ج1 - في الأسآر
الفصل السادس
والبحث فيها يقع في مواضع:
(الأول) ـ السؤر لغة : البقية والفضلة كما في القاموس ، أو البقية بعد الشرب كما نقله في المعالم عن الجوهري ، وقيل عليه ان ما نسبه الى الجوهري لم نجده في الصحاح ، ولعله أراد أنه بهذه العبارة ليس فيه ، وإلا فقد ذكر فيه ان سؤر الفأرة وغيرها ما يبقى بعد شربها. ونقل في كتاب مجمع البحرين عن المغرب وغيره ان السؤر هو بقية الماء التي يبقيها الشارب في الإناء أو في الحوض ثم أستعير لبقية الطعام. ونقل فيه ايضا عن الأزهري ان السؤر هو ما يبقى بعد الشراب. وقال الفيومي في كتاب المصباح المنير : «والسؤر بالهمزة من الفأرة وغيرها كالريق من الإنسان» وهو ـ كما ترى ـ مخالف لما تقدم. ومنه يظهر ان كلام أهل اللغة غير متفق في المقام (1).
وفي اصطلاح أصحابنا ـ على ما ذكره الشهيد (رحمهالله) وجملة ممن
تأخر عنه ـ انه ماء قليل باشره جسم حيوان ، واستظهر في المدارك تعريفه في هذا
المقام بأنه ماء قليل باشره فم حيوان. ثم اعترض على التعريف الأول ، قال : «أما
أولا ـ فلأنه مخالف لما نص عليه أهل اللغة ودل عليه العرف العام بل والخاص ، كما
يظهر من تتبع الأخبار وكلام الأصحاب ، وان ذكر بعضهم في باب السؤر غيره استطرادا.
وكون الغرض هنا بيان الطهارة والنجاسة لا يقتضي هذا التعميم ، لأن حكم ما عدا
السؤر يستفاد من مباحث النجاسات. و (اما ثانيا) ـ فلان الوجه الذي لأجله جعل السؤر
قسيما للمطلق ـ مع كونه قسما منه بحسب الحقيقة ـ وقوع الخلاف في نجاسة بعضه من
طاهر العين وكراهة بعض آخر. وليس في كلام القائلين بذلك دلالة على اعتبار مطلق
المباشرة ، بل كلامهم ودليلهم كالصريح في أن مرادهم بالسؤر المعنى الذي ذكرناه
خاصة» انتهى. وأنت خبير بما فيه من المناقشات التي ليس في التعرض لها كثير فائدة (2).
__________________
(1) فإن كلام القاموس ظاهر الدلالة في العموم للماء وغيره مع
الملاقاة بالفم وغيره وما نقله في المجمع صريح في التخصيص بالماء المباشر بالفم ،
وكلام المصباح ظاهر أيضا في المغايرة لكل من المعنيين المتقدمين (منه رحمهالله).
(2) (اما أولا) ـ فلما عرفت من اختلاف كلام أهل اللغة كما
قدمنا ذكره. واما الاخبار فكذلك كما ذكرناه ، وبه يظهر بطلان الاستناد إلى اللغة
والعرف الخاص. واما العام فقد عرفت الكلام فيه في غير مقام و (اما ثانيا) ـ فلان
التعريف المقصود به افادة حكم
والتحقيق ان يقال : انه لما كان الغرض من التعريف ـ حيث
كان ـ هو بيان حكم كلي وقاعدة تبتني عليها الأحكام الشرعية ، فلا بد من ابتنائه
على الدليل الشرعي ولا تعلق له بالخلاف والوفاق ، وحينئذ فإن أريد بالتعريف هنا
بالنظر الى ما أطلق فيه لفظ السؤر من الأخبار ، ففيه انه لا دلالة في الأخبار على
الانحصار في خصوصية الشرب بالفم ، إذ غاية ما فيها ـ كما ستمر بك ان شاء الله
تعالى ـ السؤال عن سؤر ذلك الحيوان هل يتوضأ منه ويشرب أم لا؟ بل فيها ما يدل على
إطلاق السؤر على الفضلة من الجوامد ، كاخبار الهرة التي منها قول علي (عليهالسلام) في صحيحة
زرارة (1) : «ان الهر
سبع ولا بأس بسؤره ، واني لأستحيي من الله ان ادع طعاما لان الهر أكل منه». وان
أريد بالنظر الى ما دل عليه بعض الاخبار من المغايرة بين السؤر وذي السؤر في الحكم
أو الاتفاق ، فالمفهوم منها ايضا ما هو أعم من المباشرة بالفم أو غيره ، كما في
صحيحة عيص بن القاسم (2) حيث قال (عليهالسلام) : «وتوضأ من
سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل ان تدخلها الإناء». وبالجملة فالأظهر في
التعريف ـ بالنظر الى ظواهر الاخبار ـ تعميم الحكم في المباشرة بالفم وغيره ماء
كان أو غيره. نعم متى أريد السؤر من الماء خاصة اختص بالتعميم الأول.
