ، ويؤكده هنا أنها لا ينسب إليه لغة كما في الزنا.
ووجه احتمال التحريم أنها غير منفية عنه قطعا ، ولهذا لو
اعترف بها بعد اللعان ورثته.
ورد بأن ذلك غير كاف في التحريم ، فإن البنت المجهولة
النسب التي يمكن تولدها منه لو ادعى كونها بنته قبل ، مع أنها لا تحرم عليه قبل
ذلك.
أقول : والمسألة لخلوها من النص لا يخلو من إشكال ، وإن
كان الاحتمال الأول أقرب إلى قواعدهم.
قالوا : ومما يتفرع على ذلك القصاص بقتلها ، والحد
بقذفها ، والقطع بسرقة مالها ، وقبول شهادتها عليه إن منعنا من قبول شهادة الولد ،
هذا على تقدير الاحتمال الأول لأنها أجنبية لانتفائها عنه باللعان.
وأما على تقدير الاحتمال الثاني ، وهو تحريمها عليه لعدم
انتفائها عنه قطعا بالتقريب المتقدم ، وللحوق حكم البنتية لها كما لو اعترف بها
بعد اللعان.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه استقرب ثبوت هذه الأحكام
، قال : لأنه نفى سببيتها باللعان فانتفت توابعه.
واعترافه بعد ذلك لا يسقط ما ثبت عليه ، ولهذا كان الولد
يرثه وهو لا يرث الولد ، وذلك دليل على عدم عود النسب مطلقا ، وإنما العائد إرثه
باعترافه ، لأنه إقرار في حقه ولم ينفذ في حق الولد. انتهى.
والظاهر أنه لا إشكال في أن اللبن تابع للولد فحيث ينتفي
باللعان فإنه
ينتفي اللبن عن الملاعن.
إنما الإشكال في أنه هل يعود إليه لو اعترف بالولد كما
يعود إليه الولد من وجه ، قال في المسالك : لم يتعرض المصنف ولا غيره لذلك ، ثم
قال : فيمكن أن يقال بعدم عود اللبن ، لأن النسب لم يعد كما قررناه ، وإنما عاد
إرثه من الملاعن خاصة ، وذلك أمر آخر.
ويحتمل أن يعود على حد عود الولد بمعنى أنه يؤثر في
الحكم بالنسبة إلى الملاعن لا غيره فلو ارتضع من هذا اللبن مرتضع رقيق الرضاع
المحرم ثم ملكه الملاعن مع اعترافه بالولد المنفي عتق عليه المرتضع أخذا له
بإقراره.
ويحتمل عود اللبن مطلقا لأن إرث الولد منه فرع النسب ،
وجاز أن يكون عدم إرث الملاعن منه مؤاخذة له على فعله ، فيعد ذلك من جملة موانع
الإرث للنسب فلا يتعدى حكمه إلى غيره. انتهى.
المطلب الثاني : فيما يحرم
بالرضاع ، قال : قد استفاضت النصوص وعضدها اتفاق الأصحاب بأنه يحرم من الرضاع ما
يحرم من النسب ، بمعنى أن كل امرأة حرمت بالنسب حرمت نظيرتها الواقعة موقعها في
الرضاع.
ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الكافي والتهذيب عن
عبد الله بن سنان (1) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته
يقول : يحرم من الرضاع ما يحرم من القرابة».
وما رواه في الكافي في الصحيح عن إبراهيم بن نعيم الكناني
(2) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «أنه سئل عن
الرضاع ، فقال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 437 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 291 ح 58 ، الوسائل
ج 14 ص 281 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 437 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 291 ح 59 ، الوسائل
ج 14 ص 281 ح 3.
وما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان (1) في الصحيح أو
الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
يصلح للمرأة أن ينكحها عمها ولا خالها من الرضاعة».
وما رواه في الكافي والفقيه عن أبي عبيدة الحذاء (2) في الصحيح قال
: «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا
تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على أختها من الرضاعة ، وقال : إن عليا عليهالسلام ذكر لرسول
الله صلىاللهعليهوآله ابنة حمزة ،
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله» : أما علمت
أنها ابنة أخي من الرضاعة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآله وعمه حمزة عليهالسلام قد رضعا من
امرأة».
ونحوها رواية أبان (3) عمن حدثه ، وحسنة الحلبي (4) المرويتان في
الكافي.
وما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان (5) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سئل
وأنا حاضر عن امرأة أرضعت غلاما مملوكا لها من لبنها حتى فطمته ، هل لها أن تبيعه؟
قال : فقال : لا ، هو ابنها من الرضاعة ، حرم عليها بيعه وأكل ثمنه ، قال : ثم قال
: أليس رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب»؟.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي وابن سنان (6) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «في امرأة
أرضعت ابن جاريتها قال : تعتقه».
وما رواه عن أبي بصير وأبي العباس وعبيد (7) كلهم جميعا عن
أبي عبد الله عليهالسلام
__________________
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 445 ح 10 و 11، الفقيه ج 3 ص 260 ح 21 ،
الوسائل ج 14 ص 300 ح 5 وص 304 ح 1.
(3 و 4) الكافي ج 5 ص 437 ح 4 و 5، الوسائل ج 14 ص 299 ح 2 و 1.
(5) الكافي ج 5 ص 446 ح 16 ، التهذيب ج 7 ص 326 ح 50 ، الوسائل
ج 14 ص 307 ح 1.
(6 و 7) التهذيب ج 8 ص 243 ح 111 و 110، الوسائل ج 16 ص 13 ح 1
وص 29 ح 1.
قال : «لا يملك ابنه من الرضاعة ولا
أخته ولا عمته ولا خالته فإنهن إذا ملكهن عتقن وقال : كلما يحرم من النسب فإنه
يحرم من الرضاع».
وما رواه في الكافي في الصحيح عن صفوان بن يحيى (1) عن العبد
الصالح عليهالسلام قال : «قلت له
: أرضعت أمي جارية بلبني ، قال : هي أختك من الرضاع ، قال : فقلت : فتحل لأخي من
أمي لم ترضعها بلبنه يعني ليس بهذا البطن ولكن ببطن آخر ، قال : والفحل واحد؟ قلت
: نعم ، هي أختي لأبي وأمي ، قال : اللبن للفحل صار أبوك أباها ، وأمك أمها».
وعن سماعة (2) في الموثق قال : «سألته عن رجل كان
له امرأتان فولدت كل واحدة منهما غلاما فانطلقت إحدى امرأتيه فأرضعت جارية من عرض
الناس ، أينبغي لابنه أن يتزوج بهذه الجارية؟ قال : لا ، لأنها أرضعت بلبن الشيخ».
وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر (3) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن امرأة
أرضعت جارية ولزوجها ابن من غيرها ، أيحل للغلام ابن زوجها أن يتزوج الجارية التي
أرضعت؟ فقال : اللبن للفحل».
وعن أبي بصير (4) في الصحيح عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل تزوج
امرأة فولدت منه جارية ثم ماتت المرأة فتزوج اخرى فولدت منه ولدا ثم إنها أرضعت من
لبنها غلاما ، أيحل لذلك الغلام الذي أرضعته أن يتزوج ابنة المرأة
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 444 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 322 ح 36 ، الوسائل
ج 14 ص 299 ح 3.
(2) الكافي ج 5 ص 440 ح 2 ، التهذيب ج 7 ص 319 ح 25 ، الوسائل
ج 14 ص 295 ح 6.
(3) الكافي ج 5 ص 440 ح 4 ، الوسائل ج 14 ص 295 ح 7.
(4) الكافي ج 5 ص 440 ح 5 ، التهذيب ج 7 ص 319 ح 26 ، الوسائل
ج 14 ص 294 ح 5.
التي كانت تحت الرجل قبل المرأة
الأخيرة؟ قال : ما أحب أن يتزوج ابنة فحل قد رضع من لبنه».
وعن الحلبي (1) في الحسن قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : أم ولد رجل
أرضعت صبيا وله ابنة من غيرها ، أتحل لذلك الصبي هذه الابنة؟ فقال : ما أحب أن
يتزوج ابنة رجل قد أرضعت من لبن ولده».
وأنت خبير بأن لفظ «ما أحب» في هذين الخبرين ليس على
ظاهره العرفي من الكراهة ، وإنما هو بمعنى التحريم ، ومثله في الأخبار غير عزيز.
وما رواه في التهذيب عن جميل بن دراج (2) في الموثق عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «إذا
رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شيء من ولدها ، وإن كان الولد من غير الرجل
الذي كان أرضعته بلبنه ، وإذا رضع من لبن رجل حرم عليه كل شيء من ولده ، وإن كان
من غير المرأة التي أرضعت».
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (3) عن أبي عبد الله
عليهالسلام قال : «لو أن
رجلا تزوج جارية رضيعا فأرضعتها امرأته فسد نكاحه ،.
قال : وسألته عن امرأة رجل أرضعت جارية ، أتصلح لولده من
غيرها؟ قال : لا ، قلت : فنزلت بمنزلة الأخت من الرضاعة؟ قال : نعم من قبل الأب».
وبهذا الاسناد عن الحلبي وعبد الله بن سنان (4) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «في رجل تزوج
جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده ، قال : تحرم عليه».
وفي رواية عثمان (5) عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له
: إن أخي تزوج
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 441 ح 6 ، التهذيب ج 7 ص 319 ح 27 ، الوسائل
ج 14 ص 295 ح 8.
(2) التهذيب ج 8 ص 321 ح 33 ، الوسائل ج 14 ص 306 ح 3.
(3) الكافي ج 5 ص 444 ح 4 ، الوسائل ج 14 ص 305 ح 1.
(4) الكافي ج 5 ص 445 ح 6 ، الوسائل ج 14 ص 303 ح 2.
(5) التهذيب ج 7 ص 323 ح 40 ، الوسائل ج 14 ص 300 ح 7.
امرأة فأولدها فانطلقت امرأة أخي فأرضعت
جارية من عرض الناس ، فيحل لي أن أتزوج تلك الجارية التي أرضعتها امرأة أخي؟ قال
لا ، إنما يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
وفي رواية مسمع (1) عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال أمير
المؤمنين عليهالسلام : ثمانية لا
تحل مناكحتهم ـ إلى أن قال ـ : أمتك وهي عمتك من الرضاعة وأمتك وهي خالتك من
الرضاعة» الحديث.
وفي رواية مسعدة بن زياد (2) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «يحرم من
الإماء عشر لا يجمع بين الام والبنت ـ يعني في النكاح ـ ولا بين الأختين ـ إلى أن
قال ـ : ولا أمتك وهي عمتك من الرضاعة ، ولا أمتك وهي خالتك من الرضاعة ، ولا أمتك
وهي رضيعتك».
وفي صحيحة محمد بن مسلم (3) عن أبي جعفر عليهالسلام «في رجل فجر
بامرأة ، أيتزوج أمها من الرضاعة أو ابنتها؟ قال : لا».
إلى غير ذلك من الأخبار ، ومرجعها إلى أن كل موضع ثبت
فيه المحرمية بالنسب يثبت المحرمية بمثل ذلك في الرضاع ، فالام من الرضاع تحرم
كالأم من النسب ، وكذا البنت والأخت والعمة والخالة ، وبنات الأخ وبنات الأخت ،
والمحرمات النسبية قد فصلتها الآية بقوله سبحانه (4) «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ
وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ».
وقد عرفت آنفا أن الأم من النسب هي كل امرأة ولدتك أو
انتهى نسبك
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 447 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 300 ح 4.
(2) التهذيب ج 8 ص 198 ح 1 ، الخصال باب العشرة ص 438 ح 27 ،
الفقيه ج 3 ص 286 ح 4 ، الوسائل ج 14 ص 301 ح 9 ، وما نقله (قده) في المتن لا
يوافق كملا مع ما ذكرناه من المآخذ ، فلاحظ.
(3) التهذيب ج 7 ص 331 ح 19 ، الوسائل ج 14 ص 325 ح 2.
(4) سورة النساء ـ آية 23.
إليها من العلو بالولادة لأب كان أم
لأم ، وحينئذ فهي في الرضاع عبارة عن كل امرأة أرضعتك أو ولدت مرضعتك أو ولدت من
ولدها أو أرضعتها أو أرضعت من ولدها أو ولدت من أرضعتها ولو بوسائط فهي بمنزلة أمك
النسبية في التحريم عليك ، وكذا كل امرأة ولدت أباك من الرضاعة لو أرضعته أو أرضعت
من ولدها أو ولدت من أرضعته ولو بوسائط.
والبنت النسبية وبنتها وإن نزلت وكذا بنت الابن فنازلا ،
وضابطها من ينتهي إليها نسبه بالتولد ولو بوسائط.
وفي الرضاع هي كل ابنة أرضعت بلبنك أو لبن من ولدته وإن
سفل ، أو أرضعتها امرأة ولدتها وإن سفلت ، وكذلك بناتها من النسب والرضاع ، فإن
الجميع بمنزلة بمنزلة بنتك النسبية.
والأخت في النسب هي كل امرأة ولدها أبواك أو أحدهما ،
وفي الرضاع هي كل امرأة أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك ، وكذا كل بنت ولدتها
المرضعة أو الفحل أو أرضعت بلبنهما.
والعمة فصاعدا من النسب كما تقدم أيضا هي كل أنثى هي أخت
ذكر ولدك بواسطة أو غير واسطة من جهة الأب أو الأم أو منهما.
والخالة فصاعدا هي كل أنثى هي أخت أنثى ولدتك بواسطة أو
بغير واسطة ، وفي الرضاع العمات والخالات هن أخوات الفحل والمرضعة وأخوات من
ولدهما من النسب والرضاع وكذا كل امرأة أرضعتها واحدة من جداتك أو أرضعت بلبن واحد
من أجدادك من النسب أو الرضاع.
وبنات الأخ وبنات الأخت في النسب كل امرأة تنتهي نسبها
إلى من ولدها أبواك أو أحدهما بالتولد ، وفي الرضاع بنات أولاد المرضعة والفحل من
النسب والرضاع ، وكذا كل أنثى أرضعتها أختك أو بنات أولادها من النسب والرضاع.
وبنات كل ذكر أرضعته أمك أو أرضع بلبن أخيك وبنات أولاده
من النسب والرضاع ، فكلهن بنات أخيك وأختك.
فهذه هي المحرمات النسبية التي دلت عليها الآية ، وما
ينزل منزلتها من الرضاع وهو المشار إليه بقولهم «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»
والآية المتقدمة إنما تضمنت من المحرمات الرضاعية الام والأخت وباقي محرمات الرضاع
إنما جاء تحريمه من قبل النصوص المتقدمة ونحوها.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن مطلق الرضاع لا يوجب نشر الحرمة
بل له في ذلك شروط مذكورة في الأخبار وكلام الأصحاب ، وله أيضا أحكام كما صرح به
علماءنا الأعلام ، وحينئذ فالكلام في هذا المطلب يقع في مقامين :
الأول : في الشروط وهي أمور :
الأول : أن يكون اللبن عن نكاح صحيح بشرط حصول الولد ،
فلو در اللبن لا كذلك لم ينشر حرمة ، وكذا لو كان عن زنا.
والحكم المذكور مما لا خلاف فيه ، بل ادعى في المسالك
عليه الإجماع ، قال : أجمع علماءنا على أنه يشترط في اللبن المحرم في الرضاع أن
يكون من امرأة عن نكاح ، والمراد به الوطي الصحيح ، فيندرج فيه الوطي بالعقد دائما
ومتعة وملك يمين وما في معناه ، والشبهة داخلة فيه. انتهى.
أقول : ويدل على ما ذكروه ـ من عدم الحرمة باللبن الذي
در من المرأة من غير نكاح ـ ما رواه في الكافي عن يونس بن يعقوب (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن امرأة در لبنها من غير ولادة فأرضعت جارية وغلاما بذلك اللبن ، هل يحرم بذلك
اللبن ما يحرم من الرضاع؟ قال : لا». ورواه الصدوق بإسناده
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 446 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 302 ب 9 ح 1.
عن ابن أبي عمير عن يونس عن يعقوب (1) مثله.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : امرأة در
لبنها من غير ولادة فأرضعت ذكرانا واناثا ، أيحرم من ذلك ما يحرم من الرضاع؟ فقال
لي : لا».
وعلى ما ذكرنا من اشتراط النكاح الصحيح فلا تثبت الحرمة
باللبن الذي عن الزنا ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن لبن الفحل
، فقال : هو ما أرضعت امرأتك من لبنك ولبن ولدك ولد امرأة أخرى فهو حرام».
والتقريب فيها أنه خص عليهالسلام لبن الفحل بما
يحصل من امرأته وهو ظاهر في أنه لا يكون إلا عن النكاح الصحيح ولبن نكاح الشبهة
وإن لم يكن عن نكاح صحيح أيضا إلا أن دخوله قد جاء بدليل آخر.
وقريب من الرواية المذكورة ما رواه في الكافي عن بريد
العجلي (4) في حديث قال :
«سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قول رسول
الله صلىاللهعليهوآله يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب ، فسر لي ذلك؟ قال : فقال : كل امرأة أرضعت من لبن فحلها
ولد امرأة أخرى من جارية أو غلام ، فذلك الرضاع الذي قال رسول الله صلىاللهعليهوآله» الحديث.
والتقريب فيه أن المتبادر من الفحل هنا هو الزوج ، فلا
يدخل فيه الزاني والمشهور في كلام الأصحاب إلحاق اللبن الذي عن نكاح الشبهة باللبن
الذي عن النكاح الصحيح ، لأن نكاح الشبهة موجب لثبوت النسب كالنكاح الصحيح ،
واللبن
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 308 ح 22 ، الوسائل ج 14 ص 302 ب 9 ح 1.
(2 و 3) التهذيب ج 7 ص 325 ح 47 وص 319 ح 24، الوسائل ج 14 ص
302 ح 2 وص 294 ح 4.
(4) الكافي ج 5 ص 442 ح 9 ، الوسائل ج 14 ص 293 ح 1.
تابع للنسب ، وحينئذ فيدخل في قوله عزوجل (1) «وَأُمَّهاتُكُمُ
اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ».
ولابن إدريس هنا كلام لا يخلو من اضطراب وتردد ، قال :
وإنما التأثير للبن الولادة من النكاح المباح المشروع فحسب ، دون النكاح الحرام
والفاسد ووطئ الشبهة ، لأن نكاح الشبهة عند أصحابنا لا يفصلون بينه وبين الفاسد
إلا في إلحاق الولد ودفع الحد فحسب ، ثم قال : وإن قلنا في وطئ الشبهة بالتحريم
كان قويا لأن نسبه عندنا صحيح شرعي وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآله (2) «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». فجعله أصلا للرضاع ، ثم قال : ولي في ذلك نظر وتأمل.
قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك عنه وهو يدل على تردده في
ذلك ـ : والوجه ما قاله الشيخ عملا بالعموم وقول ابن إدريس ممنوع ولا حجة عليه سوى
الإباحة الأصلية ، وهي لا تخلو من منع انتهى ، وهو جيد.
وقد تقرر مما ذكرنا أنه لا بد من كون اللبن المذكور عن
نكاح صحيح مع حصول الولد ، لكن يبقى الكلام في أنه هل يشترط انفصال الولد وخروجه
أم يكفي مع كونه حملا؟ فلو در اللبن في صورة كونه حملا هل ينشر الحرمة؟ قولان.
جزم العلامة في القواعد بالأول فاكتفى بالحمل وقطع بعدم
اشتراط الولادة وإليه مال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، وحكاه في
التذكرة قولا عن بعض أصحابنا ، وحكى عن الشيخ في المبسوط نحوه ، ثم حكى أنه قال
قبل ذلك ما ينافيه ، وأن الذي نزل عن الأخبار لا حرمة له ، وإنما الحرمة لما نزل
عن الولادة.
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 23.
(2) الفقيه ج 3 ص 305 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 293 ح 1.
وبالثاني جزم في التحرير فقال : ولا من در لبنها من غير
ولادة ، ومال إليه في التذكرة قال : لأن اللبن الذي ينزل عن الأحبال لا حرمة له ،
وإنما الحرمة فيما ينزل على الولادة.
وإلى هذا القول مال السيد السند في شرح النافع معللا له
بالاقتصار فيما خالف الأصل على موضع اليقين ، وحملا للرضاع المحرم على ما هو
المتعارف منه أعني ما بعد الولادة.
أقول : ويدل عليه ما تقدم في رواية يعقوب بن شعيب من
السؤال عمن در لبنها من غير ولادة فأرضعت ذكرانا وإناثا ، فأجاب عليهالسلام بأنه «لا يحرم»
والخبر بإطلاقه شامل لما لو كان ثمة حبل أم لا ، وظاهر في تعليق الحكم على الولادة
(1).
وبهذا الخبر استدل في التذكرة على أن لبن الأحبال لا
حرمة له ، لقوله «من غير ولادة» ونحو ذلك خبر يونس بن يعقوب المتقدم أيضا ،
والتقريب في الجميع ما عرفت.
وما أشار إليه السيد السند (قدسسره) أيضا من قوله
«وحملا للرضاع المحرم على ما هو المتعارف» جيد وجيه ، كما تقدمت الإشارة إليه في
غير موضع من أن الإطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد المتكررة الغالبة ، دون الفروض
النادرة ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور ، وأن ما خالفه بمحل من القصور.
قال في المسالك ـ بعد نقل قول التحرير ـ : ولعله نظر إلى
ظاهر رواية عبد الله بن سنان السابقة حيث قال «ولبن ولدك» فإنه لا يصدق عليه اسم
الولد إلا مع الوضع ، وفيه نظر. انتهى.
وفيه أنه إنما نظر إلى ظاهر الروايتين اللتين ذكرناهما
حسبما أوضحناه
__________________
(1) أقول والى هذا القول الثاني مال المحقق الثاني في شرح
القواعد استنادا إلى رواية يعقوب بن شعيب قال : وهذا أصح وقوفا مع الرواية التي لا
معارض لها. انتهى. (منه ـ قدسسره ـ).
ولكنه (قدسسره) لم تحضره
الروايتان المذكورتان ، فإنه لم ينقلهما في المقام وتبقى الرواية التي ذكرها مؤيدة
لكن لا بالتقريب الذي ذكره بل من حيث عدم صدق لبن الولد إلا بعد الولادة ، فلو كان
قبلها فإنما هو من قبيل من در لبنها من غير حمل بالكلية لدلالة الأخبار على أن
غذاء الطفل في بطن أمه إنما هو بدم الحيض ، وبعد الولادة يحيله الله تعالى إلى
اللبن فيغذوه به بعد الولادة ، فنسبته إلى الولد إنما يتم بعد الولادة.
تفريع
حيث علم أن اللبن تابع للنكاح الصحيح الحاصل منه الولد ،
وحينئذ فإن اتحد فلا كلام في تبعيته له ، وإن تعدد بأن طلق الزوج الأول أو مات
عنها وله منها لبن أو كانت حاملا منه فوضعت وصارت ذات لبن ، ثم تزوجت ودخل بها
الزوج الثاني وأحبلها ، فقد ذكر جملة من الأصحاب وعلماء العامة أنه قد يلحق بالأول
، وقد يلحق بالثاني ، وقد يحتمل الأمرين ،
وذكروا في المقام صورا الاولى : أن يكون إرضاعا بهذا
اللبن قبل أن تنكح زوجا غيره ، والحكم ظاهر ، فإن اللبن للأول قطعا كما لو كانت في
حبالة فيكون المرتضع منسوبا إلى صاحب اللبن الذي هو الأول حيا كان أو ميتا (1) كما أنه بذلك
صار أب المرضعة ، إذ الموت أو الطلاق لا يقطع نسبة اللبن عنه.
قالوا : ولا فرق بين أن يرضع في العدة أو بعدها ، ولا
بين أن ينقطع اللبن ثم يعود وعدمه ، لأنه لم يحدث ما يحال اللبن عليه ، فهو على
استمراره منسوب إليه ، لكن إن اشترطنا كون الرضاع وولد المرضعة في الحولين اعتبر
كون
__________________
(1) قوله «حيا كان أو ميتا» إشارة الى ما تقدم من قوله «طلقها
الزوج الأول أو مات عنها وله منها لبن» (منه ـ قدسسره ـ).
الرضاع قبل مضي حولين من حين الولادة
، وإلا فلا.
الثانية : أن يكون الإرضاع بعد أن تزوجت بآخر إلا أنها
لم تحمل منه ، فإنه في حكم ما لو لم تتزوج ، سواء زاد أو نقص أو انقطع ثم عاد.
الثالثة : أن يكون بعد الحمل من الثاني وقبل الولادة
واللبن بحاله لم ينقطع ولم تحدث فيه زيادة ، فهو للأول أيضا ، قال في المسالك :
عملا بالاستصحاب حيث لم يتجدد ناقل.
قال في التذكرة : ولا نعلم فيه خلافا ، وعلله مع ذلك بأن
اللبن كان للأول ولم يتجدد ما يجعله للثاني فيبقى للأول.
واعترضه في المسالك بأن هذا التعليل إنما يتم لو شرطنا
في اللبن كونه عن ولادة.
أما لو اكتفينا فيه بالحمل وإن لم تضعه كما تقدم من
مذهبه لم يتم التعليل لتجدد ما يمكن معه جعله للثاني ، ثم قال : نعم ، ما ذكرناه
من التعليل أسلم ، من حيث الشك في كون ذلك ناقلا لما كان حقه ثابتا بالاستصحاب ،
فيبقى الأول على حكمه إلى أن يثبت المزيل.
أقول : لا يخفى أن ما نقله عن التذكرة من التعليل زيادة
على دعوى الإجماع لا يخرج عن التعليل الذي ذكره هو (قدسسره) إلا من حيث
العبارة ، وإلا فمرجع كلام العلامة إلى التمسك بالاستصحاب الذي ذكره.
ثم إن ما يشعر به كلامه من أن مذهب العلامة الاكتفاء
بالحمل في اللبن إن أراد مذهبه في التذكرة فليس كذلك ، لما تقدم ذكره وإن أراد في
الجملة ـ باعتبار كون ذلك مذهبه في القواعد ، ـ فالإيراد غير تام لأن هذا الكلام
إنما جرى على مذهبه في التذكرة ، وهو جيد.
الرابعة : أن يكون الإرضاع بعد أن حملت من الثاني وقبل
الوضع ، كما
تقدم في سابقتها ، لكن تجدد في اللبن
زيادة يمكن استنادها إلى الحمل من الثاني ، فاللبن عندهم للأول أيضا ، وبه قطع في
التذكرة استصحابا لما كان ، والحمل لا يزيل ما علم استناده إليه ، والزيادة قد
تحدث من غير إحبال.
ثم نقل عن الشافعي في ذلك قولين : أحدهما كما قطع به ،
والثاني أنه إن زاد بعد أربعين يوما من الحمل الثاني فهو لهما عملا بالظاهر (1) ، من أن
الزيادة بسبب الحمل الثاني فيكون اللبن للزوجين ، وإلا فهو للأول.
قال في المسالك بعد نقل ذلك : وهذا موجه على القول
بالاكتفاء بالحمل وأن العمل على الأول.
الخامسة : أن ينقطع اللبن عن الأول انقطاعا بينا يعني
مدة طويلة لا يتخلل مثلها اللبن الواحد ، ثم يعود في وقت يمكن أن يكون للثاني وذلك
بعد مضي أربعين يوما من الحمل الثاني.
وقد قطع الأصحاب من الشيخ ومن تأخر عنه بأن يكون للثاني
، لأنه لما انقطع على الوجه المذكور ، ثم عاد كان سببه الحمل فأشبه ما إذا نزل بعد
الولادة ، كذا علله في المسالك.
وعلله المحقق الثاني في شرح القواعد بأنه لما انقطع زال
حكم الأول فإذا عاد وقد وجد سبب يقتضيه وجب إحالته عليه لزوال حكم الأول بالانقطاع
وعوده يحتاج إلى دليل بخلاف ما لو تجدد سبب آخر يحال عليه ، فإنه يكون للأول
لانتفاء ما يقتضي خلافه ، والمرجع إلى أمر واحد.
__________________
(1) والوجه في ظهوره أن الزيادة بسبب الحمل الثاني هو أن بلوغ
الحمل المدة المذكورة يستدعي وجود اللبن غالبا ، قال في شرح القواعد : ولا اعتبار
بهذا التفصيل عندنا وهو أقرب بما استجوده في المسالك كما نقلناه عنه في الأصل لعدم
صحة بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التخرصات. (منه ـ قدسسره ـ).
وللعامة هنا اختلاف وأقوال هذا (أحدها).
و (الثاني) أنه للأول ما لم تلد من الثاني مطلقا لأن
الحمل لا يقتضي اللبن وإنما يخلقه الله للولد عند وجوده ، لحاجته إليه ، وهو هذا
الولد لا غذاء الحمل.
و (الثالث) أنه لهما مع انتهائه إلى حال ينزل معه اللبن
وأقله أربعين يوما لأن اللبن كان للأول ، فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن الأول
رجع بسبب الحمل الثاني فكان مضافا إليهما كما لو لم ينقطع.
أقول : وفيه تأييد لما قدمنا ذكره في غير موضع من أن أصل
هذه التفريعات إنما هي للعامة ، وجرى عليها الشيخ ومن تأخر عنه ، واختاروا منها ما
ترجح في أنظارهم وقوى في أفكارهم ، وقد اختاروا مع هذه الأقوال المذكورة الأول لما
قدمنا عنهم من الدليل كما عرفت.
السادسة : أن يكون الإرضاع بعد الوضع وهو للثاني خاصة
نقل فيه العلامة في التذكرة الإجماع عن الخاصة والعامة سواء زاد أو لم يزد ، انقطع
أو اتصل ، قالوا : لأن لبن الأول انقطع بولادة الثاني ، فإن حاجة المولود إلى
اللبن يمنع كونه لغيره.
الثاني من الشروط المتقدمة ذكرها : الكمية ، وقد اتفق
الأصحاب على أن مجرد الرضاع كيف كان غير كاف في الحرمة ، بل لا بد فيه من قدر معين
، وقد اتفق الأصحاب على التقدير بالأثر أو الزمان أو العدد ، فالكلام يقع هنا في
مواضع ثلاثة :
(أحدها) الأثر وهو ـ عند الأصحاب وعليه دلت الأخبار ـ عبارة
عما أنبت اللحم وشد العظم ، وفي المسالك أنه لا خلاف في أن ذلك ناشر للحرمة.
وأما الأخبار بذلك فهي مستفيضة ، ومنها ما رواه في
الكافي عن عبد الله بن
سنان (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا
يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم».
وعن عبيد بن زرارة (2) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته
عن الرضاع ما أدنى ما يحرم منه؟ قال ما أنبت اللحم أو الدم ، ثم قال : ترى واحدة
تنبته ، فقلت : أصلحك الله اثنتان؟ قال : لا ، فلم أزل أعد عليه حتى بلغت عشر
رضعات».
وعن حماد بن عثمان (3) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان (4) عن أبي الحسن عليهالسلام قال : «قلت له
: يحرم من الرضاع الرضعة والرضعتان والثلاثة؟ فقال : لا ، إلا ما اشتد عليه العظم
ونبت اللحم».
وعن مسعدة بن صدقة (5) في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
يحرم من الرضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم ، وأما الرضعة والرضعتان والثلاث حتى
بلغ عشرا إذا كن متفرقات فلا بأس».
وعن عبيد بن زرارة (6) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إنا
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 438 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 312 ح 1 ، الوسائل ج
14 ص 289 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 438 ح 2 ، الوسائل ج 14 ص 287 ح 21.
(3) الكافي ج 5 ص 438 ح 5 ، التهذيب ج 7 ص 312 ح 2 ، الوسائل ج
14 ص 289 ح 1.
(4 و 5 و 6) الكافي ج 5 ص 438 ح 6 وص 439 ح 10 و 9، التهذيب ج
7 ص 312 ح 3 وص 313 ح 5 و 4، الوسائل ج 14 ص 288 ح 23 وص 287 ح 19 و 18.
أهل بيت كثير فربما كان الفرح والحزن
الذي يجتمع فيه الرجال والنساء ، فربما استحيت المرأة أن تكشف رأسها عند الرجل
الذي بينها وبينه الرضاع ، وربما استحى الرجل أن ينظر إلى ذلك ، فما الذي يحرم من
الرضاع؟ فقال : ما أنبت اللحم والدم ، فقلت : وما الذي ينبت الدم واللحم؟ فقال :
كان يقال عشر رضعات قلت : فهل تحرم عشر رضعات؟ فقال : دع ذا ، وقال : ما يحرم من
النسب فهو يحرم من الرضاع». وفي هذا الحديث كلام يأتي ذكره إن شاء الله.
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن ابن رئاب (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «قلت :
ما يحرم من الرضاع؟ قال : ما أنبت اللحم وشد العظم ، قلت : فيحرم عشر رضعات؟ قال :
لا ، لأنها لا تنبت اللحم ولا تشد العظم عشر رضعات».
ويجب التنبيه هنا على أمور :
(أحدها) أنه هل اشتداد العظم أو نبات اللحم أمران
متلازمان فيكفي أحدهما مع ظهوره أم لا ، فلا بد من ظهورهما؟ صرح بالثاني شيخنا
الشهيد الثاني في المسالك ، فقال : ومقتضى النصوص والفتاوى اعتبار اجتماع الوصفين
وهما اشتداد العظم ونبات اللحم فلا يكفي أحدهما وفي بعض عبارات الشهيد ما يدل على
الاجتزاء بأحدهما : وهو شاذ لا دليل عليه ، والبناء في ذلك على تلازمهما غير
معلوم. انتهى.
وبالأول صرح سبطه السيد السند في شرح النافع ، فقال :
والظاهر حصول التلازم بين ما أنبت اللحم وشد العظم ، ومن ثم اكتفى جمع من الأصحاب
بأحد الأمرين. انتهى.
أقول : لا يخفى أن جملة من النصوص المذكورة هنا وإن
تضمنت اشتداد
__________________
(1) قرب الاسناد ص 77 ، التهذيب ج 7 ص 313 ح 6 ، الوسائل ج 14
ص 283 ح 2.
العظم وإنبات اللحم إلا أن جملة اخرى
إنما تضمنت إنبات اللحم والدم ولم يتعرض فيها لاشتداد العظم.
والظاهر أن وجه الجمع بينما دل على الوصفين وبينما دل
على إنبات اللحم خاصة هو التلازم ، وأنه حيث يذكر أحدهما يلزمه الآخر ، ولعل تخصيص
إنبات اللحم بالذكر في الأخبار من حيث إنه أظهر في الحسن وأبين للناظر الخبير.
وبذلك يظهر لك أن دعوى شيخنا في المسالك ـ أن مقتضى
النصوص اجتماع الوصفين ـ ليس في محله لأن جملة منها كما عرفت إنما تضمن أحدهما
خاصة ولا وجه للجمع بين الجميع إلا ما ذكرناه.
(ثانيها) هل يعتبر العدالة والعدد في المخبر إذا كان من
أهل الخبرة والمعرفة بذلك لأنها شهادة فلا تثبت إلا بذلك ، ولأن الأصل استصحاب
الحل السابق إلى أن يثبت المحرم ، أو يكون ذلك من باب الخبر فيكفي فيه الواحد وإن
كان فاسقا إذا كان من أهل الخبرة والبصيرة كما في المرض المسوغ للإفطار والتيمم
ونحو ذلك.
الذي صرح به جملة من الأصحاب كشيخنا في المسالك والسيد
السند في شرح النافع (1) وهو الأول ،
إلا أنه في المسالك احتمل الثاني أيضا ، وفي شرح النافع قطع بنفيه جزما.
(ثالثها) ظاهر الأخبار المذكورة من حيث حصر التحريم بالرضاع
فيما أنبت اللحم وشد العظم أن التحريم بالرضاع يوم وليلة وكذا بالخمس عشرة ـ كما
سيأتي إن شاء الله ـ إنما هو من حيث كونهما كذلك ، وأن هذا الأثر مترتب
__________________
(1) قال في شرح النافع : ويشترط التعدد والعدالة ليثبت به
التحريم ولا يكفى فيه اخبار الواحد قطعا بخلاف المرض المبيح للفطر والتيمم حيث
اكتفى فيه بواحد آلى الظن ويحصل بأخبار الواحد وان كان فاسقا. انتهى. (منه ـ قدسسره ـ).
