ج19 - أحكام العقود
الفصل الرابع
والبحث هنا يقع في مطالب أربعة ، الأول ـ في النقد
والنسيئة ، أي البيع الحال والمؤجل ، سمي الأول نقدا باعتبار كون الثمن منقودا ولو
بالقوة ، والثاني مأخوذ من النسيء وهو تأخير الشيء ، تقول : أنسأت الشيء إنساء
: أى أخرته ، والنسيئة اسم : وضع موضع المصدر.
قال شيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقده) : واعلم أن
البيع بالنسبة إلى تعجيل الثمن والمثمن وتأخيرهما والتفريق ، أربعة أقسام : فالأول
النقد ، والثاني بيع الكالئ بالكالئ بالهمز اسم فاعل أو مفعول من المراقبة ، لأن
كلا من الغريمين يرتقب صاحبه لأجل دينه ، ومع حلول المثمن وتأجيل الثمن هو النسيئة
، وبالعكس السلف ، وكلها صحيحة عدا الثاني ، وقد ورد النهى عنه (1) وانعقد
الإجماع على فساده.
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 491 وفي الحديث نهى (صلىاللهعليهوآله) عن بيع الكالئ بالكالئ بالهمزة وبدونه
، ومعناه بيع النسيئة بالنسيئة ، وذلك كان يسلم الرجل الدراهم في طعام إلى أجل
فإذا حل الأجل ، يقول الذي حل عليه الطعام ليس عندي طعام ، ولكن بعني إياه إلى أجل
، فهذه نسيئة انقلب إلى نسيئة نعم لو قبض الطعام وباعه إياه لم يكن كاليا بالكالئ «منه
رحمهالله».
أقول : الظاهر أن النهى عن بيع الكالي بالكالي ما هو من
من طريق العامة (1) والذي في
أخبارنا انما هو النهى عن بيع الدين بالدين كما في رواية طلحة بن زيد (2) وفي الصحيح (3) في بيع الدين
قال : «لا يبيعه نسيئا ، فلما نقدا فليبعه بما شاء».
ويظهر من التذكرة ان بيع الكالئ بالكالئ هو أن يبيع
الدين بالدين ، سواء كان مؤجلا أم لا (4) وظاهرهم تحريم الأمرين كليهما وسيجيء
تحقيق المسألة إنشاء الله تعالى في كتاب الدين.
وفي هذا المقام مسائل.
(الاولى) ـ من اشترى مطلقا كان الثمن حالا من غير خلاف ،
ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن عمار بن موسى في الموثق (5) عن أبى عبد الله
(ع) «في رجل اشترى من رجل جارية بثمن مسمى ثم افترقا؟ قال : وجب البيع ، والثمن
إذا لم يكونا اشترطا فهو نقد».
أقول : يعني إذا لم يشترطا التأخير ، ولو اشترطا التعجيل
أفاد التأكيد ، لما عرفت من أن الإطلاق يقتضي التعجيل.
__________________
(1) سنن البيهقي ج 5 ص 290.
(2) الوسائل الباب ـ 5 ـ من أبواب الدين الرقم 1 ـ الكافي ج 5
ص 100.
(3) الوسائل الباب ـ 6 ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ـ 8.
(4) قال ابن الأثير في النهاية : نهى عن الكالي بالكالي أى
النسيئة بالنسيئة ، وذلك أن يشترى الرجل شيئا الى أجل ، فإذا حل الأجل لم يجد ما
يقضى به ، فيقول بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه منه ، ولا يجرى بينهما
تقابض. انتهى منه.
(5) الوسائل الباب ـ 1 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 2.
قال في الدروس : فان شرطه تأكد ، وأفاد التسلط على الفسخ
إذا عين زمان النقد وأخل المشترى به ، أقول : هذا مبنى على مذهبه في المسألة (1).
وأما على القول الأخر فإن الشرط لازم يجب الوفاء به ،
ويجبر على ذلك ، وقد تقدم ذكر المسألة في المسألة الاولى من المقام الثاني في
أحكام الخيار (2) وان اشترط
تأجيل الثمن ، وجب أن تكون المدة معينة مضبوطة لا تقبل الزيادة والنقصان (3) فلو شرط
التأجيل ولم يعين ، أو عين أجلا يحتمل الزيادة والنقصان كقدوم الحاج وإدراك الغلة
، أو عين ما هو مشترك بين أمرين أو أمور ـ كالنفر من منى فإنه مشترك بين أمرين ،
وشهر ربيع فإنه مشترك بين شهرين ـ لا يصح ، هذا هو المشهور ، وقيل : يصح ، ويحمل
على الاولى في الجميع ، لتعليقه الأجل على اسم معين وهو يتحقق بالأول ، لكن يعتبر
علمهما بذلك قبل العقد ، ليتوجه قصدهما إلى أجل مضبوط.
أقول : والمستفاد من الاخبار (4) انما هو الأول
، وهو الذي عليه العمل ، ولا فرق في المدة بين كونها قصيرة أو طويلة ، بل قال في
المسالك : «فلو شرطا ها ألف سنة ـ ونحوها ـ صح وان علما أنهما لا يعيشان إليها
عادة ، للعموم ، ولان الوارث يقوم مقامهما.
__________________
(1) حيث انه قال في بحث الشرط : يجوز اشتراط سائغ في البيع ،
فيلزم الشرط عليه من طرف المشترط عليه ، فان أخل به فللمشترط الفسخ ، وهل يملك
إجباره عليه فيه نظر انتهى منه قدسسره.
(2) ص 65.
(3) ومن أصرح الاخبار في ذلك قول أمير المؤمنين (عليهالسلام) في رواية غياث بن إبراهيم «لا بأس
بالسلف كيلا معلوما إلى أجل معلوم ، ولا تسلمه الى دياس ولا الى حصاد» اى لا يكون
الأجل دق الطعام أو حصاده ، وهو صريح في المدعى منه قدسسره.
(4) الوسائل الباب ـ 3 ـ من أبواب السلف الرقم ـ 5.
أقول : ما ذكره شيخنا (قدسسره) من عدم الفرق
هنا بين المدة القصيرة والطويلة ـ هو المشهور في كلام الأصحاب ، ونقل عن ابن
الجنيد أنه منع من أقل من ثلاثة أيام في السلف ، ومن أكثر من ثلاث سنين مطلقا.
والذي وقفت عليه هنا من الاخبار ما رواه في الكافي عن
أحمد بن محمد (1) قال : «قلت
لأبي الحسن (عليهالسلام) : انى أريد
الخروج الى بعض الجبال فقال : ما للناس بد من أن يضطربوا سنتهم هذه ، فقلت له :
جعلت فداك انا إذا بعناهم بنسيئة كان أكثر للربح ، قال : فبعهم بتأخير سنة ، قلت :
بتأخير سنتين؟ قال : نعم ، قلت بتأخير ثلاث؟ قال : لا».
وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد
عن أحمد بن محمد ابن عيسى عن احمد بن محمد بن ابى نصر (2) «أنه قال لأبي
الحسن الرضا (عليهالسلام) ان هذا الجبل
قد فتح على الناس منه باب رزق ، فقال : ان أردت الخروج فاخرج فإنها سنة مضطربة ،
وليس للناس بد من معاشهم ، فلا تدع الطلب ، فقلت : انهم قوم ملاء ونحن نحتمل
التأخير فنبايعهم بتأخير سنة؟ قال : بعهم ، قلت : سنتين؟ قال : بعهم قلت : ثلاث
سنين؟ قال : لا يكون لك شيء أكثر من ثلاث سنين».
ولعل ابن جنيد استند الى ذلك ، وان كانت أقواله في جل
الأحكام بعيدة المداعن أخبارهم (عليهمالسلام) والظاهر حمل
الخبرين المذكورين على الكراهة لما يستلزمه من طول الأمل ، أو من حيث صعوبة تحصيله
بعد هذه المدة الطويلة ، لما هو معلوم من أحوال الناس في ثقل أداء الدين ، ولا
سيما إذا كان بعد أمثال هذه المدة.
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 1 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 1 ـ الكافي
ج ـ 5 ص 207.
(2) الوسائل الباب ـ 1 من أبواب أحكام العقود الرقم ـ 3.
ولو باع بثمن حالا ، وبأزيد منه مؤجلا ـ أو فاوت بين
أجلين في الثمن كان يقول بعتك حالا بمائة ، والى شهر بمأتين ، أو مؤجلا إلى شهر
بمائة ، والى شهرين بمائتين ـ فالمشهور البطلان ، لجهالة الثمن ، لتردده بين
الأمرين. وقيل : ان للمشتري أن يأخذه مؤجلا بأقل الثمنين (1).
ويدل على هذا القول ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن
على بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس (2) عن أبى جعفر (ع)
والصدوق في الفقيه عن محمد بن قيس عن أبى جعفر (عليهالسلام) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) : من باع
سلعة فقال : ان ثمنها كذا وكذا يدا بيد ، وثمنها كذا وكذا نظرة ، فخذها بأي ثمن
شئت ، وجعل صفقتهما واحدة فليس له الا أقلهما
__________________
(1) أقول : الذي وقفت عليه في كلام المتقدمين من الخلاف انما
هو في الصورة الاولى : وهو البيع بثمن حالا وبأزيد مؤجلا ، ومذهب الشيخ في النهاية
هو أن له أقل الثمنين وأبعد الأجلين ، والمفيد قال : لا يجوز البيع كذلك ، ثم قال
: فان ابتاع انسان على هذا الشرط كان عليه أقل الثمنين في آخر الأجلين ، وعن السيد
المرتضى انه مكروه ، وعن ابن الجنيد انه لا يحل ، وعن سلار انه باطل غير منعقد ،
وهو قول ابى الصلاح ، وعن ابن البراج مثل مذهب الشيخ المفيد ، وظاهر كلاهما أن
العقد صحيح غير لازم ، والتعبير بالبطلان كناية عن عدم لزومه ، والا فلا معنى
لقولهما ان اجرى البيع على هذا الشرط ، كان الحكم ان للبائع أقل الثمنين إلى أبعد
الأجلين ، وعن ابن حمزة انه لا يصح ، وعن ابن إدريس أنه لا يجوز ويبطل البيع ، وهو
المشهور بين المتأخرين من العلامة والمحقق ومن تأخر عنهما. منه رحمهالله.
(2) الكافي ج 5 ـ ص 206 الفقيه ج 3 ص 179.
وان كانت نظرة» وزاد في الكافي «قال :
ـ وقال على (عليهالسلام) : من ساوم
بثمنين أحدهما عاجل والأخر نظرة فليسم أحدهما قبل الصفقة».
وما رواه الشيخ في التهذيب عن السكوني عن جعفر عن أبيه
عن آبائه (عليهمالسلام) (1) «أن عليا (عليهالسلام) قضى في رجل
باع بيعا واشترط شرطين ، بالنقد كذا وبالنسيئة كذا ، فأخذ المتاع على ذلك الشرط
فقال : هو بأقل الثمنين وأبعد الأجلين ، يقول : ليس له الا أقل النقدين إلى الأجل
الذي أجله بنسيئة».
والأصحاب قد ردوا هذا القول بالضعف والندور ، وروايته
بالضعف والشذوذ ، حتى المحدث الكاشاني في المفاتيح ، والظاهر أنهم لن يقفوا الا
على رواية السكوني ، والا فرواية محمد بن قيس صحيحة برواية الفقيه ، وحسنة لا تقصر
عن الصحيح ، بناء على الاصطلاح الغير الصحيح على رواية الكافي ، إلا أن الزيادة
التي في صحيحة محمد بن قيس على رواية الكافي لا تخلو من منافرة لما دلت عليه
الصحيحة المذكورة ، فإن الظاهر أن المراد منها كما ذكره بعض مشايخنا (نور الله
مراقدهم) هو أنه لا يجوز هذا الترديد ، بل لا بد من أن يعين أحدهما قبل العقد
ويوقعه عليه.
وقال بعض المحققين : لعل معناه أن يعين كل واحد منهما
قبل وقوع البيع وعلى هذا فلا منافرة في العبارة المذكورة ، وظاهر الفاضل الخراساني
في الكفاية اختيار هذا القول ، للخبرين المذكورين مع صحة الأول منهما وهو جيد ،
الا أن ذلك غير خال من الاشكال من حيث هذه الزيادة التي في الكافي ، فإنها ظاهرة
في موافقة القول المشهور بالتقريب الذي ذكرناه أولا ، وان كانت على الاحتمال الأخر
غير منافية.
وظاهر جملة من الأصحاب الاستناد في رد هذا القول الى ما
روى من النهى «عن بيعين واحدة» والظاهر انه اشارة الى ما رواه في التهذيب عن
سليمان
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 53.
بن صالح (1) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن سلف وبيع
، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن.
وعن عمار الساباطي (2) في الموثق عن أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «بعث
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) رجلا من
أصحابه واليا فقال له : انى بعثتك الى أهل الله يعني أهل مكة ـ فانهيهم عن بيع ما
لم يقبض ، وعن شرطين في بيع وعن ربح ما لم يضمن».
قال في الوافي قيل أريد «بشرطين في بيع» ما أريد «ببيعين
في بيع» في سابقه وهو ان يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة ، ونسية بخمسة عشر ،
وانما نهى عنه ، لانه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد انتهى ثم
قال : وربما يفسر «بيعين في بيع» بان يقول بعتك هذا بعشرين ، على ان تبيعني ذلك
بعشرة أو بما يشمل المعنيين انتهى.
أقول : ان هذين الخبرين غير خليين من الإجمال المانع من
الاعتماد عليهما في الاستدلال ، والخروج بهما عن صريح الخبرين المتقدمين لا يخفى
ما فيه.
نعم يبقى الإشكال في ذينك الخبرين بما ذكره المحقق
الأردبيلي طاب ثراه في هذا المقام ، حيث قال ـ بعد الكلام في بيان سند الصحيحة
المذكورة ـ وبالجملة الظاهر اعتبار سندها ، ولكن في مضمونها تأمل وان عمل به ، لان
المالك انما رضي بالبيع بالثمن الكثير نظرة ، فكيف يلزم بأقلهما نظرة ، ومعلوم أن
رضا الطرفين شرط في العقد ، «ولا يحل مال امرء الا بطيب نفسه (3). والحاصل أن
الأدلة العقلية
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 2 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 2
التهذيب ج 7 ص 230.
(2) الوسائل الباب ـ 10 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 6
التهذيب ج 7 ص 231.
(3) الوسائل الباب 3 ـ من أبواب مكان المصلى الرقم 1 ـ 3.
والنقلية كثيرة على عدم العمل
بمضمونها فلا يعمل به وان كانت صحيحة ، فكيف العمل بها مع كونها حسنة لوجود
إبراهيم بن هاشم لو سلم ما تقدم ، وان كان الظاهر ان إبراهيم لا بأس به ، وما تقدم
صحيح.
وتقديم مثل هذه على الأدلة العقلية والنقلية ـ وتخصيصهما
به والحكم بصحة البيع ـ لا يخلو عن شيء لأجل ذلك ، لا لأنها تستلزم الجهالة
والغرر كما فهم من التذكرة ، لأن دخولها تحت الغرر المنفي والجهل الممنوع غير ظاهر
، لان الاختيار اليه ، وعلى كل من التقديرين الثمن معلوم ، على أنه قد تقرر أن
الأجل بالأقل ، ولا لأن في سندها جهالة وضعفا كما في شرح الشرائع. لأن ذلك غير
ظاهر ، بل الظاهر ما عرفت ، فينبغي أما العمل بمضمونها وفيه بعد ، واما تأويلها
فتأمل انتهى وهو جيد.
والروايتان المذكورتان وان كان موردهما مخصوصا بما إذا
كان البيع بثمن حال ومؤجل ، الا أن الأصحاب عدوهما أيضا الى ما إذا باع الى وقتين
متأخرتين بتفاوت بين الثمنين من حيث قرب الأجل وبعده ، كما تقدم ، وأنت خبير بما
فيه.
المسألة الثانية المشهور بين الأصحاب أنه لو اشتراه
البائع في حال كون البيع الأول نسيئة صح البيع الثاني ، سواء كان قبل الأجل أو
بعده ، بجنس الثمن وغيره ، بزيادة أو نقيصة ، وقيل : بالتحريم في ما إذا كان البيع
بجنس الثمن بزيادة أو نقصان ، وقيل : بتخصيص ذلك بالطعام ، والقول بالصحة فيما
اتفقوا عليه مشروط بأن لا يشترط في بيعه الأول بيعه من البائع ، والا لبطل البيع
الأول سواء كان حالا أو مؤجلا وسواء شرط بيعه من البائع بعد الأجل أم قبله.
والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه الصدوق
في الصحيح عن منصور بن حازم (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل كان له
على رجل دراهم من ثمن غنم اشتراها منه ، فاتى الطالب المطلوب يتقاضاه ، فقال له
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 5 ـ من أبواب أحكام العقود الحديث ـ 1 ـ الفقيه
ج 3 ص 165.
المطلوب : أبيعك هذا الغنم بدراهمك
التي لك عندي فرضي قال : لا بأس بذلك».
ومورد هذه الرواية هو شراء ما باعه عليه نسيئة بعد حلول
الأجل بما هو أعم من الزيادة أو النقيصة بالنسبة إلى الثمن الأول من غير شرط سابق
، ومنه يعلم عدم الفرق في الجواز بين حلول الأجل وقبله إذا لم يكن طعاما.
وبالسند المتقدم عن منصور بن حازم (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يكون له على الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك ، فاتى المطلوب الطالب ليبتاع
منه شيئا ، قال : لا يبيعه نسيئا ، فأما نقدا فليبعه بما شاء».
قال في الوافي : «شيئا» أي من ذلك المتاع الذي عليه ،
ولا يبعد أن يكون تصحيف نسيئا انتهى وهو جيد.
أقول : وهذا الخبر ظاهر في جواز شراء ما باعه نسيئة قبل
حلول الأجل بزيادة أو نقيصة نقدا ، والظاهر أنه انما منع من بيعه نسيئة لاستلزامه
بيع الدين بالدين ، لان هذه الأشياء دين على من اشتراها ، فمتى باعها بثمن مؤجل
لزم بيع الدين بالدين ، وفيه كلام (2) يأتي إنشاء الله تعالى في مسألة
الدين بالدين وتحقيق ما هو المراد من ذلك.
وكيف كان فان هذا الخبر مناف لما قدمنا نقله عنهم من
تجويزهم شراء النسيئة حالا أو مؤجلا ، لدلالة الخبر كما ترى على التخصيص بالنقد
والمنع من النسيئة.
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 6 ـ من أبواب أحكام العقود الحديث 8 ـ التهذيب
ج 7 ص 48.
(2) وهو أن جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني صرحوا
بأن الدين بالدين الممنوع ـ في الاخبار منه ـ انما هو ما إذا كان العوضان دينا قبل
العقد ، كما لو باعه الدين الذي في ذمته ، بدين آخر له في ذمته ، أو في ـ
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن بشار بن
يسار (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يبيع المتاع بنساء فيشتريه من صاحبه الذي يبيعه منه؟ قال : نعم لا بأس به ، فقلت
له : اشترى متاعي؟ فقال : ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك». وهو ظاهر في جواز
الشراء بالزيادة والنقصان قبل الأجل وبعده بجنس الثمن أو غير جنسه.
وروى في الكافي والتهذيب عن الحسين بن المنذر (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) يجيئني الرجل
فيطلب العينة فاشترى له المتاع مرابحة ، ثم أبيعه إياه ، ثم أشتريه منه مكاني؟ قال
: فقال : إذا كان بالخيار ان شاء باع ، وان شاء لم يبع (3) وكنت ايضا
بالخيار ان شئت اشتريت ، وان شئت لم تشتر فلا بأس ، قال : قلت : فإن أهل المسجد
يزعمون أن هذا فاسد ، ويقولون :
__________________
ذمة ثالث ، أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما ، بدين في ذمة
غريم آخر للآخر ، ونحو ذلك ، لا ما إذا باع دينا بمؤجل في العقد ، لأنه إنما صار
دينا بالعقد ، واشترط التأجيل فيه ، وهذا الخبر كما ترى ظاهر في خلاف ما ذكره ، إذ
لا وجه للنهى هنا الا من حيث لزوم بيع الدين بالدين ، كما لا يخفى. منه رحمهالله.
(1) الكافي ج 5 ص 208 التهذيب ج 7 ص 48 الوسائل الباب ـ 5 من
أبواب أحكام العقود.
(2) الكافي ج 5 ص 202 التهذيب ج ـ 7 ص 51 الوسائل الباب ـ 5 ـ من
أبواب أحكام العقود.
(3) فان قوله : إذا كان بالخيار ان شاء باع الى آخره كناية عن
تحقق البيع الأول ، فإنه متى تحقق وجب انتقال كل من العوضين الى مالكه فصار لكل
منهما الخيار فيما انتقل اليه بخلاف ما إذا حصل الشرط في العقد الأول ، فإنه يرفع
الخيار والاختيار. منه رحمهالله.
ان جاء به بعد أشهر صلح. فقال : ان
هذا تقديم وتأخير فلا بأس به». وفي هذا الخبر إيماء إلى انه مع الشرط لا يصح البيع
، وانه لا بد من تحقق العقد الأول واقعا وعدم توقفه على شرط.
وأظهر منه في ذلك ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن على
بن جعفر (1) عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته
عن رجل باع ثوبا بعشرة دراهم ، ثم اشتراه بخمسة دراهم أيحل؟ قال : إذا لم يشترط
ورضيا فلا بأس».
ورواه على بن جعفر في كتابه ، الا أنه قال : «بعشرة
دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد».