على ان الحق ان يقال : ان أفراد السؤر بالبحث على حدة ـ وجعله
قسيما للمطلق مع كونه قسما منه ـ مما لم يقم عليه دليل ، وان جرت الأصحاب (رضوان
الله عليهم) على ذلك جيلا بعد جيل ، فإن الذي يظهر من الأخبار ان الأمر لا يبلغ
الى هذا المقدار الموجب لاستقلاله وامتيازه عن المطلق على حياله ، وتوضيحه ان
__________________
شرعي كلي وجعله قاعدة كلية لا يبتنى على كلام الأصحاب
واختلافهم أو اتفاقهم ، وانما يبتنى على الأدلة الواردة في المقام (منه قدسسره).
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب الأسآر.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الأسآر.
ما حكموا فيه من الأسآر بالطهارة
والنجاسة ليس لخصوصية كونه سؤرا ، وإنما هو من حيث التبعية لذي السؤر في الطهارة
والنجاسة ، وهذا حكم عام ، ومحله مبحث النجاسات والمطهرات. وما اختلفوا فيه منها
طهارة ونجاسة فإنما نشأ من اختلافهم في حيوانه بذلك ايضا ، ومحل هذا ايضا هناك.
واما خلاف من خالف ـ فحكم بنجاسة أسآر بعض الحيوانات مع حكمه بطهارة ذلك الحيوان ـ
فلا دليل عليه كما سيظهر لديك ان شاء الله تعالى. وما حكموا فيه بالكراهة من تلك
الأسآر فهو ايضا خال من الدليل ، كما سنتلوه عليك ان شاء الله تعالى ، عدا موضع
واحد وهو سؤر الحائض المتهمة ، فإن الأخبار قد دلت على النهي عنه ، إلا ان غاية ما
تدل عليه هو النهي بالنسبة إلى الوضوء خاصة دون الشرب وغيره ، والظاهر ان الوجه
فيه هو اختصاص ماء الطهارة بالمزية زيادة على غيره من سائر المياه المستعملة كما
ورد من كراهة الوضوء بالماء الآجن والمشمس ونحوهما ، وهذا بمجرده لا يوجب افراد
بعض اجزاء الماء المطلق بعنوان على حدة وجعله قسيما له ، وإلا لكان الفردان
المذكوران كذلك ولان اختصاص الكراهة بالوضوء دون غيره يخرج ذلك عن كونه حكما كليا
في السؤر كما يدعونه.
(الموضع الثاني) ـ ان ذا السؤر اما ان يكون آدميا أو
غيره ، والأول اما مسلم ومن بحكمه أو كافر ومن بحكمه ، والثاني اما مأكول اللحم أو
غيره ، وغير مأكول اللحم اما طاهر العين أولا ، فالأقسام خمسة. والسؤر عندهم اما
طاهر أو نجس أو مكروه. ولا يخفى ان أكثر مباحث هذا الفصل ـ وما يتعلق بها من
التحقيق وبسط الأدلة التي بها تليق ـ قد وكلناها الى مبحث النجاسات ، فإنها بذلك
انسب كما أشرنا إليه آنفا ، ولنشر هنا إجمالا الى ما يخص هذا المقام جريا على
وتيرة من تقدمنا من علمائنا الأعلام جزاهم الله تعالى عنا أفضل جزاء في دار
الإكرام.
فنقول : حيث كانت الأقسام التي أشرنا إليها خمسة فالبحث
يقع ههنا في موارد خمسة :
(الأول) ـ سؤر الآدمي المسلم ، والمراد به ما هو أعم من
منتحل الإسلام كما أطلق عليه في كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) وحينئذ فينقسم
السؤر بالنسبة الى ذلك الى الأقسام الثلاثة المتقدمة ، فالقسم الأول والثاني
الطاهر والنجس.
وتحقيق القول فيهما هنا ان نقول : ان بعض أفراد ذي السؤر
هنا مما اتفق على طهارته وبعض مما اتفق على نجاسته وبعض مما اختلف فيه.
(فالأول) ـ المؤمن عدا من يأتي ذكره في القسم الثالث ،
ولا خلاف ولا إشكال في طهارته وطهارة سؤره بل أفضليته ، لما روي من استحباب الشرب
من سؤره والوضوء من فضل وضوئه.
و (الثاني) ـ الخوارج والنواصب والغلاة ، ولا خلاف بين
أصحابنا في نجاستهم ونجاسة سؤرهم.
و (الثالث) ـ منه ـ المجسمة والمجبرة ، وقد نقل عن الشيخ
في المبسوط القول بنجاستهم ، وتبعه ـ في المجسمة ـ العلامة في المنتهى ، والمشهور
الطهارة. والكلام في السؤر تابع للقولين. الا ان جملة من القائلين بالطهارة ذهبوا
هنا إلى الكراهة ـ كما سيأتي ذكره ـ تفصيا من خلاف الشيخ (رحمهالله).
