ج1 - في الماء المستعمل
ختام مستطاب يشتمل على مقامين تتمة للباب
والمراد منه هنا ما يكون مستعملا في إزالة حدث أو خبث أو
مطلقا ، والأول اما في حدث أصغر أو أكبر ، والثاني اما في الاستنجاء أو غيره من
الأخباث ، والثالث غسالة ماء الحمام ، فالكلام هنا يقع في مسائل خمس :
(المسألة الاولى) ـ في مستعمل الحدث الأصغر. ولا خلاف
بين أصحابنا (قدس الله أرواحهم ونور أشباحهم) في طهارته وطهوريته ، حكاه غير واحد
منهم.
ويدل ايضا على الأول أصالة الطهارة عموما وخصوصا.
وعلى الثاني عموم الأخبار الدالة على استعمال الماء
المطلق في رفع الحدث.
وهذا ماء مطلق.
وخصوص رواية عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «لا بأس
بأن يتوضأ بالماء المستعمل. وقال : الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من
الجنابة لا يجوز ان يتوضأ به وأشباهه. واما الماء الذي يتوضأ به الرجل فيغسل به
وجهه ويده في شيء نظيف ، فلا بأس ان يأخذه غيره ويتوضأ به».
ورواية زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «كان
النبي (صلىاللهعليهوآله) إذا توضأ أخذ
ما يسقط من وضوئه فيتوضؤون به».
ونقل عن أبي حنيفة الحكم بنجاسته نجاسة مغلظة ، حتى انه
إذا أصاب الثوب أكثر من درهم منع أداء الصلاة (3) ولعله حق في حقه. نعم نقل شيخنا
الشهيد
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(3) قال ابن حزم في المحلى ج 1 ص 185 : «عند أبي حنيفة لا يجوز
الغسل ولا الوضوء بما قد توضأ به أو اغتسل به ويكره شربه ، وروى انه طاهر ،
والأظهر عنه انه نجس وانه لا ينجس الثوب إذا اصابه الماء المستعمل الا ان يكون
كثيرا فاحشا ، الى ان قال : وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إذا توضأ الرجل وهو طاهر
من بئر فقد تنجس ماؤها وتنزح كلها ، ولا يجزيه ذلك الوضوء ان كان غير متوضئ ،
وكذلك ان اغتسل فيها نجسها كلها ولو اغتسل في سبعة آبار نجسها كلها» وقال ابن نجيم
الحنفي في البحر الرائق ج 1 ص 94 تحت عنوان «الماء المستعمل في رفع الحدث» : «اختلفت
الرواية عن أبي حنيفة ، فروى محمد عنه انه طاهر غير مطهر ، وروى أبو يوسف عنه انه
نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسن بن زياد عنه انه نجس نجاسة غليظة ، والمشهور عنه عدم
التفصيل بين المحدث والجنب ، وفي التنجيس استثنى الجنب لعموم البلوى في المحدث
لعدم صون الثياب في الوضوء وإمكان صونها في الجنب» وقال ابن قدامة في المغني ج 1 ص
18 : «المستعمل في رفع الحدث طاهر غير مطهر لا يرفع حدثا ولا يزيل خبثا ، قال به
الليث والأوزاعي والمشهور عن أبي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك وظاهر مذهب
الشافعي ، وعن أحمد في رواية انه طاهر مطهر ، وقال به الحسن وعطاء والنخعي والزهري
ومكحول وأهل الظاهر ، والرواية الثانية لمالك ، والقول الثاني للشافعي».
في الدروس عن الشيخ المفيد انه استحب
التنزه عنه ، وظاهر كلامه في المقنعة ربما أشعر أيضا باستحباب التنزه عن ماء
الأغسال المستحبة بل والغسل المستحب كغسل اليد للأكل. ولم نقف له على دليل من
الاخبار بل ولا من الاعتبار ، بل ربما دلت رواية زرارة المتقدمة على خلافه. الا
انه يحتمل قريبا الاختصاص به (صلىاللهعليهوآله) للتبرك
والشرف.