على كل منهما وحاصل به.
وإلى ذلك يشير ما تقدم في صحيحة علي بن رئاب (1) من قوله «عشر
رضعات لا تحرم لأنه لا ينبت اللحم ولا يشد العظم عشر رضعات».
وكذا رواية عبيد بن زرارة (2) وقوله بعد
سؤال الراوي عن أدنى ما يحرم من الرضاع وأنه «ما أنبت اللحم والدم ثم قال : أترى
واحدة تنبته إلخ».
وحينئذ فيكون روايات التقادير الثلاثة كلها مطابقة
المقدار متوافقة أصل المعيار ويكون الأصل في التقدير هو إنبات اللحم واشتداد
العظم.
والمشهور في كلام أصحابنا المتأخرين أن كلا من هذه
الثلاثة أصل برأسه فأيهما حصل كفى في الحكم وترتب عليه التحريم ، فإذا رضع يوما
وليلة بحيث يكون راويا في جميع الوقت كفى وإن لم يتم العدد.
ونقل عن الشيخ في المبسوط أن الأصل هو العدد ، والباقيان
إنما يعتبران عند عدم انضباطه وهو اللائع من كلام العلامة في التذكرة حيث قال :
الرضاع المحرم ما حصل بأحد التقادير الثلاثة ، فإرضاع يوم وليلة لمن لم يضبط العدد
إلى آخره.
أقول : الظاهر أن الخلاف هنا قليل الجدوى لدلالة النصوص
مما تقدم ويأتي على أن أي هذه الثلاثة وجد ثبت التحريم ، إلا أن المفهوم منها ـ كما
أشرنا إليه ـ أن حصول التحريم بالعدد والزمان إنما هو من حيث حصول نبات اللحم أو
اشتداد العظم بكل منهما كما يشير إليه الحصر فيه وبهذا صار أصلا لهما والله
العالم.
و (ثانيها) الزمان ،
والأشهر الأظهر أن أقله يوم وليلة بحيث يرتضع كلما
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 313 ح 6 ، الوسائل ج 14 ص 283 ح 2.
(2) الكافي ج 5 ص 438 ح 2 ، الوسائل ج 14 ص 287 ح 21.
تقاضاه واحتاج إليه بمعنى أن غذائه في
هذه المدة من اللبن خاصة لا يداخله شيء من المأكول والمشروب وإن لم يتم العدد ولم
يحصل الأثر ، ولا فرق بين اليوم الطويل والقصير.
وهل يكفي الملفق منهما لو ابتدأ في أثناء أحدهما؟ إشكال
في صدق الشرط وتحقق المعنى المراد.
ومما يدل على أصل الحكم موثقة زياد بن سوقة (1) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : هل للرضاع
حد يؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعات
متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها» الحديث
، وسيأتي بتمامه في الموضع الآتي.
وقال الصدوق في المقنع (2) «لا يحرم من
الرضاع إلا ما أنبت اللحم وشد العظم ، قال (3) وسئل الصادق عليهالسلام : هل لذلك حد؟
فقال : لا يحرم من الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعة متواليات لا
يفصل بينهن ، قال : وروي (4) أنه لا يحرم
من الرضاع إلا رضاع خمس عشرة يوما ولياليهن ليس بينهن رضاع ، وبه كان يفتي شيخنا
محمد بن الحسن (رحمهالله) ، قال : وروي
(5) أنه لا يحرم
من الرضاع إلا ما كان حولين كاملين ، وروي أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من
ثدي واحد سنة». انتهى.
أقول : ما نقله هنا من رواية خمسة عشرة يوما لم تصل
إلينا ولا نقلها ناقل غير ما في هذا الكتاب وهو قد أفتى بها في كتاب الهداية ،
فقال : ولا يحرم من الرضاع إلا رضاع خمسة عشر يوما ولياليهن ليس بينهن رضاع.
انتهى.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 315 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 283 ح 1.
(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل ج 14 ص 286 ح 14 و 15 و 16 و 17.
وأما رواية الحولين فهي ما رواه في الفقيه والتهذيب عن
عبيد بن زرارة (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن الرضاع ، فقال : لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين».
ونحوها صحيحة الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
يحرم من الرضاع إلا ما كان حولين كاملين». وهما محمولتان عند الأصحاب على أن
الحولين ظرف للرضاع لما اتفقوا عليه من أنه «لا رضاع بعد فطام» وعليه دلت الأخبار
أيضا.
وأما رواية السنة فهي ما رواه في الفقيه والتهذيب عن
العلاء بن رزين (3) في الصحيح
برواية الفقيه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سألته
عن الرضاع ، فقال : لا يحرم من الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة». وهذا الخبر
نسبه الشيخ والأصحاب إلى الشذوذ والمتروكية.
وقد استشكل في هذا المقام السيد السند في شرح النافع من
حيث صحة هاتين الروايتين ، وأن عادته التهالك على صحة الأسانيد ، والدوران مدارها
: وإن اشتملت متون تلك الأخبار على علل ظاهرة ، وتبعه في ذلك الفاضل المولى
الخراساني في الكفاية ، كما هي عادته غالبا في كتب العبادات مضافا إلى ما هو عليه
في كثير من التشكيكات ، وتوسيع دائرة الاحتمالات بأدنى شبهة من الشبهات.
وفيه (أولا) أن هذه الأخبار معارضة بأخبار المواضع
الثلاثة كملا ، لما عرفت من أنها متطابقة المقدار متوافقة المعيار.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 317 ح 18 ، الفقيه ج 3 ص 307 ح 14 ، الوسائل
ج 14 ص 292 ح 8.
(2) الفقيه ج 3 ص 307 ح 15 ، الوسائل ج 14 ص 292 ح 10.
(3) التهذيب ج 7 ص 318 ح 23 ، الفقيه ج 3 ص 307 ح 13 ، الوسائل
ج 14 ص 286 ح 13.
ولا ريب في ترجيح تلك الأخبار وقوتها سندا وعددا ودلالة
، واعتضادها بعمل الطائفة سلفا وخلفا.
و (ثانيا) أن هذه الأخبار مطرحة للإجماع ، وإن صح سند
بعضها كما ذكره في المسالك حيث قال ـ بعد نقل جملة من أخبار المسألة ـ : بقي في
هذا الباب أخبار نادرة تدل على اعتبار سنة وسنتين لا يعول عليها بالإجماع. انتهى.
ولا ريب أن شهرة الحكم بين الأصحاب متقدميهم ومتأخريهم
فضلا عن الإجماع عليه متى عارض الخبر وجب طرح ذلك الخبر إن لم يمكن تأويله ، وذلك
فإن الأخبار قد خرجت عنهم عليهمالسلام على وجوه
متعددة وأنحاء مبتددة ، ولا سيما وجوه التقية التي هي أوسع تلك الأبواب وبها وقع
الاختلاف فيها والاضطراب.
وأما اتفاق شيعتهم على حكم من الأحكام فهو مؤذن بكون ذلك
مذهبهم (عليهم الصلاة والسلام) لأن مذهب كل إمام إنما يعلم بنقل أصحابه وشيعته
وعملهم به ، ألا ترى أن مذهب أبي حنيفة إنما يعلم من الحنفية ، ومذهب الشافعي إنما
يعلم من الشافعية قولا وفعلا وعملا ، ومن هنا خرجت الأخبار بالترجيح بالشهرة بين
الأصحاب في مقام الاختلاف بين الروايات ، فقالوا عليهمالسلام (1) «خذ بما اشتهر
بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر ـ وقالوا ـ إن المجمع عليه لا ريب فيه». وسر ذلك ما
ذكرناه.
و (ثالثا) أنه لا يخفى على من تلجج بحور الاستنباط
والاستدلال وشرب بكأس ذلك العذب الزلال أنه قد وردت جملة من الأخبار في أحكام
متعددة مخالفة لما عليه كافة الأصحاب ، فأعرضوا عنها وأطرحوها وإن كانت صحيحة الاسناد
، ولم يقل بها قائل منهم ، ولم ينكر ذلك هذان الفاضلان ، بل سلماه ووافقا عليه
كالأخبار الواردة بنجاسة الحديد ، والأخبار الدالة على عدم وجوب غسل الجنابة على
المرأة
__________________
(1) الكافي ج 1 ص 67 ح 10 ، التهذيب ج 6 ص 301 ح 52 ، الفقيه ج
3 ص 5 ، الوسائل ج 18 ص 75 ح 1.
بالاحتلام ونحو ذلك ، فما بالهما
يضطربان في هذا المقام ويخرجان عما عليه كافة العلماء الأعلام.
وليت شعري أي حكم من أحكام الفقه قد خلا من اختلاف
الأخبار ، وسلم من تصادم الآثار ، ولكن متى كان المخالف مما أعرض عنه الأصحاب ،
فإنه يجب طرحه عندهم بلا ارتياب.
ولله در المحقق (رحمهالله) في أوائل
كتاب المعتبر حيث قال ونعم ما قال : أفرط الحشوية في العمل بخبر الواحد حتى
انقادوا لكل خبر ، وما فطنوا ما تحته من التناقض ، فإن من جملة الأخبار قول النبي صلىاللهعليهوآله (1) «ستكثر بعدي
القالة على». ـ إلى أن قال ـ : واقتصر بعض عن هذا الإفراط فقال : كل سليم السند
يعمل به.
وما علم أن الكاذب قد يصدق ، والفاسق قد يصدق ، ولم
يتنبه إلى أن ذلك طعن في علماء الشيعة ، وقدح في المذهب ، إذ لا مصنف إلا وهو يعمل
بخبر المجروح كما يعمل بخبر الواحد المعدل ، ـ إلى أن قال ـ : وكل هذه الأقوال
منحرفة عن السنن ، والتوسط أقرب ، فما قبله الأصحاب أو دلت القرائن على صحته عمل
به وما أعرض الأصحاب عنه أو شذ يجب إطراحه. انتهى وهو قوي متين وجوهر ثمين ، وأنت
قد عرفت أن هذه الأخبار التي استشكلوا بسببها لم يذهب إليها ذاهب.
وما توهمه صاحب الكفاية ـ من أن نقل الصدوق لها في كتابه
يؤذن بقوله بها بناء على ما ذكره من القاعدة في صدر كتابه ـ مردود بما بيناه في
شرحنا على الكتاب المذكور من المواضع العديدة الخارجة عن هذه القاعدة الموجبة
للتناقض في كلامه لو أريد بها ظاهرها ، وهو هنا أظهر ظاهر أيضا ، فإنه روى فيه
رواية السنة ورواية السنتين ، والتناقض بينهما ظاهر.
__________________
(1) ما عثرنا على قوله صلىاللهعليهوآله بعد التتبع في مظانه.
والتحقيق أن رواية الحولين غير ظاهرة في المخالفة ، لأن
ما ذكره الشيخ والجماعة في تأويلها أقرب قريب ، فلم يبق إلا رواية السنة ، وهي لا
تبلغ قوة في مقابلة جملة تلك الأخبار ، مع إمكان احتمال التقية (1) فيها وكذا في
الروايتين الأخيرتين إن حملتا على ظاهرهما.
وقد عرفت في مقدمات الكتاب من الجلد الأول في الطهارة أن
الحمل على التقية لا يتوقف على وجود القائل من العامة وإن كان خلاف ما هو المشهور
بين الأصحاب والله العالم.
و (ثالثها) العدد ، وقد
اختلف الأصحاب في أقل ما يحرم به من العدد ، فقيل؟ بعشر رضعات وهو المشهور بين
المتقدمين كالشيخ المفيد وابن أبي عقيل وسلار وابن البراج وأبي الصباح وابن حمزة ،
واختاره من المتأخرين العلامة في المختلف ، وولده فخر المحققين والشهيد في اللمعة.
وقيل : بخمسة عشرة وهو المشهور بين المتأخرين ، وإليه
ذهب الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار ، واضطرب كلام ابن إدريس فاختار أول هذين
القولين أولا ثم اختار ثانيهما ثانيا ، فقال في أول كتاب النكاح : المحرم عشر رضعات
متواليات في الصحيح في المذهب.
وذهب بعض أصحابنا إلى خمس عشرة رضعة معتمدا على خبر واحد
رواه عمار بن موسى الساباطي وهو فطحي المذهب مخالف للحق مع أنا قد قدمنا
__________________
(1) أقول : وبالحمل على التقية في هذه الاخبار صرح المحدث
الشيخ الحر في كتاب الوسائل فقال بعد نقل كلام الصدوق في المقنع : أقول : لعل
الوجه في هذا الاختلاف التقية لاضطراب مذهب العامة هنا وكثرة اختلافهم. انتهى.
وكلامه
هذا جرى على مقتضى كلام أصحابنا من تخصيص الحمل على التقية بوجود المخالف من
العامة ، وأما على ما اخترناه فلا ، كما أوضحناه في المكان المشار إليه في الأصل. (منه
ـ قدسسره ـ).
أن أخبار الآحاد لا يعمل بها ولو
رواها العدل ، فالأول مذهب السيد المرتضى وخيرته وشيخنا المفيد ، والثاني خيرة
شيخنا أبي جعفر الطوسي.
والأول هو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأن الرضاع
يتناول القليل والكثير فالإجماع حاصل على العشر وتخصيصها ، ولأن بعض الأصحاب على
أنه يحرم من الرضاع ، بالقليل من الرضاع وبالكثير ، ويتعلق بالعموم والأظهر ما
اخترناه ففيه الاحتياط.
ثم قال في أول باب الرضاع : الذي يحرم ما أنبت اللحم وشد
العظم على ما قدمناه فإن علم ذلك وإلا كان الاعتبار بخمس عشرة رضعة على الأظهر من
الأقوال ، وقد حكينا الخلاف فيما مضى إلا أنا اخترنا هناك التحريم بعشر رضعات
وقويناه.
والذي أفتي به وأعمل عليه الخمس عشرة رضعة ، لأن العموم
قد خصصه جميع أصحابنا المحصلين والأصل الإباحة ، والتحريم طارئ ، فالإجماع من الكل
يحرم بخمس عشرة رضعة ، فالتمسك بالإجماع أولى وأظهر فإن الحق أحق أن يتبع. انتهى.
قال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك عنه : وهذا يدل على
اضطرابه وقلة مبالاته بما يقول ، ونسبته المشايخ إلى الخطأ في الفتوى والاستناد
الى غير دليل.
ثم أي تواتر حصل له بين فتواه بالعشر ، وفتواه بخمس عشرة
رضعة حتى نسب الثاني أولا إلى أنه خبر واحد رواه غير الثقة ، ثم اعتمد عليه وأفتى
به. انتهى وهو جيد.
وقيل : بالاكتفاء برضعة واحدة تملأ جوف الولد بالمص أو
بالوجور ، وإلى هذا القول ذهب ابن الجنيد قال على ما نقل عنه في المختلف : وقد
اختلف الرواية من الوجهين جميعا في قدر الرضاع المحرم إلا أن الذي أوجبه الفقه
عندي واحتياط
المرء لنفسه أن كلما وقع عليه اسم
رضعة ـ وهو ما ملأت بطن الصبي إما بالمص أو بالوجور ـ محرم للنكاح ، ومنشأ هذا
الخلاف اختلاف الأخبار في المسألة كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
استدل العلامة في المختلف على ما ذهب إليه من الاكتفاء
بالعشر فقال : والوجه التحريم بالعشر لوجوه.
الأول : عموم قوله تعالى (1) «وَأُمَّهاتُكُمُ
اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وهو يصدق على
القليل والكثير ترك العمل به فيما دون العشر ، فيبقى في العشر على إطلاقه.
الثاني : قوله (2) «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». والتقريب ما تقدم.
الثالث : الروايات الدالة على العدد. روى الفضيل (3) بن يسار في
الصحيح (4).
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 23.
(2) الفقيه ج 3 ص 305 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 293 ح 1.
(3) التهذيب ج 7 ص 315 ح 13 وص 324 ح 42 ، الوسائل ج 14 ص 285
ح 11 وص 284 ح 7 ، وما عثرنا على الرواية بهذا النحو عن الباقر عليهالسلام ، ولعل (قدسسره) قد اختلط الروايتين عنه عليهالسلام وعن الصادق عليهالسلام وجعلهما رواية واحدة.
(4) أقول : لا يخفى أن صحيحة الفضيل المذكورة قد رواها الشيخ
في الصحيح كما ذكرناه في الأصل ، ورواها أيضا في الموثق عن الفضيل بن يسار عن عبد
الرحمن بن أبى عبد الله قال : «لا يحرم من الرضاع الا ما كان مجبورا ، قلت : وما
المجبور؟ قال : أم مربية أو ظئر تستأجر أو خادم تشترى أو ما كان مثل ذلك موقوفا
عليه».
ورواها
في الفقيه عن حريزقال : «لا يحرم من الرضاع الا ما كان مجبورا ، قلت : وما المجبور
، قال : أم مربية أو ظئر تستأجر أو خادم تشترى.
وأنت
خبير بأن المجبور في هاتين الروايتين قد جعله صفة للرضاع وفسره بالأم
عن الباقر عليهالسلام قال : «لا
يحرم من الرضاع إلا المجبورة قلت : وما المجبور؟ قال : أم تربى أو ظئر تستأجر أو
أمة تشترى ثم ترضع عشر رضعات يروى الصبي وينام».
لا يقال : في طريقه محمد بن سنان وفيه قول ، ولأن
الرواية اختلفت فإن كلا من الشيخ والصدوق روى هذا الخبر بصيغة مخالفة لصيغة
الرواية الأخرى فيتعارضان. لأنا نقول : قد بينا رجحان العمل برواية محمد بن سنان
في كتاب الرجال ولا مدخل لاختلاف الصيغتين في الاستدلال من منعه ، لأنا نستدل
بقوله «ثم ترضع عشر رضعات» وهذه الزيادة رواها الشيخ ، ولا يلزم من ترك رواية
الصدوق لها الطعن فيها.
وفي الحسن عن حماد بن عثمان (1) عن الصادق عليهالسلام «قال لا يحرم
من الرضاع إلا ما أنبت اللحم والدم». ونحوه عن عبد الله بن سنان (2) عن الصادق عليهالسلام.
إذا تقرر هذا فنقول الذي تنبت اللحم والعظم عشر رضعات لما
رواه عبيد بن زرارة (3) في الصحيح عن
الصادق عليهالسلام إلى أن قال «فقلت
: وما الذي ينبت اللحم والدم؟ فقال : كان يقال : عشر رضعات».
وفي الموثق عن عمر بن يزيد (4) عن الصادق عليهالسلام «عن الغلام
يرضع الرضعة والثنتين قال : لا يحرم فعددت عليه حتى أكملت عشر رضعات ، فقال : إذا
كانت
__________________
والظئر المستأجرة والخادم ، وفي الصحيحة المذكورة في الأصل
جعله قسيما للفردين الآخرين خارجا عنهما ، وهذه علة أخرى في هذه الرواية توجب
اضطرابها. (منه ـ قدسسره ـ).
ما
عثرنا بهذا النحو الذي نقله (قدسسره) عن الفقيه في التعليقة فلا حظ
ج 3 من الفقيه ص 307 ح 12.
(1 و 2 و 3 و 4) التهذيب ج 7 ص 312 ح 2 و 3 وص 313 ح 4 وص 314
ح 10 ، الوسائل ج 14 ص 289 ح 1 و 2 وص 287 ح 18 وص 283 ح 5 ..
متفرقة فلا».
دل بمفهومه على التحريم مع عدم التفريق.
الرابع : الاحتياط ، فإن التحريم المستند إلى عموم
الكتاب والروايات لما عارضته الإباحة المستندة إلى الأصل والروايات غلب ، جانب
التحريم ، فيبقى البراءة معه بخلاف الطرف الآخر ، وقد روى عنه (1) (صلىاللهعليهوآله) «ما اجتمع
الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال».
الخامس : عمل أكثر الأصحاب عليه فيكون راجحا ، فيتعين
العمل به لامتناع العمل بالمرجوح. انتهى كلامه زيد مقامه.
وفيه (أولا) أن ما ذكره من الاستدلال بالآية بالتقريب
الذي ذكره مبني على ثبوت التحريم بالعشر من الأخبار ، وأما علي تقدير أن الثابت
منها إنما هو الخمس عشرة ، كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ، فإن للخصم أن يقول : إن
الرضاع في الآية يصدق على القليل والكثير ، ترك العمل به فيما دون الخمس عشرة ،
فيبقى الخمس عشرة على إطلاقه.
وبالجملة فإن الكلام في الآية موقوف على تعيين ما يستفاد
من أخبار العدد من أن المحرم منه هل هو العشر أو الخمس عشرة؟
وكذا رد في المسالك الاستناد إلى الآية بنحو ما قلناه ،
حيث قال : ما في الآية كما خصصت فيما دون العشر برواياتكم ، كذلك خصصت فيما دون
الخمس عشرة بروايات الآخرين ، ومعهم المرجح كما سنبينه. انتهى ، ومن ذلك علم
الكلام في الدليل الثاني ، وهو حديث «يحرم من الرضاع» للاشتراك في الإجمال.
و (ثانيا) أن ما استدل به من رواية الفضيل بن يسار (2) مردود بالقدح
فيها
__________________
(1) البحار ج 2 ص 272 الطبعة الجديدة.
(2) التهذيب ج 7 ص 324 ح 42 ، الفقيه ج 3 ص 307 ح 12 بتفاوت ،
الوسائل ج 14 ص 284 ح 7.
متنا وسندا.
أما الأول فإن ما اشتملت عليه من الحصر لا قائل به ، بل
فساده ظاهر ، للإجماع على عدم انحصار المرضعة فيمن ذكر ، لخروج المتبرعة عن هذا
الحصر ، مع أن إرضاعها ينشر إجماعا.
وأما الثاني فلتصريح جملة من علماء الرجال بضعف محمد بن
سنان ، كالشيخ والنجاشي وابن الغضائري. وقد روى الكشي فيه روايات تشتمل على قدح
عظيم ، وأي رجحان يبقى لروايته مع تصريح هؤلاء الذين هم أساطين هذا العلم ، وهم
المرجع فيه.
مع أنه في الخلاصة بعد أن نقل كلام هؤلاء الأفاضل ، ونقل
عن المفيد توثيقه (1) توقف في أمره
وقد اعترض عليه بأنه لا وجه للتوقف ، لأن الجارح مقدم لو فرض التساوي ، على أن
المفيد قد اختلف قوله فيه أيضا ، وبالجملة فضعف سند الرواية مما لا يعتريه
الاشكال.
و (ثالثا) : أن ما استند إليه من الروايات الدالة على
حصر المحرم فيما ينبت اللحم ويشد العظم ، بتقريب ما دلت عليه صحيحة عبيد بن زرارة (2) من «أن العشر
ينبت اللحم ويشد العظم».
ففيه أن دلالة الصحيحة المذكورة على ذلك محل إشكال بل
ربما كانت
__________________
(1) حيث انه وثقه في الإرشاد وهو الذي نقله عنه الأصحاب
كالعلامة في المختلف وغيره الا أنه قد ضعفه في رسالته الموضوعة للرد على الصدوق
فيما ذهب اليه من أن شهر رمضان لا يصيبه اليه ما يصيب الشهور من النقصان فإنه طعن
في محمد بن سنان ورد روايته فقد تعارض كلامه فيه فليراجع ذلك (منه ـ قدسسره).
(2) الكافي ج 5 ص 439 ح 9 ، التهذيب ج 7 ص 313 ح 4 ، الوسائل ج
14 ص 287 ح 18.
بالدلالة على خلافه أظهر في هذا
المجال ، وذلك فإنه عليهالسلام نسب القول (1) بذلك إلى غيره
، فقال «كان يقال» وفيه إشعار بعدم اعتباره عنده عليهالسلام ، ويؤيد ذلك
أن السائل لما فهم منه عدم إرادته كرر السؤال فقال «هل يحرم عشر رضعات» فقال «دع
ذا» ، ثم عدل إلى كلام خارج من البين ، فقال : «ما يحرم من النسب فهو يحرم من
الرضاع» فلو كان التحريم بالعشر حقا كما يدعونه لما عدل عن الإفتاء به أولا ، بل
نسبه إلى غيره ، ولما أعرض عن جواب السؤال الثاني وعدل إلى كلام خارج من البين ،
بل جميع ذلك مما يؤذن بعدم التحريم بالعشر ، كما أشرنا إليه.
على أن هذه الرواية معارضة بصحيحة علي بن رئاب (2) المتقدمة
الدالة
__________________
(1) قال الشيخ في الاستبصار : والجواب عن هذا أنه لم يقل أن
عشر رضعات يحرم عن نفسه بل أضافه إلى غيره فقال «كان يقال» الى آخره ولو كان ذلك
صحيحا لا خبر به عن نفسه. إلخ.
واعترض
الفاضل الداماد في رسالته التي في التنزيل حيث انه اختار فيها القول بالتحريم
بالعشر فقال ما هذا لفظه : قلت هذا الكلام ضعيف جدا لانه لو لم يكن ذلك صحيحا لكان
واجبا على الامام عليهالسلام أن ينبه على فساده وأن يعين ما
هو الصحيح في ذلك. انتهى.
أقول
: بل الضعيف انما هو كلامه (قدسسره) حيث ان ما أوجبه على الامام من
الجواب بما هو الصحيح الواردة عنهم عليهمالسلام في تفسير قوله عزوجل «فَسْئَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» لتصريحها بان الواجب عليكم أن تسئلونا وليس علينا أن نجيبكم بل
ذلك إلينا ان شئنا أجبنا وان شئنا لم نجب.
والوجه
في ذلك أنهم بالمصالح في ذلك أعلم فقد يجيبون بما هو الحكم الواقعي وقد يجيبون
بخلافه وقد لا يجيبون بالكلية وقد يجيبون بأجوبة مشتبهة ، كل ذلك قد أباحته
التقية.
ولكن
هذا الفاضل غفل عن ملاحظة الأخبار المذكورة ولم تخطر بباله ولا يخفى على من لا حظ
الاخبار وجاس خلال تلك الديار صحة ما ذكرناه ودلالتها على ما قلناه والله العالم. (منه
ـ قدسسره ـ).
(2) التهذيب ج 7 ص 313 ح 6 ، الوسائل ج 14 ص 283 ح 2.
صريحا على أن العشر لا ينبت اللحم ولا
يشد العظم.
و (رابعا) أن ما استند إليه من مفهوم رواية عمر بن يزيد (1) ففيه أنه ـ مع
قطع النظر عن ضعف هذا المفهوم عند الأصحاب وغيرهم وأنه لا يصلح لإثبات حكم شرعي ـ معارض
بمنطوق
موثقة عبيد بن زرارة (2) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته
يقول : إن عشر رضعات لا يحر من شيئا».
وموثقة ابن بكير (3) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «سمعته
يقول : عشر رضعات لا تحرم». ولا ريب أن المفهوم لو سلم صحة الاستناد إليه لا يعارض
المنطوق ، وجوابه في المختلف عن هاتين الروايتين بضعف الاستناد وارد عليه في
استدلاله برواية عمر بن يزيد فإنها في التهذيب مروية عن الحسن بن فضال ، وطريق
الشيخ إليه غير معلوم ، وفي الكافي مروية بسند فيه المعلى بن محمد وهو ضعيف ، فروايته
المذكورة في كلا الكتابين من قسم الضعيف.
وروايتا عبيد بن زرارة وابن بكير المذكورتان من قسم
الموثق ، وحينئذ فروايته أولى بالرمي بالضعف.
و (خامسا) أن ما استند من الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي
، مع أنه قد أورد عليه أنه غير مطرد ، بل قد يكون الاحتياط في الجانب الآخر كما لو
عقد على صغيرة بهذا الوصف ، أو ورثت مهرا كذلك ، فإن الاحتياط القول بعدم التحريم
، من جهة استحقاقها المهر ، ونحوه من حقوق الزوجية.
و (سادسا) أن دعواه كون التحريم عليه عمل الأكثر ، معارض
بما ذكره في التذكرة كما نقل عنه فإنه جعل المشهور هو القول الآخر ورجحه ، والحق
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 439 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 314 ح 10 ، الوسائل
ج 14 ص 283 ح 5.
(2 و 3) التهذيب ج 5 ص 313 ح 7 و 8 ، الوسائل ج 14 ص 283 ح 3 و
4.
أن التحريم بالعشر هو المشهور عند
المتقدمين ، وعدمه هو المشهور عند المتأخرين وبالجملة فإن كلامه (قدسسره) هنا
واستدلاله بما ذكر غير متجه.
والتحقيق أن يقال : إن روايات العشر مضطربة ، لا تصلح
التعلق بها في إثبات هذا الحكم ، حيث إن جملة منها صريح في نفي التحريم ، كصحيحة
ابن رئاب (1) وموثقتي عبيد
بن زرارة (2) ، وعبد الله
بن بكير (3).
ومنها ما هو ظاهر في ذلك ، كرواية عبيد بن زرارة (4) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن الرضاع أدنى ما يحرم منه» الحديث.
وقد تقدم في صدر الموضع الأول في الأثر ، فإن ظاهرها أنه
عليهالسلام يقول : «لا»
في جواب السؤال عن هذه المعدودات التي من جملتها العشر ، ونحوها موثقة زياد بن
سوقة الآتية (5) حيث قال في
آخرها «ولو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتها
امرأة أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحها».
فإن الظاهر كما استظهره في الوافي أيضا أن لفظ «أو» في
عطف الجارية على الغلام غلط ، وأن صوابه بالواو ، وكذا ضمير «أرضعتها» إنما هو
ضمير التثنية ، وهكذا ضمير «نكاحها» إنما هو ضمير التثنية ، فإن ذلك هو الذي
يستقيم به الكلام ، ويحصل به الانتظام ، أول وجملة منها متشابهة الدلالة مضطربة
المقالة ، يشبه أن يكون قد تجللها غيم التقية ، ونزلت بها تلك البلية ، مثل صحيحة
عبيد بن زرارة المتقدمة وقوله فيها بعد أن سأله عن الذي ينبت اللحم والدم ، «كان
يقال : عشر رضعات» إلى آخرها وقد مر بيانه.
__________________
(1 و 2 و 3) التهذيب ج 7 ص 313 ح 6 و 7 و 8 ، الوسائل ج 14 ص
283 ح 2 و 3 و 4.
(4) الكافي ج 5 ص 438 ح 3 ، الوسائل ج 14 ص 288 ذيل ح 21.
(5) التهذيب ج 7 ص 315 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 282 ح 1.
ومثل رواية عمر بن يزيد (1) المتقدمة ، وصحيحة
صفوان (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الرضاع ما
يحرم منه؟ فقال : سأل رجل أبي عليهالسلام فقال : واحدة
ليس بها بأس ، وثنتان حتى بلغ خمس رضعات ، قلت : متواليات أو مصة بعد مصة؟ فقال :
هكذا قال له ، وسأله آخر عنه فانتهى به إلى تسع ، وقال : ما أكثر ما اسأل عن
الرضاع ، فقلت. جعلت فداك أخبرني عن قولك في هذا ، أنت عندك فيه حد أكثر من هذا؟
فقال : قد أخبرتك بالذي أجاب فيه أبي قال : قد علمت الذي أجاب أبوك فيه ، ولكني
قلت : لعله يكون فيه حد لم يخبر به فتخبرني به أنت ، فقال : هكذا قال أبي».
ومما يؤيد الحمل على التقية في هذه الروايات ما نقله العامة
في صحاحهم عن عائشة (3) «أنه كان في
القرآن عشر رضعات محرمات فنسخت تلاوته».
وفي رواية أخرى عنها «قالت : كان فيما أنزل في القرآن
عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلىاللهعليهوآله وهي ما يقرء
من القرآن» ، رواها مسلم والنسائي والترمذي والسجستاني وابن ماجة القزويني (4) واكتفى
الشافعي من علمائهم وأحمد بن حنبل بخمس لا أقل. وفيهم من قال بثلاث ، واكتفى مالك
وأبو حنيفة بالرضعة الواحدة ولعل قوله عليهالسلام في صحيحة عبيد
بن زرارة (5) «كان يقال عشر
رضعات» إشارة إلى هذه الرواية التي عن عائشة أنها كانت ثم نسخت.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 439 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 314 ح 10 ، الوسائل
ج 14 ص 283 ح 5.
(2) الكافي ج 5 ص 439 ح 7 ، الوسائل ج 14 ص 288 ح 24.
(3 و 4) مسلم ج 10 ص 29 و 30 ، الترمذي ج 3 ص 1150 ، ابن ماجة
ح 1 ص 625 ح 1942 ، سنن البيهقي ج 7 ص 454.
(5) الكافي ج 5 ص 439 ح 9 ، التهذيب ج 7 ص 313 ح 4 ، الوسائل ج
14 ص 287 ح 18.
وبالجملة فاختلال هذه الأخبار وعدم صلوحها للاستدلال ـ مع
قطع النظر عما عارضها من الأخبار الصريحة في نفي العشر ـ مما لا يخفى على المتأمل
المنصف ، وقد وقع للفاضلين المتقدمين أيضا في هذا الموضع ما وقع لهم سابقا من
الاشكال المتقدم من جهة تلك الأخبار ، وقد عرفت ما فيه.
وزاد الفاضل الخراساني في الاشكال هنا برواية عمر بن
يزيد (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : خمس
عشر رضعة لا تحرم». وهذا الخبر حمله الشيخ على الرضعات المتفرقة ، ويمكن حمله على
الإنكار دون الاخبار.
وبالجملة فإنه ـ بعد ما عرفت وستعرف إن شاء الله من
التحقيق ـ لا يبقى لهذا الخبر قوة المعارضة لإجماع الفرقة الناجية سلفا وخلفا على
رده ، وعدم العمل عليه بل إجماع الأمة ، لما عرفت من أقوال العامة في المسألة ،
ولكن هذا الفاضل ربما يتشبث بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، وإنه لأوهن البيوت.
استدل الشيخ ومن تبعه للقول الثاني بما رواه في التهذيب
عن زياد بن سوقه في الموثق (2) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : هل للرضاع
حد يؤخذ به؟ فقال : لا يحرم الرضاع أقل من رضاع يوم وليلة ، أو خمس عشرة رضعات
متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ، ولو أن
امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد ، وأرضعتها امرأة أخرى من
لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحها».
وهي نص في ثبوت التحريم بالخمس عشرة ، وصريحة في نفي
العشرة ، وأيده بعضهم بأصالة الإباحة واستصحابها.
وهذا القول هو الأظهر عندي وعليه العمل ، لما عرفت من
روايات العشر ، وتصادمها ، وعدم نهوض ما استدل به بالدلالة ، وما ستعرف ـ إن شاء
الله ـ في
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 314 ح 9 ، الوسائل ج 14 ص 284 ح 6.
(2) التهذيب ج 7 ص 315 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 282 ح 1.
روايات القول الثالث من الطعن فيها ،
وليس لهذه الرواية معارض بعد ما عرفت إلا رواية عمر بن يزيد المتقدمة ، وقد عرفت
أنها متروكة بإجماع الأمة.
وإلى هذا القول مال في المسالك أيضا بتقريب آخر غير ما
ذكرناه ، حيث قال ـ بعد الطعن في روايات المسألة ومنها رواية زياد بن سوقة بأن في
طريقها عمار بن موسى وحاله في الفطحية معلوم ، ما لفظه ـ : والحق أن مثل هذه
الأخبار المتناقضة الواهية الإسناد ، لا يلتفت إليها من الجانبين ، ومتى اعتبرنا
ذلك فليس معنا في ذلك كله أصح سندا من رواية على بن رئاب الدالة على أن العشر لا
يحرم وفيها ـ مع صحة السند ـ التعليل بأن العشر لا تنبت اللحم ولا تشد العظم ،
والخبر المعلل مرجح على غيره عند التعارض ، فسقط بها اعتبار كل ما دل على الاكتفاء
بالعشر ، وتعين القول بالخمس عشرة وإن لم يعتبر أدلته ، إذ لا قائل بما فوقه ، ولا
ما بينه وبين العشر ، وتبقى ما دل على الخمس عشرة شاهدا وإن لم يكن أصلا. انتهى.