ومنه ـ ولد الزنا ، فالمنقول عن المرتضى القول بنجاسته ،
لانه كافر ، ويعزى القول بكفره الى ابن إدريس أيضا. وربما ظهر ذلك ايضا من كلام
الصدوق (رحمهالله) في الفقيه ،
حيث قال (1) : «ولا يجوز
الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكل من خالف الإسلام» وما قيل ـ
من ان عدم جواز الوضوء به
__________________
(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
أعم من النجاسة ، فكلامه ليس بصريح في
النجاسة ـ مردود بان ذكره مع المشرك ونحوه قرينة واضحة على إرادة النجاسة ،
والمشهور الطهارة. والكلام في السؤر تابع للقولين.
ومنه ـ المخالف ، فقد نقل عن ابن إدريس القول بنجاسته
عدا المستضعف ، وعن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن ، وأكثر متأخري الأصحاب على
الطهارة. وحكم السؤر تابع لذلك.
(القسم الثالث) ـ المكروه ، ومنه ـ سؤر الحائض على
الإطلاق عند جملة من أصحابنا ، ومقيدا بالمتهمة عند آخرين.
احتج الأولون بجملة من الاخبار ، كرواية عنبسة بن مصعب
عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سؤر
الحائض يشرب منه ولا يتوضأ». ومثلها رواية الحسين بن ابي العلاء (2) ورواية أبي
بصير (3).
ويدل على الثاني موثقة علي بن يقطين عن ابي الحسن (عليهالسلام) (4) «في الرجل
يتوضأ بفضل الحائض؟ قال : إذا كانت مأمونة فلا بأس».
وموثقة عيص بن القاسم (5) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن سؤر
الحائض قال : توضأ منه ، وتوضأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل ان
تدخلها الإناء». هكذا رواها في التهذيب (6) واما في الكافي (7) فرواها في
الصحيح ، وفيها في حكاية جوابه (عليهالسلام) قال : «لا
توضأ منه وتوضأ من سؤر الجنب. الحديث». وحينئذ فيكون منتظما في سلك الأخبار
المتقدمة ، وقضية حمل المطلق على المقيد ـ كما هي القاعدة المعمول عليها بينهم ـ تقتضي
رجحان القول الثاني.
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في باب ـ 8 ـ من أبواب
الأسآر.
(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الأسآر.
(6) في الصحيفة 63.
(7) ج 1 ص 4.
إلا انه لا يخفى ان الأخبار كلها إنما
اتفقت في النهي عن الوضوء خاصة ، واما الشرب ففي بعضها تصريح بجوازه وفي بعضها قد
طوي ذكره ، ولعل الوجه في ذلك ما أشرنا إليه آنفا (1) من اختصاص ماء
الوضوء بالمزية كما في غير هذا الموضع ، لا من حيث كونه سؤرا ، وإلا لعم.
بقي هنا شيء وهو ان أكثر الأصحاب خصوا الكراهة بسؤر
المتهمة ، وهي التي لا تتحفظ من النجاسة ، والروايات المقيدة إنما دلت على جواز
الوضوء من سؤر المأمونة ، وهي المتحفظة من الدم ، ولا ريب ان غير المأمونة أعم من
أن تكون متهمة أو مجهولة ، والظاهر انه لذلك عدل المحقق في الشرائع عن العبارة
المشهورة فعبر بغير المأمونة ، وبه صرح السيد السند في شرحه ، حيث قال مشيرا إلى
عبارة المصنف : ان ذلك اولى من إناطتها بالتهمة كما ذكره غيره. قال : «لأن النهي
إنما يقتضي انتفاء المرجوحية إذا كانت مأمونة ، وهو أخص من كونها غير متهمة ،
لتحقق الثاني في ضمن من لا يعلم حالها دون الأول. وما ذكره بعض المحققين ـ من ان
المأمونة هي غير المتهمة ، إذ لا واسطة بين المأمونة ومن لا امانة لها ، والتي لا
امانة لها هي المتهمة ـ غير جيد ، فان المتبادر من المأمونة من ظن تحفظها من
النجاسة ونقيضها من لم يظن بها ذلك ، وهو أعم من المتهمة والمجهولة» انتهى. ويمكن
ان يقال : انه وان كان نقيض المأمونة ما ذكره من الأعم من المتهمة والمجهولة ، لكن
المراد هنا هو المتهمة خاصة ، لأن تعلق الحكم الذي هو الكراهة بانتفاء المأمونية
يقتضي حصول العلم أو الظن بمتعلقه الذي هو عدم المأمونية ، وهو لا يحصل مع الجهل
بحالها ، لاحتمال كونها مأمونة واقعا.
__________________
(1) في الصحيفة 420.