وهو أظهر في عنوان المسألة.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام الأصحاب أنه لا دليل في
الاخبار على ما ذكروه من البطلان بالشرط في العقد الأول وانما استدل عليه العلامة
في التذكرة باستلزامه الدور ، وناقشه جملة من المتأخرين ، منهم شيخنا الشهيد
الثاني قال (قدسسره) في المسالك :
واختلف كلامهم في تعليل البطلان مع الشرط المذكور ، فعلله في التذكرة باستلزامه
الدور ، لان بيعه له يتوقف على ملكه له ، المتوقف على بيعه ، ورد بأن الموقوف على
حصول الشرط هو اللزوم لا الانتقال ، وتمنع توقف تملك المشترى على تملك البائع ، بل
تملكه موقوف على العقد المتأخر عن ملك المشترى ، ولانه وارد في باقي الشروط كشرط
العتق ، والبيع للغير مع صحته إجماعا ، وعلل أيضا بعدم حصول القصد الى نقله عن
البائع ، ويضعف بأن الفرض حصوله ، وارادة شرائه بعد ذلك لا ينافي حصول قصد النقل ،
وألا لم يصح إذا قصدا وان لم يشترطا ، وقد صرحوا بصحته. انتهى.
أقول : وقد عرفت الدليل على ذلك من الخبرين المذكورين ،
فلا حاجة
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 5 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ 6.
الى هذه التعليلات ، ولكنهم لم يقفوا
عليهما ، والسبب في ذلك هو قصور النظر عن تتبع الاخبار.
وأما القول بالبطلان فيما إذا كان البيع الثاني بجنس
الثمن الأول مع الزيادة أو النقصان فهو للشيخ ـ قدسسره ـ في النهاية
قال في الكتاب المذكور : إذا اشترى نسيئة فحل الأجل ولم يكن معه ما يدفعه إلى
البائع جاز للبائع أن يأخذ منه ما كان باعه إياه من غير نقصان من ثمنه ، فإن أخذه
بنقصان مما باع ، لم يكن ذلك صحيحا ، ولزمه ثمنه الذي كان أعطاه به ، فإن أخذ من
المبتاع متاعا آخر بقيمته في الحال لم يكن بذلك بأس» انتهى.
واستند ـ قدسسره فيما ذكره ـ الى
ما رواه في التهذيب عن خالد بن الحجاج (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل بعته
طعاما بتأخير إلى أجل مسمى ، فلما جاء الأجل أخذته بدراهمي ، فقال : ليس عندي
دراهم ولكن عندي طعام فاشتره منى ، فقال : لا تشتره منه فإنه لا خير فيه».
وأنت خبير بأن هذا الخبر مع صحة العمل به غير منطبق على
مدعاه من وجوه ، أحدها ـ من حيث أن موردها الطعام ، ومدعاه أعم كما تقدم في عبارته
، ولهذا خص البعض الحكم بالطعام كما قدمنا الإشارة اليه ، وثانيها ـ تخصيصه ذلك
بالعين التي باعها فإنه حكم بالجواز في عبارته المذكورة في غيرها ، ومورد الرواية
أعم من ذلك ، وثالثها ـ تخصيصه المنع بالزيادة والنقيصة ، أما المثل فجائز عنده
والرواية ظاهرة المنع في الجميع.
وما رواه في الفقيه عن عبد الصمد بن بشير (2) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام)
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 33.
(2) التهذيب ج 7 ص 35 مع اختلاف يسير الفقيه ج 3 ص 130
الاستبصار ج 3 ص 77.
قال : «سأله محمد بن القاسم الحناط
فقال : أصلحك الله أبيع الطعام من الرجل إلى أجل ، فأجيء وقد تغير الطعام من سعره
، فيقول : ليس عندي دراهم ، قال : خذ منه بسعر يومه ، فقال : أفهم ـ أصلحك الله ـ انه
طعامي الذي اشتراه منى قال : لا تأخذ منه حتى يبيع ويعطيك ، قال : أرغم الله أنفي
رخص لي فرددت عليه فشدد علي».
وهذا الخبر أورده الشيخ في الاستبصار بيانا لما اختاره
من عدم جواز البيع بأكثر مما باعه : واعترضه بعض مشايخنا (1) ـ عطر الله
مراقدهم في حواشيه على الكتاب ـ «بأن هذا الخبر ليس فيه دلالة على دعواه بوجه من
الوجوه ، لان المعنى أن السائل لما طمع أن يرخص له أخذ طعامه الذي دفعه اليه ، مع
أن القيمة قد زادت والحال أنه لا يستحق إلا دراهم ، فلم يرخص له أن يأخذه إلا بسعر
يومه. انتهى.
وأما ما يدل على المشهور فما تقدم من صحيحة بشار بن يسار
، وصحيحة منصور بن حازم ، (2) وما رواه المشايخ
الثلاثة في الموثق في بعض ، والصحيح في بعض عن يعقوب بن شعيب (3) وعبيد بن
زرارة قال : «سألنا أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل باع
طعاما بدراهم إلى أجل ، فلما بلغ ذلك الأجل تقاضاه فقال : ليس عندي دراهم خذ منى
طعاما قال : لا بأس به انما له دراهم يأخذ بها ما شاء». والشيخ حمل هذا الخبر على
عدم الزيادة ، وسياق الخبر ظاهر في خلافه (4)
__________________
(1) هو شيخنا الشيخ على بن سليمان القدسي البحراني في حواشيه
على الكتاب منه رحمة الله عليه.
(2) ص 127 و 126.
(3) الكافي ج 5 ص 186 التهذيب ج 7 ص 33 الفقيه ج 3 ص 166.
(4) فان ظاهر سياقه أن الذي يستحقه انما هو الدراهم فهو يشترى
بالدراهم ما شاء من طعام وغير طعام ولو قيل باشتراط المثل كما يدعيه للزم ذلك في
غير الطعام أيضا وهو لا يقول به. منه رحمهالله.
وبالجملة فإن الاخبار هنا انما تعارضت
في الطعام خاصة ، والمشهور ـ في كلام الأصحاب ـ ـ الجمع بينها بحمل رواية خالد بن
الحجاج ـ فإنها هي الظاهرة في المنع ـ على الكراهة.
المسألة الثالثة إذا ابتاع شيئا مؤجلا فإنه لا يجب عليه
دفع الثمن قبل حلول الأجل ، بل لا يجوز طلبه ، لوجوب الانظار بالشرط الواقع في
العقد ، والأظهر أيضا عدم وجوب قبضه على البائع لو دفعه إليه المشتري قبل الأجل.
قال : بعض المحققين : «وقد يتخيل الوجوب ، لأن إلا لرجل لرعاية حال المشترى
والترفه له ، كالرخصة له ، لا لأجل البائع ، ولهذا يزاد الثمن ، فإذا حصل الثمن
الزائد للبائع نقدا فهو غاية مطلوب التجار ، فلا ينبغي الامتناع عنه وأيضا قد
يتضرر المشترى بعدم الأخذ ولان الظاهر أن أخذ الحق مع دفع صاحبه واجب عندهم عقلا
ونقلا وقد أفاد الأجل عدم وجوب الدفع ، لا عدم وجوب الأخذ فتأمل. ولان الظاهر من
قولنا بعتك هذا بكذا إلى مدة كذا أن زمان الأداء الى تلك المدة موسعا ، فذلك الزمان
نهاية الأجل للتوسعة بمنى عدم التضييق إلا في ذلك الزمان كالواجب الموسع ولا شك ان
الأخذ أحوط إلا مع ظهور ضرر عليه» انتهى.
أقول : جميع ما ذكره ـ (قدسسره) من الوجوه ـ جيد
لكن غايته إفادة الأولوية فإن الوجوب حكم شرعي يترتب على تركه العقوبة والمؤاخذة
منه سبحانه ، فلا بد له من دليل واضح من آية أو رواية ، لانحصار الأدلة الشرعية
عندنا في ذلك ، ومجرد هذه التقريبات العقلية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية كما
قدمنا ذكره في غير مقام.
ويجب الدفع بعد حلول الأجل ومطالبة البائع ، فان لم
يطالب وأراد المشتري الدفع وجب على البائع أخذه ، ولو امتنع رفع الأمر إلى الحاكم
الشرعي ، فاما أن يجبره على قبضه ، أو يقبضه الحاكم الشرعي حسبة ، ومع تعذر
الحاكم.
فالظاهر قيام عدول المؤمنين بذلك ،
كما يفهم من جملة من الاخبار ، وبذلك تبرأ ذمة المشترى ، فان تلف بغير تفريط فلا
ضمان على المشترى ولا على الأمين من الحاكم والقائم مقامه ، وهكذا الحكم في سائر
الحقوق المالية.
ولو تعذر الحاكم ومن يقوم مقامه فلو عزله وأبقاه أمانة
عنده وتسلط عليه صاحبه بحيث متى اراده قبضه ، فالظاهر انه يبرء بذلك من ضمانه ،
وانه يخرج بذلك عن عهدته ، وانه يجب على صاحبه أخذه ، والا كان مضيعا لما له ، بل
يمكن ذلك مع وجود الحاكم أيضا ، لأن الحاكم انما هو وكيل مع عدم وجود الموكل
وإمكان مثله ، والى ذلك أشار في التذكرة في أحكام السلف ، الا ان المشهور هو
الرجوع الى الحاكم أو لا.
قيل : ويجوز للمشتري التصرف فيه بعد تعيينه ، فيرجع الى
ذمته ، ولو تجدد له نماء فهو له. قال في المسالك : ومقتضى ذلك انه لا يخرج عن ملكه
وانما يكون تلفه من البائع عقوبة له وفيه نظر» (1) انتهى.
ولو امتنع المشترى من دفعه بعد حلول الأجل ومطالبة
البائع ، فظاهر كلام الأصحاب هنا وجوب رفع الأمر إلى الحاكم أولا ، ومع تعذره
فالمقاصة ان لم يتمكن من الأخذ قهرا ، وظاهر الاخبار المقاصة وان كان موردها أعم
مما نحن فيه.
ثم انه مع إمكان الرجوع الى الحاكم الشرعي فلا اشكال.
وأما مع تعذره وعدم إمكان تحصيله قهرا أو مقاصة فهل يرفع الأمر إلى حاكم الجور؟
إشكال ينشأ
__________________
(1) أقول وجه النظر هو أنه متى كان عزله وتعينه على حدة موجبا
لبراءة الذمة وخلو عهدة المشتري ، فهو ينتقل بذلك إلى البائع ، ويكون النماء له
والتلف منه ، ولا معنى لكون النماء للمشتري ، والتلف على البائع عقوبة ، إذا
الجميع انما يترتب على الانتقال كما عرفت. منه رحمهالله.
من النهى عن الترافع الى الجبت
والطاغوت ، الا أن الظاهر ـ كما ذهب إليه جملة من أصحابنا ـ هو اختصاص تحريم
الترافع إليهم بوجود الحاكم الشرعي ، كما هو ظاهر جملة من اخبار المسألة ، وبعضها
وان كان مطلقا فإنه يجب حمله على المقيد ، عملا بالقاعدة ، وأيضا فظاهر الاخبار
المشار إليها هو المنع من الترافع في إثبات الحق بالبينة أو اليمين ، دون مجرد
الاستعانة بهم على أخذه مع ثبوته ، وعدم إنكار الخصم ذلك ، كما هو محل البحث.
ومتى انتقل الأمر إلى المقاصة أو الأخذ منه قهرا فيجب
مراعاة الأسهل فالأسهل ، فإن وجد الجنس المساوي لا يتعدى الى غيره ، وينبغي ـ سيما
إذا كان مؤمنا ـ المسامحة والسهولة في الاقتضاء لما ورد في ذلك وعدم المقاصة
التامة ، وقد تقدم حديث الصادق (عليهالسلام) (1). في إنكاره
على من استقضى حقه ، وأنه إسائة منهي عنها ، وهكذا الحكم في طرف البائع إذا باع سلما
، وكذا سائر الحقوق.
المسألة الرابعة : يجوز بيع المتاع حالا ومؤجلا بزيادة
عن قيمته ، وقيد ذلك بعضهم بكون المشترى والبائع عالمين بالقيمة ، وأورد على ذلك
أن مقتضاه أنهما لو لم يكونا عالمين بالقيمة لا يصح البيع مع أنه ليس كذلك ، فإنه
يصح البيع ، وان ثبت للجاهل منهما خيار الغبن متى كان مما لا يتسامح به ، كما تقدم
في خيار الغبن (2) ويمكن حمل
كلام من ذكر هذا القيد على أنه أراد بالجواز اللزوم مجازا ، إذ مع الجهل وثبوت
الغبن لا يلزم.
ثم انه ينبغي أن يعلم أنه لا بد من تقييد الصحة مع
الزيادة بعدم استلزام السفه بأن يتعلق بالزيادة غرض صحيح عند العقلاء ، اما لقلتها
أو لترتب غرض آخر يقابل الزيادة ، كالصبر عليه بدين حال ونحو ذلك.
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 16 ـ من أبواب الدين الرقم ـ 1.
(2) ص 41.
المسألة الخامسة : لا يجوز تأخير ثمن المبيع ولا شيء من
الحقوق المالية بزيادة فيها ، ويجوز تعجيلها بنقصان منها. أما الأول ـ فلاستلزام
الزيادة في هذه الصورة الربا. نعم يجوز التأجيل في عقد لازم كالبيع ونحوه بزيادة
في ثمن ما يبيعه إياه وان زادت على ثمنه الواقعي أضعافا مضاعفة ، وهذا من الحيل
الشرعية في التخلص من الربا. وعليه ظاهر اتفاق الأصحاب ـ (رضوان الله عليهم) ـ وبه
استفاضت الاخبار كان يكون له في ذمته مائة درهم حالا ، ويريد تأجيلها إلى سنة
بزيادة عشرين درهما مثلا ، فان الطريق في ذلك أن يبيعه خاتما قيمته درهم مثلا
بعشرين درهما ، ويشترط تأجيل الثمن مع المأة الدرهم التي في ذمته إلى سنة ، فإنه
لا شك في صحته.
ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه في الكافي عن محمد بن
إسحاق بن عمار (1) قال : «قلت
لأبي الحسن (عليهالسلام) : ان سلسبيل
طلبت منى مائة ألف درهم على أن يربحنى عشرة آلاف درهم فاقرضتها تسعين ألفا وأبيعها
ثوبا أو شيئا تقوم على بألف درهم بعشرة آلاف درهم؟ قال : لا بأس». قال في الكافي :
وفي رواية أخرى «لا بأس به أعطها مأة ألف ، وبعها الثوب بعشرة آلاف واكتب عليها
كتابين».
وما رواه في الكافي والتهذيب (2) عن محمد بن
إسحاق بن عمار قال : «قلت للرضا (عليهالسلام) : الرجل يكون
له المال قد حل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم ويؤخر عنه المال
الى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي ففعلت ذلك ، وزعم أنه سأل أبا الحسن (عليهالسلام) عنها فقال له
: مثل ذلك».
وما رواه الشيخان المذكوران في الصحيح عن محمد بن إسحاق
بن عمار (3)
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 205.
(2) الكافي ج 5 ص 205 التهذيب ج 7 ص 53.
(3) الكافي ج 5 ص 205 التهذيب ج 7 ص 53.
قال : «قلت لأبي الحسن (عليهالسلام) : يكون لي
على الرجل دراهم فيقول : أخرني بها وأنا أربحك فأبيعه جبة تقوم على بألف درهم
بعشرة آلاف درهم ، أو قال : بعشرين ألفا وأؤخره بالمال؟ قال : لا بأس».
وما رواه عن عبد الملك بن عتبة (1) قال : «سألته
عن الرجل أريد أن أعينه المال ، ويكون لي عليه مال قبل ذلك فيطلب منى ما لا أزيده
على مالي الذي لي عليه ، أيستقيم أن أزيده مالا وأبيعه لؤلؤة تساوى مأة درهم بألف
درهم فأقول له : أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخرك بثمنها وبمالي عليك كذا
وكذا شهرا ، قال : لا بأس».
وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (2) في الموثق عن
ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل
عن رجل له مال على رجل من قبل عينة عينها إياه فلما حل عليه المال لم يكن عنده ما
يعطيه فأراد أن يقلب عليه ويربح أيبيعه لؤلؤا وغير ذلك ما يسوى مائة درهم بألف
درهم ويؤخره؟ قال : لا بأس بذلك ، قد فعل ذلك أبى (عليهالسلام) وأمرني أن
أفعل ذلك في شيء كان عليه».
ومما يؤيد ذلك زيادة على ما ذكرنا ما رواه في التهذيب عن
محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه عن رجل كتب الى العبد الصالح (3) (عليهالسلام) «يسأله انى
أعامل قوما أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم ، وانهم
يسألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم ، فهل لي من حيلة أن لا أدخل في الحرام؟
فكتب (عليهالسلام) إليه :
أقرضهم الدراهم قرضا وازدد عليهم في نصف القفيز بقدر ما كنت تربح عليهم».
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 206 ـ التهذيب ج 7 ص 52.
(2) الكافي ج 5 ص 316.
(3) التهذيب ج 7 ص 45.
وما رواه المشايخ الثلاثة ـ (نور الله تعالى مراقدهم) ـ في
الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «سألته ـ (عليهالسلام) الى أن قال :
ـ فقلت له : أشترى ألف درهم ودينارا بألفي درهم؟ فقال : لا بأس بذلك ان أبى (عليهالسلام) ، كان اجرى
على أهل المدينة مني ، وكان يقول : هذا فيقولون : انما هذا الفرار ، لو جاء رجل
بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم :
نعم الشيء الفرار من الحرام الى الحلال».
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح (2) عن عبد الرحمن
بن الحجاج عن أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «كان
محمد بن المنكدر يقول لأبي : يا أبا جعفر ـ رحمك الله ـ والله انا لنعلم أنك لو
أخذت دينارا والصرف بثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ، ما
وجدته ، وما هذا الا فرارا ، وكان أبى يقول : صدقت والله ، ولكنه فرار من باطل الى
حق».
والعجب أنه ـ مع هذه الاخبار التي رأيت ، واتفاق الأصحاب
على ذلك ـ كان بعض من يدعى الفضل من المعاصرين بل الأفضلية ينكر ذلك ويقول ببطلانه
، مستندا الى أن البيع المذكور غير مقصود. وما هو إلا محض اجتهاد في مقابلة النصوص
، ورد على أهل الخصوص.
وأما ما رواه الشيخ عن يونس الشيباني (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الرجل يبيع
البيع والبائع يعلم أنه لا يسوى ، والمشترى يعلم أنه لا يسوى الا أنه يعلم أنه
سيرجع فيه فيشتريه به منه قال : فقال : يا يونس ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال لجابر بن
عبد الله : كيف أنت إذا ظهر الجور وأورثتم الذل؟ قال :
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 246 التهذيب ج 7 ص 104 الفقيه ج 3 ص 185.
(2) الكافي ج 5 ص 247 التهذيب ج 7 ص 104.
(3) التهذيب ج 7 ص 19.
فقال له جابر : لا أبقيت الى ذلك
الزمان ، ومتى يكون ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال : إذا ظهر الربا يا يونس ، وهذا الربا
، وان لم تشتره منه رده عليك؟ قال : قلت : نعم قال : فقال : لا تقربنه فلا تقربنه».
حيث أنه بإطلاقه دل على المنع مما دلت تلك الاخبار على
جوازه ، فأجاب عنه بعض مشايخنا في حواشيه على كتب الاخبار بالحمل على الكراهة وقال
في الوافي بعد نقله على أثر الأخبار المتقدمة : ـ لا منافاة بين هذا الخبر
والاخبار المتقدمة ، لأن المتبايعين هيهنا لم يقصدا البيع ولم يوجباه في الحقيقة ،
وهناك اشترط ذلك في جوازه ـ انتهى
والجميع لا يخلو من البعد (1) والأظهر عندي
حمل الخبر على التقية لما دلت عليه الاخبار المتقدمة (2) من تشديد
العامة في المنع من هذه الصورة وأما الثاني : وهو جواز التعجيل بالنقصان ، فقد صرح
به الأصحاب من غير خلاف يعرف في الباب ، وهو يكون بالإبراء أو الصلح ، والوجه في
الإبراء ظاهر ، إذ لو أبرأه من الكل لصح ، فكذا من البعض ، وكذا الصلح ، ويسمى صلح
الحطيطة ، وهو الذي وردت به الاخبار.
منها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن ابان (3) عمن حدثه عن
أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته
عن الرجل يكون له على الرجل دين ، فيقول له
__________________
(1) أما الأول فلما اشتمل عليه الخبر من مزيد التأكيد في النهي
المستفاد من الحديث النبوي المستشهد به على ذلك ، وأما الثاني فلان المتبادر من
قوله الرجل يبيع البيع انما هو إيجاب البيع وقصده كما لا يخفى. منه رحمهالله.
(2) ص 136.
(3) الكافي ج 5 ص 258 التهذيب ج 6 ص 206.
قبل أن يحل الأجل : عجل لي النصف من
حقي على أن أضع عنك النصف ، أيحل ذلك لواحد منها؟ قال : نعم».
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابى عمير (1) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) قال : سئل عن
الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني كذا وكذا وأضع عنك
بقيته أو يقول : أنقد في بعضه وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك ، قال : لا أرى به
بأسا ، انه لم يزدد على رأس ماله ، قال الله جل ثناؤه (2) «فَلَكُمْ
رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ.».
ورواه الشيخ في التهذيب والصدوق وفي الفقيه عن محمد بن
مسلم (3) في الصحيح الا
أن فيه «في الرجل يكون عليه الدين إلى أجل مسمى». وهو الظاهر ولعل اللام في رواية
الكافي هنا بمعنى على.
وما رواه في الكافي (4) عن أبان عن زرارة عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : سألته
عن رجل اشترى جارية بثمن مسمى ثم باعها فربح فيها قبل أن ينقد صاحبها الذي هي له.
فأتاه صاحبها يتقاضاه ، ولم ينقد ماله ، فقال صاحب الجارية للذين باعهم : اكفوني
غريمي هذا والذي ربحت عليكم فهو لكم قال : لا بأس».