وفيه من الضعف ما لا يخفى على المتأمل الناظر بعين
التحقيق والمتأمل بالفكر الصائب الدقيق ، وذلك فإنه متى فرض أن لا دليل لهذا القول
من الأخبار فالقول به والحكم به مما منعت منه الآيات القرآنية والأخبار المعصومية
لما دلت عليه من النهي والزجر عن القول والفتوى في الأحكام الشرعية بغير دليل واضح
عنهم عليهمالسلام.
ومجرد دلالة الأخبار على نفي العشر وعدم القول بما فوق
الخمس عشرة ولا ما بينهما وبين العشرة ليس بدليل شرعي ولا نهج مرعي ، لا مكان وقوع
الحكم في قالب الاشتباه ، إذ الفرض أنه لا دليل للقول بخمس عشرة ، والقول به بغير
دليل ممنوع منه شرعا ، ولا قائل بشيء من ذلك الوجهين المذكورين.
وبالجملة فإن أصحاب هذا الاصطلاح المحدث لوقوعهم ـ متى
تمسكوا به ـ في مضيق الإلزام يلجئون إلى التمسك بهذه التكلفات العليلة الضئيلة ، ولهذا
أن
سبطه في شرح النافع (1) قال بعد ما
نقل ذلك عنه : فإن تم ما ذكره فذاك ، وإلا فللتوقف في ذلك مجال وفيه إيذان بعدم
تمامية ذلك عنده.
ومما يدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه الشيخ (2) في الصحيح عن
علي بن مهزيار عن أبي الحسن عليهالسلام «أنه كتب إليه
يسأله عما يحرم من الرضاع؟ فكتب عليهالسلام : قليله
وكثيره حرام».
وعن عمرو بن خالد (3) عن زيد بن علي عليهالسلام عن آبائه عن
علي عليهمالسلام «أنه قال
الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لا تحل له أبدا».
واستدل له بإطلاق الآية وهي قوله تعالى (4) «وَأُمَّهاتُكُمُ ... مِنَ الرَّضاعَةِ» وهو يصدق على
القليل والكثير وضعف الجميع مما لا يستره ساتر كما لا يخفى على كل ناظر.
أما صحيحة علي بن مهزيار ، ففيها (أولا) أنها بظاهرها لا
تنطبق علي مدعاه من الرضعة التامة التي يملأ البطن لدلالتها على أن القليل والكثير
محرم وهو
__________________
(1) أقول : صورة عبارته في شرح النافع هكذا «وبالجملة فالأخبار
من الطرفين لا تخلو من قصور من حيث السند ، لكن ذكر جدي (قدسسره) في المسالك أنه إذا سقط اعتبار ما دل
على الاكتفاء بالعشر تعين القول بالخمس عشرة وان لم يعتبر دليله ، إذ لا قائل بما
فوقه ، ولا ما بينه وبين العشرة ، ويبقى ما دل على الخمس عشرة شاهدا ، فان تم ما
ذكره الى آخر ما ذكر في الأصل» ومراده أنه ان تم ما ذكره من الملازمة بقوله «إذا
سقط اعتبار ما دل على الاكتفاء بالعشر تعين القول بالخمس عشرة» وفيه إشارة الى أن
الملازمة غير تامة عنده ، إذ مجرد سقوط ما دل على اعتبار العشر لا يستلزم تعين
القول بالخمس عشرة بوجه من الوجوه. (منه ـ قدسسره ـ).
(2) التهذيب ج 7 ص 316 ح 16 ، الوسائل ج 14 ص 285 ح 10.
(3) التهذيب ج 7 ص 317 ح 17 ، الوسائل ج 14 ص 285 ح 12.
(4) سورة النساء ـ آية 23.
شامل لما دون ذلك.
(وثانيا) أنها معارضة بالأخبار المتقدمة من أخبار
المسألة كملا أخبار العدد وغيرها ، فهي محمولة على التقية بلا إشكال.
ومثلها رواية عمرو بن خالد فإن رواتها كملا من العامة ،
وقد تقدم أن مذهب أبي حنيفة ومالك الاكتفاء بالرضعة الواحدة.
وأما ما ذكره شيخنا في المسالك حيث قال : وتمام الاحتياط
المخرج من خلاف جميع أصحابنا أن لا يشبع الولد من رضاع الأجنبية إذا أريد السلامة
من التحريم ولو مرة واحدة ليخرج من خلاف ابن الجنيد وروايته ، ومع ذلك لا يسلم من
خلاف جميع مذاهب المسلمين فقد ذهب جماعة من العامة إلى الاكتفاء بمسماه وقدره
بعضهم بما يفطر الصائم وادعى عليه إجماع العلم. انتهى ، فهو بمحل من الضعف والقصور
، فإن الظاهر أن الاحتياط المندوب إليه والمحثوث في الأخبار عليه من قولهم عليهمالسلام (1) «دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك». ونحوه إنما هو في موضع يحتمل صحة ذلك القول الذي يراد الخروج من
عهدته وأنه مراد له سبحانه.
واحتمال التحريم بما دلت عليه هاتان الروايتان ممنوع
لمعارضتها الأخبار الدالة على خلاف ما دلتا عليه خصوصا وعموما ، وهي روايات إنبات
اللحم ، وشد العظم ، وروايات اليوم والليل ، وروايات العدد ، مع استفاضة الأخبار (2) منهم عليهمالسلام بعرض الأخبار
في مقام الاختلاف على مذهب العامة ، والأخذ بخلافهم ، فأي مجال لاحتمال صحة ما
اشتملتا عليه ، والحال ما ذكرناه.
ثم العجب منه (قدسسره) أيضا في
اعتباره الاحتياط بالخروج عن أقوال العامة ومذاهبهم في هذه المسألة ، وأي وجه لهذا
الاحتياط مع استفاضة الأخبار بالأخذ بخلافهم ، وأن الرشد في خلافهم ، ورمي الأخبار
الموافقة لهم ، وأنهم
__________________
(1) الوسائل ج 18 ص 122 ح 38.
(2) الفقيه ج 3 ص 6 ، الوسائل ج 18 ص 75 ح 1.
ليسوا من الحنفية على شيء ، وأنه لم
يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة ، وأنهم ليسوا إلا كالجد المنصوبة ، وأن لا فرق
بين صلاتهم وزنائهم ، حتى ورد أنه إذا لم يكن في البلد فقيه تستفتيه في الحكم ،
فاستفت قاضي العامة ، وخذ بخلافه.
وما ادعاه من إسلامهم وإن ذهب هو إليه ، وتبعه جمع عليه
، إلا أن المشهور بين متقدمي أصحابنا (رضوان الله تعالى عليهم) هو الكفر كما
استفاضت به أخبار أهل الذكر عليهمالسلام ، وأوضحناه
بما لا مزيد عليه في كتابنا الشهاب الثاقب في معنى الناصب ، وقد تقدم في جلد كتاب
الطهارة من كتابنا هذا نبذة من الكلام في ذلك. (1)
وأما الآية فعمومها مخصوص بالأخبار العالية المنار في هذا
الحكم وغيره من سائر أحكام الرضاع بالضرورة والإجماع كما في سائر الآيات المجملة
في غير هذا الحكم من غير خلاف ولا نزاع ، والله العالم.
تنبيهات :
الأول : لا يخفى أن لفظ
المجبورة في رواية الفضيل بن يسار (2) لا يخلو من اشتباه ، ونقل في الوافي
أن المجبورة في بعض نسخ الفقيه بالمهملة قال ، وكأن الجيم هو الأصح كما في نسخة
اخرى منه.
وقال في كتاب مجمع البحرين في مادة حبر بالحاء المهملة
بعد ذكر الحديث : وقد اضطربت النسخ في ذلك ففي بعضها بالحاء المهملة كما ذكرناه
وفي بعضها بالجيم كما تقدم ، وفي بعضها بالخاء المعجمة ، ولعله الصواب ويكون
المخبور بمعنى المعلوم. انتهى.
وقال في مادة جبر بالجيم والباء الموحدة بعد نقل الخبر
المذكور : قال في
__________________
(1) ج 5 ص 187.
(2) التهذيب ج 7 ص 315 ح 13 ، الوسائل ج 14 ص 285 ح 11.
شرح الشرائع : المجبور وجدتها مضبوطة
بخط الصدوق (رحمهالله) بالجيم
والباء في كتابه المقنع ، فإنه عندي بخطه. انتهى.
أقول : الظاهر أنه أراد بشرح الشرائع هو كتاب المسالك
إلا أني لم أقف عليه في الكتاب المذكور ، ثم إني وجدت في بعض الفوائد المنسوبة إلى
الشيخ الفاضل الفقيه الأوحد الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي (قدس الله
روحهما) ما صورته : المجبورة بالجيم فكان كلا منهما باعتبار المحبة أو الأجرة أو
الرقية مجبور في الإرضاع الدائمي ، ويحتمل أن يكون بالجيم والتاء المثناة من فوق
مفتعل من الجوار.
قال في الصحاح : تجاوروا أو اجتوروا : أي اصطحبوا ، ولم
تعل الواو في اجتور كما لم تعل في تجاور لأنها بمعناها ، ولما كان كل من الثلاث
مصاحبا للرضيع قيل لها المجتور ، وإنما يحرم من الرضاع ما كان مصطحبا للرضيع
مجاورا بالشرائط المقررة.
ويحتمل أن يكون مفعولا من خثر بالخاء المعجمة والثاء
المثلثة والراء ، يقال : خثر في الحي إذا قام بها ، وهذا المعنى يقرب من تاليه.
ويؤيد هذين المعنيين قوله عليهالسلام في آخر الخبر «أو
ما كان مثل ذلك موقوفا عليه» ، وكذا ما في خبر موسى بن بكر الآتي من قوله «مقيم
عليه» وهذان الاحتمالان قريبان.
ويحتمل أن يكون بالحاء المهملة والتاء المثناة الفوقانية
مفعولا من الحترة بالفتح.
قال في القاموس : الحترة : الرضعة ، والمحتور : الذي
يرضع شيئا قليلا ولما كان المرضعة الرضاع المحرم إنما ترضع قليلا ، أي ساعة فساعة
في زمان كثير يمكن الوصف بالقلة والكثرة بالاعتبارين ، هذا غاية ما يمكن في تصحيح
ذلك ، ولم أحد لأحد كلاما.
واعلم أن التذكير إنما هو باعتبار الموصول ، فتأمل ،
وإني وجدت بخط الشهيد الثاني أنه نقل : إني رأيت بخط صاحب الفقيه المجبور بالجيم
ثم الموحدة ثم قال : لكن المشهور بين المحدثين بالمهملة والتاء المثناة من فوق
بالمعني المذكور. انتهى كلامه زيد إكرامه.
الثاني : قد صرح
الأصحاب بأنه يعتبر في الرضعات لتحقق العدد قيود ثلاثة ، كمالية كل واحدة من تلك
الرضعات ، وتواليها ، والارتضاع من الثدي ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع ثلاثة
:
(أحدها) في كمالية الرضعة ، والمشهور الرجوع في ذلك إلى
العرف ، لأنه المرجع فيما لم يقدر له حد في الشرع فلا تجزى الرضعة الناقصة ، وقيل
: حد الكمالية أن يروى الصبي أي الولد مطلقا ويصدر من قبل نفسه ، والقولان للشيخ (رحمهالله) إلا أن ظاهر
كلامه في التذكرة أن مرجعهما إلى قول واحد ، فإن الثاني منهما هو الذي يدل عليه
العرف ، ولا يدل على غيره ، ولهذا جمع بينهما في التذكرة فقال : إن المرجع في
كمالية إلى العرف ، ثم قال : فإذا ارتضع الصبي وروي وقطع قطعا بينا باختياره ،
وأعرض إعراض ممتل باللبن كان ذلك رضعة. انتهى ، فجعل العبارتين معا أمرا واحدا ،
والعبارة التي نسبوا للشيخ بهما القولين المذكورين هي ما ذكره في المبسوط حيث قال
: والمرجع في ذلك العرف ، لأن ما لا حد له في الشرع ولا في اللغة يرجع فيه إلى
العرف ، غير أن أصحابنا قيدوا الرضعة بما يروى الصبي منه ويمسك.
قال في المسالك : وهذه العبارة هي مستند الجماعة في
جعلهما قولين ، وليست بدالة على ذلك. انتهى.
أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه الشيخ
عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا (1) رواه عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الرضاع
الذي ينبت اللحم والدم
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 316 ح 14 ، الوسائل ج 14 ص 290 ح 2.
هو الذي يرضع حتى يتضلع ويمتلئ وينتهي
نفسه».
وعن ابن أبي يعفور (1) قال : «سألته عما يحرم من الرضاع قال
: إذا رضع حتى يمتلئ بطنه ، فإن ذلك ينبت اللحم والدم ، وذلك الذي يحرم». وقد تقدم
في حديث الفضيل بن يسار (2) «ثم يرتضع عشر
رضعات يروى الصبي وينام».
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في المعنى الثاني ، وهو الذي
يفهم من العرف أيضا كما عرفت ، فيكون مرجع الأمرين المذكورين إلى أمر واحد ، وبذلك
يظهر أن من قال بالرجوع إلى العرف ـ لأنه لا حد له في الشرع كما يدل عليه كلامه في
المبسوط ـ ليس في محله ، فإن مقتضى هذه الأخبار كما عرفت حصول حد شرعي لذلك ، فيجب
الوقوف عليه ، فلا يحتاج إلى التمسك بالعرف ، وإن كان العرف لا يخرج عن ذلك كما
عرفت.
والمراد كما يستفاد من ظاهر الاستبصار أن ذلك تفسير لكل
رضعة من الرضعات التي مجموعها محرم ينبت اللحم والدم ، ويشد العظم ، أو يحصل به
العدد المحرم ، لا أن ذلك وحده كاف في التحريم والإنبات ، وعلى هذا فإذا ارتضع ثم
قطع باختياره : وأعرض إعراض ممتل كانت رضعة كاملة ، وإن قطع لا بنية الإعراض
كالتنفس أو الالتفات إلى ملاعب أو الانتقال من ثدي إلى آخر ، أو قطعت عليه المرضعة
، أو حصل له نوم خفيف ، فإن عاد بعد ذلك حتى يعرض بنفسه كان الجميع رضعة ، وإلا لم
يعتبر في العدد لعدم كونها كاملة.
و (ثانيها) في توالي الرضعات ، وفسر بانفراد المرأة
الواحدة بإكمال العدد ، فلو رضع من امرأة بعض العدد المحرم وأكمله من اخرى لم ينشر
الحرمة.
ونسب في التذكرة القول بعدم نشر الحرمة في هذه الصورة
إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ويدل عليه ما تقدم من قوله عليهالسلام : في موثقة
زياد بن
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 316 ح 15 ، الوسائل ج 14 ص 290 ح 1.
(2) التهذيب ج 7 ص 315 ح 13 ، الوسائل ج 14 ص 285 ح 11.
سوقة (1) «أو خمس عشرة
رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد لم يفصل بينها رضعة امرأة غيرها ،
ولو أن امرأة أرضعت غلاما أو جارية عشر رضعات من لبن فحل واحد وأرضعتهما امرأة
أخرى من لبن فحل آخر عشر رضعات لم يحرم نكاحهما».
وفسر أيضا بأن لا يفصل بين العدد المذكور برضاع امرأة
أخرى وإن أكملت الأولى العدد ، وعليه أيضا يدل الخبر المذكور بل ربما كان هو
الأظهر من لفظ التوالي ، فإن المفهوم منه هو حصول العدد المذكور من امرأة واحدة من
غير فصل بين أفراده برضاع امرأة أخرى.
وعلى هذا فلو تناوب على إرضاع الصبي عدة نساء الرجل
الواحد بحيث أكملن العدد المعتبر ، فإنه لا ينشر الحرمة بين الرضيع والنسوة ولا
بينه وبين صاحب اللبن ، أما الأول فلأنه لم تصر واحدة منهن اما لعدم إكمال العدد
الموجب لنشر الحرمة ، وأما الثاني فلأن الأبوة فرع الأمومة فحيث انتفت الأمومة
انتفت الأبوة.
أقول : والأصل في الحكم هو النص المذكور ، وهذا مما تصلح
لبيان الوجه فيه ، وظاهره في المسالك (2) الاعتماد في الحكم على الإجماع لرده
الخبر بالضعف ، وفيه ما لا يخفى.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 315 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 282 ح 1.
(2) قال في المسالك بعد ذكر الرواية : وهي ناصة على المطلوب ،
إلا أنك قد عرفت ما في سندها من الاشكال ، ولعل التعويل على الإجماع على ما فيه.
وقد
خالف في ذلك العامة كافة ، فلم يعتبروا اتحاد المرضعة بل اتحاد الفحل ، والأصل
يقتضيه ، وتخصيصها باشتراط اتحاد المرضعة يحتاج الى دليل صالح ، والرواية ليست حجة
مطلقا ، أما على المخالف فظاهر ، وأما علينا فلضعف السند ، ومن ثم لم يعتبرها
الأكثر في اشتراط كون العدد خمس عشرة ، نظرا الى ذلك ، فيبقى الاحتياج الى تحقق
بقي الكلام في أنه على تقدير التفسير الثاني هل يشترط في
الرضاع الذي يقطع التوالي أن يكون رضعة كاملة أو مطلق الرضاع وإن كان أقل من رضعة؟
مع اتفاق الجميع على أنه لا يقطع التوالي تخلل المأكول والمشروب بين الرضعات وجهان
: بل قولان :
وبالأول جزم في التذكرة فقال في تفسير التوالي : أن لا
يفصل برضاع امرأة أخرى رضاعا تاما فلو ارتضع من واحدة رضعة تامة ، ثم اغتذي بمأكول
أو بمشروب أو رضعة غير تامة من امرأة أخرى ، ثم أرضعت الاولى رضعة تامة ، ثم اغتذى
أو ارتضع من اخرى إما ثانية أو غيرها رضعة غير تامة ، وهكذا خمس عشرة مرة نشر
الحرمة بين المرضعة الاولى وبين المرتضع دون المرضعة الثانية لفقد الشرط فيه.
انتهى.
وبالثاني جزم في القواعد فقال : لا يشترط عدم تخلل
المأكول والمشروب بين الرضعات ، بل عدم تخلل رضاع وإن كان أقل من رضعة.
ووجه هذا القول صدق التفريق وعدم التوالي بذلك ، ووجه
الأول ظاهر قوله عليهالسلام في الرواية
المتقدمة «لم يفصل بينها رضعة امرأة» بناء على أن المتبادر من إطلاق الرضعة هي
الكاملة ، ولهذا حمل قولهم عليهمالسلام «عشر رضعات أو
خمس
__________________
الإجماع وحجيته. انتهى.
أقول
: لا يخفى أن هذا الاشكال لا خصوصية له بهذه المسألة ، بل هو جار في جميع المسائل
التي لم يرد فيه نص صحيح ، وهي أكثر من أن تحصى في أبواب الفقه ولو تم ما ذكروه من
الاقتصار في الاستدلال على النص الصحيح لكان الواجب عليهم الخروج الى دين آخر غير
هذا الدين وشريعة أخرى ، كما لا يخفى على المتأمل المصنف ، مع أنه غير موضع قد عمل
بالأخبار الموثقة ، وكذا غيره ، وتستروا بما هو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن
البيوت ، والله العالم. (منه ـ قدسسره ـ).
عشرة رضعة» على الرضعات الكاملة ، إلا
أنه أيضا يحتمل الحمل على المسمى (1) فيكون دليلا للثاني أيضا ، والمسألة
لذلك لا تخلو من شوب التوقف والاشكال.
وظاهره في المسالك الميل إلى الثاني ، قال السيد السند
في شرح النافع : وكما يقدح الفصل بالرضعة في توالي العدد المعتبر كذا يقدح في رضاع
اليوم والليلة ، بل يقدح تناول المأكول والمشروب أيضا بخلاف العدد ، وأما التقدير
بالأثر فالمعتبر حصوله كيف كان. انتهى ، وهو جيد ، والله العالم.
و (ثالثها) في الارتضاع من الثدي ، والمشهور بين الأصحاب
اعتباره ، وأنه لو وجر في حلقه أو وصل إلى جوفه بحقنة ونحوها أو جعل جبنا فأكله لم
ينشر حرمة ، وقال ابن الجنيد : ان كلما ملأ بطن الصبي بالمص أو الوجور محرم للنكاح
وقد تقدمت عبارته المشتملة على هذا الكلام.
ورده الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن المفهوم من الرضاع
المستفاد من الكتاب والسنة هو ما كان من الثدي ، فيقال لمن التقم الثدي ومص اللبن
منه إنه ارتضع ، ولا يقال لمن شربه من إناء أو وجر في حلقه إنه ارتضع ، وهذا أمر
شائع ذائع بين الناس ، فإنهم لشربهم الألبان من الأواني لا يقال : إنهم ارتضعوا من
البهائم وحينئذ فلا يدخل تحت إطلاق الرضاع المذكور في الآيات والأخبار.
ويؤيده ما رواه في الكافي عن الحلبي (2) في الصحيح أو
الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «جاء
رجل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : يا
أمير المؤمنين إن امرأتي حلبت من لبنها في مكوك (3) فأسقته جاريتي
فقال : أوجع امرأتك وعليك بجاريتك».
__________________
(1) وهو تحقق الانقطاع وعدم التوالي بأقل من رضعة ، ونقل عن
ظاهر عبارة المبسوط وعبارة الشرائع. (منه ـ قدسسره ـ).
(2) الكافي ج 5 ص 445 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 298 ح 1.
(3) المكوك : كتنور ـ طاس يشرب منه.
وفي حديث محمد بن قيس (1) قال : «سألته
عن امرأة حلبت من لبنها فأسقت زوجها لتحرم عليه قال : أمسكها وأوجع ظهرها».
وفيهما إشعار بأنها إذا استحقت التأديب في سقي لبنها
البالغ كما هو ظاهر الخبرين ، فبطريق الأولى إذا أسقته الصغير وإن كان لا يوجب
تحريما في الموضعين.
أقول : ومما يدل على القول المشهور قول أبي عبد الله عليهالسلام في رواية
زرارة (2) «لا يحرم من
الرضاع إلا ما ارتضعا من ثدي واحد حولين كاملين».
وفي رواية العلاء بن رزين (3) «لا يحرم من
الرضاع إلا ما ارتضع من ثدي واحد سنة».
ولا ينافي ذلك اشتمال الروايتين على ما هو متروك
بالاتفاق كما تقدم ، لأن طرح بعض الخبر لقيام الدليل على خلافه لا ينافي طرح ما لا
دليل على خلافه.
واستدل في المختلف لابن الجنيد ناسبا الاستدلال إليه ،
كما هو عادته غالبا في الكتاب المذكور ، فقال : احتج ابن الجنيد بما رواه جميل بن
دراج في الصحيح (4) عن الصادق عليهالسلام قال : «إذا
رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شيء من ولدها». وهو يصدق مع الوجور ، ثم أجاب
عنه بالمنع من صدق الرضاع معه.
وظاهر شيخنا في المسالك أن ابن الجنيد إنما استند هنا
إلى القياس (5) تبعا للعامة ،
قال (قدسسره) بعد نقل قول
ابن الجنيد : ووافق ابن الجنيد على ذلك
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 443 ح 4 ، الوسائل ج 14 ص 298 ح 2.
(2) التهذيب ج 7 ص 317 ح 18 ، الوسائل ج 14 ص 292 ح 8.
(3) التهذيب ج 7 ص 318 ح 23 ، الفقيه ج 3 ص 307 ح 13 ، الوسائل
ج 14 ص 286 ح 13.
(4) التهذيب ج 7 ص 321 ح 33 ، الوسائل ج 14 ص 306 ح 3.
(5) أقول : العجب من أصحابنا في طعنهم على ابن الجنيد في غير
موضع كما عرفت في هذا الكتاب بالعمل بالقياس لما علم من كلام أهل البيت عليهمالسلام في ذم
جماعة من العامة استنادا إلى الغاية
المطلوبة من الرضاع وهو إنبات اللحم واشداد العظم ، وهي حاصلة بالوجور كما تحصل
بالرضاعة ، ولأنه يصل إلى الجوف كما يصل بالارتضاع ، فيجب أن يساويه في التحريم.
وبالجملة فمرجع استدلالهم إلى قياس الوجور على الامتصاص
من الثدي لاشتراكهما في العلة المستنبطة أو المومي إليها في قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (1) «لإرضاع إلا ما
شد العظم وأنبت اللحم». وحينئذ فمرجع النزاع معهم إلى منع القياس مطلقا واختلاله
في المتنازع لا إلى منع صدق الرضاعة والإرضاع بهذا الفعل كما هو المشهور في جوابهم
، وحال العامة في القياس معلوم ، وابن الجنيد يوافقهم عليه ، انتهى.
أقول : يمكن أن يكون مستند ابن الجنيد في هذا القول ما
رواه الصدوق في الفقيه مرسلا (2) قال : وقال
أبو عبد الله عليهالسلام «وجور الصبي
اللبن بمنزلة الرضاع». وهي صريحة في مدعاه ، وحملها على التقية ممكن ، بل هو
الظاهر لما عرفت من اتفاق الأصحاب على خلافه مضافا إلى ظاهر الروايتين المتقدمتين
، واتفاقهم سيما المتقدمين منهم مثمر للعلم العادي بكون ذلك هو مذهب أئمتهم.
وربما يتوهم من نقل الصدوق الرواية المذكورة في كتابه
القول بها بناء على قاعدته في صدر كتابه ، فيكون قائلا بما قاله ابن الجنيد.
وفيه ما أوضحناه في شرحنا على الكتاب المذكور من أنه لا
يخفى على المتتبع له أنه لم يقف على هذه القاعدة ، ولم يلتزم ما تضمنه من الفائدة
لحصول
__________________
القياس والعمل به ، وأن القائل به لا أقل يكون فاسقا ، فكيف مع
هذا يعتبرون أقوال ابن الجنيد ويعتمدون بها ، والحال كما سمعت ، بل الواجب إخراجه
من عداد علماء الشيعة بالكلية كما لا يخفى. (منه ـ قدسسره ـ).
(1) سنن أبى داود ج 2 ص 222 ح 2060.
(2) الفقيه ج 3 ص 308 ح 23 ، الوسائل ج 14 ص 298 ح 3.
المناقضة في جملة من المواضع التي
أوضحناها ثمة.
وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور ، وربما أشعر كلام
المحقق في الشرائع هنا بموافقة ابن الجنيد أيضا حيث قال : ولا بد من ارتضاعه من
الثدي في قول مشهور تحقيقا لمسمى الارتضاع إلى آخره.
قال في المسالك : واعلم أن نسبة المصنف اشتراط الارتضاع
من الثدي إلى قول مشهور يشعر بتردده فيه ، أو أنه لم يجد عليه دليلا كما هو
المنقول عنه في اصطلاحه وهو يدل على الميل إلى قول ابن الجنيد ، انتهى ، وهو ضعيف.
الثالث : لا خلاف بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يشترط في الرضاع المحرم أن يكون المرضعة حية ،
فلو ارتضع من ميتة العدد أو تمامه لم ينشر حرمة ، ويدل عليه ظاهر الآية وهي قوله
تعالى (1) «وَأُمَّهاتُكُمُ
اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ» حيث نسب إليها
بالمباشرة والإرادة للارتضاع ، والميتة ليست كذلك.
ويؤيده أن الأصل الإباحة حتى يقوم دليل التحريم ، وليس
في النصوص ما يدل على ذلك ، والأخبار وإن كان أكثرها مطلقا إلا أن جملة منها دلت
على ما دلت عليه الآية من إسناد الإرضاع إلى المرأة الموجب لكونها حية قاصدة مريدة
لذلك ، وإذا ضمت الأخبار بعضها إلى بعض بحمل مطلقها على مقيدها ثم الاستدلال بها.
ويؤيده أيضا أن من القواعد المقررة في كلامهم أن الإطلاق
في الأخبار إنما يحمل على الأفراد المتكررة المتكاثرة ، دون الفروض النادرة خصوصا
في هذا الموضع ، فإن ذلك إنما هو أمر فرضي لم تقع ولا يكاد يقع.
فإن قيل : إنه لا خلاف في أنه لو التقم الصبي ثدي المرأة
وهي نائمة وامتص من لبنها فإنه يتحقق التحريم بذلك ، ومنه يعلم أن القصد إلى
الإرضاع وفعله من المرضعة غير شرط.
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 23.
قلنا : لا ريب في دلالة المذكورة والأخبار بعد ضم بعضها
على ما قلناه ، وخروج هذا الفرد المذكور ـ لقيام الدليل عليه وهو اتفاق الأصحاب
على ذلك ـ لا يوجب خروج ما لا دليل عليه ، بل يجب البقاء على ما دلت عليه تلك
الأدلة ، ويكون من قبيل العام المخصوص فلا يرد ما أورده في المسالك من أنه غير شرط
إجماعا ، فإن فيه أن ظاهر الآية والأخبار شرطيته.
وخروج هذا الفرد منه بدليل لا ينافي ذلك ولا يوجب التعدي
إلى الميتة ونحوها كما يدعيه ، وبذلك يتم الاستدلال كما هو واضح بحمد الملك
المتعال ، والله العالم.
الثالث : من الشروط
المتقدم ذكرها ، أن يكون الرضاع في الحولين ، وهو بالنسبة إلى المرتضع موضع وفاق ،
كما ادعاه جملة منهم ، فيجب أن يكون سنه وقت الرضاع ما دون الحولين ، ويكمل عدد
الرضعات أو ما به يحصل الأثر أو الزمان المقرر فيهما فلو ارتضع بعد استكمالهما
فإنه لا أثر لذلك الرضاع ، وقال ابن الجنيد : إذا كان بعد الحولين ولم يتوسط بين
الرضاعين فطام حرم ، ورده الشهيد في شرح الإرشاد بالضعف لسبق الإجماع عليه ،
وتأخره عنه.
واستدل على القول المشهور بالآية (1) «وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضاعَةَ» وقوله (2) «وَفِصالُهُ
فِي عامَيْنِ» والتقريب أن
مقتضى تحديد الرضاع بالحولين أنه لا عبرة برضاعه بعدهما وإن كان جائزا كالشهر
والشهرين.
وما رواه في الكافي عن منصور بن حازم (3) في الموثق عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا رضاع بعد
فطام ، ولا وصال في صيام ، ولا يتم بعد احتلام ، ولا صمت يوما إلى الليل ، ولا
تعرب بعد الهجرة ، ولا هجرة بعد الفتح ، ولا طلاق
__________________
(1) سورة البقرة ـ آية 233.
(2) سورة لقمان ـ آية 14.
(3) الكافي ج 5 ص 443 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 290 ح 1.
قبل النكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا
يمين للولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ولا للمرأة مع زوجها ، ولا نذر في
معصية ، ولا يمين في قطيعة». فمعنى قوله (1) «لا رضاع بعد
فطام» أن الولد إذا شرب لبن المرأة بعد ما تفطمه لا يحرم ذلك الرضاع المناكح.
ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم (2) وطريقه إليه
صحيح ، وترك التفسير الذي في آخره.
وعن الحلبي (3) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «لا
رضاع بعد فطام».
وعن الفضل بن عبد الملك (4) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «الرضاع
قبل الحولين قبل أن يفطم».
ووصف السيد السند هذه الرواية ـ في شرح النافع ـ بالصحة
مع أن في سندها عبد الله بن محمد ، وهو بنان أخو أحمد بن محمد بن عيسى ، وحاله في
الرجال غير معلوم وهو سهو منه (قدسسره).
وعن حماد بن عثمان (5) قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام «يقول لا رضاع
بعد فطام قلت : وما الفطام؟ قال : الحولان اللذان قال الله عزوجل».
ويدل على ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه في التهذيب
والفقيه في الموثق عن داود بن الحصين (6) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «الرضاع
بعد الحولين قبل أن
__________________
(1) أقول : هذا التفسير من صاحب الكافي كما صرحنا به في آخر
البحث. (منه ـ قدسسره ـ).
(2) الفقيه ج 3 ص 227 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 290 ح 1.
(3 و 4 و 5) الكافي ج 5 ص 443 ح 1 و 2 و 3 ، الوسائل ج 14 ص
291 ح 2 و 4 و 5.
(6) التهذيب ج 7 ص 318 ح 22 ، الفقيه ج 3 ص 306 ح 7 ، الوسائل
ج 14 ص 292 ح 7.
يفطم يحرم».
وحمله الشيخ في التهذيبين على التقية وقال في التهذيب
أيضا : أنه خبر نادر شاذ مخالف للأخبار كلها ، وما هذا سبيله لا يعترض به الأخبار
الكثيرة ، وهو جيد لمخالفته لظاهر القرآن والأخبار المذكورة المؤيدة بعمل الطائفة
قديما وحديثا. بقي الكلام هنا في مواضع أخر.
(أحدها) الأشهر الأظهر أنه لا فرق في التحريم بالرضاع
قبل الحولين بين أن يفطم في ضمن الحولين قبل الرضاع ثم يرتضع في ضمنها أو لم يفطم
لصدق الرضاع في الحولين الموجب للتحريم ، وربما ينسب إلى ظاهر كلام ابن أبي عقيل
الخلاف في ذلك وأنه بعد الفطام في الصورة المذكورة لا يحرم حيث قال : الرضاع الذي
يحرم عشر رضعات قبل الفطام ، فمن شرب بعد الفطام لم يحرم ذلك الشرب. انتهى.
واستدل له في المختلف برواية الفضيل المتقدمة ، ثم أجاب
عنها بأن المراد من قوله «قبل أن يفطم» يعني قبل أن يستحق الفطام وهو جيد ، فإن
الظاهر أن مرادهم عليهمالسلام من قولهم «لا
رضاع بعد فطام» يعني بعد تمام المدة المحدودة شرعا للرضاع ، وهي الحولان كما صرحت
به رواية حماد بن عثمان (1) حيث قال له
الراوي «وما الفطام؟ قال : الحولان». لا أن المراد حصول الفطام بالفعل أعم من أن
يكون في ظرف المدة أو بعدها ، وعلى هذا فالمراد بقولهم عليهمالسلام «لا رضاع بعد
فطام» يعني بعد مضي المدة التي يفطم بعدها.
ومن المحتمل قريبا أن مراد ابن أبي عقيل ذلك أيضا فيرتفع
الخلاف وعبارته غير صريحة فيما نسب اليه.
و (ثانيها) قال شيخنا (قدسسره) في المسالك
والمعتبر : في الحولين الأهلة ، ولو انكسر الشهر الأول اعتبر ثلاثة وعشرون بالأهلة
وأكمل التكسير بالعدد من
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 318 ح 21 ، الوسائل ج 14 ص 291 ح 5.
الشهر الخامس والعشرين كغيره من
الآجال على الأقوى ، وبنحو ذلك صرح المحقق الثاني في شرح القواعد أيضا.
و (ثالثها) أنه يعتبر ابتداء الحولين من حين انفصال
الولد على ما صرح به في المسالك وغيره في غيره.
و (رابعها) أنه قد صرح جمع من الأصحاب بأن هذا الشرط
مخصوص بالمرتضع الأجنبي ، وإليه ذهب عامة علمائنا المتأخرين.
وأما ولد المرضعة فلا يشترط فيه ذلك بل لو ارتضع الأجنبي
الرضاع المحرم بعد مضي الحولين لولد المرضعة نشر الحرمة ، وذهب آخرون إلى عموم هذا
الشرط لولد المرضعة ، فيشترط أيضا في حصول التحريم بلبنه كونه في الحولين ، فلو
ارتضع الأجنبي بلبنه بعد تمام الحولين أو وقع بعض النصاب خارجهما لم ينشر حرمة
ونقل هذا القول عن السيد بن زهرة وعماد الدين بن حمزة وتقي الدين أبي الصلاح ،
وقواه العلامة في المختلف ثم توقف في المسألة.
وكلام الشيخين (عطر الله مرقديهما) في هذا المقام مطلق
لم يتعرضا فيه لتخصيص الحكم بالمرتضع ، ولا لعمومه للمرتضع وولد المرضعة ، بل جعلا
الشرط هو أن يكون الرضاع في الحولين ، وأنه بعد الحولين لا يحرم ، ونقل في المختلف
الإطلاق في ذلك أيضا عن أكثر علماءنا المتقدمين.