فرع
ألحق الشهيد في البيان بالحائض المتهمة ـ بناء على ما
اختاره من التقييد بالمتهمة ـ كل متهم ، واستحسنه جملة ممن تأخر عنه ـ منهم :
الشهيد الثاني في الروضة. ورده المحقق الشيخ علي بأنه تصرف في النص. ونقل بعض
فضلاء المتأخرين عبارة الشيخ علي بما صورته بأنه تصرف في التصرف. وقال في توجيهها
: «وكأنه أراد بذلك ان قصر الكراهة في سؤر الحائض على المتهمة ـ للجمع بين الاخبار
ـ تصرف أول ، ثم تعدية الحكم الى كل متهم إنما حصل بهذا التصرف ، فهو تصرف ثان في
التصرف الأول» وفيه ان مرمى هذه العبارة يؤذن بعدم قوله بالتقييد واختياره له ، مع
انه صرح في صدر هذا الكلام بأنه الأصح عنده ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : والحائض
المتهمة ـ ما لفظه : «اي بعدم التحفظ من النجاسة والمبالاة بها على الأصح ، جمعا
بين روايتي النهي عن الوضوء بفضلها ونفي البأس إذا كانت مأمونة» والظاهر ان ما
نقله الفاضل المذكور ناشئ عن غلط في نسخته وتصحيف النص بالتصرف ، والمعنى على ما
نقلنا ظاهر لا سترة عليه.
ومن هذا القسم ايضا ما اختلف فيه بالطهارة والنجاسة عند
من اختار الطهارة خروجا من خلاف من قال بالنجاسة وان كان من غير الآدمي كما سيأتي
، قال في المعالم بعد ذكر جملة من الافراد المختلف في طهارتها ونجاستها ، ونقل
القول بالكراهة في بعضها عن المحقق خروجا من خلاف من قال بالنجاسة ، واعتراضه عليه
بأنه لا وجه للتخصيص بالبعض ، لان دليله آت في الكل ـ ما صورته : «وبالجملة فكراهة
المذكورات لا ينبغي التوقف فيها حيث يقال بالطهارة ، فإن رعاية الخروج من الخلاف
كافية في مثله» انتهى. وفيه نظر ، فإن الكراهة حكم شرعي يتوقف على الدليل ومجرد
ذهاب البعض وخلافه في الحكم ليس بدليل شرعي حتى تبنى عليه الأحكام
الشرعية ، فإن أجيب بان الوجه فيه
الاحتياط ، قلنا : فيه (أولا) ـ ان الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي. و (ثانيا) ـ انه
مع جعله دليلا شرعيا ـ كما هو الأظهر عندنا كما قدمنا تحقيقه في المقدمة الرابعة ـ
فهو يدور مدار الاختلاف بين الأدلة كما هو أحد موارده لا مدار الاختلاف بين
العلماء وان كان لا عن دليل ، وحينئذ فالحكم بالكراهة ـ فيما تعارضت فيه أدلة
الطهارة والنجاسة مع رجحان الأول ـ متجه.
ويلحق بالمسلم ـ في الطهارة والنجاسة عند الأصحاب ـ من
بحكمه من الطفل المتولد منه ، ومسبيه والمجنون ، ولقيط دار الإسلام ، ومثله لقيط
دار الكفر إذا أمكن تولده من مسلم على قول.
(المورد الثاني) ـ سؤر الكافر ومن بحكمه. ولا خلاف بين
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسة من عدا اليهود والنصارى من أصناف الكفار ،
سواء كان كفرا أصليا أو ارتداديا ، ونجاسة سؤرهم حينئذ تابع لهم. واما اليهود
والنصارى فمحل خلاف بين الأصحاب والأخبار ، كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في
محله. والحكم في سؤرهم تابع للمترجح من الطرفين. وظاهر القائلين بالطهارة الحكم
بكراهة اسآرهم على ما نص عليه في المعالم وغيره. ولا بأس به ، لا لما ذكروه من
التفصي من خلاف من ذهب الى القول بالنجاسة ، بل من حيث ان الأخبار متعارضة فيهم
طهارة ونجاسة ، فمتى ترجح القول بالطهارة منها فلا بأس بالاحتياط بالنجاسة بحمل ما
دل على النجاسة على الاستحباب.
وبحكم الكافر طفله عند الأصحاب ، معللين ذلك بنجاسة أصله
، واستشكله في المدارك بان الدليل ان تم فإنما يدل على نجاسة الكافر المشرك
واليهود والنصارى ، والولد قبل بلوغه لا يصدق عليه شيء من ذلك. وهو جيد في الظاهر
، ويؤيده الخبر المشهور عنه (صلىاللهعليهوآله) «ان كل مولود
يولد على الفطرة ، وإنما أبواه
يهودانه أو ينصرانه» (1). فان من
الظاهر ان التهويد والتنصير إنما يثبت له مع البلوغ أو بعده ، لما يحصل له من طول
المعاشرة والممارسة معهما والانس بهما قبل ذلك ، فيؤثر فيه ويورثه الميل الى
مذهبهما واختياره. وتحقيق المسألة كما هو حقه يأتي ان شاء الله تعالى في باب
التطهير من النجاسات.