ورواه في الفقيه عن الحلبي في الصحيح (5) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) «أنه سئل عن
رجل» الحديث.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 259 عن ابن ابى عمر عن حماد عن الحلبي عنه (عليهالسلام).
(2) سورة البقرة ـ الاية 279.
(3) التهذيب ج 7 ص 207 الفقيه ج 3 ص 21 وفيه (عليه دين).
(4) الكافي ج 5 ص 211 التهذيب ج 7 ص 68 الفقيه ج 3 ص 138.
(5) الفقيه ج 3 ص 138.
قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) في حواشيه على
الكافي : والظاهر أنه باعهم للمشتري بأجل فلما طلب البائع الأول منه الثمن حط من
الثمن بقدر ما ربح ليعطوه قبل الأجل ، وهذا جائز كما صرح به الأصحاب ، وورد به
غيره من الاخبار انتهى. وهو جيد. والا فلو كان الثمن نقدا فإنه لا معنى لهذه
المصالحة بإسقاط بعض حقه ليكفوه غريمه.
ثم انه لا يخفى عليك ما في دلالة هذه الاخبار من سعة
الدائرة في العقود الشرعية ، فإن ما اشتملت عليه هذه الاخبار من التراضي بالألفاظ
الدالة على إسقاط بعض الثمن بتعجيله قبل حلول الأجل هي ألفاظ عقد الصلح.
المسألة السادسة ـ قال الشيخ في النهاية : لا بأس
بابتياع جميع الأشياء حالا وان لم يكن حاضرا في الحال ، إذا كان الشيء موجودا في
الوقت أو يمكن وجوده ، ولا يجوز أن يشترى حالا ما لا يمكن تحصيله ، فأما ما يمكن
تحصيله فلا بأس به وان لم يكن عند بائعه في الحال» انتهى.
ومنع ابن إدريس من ذلك ، ونسب هذا القول الى خبر واحد
شاذ رواه الشيخ عن ابن سنان لا يجوز العمل به ، ولا التعويل عليه ، قال : لأنا قد
بينا أن البيع على ضربين بيع سلم ، ولا بد فيه من التأجيل ، وبيع عين أما مرئية
مشاهدة ، أو غير حاضرة ، وهو ما يسمى بخيار الرؤية وما أورده الشيخ خارج عن هذه
البيوع لا مشاهدة ولا موصوف بوصف يقوم مقام المشاهدة ، فدخل في بيع الغرر ، والنبي
(صلىاللهعليهوآله) «نهى عن بيع
الغرر» (1). و «بيع ما
ليس عند الإنسان» (2). ولا في ملكه
الا ما أخرجه الدليل من السلم ، ولان البيع حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل
شرعي ، ولا يرجع عن الأمور
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 40 ـ من أبواب آداب التجارة الرقم ـ 3.
(2) الوسائل الباب 7 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم ـ 2.
المعلومة بالدلالة القاهرة ، بالأمور
المظنونة ، وأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا. انتهى.
وقال ابن ابى عقيل : البيع عند آل الرسول (عليهمالسلام) بيعان ،
أحدهما بيع شيء حاضر قائم العين ، والأخر بيع شيء غائب موصوف بصفة مضمونة الى
أجل.
انتهى وهو ظاهر قول ابن إدريس.
والمستفاد من الاخبار الواردة في هذا المقام هو ما قدمنا
نقله عن الشيخ (قدسسره).
ومنها ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبد الرحمن
(1) بن الحجاج قال
سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يشترى الطعام من الرجل ليس عنده فيشترى منه حالا؟ قال : ليس به بأس ، قلت : انهم
يفسدونه عندنا ، قال : وأي شيء يقولون في السلم؟ قلت : لا يرون به بأسا ، يقولون
: هذا إلى أجل ، فإذا كان الى غير أجل وليس هو عند صاحبه فلا يصلح ، فقال : إذا لم
يكن أجل كان أجود ثم قال : لا بأس أن يشترى الرجل الطعام وليس هو عند صاحبه إلى
أجل وحالا لا يسمى له أجلا الا ان يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في
غير زمانه فلا ينبغي شراء ذلك حالا (2).
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 179 التهذيب ج 7 ص 49.
(2) أقول وهذه الرواية رواه الشيخ في التهذيب وفيها «وليس هو
عند صاحبه إلى أجل ، فقال : لا يسمى له أجلا الا أن يكون» الى آخره ، وهو من
تحريفات الشيخ ، والصحيح ما نقلناه في الأصل عن الفقيه ، لانه هو الذي يستقيم به
المعنى كما يخفى. (منه رحمهالله) ويمكن أن يكون التحريف من النساخ. على
آخوندى.
وفي صحيحة أحرى لعبد الرحمن (1) المذكور عن
أبى عبد الله (عليهالسلام) «ان أبى كان
يقول : لا بأس أن تبيع كل متاع كنت تجده في الوقت الذي بعته فيه». ومعنى تجده يعنى
تقدر عليه في ذلك الوقت.
أقول : وهما مع صحة السند صريحتا الدلالة في صحة ما ذكره
الشيخ ، وبطلان ما ذكره ابن إدريس الموافق لمذهب العامة ، كما يشير إليه الرواية ،
وقد تضمنت الإنكار على المانعين من هذه الصورة ، والتعجب من تسويغ السلم ومنع هذه
الصورة ، باعتبار أن البيع الخالي من الأجل أجود ، وانما كان أجود لوجود المبيع
يومئذ ، والقدرة على تسليمه بخلاف السلم ، فإنه قد يتعسر تسليمه بعد الأجل ، وفي
ذلك إشارة إلى كون هذا أولى بالصحة من السلم الذي وافقوا على جوازه.
ويعضده أن الأجل في السلم انما جعل إرفاقا بالبائع ، لا
أنه شرط في صحة المعاوضة ، فيكون المعاوضة هنا سائغة ، لما عرفت من ان القدرة على
التسليم هنا أتم والحكمة في معاوضة البيع انما يتم بالقدرة على التسليم ، وإذا
كانت أتم وأجود في صورة النزاع وجب أن يكون الحكم فيه ثابتا ، وما ذكره من افراد
البيع ، لا دليل على الحصر فيها ، لتكاثر الاخبار بهذا الفرد الذي هو محل البحث.
ومن الاخبار المذكورة أيضا ما رواه في الفقيه عن الكناني
(2) قال : «سألته
عن رجل اشترى من رجل مائة من صفر بكذا وكذا وليس عنده ما اشترى منه فقال : لا بأس
إذا أوفاه الوزن الذي اشترط عليه».
وما رواه في التهذيب عن الشحام (3) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) «في
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 200 والوسائل الباب ـ 7 ـ من أبواب أحكام
العقود الرقم ـ 3.
(2) الفقيه ج 3 ص 179 الوسائل الباب 7 ـ من أبواب أحكام العقود
الرقم 4.
(3) التهذيب ج 7 ص 44.
رجل اشترى من رجل مائة من صفر وليس
عند الرجل شيء منه ، قال : لا بأس به إذا أو فاه دون الذي اشترط له». كذا في نسخ
التهذيب ، والظاهر أن قوله «دون» وقع تحريف الوزن كما في الخبر المتقدم ، كم ومثل
ذلك للشيخ (قدسسره.)
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله بن
سنان (1) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «سألته
عن الرجل يأتيني يريد منى طعاما وبيعا وليس عندي أيصلح لي أن أبيعه إياه واقطع
سعره ثم أشتريه من مكان آخر وادفع اليه قال : لا بأس إذا قطع سعره».
وكان ابن إدريس ظن انه لا مستند لهذا القول إلا صحيحة
عبد الله بن سنان التي أشار إليها ، الا ان قوله مبنى على أصله الغير الأصيل من رد
الأخبار التي عليها بناء الشريعة بين العلماء جيلا بعد جيل ، وهو مما لا يلتفت
اليه ولا يعول عليه في حقير ولا جليل.
وأما ما رواه في التهذيب عن سليمان بن صالح (2) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «نهى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عن سلف وبيع
، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن».
وما رواه في آخر الفقيه (3) في مناهي
النبي (صلىاللهعليهوآله) قال : «ونهى
عن بيع ما ليس عندك ونهى عن بيع وسلف» الخبر.
ففيه أولا ـ أنه يضعف عن معارضة ما ذكرنا من الاخبار
المؤيدة بعمل
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 44 الوسائل الباب ـ 7 ـ من أبواب أحكام
العقود الرقم 2.
(2) التهذيب ج 7 ص 230 الرقم 25.
(3) الفقيه ج 4 ص 4 الوسائل الباب ـ 7 ـ من أبواب أحكام العقود
الرقم ـ 5.
الأصحاب ، وثانيا ـ أنه يمكن حمله على
بيع عين في ملك غيره ، لجواز أن لا يبيعها صاحبها ، لا ما إذا كان البيع في الذمة
كما هو محل البحث جمعا بين الاخبار.
المطلب الثاني فيما يدخل في المبيع
قالوا : والضابط الاقتصار على ما يتناوله اللفظ لغة
وعرفا ، قيل : والمراد بالعرف ما يعم الخاص والعام ، وظاهرهم أن المراد بالعرف ما
هو المتعارف بين الناس في إطلاق ذلك اللفظ ، وما يراد منه ويستعمل فيه أعم من ان
يكون عاما في جميع الأصقاع والبلدان أو خاصا ، باعتبار اصطلاح كل بلد وكل قطر على
استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى.
والأظهر أن يقال : ان الواجب هو حمل اللفظ على الحقيقة
الشرعية ان وجدت ، والا فعلى عرفهم عليهمالسلام ، لانه مقدم
على عرف الناس ان ثبت ، والا فعلى ما هو المتعارف في السن المتخاطبين ، والمتبادر
في محاوراتهم وان اختلفت في ذلك الأصقاع والبلدان ، ثم مع تعذر ذلك فاللغة ، وربما
قدم بعضهم اللغة على العرف.
ومما يشير الى ما ذكره الأصحاب في هذا الباب ما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (1) انه كتب الى أبى محمد (عليهالسلام) «في رجل
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 30 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 1
والتهذيب ج 7 ص 150 الرقم 13 و 14.
اشترى من رجل بيتا في داره بجميع
حقوقه ، وفوقه بيت آخر ، هل يدخل البيت الأعلى في حقوق البيت الأسفل أم لا؟ فوقع (عليهالسلام) : ليس له الا
ما اشتراه باسمه وموضعه إنشاء الله تعالى».
وكتب إليه (1) «في رجل اشترى
حجرة أو مسكنا في دار بجميع حقوقها ، وفوقها بيوت ومسكن آخر ، يدخل البيوت الأعلى
والمسكن الأعلى في حقوق هذه الحجرة والمسكن الأسفل الذي اشتراه أم لا؟ فوقع (عليهالسلام) : ليس له من
ذلك الا الحق الذي اشتراه إنشاء الله.
وظاهر الخبرين أن المرجع الى ما صدق عليه ذلك اللفظ عرفا
، وظاهرهما عدم دخول البيت الأعلى في حقوق البيت الأسفل فلا يدخل في البيع.
ومما يشير الى الرجوع الى اللغة في أمثال ذلك ما رواه
الثقة الجليل على ابن إبراهيم القمي في تفسيره (2) في تفسير قوله عزوجل (3) «لَهُ
مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللهِ) عن الصادق (عليهالسلام) أن هذه الآية
قرئت عنده فقال لقارئها : ألستم عربا ، فكيف تكون المعقبات من بين يديه ، وانما
العقب من خلفه ، فقال الرجل : جعلت فداك كيف هذا فقال : إنما أنزلت «له معقبات من
خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله» ومن الذي يقدر بحفظ الشيء من أمر الله
وهم الملائكة الموكلون بالناس.».
ورواه العياشي في تفسيره أيضا ، (4) وفي الخبر
المذكور دلالة على وقوع
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 30 ـ من أبواب أحكام القعود الرقم 1
والتهذيب ج 7 ص 150 الرقم 13 و 14.
(2) تفسير البرهان ج 2 ص 283.
(3) سورة الرعد الآية ـ 11.
(4) تفسير البرهان ج 2 ص 283.
التغيير في القرآن كما هو أصح القولين
وأشهرهما ، وقد بسطنا الكلام في ذلك في موضع أليق.
قال في المسالك : وقد حقق العلامة قطب الدين الرازي أن
المراد تناول اللفظ بالدلالة المطابقية والتضمنية ، لا الالتزامية ، فلا يدخل
الحائط لو باع السقف وهو حسن. انتهى.
وقال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : والمراد
بالمعاني ما يفهم منها بحسب التخاطب ارادة اللافظ ذلك ، مطابقا كان أو تضمنا أو
التزاما.
أقول : وهو الأظهر بالنظر الى ما قدمنا عنهم من الحوالة
إلى العرف.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ،
ذكروا هنا ألفاظا وذكروا مدلولاتها بحسب العرف.
فمن ذلك لفظ الأرض والساحة والبقعة ، والعرصة ، فلا
يندرج تحتها الشجر الذي فيها ولا الزرع ، ولا البذر الكامن فيها.
ونقل عن الشيخ انه لو قال : بحقوقها دخل (1) قال في
المسالك : بل يفهم منه انها تدخل وان لم يقل بحقوقها محتجا بأنها من حقوقها ، ثم
قال : والمنع متوجه إلى الأمرين ، والأقوى عدم الدخول مطلقا الا مع دلالة اللفظ أو
القرائن عليه ، كقوله : وما اشتملت عليه أو وما أغلق عليه بابها. انتهى. وهو جيد.
__________________
(1) قال في المبسوط : إذا باع أرضا فيها بناء وشجر ، وقال في
العقد بحقوقها ، دخل البناء والشجر ، وان لم يقل بحقوقها لم يدخلا ، وتبعه ابن
البراج وابن حمزة ، وهو ظاهر كلام ابن إدريس ـ منه رحمهالله.
ويدل عليه ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن الحسن
الصفار (1) «في رجل اشترى
من رجل أرضا بحدودها الأربعة ، وفيها زرع ونخل وغيرهما من الشجر ، ولم يذكر النخل
ولا الزرع ولا الشجر في كتابه ، وذكر فيه أنه قد اشتراها بجميع حقوقها الداخلة
فيها والخارجة منها ، أيدخل الزرع والنخل والأشجار في حقوق الأرض أم لا؟ فوقع (عليهالسلام) : إذا ابتاع
الأرض بحدودها وما أغلق عليه بابها ، فله جميع ما فيها إنشاء الله تعالى» (2). وهو ظاهر في
الرد على ما نقل عن الشيخ ، وصريح فيما ذكره في المسالك.
ثم انه لو كان المشترى جاهلا بوجود تلك الأشياء في الأرض
كما لو اشتراها بالوصف أو الرؤية قبل الزرع والغرس ، فله الخيار بين فسخ البيع
وأخذ ثمنه ، وبين أخذها بذلك الثمن والرضا به وإبقائه مجانا ، كذا ذكره جملة من
الأصحاب ، ولم أقف هنا على نص.
قال بعض المحققين : ولعل دليله أن وجود هذه الأشياء فيها
سبب لتعطيلها غالبا ـ والعقد يقتضي الانتفاع بالفعل ـ من غير مضى زمان كثير عادة ـ
ففيه ضرر على المشترى. انتهى.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 138 الرقم 84.
(2) قال ابن إدريس : قوله «وما أغلق عليه بابها» يريد بذلك
جميع حقوقها والجواب مطابق للسؤال.
قال
في المختلف بعد نقل ذلك عنه : ونحن نمنع هذا التفسير ونقول : بموجب الحديث ، فإنه
إذا اشترى بما أغلق عليه بابه ، دخل الجميع بلا خلاف ، ولعل الامام (عليهالسلام) أشار الى الجواب بطريق المفهوم
وهو عدم الدخول ، فإنه علق الدخول بقوله «وما أغلق عليه بابها» ويفهم من ذلك عدم
الدخول عند عدمه. انتهى وهو جيد. منه رحمهالله.
قالوا : ويدخل الأحجار المخلوقة في تلك الأرض دون
المدفونة ، والظاهر أن وجه الفرق هو دخول الاولى في مفهوم اللفظ عرفا كالتراب ،
فان الجميع من اجزاء الأرض بخلاف الثانية ، فإنها بمنزلة الأمتعة المدفونة ، وعلى
البائع نقلها وتسوية الحفر ، ويتخير المشتري أيضا عندهم مع الجهل ، وحصول الغرر
ببقائها وانه لا خيار للمشتري ان تركها البائع مع عدم الضرر.
ومن ذلك البستان ، ولا ريب في دخول الأرض والأشجار ،
لأنه داخل في مفهومه لغة وشرعا ، أما البناء فان كان حائطا لذلك البستان فالظاهر
دخوله لما ذكر ، وفي غيره ـ كالبناء لسكنى حافظ البستان وحارسه ، والموضع المعد
لوضع الثمرة ولجلوس من يدخله ونحو ذلك ـ إشكال ، ينشأ من عدم دخوله في مسماه لغة ،
ولهذا يسمى بستانا وان لم يكن شيء من ذلك ـ ومن إطلاق البستان عليه ظاهرا إذا قيل
: باع فلان بستانه وفيه بناء.
أقول : والوجه الأول من وجهي الإشكال أجود ، الا أنه
يدخل فيه الحائط أيضا فإن الظاهر أنه يسمى بستانا وان لم يكن عليه حائط ، والأقوى
في ذلك الرجوع الى العرف ، فان عد جزء منه أو تابعا له دخل ، والا فلا ، والظاهر
أن ذلك يختلف باختلاف البقاع والأزمان وأوضاع البناء.
ومن ذلك الدار ، ولا ريب في دخول الأرض والبيوت التي
اشتملت عليها تحتانية أو فوقانية مع الحيطان الدائرة عليها ، والسقوف ، الا أن
يكون البيت الا على مستقلا بالسكنى ، بأن يكون له باب على حدة من غير هذه الدار
المذكورة ، فيكون ممتازا كالدار على حدة ، وحينئذ لا يدخل البيت الأعلى وحيطانه
وسقفه ، والظاهر دخول أرضه التي هي سقف البيوت التحتانية الداخلة في الأرض
المفروضة ، وتدخل فيها الأبواب والأغلاق المنصوبة ، والسلاسل ، والحلق في الأبواب
وان لم يسمها ، والأخشاب المستدخلة في البناء ، والأوتاد المثبتة فيه ، والسلم
المثبت في الأبنية على حذوا الدرج ، والوجه في دخول جميع هذه اقتضاء العرف كونها
من
اجزاء الدار وتوابعها ومرافقها ، ولو
كان في الدار حمام معد لها أو بئر أو حوض فالظاهر دخولها ، وكذا خوابى المثبتة في
الأرض أو الحائط بحيث تصير من اجزائها وتوابعها عرفا.
وفي دخول المفاتيح خلاف وإشكال ينشأ من خروجها عن اسم
الدار ـ وكونها منقولة فيكون كالآلات المنتفع بها في الدار ـ ومن أنها من توابع
الدار وكالجزء من الأغلاق المحكوم بدخولها ، وأظهر في الخروج مثل الدلو والبكرة
والرشا والسرير ، والرف الغير المثبت كالموضوع على الخشب ، والسلم الغير المثبت ،
والأقفال الحديد ومفاتيحها ، والكنوز ، والدفائن ونحو ذلك.
ولو كان في الدار نخل أو شجر ولم يذكره في البيع لم يدخل
، وقال الشيخ في المبسوط بالدخول ، والكلام هنا كما تقدم في الأرض.
ومن ذلك الشجر ، ويندرج فيه الأغصان والورق والعروق
لقضاء العرف بشموله لذلك ، ويستحق الإبقاء معروسا ـ ولا يستحق الغرس ـ بل سقيه
للإبقاء خاصة ، والظاهر تخصيص ذلك بالشجر الرطب ، فإنه هو الذي يتعلق الغرض
بإبقائه ، دون اليابس الذي يقتضي العادة بأنه يقطع للحطب والوقود والبناء ونحو ذلك
، ولو استثنى شجرة من البستان الذي باعه أو اشتراها من مالكها خاصة ، لم تدخل
الأرض في البيع ، لكن يستحق من منفعتها ما يتوقف عليه الانتفاع بالشجرة وثمرتها من
الدخول إليها وسقيها وحرثها وجمع ثمرتها ، ويستحق أيضا مدى جرائدها في الهواء
وعروقها في الأرض.
ويدل على ذلك في الجملة ما رواه في الكافي والتهذيب عن
السكوني (1) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «قضى
النبي (صلىاللهعليهوآله) في رجل باع
نخلا واستثنى عليه نخلة ، فقضى له رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بالمدخل
إليها
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 295 التهذيب ج 7 ص 144 الرقم 25.
والمخرج منها ومدى جرائدها».
وروى في الفقيه عن السكوني (1) عن أبيه عن
آبائه (عليهمالسلام) قال قضى رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) الحديث :.
وروى في الكافي والتهذيب عن عقبة بن خالد (2) «ان النبي (صلىاللهعليهوآله) قضى في هرائر
النخل أن تكون النخلة والنخلتان للرجل في حائط الأخر ، فيختلفون في حقوق ذلك ،
فقضى فيها أن لكل نخلة من أولئك من الأرض مبلغ جريدة من جرائدها حين بعدها».
أقول : قوله «حين بعدها» أى منتهى طول الجريدة إذا طالت
، وأما قوله «هرائر» فقد اختلفت فيه نسخ الحديث اختلافا فاحشا ففي بعضها كما ذكرنا
، وفي بعض «بالواو» عوض الراء الاولى ، وفي بعض بالزاي عوضها ، وفي بعض نسخ
التهذيب «هذا النخل» ، والظاهر كما استظهره في الوافي حريم النخل ، فوقع التحريف.