استدل القائلون بالقول الأول بعموم (1) «وَأُمَّهاتُكُمُ
اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» ونحوه من
العمومات ، والتقريب فيها أنها تدل بعمومها على أن المرتضع من لبن من زاد سنه على
الحولين يصدق على مرضعته أنها أم ، واستدلوا أيضا بأن الأصل عدم الاشتراط.
واستدل المتأخرون بعموم قولهم عليهمالسلام في الأخبار
المتقدمة (2) «لا رضاع بعد
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 23.
(2) الكافي ج 5 ص 443 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 317 ح 19 ، الفقيه ج
3 ص 306 ح 6 ، الوسائل ج 14 ص 290 ح 1 وص 291 ح 2.
فطام». فإنه نكرة في سياق النفي فتعم
بالنسبة إلى ولد المرضعة والمرتضع بلبنه ، ورد بأن المتبادر بعد فطام المرتضع دون
ولد المرضعة.
ويؤيده كلام الشيخين المتقدمين محمد بن يعقوب في الكافي
كما تقدم نقله عنه في ذيل موثقة منصور بن حازم من قوله «فمعني لإرضاع بعد فطام الى
آخره» والصدوق في الفقيه حيث «قال : معناه إذا أرضع الصبي حولين كاملين ثم شرب بعد
ذلك من لبن امرأة أخرى ما شرب لم يحرم ذلك الرضاع ، لأنه رضاع بعد فطام» ومآل
الكلامين إلى أمر واحد ، وهو تخصيص الحكم بالمرتضع كما قلنا ، إلا أن الشيخ في
التهذيبين نقل عن ابن بكير كلاما في تفسير الحديث المذكور خلافا لما ذكره الشيخان
المتقدمان.
روى فيهما بطريقه إلى محمد بن أحمد بن يحيى عن أحمد بن
أبي عبد الله عن على بن أسباط (1) قال : «سأل ابن فضال ابن بكير في
المسجد فقال : ما تقولون في امرأة أرضعت غلاما سنتين ثم أرضعت صبية لها أقل من
سنتين حتى تمت السنتان أيفسد ذلك بينهما؟ قال : لا يفسد ذلك بينهما لأنه رضاع بعد
فطام ، وإنما قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا رضاع بعد
فطام أي أنه إذا تم للغلام سنتان أو الجارية فقد خرج من حد اللبن فلا يفسد بينه
وبين من يشرب منه». انتهى.
وأنت خبير بأن كلام الشيخين المتقدمين ليس نصا في
التخصيص بما ذكراه بل من الجائز أن يكون تفسيرا للخبر ببعض أفراده فلا ينافي ما
فسره ابن بكير من الفرد الآخر ، والمسألة لذلك لا تخلو من الاشكال حيث إن ما فهموه
من الخبر من التخصيص بالمرتضع غاية ما تمسكوا به في ذلك هو التبادر كما تقدم.
وفيه ما لا يخفى ، وما تمسكوا به من كلام الشيخين
المذكورين لا يدل على التخصيص بذلك الفرد صريحا فيجوز أن يكون معنى العبارة أعم من
الفردين
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 317 ح 19 ، الوسائل ج 14 ص 291 ح 6.
المذكورين ، وقد فسره الشيخان
المذكوران بأحدهما وابن بكير بالآخر سيما أن الرجل المذكورين يعنى ابن بكير من
أعاظم أفاضل المعاصرين للأئمة عليهمالسلام وثقاتهم وإن
كان فطحيا ، وبالجملة فالمسألة عندي محل إشكال والاحتياط فيها لازم على كل حال.
والله العالم.
الرابع : من الشروط
المتقدمة اتحاد الفحل ، بمعنى أن يكون اللبن لفحل واحد ، وتحقيق الكلام في المقام
أن يقال : لا خلاف في أنه يشترط في الرضاع المحرم أن يكون من امرأة واحدة من لبن
فحل واحد.
ويدل عليه قوله في موثقة زياد بن سوقة (1) «أو خمس عشرة
رضعات متواليات من امرأة واحدة من لبن فحل واحد».
وعلى هذا فلو رضع الصبي بعض النصاب من امرأة ، والمكملة
من اخرى لم ينشر حرمة وإن اتحد الفحل ، وادعي العلامة على ذلك الإجماع.
وكذا لو أرضعته امرأة واحدة من لبن فحلين بأن أرضعته بعض
الرضعات بلبن فحل ثم فارقته ، وأرضعت تمام النصاب بلبن فحل آخر ، فإن ذلك لا ينشر
الحرمة بين المرتضع والمرضعة ، ولا واحد من الفحلين المذكورين ، وعلى هذا الحكم
أيضا ادعى الإجماع في التذكرة (2).
بقي هنا شيء وهو أن الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا
هذا الشرط بهذا العنوان الذي صدرنا به الكلام وهو اتحاد الفحل ، فلو لم يتحد بل
تعدد
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 315 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 282 ح 1.
(2) ثم انه متى اتحد الفحل فان التحريم لا يتعدى للمرتضعين من
أقاربهما ، ويؤيده ما رواه الشيخ في الموثق عن يونس بن يعقوب قال : «سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن امرأة أرضعتني وأرضعت صبيا معى
ولذلك الصبي أخ من أبيه وامه ، فيحل لي أن أتزوج ابنته؟ قال : لا بأس». منه ـ قدسسره ـ). التهذيب ج 7 ص 323 ح 39 ، الوسائل
ج 14 ص 280 ح 3.
لم ينشر اللبن حرمة.
وهذا يشمل صورتين : إحداهما : ما ذكرناه من إرضاع المرأة
بعض النصاب بلبن فحل وتمامه بلبن فحل آخر وإن ندر الفرض ، ويمكن فرض ذلك بأن
يطلقها الزوج الأول بعد أن أرضعت بعض النصاب ، ويستقل الصبي بالمأكول والمشروب دون
إرضاع أجنبية في البين إلى أن تتزوج بزوج آخر وتلد منه ، فإن ذلك لا يضر بالتوالي
كما تقدم وترضع تمام النصاب بلبنه ، فإن تمام هذا الرضاع لعدم اتحاد الفحل لا يوجب
تحريما بين المرتضع والمرضعة. ولا بينه وبين واحد من الفحلين ، وعلى هذا فاشتراط
اتحاد الفحل يجري على نحو الشروط المتقدمة ، بمعنى أن التحريم لا يثبت بفقد الشرط.
وثانيهما : اشتراط اتحاد الفحل في حصول التحريم بين
المرتضعين الأجنبيين بمعنى أنها لو أرضعت بلبن فحل صبيا الرضاع المحرم ، وأرضعت
آخر بلبن فحل آخر الرضاع المحرم أيضا لم يحصل التحريم بين المرتضعين ، فيجوز
لأحدهما التزويج بالآخر لو كانا صبيا وصبية على المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون
إجماعا.
وذهب أمين الإسلام الطبرسي (قدسسره) إلى التحريم
، واختاره المحدث الكاشاني في الوافي والمفاتيح ، وعلى هذا فهذا الشرط ليس على نهج
الشروط المتقدمة لأن التحريم هنا ثابت بين المرتضع الأول وكذا الثاني وبين المرضعة
وبين كل من المرتضعين وفحله الذي شرب بلبنه ، وإنما انتقى التحريم بين المرتضعين
خاصة ، فاعتبار هذا الشرط إنما هو لثبوت التحريم بين المرتضعين خاصة.
وحاصل هذا الشرط أنه إذا ارتضع ذكر وأنثى من لبن فحل
واحد سواء كان رضاعهما دفعة أم على التعاقب ، وسواء كان رضاعهما بلبن ولد واحد أم
ولدين متباعدين فإنه يحرم أحدهما على الآخر ، ولو أرضعت مائة بلبن فحل واحد كذلك
حرم بعضهم على بعض.
ولا فرق مع اتحاد الفحل بين أن يتحد المرضعة أو يتعدد
بحيث يرتضع
أحدهما من إحداهن كمال العدد المعتبر
، والآخر من الأخرى كذلك ، وإن بلغن مائة كالمنكوحات بملك اليمين والعقد المنقطع.
ولو فرض في الأولاد المتعددين رضاع ذكر وأنثى من واحدة
بلبن فحل واحد ، ثم رضاع آخرين من تلك المرأة بلبن فحل آخر ، وهكذا فإنه يأتي بناء
على المشهور من اشتراط هذا الشرط بين المرتضعين تحريم كل أنثى رضعت مع ذكرها من
لبن الفحل الواحد عليه ، وعدم تحريمها على الآخر وعلى هذا ، وحينئذ فيكفي الاخوة
في الرضاع من قبل الأب ، ولا يكفى من جهة الأم وحدها وهذا معنى قولهم «اللبن للفحل».
والذي يدل على قول المشهور ما رواه في الكافي والتهذيب (1) عن الحلبي في
الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يرضع
من امرأة وهو غلام ، أيحل له أن يتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ فقال : إن كانت
المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا يحل ، وإن كانت المرأتان رضعتا
من امرأة واحدة من لبن فحلين فلا بأس بذلك».
وهي صريحة في القول المذكور ، وأنه مع اتحاد المرضعة
وتعدد الفحل لا يثبت التحريم بين المرتضعين.
وعن عمار الساباطي (2) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن غلام أرضع
من امرأة ، أيحل له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاعة؟ قال : فقال : لا قد رضعا
جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة ، قال : قلت : فيتزوج أختها لأمها من
الرضاعة؟ قال : فقال : لا بأس بذلك إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 443 ح 11 ، التهذيب ج 7 ص 321 ح 31 ، الوسائل
ج 14 ص 294 ح 3.
(2) التهذيب ج 7 ص 320 ح 29 ، الكافي ج 5 ص 442 ح 10 ، الوسائل
ج 14 ص 294 ح 2.
غير فحل الذي أرضعت الغلام ، فاختلف
الفحلان فلا بأس».
وما تقدم في موثقة زياد بن سوقة (1) من قول أبي
جعفر عليهالسلام «من امرأة
واحدة من لبن فحل واحد».
وما رواه في الكافي عن بريد بن معاوية العجلي (2) في الصحيح قال
: «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قول الله عزوجل (3) «وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً» إلى أن قال :
فقلت له : أرأيت قول رسول الله صلىاللهعليهوآله «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب» فسر لي ذلك ، فقال : كل امرأة أرضعت من لبن فحلها ولد
امرأة أخرى من جارية أو غلام فذلك الرضاع الذي قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «وكل امرأة
أرضعت من لبن فحلين كانالها واحدا بعد واحد من جارية أو غلام» فإن ذلك رضاع ليس
بالرضاع الذي قال رسول الله صلىاللهعليهوآله «يحرم من الرضاع
ما يحرم من النسب» وإنما هو من نسب ناحية الصهر رضاع ولا يحرم شيئا ، وليس هو سبب
رضاع من ناحية لبن الفحولة فيحرم».
والروايتان الأولتان دليل على الصورة الثانية من
الصورتين المتقدمتين ، والثالثة شاملة بإطلاقها للصورتين المذكورتين ، والرابعة
دليل على الصورة الأولى القابلة باتحاد الفحل في إكمال النصاب وعلى هذا يكون قوله «واحدا
بعد واحد» حالا من «فحلين كانا لها» ، وقوله «من جارية أو غلام» مفعول بزيادة من «أرضعت».
ولا يتوهم أن قوله «واحدا بعد واحد» مفعول ل «أرضعت»
ويكون المعنى أنها أرضعت اثنين أحدهما بعد الآخر من لبن فحلين متعددين كل واحد من
لبن فحل ، فتكون الرواية دليلا للصورة الثانية ، فإن هذا ظاهر البطلان حيث إنه عليهالسلام نفى حصول
التحريم رأسا بمعنى لا يحصل تحريم بهذا الرضاع بالكلية لا بالنسبة
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 315 ح 12 ، الوسائل ج 14 ص 282 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 442 ح 9 ، الوسائل ج 14 ص 293 ح 1.
(3) سورة الفرقان ـ آية 54.
إلى المرتضع والمرتضعة ولا بالنسبة
إلى سائر الطبقات والمراتب من الأخوات والبنات والعمات والخالات ، حيث قال : فإن
ذلك رضاع ليس بالرضاع الذي عناه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع أنه لا
خلاف في تعدي التحريم الى الطبقات وكذا بين المرتضع والمرضعة والفحل ، وإنما
الخلاف في حصوله بين المرتضعين وحينئذ فلا يجوز أن تحمل الرواية على ذلك.
والذي يدل على القول الآخر عموم قوله عزوجل (1) «وَأَخَواتُكُمْ
مِنَ الرَّضاعَةِ» وعموم الروايات
المتقدمة من قولهم عليهمالسلام (2) «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب».
ولا ريب أن الاخوة من الأم محرمة في النسب فيجب أن يكون
في الرضاع كذلك عملا بالأخبار المذكورة.
وتدل عليه رواية محمد بن عبيدة الهمداني (3) قال : «قال
الرضا عليهالسلام : ما يقول
أصحابك في الرضاع؟ قال : قلت : كانوا يقولون : اللبن للفحل ، حتى جاءتهم الرواية
عنك أنك تحرم من الرضاع ما تحرم من النسب ، فرجعوا إلى قولك ، قال : فقال لي :
وذلك لأن أمير المؤمنين سألني عنها البارحة ، فقال لي : اشرح لي اللبن للفحل ،
وأنا أكره الكلام ، فقال لي : كما أنت حتى أسألك عنها ، ما قلت في رجل كانت له
أمهات أولاد شتى ، فأرضعت واحدة منهن بلبنها غلاما غريبا ، أليس كل شيء من ولد
ذلك الرجل من أمهات الأولاد الشتى محرما على ذلك الغلام؟ قال : قلت : بلى ، قال :
فقال لي أبو الحسن عليهالسلام : فما بال
الرضاع يحرم
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 23.
(2) الكافي ج 5 ص 437 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 292 ح 60 ، الوسائل
ج 14 ص 281 ح 4.
(3) الكافي ج 5 ص 441 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 320 ح 30 ، الوسائل
ج 14 ص 295 ح 9.
من قبل الفحل ، ولا يحرم من قبل
الأمهات؟ وإنما حرم الله الرضاع من قبل الأمهات ، وإن كان لبن الفحل أيضا يحرم».
قال المحدث الكاشاني (رحمة الله عليه) في الوافي ـ بعد
ذكر صحيحة بريد المتقدمة حيث إنه اختار هذا القول ـ ما نصه : وهذا الخبر يدل على
أن مع تعدد الفحل لا يحصل الحرمة وإن كانت المرضعة واحدة.
وهذا مخالف لقوله تعالى «وَأَخَواتُكُمْ
مِنَ الرَّضاعَةِ» وقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». وقول الرضا عليهالسلام في حديث محمد
بن عبيدة الهمداني «فما بال الرضاع». ثم ذكر تمام الخبر إلى أن قال : وقد قالوا
صلوات الله عليهم (1) : «إذا جاءكم
حديث فأعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف فردوه». فما بال
أكثر أصحابنا أخذوا بهذه الأخبار الثلاثة. انتهى.
وقريب منه ما ذكره في المفاتيح أيضا وزاد فيه احتمال حمل
مستند القول المشهور على التقية.
وما ذكره (قدسسره) جيد ، إلا
أنه يبقى الاشكال فيما يحمل عليه الأخبار التي هي مستند القول المشهور ، وهو في
المفاتيح وإن احتمل الحمل فيها على التقية ، إلا أن جملة من الأصحاب صرحوا بأن
مذهب العامة إنما هو ما ذهب إليه أصحاب هذا القول الآخر ، وعلى هذا فالحمل المذكور
غير تام.
وممن صرح بذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فإنه
قال ـ بعد ذكر الصورتين المتقدمتين وكلام ثمة في البين ـ ما صورته : وعلى هذا
فيكفي الاخوة في الرضاع من جهة الأب وحده ، ولا يكفى من جهة الأم وحدها ، وهذا
معنى قولهم «اللبن للفحل».
وخالفنا الجمهور في الأمرين معا لعدم الدليل على
اعتبارهما مع عموم الأدلة المتناولة لمحل النزاع ، واستند أصحابنا في الشرطين معا
إلى رواياتهم ، ثم ساق
__________________
(1) الوسائل ج 18 ص 84 ح 29.
الروايات المتقدمة.
وممن صرح بذلك أيضا ابن إدريس في السرائر فقال : وإن كان
لامة من الرضاع بنت من غير أبيه من الرضاع ، فهي أخته لامه عند المخالفين من
العامة لا يجوز له أن يتزوجها ، وقال أصحابنا الإمامية بأجمعهم : يحل له أن
يتزوجها ، لأن الفحل غير الأب ، انتهى.
وقال الفاضل العماد مير محمد باقر المشهور بالداماد ـ في
رسالته التي في التنزيل ـ ما صورته : من الذايعات عند الأصحاب أن انتشار حرمة
الرضاع في الطبقات الرضاعية اشتراط صاحب اللبن ، بل العلامة في التذكرة قد ادعى
فيه الإجماع.
وفقهاء العامة وأمين الإسلام أبو علي الطبرسي صاحب
التفسير (رحمهالله) من الخاصة
يسقطون هذا الشرط ، انتهى.
وبذلك يظهر لك بطلان ما احتمله في المفاتيح من حمل أخبار
القول المشهور على التقية ، وعلى ذلك يعظم الإشكال إلا أنه يمكن أن يقال في جواب
ما ذكره المحدث الكاشاني هنا ـ بناء على ما ذكرناه من مذهب العامة ، وهو ما ذهب
إليه الطبرسي في المسألة ـ : أنه كما ورد عرض الأخبار على القرآن والأخذ بما وافقه
وطرح ما خالفه كذلك ورد أيضا العرض على مذهب العامة ، والأخذ بما خالفهم وطرح ما
وافقهم.
وقد دريت مما نقله هؤلاء الأجلاء أن العامة لا يشترطون
اتحاد الفحل لا في الصورة الاولى ولا الثانية ، فتكون هذه الأخبار مخالفة لهم ،
ورواية الهمداني موافقة لهم على أن للمنازع أن يناقش في دلالة الآية على ما ادعوه
من شمولها لهذا الفرد ، فإن غاية ما يدل عليه التحريم في صورة الاخوة من الرضاعة ،
والأصحاب لا يقولون بحصول الاخوة مع تعدد الفحل ، بل هو أول المسألة كما لا يخفى.
نعم يبقى الكلام في الروايات الدالة على أنه «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». ، ولا ريب في تحريم الاخوة من الأم في النسب ، فيكون في
الرضاع كذلك ، ويمكن أن يقال : إنه لا عام إلا وقد خص ، ولا مطلق إلا وقد قيد ،
فيجب تخصيص هذه الأخبار الدالة على اشتراط اتحاد الفحل ، فتحمل الأخبار المذكورة
على ما سواه لهذا الفرد ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور والاحتياط في مثل ذلك مما
ينبغي المحافظة عليه ، والله العالم.
تنبيه
قد عرفت أن محل الخلاف في الصورة الثانية هو ما إذا كان
المرتضعان أجنبيين ، وحينئذ فلو كان أحدهما ابنها نسبا وإن لم يكن من الفحل الذي
أرضعت بلبنه ، فإنه يحرم على هذا المرتضع.
قال في المسالك : لما كان تحريم الرضاع تابعا لتحريم
النسب ، وكان الاخوة من الأم كافية في التحريم النسبي ، فالرضاع كذلك ، إلا أنه
خرج من هذه القاعدة ، الاخوة من الام من جهة الرضاع خاصة بتلك الروايات ، فيبقى
الباقي على العموم فيحرم أولاد المرضعة بالنسب على المرتضع وإن كانوا من الأم خاصة
، بأن يكونوا أولاد الفحل ، عملا بالعموم مع عدم وجود المخرج عنه ، كما يحرم على
هذا المرتضع أولاد الفحل من النسب. وإن لم يكونوا إخوة من الام لتحقق الاخوة
بينهما في الجملة ، انتهى.
أقول : ويدل عليه بالخصوص أيضا موثقة جميل بن دراج (1) عنه عليهالسلام قال : «إذا
رضع الرجل من لبن امرأة حرم عليه كل شيء من ولدها وإن كان الولد من غير الرجل
الذي كان أرضعته بلبنه : وإذا رضع من لبن الرجل حرم عليه كل شيء من ولده وإن كان
من غير المرأة التي أرضعته». وهي صريحة في المراد.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 321 ح 33 ، الوسائل ج 14 ص 306 ح 3.
تذييل فيه تكميل
قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يستحب أن يختار
للرضاع المرأة العاقلة المسلمة العفيفة الوضيئة لأن الرضاع يؤثر في الطباع والصورة
، وأنه يكره أن تسترضع الكافرة إلا مع الضرورة وعلى هذا ينبغي أن تسترضع الذمية.
ويتأكد الكراهة في المجوسية وأنه يمنعها شرب الخمر وأكل
لحم الخنزير ، ولا يسلم لها الولد إلى منزلها ، وأنه يكره أن تسترضع من لبن من
ولادتها عن الزنا وإن كانت أمة أحلها مولاها.
أقول : والذي يدل على الحكم الأول جملة من الاخبار منها
ما رواه في الكافي عن محمد بن مروان (1) قال : «قال لي أبو جعفر عليهالسلام : استرضع
لولدك بلبن الحسان ، وإياك والقباح : فإن اللبن قد يعدي».
وعن زرارة (2) عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : «عليكم
بالوضاء من الظؤرة ، فإن اللبن يعدي».
وعن غياث بن إبراهيم (3) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : «قال
أمير المؤمنين عليهالسلام : انظروا من
ترضع أولادكم ، فإن الولد يشب عليه».
وعن محمد بن قيس (4) عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله لا تسترضعوا
الحمقاء ، فإن اللبن يعدي ، وإن الغلام ينزع إلى اللبن ـ يعني ـ إلى الظئر في
الرعونة والحمق».
__________________
(1 و 2) الكافي ج 6 ص 44 ح 12 و 13، التهذيب ج 8 ص 110 ح 25 و
26، الفقيه ج 3 ص 307 ح 17 ، الوسائل ج 15 ص 189 ب 79 ح 1 و 2.
(3) الكافي ج 6 ص 44 ح 10 ، الوسائل ج 15 ص 187 ب 78 ح 1.
(4) الكافي ج 6 ص 43 ح 8 ، التهذيب ج 8 ص 110 ح 24 ، الفقيه ج
3 ص 307 ح 19 ، الوسائل ج 15 ص 188 ح 2.
وما رواه الصدوق في كتاب عيون أخبار الرضا (1) عن الرضا عليهالسلام عن آبائه عليهمالسلام قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله لا تسترضعوا
الحمقاء ولا العمشاء فإن اللبن يعدي».
وبهذا الاسناد (2) قال : «ليس للصبي لبن خير من لبن أمه».
وما رواه في كتاب قرب الاسناد (3) عن جعفر عن
أبيه عليهمالسلام «إن عليا عليهالسلام كان يقول :
تخيروا للرضاع كما تخيرون للنكاح : فإن الرضاع يغير الطباع».
وأما ما يدل على الثاني على كراهة الارتضاع من الكافرة ،
فالأخبار المتقدمة الدالة على أن للبن تأثيرا في الولد مطلقا كذا قيل.
وفيه أن غاية ما يدل عليه الأخبار المشار إليها هو المنع
من القبيحة الصورة والحمقاء ونحوهما.
وأما اشتراط الايمان والإسلام فلم أقف عليه في شيء من
الأخبار ، بل الأخبار دالة على جواز الارتضاع من الكافرة كما رواه في الكافي
والفقيه عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (4) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام : هل يصلح
للرجل أن ترضع له اليهودية والنصرانية والمشركة؟ قال : لا بأس ، وقال : امنعوهن من
شرب الخمر». وهو شامل لجميع أصناف الكفار.
وقد تكاثرت الأخبار بالاذن باسترضاع الذمية ، وإنما وقع
النهي عن المجوسية.
فروى في الكافي عن سعيد بن يسار (5) في الصحيح عن
أبي عبد الله عليهالسلام قال :
__________________
(1 و 2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 33 ح 67 و 69 طبع النجف الأشرف
الوسائل ج 15 ص 188 ح 4 و 5.
(3) قرب الاسناد ص 45 ، الوسائل ج 15 ص 188 ح 6.
(4 و 5) الكافي ج 6 ص 43 ح 4 وص 44 ح 14 ، التهذيب ج 8 ص 109 ح
22 وص 110 ح 23، الوسائل ج 15 ص 186 ح 5 وص 185 ح 1.
لا تسترضئوا للصبي المجوسية ، وتسترضع
له اليهودية والنصرانية ، ولا يشربن الخمر ويمنعن من ذلك».
وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي في الحسن عن عبد الله بن
هلال (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن مظائرة المجوسي؟ فقال : لا ، ولكن أهل الكتاب».
وعن الحلبي (2) في الصحيح قال : «سألته عن رجل دفع
ولده إلى ظئر يهودية أو نصرانية أو مجوسية ترضعه في بيتها أو ترضعه في بيته؟ قال :
ترضعه لك اليهودية والنصرانية في بيتك ، وتمنعها من شرب الخمر ، وما لا يحل مثل
لحم الخنزير ، ولا يذهبن بولدك إلى بيوتهن ، والزانية لا ترضع ولدك ، فإنه لا يحل
لك ، والمجوسية لا ترضع لك ولدك إلا أن تضطر إليها».
والمستفاد من هذه الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض هو جواز
استرضاع الذمية من غير كراهة ، وكراهة استرضاع المجوسية.
وربما أشعر قوله في خبر الحلبي «إلا أن تضطر إليها»
بالتحريم إلا أنك قد عرفت من رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله ما يدل على استرضاع
الكافرة مطلقا وأما ما ذكروه من منعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وأن تذهب به
إلى بيتها ، فقد عرفت الدلالة عليه من هذه الأخبار.
ويؤيده تأييدا ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن علي بن
جعفر (3) عن أخيه موسى
بن جعفر عليهالسلام قال : «سألته
عن الرجل المسلم هل يصلح له أن يسترضع اليهودية والنصرانية وهن يشربن الخمر قال :
امنعوهن عن شرب الخمر ما أرضعن لكم».
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 42 ح 2 ، التهذيب ج 8 ص 109 ح 21 ، الوسائل ج
15 ص 186 ح 3.
(2) التهذيب ج 8 ص 116 ح 50 ، الوسائل ج 15 ص 186 ح 6.
(3) قرب الاسناد ص 117 ، الوسائل ج 15 ص 186 ح 7.
وأما ما يدل على الثالث من الأخبار ، فأما بالنسبة إلى
كراهية الاسترضاع من لبن الزانية فمنه ما رواه في الكافي عن علي بن جعفر (1) في الصحيح عن
أخيه أبي الحسن عليهالسلام قال : «سألته
عن امرأة ولدت من زنا هل يصلح أن يسترضع بلبنها؟ قال : لا يصلح ولا لبن ابنتها
التي ولدت من الزنا».
وعن الحلبي (2) في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : امرأة ولدت
من الزنا أتخذها ظئرا؟ قال : لا تسترضعها ولا ابنتها».
وفي هذين الخبرين زيادة كراهة استرضاع من ولدت من الزنا
ولم يذكره الأصحاب وقد تقدم في صحيحة الحلبي «والزانية لا ترضع ولدك ، فإنه لا يحل
لك». وربما أشعر هذه الأخبار بالتحريم سيما الأخير حيث لا معارض لها يدل على
الجواز إلا أن المشهور بين الأصحاب إنما هو الكراهة.
وأما بالنسبة إلى ما ذكروه من استصحاب الكراهة وإن أحل
مولى الجارية الزانية فعلته ، فعلل أن إحلال ما مضى من الزنا لا يرفع إثمه ، ولا
يزيل حكمه ، فكيف يطيب لبنه.
قال في الشرائع ـ بعد ذكر الحكم المذكور كما هو المشهور
ـ وروي أنها إن أحلها مولاها فعلها طاب لبنها ، وزالت الكراهة ، وهو شاذ.
أقول : لا يخفى أنه قد تكاثرت الأخبار برفع الكراهة مع
التحليل من غير معارض ، فما ذكروه مجرد اجتهاد في مقابلة النص ، لا ينبغي أن يلتفت
إليه ولا يعول عليه.
ومن ذلك ما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح أو
الحسن عن
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 44 ح 11 ، الوسائل ج 15 ص 184 ح 1.
(2) الكافي ج 6 ص 42 ح 1 ، التهذيب ج 8 ص 108 ح 16 ، الوسائل ج
15 ص 184 ح 4.
(3) الكافي ج 6 ص 43 ح 5 ، التهذيب ج 8 ص 109 ح 20 ، الفقيه ج
3 ص 308 ح 21 ، الوسائل ج 15 ص 184 ح 2.
أبي جعفر عليهالسلام قال : «لبن
اليهودية والنصرانية والمجوسية أحب إلى من لبن ولد الزنا ، وكان لا يرى بأسا بلبن
ولد الزنا إذا جعل مولى الجارية الذي فجر بالجارية في حل» ، ورواه الصدوق بإسناده
عن حريز عن محمد بن مسلم.
وعن هشام بن سالم وجميل بن دراج وسعد بن أبي خلف (1) جميعا في
الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «في المرأة
يكون لها الخادم قد فجرت ، فتحتاج إلى لبنها؟ قال : مرها فلتحللها يطيب اللبن».
وعن إسحاق بن عمار (2) قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن غلام لي
وثب على جارية لي فأحبلها فولدت واحتجنا إلى لبنها فإنى أحللت لهما ما صنعا ، أيطيب
لبنها؟ قال : نعم».
ولا يخفى عليك ما هي عليه من الضراحة في الحكم المذكور
مع صحة السند ، فردها وعدم الاعتداد بها من غير معارض مشكل ، ومن ثم قال في
المسالك بعد ذكر التعليل الذي قدمنا نقله عنهم ، وهذا في الحقيقة استبعاد محض مع
ورود النصوص الكثيرة به التي لا معارض لها : وحمل بعض الأصحاب الرواية المذكورة
على ما إذا كانت الأمة قد تزوجت بدون إذن مولاها ، فإن الأولى له إجازة العقد
ليطيب اللبن ، وهو مع بعده يتوقف على وجود المعارض ، والله العالم.
المقام الثاني في الأحكام :
وتحقيق الكلام في ذلك يقع في موارد.
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 43 ح 7 ، التهذيب ج 8 ص 109 ح 19 ، الوسائل ج
15 ص 184 ح 3.
(2) الكافي ج 6 ص 43 ح 6 ، التهذيب ج 8 ص 108 ح 8 ، الوسائل ج
15 ص 185 ح 5.
الأول : اعلم أن
المستفاد من النصوص المتقدمة في صدر هذا المطلب هو أن المرتضع بالشروط المتقدمة
يصير بالنسبة إلى المرضعة والفحل في حكم الولد النسبي في انتشار الحرمة منه إليهما
ومنهما إليه ، فالتي انتشرت منه إليهما هو أنه صار في حكم ابنهما النسبي في تعدي
الحرمة إليهما وإلى أصولهما وفروعهما ومن في طبقتهما سواء كانوا من جهة النسب أو
الرضاع بمعنى أن المرضعة تصير اما والفحل أبا ، وآبائهما وأمهاتهما أجدادا وجدات ،
وأولادهما إخوة وأولاد أولادهما أبناء الاخوة ، وإخوة المرضعة وأخواتها أخوالا
وخالات وإخوة الفحل وأخواته أعماما وعمات ، وقد صرحت النصوص المتقدمة ونحوها
بالتحريم عموما في بعض وخصوصا في بعض.
وأما انتشار الحرمة منهما إليه فهي مقصورة على المرتضع
وفروعه ، لأنه صار لهما ابنا ، وأبناءه أبناء الابن : ولا يتعدى التحريم منهما إلى
أصوله ومن كان في طبقته ، فحكم من كان من أصوله وفي طبقته مع المرضعة والفحل
وأصولها وفروعهما ومن في طبقتهما حكم الأجانب ، ولا ترى في النصوص أثر التحريم في
شيء من هذه الصور ، سوى صورة واحدة يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى ، خرجت
عن القاعدة بالنصوص.
وهذه قاعدة كلية ، وضابطة جلية يرجع عليها في الرضاع
يعظم بها الانتفاع خلافا لمن ذهب إلى القول بالتنزيل في المسألة كما سيأتي ذكره إن
شاء الله ، فإنهم حكموا بالتحريم أيضا بين الفحل والمرضعة ، وبين أصول المرتضع ومن
كان في طبقته ، وسيأتي إن شاء الله الكلام في ذلك ، وتحقيق القول في بطلانه وهدم
أركانه.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أيضا أن المحرمات الرضاعية التي
تضمنها قولهم عليهمالسلام «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». هي التي حلت في الرضاع محل تلك المحرمات النسبية التي
تضمنتها الآية حسبما حررناه في صدر هذا المطلب ،
فكل من دخل في الرضاع تحت واحدة من
تلك الأفراد المعدودة في الآية لحقه التحريم : وكل من لم يدخل فلا يلحقه تحريم ،
وهذه ضابطة أخرى في المقام ، وقد استثنى من هذه القاعدة أيضا الصورة المشار إليها
آنفا ، وقد وقع الاشتباه في حكم نسوة كثيرة ، ولا سيما على القول بالمنزلة ، ومن
راعى هاتين القاعدتين المذكورتين حق المراعاة لا يخفى عليه الحال ، ولا يعرض له
الاشكال.
وقد استثنى العلامة في التذكرة من قاعدة «يحرم من النسب»
أربع صور وليست محلا للاستثناء لعدم دخولها تحت القاعدة المتقدمة كما سيظهر لك إن
شاء الله.
الأولى : قال أم الأخ والأخت في النسب حرام لأنها أم ،
أو زوجة أب ، وأما في الرضاع فإن كانت كذلك حرمت أيضا ، وإن لم تكن كذلك لم تحرم ،
كما لو أرضعت أجنبية أخاك أو أختك لم تحرم.
والتحقيق أن هذه لا تحتاج إلى الاستثناء لعدم دخولها تحت
قاعدة يحرم من النسب : والاستثناء هو إخراج ما لولاه لدخل ، وهذه غير داخلة كما
ذكرناه.
وتوضيحه : أن مقتضى القاعدة الثانية التي قدمناها أن كل
امرأة حرمت باعتبار وصف في النسب من أمومة أو بنتية أو نحوهما حرمت نظيرتها في
الرضاع ، وأم الأخ والأخت ليست من المحرمات السبع المعدودة في الآية ، لأن أم الأخ
والأخت لا يخلو اما أن يكون اما فتحريمها إنما هو من حيث الأمومة كما تضمنته الآية
، لا من حيث كونها أم أخ أو أخت ، وإن لزمها في بعض الأحوال ، إلا أنه منفك من
الجانبين فقد يكون إما خاصة إذا لم يكن لها ولد سواه ، وقد تكون أم أخ أو أخت ولا
تكون اما ، وحينئذ فلا يدل تحريم الام على تحريم أم الأخ أو الأخت.
وأما أن يكون زوجة أب فتحريمها إنما هو من حيث المصاهرة
لا من حيث النسب ، والرضاع إنما يتفرع على النسب لا على المصاهرة.
على أن هذه المصاهرة غير مؤثرة في التحريم لأنها ملائمة
لما يحرم بالمصاهرة
لا عينه ، فإن أم الأخ من حيث إنها أم
الأخ ليست إحدى النسوة الأربع المحرمات بالمصاهرة ، وإنما المحرم منكوحة الأب وهي
لا تستلزم كونه أم الأخ : كذا ذكره شيخنا في المسالك.
وأشار بالأربع المحرمات بالمصاهرة إلى قوله عزوجل (1) «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ ـ إلى قوله ـ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ» فهذه الأربع
التي وقع التحريم بالمصاهرة ، وأم الأخ ليست داخلة في شيء منها وإن كانت مشابهة
لها في ذلك.
الثانية : قال : أم ولد الولد حرام لأنها إما بنته أو
زوجة ابنه ، وفي الرضاع قد لا تكون حراما ، مثل أن ترضع الأجنبية ابن الابن فإنها
أم ولد الولد وليست حراما.
أقول : والكلام في هذه كسابقتها أيضا ، فإن أم ولد الولد
ليست من المحرمات السبع التي تضمنتها الآية ، وقد عرفت بمقتضى القاعدة الثانية أن
التحريم في الرضاع إنما هو بحلول المرأة بسبب الرضاع محل واحدة من تلك السبع.