(المورد الثالث) ـ سؤر غير الآدمي من الحيوان المأكول
اللحم. ولا خلاف في طهارته لطهارة حيوانه ، إلا ان الأصحاب (رضوان الله عليهم)
حكموا بالكراهة في جملة من افراده.
فمن ذلك ـ سؤر الحيوانات الثلاثة : الخيل والبغال
والحمير الأهلية (2) ولم نقف له
على مستند ، وربما علل بان فضلات الفم التي لا تنفك عنها تابعة للجسم. وهو مجرد
دعوى خالية من الدليل.
__________________
(1) رواه المجلسي في البحار ج 2 ص 88 عن غوالي اللئالي عن
النبي (صلىاللهعليهوآله) وفي ج 15 ص 36 قال : وقال (صلىاللهعليهوآله) : «كل مولود. إلخ» وفي أصول الكافي
باب (فطرة الخلق على التوحيد) في حديث عن ابى جعفر (عليهالسلام) «قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : كل مولود يولد على الفطرة ، يعنى على
المعرفة بأن الله تعالى خالقه».
ورواه
صاحب الوسائل في الباب 48 من كتاب الجهاد عن الصادق (عليهالسلام) هكذا : «ما من مولود يولد الا
على الفطرة فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه».
ورواه
أحمد في مسنده ج 2 ص 275 عن أبي هريرة عن رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ورواه عنه ايضا مسلم في الصحيح
ج 2 ص 412 ورواه البخاري في آخر كتاب الجنائز باب (أولاد المشركين) وفي كتاب القدر
باب (الله اعلم بما كانوا عاملين) عن أبي هريرة بلفظ «ما من مولود. إلخ» ورواه ابن
حجر في مجمع الزوائد ج 7 ص 218.
(2) في التقييد بالأهلية إشارة إلى خروج الوحشية من هذه
الحيوانات ، لما نقله بعض الأصحاب من الاتفاق على انتفاء الكراهة في الوحشية ، وهو
الذي يظهر من الدليل كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى (منه رحمهالله).
ويمكن الاستدلال على ذلك بمفهوم رواية سماعة (1) قال : «سألته
هل يشرب سؤر شيء من الدواب ويتوضأ منه؟ فقال : أما الإبل والبقر والغنم فلا بأس».
وثبوت البأس بالمفهوم وان كان أعم من التحريم ، إلا ان
جملة من الأخبار لما دل على جواز الشرب والوضوء من سؤرها ، حمل البأس هنا على
الكراهة.
ومما دل على الجواز خصوص صحيحة أبي العباس (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن فضل الهرة
والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، فلم اترك شيئا إلا
سألته عنه ، فقال : لا بأس به. حتى انتهيت الى الكلب ، فقال : رجس نجس لا تتوضأ
بفضله واصبب ذلك الماء.».
ورواية معاوية بن شريح (3) قال : «سأل
عذافر أبا عبد الله (عليهالسلام) ـ وانا عنده
ـ عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه
أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم اشرب منه وتوضأ. قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس
هو سبع؟ قال : لا والله انه نجس ، لا والله انه نجس».
وصحيحة جميل بن دراج (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن سؤر
الدواب والغنم والبقر أيتوضأ منه ويشرب؟ فقال : لا بأس».
وعموم صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «لا بأس
بأن يتوضأ مما يشرب منه ما يؤكل لحمه» ومثلها موثقة عمار (6) وفيها «كل ما
__________________
(1 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب
الأسآر.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الأسآر ، وفي
الباب ـ 11 ـ من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الأسآر.
(6) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب الأسآر.
أكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب».
والحق تقديم العمل بهذه الأخبار ، لاستفاضتها وصراحتها
صحة أكثرها ، وضعف ما عارضها سندا ودلالة.
ومنها ـ سؤر الدجاج. وقد أطلق العلامة وغيره كراهة سؤرها
، وعلل بعدم انفكاك منقارها عن النجاسة غالبا ، وحكى في المعتبر عن الشيخ (رحمهالله) انه قال : «يكره
سؤر الدجاج على كل حال» ثم قال بعده : وهو حسن ان قصد المهملة ، لأنها لا تنفك عن
الاغتذاء بالنجاسة. وبه جزم في المعالم ايضا.
وأنت خبير بأن الأخبار الواردة هنا عموما وخصوصا متفقة
في نفي البأس عن ذلك وجواز الوضوء والشرب منه.
فمن الأول ـ صحيحة عبد الله بن سنان وموثقة عمار
المتقدمتان.
ومن الثاني ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «فضل
الحمامة والدجاج لا بأس به والطير».
وموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) انه «سئل عن
ماء شربت منه الدجاجة. قال : ان كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب ، وان
لم تعلم ان ان في منقارها قذرا توضأ منه واشرب ، وقال : كل ما يؤكل لحمه فليتوضأ
منه وليشربه».