وروى في التهذيب عن محمد بن الحسن الصفار (3) في الصحيح قال
: «كتبت اليه (عليهالسلام) في رجل باع
بستانا فيه شجر وكرم فاستثنى شجرة منها ، هل له ممر الى البستان الى موضع شجرته
التي استثناها ، وكم لهذه الشجرة التي استثناها من الأرض التي حولها؟ بقدر أغصانها
أو بقدر موضعها التي هي ثابتة فيه؟ فوقع (عليهالسلام) : له من ذلك
على حسب ما باع وأمسك فلا يتعد الحق في ذلك إنشاء الله تعالى».
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 57.
(2) الكافي ج 5 ص 295 وفيه «هوائر» من الهور بمعنى السقوط أي
في مسقط الثمار للشجرة التهذيب ج 7 ص 144 الرقم 26.
(3) التهذيب ج 7 ص 90 الرقم 24.
أقول : لا يخفى ما في الجواب من الإجمال المانع من
الاعتماد عليه في الاستدلال ومع ذلك فان الظاهر أن يقال : له من ذلك على حسب ما
استثنى ، وربما أشعر بأنه مع استثناء الشجرة فلا ينصرف ذلك الا الى ما دخل تحت
مفهوم هذا اللفظ عرفا ، وهو مشكل بناء على ما عرفت من كلام الأصحاب ومن الاخبار
المتقدمة.
ومن ذلك النخل بالنسبة إلى ثمرته قبل التأبين وبعده ،
والمشهور في كلامهم أنه لو باع نخلا قد أبر ثمرها فهو للبائع ، لأن اسم النخلة لا
يتناوله الا أن يشترطه المشترى ، وان لم يكن مؤبرا فهو للمشتري.
أقول : ويدل على الحكم الأول ما رواه في الكافي والتهذيب
عن يحيى بن أبى العلاء (1) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) : من باع
نخلا قد لقح ، فالثمرة للبائع الا أن يشترط المبتاع ، قضى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بذلك».
وعن غياث بن إبراهيم (2) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) : من باع
نخلا قد أبره فثمرته (للذي باع) ، الا أن يشترط المبتاع ثم قال : قضى به رسول الله
(صلىاللهعليهوآله)».
وروى في الكافي عن عقبة بن خالد (3) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) «قال قضى
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان ثمر النخل
للذي أبرها الا ان يشترط المبتاع».
وأما الحكم الثاني فلم أقف فيه على دليل الا مفهوم
الروايات المتقدمة ، ومن ثم ناقش في الحكم بعض الأصحاب ، وتوقف آخرون كما يؤذن به
كلام المحقق في الشرائع حيث نسب الحكم المذكور الى فتوى الأصحاب.
قال في المسالك : انما نسب القول الى فتوى الأصحاب ،
لقصور المستند
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 177 التهذيب ج 7 ص 87 الرقم 12.
(2) الكافي ج 5 ص 177 التهذيب ج 7 ص 87 وفي الكافي (للبائع).
(3) الكافي ج 5 ص 178.
النقلي عن افادة الحكم المذكور ، فإنه
إنما دل على أن النخل المؤبر ثمرته للبائع ، لا على أن ما لا يؤبر ثمرته للمشتري
الا من حيث المفهوم الضعيف ، والأصل يقتضي الملك لبائعه ، وعدم انتقاله إلى
المشترى ، إذ العقد انما وقع على الأصول وهي مغايرة للثمرة انتهى وهو جيد.
واعترف في المختلف أيضا بضعف الدليل الا أنه قال : لكن
الإجماع يعضده ، مع أنه نقل عن ابن حمزة أن الاعتبار في دخول الثمرة وعدمه ببدو
الصلاح وعدمه ، فمتى باعها بعده فالثمرة للبائع ، وقبله للمشتري الا مع الشرط ،
وكأنه لم يعتبر خلافه.
والظاهر أنه لا خلاف في كون الثمرة للبائع مطلقا فيما لو
انتقل النخل بغير البيع ، كالميراث ونحوه ، وكذا في غير النخل من أفراد الشجر ،
لان كون الثمرة للمشتري على خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على موضع النص والوفاق ، وهو
بيع النخل فلا يتعدى الى غير البيع ، ولا الى غير النخل من أفراد الشجر.
ولو باع المؤبر من النخل وغير المؤبر كان لكل حكمه
المتقدم عندهم ، وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في ذلك بين كون ذلك في نخلة واحدة ـ قد
أبر بعض طلعها دون بعض ـ أو في نخلات متعددة أبر بعضها ، ولم يؤبر الباقي ، وبه
أفتى في الدروس.
وفرق العلامة في التذكرة بين النخلة الواحدة ، والنخلات
المتعددة ، فحكم في الأول بكون الجميع للبائع ، محتجا عليه بأنه يصدق عليه أن قد
باع نخلا قد أبر ، فيدخل تحت نص أنه للبائع ، وبما في افتراقهما في الحكم من العسر
وعدم الضبط ، وفي الثاني بتفريق الحكم.
وربما احتمل بعضهم هنا وجها ثالثا ، وهو دخول الجمع في
البيع لصدق عموم التأبير في الجميع. والظاهر الأوفق بظاهر النص هو الأول ، فإن
تعليق
الحكم يشعر بالعلية ، فيكون التأبير
هو العلة ، فأينما وجد ترتب عليه حكمه ، وينتفي حيثما انتفى.
المطلب الثالث في التسليم
إطلاق العقد يقتضي تسليم المبيع والثمن ، فيجب على
المتبايعين دفع العوضين من غير أولوية.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد بعد قول المصنف في
الكتاب المذكور «يجب على المتبايعين دفع العوضين من غير أولوية تقديم» ما لفظه :
اعلم ان الأكثر هكذا قالوا ، وحاصله أنه انما يجب عليها معا الدفع بعد أخذ العوض ،
ويجوز لكل المنع حتى يقبض وكأنهم نظروا الى ان البيع معاوضة محضة ، ولا يجب على كل
منهما الدفع الا لعوض مال الأخر ، فما لم يأخذ ذا العوض ، لا يجب إعطاء العوض ،
والمسألة مشكلة كسائرها ، لعدم النص ، وثبوت الانتقال بالعقد يقتضي وجوب الدفع على
كل واحد منهما عند طلب الأخر ، وعدم جواز الحبس حتى يقبض حقه ، وجواز الأخذ لكل
حقه من غير إذن الأخر ان أمكن له على اى وجه كان ، لان ذلك هو مقتضى الملك ، ومنع
أحدهما الأخر وظلمه لا يستلزم جواز الظلم للآخر ومنعه حقه ، فيجبرهما الحاكم معا
على ذلك ان امتنعا ، فيعطى من بد ويأخذ من آخر ، أو يقبض لأحدهما ويأمره بالإعطاء
انتهى.
أقول : ما ذكره (قدسسره) جيد ، الا أن
في فهم ذلك من العبارة المذكورة ـ ونحوها من عبائرهم في هذا المقام اشكال ، وذلك
فإن غاية ما يفهم من هذه العبارة ـ التي ذكرها في الإرشاد ـ هو أنه لما كان إطلاق
العقد يقتضي وجوب تسليم المبيع والثمن ، فالواجب حينئذ على كل من البائع والمشترى
دفع ما وجب عليه تسليمه
من غير أولوية تقديم أحدهما على الأخر
، خلافا للشيخ حيث ذهب الى أنه يجب على البائع أولا تسليم المبيع ، محتجا بأن
الثمن تابع للمبيع ، والغرض من هذه العبارة انما هو بيان تساويهما في وجوب التسليم
، بدون تقديم أحدهما على الأخر كما زعمه الشيخ (رحمة الله عليه) فالكلام انما خرج
في معرض الرد عليه ، وأين هذا من المعنى الذي ذكره ، وهو أنه لا يجب على أحدهما
التسليم الا بعد دفع الأخر ، وأنه يجوز لكل منهما الامتناع حتى يقبض ، اللهم الا
ان يكون قد اطلع على تصريح بذالك من غير هذا الموضع ، والا فهذه العبارة ونحوها لا
اشعار فيها ، فضلا عن الدلالة بشيء من ذلك.
وتحقيق الكلام ـ في هذا المقام ـ يتوقف على بسطه في
مواضع الأول ـ لا يخفى أن القبض من الأمور المعتبرة شرعا لما يترتب عليه من
الأحكام العديدة بالنسبة إلى الوصية والهبة والرهن ، فان للقبض فيها مدخلا باعتبار
شرطيته للصحة أو اللزوم ، فان وكذا بالنسبة إلى البيع ، فمن أحكامه فيه انتقال
ضمان المبيع إلى المشتري بعده ان لم يكن له خيار ، وكونه على البائع قبله ، وجواز
بيع ما اشتراه بعد القبض مطلقا ، وتحريمه أو كراهته قبله على بعض الوجوه ، وجواز
فسخ البائع مع تأخير الثمن ، وعدم قبض المبيع بعد ثلاثة أيام ، وغير ذلك ، ومع هذا
لم يرد له تحديد شرعي يرجع فيه اليه.
ومن ثم ان الأصحاب انما رجعوا فيه الى العرف بناء على
قواعدهم في كل ما لم يرد له تحديد شرعي ، مع ان الغالب في العرف الاختلاف باعتبار
تعدد الأقطار والبلدان ، وأن لكل قطر اصطلاحا وعادة غير ما سواه ، والمسألة من أجل
ذلك في غاية من الاشكال والداء العضال ، لعموم البلوى به في جملة من الأحكام كما
عرفت.
والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام روايتان الأولى ـ
صحيحة معاوية ،
بن وهب (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ فقال : ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتى تكيله أو تزنه
الا ان توليه». قال في المسالك بعد نقل هذه الرواية : فجعل قبض المكيل والموزون
كيله أو وزنه بالنسبة إلى جواز بيعه. (2)
واعترضه المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد فقال : وهذه لا
أفهم دلالتها لان ظاهرها أن البيع قبل القبض لا يجوز حتى يكيل أو يزن ، وذلك لا
يدل على كون القبض ذلك وهو ظاهر ، ولا يدل على ذلك بضم السؤال إذ يصح جواب السائل
هل يجوز قبل القبض؟ بأنه لا يجوز بدون الكيل ، يعني لا بد من الكيل الذي القبض
حاصل في ضمنه أى لا بد من القبض وشيء آخر ، الى آخر كلامه زيد في مقامه ، وبه
يظهر سقوط الرواية عن درجة الاستدلال في هذا المجال.
والثانية : رواية عقبة بن خالد (3) عنه (عليهالسلام) «في رجل
اشترى متاعا من آخر وأوجبه ، غير أنه ترك المتاع عنده ولم يقبضه فسرق المتاع من
مال من يكون؟ قال : من مال صاحب المتاع الذي هو هو في بيته حتى يقبض المتاع ويخرجه
من بيته ، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يرد ماله اليه».
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 35 الرقم 34 وفيه (الا أن يوليه الذي قام
عليه).
(2) أقول : يمكن أن يؤيد ما ذكره في المسالك وهو المشهور بين
الأصحاب من جعل الكيل والوزن قبضا ، بان يقال : ان الرواية قد دلت على انه مع
التولية لا يحتاج الى الكيل والوزن ، وهذا لا يتم الا على تقدير كون الكيل والوزن
قبضا ، فإن التولية تصح بدون القبض ، واما على تقدير كونها شرطا في صحة البيع ،
والقبض انما هو عبارة عن النقل والتحويل فكيف يصح البيع تولية مع اختلال أحد شرائط
البيع وهو الوزن والكيل هنا. فتأمل. منه رحمهالله.
(3) الكافي ج 5 ص 171 التهذيب ج 7 ص 21.
وغاية ما يدل عليه هذا الخير هو أنه يعتبر في انتقال
الضمان من البائع إلى المشتري نقل المتاع وإخراجه من بيت البائع ، وليس فيه تفسير
للقبض بأنه عبارة عما ذا ، مع أن ظاهر الخبر أنه يعتبر في انتقال الضمان الإخراج
من بيت البائع ، ولا قائل به كما ستعرف.
بقي الكلام في الدلالة العرفية التي اعتمدوها في المقام.
قال في المسالك : والعرف يدل على أن إقباض غير المنقول يتحقق بالتخلية مع رفع يد
البائع عنه ، وعدم مانع للمشتري من قبضه ، وأما في المنقول فلا يتحقق الا باستقلال
يد المشترى به ، سواء نقله أم لا ، وكذا في طرف البائع بالنسبة إلى الثمن ، وهذا
مطرد في المكيل والموزون وغيرهما ، إلا أنهما خرجا عنه بالنص الصحيح فيبقى الباقي
وهو الأقوى. انتهى. (1) وهو جيد إلا
في استثنائه المكيل والموزون «بالنص الصحيح» ، ولقد عرفت آنفا من أن غاية ما يدل
عليه النص هو اعتبار الكيل والوزن في المكيل والموزون ، لا ان القبض فيهما هو
الكيل والوزن ، ثم قال : والمراد بالتخلية حيث تعتبر ، رفع المانع للمشتري من قبض
المبيع ان كان ، والاذن له فيه ، ولا يختص ذلك بلفظ ، بل كل ما دل عليه كاف فيه.
وفيه أولا ان ظاهر كلامه المتقدم كون التخلية أمرا آخر
غير رفع المانع حيث أنه أضافه الى التخلية ، وهنا فسرها به ، وثانيا أنه لا وجه
لاعتبار
__________________
(1) ثم قال في إتمام عبارة المذكورة : لا يقال : قد نقل في
التذكرة لإتمام الاستدلال بهذه أن الإجماع عندنا حاصل على منع جواز بيع الطعام قبل
القبض ، فلو لم يكن الكيل هو القبض المطلوب ويتحقق القبض بدونه ، لم يكن لقوله «حتى
يكيل» معنى لأنا نقول على تقدير تحقق الإجماع معناه الجواز بعد القبض مع باقي
الشرائط والكيل من جملته ، الا أن كيله هو القبض. انتهى. منه رحمهالله.
الاذن هنا بعد انتقال المبيع إلى
المشتري بالعقد ، وكون البائع هنا في حكم الأجنبي فلا وجه لتوقف قبضه على اذنه.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه قال في كتاب المصباح المنير :
قبضت الشيء قبضا : أخذته. وقال في نهاية الأثيرية : والقبض الأخذ بجميع الكف.
أقول :
وهذا هو الذي يتبادر في العرف الان ، الا أنه في المنقول
ظاهر وان تفاوتت أفراده في ذلك باعتبار المقبوض ، ففي مثل الدراهم والمتاع هو
القبض باليد ، وفي مثل الحيوان هو نقله ، وفي مثل المكيل والموزون هو تحويله
بالوزن والكيل أو بدونهما فإنه يصدق القبض بمجرد ذلك.
وأما في غير المنقول فالظاهر هو الوقوف فيه على ما رسمه
الأصحاب. قال في الدروس : والقبض في غير المنقول التخلية بعد رفع اليد ، وفي
الحيوان نقله ، وفي المنقول كيله أو وزنه ، أو عده أو نقله ، وفي الثوب وضعه في
اليد. انتهى وهو ظاهر فيما قلناه الا أن اضافة العد الى الكيل والوزن خارج عن مورد
الرواية التي استندوا إليها في الحكم المذكور على ما عرفت فيها ، وهو ايضا خلاف ما
هو المشهور من الاقتصار على مورد الخبر المذكور.
وقال الشيخ في المبسوط : القبض فيما لا ينقل ويحول هو
التخلية ، وان كان مما ينقل ويحول ، فان كان مثل الدراهم والجواهر وما يتناول
باليد ، فالقبض هو التناول ، وان كان مثل الحيوان كالعبد والبهيمة ، فإن القبض في
البهيمة أن يمشى بها الى مكان آخر ، وفي العبد أن يقيمه الى مكان آخر ، وان كان
اشتراه جزافا كان القبض فيه أن ينقله من مكانه ، وان اشتراه مكايلة فالقبض فيه أن
يكيله ، وتبعه ابن البراج وابن حمزة.
وقال في المختلف : والأقرب أن المبيع ان كان منقولا
فالقبض فيه هو النقل أو الأخذ باليد وان كان مكيلا أو موزونا فقبضه هو ذلك ، أى
الكيل والوزن ، وان لم يكن منقولا فالقبض فيه التخلية. انتهى. وكلام الشيخ راجع
في التحقيق اليه ، الا في المكيل
والموزون ، حيث اقتصر في قبضه على الكيل والوزن.
وبذلك يظهر ما في عبارة المسالك هنا من الإجمال في تفسير
، القبض في المنقول ، فإنه ربما أوهم رجوعه إلى التخلية في غير المنقول. واكتفى
بعضهم بالتخلية مطلقا في منقول أو غير منقول ، وهو مذهب المحقق في الشرائع (1).
قال في الدروس : ولا بأس به في نقل الضمان لا في زوال
التحريم أو الكراهة عن البيع قبل القبض.
أقول : لا يخفى ما في هذا التفصيل ، فان الجميع مترتب
على القبض فان صدق القبض بالتخلية ، وجب ترتب أحكام القبض على ذلك مما ذكر هنا وما
لم يذكر ، والا فلا مطلقا.
الثاني قال : في المسالك : لو كان المبيع بيد المشترى
قبل الابتياع ، فان كان بغير اذن البائع فلا بد من تجديد الاذن في تحقق القبض
بالنسبة إلى رفع التحريم أو الكراهة ، واما بالنسبة إلى مثل الضمان فيحتمل قويا
تحققه بدونه ، كما لو قبضه بغير اذن البائع ، ويحتمل توقف الأمرين على تجديده ،
لفساد الأول شرعا ، فلا يترتب عليه أثر ، ولو كان بإذنه كالوديعة والعارية لم
يفتقر الى تجديد اذن ولا تخلية. انتهى.
__________________
(1) أقول : لا يبعد أن يكون مراد الأصحاب بكون الكيل والوزن
قبضا انما هو بمعنى وزنه وكيله ، لأجل القبض والنقل ، لا من حيث كونه كيلا ووزنا ،
فإنه هو الغالب المتعارف ، ولذلك أنه لو قبضه المشترى بالوزن أو الكيل ، ثم باعه
ممن حضر وزنه وكيله ، فإنه لا يحتاج إلى إعادة الوزن أو الكيل ، وانما يحتاج الى
النقل ليتحقق به القبض ، وبالجملة فإن القبض انما يتحقق بالنقل والتحويل سواء كان
في معنى الوزن والكيل أو بدونهما كما في الصورة المفروضة. منه رحمهالله.
وفيه أنه لا دليل على ما ذكره «قدسسره» لا من النص
ولا من الاعتبار ، وعقد البيع قد اقتضى النقل إلى المشترى ، والقبض والتسليم الى
المشتري حاصل والفرق بين كون القبض قبل البيع شرعيا أو غير شرعي مع كونه لا دليل
عليه ـ لا ثمرة له بعد ما عرفت. ومع كونه غير شرعي قبل البيع لا يمنع من كونه
شرعيا بعد البيع والانتقال اليه بالعقد الصحيح.
وبالجملة فشروط صحة البيع كلها حاصلة ، فلا وجه لما ذكره
، والى ما ذكرناه هنا يميل كلام المحقق الأردبيلي (قدسسره) حيث قال : لو
كان المبيع بيد المشترى ، فالظاهر أنه لا يحتاج الى تجديد القبض والاذن مطلقا ،
ولا مضى زمان ، لوجود القبض الذي هو شرط ، والموجب لجواز البيع وغيره ، كما قيل
ذلك في الهبة المقبوضة ، والتفصيل بما إذا كان القبض مشروعا وعدمه ـ فإنه لا بد
حينئذ لرفع التحريم والكراهة ، ويحتمل لرفع الضمان ايضا ـ ليس بواضح.
الثالث ـ الظاهر أن القبض المعتبر من نقل أو تخلية يكفي
لإسقاط الضمان ، وان كان المبيع مشغولا بأمتعة البائع كالصندوق الذي فيه المتاع
والبيت الذي فيه الأمتعة ، ويكون مكلفا بأن يفرغه ، وهو خيرته في المسالك ، ونقله
بالنسبة الى الثاني عن التذكرة ، واحتمل في المسالك توقف القبض على اذن المالك في
نقل الأمتعة والظاهر ضعفه ، لحصول البيع الشرعي بشروطه وعدم ظهور مانعية ما ذكره
مع وجوب تفريغه.
الرابع ـ قال في المسالك ـ لو كان المبيع مكيلا أو
موزونا فلا يخلو اما أن يكون قد كيل قبل البيع ووزن أولا ، بأن أخبر البائع بكيله
أو وزنه ، أو باعه قدرا منه معينا من صبرة مشتملة عليه ، فان كان الأخير فلا بد في
تحقق قبضه من كيله أو وزنه للنص المتقدم ، وان كان الأول ففي الافتقار الى اعتباره
ثانيا ـ لأجل القبض ـ أو الاكتفاء بالاعتبار السابق وجهان ، من إطلاق توقف الحكم
على الكيل والوزن وقد
حصلا – وقوله (عليهالسلام) (1) «لا تبعه حتى
تكيله أو تزنه». لا يدل على أزيد من حصولهما الشامل لما كان قبل البيع ـ ومن كون
الظاهر أن ذلك لأجل القبض لا لأجل صحة البيع ، فلا بد له من اعتبار جديد بعد العقد
، وبه صرح العلامة والشهيد (رحمهالله) وجماعة ، وهو
الأقوى.
ويدل عليه قوله (عليهالسلام) ، في الخبر
السابق «الا أن توليه» فإن الكيل السابق شرط لصحة البيع ، أو ما قام مقامه ، فلا
بد منه في التولية وغيرها ، ومقتضى قوله «الا أن توليه» أنه معها لا يتوقف على كيل
أو وزن ، ودل ذلك على أنهما لأجل القبض ، لا لأجل صحة البيع.
وأما الثاني فإن اكتفينا بالاعتبار الأول في الأول ، كفى
الاخبار فيه ـ واختارهما في التذكرة ـ وان لم نكتف بالسابق في الأول لم يكتف
بالاخبار في الثاني بطريق أولى.