وتحريمها على تقدير كونها بنتا ، إنما هو من حيث البنتية
لا من حيث كونها أم ولد الولد ، مع أنه قد لا تكون لها ولد ، فلا يلزم من البنتية
كونها أم ولد الولد.
وتحريمها على تقدير كونها زوجة ابنه إنما هو من حيث
المصاهرة وقد عرفت أن الرضاع إنما يتفرع على النسب لا على المصاهرة ، على أن هذه
المصاهرة كما عرفت آنفا أيضا غير مؤثرة في التحريم ، لكنها ملائمة لما يحرم
بالمصاهرة لا عينه ، لأن أم ولد الولد من حيث هي كذلك ليست إحدى النسوة الأربع
المحرمات بالمصاهرة في الآية ، وإنما المحرم منها زوجة الابن وحليلته ، ومن
المعلوم أن هذه ليست كذلك ، وبذلك يظهر بطلان الاستثناء في هذه الصورة أيضا.
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 23.
الثالثة : قال : جدة الولد في النسب حرام ، لأنها إما
أمك أو أم زوجتك ، وفي الرضاع قد لا يكون كذلك كما إذا أرضعت أجنبية ولدك فأن أمها
جدته ، وليست بأمك ولا أم زوجتك.
أقول : والكلام في هذه الصورة على نهج ما تقدم ، فإن جدة
الولد ليست إحدى المحرمات السبع التي تضمنتها الآية ، وإن اتفق كونها اما فتحريمها
إنما هو من حيث الأمومة لا من حيث كونها جدة الولد ليتم التفريع عليه في الرضاع.
وأما تحريم أم الزوجة ، فإنما هو بالمصاهرة ، على أنك قد
عرفت ما في هذه المصاهرة كما في نظائرها المتقدمة ، فإن جدة الولد من حيث كونها
كذلك ليست إحدى النسوة الأربع المحرمة في الآية بالمصاهرة ، إذ المحرم في تلك
الأربع إنما هو أم الزوجة ، ومن المعلوم أن هذه ليست كذلك.
وبالجملة فإن التفريع على جدة الولد غير تام ، لأنها إن
كانت اما فإنما هو من حيث الأمومة ، وإلا فلا وجه للتفريع.
قال في المسالك ـ بعد الكلام بنحو ما ذكرناه في ذلك ـ :
ومن هذه الصورة أيضا يظهر حكم ما لو أرضعت زوجتك ولد ولدها ذكرا كان الولد أو أنثى
، فإن هذا الرضيع يصير ولدك بالرضاع بعد أن كان ولد ولدك بالنسب ، فتصير زوجتك
المرضعة جدة ولدك وجدة الولد محرمة عليك كما مر ، لكن هنا لا تحرم الزوجة لأن
تحريم جدة الولد ليس منحصرا في النسب ، ولا من حيث إنها جدة كما عرفت.
وكذا القول لو أرضعت ولد ولدها من غيرك ، فإن الرضيع
يصير ولدك بالرضاع ، وإن لم يكن له إليك انتساب قبله ، وتصير زوجتك جدة ولدك ، ولا
يحرم بذلك كما قررناه. انتهى.
أقول : وأصحاب التنزيل الذين وقعوا في شباك الالتباس في
الرضاع يقولون بالتحريم في هذه الصور كلها كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ بيانه.
الرابعة : قال : أخت ولدك في النسب حرام عليك ، لأنها
إما بنتك أو ربيبتك ، وإذا أرضعت أجنبية ولدك فبنتها أخت ولدك ، وليست ببنت ولا
ربيبة.
أقول : والكلام هنا كما تقدم فإن أخت الولد ليست إحدى
المحرمات السبع التي تضمنتها الآية ، ولم تحرم من حيث كونها أخت ولد ، وإنما حرمت
إما من حيث البنتية فتكون جهة التحريم إنما هي البنتية وهي التي يتفرع عليها
الرضاع ، وإما من حيث كونها ربيبة ، وتحريمها إنما هو بالمصاهرة فلا يتفرع عليها
الرضاع بل هذه المصاهرة ليست مؤثرة في التحريم لكنها تلائم ما يحرم منها وليست
عينه ، لأن أخت الولد من حيث أخت الولد ليست إحدى الأربع المحرمات بالمصاهرة إذ
المحرم منها إنما هو الربيبة أعني بنت الزوجة ، وهذه ليست كذلك إلا أن التحريم هنا
قد ثبت بدليل خارج عن مقتضى القاعدة المتقدمة على المشهور ، وهي الصورة التي تقدمت
الإشارة إليها كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، وهي أنه لا ينكح أبو المرتضع
في أولاد صاحب اللبن ولادة ولا رضاعا ، ولا في أولاد المرضعة ولادة.
وإذا تدبرت ما تلوناه وتأملت ما سطرناه ، تبين لك أن
استثناء هذه الأربع الصور من القاعدة المستفادة من ذلك الخبر ليس في محله ، لعدم
دخول ما استثنى في المستثنى منه ، لأن المراد من الخبر أن كلما يحرم بالنسب بأحد
العنوانات والجهات المذكورة في الآية من الأمية والأختية والبنتية ونحوها تحرم
نظيرها في الرضاع ، بأن تكون أما أو أختا أو بنتا من الرضاع ، وما في هذه الصور ليس
شيء منها من هذه السبع المعدودة كما لا يخفى.
وملخص ما ذكرناه في هذا المقام أنه متى ارتضع الولد من
لبن امرأة وفحلها بالشروط المتقدمة ، فإنه تصير المرضعة اما ، والفحل أبا ، وأولاد
الفحل ولادة ورضاعا إخوة وأخوات : وأولاد المرضعة ولادة خاصة على المشهور إخوة
وأخوات ، وأولادها رضاعا على قول الطبرسي إخوة وأخوات أيضا.
وأصول المرضعة والفحل وفروعهما ومن في طبقتهما كما هم
للولد النسبي ، فينشر التحريم من الجميع على المرتضع بالشروط ، وينتشر منه عليهم.
وأما أصول المرتضع ومن كان في طبقته فلا يلحقهم تحريم مع
أحد من هؤلاء المعدودين ، ولا خلاف بين أصحابنا المتقدمين والمتأخرين في ابتناء
الرضاع ومسائله على هاتين القاعدتين كما قدمناه في صدر المسألة ، إلا أن هنا مواضع
قد وقع الخلاف فيها دخولا في القاعدتين المذكورتين وخروجا باعتبار أدلة من خارج
اقتضت خروجها كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن جملة من متأخري المتأخرين ممن
يقرب من عصرنا هذا قد ذهبوا في الرضاع إلى القول بالتنزيل ، فحكموا بتحريم نسوة
كثيرة في الرضاع بناء على ذلك ، ولم يقفوا على القاعدتين المذكورتين المتقدمتين.
منهم العلامة المحقق العماد مير محمد باقر المشهور
بالداماد ، فإنه ممن صنف رسالة في ذلك وأكثر فيها من الدعاوي الباطلة ، والتخريجات
العاطلة ، حتى ادعى أن ما ذهب إليه هو القول المشهور.
وقد كتبنا في المسألة رسالة في الرد عليه ، وأوضحنا فيها
بطلان ما صار إليه ، وسميناها ب «كشف القناع عن صريح الدليل في الرد على من قال في
الرضاع بالتنزيل».
ومنهم الفاضل الشريف المولى أبو الحسن محمد طاهر العاملي
المجاور بالنجف الأشرف حيا وميتا ، فإنه أيضا صنف رسالة في ذلك ، وقد نقل أيضا هذا
القول المحقق الثاني في رسالته عن بعض معاصريه ، ونقل أنهم أسندوه أيضا إلى شيخنا الشهيد
(رحمهالله) قال (قدسسره) في الرسالة
المذكورة : اعلم ـ أبقاك الله ـ أنه قد اشتهر على ألسن الطلبة في هذا العصر تحريم
المرأة على بعلها برضاع بعض من سنذكره ، ولا نعرف لهم في ذلك أصلا يرجعون إليه من
كتاب أو سنة ، أو إجماع أو قول لأحد من المعتبرين ، أو عبارة يعتد بها تشعر بذلك ،
أو دليل مستنبط في
الجملة يعول على نقله بين الفقهاء ،
وإنما الذين شاهدناهم من الطلبة وجدناهم يزعمون أنه من فتاوي شيخنا الشهيد (قدسسره).
ونحن لأجل مباينة هذه الفتاوى لأصول المذهب استبعدنا
كونها مقالة لمثل شيخنا على غزارة علمه وثقوب فهمه ، لا سيما ولم نجد لهؤلاء
المدعين لذلك إسنادا يتصل لشيخنا في هذه الفتاوى ويعتد به ، ولا مرجع يركن إليه ،
ولسنا نافين هذه النسبة عنه (رحمهالله) استعانة على
القول بفساد هذه الفتاوى ، فإن الأدلة على ما هو الحق المبين ـ واختيارنا المتين
بحمد الله ـ كثيرة جدا لا نستوحش منها من قلة الرفيق.
نعم اختلف أصحابنا في ثلاث مسائل قد يتوهم منها القاصر
عن درجة الاستنباط أن يكون دليلا لشيء من هذه المسائل أو شاهدا عليها إلى آخر
كلامه زيد في إكرامه.
أقول : والمستفاد من كلام المحقق العماد ـ المتقدم ذكره
في رسالته ـ أن منشأ الشبهة عنده فيما ذهب إليه من شيئين : (أحدهما) الحديث
المشهور وهو قولهم عليهمالسلام «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». فإنه ادعى أنه دال بعمومه على ذلك حيث لم يتعرض فيه
للدلالة على جهة الحرمة أصلا بل إنما يدل بمنطوقه وعمومه أن كلما يحرم من النسب
فهو يحرم من الرضاع ، ساكتا من جهة الحرمة وعلة التحريم رأسا.
و (ثانيها) الأخبار الواردة في نكاح أب المرتضع في أولاد
صاحب اللبن كما سيأتي ذكرها إن شاء الله ، حيث إنه قال عليهالسلام في بعض تلك
الأخبار «فإن ولدها صارت بمنزلة ولدك» فقال الفاضل المذكور : فهذا التفصيل يعطي
التعميم ، ويوجب تحريم كل من تصير بمنزلة محرم.
والجواب عن أولى الشبهتين المذكورتين أنك قد عرفت أن
المحرمات النسبية معدودة مضبوطة في الآية الشريفة ، وحينئذ فيكون قوله عليهالسلام «يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب». مقيدا
بتلك الآية ، بمعنى أنه يحرم من الرضاع ما حرمته الآية في النسب ، من السبع
المذكور التي هي الأم والبنت والأخت إلى آخرها ، وحاصله : أن كل امرأة تصير
بالرضاع موضع واحدة من هاتيك السبع النسبية فإنها تحرم بذلك.
وهو قد اعترف بذلك أيضا حيث قال في رسالته : ضابطة حرم
الله تعالى بالنسب من النساء سبعا ويتبعهن في التحريم مضاهياتهن اللاتي صرن في
منزلتهن بالرضاعة ، الأم وإن علت ، فامك من الرضاعة هي كل امرأة أرضعتك أو رجع نسب
من أرضعتك أو نسب صاحب اللبن إليها ، ثم ساق الكلام في تعداد الباقي على هذا النحو
إلى آخر المحرمات التي تضمنتها الآية.
وأنت خبير بأن مقتضى هذه الضابطة أن كل امرأة حرمت
باعتبار وصف في النسب ككونها أما أو بنتا أو أختا حرمت نظيرتها في الرضاع ، وهي
الأم الرضاعية والبنت الرضاعية والأخت مثلا ، ففرعية الرضاع على النسب إنما يقع مع
الاتفاق في تلك الجهات المخصوصة التي باعتبارها حرمت المحرمات النسبية لا مع
الاتفاق في وصف ما من الأوصاف وجهة ما من الجهات وإلا لزاد العدد على السبع مع أنه
صرح في ضابطته بأنها سبع ، وليس إلا باعتبار ما ذكرناه مثلا : الام ثبتت لها جهات
متعددة مثل كونها اما وكونها أم أخ وكونها زوجة أب ، وهكذا في باقي المحرمات
النسبية ، فلو كان التحريم فيها باعتبار كل واحدة من هذه الجهات لزاد العدد البتة.
وحينئذ فتحريم الأم في النسب إنما وقع من حيث كونها اما
لا من حيث كونها أم أخ أو أخت ، وإن لزمها ذلك في بعض الأحيان ، فتحريم الأم في
الآية الشريفة إنما وقع من حيث الأمومة التي هي وصف لازم لها في جميع الأحوال
بخلاف الثاني ، فإن لزومه منفك من الجانبين ، فقد تكون أم أخ وليست بأم كزوجة الأب
التي له منها ولد ، وقد تكون اما وليست بأم أخ كما إذا لم يكن
لها ولد سواه.
وحينئذ فلا يدل تحريم الام على تحريم أم الأخ والأخت لا
مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما ، وتحريم أم الأخ من حيث كونها أم الأخ غير مدلول
عليه في كلام الشارع بالمرة ، بل إنما حصل التحريم فيها من حيث كونها اما أو زوجة
أب.
وبالجملة فإنه لا يخفى على من كان له الذوق الثاقب
والفهم الصائب أن التحريم لم يتعلق بذات كل واحدة من هذه المعدودات ، وإنما تعلق
بها باعتبار هذه الأوصاف التي اتصفت بها من الأمومة والبنتية والأختية ونحوها ،
والتعليق على الوصف يشعر بالعلية ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ذي فهم وروية.
والجواب عن ثاني شبهتيه : أولا : أنه ظاهر مما حققناه في
الجواب عن الشبهة الأولى ، لأنه متى تقرر أنه لا يحرم من الرضاع إلا ما يحرم من
النسب ، وأن المحرمات النسبية محصورة ، وجهات التحريم فيها مضبوطة محصورة أيضا ،
وهي تلك الأوصاف المخصوصة ـ علم أن من وجد في الرضاع متصفا بشيء من تلك الأوصاف ،
فإنه يلحقه حكم التحريم ومن لا ، فلا.
نعم حيث ورد النص بذلك في هذه الصورة المخصوصة خصصنا به
القاعدة المذكورة بالنسبة إلى ما ورد دون ما ضاهاه وشابهه ، جمعا بين الدليلين كما
هو مقتضي القواعد الشرعية في البين.
وثانيا : انك قد عرفت أن المستفاد من الأخبار وكلام
الأصحاب ـ من غير خلاف يعرف إلا من هؤلاء الذين لا يقدح خلافهم في الإجماع ـ أن
انتشار الحرمة من المرتضع إلى المرضعة والفحل مخصوصة بالمرتضع وفروعه لا تتعداهما
إلى أصوله ومن كان في طبقته ، فحكم أصوله ومن كان في طبقته مع الفحل والمرضعة
وأصولهما وفروعهما ومن كان في طبقتهما حكم الأجانب.
ولا تكاد ترى في النصوص أثرا للتحريم في شيء من هذه
الصور سوى هذه
الصورة المذكورة ، وعلى هذا اتفقت
كلمة الأصحاب أيضا في ما سوى ثلاث صور يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى ، قد
ذهب شذوذ منهم فيها إلى التحريم بناء على توهم سبق إلى ذهنه مع التزامهم بأصل
القاعدة فجعلوا هذه الصور مستثنيات منها ، وسنبين إن شاء الله تعالى بطلان ما
ذهبوا اليه وتوهموه :
وثالثا : أن الظاهر أن وجه ما ذكره ذلك الفاضل من
التعميم في الخبر هو أنه لما نزل ذلك الأخ الرضاعي لولده منزلة ولده ، ومن المعلوم
أن منزلة ولده منه توجب تحريمه عليه ، وتحريم كل من أقاربه عليه أيضا ، وتحريم
بعضهم على بعض ، فكذا تثبت هذه المنزلة لهذا الأخ الرضاعي لولده.
وجوابه أن توهم العموم في المقام باطل وهو ظاهر عند
المتأمل ، وذلك لأن مورد النص ـ كما ستقف عليه إن شاء الله ـ هو تحريم أولاد
المرضعة على أب المرتضع ، معللا بما ذكره.
فالمراد بكونهن بمنزلة ولده يعني في التحريم عليه ، فكما
أن ولده يحرمون عليه فكذا أولئك ، فإنك إذا قلت «أكرم زيدا فإنه بمنزلة أبيك» فإن
المتبادر منه يعني في استحقاق وجوب الإكرام لا مطلقا ، فكذا هنا لما قال : «يحرم
عليك نكاحهن لأنهن بمنزلة ولدك» ، يعني في التحريم عليك ، فالمنزلة إنما تثبت في
التحريم عليه خاصة لا مطلقا حتى أنه يمتنع نكاح إخوة أحد المرتضعة إخوة الآخر كما
هو مذهب الشيخ في الخلاف ، كيف والخطاب في الخبر إنما هو لأب المرتضع.
نعم لو ورد النص مطلقا في أن ولد الفحل بمنزلة ولد أب
المرتضع لاتجه ما ادعاه ، والله العالم.
المورد الثاني : في ذكر المسائل التي وقع الخلاف فيها في
البين ، وبيان ما هو الحق فيها من القولين.
الأولى : هل يجوز لأب المرتضع أن ينكح في أولاد صاحب
اللبن ولادة
ورضاعا ، وأولاد المرضعة ولادة ورضاعا
على قول الطبرسي أم لا؟
ذهب الشيخ في المبسوط وجماعة إلى الأول وقوفا على
القاعدة المتقدمة ، حيث إن أولاد الفحل بالنسبة إلى أبي المرتضع إنما صاروا
بالرضاع إخوة ولده ، وأخت الولد ليست إحدى المحرمات النسبية التي حرمتها الآية ،
وإنما حرمت في الآية لكونها بنتا أو ربيبة وشيء منهما غير موجود فيما نحن فيه.
قال في المسالك ـ بعد ذكر الأخبار الآتية الدالة على
التحريم ـ ما لفظه فهذه الروايات الصحيحة هي المخرجة للمسألة من أصل تلك القاعدة ،
ومع ورود هذه الروايات في موضع النزاع ذهب جماعة من الأصحاب ، منهم الشيخ في
المبسوط إلى عدم التحريم محتجا بما أشرنا إليه من أن أخت الابن من النسب إنما حرمت
لكونها بنت الزوجة المدخول بها فتحريمها بسبب الدخول بأمها ، وهذا المعنى منتف هنا
، والنبي صلىاللهعليهوآله إنما قال «يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب» (1). ولم يقل يحرم
من الرضاع ما يحرم من المصاهرة ، ثم نقل عن المختلف أنه قال : وقول الشيخ في غاية
القوة ، ولو لا الرواية الصحيحة لاعتمدت عليه. انتهى :
أقول : وعندي في المقام إشكال لم أر من تنبه له ولا نبه
عليه ، وهو أن موضوع المسألة المبحوث عنها في كلامهم هو ما قدمنا ذكره من أنه هل
يجوز لأب المرتضع أن ينكح في أولاد صاحب اللبن؟ إلى آخر ما تقدم.
ونقلوا عن الشيخ في المبسوط القول بالجواز كما سمعت ،
والتعليل بما عرفت من كلامه في المسالك ، وعبارة المبسوط التي نقلها العلامة في
المختلف إنما هي بهذه الصورة حيث قال الشيخ في المبسوط : يجوز للفحل أن يتزوج بأم
المرتضع وأخته وجدته ، ويجوز لوالد هذا المرتضع أن يتزوج بالتي أرضعته ، لأنه لا
نسب بينهما ولا رضاع ، ولأنه لما جاز أن يتزوج أم ولده من النسب ، فبأن يجوز أن
يتزوج أم ولده من الرضاع أولى ، إلى آخر كلامه.
__________________
(1) الوسائل ج 14 ص 280 ح 1.
وهذه العبارة لا دلالة فيها على محل النزاع ولا تعرض
فيها له بوجه ، وإنما تضمنت جواز تزويج الفحل الذي هو صاحب اللبن لأخت المرتضع
التي هي ابنة أب المرتضع ، وهي مسألة أخرى عكس ما نحن فيه ، سيأتي إن شاء الله
تعالى ذكرها ، فإن ما نحن فيه هو تزويج أب المرتضع في أولاد صاحب اللبن ، وهذه
إنما تضمنت تزويج صاحب اللبن في أولاد أب المرتضع.
نعم ذكر أن أب المرتضع يجوز له تزويج المرأة التي أرضعت
ابنه ، ولم يتعرض لأزيد من ذلك (1) وكتاب المبسوط لا يحضرني الآن ،
فليتأمل ذلك.
ونحو ذلك ما نقلوه عن الخلاف من القول بالتحريم في هذه
المسألة ، مع أن العبارة هنا كعبارة المبسوط الدالة على الجواز إنما تضمنت عكس
المسألة المبحوث عنها ، فإنه قال على ما نقله في المختلف : إذا حصل الرضاع المحرم
لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع ، ولا لأحد من أولاده من غير المرضعة. ومنها
، لأن إخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده.
وهي كما ترى ظاهرة في أن المحرم إنما هو نكاح صاحب اللبن
في أولاد أب المرتضع وقد أسندوا له بهذه العبارة القول بتحريم نكاح أب المرتضع في
أولاد صاحب اللبن ، ولم ينقل في المختلف غير هاتين العبارتين في البين على أن
كلامه في المختلف غير ظاهر في هذه المسألة ، وإنما تكلم على ما ذكره الشيخ وابن
إدريس من حكم نكاح الفحل في جدة المرتضع وأخته.
وما نقله عنه في المسالك من قوله ـ وقول الشيخ في غاية
القوة ولولا الرواية الصحيحة لاعتمدت عليه ـ إنما هو بالنسبة إلى نكاح الفحل في
جدة المرتضع كما سيظهر لك إن شاء الله في المسألة الآتية لا في نكاح أب المرتضع في
أولاد صاحب
__________________
(1) نعم قد صرح ابن البراج في المهذب بذلك فقال : وكذلك يتزوج
بنات المرأة التي أرضعت ولده ، وبناتهن أيضا ، لأنهن لم يرضعن من لبنه ، ولا بينهن
قرابة من رضاع ولا غيره ، وانما نكاحهن على المرتضع. انتهى. (منه ـ قدسسره ـ).
اللبن كما هو ظاهره في المسالك.
وبالجملة فإن العلامة لم يتعرض لهذه المسألة هنا بالكلية
، وإنما كلامه على عبارة الشيخ التي ذكرناه ، وقد عرفت أنها ليست من محل البحث في
شيء.
وبذلك يظهر لك أن نسبة القول بالجواز إلى المبسوط في هذه
المسألة التي هي محل البحث لا يظهر له وجه ، إلا أن يكون في موضع آخر ، ولكن ظاهر
كلامهم كما عرفت في عبارة المسالك ومثله غيره إنما هو من هذا الموضع الذي ذكرناه ،
وهو عجب كما لا يخفى على المدقق المصيب.
وأما الروايات الواردة في المسألة المبحوث عنها ، فمنها
ما رواه ثقة الإسلام والصدوق «عطر الله مرقديهما» في الصحيح عن عبد الله بن جعفر (1) «قال : كتبت
إلى أبي محمد عليهالسلام : امرأة أرضعت
ولد الرجل ، هل يحل لذلك الرجل أن يتزوج ابنة هذه المرضعة أم لا؟ فوقع عليهالسلام : لا ، لا تحل
له».
وما رواه الشيخ والصدوق في الصحيح عن أيوب بن نوح (2) قال : «كتب
علي بن شعيب إلى أبي الحسن عليهالسلام : امرأة أرضعت
بعض ولدي ، هل يجوز لي أن أتزوج بعض ولدها؟ فكتب عليهالسلام : لا يجوز ذلك
، لأن ولدها قد صار بمنزلة ولدك».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن مهزيار (3) في الصحيح قال
: «سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني عليهالسلام إن امرأة
أرضعت لي صبيا فهل يحل لي أن أتزوج ابنة زوجها؟ فقال لي : ما أجود ما سألت من ههنا
يؤتى أن يقول
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 447 ح 18 ، الفقيه ج 3 ص 306 ح 9 ، الوسائل ج
14 ص 307 ب 16 ح 2.
(2) التهذيب ج 7 ص 321 ح 32 ، الفقيه ج 3 ص 306 ح 8 ، الوسائل
ج 14 ص 306 ب 16 ح 1.
(3) الكافي ج 5 ص 441 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 320 ح 28 ، الوسائل
ج 14 ص 296 ح 10.
الناس حرمت عليه امرأته من قبل لبن
الفحل ، هذا هو لبن الفحل لا غيره. فقلت له : إن الجارية ليست ابنة المرأة التي
أرضعت لي هي ابنة غيرها ، فقال : لو كن عشرا متفرقات ما حل لك منهن شيء ، وكن في
موضع بناتك».
والصحيحتان الأولتان دالتان على تحريم أولاد المرضعة ،
والصحيحة الثالثة دالة على تحريم أولاد الفحل وإن لم يكونوا من تلك المرضعة.
والمفهوم من كلام السيد السند في شرح النافع أن تحريم
أولاد الفحل لا مستند له من الأخبار ، حيث إنه إنما استند في ذلك إلى الأولوية ،
فقال ـ بعد أن أورد الصحيحتين الأولتين ـ : حكم عليهالسلام في هاتين
الروايتين بتحريم أولاد المرضعة ، وإذا حرم أولاد المرضعة حرم أولاد صاحب اللبن
بطريق أولى. انتهى.
والعجب منه أن الرواية منقولة في المسالك أيضا ، وسندها
صحيح باصطلاحه ، فكيف غفل عن ذلك حتى التجأ إلى هذا التعليل العليل.
وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور وقوفا على هذه
الروايات الصحاح الصراح ، فيخصص بها عموم تلك القاعدة المتقدمة.
المسألة الثانية : هل يحل
للفحل أن يتزوج بأم هذا المرتضع النسبية أم لا؟ المشهور الأول ، وبه صرح الشيخ في
المبسوط حيث قال ـ بعد ذكر القاعدة التي تقدمت الإشارة إليها آنفا ـ : فيجوز للفحل
أن يتزوج بأم هذا المرتضع ، وبأخته وبجدته ، ويجوز لوالد هذا المرتضع أن يتزوج
بالتي أرضعته ، لأنه لا نسب بينهما ولا رضاع ، ولأنه لما جاز أن يتزوج بأم ولده من
النسب : فبأن يجوز أن يتزوج بأم ولده من الرضاع أولى.
قالوا : أليس لا يجوز أن يتزوج بأم أم ولده من النسب ،
ويجوز أن يتزوج بأم أم ولده من الرضاع؟ فكيف جاز هذا ، وقد قلتم إنه يحرم من
الرضاع ما
يحرم من النسب.
قلنا أم أم ولده من النسب ما حرمت بالنسب بل حرمت
بالمصاهرة قبل وجود النسب ، والنبي صلىاللهعليهوآله إنما قال «يحرم
من الرضاع ما يحرم من النسب» ولم يقل : يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة.
انتهى.
وبه قال ابن حمزة وابن البراج والعلامة في التحرير
والقواعد ـ وهو المختار ـ والوجه فيه أنه لا مقتضى للتحريم ، والأصل عدمه ، وليس
إلا كونها جدة ابنه وهو غير موجب للتحريم ، لأن جدة الابن لامه إنما حرمت
بالمصاهرة أعني الدخول بابنتها ، وهذه العلة غير موجودة هنا.
وذهب العلامة في المختلف إلى القول بالتحريم ، ونقله فيه
عن ابن إدريس ، قال في المختلف بعد نقل عبارة الشيخ في المبسوط المذكورة (1) الدالة على
الجواز : وقال ابن إدريس : وأما تزويجه بأخته وجدته فلا يجوز بحال ، لأنا في النسب
لا نجوز له أن يتزوج الرجل بأخت ابنه ولا بأم امرأته بحال ، وإنما الشافعي علل ذلك
بالمصاهرة ، وليس هيهنا مصاهرة ، وكذا في قوله وسؤاله على نفسه «أليس لا يجوز له
أن يتزوج أم ولده في النسب ، ويتزوج أم أم ولده في الرضاع».
وأجاب بأن أم أم ولده في النسب ما حرمت بالنسب ، وإنما
حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب ، وعلل ذلك بالمصاهرة ، فلا يظن ظان بأن ما قلناه
كلام الشيخ أبي جعفر.
__________________
(1) أقول : صورة عبارة الشيخ المشار إليها هكذا «والذي يدور
عقد الرضاع عليه جملته أن امرأة الرجل إذا كان بها لبن منه فأرضعت مولودا رضعة على
الصفة المتقدم ذكرها صار كأنه ابنها من النسب حرم على هذا ، لأن الحرمة انتشرت منه
إليهما ومنهما إليه فالتي انتشرت إليهما أنه صار كأنه ابنهما من النسب ، والحرمة
التي انتشرت منهما اليه وقفت عليه وعلى نسله ، دون من هو في طبقته من اخوته
وأخواته أو أعلى منه من آبائه وأمهاته ، فيجوز للفحل الى آخر ما في الأصل. (منه ـ قدسسره).
والذي يقتضي مذهبنا أن أم أم ولده من الرضاع محرمة عليه
، كما أنها محرمة عليه من النسب لأنه أصل في التحريم من غير تعليل ثم نقل كلام ابن
حمزة في المسألة فقال بعده : والمعتمد تحريم أم أم الولد من الرضاع.
وقول الشيخ في المبسوط وإن كان قويا لكن الرواية الصحيحة
على خلافه ، فإن علي بن مهزيار روى في الصحيح ثم ساق الرواية المذكورة كما قدمناها
قريبا ، ثم قال : بعدها : فقد حكم عليهالسلام هنا بتحريم
أخت الابن من الرضاع وجعلها في منزلة البنت ، ولا ريب أن أخت البنت إنما تحرم
بالنسب لو كانت بنتا أو بالسبب لو كانت بنت الزوجة ، فالتحريم هنا باعتبار
المصاهرة ، وجعل الرضاع كالنسب في ذلك.
وقول الشيخ في غاية القوة ، ولو لا هذه الرواية الصحيحة
لاعتمدت على قول الشيخ ، ونسبة ابن إدريس هذا القول للشافعي غير ضائر للشيخ ،
وقوله لا يجوز أن يتزوج بأخت ابنه ولا بأم امرأته وليس هنا مصاهرة غلط لأنهما إنما
حرمتا بالمصاهرة. انتهى كلام العلامة في الكتاب المذكور.
وقال شيخنا الشهيد في كتاب نكت الإرشاد ـ عند قول المصنف
ولا يحرم أم أم الولد من الرضاع ـ ما هذا لفظه : أقول : ربما اشتبه صورة هذه
المسألة بسبب اشتباه متعلق «من» وحكمها فأما صورتها فإن من يحتمل أن يتعلق بمحذوف
حال من الأم الثانية لا من الولد والمحكوم عليه هو الوالد لا الفحل ، فالتقدير لا
يحرم على أب المرتضع أم أم المرتضع كائنة من الرضاع وإن كانت أمها نسبا ومعناه أنه
إذا أرضعت ولده امرأة لا تحرم على الوالد أم تلك المرأة ، وهذا الحكم صرح به ابن
حمزة ، ووجهه أصالة الحل وعدم المصاهرة هنا.
ويحتمل أن يكون حالا من الأم الاولى ، والتحريم أيضا
منفي عن الوالد ، ومعناه أن مرضعة أم ابنه لا تحرم عليه ، وهو بين.
والأولى والمناسب لما ذكره في المختلف وبقية كتبه أن
يكون حالا من
الولد ، والمحكوم عليه بنفي التحريم
هو الفحل وهو الذي نص عليه في المبسوط ، وأورد على نفسه أم أم الولد من النسب
فإنها تحرم فينبغي أن يكون أم امه من الرضاعة كذلك ، وأجاب بأن تحريم تلك ما كان
بالنسب ، بل بالمصاهرة الحاصلة قبل النسب ، والذي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
، لا ما يحرم من المصاهرة.
وأنكره ابن إدريس ، وزعم أن هذا حكاية كلام الشافعي ،
وليس مذهبا للشيخ بل تحرم أم أم الولد من الرضاع كما تحرم من النسب ، واختاره
المصنف (طاب ثراه) عملا بصحيحة على بن مهزيار ، ثم نقل الصحيحة المشار إليها ،
وقال بعدها : وجه الدلالة أنه عليهالسلام حكم بتحريم
أخت الابن من الرضاع ، وجعلها في موضع البنت.
وأخت البنت تحريمها بالنسب إذا كانت بنتا ، وبالسبب إذا
كانت بنت الزوجة فالتحريم هنا بالمصاهرة ، وجعل الرضاع كالنسب في ذلك فيكون في أم
الأم كذلك ، وليس قياسا لأنه نبه بجزئي من كلي على حكم الكلي ، ثم قال المصنف ولو
لا هذه الرواية لاعتمدت على قول الشيخ لقوته ، واعتمد هنا وفي التلخيص على قوله ،
وهو المختار. انتهى.
وأنت خبير بأن ما استدل به في المختلف من صحيحة علي بن
مهزيار فإنه لا دلالة فيه لأن موردها هو المنع من نكاح أب المرتضع في أولاد الفحل
، وتعليله عليهالسلام التحريم
بكونهن في موضع بناته لا يوجب تعدي التحريم إلى أم أم المرتضع بالنسبة إلى الفحل ،
وإلا لزم التحريم في كل من كانت في موضع محرم كما يدعيه أصحاب التنزيل ، وهو لا
يقول به.
وبالجملة فالخروج عن موضع النص إلى ما شابهه وشاكله من
هذه الصورة أو غيرها قياس محض لا يوافق أصول المذهب.
قال المحقق الثاني (قدسسره) في رسالته
المتقدم ذكرها ـ بعد نقل كلام
شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد ولنعم ما
قال ـ :
وفيه نظر ، أما (أولا) فلأن المشار إليه في ذلك هو تحريم
بنت الزوجة أي جعل الرضاع كالنسب في تحريم بنت الزوجة ، أي كما تحرم بالنسب تحرم
بالرضاع ، ومعلوم أن تحريمها إذا لم تكن بنتا ليس بالنسب وإنما هو بالمصاهرة ، فلا
يستقيم قوله جعل الرضاع كالنسب في ذلك.
وأما (ثانيا) فإنه لا يلزم من ثبوت التحريم في هذا الفرد
المعين ـ مع خروجه عن حكم الأصل وظاهر القواعد المقررة لورود النص عليه بخصوصه ـ تعدية
الحكم إلى ما أشبهه من المسائل ، فإن ذلك عين القياس ، وادعاؤه نفي القياس عنه
واعتذاره بأنه نبه بجزئي من كلي على حكم الكلي لا يفيده شيئا ، لأن تعريف القياس
صادق عليه ، فقد عرف بأنه تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لعلة متحدة فيهما.
والأصل فيما ذكره هو أخت الولد من الرضاع ، والفرع هو
جدة الولد من الرضاع والحكم المطلوب بتأديته هو التحريم الثابت في الأصل بالنص وما
يظن كونه علة التحريم هو كون أخت الولد من الرضاع في موضع من يحرم من النسب أعني
البنت النسبية ، وهذا بعينه قائم في جدة الولد من الرضاع ، فإنه في موضع جدته من
النسب ، بل ما ذكره أسوء حالا من القياس ، لأنك قد عرفت أن القياس تعدية الحكم من
جزئي إلى آخر لاشتراكهما فيما يظن كونه علة التحريم وهو (رحمهالله) قد حاول
تعدية الحكم من الجزئي إلى الكلي ، ونبه على العلة وثبوتها في الفرع أول كلامه
وأغرب في عبارته فسمى ذلك تنبيها على الحكم ونفي عنه القياس ، وذلك لا يحصنه من
الإيراد والاعتراض ولا يلتبس على الناظر المتأمل كونه قياسا. انتهى كلامه زيد
مقامه ، وهو جيد متين وجوهر ثمين ، وبه يظهر لك قوة القول بالجواز كما هو القول
المشهور والمؤيد المنصور.