ولا يخفى ان الخروج عن مدلول هذه الروايات عموما وخصوصا
ـ وحملها على مجرد نفي الحرمة بمجرد ما ذكروا من التعليل ـ لا يخلو من مجازفة ،
سيما ان الكراهة ـ كما عرفت آنفا ـ حكم شرعي ، فيتوقف ثبوته على الدليل.
وما ربما يقال ـ من ان الأمر بالاحتياط في الدين الوارد
في جملة من الأخبار
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب الأسآر.
يشمل مثل هذا ـ ففيه (أولا) ـ ما
قدمنا من ان الاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي. و (ثانيا) ـ ان المستفاد من الأخبار
الدالة على عدم السؤال والفحص عما يشترى من أسواق المسلمين ويؤخذ من أيديهم ـ والنهي
عن ذلك وان كان احتمال التحريم أو النجاسة فيه قائما ، والبناء في ذلك على ظاهر
الحل والطهارة ، عملا بسعة الحنيفية السمحة السهلة ـ عدم الاحتياط هنا.
(المورد الرابع) ـ سؤر غير الآدمي من الحيوان الغير
المأكول اللحم عدا الكلب والخنزير. وقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فذهب الفاضلان
وجمهور المتأخرين إلى طهارة سؤر كل حيوان طاهر ، ونقل ايضا عن النهاية والخلاف ،
إلا انه استثنى في النهاية سؤر آكل الجيف من الطير ، ونقل عن المرتضى وابن الجنيد
استثناء الجلال ، ونقل عن ظاهر الشيخ (رحمهالله) في كتابي
الأخبار المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه ، لكنه في الاستبصار استثنى من ذلك سؤر
الفأرة والبازي والصقر ونحوهما من الطيور. ونقل عن المبسوط انه ذهب الى عدم جواز
استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان الانسي عدا ما لا يمكن التحرز منه كالفأرة
والحية والهرة ، وجواز استعمال سؤر الطاهر من الحيوان الوحشي طيرا كان أو غيره ،
حكاه عنه المحقق في المعتبر. ونقل في المختلف عن ابن إدريس انه حكم بنجاسة سؤر ما
لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر من غير الطير مما يمكن التحرز عنه. والأظهر من هذه
الأقوال هو القول الأول ومحل الخلاف هنا في مواضع أربعة :
(أحدها) ـ الجلال ، وقد عرفت ان المرتضى وابن الجنيد استثنياه
من السؤر المباح ، وكذا نقل عن الشيخ في المبسوط. ومقتضى كلامهم الحكم بنجاسة
السؤر مع طهارة حيوانه. وقد اعترف جمع ممن تقدمنا انهم لم يقفوا له على دليل.
وربما استدل عليه بان رطوبة أفواهها ينشأ من غذاء نجس
فيجب الحكم بالنجاسة.
ورد بمنع الملازمة ، وبالنقض ببصاق شارب الخمر إذا لم
يتغير به ، وبما لو أكل غير العذرة مما هو نجس.
أقول : ومن المحتمل قريبا ان حكم الشيخ (رحمهالله) بنجاسة
اللعاب هنا لحكمه بنجاسة العرق. إلا ان فيه ان مورد الدليل العرق خاصة ، والتعدية
قياس.
ويدل على المشهور أصالة الطهارة ، وعموم صحيحة الفضل
المتقدمة (1) وكذا رواية
أبي بصير السالفة (2)
وموثقة عمار (3) ، حيث قال فيها : «وسئل عن ماء شرب
منه باز أو صقر أو عقاب. فقال : كل شيء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا ان ترى
في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب».
وحكم جمهور الأصحاب هنا بالكراهة أيضا خروجا من خلاف
أولئك الجماعة.
وفيه ما عرفت آنفا (4) نعم يمكن الاستدلال على ذلك برواية
الوشاء عمن ذكره عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (5) «انه كان يكره
سؤر كل شيء لا يؤكل لحمه».
ومفهوم موثقة عمار المتقدمة (6) الدالة على ان
كل ما يؤكل لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب فان الظاهر ان المقام هنا قرينة على التقييد
بالوصف ، لكونه مناط الحكم. إلا انه لا يخلو ايضا من خدش.
(ثانيها) ـ آكل الجيف ، وقد عرفت ان الشيخ في النهاية
استثناه من طهارة سؤر كل حيوان طاهر وحكم بنجاسته ، والمشهور الطهارة كما تقدم.
ولم نقف للشيخ على دليل ، وبذلك اعترف جمع من الأصحاب أيضا ، وظواهر الأخبار
المتقدمة وغيرها ظاهر في العدم.
__________________
(1) في الصحيفة 427.
(2) في الصحيفة 428.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب الأسآر.
(4) في الصحيفة 424.
(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب الأسآر.
(6) في الصحيفة 428.
وقد صرح الأصحاب هنا بالكراهة أيضا لعين ما تقدم. وفيه
ما عرفت غير مرة.
وصار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) إلى الكراهة
هنا تمسكا بما قدمنا ذكره في الجلال من التمسك برواية الوشاء وموثقة عمار.