وقد روى محمد بن أبي حمزة (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) اشترينا
طعاما فزعم صاحبه انه كاله ، فصدقناه وأخذناه بكيله ، فقال : لا بأس ، فقلت : أيجوز
أن أبيعه كما اشتريته منه بغير كيل؟ قال : لا ، أما أنت فلا تبعه حتى تكيله». انتهى.
أقول : مرجع البحث هنا ان الكيل والوزن هل وجوبهما في
المكيل والموزون من حيث كونهما شرطا في صحة البيع ، أو من حيث كونهما قبضا للبيع ،
يترتب عليهما ما يترتب على القبض الذي هو النقل والأخذ باليد ، ونحو ذلك مما تقدم
في غير المكيل والموزون.
والظاهر من الاخبار المانعة من بيع ما لم يقبض إذا كان
مكيلا أو موزونا هو الثاني ، بالتقريب الذي ذكره من جواز البيع تولية بدون كيل أو
وزن ، ولو كان ذلك شرطا في صحة البيع لما جاز ذلك ، إذ لا فرق بين التولية وغيرها
في اعتبار هذا الشرط.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 35.
(2) التهذيب ج 7 ص 37 وفيه محمد بن حمران.
ويعضده انه قد وقع التعبير عن الكيل والوزن في هذا
المقام بالقبض في جملة من الاخبار.
ففي صحيحة منصور بن حازم (1) «إذا اشتريت
متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه ، الا أن توليه».
وفي صحيحة على بن جعفر (2) عن أخيه موسى (عليهالسلام) «انه سأله عن
الرجل يشترى الطعام أيصلح بيعه قبل أن يقبضه؟ قال إذا ربح لم يصلح حتى يقبض وان
كان يوليه فلا بأس ، وسأله عن الرجل يشترى الطعام أيحل له أن يولى منه قبل أن
يقبضه؟ قال : إذا لم يربح عليه شيء فلا بأس ، فإن ربح فلا يصلح حتى يقبضه». ونحوهما
غيرهما.
وكذا في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة (3) قد عبر بالكيل
والوزن عن لفظ القبض في هذه الروايات.
ومثلها رواية أبي بصير (4) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل اشترى
طعاما ثم باعه قبل أن يكيله؟ قال : لا يعجبني أن يبيع كيلا أو وزنا قبل أن يكيله
أو يزنه ، الا ان يوليه ، كما اشتراه» الحديث.
وبالجملة فإن استثناء التولية في هذه الاخبار مما ذكرنا
وما لم نذكره انما يتجه على تقدير كون الكيل والوزن قبضا ، والبيع تولية صحيح مع
عدم القبض ولو كان اعتبارهما انما هو من حيث كونها شرطا في صحة البيع لم يتجه صحة
التولية هنا كما عرفت.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 35 الفقيه ج 3 ص 129.
(2) التهذيب ج 7 ص 36.
(3) ص 154 التهذيب ج 7 ص 35.
(4) التهذيب ج 7 ص 37.
نعم يشكل الحكم بان مقتضى ما ذكر أنه لو اشترى الطعام
واكتاله ثم باعه ممن حضر كيله ـ ، فان الواجب بمقتضى ما ذكر ـ هو كيله مرة أخرى ،
ليتحقق به قبض المشتري الثاني وهو الذي قواه ، ونقله عن العلامة والشهيد (رحمهالله) مع أن ظاهر
الاخبار الواردة هنا هو العدم.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الملك بن عمرو (1) قال : قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : أشترى
الطعام فأكتاله ومعي من قد شهد الكيل وانما اكتلته لنفسي ، فيقول : بعنيه فأبيعه
إياه بذلك الكيل الذي كلته؟ قال : لا بأس». ونحوه ما رواه في الفقيه عن خالد بن
الحجاج الكرخي (2) قال : قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : أشترى
الطعام من الرجل ثم أبيعه من رجل آخر قبل أن أكتاله ، فأقول : ابعث وكيلك حتى يشهد
كيله إذا قبضته ، قال لا بأس».
ويمكن أن يقال في وجه الجمع بين ظواهر هذه الاخبار انه
لما كان الغالب أن الكيل والوزن انما يقعان في حال القبض ، وانه بهما يحصل القبض
والتحويل من البائع إلى المشتري ، صح إطلاق القبض عليهما بهذا الوجه في الاخبار
المتقدمة وان كانا شرطا في صحة البيع ، واما جواز البيع تولية في تلك الاخبار
بدونهما ، فلعله مستثنى من القاعدة المذكورة ، حيث أن التولية عبارة عن أن يعطيه
ما اشتراه برأس ماله ، ويجعله محله في ذلك العقد ، الا انى لم أجد به قائلا ،
والمسألة لما عرفت غير خالية من الاشكال ولهذا كثر فيها التردد والاحتمال.
الخامس ـ قال في المسالك : ألحق في الدروس المعدود
بالمكيل والموزون فاعتبر في قبضه عده بعد البيع ، ولم يكتف بعد السابق. وفيه نظر ،
لعدم النص
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 179 التهذيب ج 7 ص 38.
(2) الفقيه ج 3 ص 131.
وتحقق القبض فيه عرفا مع نقل المشترى
له كغيره من المنقولات ، والحاقه بهما نظرا الى اشتراط اعتباره في صحة بيعه لا
يوجب ذلك عندنا ، واكتفى فيه ايضا عن اعتبار المكيل والموزون والمعدود بنقله ،
والخبر الصحيح حجة عليه
وقريب منه مختار العلامة في المختلف ، فإنه اكتفى فيهما
بأحد أمور ثلاثة ، النقل ، والقبض باليد ، والاعتبار بالكيل أو الوزن ، وفي النقل
ما مر ، وفي القبض باليد ما دل عليه خبر عقبة بن خالد (1) من اعتبار
النقل. ومال في الدروس أيضا الى أن التخلية كافية مطلقا في نقل الضمان ، لا في
زوال التحريم أو الكراهة عن البيع قبل القبض ، وخبر عقبة حجة عليه ان اعتبره.
والتحقيق هنا أن الخبر الصحيح دل على النهى عن بيع
المكيل والموزون قبل اعتباره بهما ، لا على أن القبض لا يتحقق بدونهما ، وكون
السؤال فيه وقع عن البيع قبل القبض لا ينافي ذلك ، لان الاعتبار بهما قبض وزيادة ،
وحينئذ فلو قيل : بالاكتفاء في نقل الضمان فيهما بالنقل عملا بمقتضى العرف والخبر
الأخر ، وبتوقف البيع ثانيا على الكيل والوزن أمكن ان لم يكن احداث قول. انتهى
كلامه.
أقول ما ذكره هنا من التحقيق جيد ، وبالقبول حقيق ، الا
ان فيه أولا ـ ما يدل على رجوعه عما قدمه ، سيما في اعتراضه هنا على الدروس بأن
الخبر الصحيح حجة عليه ، وقد تكرر في كلامه السابق على هذا الكلام المبالغة في
دلالة الخبر على أن القبض في المكيل والموزون هو كيله ووزنه ، وأنه لا يتحقق القبض
بدون ذلك.
وثانيا أن ما ذكره من التوقف في القول بالاكتفاء في نقل
الضمان في المكيل والموزون بالنقل ، لاستلزامه احداث قول في المسألة. فيه أن ذلك
مقتضى كلام الشهيد في الدروس والعلامة في المختلف الذي قدمه هنا ، حيث إنهما صرحا
بان القبض
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 171.
في المكيل والموزون كما يكون بالكيل
والوزن ، يكون بالنقل أيضا ، وأن القبض بالنقل موجب لعدم الضمان ، وان اشتراط
الكيل والوزن في بيعه ثانيا لازالة التحريم أو الكراهة ، فهو ليس بإحداث قول في
المسألة ، كما ذكره.
السادس ـ قالوا وإذا تلف المبيع قبل تسليمه الى المشترى
كان من مال البائع وكذا ان نقصت قيمته بحدث فيه كان للمشتري رده ، وفي الأرش تردد.
قال في المسالك : موضع التردد ما لو كان العيب من قبل
الله تعالى ، ومنشؤه من تعيبه على ملك المشترى لا من قبل أحد ، ومن أنه مضمون على
البائع بأجمعه ، فضمان أجزائه أولى ، فالأقوى ان له الأرش ان لم يفسخ ، ولو كان
التعيب من أجنبي أو من البائع تخير المشترى بين الرجوع على المتلف بالأرش وبين فسخ
العقد ، فان فسخ رجع البائع على الأجنبي بالأرش. انتهى.
أقول : أما الحكم الأول فقد تقدم الكلام فيه في المقام
الثاني في أحكام الخيار (1) وبينا ثمة ما
فيه من الاشكال ، ومستنده ـ عند الأصحاب بعد الإجماع ـ رواية عقبة بن خالد
المتقدمة في الموضع الأول. (2)
وأما الثاني فلم أقف فيه على نص ، وظاهرهم الاتفاق على
أنه يتخير بين رد المبيع وأخذ ثمنه ، وبين إمساكه ، وانما الخلاف في صورة اختيار
الإمساك هل يمسكه بثمنه أو يرجع بالأرش على البائع فيما إذا كان العيب من جهة الله
تعالى ، وقد رجح في المسالك الثاني نظرا الى أن ضمان الكل يستلزم ضمان البعض
بالطريق الاولى.
ويمكن خدشه بما صرحوا به في صورة تلف الجميع من انه يبطل
البيع ، وينتقل المبيع إلى البائع كما قدمنا نقله عنهم في الموضع المتقدم ذكره ،
بخلاف
__________________
(1) ص 77.
(2) ص 154.
ما هنا ، فإنه باق على ملك المشترى ،
ولعل مثل هذا لا يؤثر في الضمان.
وبالجملة فإن الحكم لما لم يكن منصوصا ـ والفرق بين الكل
والبعض ظاهر مما ذكرنا ـ فالحكم بالأرش محل اشكال ، سيما مع ما حققناه في الموضع
المتقدم ذكره ، من ان قضية العقد كون المبيع ملكا للمشتري ، وقضية كونه ملكا
للمشتري أن تلفه منه وان كان في يد البائع ، والأصل عدم الضمان على البائع بعد
انتقال المبيع عنه الا بالتفريط ولو بمنعه المالك.
السابع ـ قد صرحوا بأنه إذا حصل للمبيع نماء قبل القبض
كالنتاج أو ثمرة النخل أو اللقطة كلقطة العبد التي يمكن تملكها ولو بعد التعريف
كان ذلك للمشتري ، فإن تلف الأصل سقط الثمن عن المشترى ان لم يدفعه ، والا استرجعه
وله النماء ، ولو تلف النماء من غير تفريط لم يلزم البائع دركه.
أقول : أما الحكم الأول فيجد لان المبيع بالعقد ينتقل
الى ملك المشترى قبضه أو لم يقبضه ، فكذا نماؤه ، وهكذا الثمن أيضا ، فإنه بالعقد
ينتقل إلى البائع ونماؤه تابع له أيضا.
وأما الثاني ـ فهو مبنى على القاعدة المتفق عليها عندهم
، وهو أن المبيع قبل القبض مضمون على البائع ، وعلى أن التلف انما يبطل البيع من
حينه ، كما هو المشهور عندهم ، فيكون النماء السابق على وقت التلف وما في حكمه
كلقطة العبد للمشتري وأما لو قلنا بأنه يبطله من أصله كما تقدم نقله احتمالا عن
العلامة فهو ، للبائع.
وأما الثالث. فوجهه ان النماء في يد البائع أمانة لا
يضمنها الا مع التفريط اقتصارا فيما خالف الأصل ـ وهو ضمان مال الغير مع عدم العدوان
ـ على ما دل عليه الدليل.
الثامن ـ لو باع جملة فتلف بعضها فظاهر بعض الأصحاب هو
التفصيل هنا بأنه ان كان للتالف قسط من الثمن كان المشترى مخيرا بين فسخ العقد ،
وبين
الرضا بالباقي بحصته من الثمن ، وان
لم يكن له قسط كان المشترى مخيرا بين الرد ، أو أخذه بجملة الثمن.
قال في المسالك : ضابط الأول ما يمكن افراده بالبيع ،
كأحد العبدين والقفيزين ، والثاني مالا يمكن افراده كيد العبد ، والفرق بينهما
الموجب لاختلاف الحكم ان الأول لا يبقى مع فواته أصل المبيع بل بعضه ، والثاني
يبقى معه أصل المبيع ، والجزء التالف بمنزلة الوصف كيد العبد ونحوها من أعضائه
التي فواتها لا يخل ببقاء العبد. انتهى.
ونحوه كلام المحقق الشيخ على (قدسسره) في شرح
القواعد ، ومقتضى كلام أصحاب هذا القول أنه لا أرش في الصورة الثانية ، بل يكون
مخيرا بين الرد والأخذ بمجموع القيمة ، لأن الفائت هنا لاقسط له من الثمن فلا أرش
، لأن الأرش هو مقدار حصته من الثمن.
وظاهر جملة من الأصحاب ـ وقيل : انه هو المشهور وهو
اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الشيخ على في تعليقاته على الشرائع
، وفي شرح القواعد ـ هو وجوب الأرش في الصورة المذكورة.
قالوا : لأن القيمة ـ تزيد بوجوده ، وتنقص بعدمه ،
وفواته من أظهر العيوب وأبينها ، للقطع بأن المبيع هو المجموع ، وقد فات بعضه
فيتخير بين الرد لتبعيض الصفقة ، والأخذ بالأرش ، وظاهر كلامه في المسالك (1) ان الأمر كذلك
في الصورة الأولى أيضا ـ وهو ماله قسط من الثمن ويمكن أفراده بالبيع ـ من أنه
يتخير بين الرد لتبعيض الصفقة ، والأخذ بالأرش ، والظاهر أنه ليس الأمر كذلك ، بل
الحكم هنا مع عدم الفسخ انما هو تقسيط الثمن على الجزء الفائت والباقي ، وأخذ
الباقي بقسطه من الثمن ، وظاهر كلام المحقق المتقدم ذكره اختصاص الكلام بالصورة
الثانية أيضا ، وان الحكم في الصورة الأولى انما هو ما ذكرناه ، وبه صرح في الدروس
أيضا حيث قال : ولا إشكال في توزيع الثمن على العينين فصاعدا لو تلف بعضها ،
__________________
(1) حيث قال : بعد ذكر القول الأول الذي اختاره المصنف :
والأقوى ثبوت الأرش فيه كالأول الى أن قال : ولان المبيع هو المجموع ، وقد فات
بعضه فيتخير المشترى بين الرد لتبعيض الصفقة في الموضعين والأرش. انتهى منه رحمهالله.
وله الفسخ. انتهى ، وبالقول الأول
أفتى المحقق في الشرائع ، وتنظر العلامة في القواعد في ثبوت الأرش في الصورة
الثانية.
أقول : ومما يؤيد القول الثاني هنا هو أنهم قد صرحوا في
باب العيب الموجب للخيار والأرش بأنه عبارة عن كل ما خرج عن أصل الخلقة الطبيعية
بزيادة عضو أو نقصانه ، ومنهم المحقق في الشرائع الذي نفى الأرش هنا حيث قال :
القول في أقسام العيوب ، والضابط أن كلما في أصل الخلقة فزاد أو نقص فهو عيب ،
والزيادة كالإصبع الزائدة ، والنقصان كفوات عضو الى آخره ، وهو ظاهر فيما قلناه ،
والمسألة المفروضة هنا أحد جزئيات هذه القاعدة ، فيكون الحكم فيها هو الأرش ـ مع
عدم الفسخ ، لا الأخذ بالقيمة ، كما ذكروه.
وبما حققناه في المقام يظهر لك ما في كلام المحقق الأردبيلي
(طاب ثراه) هنا حيث قال ـ في أثناء البحث في المسألة المتقدمة في الموضع السادس ـ ما
لفظه : والظاهر عدم الفرق بين حدوث عيب ونقص شيء وجزء له قسط من الثمن ، مع عدم
صحة إيقاع العقد عليه ، مثل يد العبد ورجله ، وأما فوات الجزء الذي له قسط منه
ويصح العقد عليه كموت عبد من عبدين ، فالظاهر أنه يبطل في الميت ، فيسقط ويسترد
قيمته ، مثل ما قيل في أمثاله ، وفي الأخر يثبت الخيار للمشتري بين الفسخ وأخذ
الثمن ، والرضا به بقيمته من غير شيء ، لتبعيض الصفقة.
ولعله يفهم عدم الخلاف عندنا من التذكرة ، فإن فيه أولا
أن صحة إيقاع العقد عليه مستقلا وعدم الصحة انما جعل ضابطا لما له قسط من الثمن ،
وما ليس له قسط ، فكلما له قسط من الثمن يصح إيقاع العقد عليه مستقلا ، كأحد
العبدين ، وما لم يكن كذلك ـ كيد العبد ـ لا يصلح إيقاع العقد عليه مستقلا.
والضابط الأخر لذلك أيضا هو ما لا يبقى معه أصل المبيع ،
كالعبد من العبدين ، وما يبقى كيد العبد مثلا ، فيد العبد لا قسط لها من الثمن على
كل من الضابطتين ، لأنها لاتباع مستقلة ، وانه يبقى معها أصل المبيع ، وهو قد حكم
بأن لها قسطا من الثمن مع عدم صحة إيقاع العقد عليها وهو خروج عن الضابط الأول.
وثانيا أن ما ذكره من عدم الخلاف مع ما عرفت من أن القول
بالأرش قد صرح به جملة منهم ، بل هو المشهور كما ذكره بعضهم ، وان العلامة في
القواعد قد توقف في ذلك.
قالوا هذا كله إذا كان الفائت جزا من المبيع ، وأما لو
كان وصفا محضا ، كما لو كان العبد كاتبا فنسي الكتابة قبل القبض ، فللمشتري الرد
خاصة ، أو الإمساك بجميع الثمن ، لأن الفائت ليس جزا للمبيع ، ومن ثم لو شرط كونه
كاتبا فظهر بخلافه لم يستحق سوى الرد.
التاسع إذا باع شيئا فغصب من يد البائع ، فإن أمكن
استعادته من الغاصب في زمن يسير ، بحيث لا يفوت فيه منفعة مقصودة يستلزم فواتها
نقصا معتبرا ، أو فوات غرض مقصود للمشتري ، فليس للمشتري الفسخ ، ويجب على البائع
استعادته مع الإمكان ، لأن التسليم واجب عليه ، ولا يتم الا بذلك ، وان تعذرت
استعادته أو أمكنت ، لكن بعد مضى زمان يفوت فيه ما ذكرنا من المنافع المقصودة ،
والأغراض المطلوبة ، فإن للمشتري الخيار حينئذ بين الفسخ والرجوع الى ثمنه ، وبين
الرضا بالبيع وانتظار حصوله ، وله الانتفاع بما لا يتوقف على القبض ، كعتق العبد
ونحوه.
ثم ان تلف في يد الغاصب فهو مما تلف قبل القبض ، فيبطل
البيع ولو مع رضائه بالصبر ، ويحتمل أن يكون الرضاء به قبضا ، ونحوه ما لو رضى به
في يد البائع ، ولو امتنع البائع من تسليمه فللمشتري الأجرة إذا سلمه بعد مدة تلزم
فيها الأجرة لو كان له أجرة ، ويحتمل ان يكون له الفسخ كما في أخذ الغاصب له ظلما
، لانه غاصب في هذه الحال.
ولو حبسه لنقد الثمن فان ذلك له على ما يظهر من الأصحاب
، فلا أجرة له حينئذ ، وقد تقدم الكلام في ذلك في صدر هذا المقام ، وكل موضع يجوز
الحبس والمنع فنفقة المبيع على المشترى ، لأنه ماله وله نماؤه ، وان لم يمكن من
قبضه يكون في ضمان البائع.
العاشر ـ اختلف الأصحاب في بيع ما يكال أو يوزن قبل قبضه
، فعن الشيخ المفيد أنه يكره ذلك فيما يكال أو يوزن ، وليس بمفسد للبيع ، ولا مانع
من مضيه ، ونحوه الشيخ في النهاية ، وقال في المبسوط : إذا ابتاع شيئا وأراد بيعه
قبل قبضه ، فان كان طعاما لم يجز بيعه حتى يقبضه إجماعا ، فأما غير الطعام من سائر
الأموال فإنه يجوز بيعه قبل القبض ، ونحوه قال في الخلاف في موضع ، يجوز بيع ما
عدا الطعام قبل أن يقبض.
وقال ابن أبى عقيل : كل من اشترى شيئا مما يكال أو يوزن
فباعه قبل أن يقبضه فالبيع باطل ، وان كان مما لا يكال أو يوزن فباعه من قبل أن
يقبضه فالبيع جائز ، والفرق بينهما أن السنة جائت عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بإبطال بيع
الطعام وجميع ما يكال ويوزن قبل القبض ، واجازه فيما سوى ذلك ، واختار ابن البراج
في المهذب قول الشيخ في المبسوط ، وفي الكامل قوله في النهاية.
وعن ابن حمزة أنه منع من بيع الطعام قبل القبض ، سواء
كان بيعا أو قرضا ، وغير الطعام جوز بيعه قبل القبض على كل حال ، الا أن يكون
سلفا.
قال الصدوق في المقنع : لا يجوز أن يشترى الطعام من بيعه
قبل أن يكتاله ، وما لم يكن فيه كيل ولا وزن فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه ، وقال
في موضع آخر منه : ولا بأس أن يشترى الرجل النخل والثمار ثم يبيعه قبل أن يقبضه ، وروي
في حديث «أنه لا بأس أن يشترى الطعام من بيعه قبل أن يقبضه ويوكل المشترى بقبضه».
وقال أبو الصلاح : يصح بيع ما استحق تسليمه قبل أن يقبضه
، وينوب قبض الثاني عن الأول وأطلق.