المسألة الثالثة : هل لأولاد أب
المرتضع الذين لم يرتضعوا من لبن هذا
الفحل أن ينكح في أولاد الفحل ولادة
ورضاعا ، وأولاد المرضعة ولادة أم لا؟
قولان : الأشهر الأظهر الأول ، واختار ثانيهما الشيخ في
الخلاف والنهاية استنادا إلى ظاهر التعليل المذكور في تلك الروايات المتقدمة في
المسألة الاولى ، وهو كونهم بمنزلة ولد الأب ، فإن ذلك يقتضي حصول الاخوة بينهم
المانع من نكاح أحدهما في الآخر إذ كونهم بمنزلة ولد الأب يقتضي كونه كالاخوة
للعلة ، فإنها منصوصة فيتعدى حكمها.
وأجيب بأن تعدي حكمها مشروط بوجودها في المعدى إليه وهنا
ليس كذلك (1) لان كونهن
بمنزلة ولد الأب ليس موجودا في محل النزاع ، وليس المراد بحجية منصوص العلة أنه
حيث يثبت العلة أو ما جرى مجراها يثبت الحكم كذا نقله شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك وشرح اللمعة ، وهو متجه.
وما يقال من أنه يلزم من كونهن بمنزلة ولد أب المرتضع
ثبوت اخوة بعضهم مع بعض فيكونون إخوة لأولاد أب المرتضع.
ففيه : أنا نقول قد قدمنا أن المراد من كونهن بمنزلة ولد
أب المرتضع إنما هو في المحرم عليه ، بمعنى أنه كما تحرم أولاده عليه يحرم هؤلاء
عليه أيضا وأما أنه يلزم من ذلك كونهما اخوة لأولاده فيحرم نكاح بعضهم في بعض فهو
ممنوع كما سيأتي توضيح ذلك في كلام المحقق الثاني في الرسالة.
ورد ابن إدريس هنا على الشيخ فيما اختاره من التحريم
واختار القول الأول ولننقل كلامهما على ما نقله في المختلف فنقول :
__________________
(1) توضيح الجواب المذكور أنه إذا قال الشارع : حرمت الخمر
لإسكاره ، فإنه بمقتضى العمل بمنصوص العلة يتعدى التحريم ، حيث وجد الإسكار ،
وحينئذ فلا بد في المعدى اليه من وجود العلة التي هي هنا الإسكار حتى يترتب عليه
التحريم ، ومحل البحث هنا ليس كذلك ، فإن العلة في الأصل هي كونهم بمنزلة ولد الأب
، وهي غير موجودة في الإخوة بعضهم من بعض كما لا يخفى. (منه ـ قدسسره ـ).
قال العلامة : قال الشيخ في الخلاف : إذا حصل الرضاع
المحرم لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع بلبنه ، ولا لأحد من أولاده من
غير المرضعة ومنها ، لأن إخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده.
ونحوه قال في النهاية حيث قال : وكذلك تحرم جميع إخوة المرتضع
على هذا الفحل وعلى جميع أولاده من جهة الولادة والرضاع.
وقال ابن إدريس : قول شيخنا في ذلك غير واضح وأي تحريم
حصل بين أخت هذا المولود المرتضع ، وبين أولاد هذا الفحل ، وليس هي أختهم لا من
أمهم ولا من أبيهم ، والنبي صلىاللهعليهوآله جعل النسب
أصلا للرضاع في التحريم ، فقال «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وفي النسب لا
يحرم على الإنسان أخت أخيه التي لا من امه ولا من أبيه ، ثم أمر بالتأمل
والملاحظة.
وهذا قول ابن إدريس لا بأس به ، فإن النظر يقتضيه ، لكنه
لا يجامع ما قاله أولا في المسألة السابقة التي حكم فيها بتحريم أم أم الولد وأخته
، كما حرمتا في النسب ، وقد عرفت هناك أن التحريم ليس من جهة النسب بل من جهة
المصاهرة.
ثم إن الأئمة عليهمالسلام حكموا
بالتحريم في الرضاع وإن اختلفت العلة ، وقد قال أبو جعفر الثاني عليهالسلام (1) : «لو كن عشرا
متفرقات ما حل لك منهن شيء وكن في موضع بناتك».
وما رواه أيوب بن روح (2) ثم ساق
الرواية كما قدمناه ، ثم قال : وهذا التعليل يعطي صيرورة أولادها إخوة لأولاده
فينشر الحرمة ، ونحن في ذلك من المتوقفين. انتهى كلامه (قدسسره).
أقول : ما أورده علي ابن إدريس ـ من جزمه بالتحريم في تلك
المسألة ،
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 441 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 320 ح 28 ، الوسائل
ج 14 ص 296 ح 10.
(2) التهذيب ج 7 ص 321 ح 32 ، الوسائل ج 14 ص 306 ح 1.
وجزمه بالجواز هنا مع كون المسألتين
من باب واحد ـ وارد عليه أيضا من جهة جزمه بالتحريم كابن إدريس في تلك المسألة
وتوقفه هنا فإن الكلام في الموضعين واحد ، فإنه إنما جزم بالتحريم في المسألة
السابقة نظرا إلى ظاهر التعليل في تلك الروايات ، كما أسلفنا نقله عنه ، والحال
أنه هنا كذلك كما يفيده قوله هنا ، وهذا التعليل يعطي صيرورة أولاده إخوة لأولاده
فينشر الحرمة.
وبالجملة فالمسألتان من باب واحد فالحكم فيها واحد ، ولا
وجه للقول في إحداهما بالتحريم والقول بالثانية بالجواز أو التوقف.
وما احتج به العلامة ـ من قوله ـ وهذا التعليل ـ إلى
آخره ـ عليل كما عرفت من كلام شيخنا الشهيد الثاني ، والذي صرح به العلامة ـ في غير
هذا الكتاب ـ هو الجواز ، وهو اختيار ابنه فخر المحققين في شرح القواعد أيضا ، وبه
قال : الشيخ في المبسوط أيضا على ما نقله المحقق الثاني في الرسالة المتقدم ذكرها
، ونقل عبارته ثمة ، ولا مخالف هنا إلا الشيخ في الكتابين المتقدمين ، وكفى بأصالة
الجواز متمسكا حتى يقوم الدليل القاطع على خلافه ، سيما مع ما ثبت من الجواز في
النسب والتحريم الرضاعي فرع على النسبي ، فكيف يحل في الأصل ويحرم في الفرع؟ نعم
لا يبعد القول بالكراهة في الرضاع كما ورد مثله في النسب أيضا. ويدل على الأول موثقة
إسحاق بن عمار (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «في رجل تزوج
أخت أخيه من الرضاعة فقال : ما أحب أن أتزوج أخت أخي من الرضاعة».
وعلى الثاني ما رواه الراوي المذكور (2) قال : «سألته
عن رجل يتزوج أخت أخيه؟ قال : ما أحب له ذلك».
وقال : المحقق الثاني في الرسالة الرضاعية ـ بعد نقل
الخلاف في المسألة ـ ما هذا لفظه : فإن قيل : النص السالف يدل على التحريم هنا
التزاما ، لأنه لما
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 444 ح 2 ، الوسائل ج 14 ص 279 ح 2.
(2) التهذيب ج 7 ص 472 ح 101 ، الوسائل ج 14 ص 280 ح 4.
تضمن تحريم الأولاد على أب المرتضع
معللا بأنهم بمنزلة أولاده في التحريم لزم من ذلك أن يكونوا لأولاده كالاخوة ،
فيحرم بعضهم على بعض ، لأن البنوة لصاحب اللبن والاخوة لأولاده متلازمان ، فيمتنع
ثبوت إحداهما مع انتفاء الأخرى وقد ثبت البنوة بالنصوص السابقة ، فيثبت الاخوة
فيلزم التحريم.
قلنا : نمنع الدلالة الالتزامية ، لأن من شرطها اللزوم
الذهني البين بالمعنى الأخص وليس بثابت ، بل نمنع التلازم أصلا ، فإن ثبوت بنوة
شخص الآخر يقتضي ثبوت الاخوة لأولاده ، لا ثبوت الاخوة لإخوة أولاده ، وذلك غير
مقتض للتحريم بوجه من الوجوه. انتهى ، وهو جيد.
وبالجملة فإن القول المذكور ضعيف لا يلتفت إليه ، وعليل
لا يعول عليه ، والتمسك بأصالة الحل أقوى مستمسك حتى يقوم الدليل الواضع على
الخروج ، عنه ، والله العالم.
المسألة الرابعة : هل يحل
للفحل النكاح في إخوة المرتضع بلبنه أم لا؟ والأشهر الأظهر الأول ، وبه صرح الشيخ
في المبسوط فيما قدمناه من عبارته في المسألة الثانية ، وبالثاني صرح في الخلاف
والنهاية ، وإليه ذهب ابن إدريس كما تقدم نقل ذلك أيضا ، وكلام من عداهما من
الأصحاب متفق النظام متسق الانسجام على الجواز.
والعجب هنا من المحقق الشيخ علي (قدسسره) في الرسالة
حيث قال ـ بعد نقله عن الشيخ التحريم وعن العلامة في التحرير والقواعد الجواز ـ ما
هذا لفظه :
والظاهر عدم الفرق بين بنات الفحل بالنسبة إلى أب
المرتضع وأخوات المرتضع بالنسبة إلى الفحل نظرا إلى العلة المذكورة في الحديثين
السابقين ، فإن كانا حجة وجب التمسك بمقتضي العلة المنصوصة ، وإلا انتفى التحريم
في المقامين ، وعلى كل فالاحتياط فيهما أولى وأحرى. انتهى.
أقول : فيه (أولا) أنه لا يخفى أن العلة المنصوصة في
الروايتين المشار إليهما
إنما هو صيرورة أولاد الفحل أو
المرضعة بمنزلة أولاد أب المرتضع ، وأما صيرورة أولاد أب المرتضع بمنزلة أولاد
الفحل في التحريم عليه فليس في الروايات إشعار به بوجه ولا دلالة لها عليه بنوع
بالكلية ، وكيف يكون داخلا في العلة المنصوصة.
وقد عرفت مما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني أن العمل
بالعلة المنصوصة يقتضي وجود تلك العلة في المعدى إليه ، مثلا قول الشارع حرمت
الخمرة لاسكارها فمتى قلنا بالعمل بمنصوص العلة ، فإنه لا بد من حصول الإسكار في
الفرد المعدى ليتعدى التحريم إليه ، والعلة التي في الفرع هنا وهي نكاح الفحل في
إخوة المرتضع بلبنه ليست هي التي في الأصل كما عرفت.
و (ثانيا) أنه أي فرق بين هذه الصورة وبين سابقتها حيث
يختار الجواز هناك ، وينفي دلالة النصوص على حكم تلك الصورتين ، ويرجح التحريم هنا
فإنه إن وقف على ظاهر النص فمورده إنما هو هذا الفرد الخاص ، وهو نكاح أب المرتضع
في أولاد صاحب اللبن ، وإن تعدى عنه بالنظر إلى ما يتخيل من ظاهر التعليل وإجراء
حكمه في اللازم والمشابه ونحوهما فلا معنى لمنعه هناك الجواز ، وإلزامه للشهيد في
المسألة الثانية بالقول بالقياس فإن الأمر في الجميع واحد.
بل ربما يقال : بأن إجراء حكم التعليل في المسألة
الثالثة التي منع فيها حصول اللزوم بالكلية أظهر منه في هذه المسألة ، وذلك لأن
البنوة من حيث هي مستلزمة لإخوة من شارك فيها ، فبنوة أولاد الفحل لأب المرتضع
مستلزم لإخوة بعضهم ببعض ، بخلاف ما هنا ، فإن كون أولاد الفحل بمنزلة أولاد أب
المرتضع لا يستلزم العكس ، لأنه لا ملازمة بالمرة كما لا يخفى.
ونحن إنما ضربنا صفحا عن الاخوة ، ولم نرتب عليها هناك
حكما شرعيا وإن كان لزومها ظاهرا من حيث إن الأحكام الشرعية لا تبنى على اللزومات
العقلية والمناسبات الذوقية ، بل ولا على جهات الأولوية ، بل المدار إنما هو على
صريح
النصوص الجلية ، وإنما ذلك مذهب أصحاب
الرأي والقياس ، كما صرحت به النصوص عن أهل الخصوص (صلوات الله عليهم).
وربما كان منشأ الشبهة فيما ذكره (قدسسره) هو أنه لما
كان أولاد الفحل إنما صاروا بحكم أولاد المرتضع كما صرحت به النصوص من جهة إخوتهم
للمرتضع ، فألحقهم بأبيه النبي فيجب أن يكون أولاد أب المرتضع بحكم أولاد الفحل
لذلك أيضا.
وفيه ـ مع الإغماض عن عدم دلالة النص عليه ، وكون ذلك
علة مستنبطة بل أبعد ـ أن صيرورة ولد الفحل بالنسبة إلى أب المرتضع في التحريم
عليه كولده لا يستلزم صيرورة ولد أب المرتضع بالنسبة إلى الفحل كولده في التحريم
عليه ، لجواز قوة العلاقة الموجبة لترتب الحكم في الأول دون الثاني ، فإن من
الجائز أن يقال : إنه لما اشترك الفحل وأب المرتضع في بنوة هذا المرتضع ، وكانت
البنوة بالنسبة إلى أحدهما أقوى منها بالنسبة إلى الآخر.
وبعبارة أخرى : وكانت البنوة بالنسبة إلى أحدهما نسبا
وإلى الآخر رضاعا ولا ريب أن البنوة النسبية أقوى علاقة من الرضاعية ، فمن الممكن
القريب أن تلك البنوة النسبية لقوة علاقتها تلحق الاخوة الرضاعية بالأب النسبي
بخلاف البنوة الرضاعية ، فإنها لضعف علاقتها لا تلحق الاخوة النسبية بالأب
الرضاعي. وهذا يصلح وجها لما دل عليه النص من إلحاق الاخوة الرضاعية بالأب النسبي
دون العكس.
وبالجملة فإن ما ادعاه المحقق المذكور من كون العلة في
الحديثين جارية في كلتا المسألتين لا أعرف له وجها يعتمد عليه ولا دليلا يوجب
المصير إليه.
هذا ما وقفت عليه في كتب أصحابنا التي يحضرني الآن من
المسائل التي وقع الخلاف فيها مما ادعى فيها الخروج عن دائرة تلك القاعدة الكلية
والضابطة الواضحة الجلية وقد أوضحنا ـ بحمد الله تعالى سبحانه ومنه ـ عدم خروج شيء
منها عن جادة ذلك الضابطة المنصوص ،
سوى المسألة الأولى لتصريح النص بها على الخصوص ، وقد صرح بذلك أيضا المحقق الشيخ
علي (رحمة الله عليه) في صدر الرسالة وقد قدمنا عبارته في المقام الأول ، والله
العالم.
تنبيهان :
الأول : اعلم أن
المستفاد من كلام الأصحاب كما صرح به غير واحد في هذا الباب وعليه دلت نصوص أهل
الخصوص (سلام الله عليهم) هو أنه لا فرق في تحريم أم المرضعة على المرتضع بين
كونها إما نسبية أو رضاعية لدخولهما في عموم الأمهات التي صرحت الآية بتحريمها ،
وكذا أختها وأخت الفحل ، فإنهما محرمان عليه ، سواء كانت إخوتهما من النسب أو
الرضاع ، لدخولهما في عموم الأخوات الموجب لكونهما بالنسبة إلى المرتضع خالة وعمة
، وهكذا خالتها وعمتها تحرمان عليه وإن كانتا من الرضاع ، وقد تقدم ذكر ذلك في
تفريع الرضاع على النسب في صدر المطلب.
وقال العلامة (قدسسره) في القواعد :
لا تحرم أم المرضعة من الرضاع على المرتضع ولا أختها منه ولا بنات أخيها وإن حرمن
في النسب ، لعدم اتحاد الفحل ، وقال المحقق الشيخ علي في شرحه : قد حققنا أن حرمة
الرضاع لا تثبت بين مرتضعين إلا إذا كان الفحل واحدا فيما تقدم ، وأوردنا النص
الوارد بذلك ، وحكينا خلاف الطبرسي.
فعلى هذا لو كان لمن أرضعت صبيا أم من الرضاع لم تحرم
تلك الام على الصبي ، لأن نسبتها إليه بالجدودة إنما تتحصل من رضاعه من مرضعة
ورضاع مرضعته منها ، ومعلوم أن اللبن في الرضاعين ليس لفحل واحد ، فلا تثبت
الجدودة بين المرتضع والام المذكورة لانتفاء الشرط ، فينتفي التحريم.
ومن هذا يعلم أن أختها من الرضاع وعمتها منه وخالتها منه
لا يحرمن ،
وإن حرمن من النسب ، لما قلنا من عدم
اتحاد الفحل ، ولو كان المرتضع أنثى لا يحرم عليها أبو المرضعة من الرضاع ولا
أخوها منه ولا عمها منه ولا خالها منه لمثل ما قلناه.
وقيل : عموم قوله عليهالسلام (1) «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». يقتضي التحريم هنا وأيضا فإنهم قد أطلقوا على المرضعة
أنها أم ، وعلى المرتضعة بلبن أب المرضعة أنها أخت ، فتكون الأولى جدة والثانية خالة
، فيندرجان في عموم المحرم للجدة والخالة ، وكذا البواقي.
قلنا : الدال على اتحاد الفحل خاص ، فلا حجة في العام
حينئذ ، وأما الإطلاق المذكور فلا اعتبار به مع فقد الشرط ، فإنهم أطلقوا على
المرتضع أنه ابن المرضعة ، وعلي المرتضعة منها بلبن فحل آخر أنها بنت لها أيضا ،
ولم يحكموا بالأخوة المثمرة للتحريم بين الابن والبنت لعدم اتحاد الفحل ، انتهى
كلامه زيد مقامه.
أقول : العجب منهما (عطر الله مرقديهما) فيما ذهبا إليه
وما اعتمدا في الاستدلال عليه ، وذلك فإن اشتراط اتحاد الفحل إنما هو في تلك
الصورتين المخصوصتين المتقدم ذكرهما في الشرط الرابع ، وهما حصول التحريم بين
المرتضعين الأجنبيين أو في إكمال النصاب بمعنى أنه لا يحرم أحد ذينك المرتضعين على
الآخر إلا بأن يرتضعا من لبن فحل واحد ، أو لا ينشر الرضاع الحرمة بين المرتضع
وبين المرضعة والفحل وتوابعهما حتى يكمل النصاب من لبن فحل واحد ومرجعه إلى اشتراط
ذلك في حصول الاخوة والبنوة خاصة.
وعلى ذلك دلت الروايات المتقدمة كصحيحة الحلبي (2) «قال سألت أبا
عبد الله
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 291 ح 59 وص 292 ح 60 ، الكافي ج 5 ص 437 ح
2 و 3 ، الوسائل ج 14 ص 271 ح 3 و 4.
(2) الكافي ج 5 ص 443 ح 11 ، التهذيب ج 7 ص 321 ح 31 ، الوسائل
ج 14 ص 294 ح 3.
عليهالسلام «عن الرجل يرضع
من امرأة وهو غلام ، أيحل له أن يتزوج أختها لأمها من الرضاعة؟ فقال : إن كانت
المرأتان رضعتا من امرأة واحدة من لبن فحل واحد فلا تحل ، وإن كانت المرأتان رضعتا
من امرأة واحد من لبن فحلين فلا بأس بذلك».
وموثقة عمار الساباطي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن غلام رضع
من امرأة ، أيحل له أن يتزوج أختها لأبيها من الرضاع؟ قال فقال : لا ، قد رضعا
جميعا من لبن فحل واحد من امرأة واحدة ، قال : قلت : فيتزوج أختها لأمها من
الرضاعة؟ قال : فقال : لا بأس بذلك إن أختها التي لم ترضعه كان فحلها غير فحل التي
أرضعت الغلام ، فاختلف الفحلان فلا بأس».
والخبران المذكوران صريحان فيما قلناه ، واضحان فيما
ادعيناه ، فإنه عليهالسلام خص اشتراط
اتحاد الفحل بالمرأتين المذكورتين ، وهي المرضعة وأختها ، وأنه متى اتحد الفحل
بالنسبة إليهما ثبتت الأختية ، ومتى ثبتت الأختية فإنها تحرم على المرتضع لكونها
خالته رضاعا ، ولو كان اتحاد الفحل شرطا في التحريم بين المرتضع وأم المرضعة أو
أختها أو نحوهما مما تقدم لما حكم عليهالسلام بتحريم أخت
المرضعة على المرتضع في هذين الخبرين متى حصلت الأختية بينهما باتحاد الفحل ، لأن
الفحل متعدد البتة ، فإن فحل المرتضع غير فحل أخت المرضعة ، وبموجب ما ذهبوا إليه
لا تحرم مع أنه عليهالسلام حكم بالتحريم.
وبه علم أن اشتراط اتحاد الفحل في التحريم ليس على
الإطلاق الذي توهموه بحيث يدخل تحته هذا الفرد الذي عدوه ، وإنما هو مخصوص بالأخوة
والبنوة كما ذكرناه ، والظاهر أن الفاضلين المذكورين لم يلاحظ الخبرين ، ولم يطلعا
عليهما في المقام.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 442 ح 10 ، التهذيب ج 7 ص 320 ح 29 ، الوسائل
ج 14 ص 294 ح 2.
وأما اشتراط اتحاد الفحل في إكمال النصاب لتحصل البنوة
بذلك فيدل عليه صحيحة بريد وقد تقدمت في الشرط الرابع ، قال : في المسالك :
المشهور بين أصحابنا أنه يشترط في الرضاع المحرم أن يكون اللبن لفحل واحد ، بل
ادعى عليه في التذكرة الإجماع.
وهذا الشرط يشمل أمرين : أحدهما : اتحاد الفحل في اللبن
الذي ينشر الحرمة بين المرتضع والمرضعة وصاحب اللبن ، بمعنى أن رضاع العدد المعتبر
لا بد أن يكون لبنه لفحل واحد ـ إلى أن قال ـ : الثاني : اشتراط اتحاد الفحل في
التحريم بين رضيعين فصاعدا ، بمعنى أنه لا بد في تحريم أحد الرضيعين على الآخر مع
اجتماع الشروط السابقة من كون الفحل وهو صاحب اللبن الذي رضعا منه جميعا واحدا.
انتهى :
وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه من أن هذا الشرط مخصوص
بهاتين الصورتين.
وأما شرطية ذلك في التحريم بين المرتضع وأم المرضعة أو
أختها من الرضاعة ، فإن ذلك أمر لا يكاد يعقل صحته ووقوعه بالمرة ، وبالجملة فإن
كلامهما (رضوان الله عليهما) لا يخلو من غفلة ، والله العالم.
الثاني : قال الفاضل العماد مير محمد باقر الشهير
بالداماد في رسالته التي في التنزيل ـ بعد نقل ذلك عنهما وتخصيص اعتبار الشرط
بالأخوة الرضاعية ـ ما هذا لفظه : والسر في اعتبار وحدة الفحل هناك أن الأصل في
التحريم بالرضاع هو التحريم بالنسب.
وفي النسب قد يكون أخت أخت الغلام أو أخت أخيه لا يحرم
عليه إذا كانت النسبة مختلفة من جهة الأم ومن جهة الأب فلذلك اعتبر في تحريم
الرضاع عدم اختلاف الفحل كيلا تختلف النسبة ، إذ الفحل في الرضاع بمنزلة الأب في
النسب ، والأمومة والجدودة لا تصح فيهما ، بل إنهما في النسب ملاك التحريم على
الإطلاق فكذلك في الرضاع ، وسواء في ذلك قلنا بقول الطبرسي أم بنينا الأمر على
القول
الذائع : فإذن تحريم أم المرضعة من
الرضاع على المرتضع لا انفراع له على قول الطبرسي ولا ابتناء له على عدم اعتبار
الفحل بل هو من جزئيات ما عليه النص والإجماع.
فأما أخت المرضعة من الرضاعة بارتضاعهما من امرأة واحدة
أجنبية على قول الطبرسي تحرم على المرتضع مطلقا ، وعلى الذائع المشهور إذا كان
ارتضاعهما من تلك المرأة من لبن فحل واحد ، وكذلك الكلام في عمة المرضعة وخالتها
من الرضاعة.
والأنثى المرتضعة يحرم عليها أبو مرضعتها من الرضاعة ،
وكذلك أخو مرضعتها من الرضاع ، أي المرتضع من لبن أبيها الراضع على ما هو الأشهر
أو الذي أرضعته أمها الرضاعية على قول الطبرسي وكذلك عم مرضعتها وخالها من الرضاعة
، انتهى كلامه زيد مقامه ، وهو جيد متين.
المورد الثالث : اعلم أنه قد
صرح الأصحاب بأن المصاهرة كما تتعلق بالنسب وتقتضي التحريم به كذلك تتعلق بالرضاع
وتقتضي التحريم به ، فمن نكاح امرأة فكما تحرم عليه أمها وبنتها مع الدخول بالأم
وأختها جمعا وبنت أخيها وأختها بدون رضاها على المشهور إذا كان الجميع من جهة
النسب ، كذاك يحرمن من جهة الرضاع ، فتحرم عليه أمها الرضاعية وبنتها وأختها إلى
آخر ما ذكر في النسب فإنهن يحرمن في الرضاع ، وكما تحرم أيضا زوجة الأب وزوجة
الابن النسبيين كذلك زوجتيهما إذا كانا رضاعيين.
ومما فرعوا على ذلك ما لو كان تحته كبيرة فطلقها فنكحت
صغيرا وأرضعته الرضاع المحرم بلبن المطلق فإنها تحرم عليهما مؤبد أما على المطلق
فإنها لما أرضعت بلبنه وكان ابنه وقد نكحته فصارت حليلة ابنه ، وأما على الصغير
فلأنها امه وزوجة أبيه أيضا ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أن الرضاع المحرم كما يمنع
من النكاح سابقا يبطله لا حقا ، وذكر جملة من الصور المتفرعة على ذلك.
ثم اعلم أيضا أنهم صرحوا بأن المصاهرة لا يتعدى إليها
تحريم الرضاع ، والذي يحرم من الرضاع إنما هو ما يحرم من النسب لا من المصاهرة ،
وربما أو هم ذلك التناقض في كلامهم وليس كذلك ، فإن المفهوم من كلامهم أن المصاهرة
على قسمين :
أحدهما : ما يكون ناشئا وفرعا عليه ، وهذا هو الذي لا
يتعدى إليه تحريم الرضاع ، كما إذا ارتضع صغيرا من امرأة رضاعا محرما ، فإن
المرضعة تصير بمنزلة الزوجة للأب النسبي من حيث إنها أم ابنه وأمها بمنزلة أم
الزوجة وأختها بمنزلة أخت الزوجة وبناتها بمنزله بنات الزوجة وهكذا ، فهذه
المصاهرة أعني كون أم المرضعة بالنسبة إلى الأب النسبي أم زوجة وأختها أخت زوجة
وهكذا ، انما نشأ من الرضاع خاصة فمثل هذه المصاهرة لا تؤثر فيها حرمة الرضاع ولا
يتعدى إليها التحريم بأن تحكم بتحريم الام والأخت مثلا على الأب النسبي بسبب ذلك
الرضاع ، بل يجوز له تزويجها.
ومن ذلك المسائل الأربع المتقدمة في سابق هذا المقام ،
فإن التحريم فيها مبني على التحريم بهذه المصاهرة ، وقد عرفت أن لا تحريم في شيء
منها إلا في الصورة الاولى من حيث تلك النصوص المتقدمة فيها.
وأنت خبير بأن إطلاق المصاهرة على ذلك لا يخلو من تجوز ،
فإن المصاهرة على ما ذكروه عبارة عن علاقة تحدث بين الزوجين وأقرباء كل منهما بسبب
النكاح توجب الحرمة ، وهذه العلاقة المدعاة هنا بين الأب النسبي وبين المرضعة ليست
بسبب النكاح ، فلا مصاهرة في الحقيقة ، وإنما ذلك نوع تجوز باعتبار أنها لما صارت
أم ولده فكأنما بمنزلة الزوجة ، فهي مشابهة للزوجة في الأمومة ، فلا يترتب عليها
تحريم في الأقارب ، لاختصاص ذلك بالمنكوحة.
والقسم الثاني : ما يكون ناشئا عن النكاح ، مثل كون
المرأة أم الزوجة أو أختها أو بنتها ، فإن هذا الوصف إنما يثبت بنكاح بنت المرأة
أو أختها أو أمها ،
وهذا هو الذي يتعدى إليه تحريم الرضاع
بمعنى أنه بعد تحقق النكاح الصحيح ، فكما أنه تحرم الأم النسبية للزوجة ، فكذلك
تحرم الام الرضاعية لدخولها في «أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» ، وبنتها
الرضاعية لدخولها مع الدخول بها في «رَبائِبُكُمُ» وهكذا ولا
تنافي ذلك قوله عليهالسلام «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». لأن ما ذكرنا من المصاهرة داخل في النسب.
والضابط هنا أن ينزل الولد من الرضاع منزلة الولد من
النسب فأمه حينئذ بمنزلة الأم ، وأبوه بمنزلة الأب ، وأخته بمنزلة الأخت ، إلى آخر
المحرمات ، ثم تلحقهم أحكام المصاهرة النسبية عينا أو جمعا.
وإن شئت زيادة توضيح في المقام ليسهل تناوله لجملة
الأفهام فنقول :
فإن النسب قد يكون وحده سببا في التحريم ، وقد يكون مع
المصاهرة وذلك فإن تحريم الام على ابنها إنما هو من حيث الأمومة ، وتحريم البنت
على أبيها إنما هو من حيث البنتية وهكذا باقي المحرمات السبع فهذا تحريم بالنسب
خاصة ، ومثل تحريم أم الزوجة وقع من حيث الأمومة ومن حيث التزويج بابنتها ، والأول
هو الجزء النسبي ، والثاني المصاهرة ، إذ لو لم تكن اما لم تحرم ، ولو لم يتزوج ابنتها
لم تحرم أيضا ، ومثله تحريم الربيبة وقع من حيث البنتية ، ومن حيث الدخول بأمها ،
وهكذا جملة محرمات هذه المصاهرة ، فالعلة في التحريم هنا مركبة من جهة النسب
والمصاهرة فصح بهذا قوله عليهالسلام «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب». بحمل المحرم النسبي على ما هو أعم من كونه علة تامة أو
جزء العلة ، وفي الغالب إنما يطلق على هذا تحريم المصاهرة ، ولذا تراهم في تعداد
أسباب المحرمات يجعلون ما يحرم بالنسب فسيما لما يحرم بالمصاهرة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن التحريم في الرضاع فرع على هذا
التحريم بكلا فرديه ، بمعنى أنه إذا أرضعت امرأة بلبن اخرى الرضاع المحرم كانت
ابنة لها والفحل أبا وأولادهما اخوة ، واخوة الفحل وأخواته أعماما وعمات ، واخوة
المرضعة
وأخواتها أخوالا وخالات وهكذا ،
فالتحريم هنا في الرضاع فرع النسب بخصوصه ، ثم إذا تزوجت تلك المرأة المرتضعة لحق
هؤلاء أحكام المصاهرة من تحريم تلك الرضاعية على الزوج عينا وبنتها الرضاعية مع
الدخول كذلك ، وأختها الرضاعية جمعا وهكذا.
وهذا مما كان التحريم فيه فرعا على النسب والمصاهرة معا
فتحرم أم الزوجة الرضاعية لوقوعها موقع الام النسبية ، وبنت الزوجة الرضاعية مع
الدخول بأمها بوقوعها موقع البنت النسبية المدخول بأمها وهكذا.
وهذا بخلاف ما أسلفناه من القسم الأول من المصاهرة ، وهي
المصاهرة المترتبة على الرضاع ، فإن مبناها إنما هو على تنزيل المرضعة بالنسبة إلى
الأب النسبي لكونها اما رضاعية بمنزلة الأم النسبية ، فتحرم بناتها على الأب
النسبي لكونهن بمنزلة بناته ، وأمها لكونها بمنزلة أم الزوجة ، وهكذا.
كما عرفت في المسائل الأربع المتقدمة في سابق هذا المقام
، فإن مبنى التحريم فيها على هذه المصاهرة ، ويأتي على هذه المصاهرة أيضا تنزيل
الفحل لكونه أبا رضاعيا بمنزلة الأب النسبي ، فيحرم عليه النكاح في بنات المرتضع
وفي أم المرضعة وأم الفحل ، والقائلون بالتنزيل يحكمون بالتحريم بهذه المصاهرة كما
تقدمت الإشارة عليه ، وقد أوضحنا بطلان هذا القول بما لم يسبق إليه سابق في
رسالتنا المتقدم ذكرها ، والله العالم.
المورد الرابع : قد صرح
الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الرضاع المحرم كما يمنع من النكاح لو كان سابقا
عليه كذا يبطله لو كان لاحقا له ، فكما أن امه لو أرضعت بنتا بالشروط المتقدمة
صارت أخته وحرمت عليه ، فكذا لو تزوج رضيعة ثم إن امه أرضعتها الرضاع المحرم فإنها
تصير أخته ، وينفسخ نكاحها وتحرم عليه مؤبدا.
وكذا لو أرضعت جدته من أبيه صبية ، فإنها تكون عمته ،
ولو أرضعتها
جدته من امه صارت خالته ، فلا يجوز له
نكاحها في الحالين ، كذلك لو تزوج صبية ثم حصل الرضاع الموجب لذلك بعد ذلك ، فإنه
ينفسخ النكاح الأول ويبطل لكونها عمته أو خالته فتحرم عليه مؤبدا ، وهكذا لو أرضعت
زوجة أخيه بلبنه صبية فإنها تكون بنت أخيه ، ويصير هو عمها ، فلا يجوز له نكاحها ،
فكذا لو تزوجها أولا ثم حصل الرضاع الموجب لذلك بعده فإنه ينفسخ النكاح للعلة
المذكورة.
ونحو ذلك لو أرضعتها زوجة أبيه بلبن الأب فإنها تصير
أخته فلا يجوز له نكاحها ، فكذا لو تزوجها أولا ثم حصل الرضاع ثانيا ، فإنه ينفسخ
النكاح الأول ، ويبطل للعلة المذكورة ، وقيد اللبن في زوجة الأخ بكونه لبن الأخ
وكذا في زوجة الأب بكونه بلبن الأب احترازا عما لو كان بلبن الزوج السابق فإنه
يمكن فرضه كما تقدم ، وغاية ما يلزم على هذا التقدير أن تكون الصغيرة ربيبة للأخ
أو الأب ، والربيبة غير محرمة عليه.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا ارتضعت الصغيرة في هذه
الفروض بعد العقد عليها على وجه انفسخ نكاحها فلا يخلو إما أن يكون بسبب مختص بها
بأن سعت إلى الكبيرة وارتضعت الرضاع المحرم والكبيرة نائمة مثلا لا شعور لها بذلك
، أو يكون السبب من الكبيرة بأن تولت إرضاعها ، أو يكون السبب مشتركا بينهما بأن
تكون الصغيرة سعت وارتضعت ولم تمنعها الكبيرة من ذلك ، وعلى تقدير تولي الكبيرة
لذلك إما أن تكون مختارة أو مكرهة ، فهنا صور خمس :
الاولى : أن يكون الرضاع بسبب مختص بالصغيرة ، قالوا :
لا شيء هنا لها على الزوج ولا على المرضعة ، لأن الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول ،
فكان كالردة من قبلها كذلك ، ولا فرق بين كونها مفوضة أو ممهورة ، وبه جزم المحقق
في الشرائع ، وجعله في التذكرة أقوى.
وفيه إيذان باحتمال عدم السقوط ولا يخلو من قوة ، لأن
المهر قد وجب بالعقد ، والأصل يقتضي بقاءه حتى يقوم الدليل على سقوطه ، ولا نص هنا
يدل
على ذلك.
قولهم : إن الفسخ جاء من قبلها ، فيه أن الصغيرة لا قصد
لها ، فلا يعتبر بفعلها ، بل وجوده كعدمه.
قال في المسالك بعد ذكر نحو ذلك : فيحتمل حينئذ أن يثبت
لها نصف المهر ، لأنها فرقة قبل الدخول كالطلاق ، وهو أحد وجهي الشافعية ، ويضعف
بأنه قياس لا نقول به ، فإما أن يثبت الجميع لما ذكر ، أو يسقط الجميع من حيث
استناده إليها ، وكيف كان فالمذهب السقوط لما عرفت. انتهى.