وفيه (أولا) ـ انه لا يقوم دليلا على العموم ، لعدم
جريانه فيما يؤكل لحمه.
و (ثانيا) ـ ان الحكم معلق على عدم كونه مأكول اللحم ،
ولا مدخل فيه لأكل الجيف ، وهو ظاهر.
(ثالثها) ـ ما لا يؤكل لحمه عدا ما استثني ، وقد تقدم
الإشارة إلى الخلاف فيه. ونقل عن الشيخ في الاستبصار الاستدلال عليه بقوله (عليهالسلام) في موثقة
عمار المتقدمة (1) : «كل ما يؤكل
لحمه يتوضأ من سؤره ويشرب» (2). حيث قال (قدسسره) : «هذا يدل
على ان ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضؤ به والشرب منه ، لأنه إذا شرط في استباحة
سورة ان يؤكل لحمه دل على ان ما عداه بخلافه ، وهذا يجري مجرى قول النبي (صلىاللهعليهوآله) في سائمة
الغنم الزكاة. في انه يدل على ان المعلوفة ليس فيها زكاة».
أقول : ويدل على الاستثناء الذي ذكره (طاب ثراه) موثقة
عمار بن موسى الأخيرة (3) الدالة على
حكم الطير ، ورواية إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) «ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول :
لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب الأسآر.
(2) الاستدلال بهذه الموثقة على ذلك موجود في التهذيب ايضا ،
والعبارة التي ينقلها هي عبارة التهذيب ص 63 ، وليست هذه العبارة في الاستبصار عند
تعرضه للموثقة ص 25 من طبع النجف.
(3) المتقدمة في الصحيفة 430.
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الأسآر.
أن يشرب منه ويتوضأ منه». وغيرهما مما
تضمن نفي البأس عن تلك الأشياء التي استثناها عموما أو خصوصا.
ورد هذا القول (أولا) ـ بابتنائه على حجية مفهوم الوصف.
والأصح عدم حجيته و (ثانيا) ـ باشتمال سند الرواية على جملة من الفطحية.
و (ثالثا) ـ بالمعارضة بما هو أكثر عددا وأصح سندا ، وقد
تقدم من ذلك شطر فيما قدمنا من الأخبار.
ومن أظهر الأدلة التمسك بأصالة الطهارة عموما وخصوصا ،
فإنها أقوى دليل في الباب وان غفل عن الاستدلال بذلك الأصحاب.
وقد حكم جمهور الأصحاب هنا بالكراهة أيضا تفصيا من
الخلاف. ولا بأس به ، لكن لا لما ذكروا ، بل لما عرفت من دلالة رواية الوشاء
المتقدمة (1).
(رابعها) ـ المسوخ. وقد حكي عن ابن الجنيد انه استثنى
المسوخ من الحكم بطهارة سؤر ما لا يؤكل لحمه ، وذكر في المعالم ان كلامه محتمل
لنجاستها ، أو نجاسة لعابها وحده ، كما نقل التصريح به عن بعض الأصحاب. ونقل
المحقق في المعتبر عن الشيخ القول بنجاستها ، ونسب هذا القول في المختلف الى سلار وابن
حمزة أيضا. وكلام سلار في رسالته كالصريح في نجاسة اللعاب ومحتمل لنجاسة العين
والمشهور بين الأصحاب الطهارة على كراهية. والحكم بالكراهة عندهم جار على نحو ما
تقدم. ومما يدل على الطهارة عموم الأخبار المتقدمة كصحيحة الفضل (2) ونحوها.
(المورد الخامس) ـ سؤر نجس العين من الحيوان غير المأكول
اللحم وغير الآدمي ، وهو الكلب والخنزير. ولا خلاف نصا وفتوى في نجاسته لنجاسة
أصله.
__________________
(1) في الصحيفة 430.
(2) المتقدمة في الصحيفة 427.
فذلكة (1)
المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارة فم الهرة
بمجرد زوال عين النجاسة سواء غابت عن العين أم لا ، صرح بذلك الشيخ والمحقق
والعلامة وغيرهم ، وألحق جملة من المتأخرين بها كل حيوان غير الآدمي ، واستحسنه
السيد السند في المدارك. وقيل بالنجاسة ، لأصالة البقاء عليها. وقيل بالطهارة
بالغيبة ، ذهب إليه العلامة في النهاية ، قال : «لو نجس فم الهرة بسبب كأكل الفأرة
وشبهه ، ثم ولغت في ماء قليل ونحن نتيقن نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ، لأنه ماء
قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ لا عن الولوغ بعد تيقن نجاسة
الفم ، ولو غابت عن العين واحتمل ولوغها في ماء كثير أو جار ، لم ينجس ، لأن
الإناء معلوم الطهارة فلا يحكم بنجاسته بالشك» انتهى.
وتمسك الأولون بالأخبار الواردة بنفي البأس عن سؤر الهرة
، وجواز الوضوء والشرب منه ، بناء على ان الهرة لا ينفك فمها عن النجاسة غالبا.