والمشهور بين المتأخرين من المحقق والعلامة ومن بعدهما
هو القول بالجواز
على كراهة ، والاخبار في المسألة على
غاية من الاختلاف والاضطراب ، فلا بد من بسطها ونقلها ليظهر ما هو حقيقة الحق منها
والصواب ، بتوفيق الملك الوهاب ، وبركة أهل الذكر الأطياب.
فمن الأخبار الدالة على القول بالتحريم ما رواه الصدوق
في الصحيح عن منصور بن حازم (1) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «إذا
اشتريت متاعا فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتى تقبضه ، الا أن توليه ، فان لم يكن فيه
كيل أو وزن فبعه». قال في الفقيه بعد هذه الرواية : يعني أنه يؤكل المشترى بقبضه.
وظاهر المحدث الشيخ محمد الحر في الوسائل أن هذه الزيادة
من أصل الرواية ، حيث أدرجها فيها (2) وهكذا نقلها في المختلف أيضا عن
الفقيه ، والأقرب انها من كلام صاحب الفقيه ، كما يظهر من المحدث الكاشاني في
الوافي ، حيث لم ينقلها في الرواية.
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن الحلبي (3) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) «انه قال في
الرجل يبتاع الطعام ثم يبيعه قبل أن يكتال ، قال : لا يصلح له ذلك».
وما رواه في التهذيب أيضا بسند آخر في الصحيح عن عبد
الرحمن بن أبى عبد الله وأبى صالح (4) عن ابى عبد الله (عليهالسلام) مثله ، وزاد
وقال : «لا تبعه حتى تكيله».
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 129 التهذيب ج 7 ص 35.
(2) الوسائل الباب ـ 16 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 1.
(3) الكافي ج 5 ص 178 التهذيب ج 7 ص 36.
(4) التهذيب ج 7 ص 36.
وما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح عن الحلبي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قوم
اشتروا بزا فاشتركوا فيه جميعا ولم يقتسموه أيصلح لأحد منهم بيع بزه قبل أن يقبضه؟
قال : لا بأس به ، وقال : ان هذا ليس بمنزلة الطعام ، لان الطعام يكال».
وما رواه في الفقيه والتهذيب في الصحيح في الكتاب الأول
عن منصور (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل اشترى
بيعا ليس فيه كيل ولا وزن ، إله أن يبيعه مرابحة قبل أن يقبضه ويأخذ ربحه؟ فقال :
لا بأس بذلك ما لم يكن فيه كيل ولا وزن ، فان هو قبضه فهو أبرأ لنفسه».
وما رواه في التهذيب عن معاوية بن وهب (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يبيع البيع قبل أن يقبضه؟ فقال : ما لم يكن كيل أو وزن فلا يبيعه حتى يكيله أو
يزنه ، الا أن يوليه بالذي قام عليه».
وعن سماعة في الموثق (4) قال : «سألته عن الرجل يبيع الطعام
أو الثمرة ، وقد كان اشتراها ولم يقبضها قال : لا حتى يقبضها ، الا أن يكون معه قوم
يشاركهم فيخرجه بعضهم عن نصيبه من شركته بربح ، أو يوليه بعضهم فلا بأس».
وروى في التهذيب (5) قال : «وسأل على بن جعفر أخاه موسى
بن جعفر (عليهالسلام) عن الرجل
يشترى الطعام أيصلح بيعه قبل أن يقبضه؟ قال : إذا ربح لم يصلح حتى يقبض ، وان كان
يوليه فلا بأس ، وسأله عن الرجل يشترى الطعام أيحل له أن يولى منه قبل أن يقبضه؟
قال : إذا لم يربح عليه شيء فلا بأس ، فإن ربح فلا يصلح حتى يقبضه».
__________________
(1 و 2) الفقيه ج 3 ص 136 التهذيب ج 7 ص 55.
(3) التهذيب ج 7 ص 35.
(4 و 5) التهذيب ج 7 ص 36.
وطريق الشيخ في التهذيب الى على بن جعفر صحيح ، فتكون
الرواية صحيحة ، فما ذكره في المسالك من أن الشيخ. ذكرها في التهذيب بغير اسناد
وجعلها بذلك ضعيفة ، غفلة مما ذكرناه.
ورواه على بن جعفر في كتابه ورواه الحميري في قرب
الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن على بن جعفر (1) مثله.
وعن أبى بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل اشترى
طعاما ثم باعه قبل أن يكيله؟ قال : لا يعجبني أن يبيعه كيلا أو وزنا قبل أن يكيله
أو يزنه ، الا أن يوليه كما اشتراه ، فلا بأس أن يوليه كما اشتراه إذا لم يربح فيه
أو يضع ، وما كان من شيء عنده ليس بكيل ولا وزن فلا بأس أن يبيعه قبل أن يقبضه».
أقول : وهذه الاخبار كلها كما ترى ظاهرة الدلالة على
القول المذكور ، ومقتضاها تصريحا في بعض وتلويحا في آخر عموم الحكم للمكيل والموزن
، لا بخصوص الطعام.
ويؤيدها أيضا ما رواه في الكافي عن على بن أبي حمزة (3) عن أبى جعفر (عليهالسلام) قال : «سألته
عن الرجل يشترى متاعا ليس فيه كيل ولا وزن أيبيعه قبل أن يقبضه؟ قال : لا بأس».
وجملة من هذه الاخبار قد دلت على النهي الذي هو حقيقة في
التحريم ،
__________________
(1) الوسائل الباب 16 ـ من أبواب أحكام العقود الرقم 9.
(2) التهذيب ج 7 ص 37 الوسائل الباب ـ 16 من أبواب أحكام
العقود الرقم ـ 16.
(3) الكافي ج 5 ص 200 الوسائل الباب ـ 16 ـ من أبواب أحكام. العقود
الرقم ـ 8.
كصحيحة منصور بن حازم (1) وصحيحة عبد
الرحمن بن ابى عبد الله وابى صالح (2) وصحيحة معاوية بن وهب (3) وموثقة سماعة (4).
وما عدا هذه الاخبار فإنها وان لم تكن مثلها في الصراحة
، الا أنها بمعونة هذه الاخبار ظاهرة تمام الظهور؟ خصوصا لفظ لا يصلح ، فان ذكر
هذه الألفاظ ـ في ضمن هذا السياق الذي سيقت عليه الاخبار الناهية الصريحة في
التحريم ـ قرينة ظاهرة على أن المراد بها ما أريد بالنهي ـ في تلك الاخبار ـ التحريم
، وان كانت في حد ذاتها أعم من ذلك ، كما لا يخفى على المنصف المتدرب.
ثم انه لا يخفى أن جملة من هذه الاخبار قد دلت على
استثناء التولية فيجوز البيع قبل القبض في هذه الصورة ، وفي بعضها تخصيص المنع
بالربح ، فيفهم منه الجواز مع المواضعة ، الا أن عجز صحيحة على بن جعفر صريح في
المنع مع المواضعة أيضا ، وحينئذ فيحمل ما دل على ذكر الربح على مجرد التمثيل دون
التخصيص ، فيختص الجواز بالتولية خاصة ، كما هو مفاد أكثر الاخبار ، ويجب حمل
الأخبار الدالة على النهى مطلقا على غير التولية جمعا.
استدل القائلون بالجواز ـ ومنهم المحقق الأردبيلي ، فإنه
قد أطال في ذلك ، ونحن ننقل كلامه ملخصا ، فإنه قد بالغ في نصرة القول المشهور بين
المتأخرين بجدة وجهده ، فاستدل ـ بعموم القرآن والاخبار الدالة على جواز البيع ،
والأصل ، وبأن الناس مسلطون على أموالهم ، وحصول التراضي مع عدم المانع عقلا ،
وعدم الخروج عن قانون وقاعدة.
وصحيحة منصور بن حازم (5) عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) «في رجل أمر
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 16 ـ من أبواب أحكام العقود
الرقم – 1 – 14 – 11 ـ 15.
(5) التهذيب ج 7 ص 50.
رجلا يشترى له متاعا فيشتريه منه؟ قال
: لا بأس بذلك ، انما البيع بعد ما يشتريه».
وصحيحة محمد بن مسلم (1) عن ابى جعفر (عليهالسلام) قال : «سألته
عن رجل أتاه رجل فقال : ابتع لي متاعا لعلى أشتريته منك بنقد أو نسبة فابتاعه
الرجل من أجله قال : ليس به بأس ، إنما يشتريه منه بعد ما يملكه». فان قوله بعد
التملك ، وبعد الشراء كالصريح في الجواز قبل القبض مطلقا ، فافهم.
ويدل عليه أيضا صحيحة محمد الحلبي (2) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام).
قال : «سألته عن الرجل يشتر الثمرة ثم يبيعها قبل ان
يأخذها؟ قال : لا بأس به ان وجد ربحا فليبع».
وصحيحة محمد بن مسلم (3) عن أحدهما (عليهماالسلام) «انه قال في
رجل اشترى الثمرة ثم يبيعها قبل أن يقبضها قال : لا بأس».
ولا يخفى أن الثمرة مكيل ، بل طعام على بعض الإطلاقات ،
والأول صريح في الجواز مع إرادة المرابحة ، فيحمل ما يدل على عدم جوازها على شدة الكراهة
للجمع ، فتأمل.
ويؤيد الجمع رواية أبي بصير قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) اشترى طعاما
قبل أن يكيله؟ قال : ما يعجبني» الحديث. كما قدمنا نقله (4).
ثم قال : وهذه صريحة في الكراهة مرابحة ، وكراهة المكيل
والموزون قبل القبض ، وعدم البأس في غيرهما.
وكذا ما في رواية ابن الحجاج الكرخي (5) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام):
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 51.
(2) التهذيب ج 7 ص 89.
(3) التهذيب ج 7 ص 89.
(4) ص 160.
(5) التهذيب ج 7 ص 39 الفقيه ج 3 ص 131.
اشترى الطعام إلى أجل مسمى ، فبطلبه
التجار بعد ما اشتريته قبل أن أقبضه؟ قال : لا بأس أن تبيع إلى أجل كما اشتريت»
الى آخره.
وكذا رواية جميل بن دراج (1) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) «في الرجل
يشترى الطعام ثم يبيعه قبل أن يقبضه؟ قال : لا بأس ، ويوكل الرجل المشترى منه
بكيله وقبضه؟ قال : لا بأس».
ويؤيده أيضا أن أكثر أخبار المنع وردت بلفظ لا يصلح ،
وهو ظاهر في الكراهة وليست بصريحة في التحريم ، والتي بغير لفظ لا يصلح ليست أيضا
بصريحة في التحريم قبل القبض ، مثل رواية معاوية الاتية ، لان فيها النهي عن البيع
قبل الكيل ، ومع الإجمال في قوله «الا أن توليه ، الذي قام عليه».
نعم رواية منصور ظاهرة فيه ، ويمكن تأويلها ، وبالجملة
الأدلة التي أفادت العلم لا ينبغي الخروج عنها الا بدليل قوى. انتهى ملخصا.
أقول : لا يخفى ما فيه على المنصف النبيه من التكلف
والخروج عن القواعد المقررة والضوابط المعتبرة ، أما ما استدل به أولا من الأصل
وعمومات القرآن والاخبار وأن الناس مسلطون على أموالهم ، ففيه أن ما دلت عليه
الاخبار المذكورة خاص ، ومقتضى القاعدة تخصيص تلك العمومات به ، والأصل يجب الخروج
عنه بالدليل ، وهو موجود بالتقريب الذي قدمناه ذيل تلك الاخبار.
وبذلك يظهر لك ما في قوله ـ وعدم الخروج من قانون وقاعدة
ـ وكيف لا يكون فيما ذهب اليه خروج عن قاعدة ، ومورد هذه الاخبار أخص مما استدل به
من العمومات ، وقاعدة المسألة تقتضي الحكم بالخاص على العام ، والمقيد على المطلق.
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 36 الكافي ج ص 179.
وأما صحيحة منصور بن حازم وصحيحة محمد بن مسلم فالقول
فيهما كذلك أيضا ، فإن المبتاع فيهما مطلق ، شامل بإطلاقه للمكيل والموزون وغيرهما
، والواجب تخصيصهما بما عدا المكيل والموزون ، كما أفصحت به صحيحة منصور ابن حازم
التي هي أول تلك الاخبار ، من قوله (عليهالسلام) «إذا اشتريت
متاعا فيه كيل أو وزن» الى آخره ، فإنها قد فصلت بين المتاع المكيل والموزون
وغيرهما ، وبه يجب الحكم على إطلاق الخبرين المذكورين.
ونحوها صحيحة الأخرى وغيرها ، وبه يتأكد ما أوردنا على
قوله «وعدم الخروج عن قانون وقاعدة».
وأما صحيحة محمد الحلبي وصحيحة محمد بن مسلم الواردتان
في بيع الثمار فهما ليسا من محل البحث في شيء ، حيث أن الظاهر من الاخبار من
المكيل والموزون هنا انما هو ما أمكن كيله ووزنه بالفعل ، لا بالقوة ، قريبة أو
بعيدة ، والثمرة انما هي من قبيل الثاني ، ومع أنهما أخص من محل البحث ، ومعارضتان
بموثقة سماعة المتقدمة.
وبذلك يظهر ما في قوله «ولا يخفى أن الثمرة مكيل» فإنه
ان أراد بالفعل فهو ليس كذلك ، كما هو ظاهر لكل ناظر ، وان أراد بالقوة فهو ليس
محل البحث الذي دلت عليه الاخبار.
وأما رواية أبي بصير وقوله (عليهالسلام) فيها «ما
يعجبني» فهو أعم من التحريم والكراهة ، وهذا اللفظ يساوق قولهم في مواضع «ما أحب»
الذي قد وقع استعماله في التحريم في مواضع ، وسياق الخبر الى آخره ظاهر في ذلك.
وبذلك يظهر ما في قوله «وهذه صريحة في الكراهة» ، وما
أدرى من أين حصلت له هذه الصراحة مع الإجمال في اللفظ المذكور ، ودلالة السياق على
ما ذكرنا من التحريم ، وأن سياق هذه الرواية سياق الروايات الصريحة في التحريم
بالنهي
عن ذلك ، فهذا اللفظ هنا مراد به ما
دلت عليه تلك الألفاظ الصريحة في النهي.
وأما رواية ابن الحجاج الكرخي ـ فهي مع ضعفها وقصورها عن
معارضة ما قدمناه من الاخبار ـ مخصوصة بما إذا اشترى الطعام بثمن مؤجل ، وأراد
بيعه مرابحة بثمن مؤجل ، حيث أنه لا يصح نقدا لأن الأجل له قسط من الثمن ، فموردها
أخص من محل البحث ، فلا تنهض حجة على تمام المدعى.
وأما رواية جميل فهي ظاهرة فيما ادعى ، لكنها لا تبلغ
قوة المعارضة لما قدمناه من الاخبار.
وكيف كان فإنه قد ظهر بما قررناه أنه ليس في الاخبار ما
يدل على هذا القول المشهور بينهم إلا رواية جميل المذكورة على ما هي عليه من الضعف
، والا فقد عرفت حال ما عداها ، وبذلك يظهر ما في قوله «وبالجملة الأدلة التي
أفادت العلم لا ينبغي الخروج عنها الا بدليل قوي» فإنه مجرد دعوى خالية من الدليل
، بعد ما عرفت من أحوال أدلته التي هي من هذا القبيل.
ثم أنه قال (قدسسره) : ثم انه
يمكن حمل أخبار المنع مع ما عرفت فيها من عدم التصريح بالنهي والتحريم ، وإمكان
التأويل للجمع المذكور على عدم وقوع الكيل والوزن في الشراء الأول ، وهي ليست
بصريحة في وجودها الى آخر كلامه.
أقول : انظر الى هذا الكلام المنحل الزمام ، والمختل
النظام ، الذي هو من أضعف الأوهام ، أما أولا فمن حيث إنكاره النهي عن ذلك ، وقد
عرفت الأخبار الصحيحة الصريحة في النهي الذي هو حقيقة في التحريم.
وأما ثانيا فمن حيث حمله للاخبار النهى على عدم وقوع
الكيل والوزن في الشراء الأول ، مع أن هذا هو موضوع المسألة ، ومحل الخلاف الذي
اختلف
فيه الأقوال والاخبار ، لان موضوع
المسألة انه هل يجوز بيع المكيل والموزون ثانيا قبل قبضه من البائع الأول أم لا؟
والقبض في المكيل والموزون هو كيله ووزنه لأجل القبض ، كما عرفت. والروايات بعضها
بلفظ عدم القبض ، وبعضها بلفظ الكيل والوزن ، والمرجع إلى أمر واحد.
ورواية جميل التي اعتمدها دليلا على الجواز ، صريحة في
جواز بيعه قبل قبضه ، وأن يوكل المشتري الثاني في القبض عنه ، ليقبض وكالة عنه ،
ويقبض لنفسه ، فهو وكيل في القبض والإقباض ، وهو صريح في جواز البيع قبل الكيل
والوزن.
وبالجملة فإن كلام هذا المحقق هنا لا يخلو عن غفلة
واستعجال ، وعدم تأمل فيما سطره من المقال ، لظهور ما فيه من الاختلال ، هذا
والعجب أن من قواعد أصحاب هذا الاصطلاح الدوران مدار الأخبار الصحيحة الأسانيد ،
والعمل بها ، وطرح ما عارضها ، وأنهم لا يجمعون بين الاخبار الا بعد التساوي في
الصحة ، وإلا فتراهم يطرحون الضعيف من البين ، ولم أقف على من وقف على هذه القاعدة
هنا الا قليل منهم.
قال في المسالك بعد ـ أن نقل الاستدلال على الجواز بخبري
جميل وابن الحجاج الكرخي ، وعلى العدم بصحاح الحلبي ومنصور بن حازم ومعاوية بن وهب
، ونقل عنهم الجمع بين الاخبار ، بحمل اخبار المنع على الكراهة ـ ما لفظه : وهذا
الجمع انما يتم لو كانت الاخبار متكافئة في وجوب العمل بها ، لكن الأمر هنا ليس
كذلك ، لان اخبار المنع صحيحة متظافرة ، وخبر التسويغ في طريق أولهما على بن حديد
وهو ضعيف ، والأخر مجهول ، فالقول بالمنع أوضح ، وهو خيرة العلامة في التذكرة
والإرشاد ، والشيخ في المبسوط ، بل ادعى عليه الإجماع جماعة من الأصحاب. انتهى.
وهو جيد هذا مع ما عرفت في غير موضع مما تقدم ما في الجمع
بين الاخبار بالكراهة والاستحباب ـ كما هو القاعدة المطردة عندهم في جميع الأبواب
ـ من عدم الدليل على ذلك ، من سنة ولا كتاب ، بل عدم الاستقامة في حد ذاته ، كما
لا يخفى
على المنصف من أولى الألباب ، لأن
الاستحباب والكراهة حكمان شرعيان يتوقفان على الدليل الواضح ، ومجرد اختلاف
الاخبار ليس بدليل على ذلك. وأيضا فإن الأصل في الأمر الوجوب ، وفي النهي التحريم
، كما حققه المحققون في الأصول ، وعليه دلت الآيات والروايات كما سلف تحقيقه في
المقدمات (1) من أول كتاب
الطهارة وحملهما على غير ذلك مجازا يتوقف على القرينة واختلاف الاخبار ليس من
قرائن المجاز.
وأنت إذا تدبرت في أخبار المسألة نفيا وإثباتا ظهر لك ان
الحكم بالتحريم كان شائعا في الصدر الأول بين أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) كما يشير
إليه رواية على بن أبي حمزة ، وصحيحة الحلبي المشتملة على شراء البر ، وصحيحة
منصور الثانية ، فإنها تشعر بتوهم سريان التحريم الى غير المكيل والموزون ، فحصل
السؤال عنه وهو يشعر بشهرة الحكم بالتحريم في الموزون والمكيل حتى توهم إلحاق
غيرهما بهما ، كما لا يخفى (2).
وبالجملة فالظاهر عندي هو القول بالتحريم إلا في صورة
التولية ، كما نصت عليه الاخبار المتقدمة ، وارتكاب التأويل في خبري ابن الحجاج
وجميل المذكورين ان أمكن ، والا فالرد إلى قائلهما.
فوائد ـ الاولى لو باع على تقدير القول بالتحريم مطلقا
أو في غير التولية ، هل يقع البيع باطلا ، أو يصح وان أثم وصرح بالأول ابن ابى
عقيل في عبارته المتقدمة في صدر المسألة ، وبالثاني قطع العلامة في المختلف. فقال
: ولو قلنا بالتحريم لم يلزم بطلان البيع ، ولم يتعرض الى دليل في المقام ، وكأنه
مبني على ما اشتهر عندهم من أن النهى في المعاملات لا يقتضي الفساد ، انما ذلك في
العبادات ، والحق
__________________
(1) ص ج 1 ص 112.
(2) أقول ملخص الأقوال هنا ثلاثة ، الجواز مطلقا ، والمنع
مطلقا ، والتفصيل بين التولية وغيرها فيجوز فيها ويحرم في غيرها. منه رحمهالله.
في ذلك هو التفصيل الذي قدمنا ذكره في
كتاب الصلاة (1) وتقدمت
الإشارة إليه أيضا قريبا من أنه ان كان النهي في المعاملات من حيث عدم صلاحية
المعقود عليه للدخول تحت العقد ، فالأظهر بطلان العقد ، وان كان بسبب أمر خارج
فالأظهر الصحة ، والظاهر أن ما هنا من قبيل الأول ، وهو اختياره في المسالك ـ أيضا
ـ قال : ويؤيده أن النهى هنا راجع الى نفس البيع ، فيبطل كبيع المجهول ونحوه ،
ولتعلق النهى فيه بمصلحة لا تتم إلا بإبطاله.