أقول : والمسألة لعدم النص محل توقف وإشكال ، إلا أن
الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية هو عدم السقوط لما عرفت ، فإنه بعد
ثبوته بالعقد يحتاج سقوطه إلى دليل واضح ، وفعل الصغيرة ـ لتجرده عن القصد وأنه في
حكم العدم ـ لا يصلح دليلا للسقوط.
الثانية : أن يكون الرضاع بمباشرة الكبيرة وفعلها بأن
تولت الإرضاع بنفسها من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ، وقد اختلف الأصحاب هنا في حكم
المهر ، فقيل : إنه يجب للصغيرة على الزوج نصف المهر ، لأنه فسخ قبل الدخول من غير
جهة الزوجة ، فجرى مجرى الطلاق ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط وتبعه عليه جماعة.
وقيل : يجب عليه جميع المهر ، لأن المهر يجب جميعه
بالعقد كما سيأتي ، ولا ينتصف إلا بالطلاق وهذا ليس بطلاق والحاقة به قياس ،
فيستصحب وجوبه إلى أن يثبت المزيل ، واختاره في المسالك ، ثم إنه متى غرم الزوج
المهر أو نصفه بناء علي القولين المذكورين فهل له الرجوع به على المرضعة أم لا؟
قولان مبنيان على أن البضع هل يضمن بالتفويت أم لا؟
والقول بالرجوع للشيخ في المبسوط وتبعه عليه جماعة ، لأن
البضع مضمون
كالأموال (1) ، هذا إذا
قصدت المرضعة بالإرضاع إفساد النكاح كما قيده به الشيخ في المبسوط ، والمحقق في
الشرائع وغيرهما ، فلو لم تقصده فإنه لا شيء عليها ، لأنها على تقدير عدم القصد
غير متعدية ، كما لو حفر في ملكه بئرا فتردى فيه أحد ، ولأنها محسنة وما على
المحسنين من سبيل.
والقول بعدم الرجوع علي المرضعة للشيخ أيضا في الخلاف ،
سواء قصدت الفسخ أم لم تقصد ، لأن منفعة البضع لا تضمن بالتفويت ، بدليل ما لو
قتلت الزوجة نفسها أو قتلها قاتل أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بإرضاعه ،
فإنها لا تغرم للزوج شيئا.
وبالجملة فالبضع ليس كالمال مطلقا ، وإلحاقه به في بعض
المواضع لا يوجب إلحاقه مطلقا ، ومما يخرجه عن الإلحاق بالمال جواز تفويض البضع
وعدم لزوم شيء على تقدير عدم الطلاق ، والمال ليس كذلك.
هذا كله إذا سمي له مهرا في العقد ، فلو كانت مفوضة
البضع فهل يجب للصغيرة شيء على الزوج بإرضاع الكبيرة لها؟
قيل : وجبت لها المتعة إلحاقا لهذا الفسخ بالطلاق ، ورد
ببطلان القياس مع وجود الفارق ، فإن الفسخ بالطلاق جاء من قبل الزوج ، وهنا ليس من
قبله ، ومن ثم احتمل في المسالك السقوط أصلا ، فلا يجب لها شيء بالكلية ، قال :
كما لو مات أحدهما لأن عقد النكاح بالتفويض لا يوجب مهرا ، لأنه لم يذكر ، وإنما
أوجبه الطلاق بالآية ، فلا يتعدى مورده ، قال : وليس هذا بقياس على الموت كما قاسه
الأول على الطلاق ، بل مستند إلى أصل البراءة ، ثم احتمل أيضا وجوب مهر المثل أو
نصفه على ما تقدم من الوجهين ، لأنه عوض البضع حيث لا يكون هناك
__________________
(1) والوجه في ذلك أنه يقابل بمال في النكاح والخلع ، ولا
يحتسب على المريض لو نكح بمهر المثل فما دون ، وكذا المرتضعة بمهر المثل ويضمن للمسلمة
المهاجرة مع كفر زوجها وبالشهادة بالطلاق ثم الرجوع عنها ، كذا ذكره في المسالك (منه
ـ قدسسره ـ).
مسمى لامتناع أن يخلو البضع من عوض.
انتهى.
ثم إنه يأتي هنا ما تقدم أيضا من رجوع الزوج بما يغرمه
على المرضعة وعدمه حسبما تقدم من الخلاف والتفصيل.
الثالثة : ان يكون الرضاع بفعل الصغيرة والكبيرة عالمة ،
لكن لم تعنها عليه ، كما لو سعت الصغيرة إليها وشربت من الثدي ، وهي مستيقظة ولم
تمنعها ولم تعنها ، وفي إلحاقها بالسابقة في الضمان أو عدم الضمان وجهان : من أنها
لم تباشر الإتلاف ، ومجرد قدرتها على منعها لا يوجب الضمان كما لو لم تمنعها من
إتلاف مال الغير مع قدرتها على المنع.
قال في المسالك : ويظهر من المصنف وأكثر الجماعة أن
تمكينها بمنزلة المباشرة ، وبه صرح في التذكرة لأن تمكينها من الرضاع بمنزلة الفعل
حيث إن المرتضعة ليست مميزة ، ولا يخلو من نظر ، ولو قيل هنا باشتراك الصغيرة
والكبيرة في الفعل فيكون السبب منهما ولا يرجع الزوج على المرضعة إلا بنصف ما
يغرمه لكان أوجه من ضمانها مطلقا ، وظاهر الأصحاب القطع بإلحاق التمكين بالمباشرة.
انتهى.
الرابعة : أن تتولى
الكبيرة الإرضاع ، ولكن في موضع الحاجة. بأن لا تجد مرضعة غيرها مع اضطرار الصغيرة
إلى الارتضاع ووجب على الكبيرة الفعل ، قالوا : وفي ضمانها حينئذ وجهان : من كونها
مأمورة بالفعل شرعا فكان كالإذن في الإتلاف فلا يتعقبه الضمان وأنها محسنة ، وما
علي المحسنين من سبيل ، وهو اختيار الشيخ في المبسوط ، ومن تحقق المباشرة للإتلاف
قالوا : لأن غرامته لا يختلف بهذه الأسباب.
قال في المسالك : وظاهر المصنف وصريح بعضهم عدم الفرق ،
واقتصر في التذكرة على نقل القولين عن الشافعية ، والأول لا يخلو من قرب. انتهى ،
وأراد بالأول ما قلناه أولا من القول بعدم الضمان.
الخامسة : أن الكبيرة مكرهة على الإرضاع ، بأن حملها
عليه القادر على فعل ما توعدها به مع ظنها فعله واستلزامه ضررا لا يتحمل مثله عادة
وإن لم يبلغ حد الإلجاء ، قال في المسالك : ولا ضمان هنا على المرضعة لأن الإكراه
يسقط ضمان المال المحض ، وغاية البضع إلحاقه بالمال ، وأما ضمان الزوج للصغيرة
فثابت على كل حال ، وحكى في التذكرة فيه عن الشافعية وجهان في أنه على المكرهة أو
المخوف ولم يرجح شيئا ، والمصنف تردد في ضمان المرضعة في جميع الأقسام نظرا إلى
تردده في أن البضع هل يضمن بالتفويت أم لا؟ وقد ظهر مما قررناه وجه تردده. انتهى.
أقول : لا يخفى أن هذه التفريعات في هذا المقام كغيره
مما قدمناه في كثير من الكتب المتقدمة إنما جرى فيه أصحابنا على ما ذكره العامة
سيما الشافعية فإنهم هم الذين يكثر النقل عنهم في التذكرة ، وقبله الشيخ في كتبه
فيختارون من ذلك ما رجحوه بهذه التعليلات التي قد عرفت أنها لا يمكن الاعتماد
عليها في تأسيس الأحكام الشرعية ، ونصوصنا خالية من ذلك بالكلية ، والعمل على
الاحتياط في مثل هذا المقام فإنه هو المأمور به عنهم عليهمالسلام ، والله
العالم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن هنا فروعا قد ذكرها الأصحاب مما
يتفرع على القاعدة المذكورة في أول المقام ، ونحن نذكر جملة منها في مسائل.
الأولى : لو أرضعت
الجدة من الام ابن بنتها بلبن جده حرمت البنت على زوجها ، بناء على ما تقدم في
المسألة الأولى من المسائل الأربع المذكورة في سابق هذا المقام ، وهي أنه لا يجوز
لأب المرتضع أن ينكح في أولاد صاحب اللبن ، وأنه كما كان مانعا من النكاح كذلك
يكون مبطلا له بعد وقوعه ، فإن هذا الصبي لما ارتضع بلبن جده وجدته. وكذا لو ارتضع
بلبن بعض أزواج جده ، فإنه يصير ولدا للجد والجدة ، ويصير ان أصحاب اللبن ، فلو
نكح أبو المرتضع زوجته بعد هذا الرضاع لصدق أنه قد نكح في أولاد صاحب اللبن ، وقد
عرفت أنه حرام
مانع من النكاح فيكون مبطلا له هنا
وموجبا لفسخ النكاح.
وكذا لو كانت البنت التي هي أم المرتضع بنتا للجدة خاصة
، وربيبة لصاحب اللبن فإنه يصدق ذلك أيضا بالنسبة إلى الجدة التي هي صاحبة اللبن ،
وأنه لا يجوز له النكاح في بنتها بعد صيرورتها صاحبة اللبن ، كما أنه إذا ارتضع
طفل بلبن امرأة وفحلها حرم على أبيه التزويج في أولادهما وأولاد الفحل وأولاد
المرضعة وإن لم يكن من ذلك الفحل ، كذلك يكون ذلك مبطلا للنكاح بعد وقوعه كما عرفت
، أما لو كانت الجدة للأب فإنه لا مانع من إرضاعها ابن ابنها وهو ظاهر.
الثانية : أنه لو تزوج
رضعية فأرضعتها امرأته الكبيرة حرمتا عليه إن كان قد دخل بالمرضعة ، وإلا حرمت
المرضعة خاصة.
وتوضيح ذلك أنه لما امتنع الجمع في النكاح بين الام
والبنت نسبية كانت البنت أو رضاعية ، فلو أرضعت امرأة صبية وتزوج أحد المرضعة فإنه
يحرم عليه تزويج الصبية لكونها ابنة لها ، فكذلك لو تزوج رضعية وكبيرة ثم أرضعت
الكبيرة الصغيرة الرضاع المحرم ، فإن كان الرضاع بلبن الزوج فإنهما تحرمان معا ،
أما الصغيرة فلصيرورتها بالرضاع بنتا له ، وأما الكبيرة فلكونها اما للزوجة وهي
تحرم بالعقد على البنت على الأشهر ، وسيجيء الكلام فيه في محله إن شاء الله
تعالى.
وإن كان الرضاع بلبن عيره ، فإن كان قد دخل بالكبيرة
حرمتا معا أيضا لأن الكبيرة أم الزوجة ، وأم الزوجة حرام من الرضاع ، كما في أم
الزوجة من النسب ، وأما الصغيرة فلأنها بنت المدخول بها وإن لم يكن دخل بالكبيرة
لم تحرم الصغيرة مؤبدا وإن انفسخ نكاحها لأنها ربيبة لم يدخل بأمها ، وله تجديد
النكاح عليها إن شاء ، أما الكبيرة فتحرم عليه بناء على تحريم أم الزوجة مطلقا ،
دخل بالبنت أم لم يدخل كما هو الأشهر الأظهر.
ونحو ذلك أيضا لو كان تحته كبيرة فطلقها فنكحت صغيرا
وأرضعته بلبن
المطلق ، فإنها تحرم عليهما معا ، أما
على المطلق فلأن الصغير صار ابنا له ، فهي زوجة ابنه ، وزوجة الابن حرام على أبيه
، وأما على الصغير فلأنها امه من الرضاع ، وزوجة أبيه أيضا.
ثم إنه لا يخفى ان التحريم في الرضاع هنا فرع على النسب
والمصاهرة حسبما قدمنا تحقيقه ، وهذا أحد قسمي المصاهرة التي يتفرع عليه الرضاع ،
وقد تقدم بيان القسم الذي لا يجوز أن يتفرع عليه الرضاع.
والذي وقفت عليه من الأخبار هنا ما رواه الكليني في
الحسن أو الصحيح عن الحلبي (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «لو أن
رجلا تزوج جارية رضيعا فأرضعتها امرأته فسد نكاحه».
وعن الحلبي وعبد الله بن سنان (2) في الصحيح أو
الحسن عن أبي عبد الله عليهالسلام «في رجل تزوج
جارية صغيرة فأرضعتها امرأته أو أم ولده ، قال : تحرم عليه».
وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن عبد الله بن
سنان (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لو أن
رجلا تزوج جارية صغيرة فأرضعتها امرأته فسد نكاحه».
وما رواه في الفقيه بإسناده عن العلاء عن محمد بن مسلم (4) عن أبي جعفر عليهالسلام قال : «لو أن
رجلا تزوج جارية رضيعة فأرضعتها امرأته فسد النكاح».
وأنت خبير بما في هذه الأخبار على تعددها من الإجمال ،
فإنه يحتمل أن يراد بالنكاح الفاسد هو نكاح الصغيرة كما هو الأنسب بالسياق ،
ويحتمل أن يراد نكاحهما معا كما صرح به الأصحاب من التفصيل في هذا الباب ، فإنه
الموافق
__________________
(1 و 2) الكافي ج 5 ص 444 ح 4 وص 445 ح 6 ، الوسائل ج 14 ص 302
ب 10 ح 1 وص 303 ح 2.
(3) التهذيب ج 7 ص 293 ح 67 ، الوسائل ج 14 ص 302 ب 10 ح 1.
(4) الفقيه ج 3 ص 306 ح 10 ، الوسائل ج 14 ص 302 ب 10 ح 1.
لمقتضى القواعد الشرعية والقوانين
المرعية ، وكيف كان فهي دالة في الجملة.
بقي الكلام بالنسبة إلى مهر كل منهما بعد حصول التحريم ،
وقد صرحوا بالنسبة إلى الكبيرة أنه إن كان قد دخل بها استقر مهرها بالدخول فلا
يسقط بالسبب الطارئ وإن كان من جهتها كما لو ارتدت بعده ، وإن لم يدخل بها سقط
مهرها ، لأن الفسخ حصل من قبلها كالردة قبله ، وفيه إشكال.
وأما الصغيرة فإنه صرح بعضهم بأنها تستحق جميع المهر على
الزوج لوجوبه بالعقد وعدم ثبوت مسقط ، وقيل : ترجع عليه بالنصف خاصة كالطلاق ،
وقوى في المسالك الأول ، والله العالم.
الثالثة : ما لو كان له
زوجتان كبيرتان وزوجة رضيعة فأرضعت إحدى الزوجتين تلك الرضيعة الرضاع المحرم ، ثم
أرضعتها الثانية كذلك ، ولا خلاف في تحريم الصغيرة والمرضعة الأولى حسبما تقدم في
سابق هذا الموضع ، وإنما الخلاف في تحريم المرضعة الثانية ، فقيل : بعدم تحريمها ،
وهو مذهب الشيخ في النهاية وابن الجنيد ، وإليه يميل كلام المحقق في الشرائع حيث
نسب القول بالتحريم إلى أنه الأولى ، واحتجوا على ذلك بخروج الصغيرة عن الزوجية
إلى البنتية وقت رضاع الثانية لها ، وأم البنت غير محرمة على أبيها ، خصوصا على
القول باشتراط بقاء المعنى المشتق في صدق الاشتقاق كما هو رأي جمع من الأصوليين.
وبما رواه في الكافي والتهذيب عن علي بن مهزيار (1) رواه عن أبي
جعفر عليهالسلام قال : «قيل له
: إن رجلا تزوج بجارية صغيرة فأرضعتها امرأته ، ثم أرضعتها امرأة له أخرى فقال ابن
شبرمة : حرمت عليه الجارية وامرأتاه ، فقال أبو جعفر عليهالسلام «: أخطأ ابن
شبرمة ، حرمت عليه الجارية وامرأته التي أرضعتها أولا ، فأما الأخيرة فلم تحرم
عليه ، كأنها أرضعت ابنتها».
وفي التهذيب «لأنها أرضعت ابنته» وهو الصحيح ، قال في
التهذيب : وفقه
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 446 ح 13 ، التهذيب ج 7 ص 293 ح 68 ، الوسائل
ج 14 ص 305 ب 14 ج 1.
هذا الحديث أن المرأة الأولى إذا
أرضعت الجارية حرمت الجارية عليه لأنها صارت بنته ، وحرمت عليه المرأة الأخرى
لأنها أم امرأته ، فإذا أرضعتها المرأة الأخيرة أرضعتها وهي بنت الرجل لا زوجته ،
فلم تحرم عليه لأجل ذلك.
وإلى هذا القول مال السيد السند في شرح النافع ، وشيخنا
المجلسي في حواشيه على الكافي وهو الأظهر ، ويعضده أصالة الإباحة ، قال في شرح
النافع ـ بعد ذكر الرواية ـ : فهذه الرواية وإن كانت ضعيفة السند لكنها مطابقة
لمقتضى الأصل السالم عن المعارض صريحا فيترجح العمل بمضمونها. انتهى.
وقيل يتعدى التحريم إلى الثانية أيضا ، وهو مذهب ابن
إدريس ، ونقل عن الشيخ في المبسوط ، وبه صرح المحقق في النافع ، والعلامة في
المختلف وأكثر المتأخرين ، ومنهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قالوا : لأن هذه
يصدق عليها أنها أم زوجته وإن كان قد انفسخ عقدها ، لأن الأصح أنه لا يشترط في صدق
المشتق بقاء المعنى فتدخل تحت قوله «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ» ولمساواة
الرضاع للنسب ، وهو محرم سابقا ولا حقا فكذا مساويه ، كذا ذكره في المسالك ثم قال
: وهو الأقوى.
أقول : مرجع الدليل الأول إلى ثبوت هذه القاعدة الأصولية
، وهو أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق ، وقد حققنا في مقدمات
الكتاب من المجلد الأول (1) في كتاب
الطهارة ما في ذلك من الاشكال واختلاف الأقوال وعدم الصلاحية للبناء عليها في
الأحكام الشرعية والاستدلال ، وأما الثاني فيخص عموم القاعدة المذكورة بالرواية.
بقي الكلام فيما طعن به في المسالك على الرواية المشار
إليها من أنها ضعيفة السند ، قال : لأن في طريقها صالح بن حماد وهو ضعيف ، ومع ذلك
فهي مرسلة لأن المراد بأبي جعفر عليهالسلام حيث يطلق
الباقر عليهالسلام ، وبقرينة قول
ابن شبرمة في مقابلة ، لأنه كان في زمنه وابن مهزيار لم يدرك الباقر عليهالسلام.
__________________
(1) ج 1 ص 121.
ولو أريد بأبي جعفر الثاني وهو الجواد عليهالسلام بقرينة أنه
أدركه وأخذ عنه فليس فيه أنه سمع منه ذلك ، بل قال : قيل له ، وجاز أن يكون سمع
ذلك بواسطة ، فالارسال متحقق على التقديرين مع أن هذا الثاني بعيد لأن إطلاق أبي
جعفر لا يحمل على الجواد عليهالسلام. انتهى.
أقول : فيه (أولا) أن ما طعن به من ضعف السند فهو عندنا
غير مسموع ولا معتمد كما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع مما تقدم مع أن ذلك لا
يقوم حجة على الشيخ وأمثاله من المتقدمين الذين لا وجود لهذا الاصطلاح المحدث
عندهم على أنك قد عرفت أن سبطه الذي هو من المتصلبين في هذا الاصطلاح قد عمل
بالخبر المذكور وخرج عن قاعدة اصطلاحه في الأخبار ، لاعتضاد الخبر بأصالة الإباحة.
و (ثانيا) أن دعوى الإرسال بعدم صحة إطلاق أبي جعفر عليهالسلام على الجواد عليهالسلام ممنوعة كما لا
يخفى على من تتبع الأخبار ، فإنه في الأخبار غير عزيز ، ومنه خبر الكتاب الذي كتبه
إلى شيعته في أمر الخمس ، وصورة السند هكذا على ما في التهذيب (1) : محمد بن
الحسن الصفار عن أحمد وعبد الله بن محمد عن علي بن مهزيار قال : «كتب إليه أبو
جعفر عليهالسلام وقرأت أنا
كتابه إليه في طريق مكة قال : الذي أوجبت في سنتي هذه» الخبر ، وضمير «قال» يرجع
الى أحمد أو عبد الله «كتب إليه» يعني إلى علي بن مهزيار.
و (ثالثا) أنه مع تسليم الإرسال وأن المروي عنه هو
الباقر عليهالسلام فمن الظاهر
الذي لا يعتريه الريب أن جلالة الرجل المذكور وعلو منزلته في هذه الفرقة الناجية
يمنع من نقله الخبر مع عدم صحته عنده وثبوته لديه كما في مراسيل ابن أبي عمير
وغيره.
و (رابعا) أن ما جعله قرينة على كون المراد الباقر عليهالسلام من قول ابن
شبرمة في مقابلته ، فإن ذلك متجه لو خلي المقام مما يدافعه ويضاده ، فإنه متى كان
__________________
(1) التهذيب ج 4 ص 141 ح 20 ، الوسائل ج 6 ص 349 ح 5.
الظاهر كون المراد بأبي جعفر هو
الجواد عليهالسلام لرواية علي بن
مهزيار عنه ، والأصل عدم الإرسال فإن من الجائز الخالي من الاستبعاد أن يكون ذلك
السائل الذي قال له نقل له قول ابن شبرمة في المسألة ، وإن كان الرجل المنقول عنه
قد مات مذ سنين عديدة وهو عليهالسلام خطأ ابن شبرمة
في هذه الفتوى ، ولا ريب أن هذا الاحتمال أقرب من تكلفه الإرسال في الرواية بالحمل
على الباقر عليهالسلام.
و (خامسا) أن ما ذكره من أن قول ابن مهزيار «قيل له» لا
يستلزم أنه سمع ذلك مشافهة ، بل يجوز أن يكون سمع ذلك بواسطة.
فقيه : أنه مع تسليمه وإن بعد فإن حكايته ذلك عنه عليهالسلام ولو بواسطة لو
لم يكن ثابتا محققا عنده لما استجاز أن ينقله لعلمه بما يترتب عليه من العمل به ،
وهو لا يقصر عن المشافهة ، وبالجملة فإن جميع ما تكلفه لرد الرواية ليس في محله ،
ولذا لم يلتفت إليه سبطه في المقام بل عمل بالرواية من غير توقف ، والله العالم.
الرابعة : لو تزوج
رضيعتين فأرضعتهما امرأته حرمن كلهن إن كان قد أرضعتهما بلبنه ، سواء أرضعتهما على
الاجتماع أم على التعاقب. أما تحريم الصغيرتين فلأنهما صارتا ابنتيه ، وأما
الكبيرة فلأنها أم زوجتيه وأم الزوجة تحرم وإن لم تدخل بالزوجة ، والأم من الرضاع
كالأم من النسب كما تقرر ، وإن أرضعتهما بلبن غيره ، فإن كان دخل بالكبيرة حرمن
أيضا جميعا مؤبدا ، لأن الرضيعتين وإن لم يكونا بالرضاع ابنتيه لكنهما ابنتا زوجته
المدخول بها وهي أم زوجتيه فيحرمن كلهن.
قالوا : ولا فرق بين كون إرضاعهما دفعة أو علي التعاقب ،
لأن الكبيرة وإن خرجت عن الزوجية بإرضاع الأولى إلا أن الرضيعة الثانية قد صارت
بنت من كانت زوجته.
أقول : وهو يرجع إلى ما تقدم من البناء على قاعدة أنه لا
يشترط في صدق المشتق بقاء مأحذ الاشتقاق ، وقد تقدم ما فيه ، وإن لم يكن دخل
بالكبيرة فلا يخلو
إما أن تكونا ارتضعتا منها دفعة أو
على التعاقب ، فإن كان الأول بأن أعطتهما في الرضعة الأخيرة كل واحدة ثديا وارتويا
دفعة واحدة انفسخ عقد الجميع لتحقق الجمع بين الأم وبنتيها بالعقد ، واختص التحريم
المؤبد بالكبيرة لأنها أم زوجتيه ، وله تجديد العقد على من شاء من الأختين.
وإن أرضعتهما على التعاقب انفسخ نكاح الكبيرة والأولى
خاصة لتحقق الجمع المحرم فيهما وبقي نكاح الثانية لأن الكبيرة لم تصر لها أما حتى
انفسخ عقدها فلم يتحقق الجمع المحرم ، ويبقى حل الصغيرة الاولى موقوفا على مفارقة
الثانية كما في كل أخت الزوجة غير معقود عليها ، وقس على هذا ما لو أرضعت له زوجة
ثالثة ورابعة دفعة أو على التعاقب (1).
الخامسة : لو زوج ابنه
الصغير بابنة أخيه الصغيرة ثم أرضعت جدتهما أحدهما انفسخ نكاحهما ، لأن الجدة إن
كانت للأب وكان المرتضع الذكر ، فإنه يصير عما لزوجته ، لأنه صار أخا أبيها لأمه
من الرضاع بعد أن كان ابن عمها فتحرم عليه ، وإن كان المرتضع الأنثى فإنها تصير
عمة لزوجها لأنها أخت أبيه لامه فتحرم عليه أيضا.
وإن كانت الجدة المرضعة جدة للام بأن كانا ولدي خالة كما
كانا ولدي عم ، فإن كان المرتضع الذكر فإنه يصير خالا لزوجته لأنه صار أخا أمها من
الرضاع ، وإن كان المرتضع الأنثى فإنها تصير خالة لزوجها لأنها أخت امه من الرضاع.
والكل مما يحرم نكاحه في النسب فيحرم في الرضاع أيضا ، عملا بالخبر المتفق عليه.
السادسة : لو تزوجت
المرأة الكبيرة بصغير بأن عقد له عليها وليه الإجباري ،
__________________
(1) يعنى أرضعت الكبيرة زوجة له ثالثة رضيعة ، فإنه ان كان قد
دخل بالكبيرة حرمت عليه الصغيرة وهي الثالثة أيضا مؤبدا كما ذكر في الأصل والا
بقيت الصغيرة زوجة من غير فسخ وذلك لان الكبيرة قد بانت منه سابقا ، فلا يتحقق
الجمع بينها وبين بنتها ، وهكذا لو أرضعت رابعة. (منه ـ قدسسره ـ).
ثم فسخت منه بعيب أو غيره من الأمور
الموجبة للفسخ ثم إنها تزوجت بكبير وأرضعت ذلك الصغير بلبن زوجها الكبير فإنها
تحرم على الزوجين معا ، أما على الصغير فلصيرورته ابنا لها وهي أم له ، ولأنها
منكوحة أبيه. وأما الكبير فلأنها كانت زوجة لابنه الرضاعي وحليلة الابن محرمة ،
وكذا الحكم لو تزوجت بالكبير أولا ، ثم طلقها ، ثم تزوجت بالصغير ، ثم أرضعته
بلبنه ، والكلام في المهر هنا كما سبق.
السابعة : لو طلق
زوجته الكبيرة فأرضعت زوجته الصغيرة حرمتا عليه إن كان دخل بالكبيرة لصيرورتها أم
زوجته ، وصيرورة الصغيرة بنتا له إن كان الرضاع بلبنه ، وإن لم يكن الرضاع بلبنه
تصير بنتا للزوجة المدخول بها.
وإن لم يدخل بالكبيرة حرمت الكبيرة خاصة لما عرفت دون
الصغيرة ، لأن البنت لا تحرم على الزوج بمجرد العقد على أمها بل مع الدخول بالأم
نعم ينفسخ النكاح فله تجديده إن شاء.
ولا يخفى عليك أن الحكم بالتحريم هنا مبني على الاكتفاء
بمن كانت زوجته ، وقد تقدم ذكر الخلاف في مثل ذلك في المسألة الثالثة ، لكنه هنا
منتف حيث لا قائل بخلاف ما ذكرناه ، وهو يرجع إلى العمل بالقاعدة الأصولية
المتقدمة على بعض الأقوال ، وهو أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء مأخذ الاشتقاق ،
إلا أن ثمة نصا على خلاف القاعدة المذكورة ، وقائلا بذلك وهنا لا نص ولا مخالف على
الظاهر.
الثامنة : لو كان له
زوجتان كبيرة وصغيرة فأرضعت أم الزوجة الكبيرة زوجته الصغيرة انفسخ نكاحهما معا
لصيرورة الصغيرة حينئذ أختا لزوجته الكبيرة والجمع بين الأختين في النكاح محرم ،
ولو أرضعت الصغيرة جدة الزوجة الكبيرة أو أختها. قال في القواعد : إشكال.
ووجه الاشكال على ما ذكره شراح الكتاب أنه على تقدير كون
مرضعة
الزوجة الصغيرة جدة الكبيرة ، فإن
كانت جدة لأبيها تصير الصغيرة عمة الزوجة الكبيرة ، وإن كانت جدتها لأمها تكون
خالة لها ، وعلى تقدير كون المرضعة أخت الزوجة الكبيرة تكون الكبيرة خالة الصغيرة
، فيكون جامعا بين العمة وبنت الأخ ، وبين الخالة وبنت الأخت في الصور الثلاث وكل
ذلك منهي عنه ، لقوله عليهالسلام (1) «لا تنكح
المرأة على عمتها ولا على خالتها».
ومن أن هذه النسبة بمجردها غير مانعة من النكاح ، فإنه
لو أذنت العمة أو الخالة ، أو تقدم عقد بنت الأخ أو الأخت ورضيت العمة والخالة جاز
الجمع ، ولم يقم دليل على عدم جواز الجمع هنا فيستصحب الحكم السابق.
قال المحقق الثاني في الشرح : والتحقيق أن يقال إن الجمع
بين العمة وبنت أخيها والخالة وبنت أختها في النكاح بغير رضا العمة والخالة ممنوع
منه ولهذا لو عقد أحد الوكيلين على بنت الأخ والوكيل الآخر على عمتها في زمان واحد
لم يقع كل من النكاحين صحيحا ماضيا ولا واحد منهما بدون رضاهما ، لانتفاع المرجح
بل يقعان موقوفين ، وكذا لو تزوجهما في ساعة واحدة ، وعلي هذا فيكون الرضاع المحدث
بهذه النسبة لاجتماعهما في النكاح ، وهو منهي عنه بدون الاذن والفرض انتفاعه.
انتهى وهو جيد.
وعلى هذا ففي صورة ما إذا أرضعت الصغيرة جدة الكبيرة
لأبيها تصير الصغيرة عمة الزوجة الكبيرة ، وينفسخ النكاح هنا لعدم جواز الجمع إلا
مع رضا العمة ، والعمة هنا صغيرة لا يمكن اعتبار رضاها في الصورتين.
وفي صورة ما لو أرضعت الصغيرة جدة الكبيرة للام ، تصير
الصغيرة خالة الزوجة الكبيرة فينفسخ النكاح أيضا لعين ما ذكرنا في العمة.
وفي صورة ما لو أرضعت الصغيرة أخت الكبيرة تكون الكبيرة
خالة الصغيرة ، فإن رضيت صح النكاح ولا فسخ. لأنه يجوز الجمع بين الخالة وبنت
أختها مع
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 424 ح 2 ، الوسائل ج 14 ص 375 ح 2.
رضا الخالة ، ولو أرضعت امرأة أخي
الكبيرة تلك الصغيرة صارت الكبيرة عمة الصغيرة ، فإن رضيت لم ينفسخ النكاح أيضا.
وبالجملة فإن الرضاع هنا يجري مجرى النسب في صحة النكاح
مع الرضا ، وعدمه مع عدم الرضاء لصدق هذه العنوانات ، أعني كونها عمة وخالة وبنت
أخ وبنت أخت على من كانت كذلك نسبا أو رضاعا كما تقدم في الأم والبنت والأخت ، وبذلك
يظهر لك ضعف الوجه الثاني من وجهي الإشكال المذكور.
ثم إنه ينبغي أن يعلم أن غاية ما يلزم هنا هو انفساخ
العقد لعدم جواز الجمع لا التحريم المؤبد ، والله العالم.
التاسعة : لو كانت له
أمة قد وطأها فأرضعت زوجته الصغيرة حرمتا معا ، سواء كان الرضاع بلبنة أو لبن غيره
، أما على الأول فلصيرورة الأمة اما لزوجته ، وصيرورة الزوجة بنتا له وأما على
الثاني فلكون الأمة اما لزوجته ، والزوجة بنت المدخول بها. أما لو لم يكن الأمة
موطوءة ، فإنها تختص بالتحريم دون الزوجة ، لأنها أم زوجته ، وأما الزوجة فلا موجب
لتحريمها.
قال المحقق الثاني في شرح القواعد : والظاهر أنه إذا لم
يكن قد وطأ الأمة لا تحرم الزوجة بإرضاع الأمة إياها إذ لا يحرم على الشخص بنت
مملوكته التي لم يطأها لا عينا ولا جمعا ، فلا تحريم حينئذ ولا فسخ ، انتهى.
ويغرم الزوج للصغيرة على تقدير تحريمها عليه المهر جميعا
أو نصفه على ما سبق ، وأما رجوع الزوج على الأمة المرضعة ، فإن كانت أمته وهي
مملوكة له ، لم يرجع عليها بشيء ، لأنه لا يثبت له على ماله مال.
نعم لو كانت مكاتبة مطلقة أو مشروطة رجع عليها لانقطاع
سلطنته عنها ، وكونها بحيث يثبت عليها مال ، وكذا لو كانت مملوكة لغيره قد نكحها
بالعقد أو التحليل ، فإنه يرجع عليها ، على إشكال في الجميع ، منشأه ما تقدم من أن
البضع هل هو كالأموال يضمن بالتفويت أم لا؟ وقد تقدم الكلام في ذلك في الصورة
الثانية من الصور الخمس المذكورة في
أول هذا المقام ، فإن قلنا بالضمان تبعت الأمة المرضعة متى أعتقت كما في سائر
الإتلافات المالية.
العاشرة : لو كان
لاثنين زوجتان صغيرة وكبيرة فطلق كل منهما زوجته ، وتزوج كل منهما بزوجة الآخر ،
ثم أرضعت الصغيرة منهما الكبيرة ، قالوا : حرمت الكبيرة عليهما معا لكونهما أم
زوجة ، أما بالنسبة إلى زوج الصغيرة في الحال فواضح ، وأما بالنسبة إلى من كانت
زوجته ثم طلقها فهو مبني على ما تقدم من الاكتفاء في التحريم بمثل ذلك أو عدمه؟
وهو يرجع إلى العمل بتلك القاعدة الأصولية وعدمه ، وأما الصغيرة فإنها تحرم على من
دخل بالكبيرة لأنها بنت زوجته المدخول بها ، أو من كانت زوجته ، دون من لم يدخل
بها لأن البنت لا تحرم على الزوج بمجرد العقد على أمها بخلاف الام ، ومن المعلوم
أن أم الزوجة حرام لقوله سبحانه «وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ».
المورد الخامس : إذا ادعى أحد
الزوجين الرضاع المحرم فلا يخلو إما أن يكون المدعي هو الزوج أو الزوجة فالكلام
هنا في الموضعين.
الأول : أن يكون
المدعي هو الزوج ، بأن يدعي على المرأة أنها امه من الرضاع أو بنته أو أخته مثلا ،
فإما أن لا يمكن قبول دعواه بحيث يكذبه الحس وينافيه الوجدان ، بأن يقضي ـ الوجدان
بالنظر إلى سن كل واحد منهما ـ أنه لا يمكن ارتضاعهما من لبنه في الحولين ، أو لا
يمكن رضاعه من لبنها كذلك أو لا يمكن ارتضاعهما من امرأة واحدة أو بلبن رجل واحد
فإنه لا يلتفت إلى دعواه ولا يعمل عليها وجاز له أن يتزوجها ، وإن كان قد تزوجها
صح تزويجه ولم تحرم عليه ، أو يمكن ذلك ، وعلى هذا إن كان قبل العقد عليها يحكم
عليه باعترافه ، ولا يجوز له التزويج بها ظاهرا سواء صدقته أو كذبته وإن أكذب نفسه
وادعى تأويلا محتملا لعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز (1)» ، وهذا
__________________
(1) الوسائل ج 16 ص 111 ح 2.
هو الظاهر من إطلاق الأصحاب الحكم في
المسألة.