ومن الأخبار في ذلك
صحيحة زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «في
كتاب علي : ان الهر سبع ولا بأس بسؤره ، واني لأستحيي من الله ان ادع طعاما لان
الهر أكل منه».
ورواية أبي الصباح عنه (عليهالسلام) (3) قال : «كان
علي (عليهالسلام) يقول : لا
تدع فضل السنور أن تتوضأ منه ، انما هي سبع». وغيرهما.
قال في كتاب المعالم بعد الاستدلال على ذلك بنحو ما
ذكرنا : «ولو فرضنا
__________________
(1) في القاموس فذلك حسابه أنهاه وفرغ منه. وهذه اللفظة كثيرا
ما يستعملها المصنفون في مثل هذا الموضع ، وكان المراد بها الإشارة الى ان ما يذكر
فيها نهاية وآخر البحث المتقدم (منه رحمهالله).
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب الأسآر.
عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب
ان الحكم بتوقف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفي قطعا ، والواسطة
بين ذلك وبين زوال العين يتوقف على الدليل. ولا دليل» انتهى. وحاصله يرجع الى ما
أشرنا إليه غير مرة وحققناه في المقدمة الحادية عشرة (1) من جواز
التمسك بالبراءة الأصلية فيما تعم به البلوى من الأحكام بعد الفحص عن الدليل وعدم
الوقوف عليه. وهو هنا كذلك ، فان عدم وجود دليل على التكليف بإزالة النجاسة في مثل
ذلك مع عموم البلوى بذلك دليل على عدم التكليف بذلك وحصول البراءة منه ، وليس بعد
ذلك إلا الحكم بالطهارة بمجرد زوال عين النجاسة.
واما القول بالتوقف على الغيبة فلا دليل عليه ، كما أشار
إليه بقوله : «والواسطة بين ذلك. إلخ» (2).
واستدل في المدارك على إلحاق غير الهرة من الحيوانات بها
بالأصل وعدم ثبوت التعبد بغسل النجاسة عنه.
(أقول) : والاحتجاج بالأصل هنا لا يخلو من ضعف ، فان
عروض النجاسة أوجب الخروج عن حكمه ، فلا يسوغ التمسك به. واما الثاني فجيد كما
أشرنا إليه هذا بالنسبة الى غير الآدمي.
واما الآدمي فهل يحكم بطهارته بمجرد غيبته زمانا يمكن
فيه إزالة النجاسة أو مع تلبسه بما هو مشروط بالطهارة عنده ، أو حتى يعلم إزالة
النجاسة؟ أقوال ، ظاهر
__________________
(1) في الصحيفة 155.
(2) وتوضيحه انه اما ان يكتفى في طهر فمها بمجرد زوال العين
كالبواطن أو يعتبر فيها ما يعتبر في تطهير المتنجسات من الطرق المعهودة شرعا ،
فعلى الأول لا حاجة الى غيبتها ، وعلى الثاني فلا يكتفى بمجرد الاحتمال لا سيما مع
بعده ، لان يقين النجاسة لا يزيله إلا يقين الطهارة ، والواسطة غير معقولة (منه رحمهالله).
المشهور الأخير ، وبالأول صرح جملة من
المتأخرين ، لكنهم بين مطلق لذلك كما تقدم ، وبين مقيد بشرط علمه بالنجاسة وأهليته
للإزالة بكونه مكلفا عالما بوجوب الإزالة عليه ، والى الثاني مال السيد السند في
المدارك على تردد فيه بعد ان نقل القول الأول واستشكله. والعجب منه (قدسسره) في ذلك ، فان
دليله على طهارة الحيوان غير الآدمي جار هنا بعينه ، فإنه لم يثبت ايضا التعبد
بالعلم بزوال النجاسة عن ثوب الغير وبدنه. واما ما اختاره (طاب ثراه) من اشتراط
التلبس بمشروط بالطهارة عنده ، فيشكل الأمر فيه ايضا بجواز نسيانه ، ولعل ذلك هو
وجه التردد الذي ذكره.
ولعل أرجح هذه الأقوال هو الأول ، تمسكا بأصالة البراءة التي أشرنا إليها ، فإن الحكم مما تعم به البلوى ، ولو لم يكن مجرد الغيبة كافيا في الطهارة ، لورد فيه أثر عنهم (عليهمالسلام) ولبلغنا ذلك ، ولامتنع الاقتداء بإمام الجماعة حتى يسأله ، لأن عروض النجاسة له بالبول والغائط أمر متيقن ، وعروض النسيان له ممكن. وبطلانه أظهر من ان يحتاج الى البيان ، ولا شكل الحال في الحكم بطهارة سائر الناس ممن لم تعلم عدالته مع معلومية الحدث منهم كما ذكرنا ، فلا يحكم بطهارتهم وان أخبروا بذلك ، مع ان المعلوم من الشرع خلافه ، لدلالة الاخبار واتفاق الأصحاب على قبول قول المسلم في ذلك.