الثانية ـ أكثر الأصحاب جعلوا محل الخلاف هو الطعام ،
والظاهر من الاخبار المقدمة بالنظر الى حمل مطلقها على مقيدها وعامها على خاصها هو
المكيل والموزون مطلقا ، وسياق جملة من الاخبار المتقدمة ظاهر في ذلك أوضح الظهور
، وذكر الطعام في بعض انما خرج مخرج التمثيل ، لأنه أشهر أفراد المكيل والموزون ،
وأكثرها دورانا في المعاملات.
ثم انه على تقدير الاختصاص بالطعام فهل المراد به كلما
أعد للأكل ـ كما هو موضوعه لغة ـ أو يختص بالحنطة والشعير لانه معناه شرعا؟ كما
نبهوا عليه في موارد ، منها حل طعام أهل الكتاب ـ قولان : وبالثاني صرح فخر
المحققين في بعض فوائده على ما نقلوه عنه ، وفي دعوى اختصاص طعام أهل الكتاب
بالحنطة والشعير نظر ، إذ الظاهر من الاخبار الشمول لجميع الأفراد الموزونة من
الحبوب مثل العدس والذرة ونحو ذلك.
الثالثة : لو ملك ما يريد بيعه بغير بيع جاز وان لم
يقبضه ، كالميراث والصداق للمرأة والخلع ونحوها.
قال في المسالك : المنع على القول به مشروط بأمرين ـ انتقاله
بالبيع ، ونقله به ، فلو انتقل بغيره أو نقله بغيره لم يحرم ، أما الأول فلا نعلم
فيه خلافا ، واما
__________________
(1) ج 7 ص 105.
الثاني فهو المشهور ، غير أن الشيخ
ألحق به الإجارة ، محتجا بأنه ضرب من البيوع ، وهو ممنوع ، وكذلك منع من الكتابة ،
بناء على أنها بيع العبد من نفسه ، وهو مع تسليمه لا يستلزم المنع ، لان العبد ليس
مما يكال أو يوزن ، وغاية المنع عندنا ان يكون المبيع مقدرا بهما. انتهى.
ثم انه على تقدير الجواز في الميراث ونحوه مما تقدم ، قد
استثنى بعضهم من ذلك صورا منها ـ ما إذا اشترى الميت قبل الموت مكيلا أو موزونا
ولم يقبضه ، فإنه لا يجوز للوارث بيعه قبل قبضه ، ورد بأن انتقاله الى الوارث
بالإرث واسطة بين البيعين.
ومنها في الصداق إذا اشترى المصدق الصداق مثلا ولم يقبضه
، وأصدقه المرأة قبل القبض ، وأرادت المرأة بيعه والحال كذلك ، وأجيب عنه بما أجيب
عن سابقه ، فان إصداقه للمرأة واسطة بين البيعين ، وهكذا القول في عوض الخلع إذا
اشترته المرأة ولم تقبضه ، ثم جعلته عوضا للخلع ، وأراد الزوج بيعه والحال كذلك ،
فان جعله عوضا للخلع واسطة بين البيعين أيضا ، فالاستثناء غير واضح لثبوت الواسطة
في الجميع.
الحادي عشر ـ المشهور أنه لو كان له على غيره طعام من
سلم ، وعليه مثل ذلك ، فأمر غريمه ان يكتال لنفسه من الأخر ، فإن قلنا بتحريم بيع
ما لم يقبض حرم هنا أيضا ، وان قلنا : بالكراهة اكره هنا أيضا ، ذكر ذلك الشيخ في
الخلاف والمبسوط ، وتبعه الجماعة لأن المحتال قبض المحال عوضا عن ماله قبل أن
يقبضه صاحبه ، فيكون من قبيل بيع ما لم يقبض ، وقيل : بأن هذا ليس من تلك المسألة
في شيء ، لما عرفت من أن المنع من بيع ما لم يقبض تحريما أو كراهة مشروط بشرطين ،
انتقاله بالبيع ، ونقله به ، وما ذكر في هذا الفرض وان كان تبعا من حيث أن السلم
فرد من أفراده ، الا ان الواقع من أسلم إما حوالة لغريمه في القبض ، أو وكالة له
فيه ، وكل منهما ليس ببيع ، ودعوى أن الحوالة ملحقة بالبيع في حيز المنع.
أقول : ويؤيد هذا القول ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر
الله مراقدهم) في الصحيح في بعض والموثق في أخرى عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (1) قال : «سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن رجل عليه
كر من طعام فاشترى كرا من رجل آخر ، فقال : للرجل انطلق فاستوف كرك فقال : لا بأس
به». وهو ظاهر في المراد عار عن وصمة الإيراد.
وبه يظهر قوة القول المذكور ، مضافا الى ما تقدم من ان
الواقع هنا انما هو حوالة لا بيع.
وأجاب الشهيد في بعض تحقيقاته عن ذلك بأن مورد السلم لما
كان ماهية كلبة ثابتة في الذمة منطبقة على افراد لا نهاية لها ، فأي فرد عينه
المسلم اليه ، تشخص بذلك الفرد ، وانصب العقد عليه ، فكأنه لما قال للغريم : اكتل
من غريمي فلان قد جعل عقد السلم معه ، واردا على ما في ذمة غريمه المستسلف منه ،
ولما يقبضه بعد ، ولا ريب أنه مملوك له بالبيع ، فإذا جعل مورد السلم الذي هو بيع
يكون بيعا للطعام قبل قبضه ، فيتحقق الشرطان ، ويلتحق بالباب ، قال : وهذا من
لطائف الفقه.
قال في المسالك بعد نقل ذلك ـ : وهذا التحقيق غاية ما
يقال هنا في توجيه كلام الشيخ ومن تبعه ، الا انه مع ذلك لا يخلو من نظر ، لان
مورد السلم ونظائره من الحقوق الثابتة في الذمة لما كان أمرا كليا ، كان المبيع
المتحقق به هو الأمر الكلى ، وما يتعين لذلك من الأعيان الشخصية بالحوالة وغيرها
ليس هو نفس المبيع ، وان كان الأمر الكلي انما يتحقق في ضمن الأفراد الخاصة فإنها
ليست عينه ، ومن ثم لو ظهر المدفوع مستحقا أو معيبا رجع الحق إلى الذمة ، والمبيع
المعين ليس كذلك ، ونظير ذلك ما حققه الأصوليون من أن الأمر بالكلي ليس أمرا بشيء
من جزئياته الخاصة وان كان لا يتحقق الا بها.
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 179 التهذيب ج 7 ص 37 الفقيه ج 3 ص 129.
وحينئذ فانصباب العقد على ما قبض ، وكونه حينئذ بيعا غير
واضح ، فالقول بالتحريم عند القائل به في غيره غير متوجه ، نعم لا بأس حينئذ
بالكراهة خروجا من خلاف الشيخ والجماعة وتحرزا عما هو مظنة التحريم انتهى وهو جيد.
الثاني عشر ـ لو كان له على غيره طعام من سلم ، فدفع
اليه مالا وقال اشتر به طعاما ، فان قال : اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك ، بمعنى أنه
وكله في القبض والإقباض قالوا : صح الشراء خاصة ، دون القبض والإقباض ، لأنه لا
يجوز أن يتولى طرفي العقد ، ذكره الشيخ وتبعه جملة ممن تأخر عنه وتردد في الشرائع.
قال الشيخ : لانه لا يجوز أن يكون وكيلا لغيره في قبض حق
نفسه من نفسه ، وجملة من المتأخرين قد صرحوا بالجواز ، لأن الأصل ذلك ، ولانه وكله
في الإقباض ، والمغايرة الاعتبارية في القابض والمقبوض منه كافية ، ومثله تولى
طرفي العقد.
أقول : وقد تقدم الكلام في مسألة تولى الواحد طرفي العقد
في الموضع الخامس من المسألة الخامسة من المقام الأول من الفصل الأول في البيع (1) قالوا : ولو
قال : اشتر لك لم يصح الشراء ، ولا يتعين له بالقبض ، وعلل بأن مال الغير يمتنع
شراء شيء به لنفسه ما دام على ملك الغير ، وهذا هو الفارق بين هذه وسابقها ، حيث
حكم بصحة الشراء ثمة ، ونقل عن الشيخ في الخلاف جواز ذلك هنا ، وجعله قبضا للطعام
بجنس الدراهم أو قبضا للدراهم ، ورد بعدم وجود دليل يدل على ما ادعاه. نعم لو علم
من الدافع إرادة أحد الأمرين وقبل القابض صح ذلك.
أقول : والذي وقفت عليه في هذا المقام روايات ، منها ـ ما
رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (2) عن أبى عبد الله (عليهالسلام) قال : «سألته
عن رجل
__________________
(1) ج 18 ص 416.
(2) الكافي ج 5 ص 185 التهذيب ج 7 ص 29 الفقيه ج 3 ص 164.
أسلفته دراهم في طعام فلما حل طعامي
عليه بعث الي بدراهم فقال : اشتر لنفسك طعاما واستوف حقك؟ قال : أرى أن يولي ذلك
غيرك ، وتقوم معه حتى تقبض الذي لك ، ولا تتولى أنت شراءه». وما رواه في الكافي
والتهذيب في الموثق عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أسلف
دراهم في طعام فحل الذي له فأرسل إليه بدراهم فقال : اشتر طعاما واستوف حقك هل ترى
به بأسا؟ قال : يكون معه غيره يوفيه ذلك».
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يكون له على الأخر أحمال رطب أو تمر ، فيبعث اليه بدنانير فيقول : اشتر بهذه
واستوف منه الذي لك؟ قال : لا بأس إذا ائتمنه».
أقول : الظاهر من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو
أن النهى عن الشراء في الخبرين الأولين انما هو لخوف التهمة ، كما أفصح به الخبر
الثالث ، وحينئذ فيجوز له الشراء متى أمن التهمة ، وعلى ذلك تكون الاخبار ظاهرة في
جواز الشراء والقبض والإقباض ، وبه يظهر عدم الالتفات الى ما ذكره من التوجيهات
الركيكة ، والأمر في ذلك ـ في الاخبار سيما في باب البيوع والطهارات والنجاسات
ونحوها ـ أوسع من ذلك ، كما لا يخفى على من مارسها وتأملها ،.
ومن الظاهر أن قوله : اشتر لنفسك طعاما كما في الخبر
الأول ، مثل قولهم «اشتر لك» الذي حكموا فيه بعدم صحة الشراء ، «واستوف حقك» في
جميع هذه الاخبار كناية عن الإقباض ، فهو وكيل من جهة صاحب الدراهم في الاشتراء ،
والقبض والإقباض ، وقوله «اشتر لك ، أو اشتر لنفسك» انما هو عبارة عن توكيله في
الشراء بتلك الدراهم ، فلا معنى لقولهم انه يمتنع شراء شيء به لنفسه ما دام
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 186 التهذيب ج 7 ص 30.
(2) التهذيب ج 7 ص 42 في ذيل حديث مع اختلاف يسير.
على ملك الغير ، وبالجملة فإن الأمر
في هذا الباب أوسع مما ذكروه.
والمحدث الكاشاني في الوافي قد حمل النهي في الخبرين
الأولين على غير البصير بالمسألة الفقهية في هذا المجال ، فان دفع الدراهم في هذه
الصورة أعني وقت حلول مال السلم وعدم وجوده عند المسلم اليه قد يكون لفسخ البيع ،
لعدم وجوده ، فلا يستحق أزيد من رأس ماله ، وقد يكون لتوكيل صاحب الطلب في شرائه
وقبضه وإقباضه ، فيصح مع الزيادة ، وما ذكره (قدسسره) جيد في غير
هذين الخبرين من أخبار الباب الذي عقده لذلك.
والوجه في المنع في هذه الاخبار التي ذكرناها انما هو ما
قدمناه من خوف التهمة ، كما صرح به في الخبر الثالث ، ويؤيده أن هذين الخبرين لم
يتعرض فيهما لجواز الزيادة وعدمها ، وقد حققنا ذلك في حواشينا على الكتاب المذكور
والله العالم.
الثالث عشر ـ قالوا إذا قبض المشترى المبيع ثم ادعى
نقصانه ، فان لم يكن حضر كيله ولا وزنه ، فالقول قوله ، وان كان حضر فالقول قول
البائع ، قيل : وانما كان القول قول البائع في الثانية مع أن الأصل عدم وصول حق
المشترى إليه في الصورتين ، عملا بالظاهر ، من أن صاحب الحق إذا حضر لاستيفاء حقه
يحتاط لنفسه ، ويعتبره مقدار حقه ، فيكون هذا الظاهر مرجحا لقول البائع ومقويا
لجانبه ، ومعارضا للأصل ، فيقدم قوله يمينه ، وهذه مما رجح فيها الظاهر على الأصل
وهو قليل. انتهى.
أقول : الظاهر من العبارة الأولى التي قدمنا نقلها عنهم
أن حضور الكيل والوزن في هذا المقام أعم من أن يكون الكيل والوزن لذلك المشتري ،
أو للبائع فإنه قد تقدم في جملة من الاخبار وبه صرحوا ايضا أنه يجوز الشراء بالكيل
والوزن الذي أخذ به البائع إذا حضر المشتري الثاني ذلك ، والتعليل الذي ذكره هذا
القائل انما يتم على تقدير الصورة
الأولى ، دون الثانية ، فإن المشتري الثاني حال الكيل والوزن للبائع الذي هو
المشترى الأول لا يصدق عليه انه حضر لاستيفاء حقه ، وأنه يحتاط لنفسه ، بل الحق في
تلك الحال انما هو حضر لغيره وان كان هو من جملة الحاضرين ، وأنه بعد ذلك الكيل
والوزن قد أخذه به واعتمد عليه.
وبالجملة فإن التعليل المذكور لا يتم في إحدى الصورتين
المذكورتين ، وتخصيص العبارة الأولى بهذه الصورة يحتاج الى ما يدل عليه ، وظاهرها
انما هو العموم كما قدمناه ، وبه لا يتم الدليل المذكور كليا ، ثم انه على تقدير
التخصيص بهذه الصورة فإن التعليل المذكور لا يخلو أيضا من شيء ، فإنه بمقتضى ما
ذكره أنه قد تعارض الأصل والظاهر و ، ان الأصل مرجح لجانب المشترى ، والظاهر مرجح
لجانب البائع ، ومقتضى تعارضهما تساقطهما ، والتوقف في ذلك إلا مع وجود المرجح
لأحدهما ، وهو لم يذكر هنا مرجحا للظاهر يوجب تقديمه على الأصل ، اللهم الا أن
يراد أن الظاهر رافع لحكم الأصل ، كالخبر الدال على خلاف مقتضى الأصل ، فإنه يجب
الخروج به عن مقتضى الأصل ، والمراد بالتعارض هنا انما هو ذلك ، والظاهر أنه هو
المراد في أمثال هذا المقام.
وفيه مع ذلك جوار الغفلة والسهو من ذلك المشتري ، أو
الاعتماد على كيل البائع ووزنه ، فلا يمكن الخروج به عن الأصل المذكور ، وبالجملة
المسألة ـ لخلوها من النص ـ لا يخلو من التوقف والاشكال والله العالم.
الرابع عشر ـ لو كان في ذمته طعام ، وأراده منه أو قيمته
في بلد أخرى غير البلد التي استقر الطعام فيها بذمته فهو لا يخلو عن ثلاثة شقوق ، الأول
ـ أن يكون الطعام سلفا قالوا : إذا أسلفه في طعام بالعراق مثلا ، ثم طالبه بالشام
لم يجب عليه دفعه ، لان مال السلم يتعين دفعه عند الإطلاق في بلده ، وفي موضع التعيين
ان عين الموضع ، فدفعه في غير بلد يتعين دفعه فيه غير واجب ، سواء كانت قيمته وقت
المطالبة مخالفة لقيمته في بلد التسليم أم مساوية ، قالوا : وهذا لا شبهة فيه.
أقول لم أقف على دليل يدل على ما ادعوه هنا من أنه مع
الإطلاق يتعين
التسليم في بلده ، فان وجد الدليل تم
ما رتبوه على ذلك ، والا فلا ، فليتأمل.
قالوا ولو طالبه في ذلك البلد الأخر بالقيمة ورضى المسلم
اليه بالدفع ، قيل لم يجز ، لانه بيع الطعام على من هو عليه قبل قبضه ، بناء على
القول بالتحريم في تلك المسألة ، أو يكره بناء على القول بالكراهة ثمة.
وقيل : والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين بالجواز من
غير تحريم ولا كراهة لأن ذلك ليس بيعا ، وانما هو استيفاء للحق ، غايته أنه بغير
جنسه ، ومثل هذا لا يسمى بيعا ، فلا يحرم.
وربما قيل : بكراهته ، خروجا من خلاف الشيخ القائل
بالتحريم وتخلصا من عرضة التحريم. هذا كله إذا رضي المسلم اليه بالدفع.
أما لو لم يرض فهل يجبر على ذلك؟ بناء على الجواز في
الأول ، المشهور العدم ، لان الواجب في ذمته هو الطعام لا القيمة وما في ذمته لا
يجب دفعه في البلد المذكور ، فأولى أن لا يجب عليه دفع ما لم تجر عليه المعاوضة ،
ولم يقتضيه عقد السلم.
وذهب بعض الأصحاب ومنهم العلامة في التذكرة إلى وجوب دفع
القيمة حينئذ ، مستندا الى أن الطعام الذي يلزمه دفعه معدوم ، فكان كما لو عدم
الطعام في بلد يلزمه التسليم فيه ورد بأن فيه منعا ظاهرا ، إذ ليس ثمة طعام يلزم
دفعه حتى ينتقل إلى القيمة.
أقول : ومما يدل على ما هو المشهور ـ من جواز أخذه الثمن
متى وقع الرضا من الطرفين بذلك ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان (1) عن بعض
أصحابنا عن أبى عبد الله (عليهالسلام) في الرجل
يسلف الدراهم في الطعام إلى أجل ، فيحل
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 185 التهذيب ج 7 ص 30.
الطعام ، فيقول : ليس عندي طعام ،
ولكن انظر ما قيمته فخذ منى ثمنه قال : لا بأس بذلك».
وعن ابن فضال (1) قال : كتبت الى أبى الحسن (عليهالسلام) : الرجل
يسلفني في الطعام ، فيجيء الوقت وليس عندي طعام أعطيه بقيمته دراهم؟ قال : نعم».
وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن العيص بن
القاسم (2) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) ، قال :
سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة ، حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ، ووجد
عنده دوابا ورقيقا ومتاعا ، أيحل أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه؟ قال : «نعم ، يسمى
كذا وكذا بكذا وكذا صاعا».
وبذلك يظهر لك ضعف ما ذهب اليه الشيخ وأتباعه من عدم
جواز أخذ القيمة للعلة التي ذكرها ، والظاهر أن الوجه في الجواز هو ما ذكروه ، من
أن ذلك استيفاء لحقه ، لا بيع ليلزم ما ذكر ، ولا ينافي ذلك قوله في الرواية
الثالثة «يسمي كذا وكذا بكذا وكذا صاعا» فان المراد منه أنه حيث كانت القيمة عروضا
لا دراهم فلا بد من تشخيصها في مقابلة الطلب الذي له ، ليحصل بذلك استيفاء حقه.
وأما ما ذكروه ـ من عدم جبره لو طلب صاحب السلم القيمة ،
لأن الواجب في ذمته هو الطعام لا القيمة ـ فهو جيد ان تم ما ذكروه من عدم وجوب
التسليم مع الإطلاق إلا في بلد السلم ، إلا أنك قد عرفت أنا لم نقف له على دليل.
ومما يؤيد مذهب العلامة في التذكرة هنا ـ لزوم الضرر
بصاحب الحق ، فإن توقف إيصال حقه على الوصول الى بلد السلم ـ مع أنه ربما لا يتيسر
له الرجوع إليها أو يتعذر عليه ذلك ـ موجب لما ذكرناه ، فإذا لم يجب على من عليه
السلم دفع مال السلم ـ لتوقفه على الوصول الى تلك البلد التي وقع السلم فيها ، ولم
يجب عليه دفع قيمته ، والحال أن رجوع صاحب الطلب الى تلك البلد غير ممكن ـ فاللازم
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 187 التهذيب ج 7 ص 30.
(2) الكافي ج 5 ص 186 التهذيب ج 7 ص 31 الفقيه ص 165.
فوات حقه ، وهو عين الضرر.
اللهم الا أن يقال بالجوار في هذه الصورة من حيث دفع
الضرر ، وأن هذه خارجة عن محل البحث ، والخلاف انما هو فيما إذا لم يكن كذلك ،
فيتم ما ذكروه على ما عرفت فيه.
الثاني ـ لو كان الطعام قرضا قالوا : جار أخذ العوض إذا
تراضيا على ذلك لانتفاء المانع المذكور في الصورة الاولى ، وهو بيع الطعام المنتقل
بالبيع قبل قبضه ، وانما الإشكال في وجوب دفع العوض في غير بلد القرض ، لأن إطلاق
القرض منزل على قبضه في بلده ، فليس للمقرض المطالبة في غيره ، كما أنه لو بذل له
المقترض لم يجب عليه قبضه أيضا ، لما في نقله الى ما عينه الشارع موضعا للقبض من
المؤنة ، وإذا لم يجب دفع عين الحق فكذا قيمته ، لعدم وقوع المعاوضة عليها واختار
العلامة في المختلف وجوب دفع المثل وقت المطالبة ، فإن تعذر فالقيمة ببلد القرض.
أقول : لم أقف بعد التتبع والفحص على دليل لما ذكروه هنا
ايضا ، من أن إطلاق القرص منزل على قبضه في بلده ، وأنه لأجل ذلك ليس للمقرض
المطالبة في غيره ، ولا يجب عليه القبض ايضا لو بذله المقترض له في غيره ، بل ربما
دل ظاهر بعض الاخبار على خلاف ذلك.