وربما احتمل قبول قوله إذا أكذب نفسه وادعى تأويلا
محتملا بأن قال : قد اعتمدت في الإقرار على قول من أخبرني ، ثم تبين لي أن مثل ذلك
لا يثبت به الرضاع وأمكن في حقه ذلك ، إلا أن ظاهرهم هو الأول.
وإن كانت الدعوى المذكورة بعد العقد عليها وقبل الدخول
وصدقته في تلك الدعوى فالعقد باطل ، ولا مهر ولا متعة لها لانتفاء النكاح ، وإن
كانت بعد الدخول وكانت عالمة بذلك قبل الدخول فلا شيء لها أيضا لأنها بعلمها
سابقا ثم قبولها الدخول تكون بغيا ، ولا مهر لبغي ، وإن لم تعلم إلا بعد الدخول
فهي حال الدخول جاهلة بالتحريم ، والمنقول عن الشيخ أن لها المسمى معللا ذلك بأن
العقد هو سبب ثبوت المهر لأنه مناط الشبهة ، فكان كالصحيح المقتضي لتضمين البضع
بما وقع عليه التراضي في العقد.
واختار في المسالك وقبله المحقق الثاني في شرح القواعد
أن الذي لها في هذه الصورة إنما هو مهر المثل ، قال في المسالك ـ بعد نقل قول
الشيخ ـ : ويحتمل وجوب مهر المثل لبطلان العقد فيبطل ما تضمنه من المهر الموجب له
، وهو وطئ الشبهة ، وعوضه مهر المثل ، لأن المعتبر في المتلفات المالية وما في
حكمها هو قيمة المثل ، وقيمة منافع البضع هو مهر المثل ، وهذا هو الأقوى (1). انتهى. وعلى
هذا النهج كلامه في شرح القواعد (2).
__________________
(1) ثم انه قال ـ بعد قوله «وهذا هو الأقوى» ـ هذا إذا كان مهر
المثل أقل من المسمى أو مساويا له ، أما لو كان أزيد منه احتمل أن لا يكون سوى
المسمى لقدومها على الرضاع عن البضع بالأقل فلا يلزمه الزائد ، وثبوت مهر المثل
مطلقا ، لان ذلك هو المعتبر في قيمته شرعا ورضاها بدون وجه شرعي ولا عبرة به ،
وهذا هو المعتمد. انتهى.
(منه ـ قدسسره ـ).
(2) حيث قال : ويحتمل وجوب مهر المثل مع الجهل ، لان العقد
باطل فلا يلزم
هذا فيما إذا صدقته الزوجة ، أما لو كذبته فإن أقام بينة
على دعواه التحريم حكم بها وكان كما لو صدقته ، وإن لم يكن ثمة بينة حكم على
بالحرمة لاعترافه ، عملا بالخبر المتفق عليه ، ولا يقبل قوله بالنسبة إلى المرأة
فإن ادعى عليها العلم فله إحلافها ، ومتى حلفت أو لم يدع عليها العلم وكان ذلك قبل
الدخول فهل الواجب لها عليه نصف الصداق لأنها فرقة من طرف الزوج قبل الدخول
كالطلاق ، أو الجميع لوجوبه بالعقد ، وتنصيفه بالطلاق لا يقتضي إلحاق غيره به لأنه
قياس لا يوافق أصول المذهب؟ قولان : المشهور الأول ، والثاني مختار جملة من محققي
المتأخرين كالمحقق الثاني والشهيد الثاني في شرحي القواعد والمسالك ، وأما بعد
الدخول فالواجب الجميع قولا واحدا وحكم بالفرقة بينهما.
الثاني : أن يكون
مدعي الرضاع المحرم هو الزوجة ، وحينئذ فإن كان ذلك قبل التزويج حكم عليها به وحرم
عليها نكاحه ، وهو واضح ، فإن كان بعد التزويج سمعت أيضا دعواها الحرمة وإن كانت
قد رضيت بالعقد لجواز جهلها بالحرمة حال العقد ، وإنما تجدد لها باخبار الثقات بعد
ذلك ، فلا يكون فعلها مكذبا لدعواها ، وحينئذ فإن صدقها الزوج على دعواها وكان ذلك
قبل الدخول بها ثبتت الفرقة بينهما ولا شيء لها ، وإن كان بعد الدخول فلها مهر
المثل أو المسمى على الخلاف المتقدم مع جهلها حال العقد ، وإنما حصل العلم
بالتحريم لها بعده.
واختار في التذكرة أن لها أقل الأمرين ، لأن المسمى إن
كان أقل فلا تستحق ظاهرا غيره ، ولا يقبل قولها في استحقاق الزائد بل القول فيه
قوله بيمينه ، وإن كان مهر المثل أقل فلا تستحق بدعواها غيره ، لأن الوطي بدعواها
لشبهة لا لعقد ، واختار هذا القول في المسالك. وكذا الشيخ علي في شرح القواعد.
__________________
من جهته مهر لبطلان ما تضمنه ، وقد تقرر في الأصول أن الباطل
لا يترتب عليه أثره وانما الموجب له وطئ الشبهة ولا تعلق له بالمسمى ، ولان الواجب
في الإتلاف انما هو قيمة المثل فوجب ضمانه : وهو الأصح. انتهى (منه ـ قدسسره ـ).
وأما
مع العلم بالتحريم قبله فهي بغي لا مهر لها ، وإن كذبها الزوج وكان ذلك بعد العقد
وقبل الدخول لم تقبل دعواها في حقه ، وله المطالبة بحقوق الزوجية وليس لها
الامتناع بحسب الظاهر ، ولكن ليس لها ابتداءها بالاستمتاع لأنه محرم بزعمها ، ولا
مهر لها لفساده بزعمها ، ويجب عليها أن تفتدي منه بما أمكنها ، والتخلص من ذلك بكل
وجه ممكن.
وإن كذبها الزوج وكان ذلك بعد الدخول بها فالحكم في
المهر كما تقدم من الأقوال الثلاثة ، وأما في بطلان العقد فإنه لا يقبل قولها إلا
بالبينة ، لكن لها إحلافه لو ادعت عليه العلم فيحلف على نفى العلم بذلك ، (1) فإن حلف
اندفعت دعواها وحكم بصحة النكاح ظاهرا ، وعليها فيما بينها وبين الله التخلص من
ذلك بحسب الإمكان.
وإن نكل ردت اليمين عليها فتحلف على البت لأنه حلف على
إثبات فعل ، فإن حلفت حكم بالفرقة بينهما ، ووجب بالدخول ما مر ، وإن نكلت أو نكلا
معا بقي النكاح ظاهرا.
وحيث يبقى بحسب الظاهر فليس لها الابتداء بالاستمتاع كما
عرفت ولا المطالبة بحقوق الزوجية من نفقة وكسوة ومبيت عندها ونحو ذلك ، لاعترافها
بأنها ليست زوجة. نعم لها قبول ذلك مع دفع الزوج.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في هذا المقام إشكالا ولعله
إنما جاء من قصور فهمي الفاتر ، وذلك بالنسبة إلى القول الذي نقلناه عن التذكرة ،
وذكرنا أنه اختاره في المسالك وشرح القواعد من القول بالتفصيل ، فإن المفهوم من
كلامه في المسالك الذي قدمناه في الموضع الأول ـ في اختياره القول بمهر المثل في
صورة
__________________
(1) لما تقرر في كتاب القضاء من أن الحلف على نفى فعل الغير
يحلف على نفسي العلم ، والحالف على إثبات فعل الغير أو إثبات فعل نفسه أو نفى فعله
انما يحلف على القطع والبت. (منه ـ قدسسره ـ).
ما إذا لم تعلم المرأة بالتحريم إلا
بعد الدخول ، فهي حال الدخول جاهلة بالتحريم ـ أن الواجب لها مهر المثل دون الممسى
لبطلان العقد ، فيبطل ما تضمنه من المهر ، والموجب له وطئ الشبهة ، وعوضه مهر
المثل إلى آخره ، وكذا صرح فيما طويناه من كلامه (1) ولم ننقله في
تعليل وجوب مهر المثل لها ، وإن كان أزيد من المسمى ، قال : لأن ذلك هو المعتبر في
قيمته شرعا.
ولا يخفى أن ما نحن فيه من قبيل ذلك ، فإن الدخول هنا
وقع قبل العلم بالتحريم ، فيكون ذلك وطئ شبهة ، وقد تقرر أن وطئ الشبهة موجب لمهر
المثل كائنا ما كان لعين ما نقلناه عن المسالك في تلك المسألة.
وقوله في التذكرة ـ إن المسمى إن كان أقل فلا يستحق
ظاهرا غيره ـ مردود بأن المسمى قد بطل ببطلان العقد لعين ما تقدم في تلك المسألة ،
والواجب لها شرعا من حيث إن الوطي من شبهة إنما هو مهر المثل كما عرفت.
قوله ـ ولا يقبل قولها في استحقاق الزائد ، بل القول
قوله بيمينه ـ لا معنى له لأنا نتكلم على ما يقتضيه هذا العقد الذي ظهر بطلانه هل
الواجب فيه ما سمي في العقد أو مهر المثل ، ولا تعلق للكلام هنا بمدع ولا منكر حتى
يقال إنه تدعي الزيادة وهو ينكرها فالقول قوله بيمينه ، وهذا بحمد الله سبحانه
ظاهر لا خفاء عليه ، والله العالم.
المورد السادس : لا خلاف بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه لا يحكم بالرضاع المحرم إلا بعد ثبوته شرعا ،
فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع.
الأول : اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه هل يثبت بشهادة النساء منفردات أو منضمات أم لا
، فذهب الشيخ في الخلاف وموضع من المبسوط ، وتبعه ابن إدريس وسبطه نجيب الدين يحيى
بن سعيد صاحب الجامع إلى العدم
__________________
(1) قوله «فيما طويناه من كلام» ، إشارة الى ما نقلناه عنه في
الحاشية المتقدمة. (منه ـ قدسسره ـ).
وهو اختيار العلامة في التحرير ،
ونقله في المسالك عن الأكثر ، وذهب الشيخ أبو عبد الله المفيد وسلار والشيخ في
كتاب الشهادات من المبسوط إلى قبولها ، وهو المنقول عن ابن حمزة وابن الجنيد وابن
أبي عقيل. واختاره العلامة في المختلف والقواعد وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك
وقربه المحقق في الشرائع ، وتردد فيه في النافع.
احتج الأولون بأصالة الإباحة ، قال في المسالك : ولا
يخفى ضعف أصالة الإباحة مع معارضة الشهادة.
احتج الآخرون بموثقة عبد الله بن بكير (1) عن بعض
أصحابنا عن الصادق عليهالسلام «في امرأة
أرضعت غلاما وجارية ، قال : يعلم ذلك غيرها؟ قال قلت : لا ، قال : لا تصدق إن لم
يكن غيرها».
قال في المسالك : ومفهوم الشرط أنها تصدق حيث يعلم ذلك
غيرها : لأن عدم الشرط يقتضي عدم المشروط وهو عدم التصديق ، فيثبت نقيضه ، وهو
التصديق. انتهى.
أقول : والأظهر الاستدلال على هذا القول الأخير بأنه لا
ريب أن الرضاع مما يعسر اطلاع الرجال عليه غالبا كالولادة والبكارة والثيوبة وعيوب
النساء الباطنة كالرتق والقرن والحيض ونحو ذلك ، وقد استفاضت الأخبار بأن ما كان
كذلك فإنه تقبل شهادة النساء فيه.
وممن صرح بأن الرضاع مما يعسر اطلاع الرجال عليه شيخنا
الشهيد في اللمعة ، وهو ظاهر الشهيد الثاني في شرحها حيث نسبه إلى الأقوى ، وبذلك
صرح المحدث الكاشاني في المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية.
وأما الأخبار الدالة على قبول شهادة النساء فيما يعسر
اطلاع الرجال عليه
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 323 ح 38 ، الوسائل ج 14 ص 304 ح 3.
فمنها قول الرضا عليهالسلام في رواية محمد
بن الفضيل (1) «تجوز شهادة
النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ، وليس معهن رجل».
وفي رواية أبي بصير (2) قال : «سألت الصادق عليهالسلام عن شهادة
النساء ، فقال : تجوز شهادة النساء وحدهن على ما لا يستطيع الرجال ينظرون إليه».
وفي رواية إبراهيم الخارقي (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : تجوز
شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه».
وفي موثقة ابن بكير (4) عن أبي عبد الله عليهالسلام «قال تجوز
شهادة النساء في العذرة وكل عيب لا يراه الرجال».
وفي صحيحة عبد الله بن سنان (5) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «قال تجوز
شهادة النساء وحدهن بلا رجال في كل ما لا يجوز للرجال النظر إليه».
وفي رواية داود بن سرحان (6) عن أبي عبد
الله عليهالسلام قال : «أجيز
شهادة النساء في الغلام صاح أو لم يصح وفي كل شيء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة
النساء فيه». إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر لك قوة
القول الثاني (7).
__________________
(1 و 2) الكافي ج 7 ص 391 ح 5 و 4، التهذيب ج 6 ص 264 ح 110 و
109، الوسائل ج 18 ص 259 ح 7 وص 258 ح 4.
(3) التهذيب ج 6 ص 265 ح 112 ، الوسائل ج 18 ص 259 ح 5.
(4) الكافي ج 7 ص 391 ح 7 ، التهذيب ج 6 ص 271 ح 137 ، الوسائل
ج 18 ص 260 ح 9.
(5 و 6) الكافي ج 7 ص 391 ح 8 وص 392 ح 13، التهذيب ج 6 ص 264
ح 107 وص 268 ح 126 ، الوسائل ج 18 ص 261 ح 10 وص 261 ح 12.
(7) وبه قطع المحقق والعلامة والشهيد في شرح شهادات الإرشاد ،
وصرح بأنه هو المشهور بين الأصحاب ، وعليه اعتمد المحقق الشيخ على في شرح القواعد.
(منه ـ قدسسره ـ).
الثاني : المشهور في
كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه في كل موضع يكفى فيه شهادة النساء منفردات لا
يكفي فيه أقل من أربع نساء ، لما علم من عادة الشارع في باب الشهادات من اعتبار
امرأتين برجل ، والأمر بإشهاد رجل وامرأتين.
نعم قد استثني من ذلك صورتان قد خرجتا بنص خاص إحداهما
الوصية بالمال ، والثانية ميراث المستهل ، فإنه قد دلت النصوص على ثبوت الحق كلا
أو بعضا بنسبة الشاهد ، فيثبت الكل بالأربع ، وثلاثة الأرباع بالثلاثة ، والنصف
بالاثنين ، والربع بالواحدة.
وذهب الشيخ المفيد وتبعه سلار إلى أنه يقبل في عيوب
النساء والاستهلال والنفاس والحيض والولادة والرضاع شهادة امرأتين مسلمتين في حال
الضرورة ، وإذا لم يوجد إلا شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه ، واستندا
في ذلك إلى صحيحة الحلبي (1) «عن الصادق عليهالسلام أنه سأله عن
شهادة القابلة في الولادة؟ قال : تجوز شهادة الواحدة».
وأجاب في المختلف عن الرواية بالقول بالموجب ، فإنه يثبت
بشهادة الواحدة الربع ، مع أنه لا يدل على حكم غير الولادة ، ونقل عن ابن أبي عقيل
وسلار القول بقبول الواحدة في الرضاع والحيض والنفاس والاستهلال والعذرة وعيوب
النساء من غير اعتبار الضرورة.
وعن ابن الجنيد القول باعتبار الأربع ، والقضاء بشهادة
ما نقص عن العدد في حالة الاختيار ولكن بالحساب من ذلك كما في الاستهلال والوصية
قال : وكل أمر لا يحضره الرجال ولا يطلعون عليه فشهادة النساء فيه جائزة كالعذرة
والاستهلال والحيض ، فلا يقضى بالحق إلا بأربع منهن ، فإن شهد بعضهن فبحساب ذلك.
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 390 ح 2 ، التهذيب ج 6 ص 269 ح 128 ، الوسائل
ج 18 ص 258 ح 2.
ورد بأن هذا إنما يستقيم على ما قد عول عليه من العمل
بالقياس إذ لا نص هناك في باب الرضاع ، ولا تنصيص أيضا على العلة الجامعة. انتهى ،
وهو جيد.
الثالث : قد صرح
الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا يقبل الشهادة بالرضاع مجملة ، فلا يكفي
الشهادة بحصوله مطلقا لوقوع الخلاف فيه كمية وكيفية ، واختلاف مذهب الشاهد والحاكم
في ذلك.
فلو شهد الشاهد أن بين فلان وفلانة رضاعا محرما لم يقبل
ذلك ، لجواز بنائه في شهادته على التحريم بما لا يوافق مذهب الحاكم ، بل لا بد أن
يشهد أن فلانا رضع من ثدي فلانة من لبن الولادة أو الحمل المستند إلى النكاح
الصحيح خمس عشرة رضعة مثلا تامات في الحولين من غير أن يفصل بينهما برضاع امرأة
غيرها.
نعم لو علم أن مذهب الشاهد لا يخرج عن مذهب الحاكم بأن
يكون من جملة مقلديه الموثوق بمراعاته مذهبه ، فالظاهر أنه لا يحتاج إلى التفصيل
المذكور وإن كان أحوط ، ومثله ما لو كان الشاهد فقيها موثوقا به وهو موافق الحاكم
في جميع شرائط الرضاع ، قال في شرح القواعد : وهذا قوي ، لكن لا نجد به قائلا من
الأصحاب ، وبمثله صرح في شرح اللمعة (1).
وصرحوا أيضا بأنه يشترط في صحة شهادته أن يعرف المرأة في
تلك الحال أنها ذات لبن ، وأن يشاهد الولد قد التقم الثدي ، وأن يكون مكشوفا لئلا
يلتقم غير الحلمة ، وأن يشاهد امتصاصه له وتحريك شفتيه والتجرع وحركة الحلق على
وجه يحصل له القطع بذلك لقولهم عليهمالسلام «لا تشهد إلا
على مثل
__________________
(1) حيث قال : ولو علم موافقة رأى الشاهد لرأي الحاكم في جميع
الشرائط فالمتجه الاكتفاء بالإطلاق ، الا أن الأصحاب أطلقوا القول بعدم صحتها الا
مفصلا الى آخره. (منه ـ قدسسره ـ).
الشمس» (1).
أقول : ومن هنا تبين لك صحة ما قدمناه من عسر اطلاع
الرجال على ذلك غالبا.
وهل يعتبر في التفصيل ذكر وصول اللبن إلى الجوف ، قال
بعضهم : فيه وجهان ، واستقرب العلامة في القواعد عدم الاشتراط لأن ضابط وجوب
التفصيل وقوع الخلاف في شرائط المشهود به ، دفعا لاحتمال استناد الشاهد إلى اعتقاد
لا يستصحه الحاكم ، ووصول اللبن إلى الجوف ليس من هذا القبيل ، فيكفي فيه إطلاق
الشهادة.
وأيضا ليس بمحسوس ، فلا يعتبر تصريح الشاهد به ، ومن قال
إنه يحكم به ، يعول على ما ذكره لتقبل الشهادة كما ذكر في الإيلاج في شهادة الزنا.
وأيضا ذلك مناط نشر الحرمة فلا بد من ذكره ، وأيضا
اختصاص علية الحكم (2) ببعض الأفراد
لا يقدح في عمومه فإن العلة في تحريم الخمر هو الإسكار ، مع أن قليله يحرم وإن لم
يسكر ، قال المحقق الثاني في شرح القواعد : والأول أصح ، لأن الشهادة بالرضاع
يقتضيه ، فيكفي عن ذكره.
وقال سبطه ـ المحقق الداماد بعد نقل ذلك عنه ـ : وعندي
أن الأصح هو الثاني عملا بمقتضى الأدلة. انتهى. وأشار بالأدلة إلى ما ذكرناه في
الاستدلال للوجه الثاني والظاهر هو ما ذكره جده (قدس الله روحهما) قال في شرح
القواعد :
__________________
(1) الوسائل ج 18 ص 250 ح 3.
(2) قوله «وأيضا اختصاص علية الحكم» الى آخره إشارة إلى الجواب
عما ذكره في أدلة الأول ـ من تعليله بأن ضابط وجوب التفصيل وقوع الخلاف في شرائط
المشهود به ، وهذا الفرد ليس محل خلاف ، ووجه الجواب ظاهر فإنه لا يجب اطراد العلة
في جميع الافراد المحكوم فيها بذلك الحكم كما ذكر من مثال الخمر ونحوه تعليل وجوب
العدة باستبراء الرحم وغير ذلك. (منه ـ قدسسره ـ).
هل يشترط أن يشهد الشاهد بأن الرضيع
بقي اللبن في جوفه ، لأنه لو قاءه لم يثمر الرضاع التحريم ، مقتضي التعليل السابق
اعتباره ، لأن هذا من الأمور المختلف فيها ولم أجد به تصريحا ، إلا أنه ينبغي
اعتباره.
قال سبطه ـ بعد نقل ذلك عنه ـ قلت : لا ريب في وجوب اعتباره
وإن لم يكن هو مما اختلف فيه لما تعرفته ، فكيف إذا وقع فيه الخلاف. انتهى.
هذا كله إذا كانت الشهادة على نفس الرضاع ، أما لو كانت
على إقرار المقر به فإنه لا يعتبر ما ذكر من التفصيل وإن أمكن استناد المقر إلى ما
لا يحصل به التحريم عند الحاكم عملا بعموم «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» (1). إلا أن يعلم
استناده إلى مذهب يخالف مذهب السامع أو الحاكم ولا تقبل إلا شهادة رجلين ، لأن
الإقرار مما يطلع عليه الرجال غالبا.
الرابع : لو كان له
أخت من الرضاع أو بنت أو نحوهما فامتزجت بأهل قرية ، قال العلامة في القواعد : جاز
أن ينكح واحدة منهن ، ولو اشتبهت بمحصور العدد عادة حرم الجميع.
قال المحقق الشيخ علي في شرحه على الكتاب : فهنا صورتان
: (إحداهما) أن يكون الاختلاط بعدد غير محصور بالعادة كنسوة بلد أو قرية كبيرة فله
نكاح واحدة منهن ، ولو لا ذلك لسد عليه باب النكاح لأنه لو انتقل إلى بلدة لم يؤمن
مسافرتها إلى بلدة اخرى قال : ومثله ما لو اختلط صيد مملوك بصيود مباحة لا تنحصر
فإنه لا يحرم الاصطياد ، وكذا لو تنجس مكان أرض غير محصورة ، فإنه لا يمنع من
الصلاة على تلك الأرض.
(الثانية) أن يكون الاختلاط بعدد محصور في العادة فيمنع
من النكاح هنا لوجوب اجتناب المحرم ولا يتم إلا باجتناب الجميع ، ولا عسر في
اجتناب العدد المحصور ، ثم قال : والمراد من غير المحصور عسر عدهن على آحاد الناس
__________________
(1) الوسائل ج 16 ص 133 ح 2.
نظرا إلى أن أهل العرف إذا نظروا إلى
مثل ذلك العدد أطلقوا عليه أنه ليس بمحصور لكثرته ، وإلا فلو عمد أحد إلى أكبر
بلدة لعد سكانها لأمكنه ذلك. انتهى.
قال بعض الفضلاء بعد نقل ذلك : وهذا الكلام لا يخلو من
اشكال وإن كان الاجتناب هو الأحوط فتأمل. انتهى.
أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في جلد كتاب الصلاة ، وكذا
حققنا المسألة بما لا مزيد عليه في كتابنا الدرر النجفية ، وذكرنا الخلاف في هذا
المقام من بعض متأخري المتأخرين الأعلام.
وأما ما ذكره المحقق المذكور هنا بالنسبة إلى ما هو
المراد من غير المحصور فيمكن الاستدلال له بموثقة حنان بن سدير (1) عن أبي عبد
الله عليهالسلام «أنه سئل وأنا
حاضر عن جدي رضع من خنزير حتى شب واشتد عظمه ، ثم استفحله رجل في غنم فخرج له نسل
ما تقول في نسله؟ قال : أما ما عرفت من نسله بعينه فلا تقربه ، وأما ما لم تعرفه
فهو بمنزلة الجبن فكل ولا تسأل عنه».
بحمل الغنم في الخبر على قطيع كثير الغنم كما هو الغالب
، وقد حكم عليهالسلام بأنه ما لم
يعلم نسل ذلك الفحل بعينه فإنه يجوز له الأكل من تلك الغنم ، وليس إلا من حيث إنه
غير محصور عادة كالقرية الكبيرة التي مثل بها ويؤيده تمثيله بالجبن الذي استفاضت
الروايات بحله وإن عمل بالميتة لكونه غير محصور فيحتمل أن لا يكون كذلك.
وفي الخبر أيضا احتمال آخر ذكرناه في كتاب الدرر النجفية
، وهو أنه يمكن أن يكون نسله غير محقق ولا معلوم في جملة تلك الغنم ، لاحتمال أنه
سرق أو ضل أو ذبح أو بيع أو نحو ذلك ، ولا يتحقق العلم بالحرام في المقام ، والحكم
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 249 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 44 ح 183 ، الفقيه ج
3 ص 212 ح 77 ، الوسائل ج 16 ص 352 ح 1.
بالتحريم مبني على تيقن العلم ببقائه.
بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنه لو عقد على
واحدة من العدد المحصور فلا ريب أنه منهي عن ذلك وأن العقد باطل بحسب ظاهر الشرع
لما عرفت من تحريم الجميع عليه في المحصور ، ولكن لو ظهر بعد العقد أن المعقود
عليها ليست من المحرمات عينا ولا جمعا ، فهل يحكم بصحة العقد بناء على مطابقته
للواقع وانكشاف ذلك له ، أو البطلان لسبق الحكم ببطلانه ، وأنه وقع مع اعتقاد
العاقد عدم الصحة ، وأن الأحكام الشرعية إنما تناط بالظاهر لا بالواقع ونفس الأمر
، مقتضي قواعد الأصحاب وأصولهم هو البطلان لما عرفت ، ولا ريب أن التجديد أحوط.
الخامس : لو حصل الشك
في بلوغ النصاب من العدد المعتبر أو في وصول اللبن إلى الجوف في بعض المرات أو نحو
ذلك من الشروط المعتبرة في التحريم لم تثبت الحرمة ، لأن الأصل الإباحة والأصل عدم
الحرمة ، إلا أن الاحتياط يقتضي التحريم كما استفاض الأمر به سيما في النكاح
محافظة على النسل الممتد إلى يوم القيمة.
أما لو شك في وقوع الرضاع في الحولين ، قالوا : تقابل
هنا أصلان أصالة بقاء الحولين ، لأن كون المرتضع في الحولين كان ثابتا قبل الرضاع
والأصل البقاء وأصالة الإباحة لأنها كانت ثابتة قبل الرضاع وقبل النكاح والأصل
بقاؤها.
ورجح الثاني بوجوه (أحدها) أن التقابل والتكافؤ أي تقال
الأصلين المذكورين ، وعدم إمكان ترجيح أحدهما على الآخر ، يقتضي التساقط كما قيل
تعارضا تساقطا ، فينتفي التحريم قطعا لانتفاء سببه ، ويلزم من انتفائه ثبوت
الإباحة إذ لا يعقل ارتفاع النقيضين.
و (ثانيها) أن الشك في وقوع الرضاع في الحولين يقتضي
الشك في تقدم الرضاع وتأخره ، والأصل عدم التقدم.
لا يقال : كما أن الأصل عدم التقدم فكذا الأصل عدم
التأخر ، لأنا نقول هو كذلك ، إلا أن الأصل حصل بطريق آخر ، وهو أن التقدم يقتضي
تحقق الرضاع في أزمنة تزيد على أزمنة تأخره ، والأصل عدم الزيادة وإن وجد هذا
الأصل مع أصل الإباحة قوى جانبه به.
و (ثالثها) قوله تعالى (1) «وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ» بعد قوله تعالى
«وَأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ» فإن المراد ـ والله
أعلم ـ اللاتي أرضعنكم الرضاع المحكوم به شرعا وقوعه في الحولين ، لأن ذلك يشترط
قطعا ، وليس محكوما بكون الرضاع في محل النزاع واقعا في الحولين لتقابل الأصلين
المتقدمين ، فيندرج التنازع في حل نكاحها في عموم قوله «وَأُحِلَّ
لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ».
قال المحقق الشيخ علي في شرح القواعد : وهو من أبين
المرجحات ثم قال وقد يقال : يرجح التحريم بأنه إذا تعارض الناقل والمقرر رجح
الناقل ولأن التأسيس خير ، ولأنه «إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرم».
وضعفه ظاهر ، لأن ترجيح الناقل في النصوص من حيث اشتماله
على زيادة لا ينافيها الأخر ، أما في الأصلين كما هنا فهو غير واضح ، وإنما يغلب
الحرام الحلال إذا ثبت التحريم شرعا ، كما لو اشتبهت محرمة بأجنبية. انتهى.
المورد السابع : في جملة من
الأحكام المتفرقة ونظمها يقع في مسائل.
الأولى : قال العلامة
وجمع من الأصحاب إنه لو تزوج بنت الأخ أو الأخت على العمة أو الخالة من الرضاع ،
فإن كان بإذنهما صح قولا واحدا وإلا بطل.
وقيل : يقع موقوفا على الإجازة ، والظاهر الأول للنهي
الوارد في صحيحة أبي عبيدة الحذاء (2) قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا
تنكح المرأة على عمتها
__________________
(1) سورة النساء ـ آية 24.
(2) الكافي ج 5 ص 445 ح 11 ، التهذيب ج 7 ص 292 ح 65 ، الفقيه
ج 3 ص 260 ح 21 ، الوسائل ج 14 ص 304 ح 1.
وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهماالسلام (1) «. لا تزوج
بنت الأخ والأخت على العمة والخالة إلا برضا منهما ، فمن فعل فنكاحه باطل». ولعموم
قوله عليهالسلام (2) «الرضاع لحمة
كلحمة النسب» ، وقوله (3) عليهالسلام «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب».
الثانية : لا خلاف ولا
إشكال في أنه إذا أوقب غلاما حرمت عليه أم الغلام وبنته وأخته مؤبدا إذا كن من
النسب للنصوص الواردة بذلك عن أهل العصمة (صلوات الله عليهم).
والظاهر أنهن لو كن من الرضاع فكذلك لعموم قوله عليهالسلام «يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب» وصدق الام عليها في قوله عزوجل (4) «وَأُمَّهاتُكُمُ
اللّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ» وكذا الأخت في
قوله «وَأَخَواتُكُمْ».
ويؤيد ذلك صحيحة محمد بن مسلم (5) عن أبي جعفر عليهالسلام «في رجل فجر
بامرأة أيتزوج أمها من الرضاعة أو بنتها؟ قال : لا».
والتقريب فيه أنه حيث حلت الام من الرضاعة والبنت هنا
محل نظيريهما من النسب فحرمتا عليه فكذلك فيما نحن فيه ، الاندراج تحت عموم الخبر
النبوي
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 333 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 385 ح 3.
(2) ما عثرنا بهذه العبارة نعم في المصباح وابن أثير في مادة لحم
بجملة «الولاء لحمة كلحمة النسب» ، عوالي اللئالي ج 2 ص 307 ح 33.
(3) التهذيب ج 7 ص 291 ح 59 ، الكافي ج 5 ص 438 ح 2 ، الوسائل
ج 14 ص 281 ح 3 و 4.
(4) سورة النساء ـ آية 23.
(5) التهذيب ج 7 ص 331 ح 19 ، الكافي ج 5 ص 416 ج 8 ، الوسائل
ج 14 ص 325 ح 1.
وربما قيل : بالعدم ، لأن الأم حقيقة في النسبية التي
ولدته لقوله تعالى (1) «إِنْ
أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ» فلا تتناول
النصوص الواردة بالتحريم لها.
وفيه أن الحصر المذكور في الآية إنما هي إضافي بالنسبة
إلى المظاهرة وتسمية المظاهر لزوجته اما ، وإلا فقد عرفت في الآية إطلاق الأم على
المرضعة والأصل في الاستعمال الحقيقة.
الثالثة : اختلف
الأصحاب (رضوان الله عنهم) في الرضاع ، هل يكون مثل النسب في كونه سببا في العتق
لو ملك من ينعتق به أم لا؟ ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسألة في المسألة
الثانية من الفصل التاسع في بيع الحيوان من كتاب البيع.
الرابعة : الظاهر أنه
لا خلاف نصا وفتوى في تحريم الجمع بين الأختين في النكاح ، سواء كانت الأختية من
النسب أو الرضاع لتناول النصوص لكل منهما وقد تقدمت.
ولا فرق بين كون العقد دائما أو منقطعا دخل بإحداهما أم
لم يدخل ، لان مناط التحريم الجمع في النكاح وهو صادق بالعقد ، وجميع ما يجري من
الأحكام الآتية في النسبية عند ذكر المسألة يجري في الرضاعية.
أما لو جمع بينهما في الملك فالظاهر أنه لا مانع منه ولا
قائل بخلاف ذلك فيما أعلم ، لأن الغرض الأصلي في الملك المالية كما قيل ، وليس
الغرض منه الوطي ، وإن تعلق به جوازه حتى لو اشترى جارية فوطأها لم يحرم شراء
أختها وإنما يحرم الجمع في النكاح لقوله تعالى (2) «وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ».
نعم يحرم عليه وطئ الثانية بعد أن وطأ الأولى التي كانت
عنده قبل شراء
__________________
(1) سورة المجادلة ـ آية 2.
(2) سورة النساء ـ آية 23.
الثانية ، إذ لا خلاف في أنه يحرم
عليه الاستمتاع بالثانية ما دامت الاولى في ملكه.
وبالجملة فإنه بوطىء إحدى الأختين المملوكتين يحرم عليه
وطئ الأخرى حتى تخرج الاولى عن ملكه ، ويأتي إن شاء الله تحقيق الكلام في المسألة
عند ذكرها في محلها ، والغرض هنا التنبيه على أن ما يتعلق بالأختين بالنسب من
الأحكام يجري في الأختين من الرضاع ، ومورد أخبار أحكام المسألة الأختان ، الشامل
بعمومه لما كان من النسب أو الرضاع.
ولو قيل : إن المتبادر منهما إنما هو الأختية من النسب
كما فهمه الأصحاب قلنا : مع ذلك فإنه بانضمام خبر «يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب». يتم الاستدلال كما عرفت في غير مقام.
الخامسة : لا خلاف بين
الأصحاب في أنه لا يشترط إذن المولى ولا إذن الزوج في تحريم الرضاع ، قالوا أما
الزوج فظاهر لأنه لا يملك الزوجة ولا لبنها وإن كان منسوبا إليه ، وغاية ما هناك
أنه يلزم من الرضاع الإثم إذا استلزم تعطيل بعض حقوقه الواجبة ، وهذا لا يوجب نفي
تعلق التحريم بالرضاع ، وهكذا القول في المولى لأن تصرفها في لبنها وإن كان محرما
بغير إذن المولى لأنه ماله إلا أنه لا منافاة بين التحريم وبين كون الرضاع محرما ،
وبالجملة فإن المعتمد هو إطلاق النصوص الدالة على التحريم فإنه يتناول هذا الإرضاع
المذكور.
السادسة : ظاهر
المشهور من غير خلاف يعرف هو أنه متى فجر بعمته أو خالته حرم عليه التزويج
بابنتهما نسبا ، وسيأتي تحقيق المسألة في محلها إن شاء الله.
ومقتضى النص النبوي المتقدم تحريم البنت الرضاعية أيضا حسبما عرفت في غير هذا الموضع من فرعية الرضاع على النسب في كل موضع حكم بالتحريم فيه نسبا ، وربما سبق إلى بعض الأوهام القاصرة عدم التحريم لعدم تناول نصوص المسألة للبنت الرضاعية ، والأصل الإباحة ، وهو ضعيف ، فإنك قد عرفت من الأخبار المتقدمة في صدر هذا المطلب أن هذا الخبر النبوي قاعدة كلية وضابطة جلية في تفريع الرضاع على النسب فإنهم عليهمالسلام بعد ذكر الأحكام في تلك الأخبار يستدلون بهذا الخبر من حيث كونه قاعدة كلية في هذا الباب ، كما لا يخفى على ذوي الأذهان والألباب ، والله العالم بحقائق أحكامه.