مثل ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (1) عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «سالته
عن رجل لي عليه مال ، فغاب عنى زمانا ، فرأيته يطوف حول الكعبة فأتقاضاه قال : (عليهالسلام) : لا تسلم
عليه ولا تروعه حتى يخرج من الحرم». فان ترك الاستفصال يفيد عموم المقال كما ذكروه
في غير مقام.
__________________
(1) الوسائل الباب 26 من أبواب الدين الرقم ـ 1.
ويشير الى ما ذكرناه من المناقشة في الموضعين المذكورين
كلام المحقق الأردبيلي قال بعد ذكر نحو ما ذكروه من الأحكام المترتبة على ذينك
الحكمين : ما لفظه كل ذلك ظاهر مما تقدم إذا قيل بتعيين موضع السلف والقرض للطلب
فيه وهو محل التأمل.
ثم قال : ويمكن الرجوع الى القرائن ، ومع عدمها الى
العرف الغالب بين الناس كما سلف في تعيين زمان السلف ومكانه انتهى.
وبالجملة فالظاهر بناء على ما ذكرناه هنا هو قريب ما
ذكره في المختلف ، الا ان الظاهر ان تخصيصه القيمة ببلد القرض مبنى على ما نقلناه
عنهم وقد عرفت ما فيه.
الثالث أن يكون غصبا فقيل : انه لا يجب دفع المثل ،
ويجوز دفع القيمة بسعر البلد التي استقر الطعام في الذمة فيها ، ونسب القول
المذكور للشيخ مساويا بينه وبين القرض في الحكم.
وقيل : وهو الأشهر بجواز مطالبة الغاصب بالمثل حيث كان ،
وبالقيمة الحاضرة عند الإعواز ، وعلل بأنه حق تثبت عليه بعدوانه ، فيعم كل مكان ،
وهو مؤاخذا بأسوء الأحوال.
ووجه وجوب القيمة عند الإعواز انه وقت الانتقال إلى
القيمة في المثلي واستقرب في المختلف قول الشيخ في القيمة ، وهي قيمة بلد القرض ،
لانه غصبه هناك ، فإذا تعذر المثل وجب عليه قيمته فيه.
ونقل ما عليه الأكثر عن والده واحتمل بعضهم أعلى القيم
من حين الغصب الى حين الدفع ، والظاهر هو القول المشهور في كل من الأمرين
المذكورين والله العالم.
الخامس عشر ـ قالوا : لو اشترى عينا بعين ، وقبض احدى
العينين وبقيت الأخرى عند بائعها ، ثم باع القابض ما قبضه ، ثم تلفت العين الأخرى
عند بائعها بطل
البيع الأول ، ولا سبيل إلى إعادة ما
بيع ثانيا ، لان تلك العين كانت ملكا خالصا للبائع ، وانما طرء البطلان على العقد
بعد انتقال العين ، فلا يؤثر فيما سبق من التصرفات ، وعلى هذا فيلزم على البائع
الثاني دفع المثل ان كانت العين مثلية ، والقيمة ان كانت قيمية ، كما لو تلفت
العين.
بقي الكلام في القيمة هل هي قيمته يوم البيع ، أو يوم
تلف العين الأخرى يحتمل الأول لأنه وقت تعذر المثل ، والثاني لأن القيمة لم تكن
لازمة للبائع ، وانما لزمت بتلف العين الأخرى الموجب لبطلان البيع ، واستجوده في
المسالك.
قيل : ويستفاد من ذلك أن تلف المبيع قبل قبضه انما يبطل
المبيع من حينه ، لا من أصله ، والا لاسترد العين ، وتظهر الفائدة في ذلك وفي
النماء.
أقول لم أقف في هذه المسألة على نص بالخصوص ، وبذلك يظهر
ما في الفائدة المذكورة ، فإنه لو كان الحكم المذكور منصوصا لصحت هذه الفائدة وأما
إذا كان ذلك! نما هو بمجرد فتواهم وكلامهم فإنه لا ثمرة لهذه الاستفادة والله
العالم.
المطلب الرابع في اختلاف المتبايعين
وفيه مسائل الأولى ـ إذا عين المتبايعان نقدا مخصوصا
تعين ، وان أطلقا فإن كان نقد البلد متحدا انصرف الإطلاق اليه ، وان كان متعددا
انصرف الى ما هو الغالب ، لما عرفت في غير موضع مما تقدم من أن الإطلاق انما ينصرف
الى الافراد الغالبة المتكررة ، ولو كثرت النقود فيها ولا غلبة في شيء منها بطل ،
لان تعدد النقود في البلد بمنزلة اللفظ المشترك ، ولا يحمل على أحد معانيه الا مع
القرينة ، ومع الغلبة فالقرينة ظاهرة ، ومع التساوي فاللازم بطلان البيع ،
لمجهولية الثمن أو المبيع.
بقي الإشكال في ان الغلبة قد تكون في الاستعمال ، وقد
تكون في الإطلاق ، بمعنى أن الاسم يغلب على أحدها ، وان كان غيره أكثر استعمالا
كما يتفق ذلك في بعض النقود ، فان اتفقت الغلبة فيهما ، فلا إشكال في الحمل على
الأغلب وان اختلفت بأن كان أحدهما أغلب استعمالا والأخر أغلب وصفا ، ففي ترجيح
أحدهما ـ أو كونهما بمنزلة المتساوي نظرا الى تعارض المرجحين ـ اشكال ، وهكذا
الكلام في الكيل والوزن.
الثانية ـ إذا اختلفا في قدر الثمن فادعى البائع أكثر ،
وادعى المشتري أقل فالمشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ـ أن القول
قول البائع بيمينه ان كانت السلعة قائمة ، وقول المشترى مع يمينه ان كانت تالفة.
ويدل على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة مسندا في روايتي الكليني
والشيخ عن أحمد بن محمد بن أبى نصر (1) عن رجل عن أبى عبد الله (عليهالسلام) ومرسلا في
الفقيه (2) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) «في الرجل
يبيع الشيء فيقول المشترى : هو بكذا وكذا بأقل مما قاله البائع ، قال : القول قول
البائع مع يمينه إذا كان الشيء قائما بعينه» (3). والتقريب فيها أنها تدل بمنطوقها
على تقديم قول البائع مع قيام عين المبيع ، وبمفهومها على تقديم قول المشترى مع
تلف العين ، ولا يضر إرسال الخبر المذكور ، لرواية المشايخ الثلاثة له ، ولما
ذكروه من استثناء مراسيل أحمد بن محمد بن أبى نصر ، لانه ممن أجمعت العصابة على
تصحيح ما يصح عنه ، ولعمل جل الأصحاب بها لا سيما المحدثين الثلاثة ، وغيرهم من
المتقدمين وجل المتأخرين قال في الوافي ـ بعد ذكر الخبر المذكور : ـ والوجه فيه أن
مع بقاء
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 174 التهذيب ج 7 ص 26.
(2) الفقيه ج 3 ص 171.
(3) يعنى قيام السلعة وتلفها ـ منه رحمهالله.
العين يرجع الدعوى الى رضا البائع ،
وهو منكر لرضاه بالأقل ، ومع تلفه يرجع الى شغل ذمة المشترى بالثمن ، وهو منكر
للزيادة (1).
أقول هذا الوجه الذي ذكره هنا قد احتج به بعض القائلين
بالقول المشهور وقد تنظر فيه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال : لاتفاقهما على
انتقال العين إلى المشترى وملكه لها ، وانما الخلاف بينهما فيما يستحق في ذمة
المشترى ، فلا وجه لتقديم قول البائع ، بل المشترى هو المنكر في الموضعين ، ثم قال
: فالمعتبر حينئذ هو النص. انتهى وهو جيد متين.
وما ذكره (قدسسره) هنا قد
احتمله العلامة في القواعد قولا في المسألة ، ونقله في التذكرة قولا عن بعض العامة
، وقوله وظاهر المحقق الأردبيلي تقوية القول المذكور ، قال : وهو الظاهر الموافق
للقوانين ، وكذا يظهر من المسالك أنه أقوى الأقوال ، وهو كذلك ، فإنه الا وفق
بالقواعد الشرعية ، الا أنه لا معدل عن النص المذكور ، لما قدمنا ذكره ، ويمكن
تأييد الخبر المذكور بما رواه في الكافي : والتهذيب. عن الحسين بن عمر بن يزيد عن
أبيه (2) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) إذ التاجر ان
صدقا بورك لهما وإذا كذبا وخانا لم يبارك لهما وهما بالخيار ما لم يفترقا فان
اختلفا فالقول قول رب السلعة أو يتتاركا».
__________________
(1) أقول مرجع هذا الوجه الذي ذكره الى أن المبيع متى كان
باقيا فالأصل عدم انتقاله من ملك البائع إلا برضاه ، وهو لا يرضى الا بما يدعيه ،
وفيه ما عرفت في الأصل من الاتفاق على انتقال المبيع إلى المشترى ، ورجوع الاختلاف
الى الثمن لزيادة ونقيصة ، والأصل عدم الزيادة بعد الاعتراف بالبيع ، فدعوى
المشترى مطابق لهذا الأصل ، فالقول قوله حينئذ بيمينه ، هذا هو مقتضى الأصول
والقواعد كما ذكرناه في الأصل. منه رحمهالله.
(2) الكافي ج 5 ص 174 التهذيب ج 7 ص 26.
والتقريب فيه ان الظاهر أن الاختلاف
بينهما مع وجود السلعة كما يشير اليه قوله أو يتتاركا ، وقد جعل القول فيه قول
البائع ، ومحل الاختلاف وان كان مطلقا الا أن ما نحن فيه داخل تحت الإطلاق ، وسيجيء
ـ إنشاء الله تعالى ـ أن القول قول البائع في سائر الاختلافات الاتية.
وفي المسألة أقوال أخر أيضا ، منها ـ أن القول قول من هي
في يده ، الا أن يحدث المشترى فيها حدثا ، فيكون القول قوله مطلقا ، وهو مذهب ابن
الجنيد ونفى عنه البأس في التذكرة ، ووجه هذا القول بالنسبة إلى الأقل أن من كان
المبيع في يده يحكم له بالملك ، ويصير غير ذي اليد مدعيا ، وبتقريب آخر أن من ليس
في يده يدعي انتزاعه بما يقربه من الثمن ، وذو اليد ينكر ذلك ، فيكون القول قوله ،
ترجيحا لليد ، فان الخارج هو المدعى.
وأما بالنسبة إلى حدث المشتري فإنه دليل اليد ، فيكون
القول قوله مطلقا ، وفيه ما عرفت آنفا من أن مرجع الاختلاف والنزاع انما هو في
الثمن ، لا في أصل المبيع ، للاتفاق على انتقاله بالبيع.
ومنها أنهما يتحالفان مطلقا ، لان كلا منهما مدع ومنكر ،
وذلك لان العقد الذي تضمن الأقل وتشخص به ينكره البائع ، والعقد الذي تضمن الثمن
الأكثر وتشخص به ينكره المشترى ، فيكون هذا النزاع في قوة ادعاء كل منهما عقدا
ينكره الأخر ، فيتحالفان ويبطل البيع ، وهذا القول احتمله العلامة في كثير من كتبه
، وصححه ولده في الإيضاح ، ونسبه في الدروس الى الندور مع أنه اختاره في قواعده ،
ـ وأورد عليه بمنع المغايرة الموجبة لما ذكر لاتفاقهما على عقد واحد ، وعلى انتقال
المبيع إلى المشترى به ، وثبوت الثمن الأقل في ذمة المشترى ، وانما يختلفان في
الزائد فأحدهما يدعيه ، والأخر ينكره ، فلا وجه للتحالف.
ومنها ـ أن القول قول المشترى مع قيام السلعة أو تلفها
في يده أو في
يد البائع بعد الإقباض ، والثمن معين
، والأقل لا يغاير أجزاء الأكثر ، ولو كان مغايرا تحالفا ، وفسخ العقد ، واحتج على
الأول بأن المشتري منكر ، وعلى الثاني بأن التحالف في عين الثمن ، وكل منهما ينكر
ما يدعيه الأخر ، فيتحالفان ، ذهب الى هذا القول العلامة في المختلف وهو يرجع الى
تقديم قول المشترى مطلقا ، حيث يكون الاختلاف في كمية الثمن ، وقد عرفت قوته بحسب
القواعد ، الا أن النص على خلافه (1).
تنبيهات
الأول ـ قال في المسالك بعد الكلام في المسألة : هذا
البحث كله إذا وقع
__________________
(1) قال في المختلف : والمعتمد أن نقول : ان السلعة اما أن
تكون باقية أو تالفة ، فإن كانت تالفة فاما أن تكون قد تلفت في يد البائع قبل
الإقباض ، أو في يد المشتري أو في يد البائع بعد الإقباض فإن تلفت في يد البائع
قبل الإقباض بطل البيع ، ولا معنى للتحالف وان تلفت في يد المشتري أو في يد البائع
بعد الإقباض ، أو كانت قائمة فلا يخلو اما أن يكون الثمن معينا أو في الذمة ، فإن
كان معينا فاما أن يكون الأقل مغايرا لأجزاء الأكثر أولا ، فإن كان مغايرا تحالفا
وفسخ البيع ، وان لم يكن فالقول قول المشترى ، ويحتمل التخالف ، لنا انه على تقدير
المخالفة يكون التخالف في عين الثمن كما تخالفا في قدره ، ولا ريب أنه مع التخالف
في عين الثمن يتحالفان فكذا هنا ، وأما على باقي التقادير فلان البائع يدعي
الزيادة في الثمن ، والمشترى ينكرها ، فالقول قوله مع اليمين ، كما لو تلفت السلعة
أو كانت في يد المشترى ، واما احتمال التحالف على هذه التقادير غير تقدير المخالفة
، فلأنهما متداعيان كل منهما مدع ، فإن البائع يدعي العقد بعشرين ، والمشترى يدعي
العقد ـ
النزاع بعد قبض المشتري ، أو قبله مع
بقاء عين المبيع ، أما لو وقع بعد تلفه في يد البائع ، فإن العقد ينفسخ ، ولا يظهر
للنزاع أثر ان لم يكن البائع قد قبض الثمن ، ولو كان قبضه كان كالدين في ذمته أو
الأمانة عنده ، فيقدم قوله في قدره ، ومثله ما لو اختلفا في قدر الثمن بعد قبض
البائع له والإقالة أو الفسخ بأحد وجوهه.
أقول : ينبغي تقييد انفساخ العقد بتلفه في يد البائع بما
لو لم يحصل إقباض بالكلية ، والا فلو تلف في يده بعد حصول الإقباض والعود اليه
ثانيا ، فان الحكم فيه كما في صورة الإقباض.
الثاني موضع الخلاف ـ كما أشار إليه العلامة في المختلف
وصرح به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ـ ما لو كان الثمن في الذمة ، ليمكن جريان
الأقوال فيه ، فلو كان معينا كما لو قال البائع : بعتك بهذا العبد أو بهذا الدينار
فقال المشترى : بل بهذه الأمة أو الدراهم ، فإنه يتعين التحالف قطعا ، لان كلا
منهما مدع ومنكر ، وهو ضابط التحالف ، وهذا لا يطلق عليه الاختلاف في القدر ، كما
هو محل البحث.
نعم قد يتفق مع التعيين الاختلاف في القدر أيضا ، وبه
يندرج تحت البحث حينئذ ، كما لو قال : بعتك بهذين الدينارين أو الدرهمين ، فقال :
بل بأحدهما معينا ، فان الحكم فيه كالذمة ، والأقوال المتقدمة تجري فيه.
الثالث ـ أنه على تقدير القول المشهور من الفرق بين قيام
العين وتلفها لو كانت العين باقية ، لكنها قد انتقلت عن المشترى انتقالا لازما
بالبيع ، أو العتق أو الهبة
__________________
بعشرة ، والعقد بعشرين غير العقد بعشرة. انتهى وجوابه علم مما
في الأصل ، أما بالنسبة إلى التحالف فلما عرفت في جواب القول بالتحالف ، وأما
بالنسبة الى ان القول قول المشترى بيمينه فلما عرفت من ـ انه وان كان قويا في حد
ذاته الا ـ أن النص دل على خلافه. والله العالم (منه رحمهالله).
اللازمة مثلا. فهل يكون ذلك من قبيل
التلف ، أم لا؟ إشكال ينشأ من صدق التلف بذلك ، وعدمه ، إذ المتبادر من التلف هو
زوال العين عن الوجود وهنا ليس كذلك ، وان كان في حكم التلف من خروجها عن الانتقاع
بالنسبة إلى المشترى.
ويمكن أن يقال : ان النص دل على أن القول قول البائع إذا
كانت العين قائمة ، والمتبادر منه وجودها بين المتبايعين في يد أحدهما ، كما يشير
اليه الخبر الثاني من قوله «أو يتتاركا» ومفهومه حينئذ ما لم يكن موجودة في يد
أحدهما ، والتعبير بالتلف انما وقع في عبارة بعض الأصحاب ، وجعلوه مفهوما مخالفة
لقوله «قائمة» بناء على حمله على مجرد الوجود ، والظاهر منه انما هو ما ذكرناه ،
فان وجودها بعد انتقالها بناقل شرعي لازم لا يدخل تحت منطوق الخبر المذكور.
وكيف كان فالحكم غير خال من شوب الاشكال. وكذا يجري
الإشكال في الانتقال الغير اللازم كالبيع في زمن الخيار للبائع ، والهبة قبل القبض
أو بعده حيث يجوز الفسخ ، وأنه هل يجرى مجرى التلف أم لا؟.
الثالثة ـ لو اختلفا في تأخير الثمن وتأجيله أو في قدر
الأجل في اشتراط رهن أو ضمين فالقول قول البائع مع يمينه ، لأنه في هذه المواضع
كلها منكر ، وربما قيل : بالتحالف هنا أيضا ، كما في سابق هذه المسألة ، لأن
أحدهما يسند الملك الى سبب مخصوص ، والأخر ينفيه ويسنده الى سبب آخر ، ففي الحقيقة
الملك بقول أحدهما غير الملك بقول الأخر ، وكل منهما مدع ، ومدعى عليه ، فيتحالفان
، ووجه ضعفه يعلم مما سلف ، وذلك لأنهما اتفقا على صدور العقد ، وحصول الملك
للمشتري ، والثمن للبائع ، وانما حصل النزاع في أحد هذه الأمور الزائدة على ذلك
والبائع ينكره ، فيقدم قوله في نفيه.
الرابعة ـ لو اختلفا في المبيع ، فقال البائع : بعتك
ثوبا ، فقال المشترى : بل ثوبين ، فان القول قول البائع بيمينه ، لانه منكر لبيع
الزائد ، مع اتفاقهما على أمر مشترك ، وهو بيع الثوب الواحد.
هذا حيث لا يكون المتنازع معينا ، والا فالحكم التحالف ،
كما لو قال البائع : بعتك هذا الثوب ، وقال المشترى : بل هذين الثوبين ، مشيرا الى
غير ذلك الثوب المعين ، فإنه يتعين القول بالتحالف ، لعدم الاتفاق على شيء.
وكذا أيضا يجب تقييد أصل المسألة بما إذا لم يختلفا في
الثمن على كل من التقديرين ، لأنه حينئذ يمكن الأخذ بالمشترك بين كلاميهما ، بخلاف
ما لو قال : بعتك هذا بألف ، فقال : بل هذا وهذا بألفين ، فلانه لا مشترك بين
كلاميهما يمكن الأخذ به ، فلا بد من التحالف كما ذكره في التذكرة.
واعلم أن ضابط التحالف ـ المقطوع به في كلامهم ـ ادعاء
كل منهما على صاحبه ما ينفيه الأخر ، بحيث لا يتفقان على أمر كما هنا ، ومثله ما
لو اختلفا في الثمن المعين ، أو فيهما معا ، ومثله ما لو ادعى أحدهما البيع ،
والأخر الصلح.
ولو اتفقا على أمر واحد واختلفا في وصف زائد أو قدر بحيث
كانت الدعوى من طرف واحد ، كما في المواضع التي قدمناها حلف المنكر ، وأما من أجرى
التحالف في مثل تلك المواضع فقد عرفت بطلانه ، لخروجه عن الضابطة المذكورة ، وكما
يجرى ذلك في البيع فكذا في الصلح والإجارة ونحوهما.
بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أنه إذا ادعى
البائع : أنى بعتك هذا الثوب ، فقال المشترى : بل هذا إشارة إلى ثوب آخر ، فان
الحكم كما عرفت التحالف ، وبطلان البيع ، فإذا حلف البائع على نفى ما يدعيه
المشتري بقي الثوب على ملكه ، فان كان في يده ، والا انتزعه من يد المشترى ، وإذا
حلف المشترى على نفى ما يدعيه البائع ، وكان الثوب في يده لم يكن للبائع مطالبته
به ، لانه لا يدعيه ، وان كان في يد البائع لم يكن له التصرف فيه ، لانه معترف
بأنه للمشتري ، وله ثمنه في ذمته ، فان كان البائع قد قبض الثمن رده على المشترى ،
ويأخذ الثوب قصاصا ، وان لم يكن قبضه أخذ الثوب قصاصا أيضا بذلك الثمن ، ولو زاد
فهو مال لا يدعيه أحد ، كذا فصله العلامة في التذكرة.
ولو ماتا المتبايعان فاختلف ورثتهما ، فذهب جمع من
الأصحاب الى أن القول قول ورثة البائع في قدر المبيع ، وورثة المشترى في قدر
الثمن.
أما كون القول قول ورثة البائع في قدر المبيع فهو جار
على قول مورثهم ، لان القول قوله لو كان حيا كما تقدم.
وأما أن القول قول ورثة المشترى في قدر الثمن مع أنه ليس
كذلك في مورثهم ، لأنهم منكرون.
وذهب الأكثر الى أن الورثة في ذلك كالمورثين فيقدم قول ورثة البائع مع بقاء السلعة ، وقول ورثة المشترى مع تلفها ، ولو اختلف الورثة في عين الثمن أو عين المبيع فالحكم التحالف ، كما تقدم ذكره في المتبايعين.