والمفهوم من كلام شيخنا البهائي (طاب ثراه) في كتاب
الحبل المتين الاستدلال له بما رواه في الكافي (1) عن محمد بن علي بن جعفر عن الرضا (عليهالسلام) قال : «من
اغتسل من الماء الذي قد اغتسل فيه فاصابه الجذام فلا يلومن إلا نفسه». حيث قال (قدسسره) بعد إيراد
الخبر المذكور : «وإطلاق الغسل في هذا يشمل الغسل الواجب والمندوب. وفي كلام
المفيد (طاب ثراه) في المقنعة تصريح بأفضلية اجتناب الغسل والوضوء بما استعمل في
طهارة مندوبة ، ولعل مستنده هذا الحديث ، وأكثرهم لم يتنبهوا له» انتهى. وفيه انه
وان سلم ذلك ظاهرا بالنسبة الى ما نقله من الخبر إلا ان عجز الرواية المذكورة يدل
على ان مورد الخبر المشار اليه إنما هو ماء الحمام ، حيث قال في تتمة الرواية : «فقلت
: ان أهل المدينة يقولون : ان فيه شفاء من العين. فقال : كذبوا ، يغتسل فيه الجنب
من الحرام والزاني والناصب الذي هو شرهما
__________________
(1) في ج 2 ص 220 ، ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ 11 ـ من
أبواب الماء المضاف والمستعمل.
وكل من خلق الله ثم يكون فيه شفاء من
العين» وهذا هو أحد العيوب المترتبة على تقطيع الحديث وفصل بعضه عن بعض ، فإنه
بذلك ربما تخفى القرائن المفيدة للحكم كما هنا ، وسيأتي لك كثير من نظائره ان شاء
الله تعالى. وحينئذ فظاهر الخبر كراهة الاغتسال من ذلك الماء من حيث كونه ماء
الحمام الذي يغتسل منه هؤلاء المعدودون ، وهو لا يقتضي كراهة مستعمل الأغسال
مطلقا. وكيف كان فهو مقصور على الغسل ولا دلالة له على كراهة مستعمل الوضوء ،
والمدعى أعم من ذلك كما عرفت.
(المسألة الثانية) ـ في مستعمل الحدث الأكبر. والظاهر
انه لا خلاف بينهم (رضوان الله عليهم) في طهارة المستعمل في الأغسال المسنونة
وطهوريته ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وقد تقدم النقل عن الشيخ المفيد (رضياللهعنه) بالكراهة.
واما مستعمل الأغسال الواجبة فلا خلاف في طهارته ايضا ،
ويدل عليه أصالة الطهارة عموما وخصوصا ، وان التنجيس حكم شرعي ، وهو موقوف على
الدليل ، وليس فليس. وتدل على ذلك أخبار مستفيضة :
(منها) ـ صحيحة الفضيل بن يسار (1) قال : «سئل
أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الجنب
يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء. فقال : لا بأس ، هذا مما قال الله : ما جعل
عليكم في الدين من حرج (2)».
ولا خلاف أيضا في تطهيره من الخبث كما سيأتي بيانه ان
شاء الله تعالى. وانما الخلاف في التطهير به من الحدث ثانيا ، فالمشهور بين
المتأخرين هو الجواز ونقل عن الشيخين والصدوقين المنع ، وأسنده في الخلاف الى أكثر
أصحابنا ، وهو
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) سورة الحج الآية 78.
مؤذن بشهرته في الصدر الأول ، ويظهر
من المحقق في كتبه الثلاثة التوقف في ذلك ، حيث نسب المنع في المعتبر إلى الأولوية
، وجعل وجهه التفصي من الخلاف والأخذ بالأحوط ، وفي الشرائع علله ايضا بالاحتياط.
وفي المختصر اقتصر على نقل القولين ناسبا المنع إلى الرواية.
والذي يدل على المنع أخبار عديدة : منها ـ رواية عبد
الله بن سنان السالفة (1)
وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «سألته
عن ماء الحمام. فقال : ادخله بإزار ، ولا تغتسل من ماء آخر إلا ان يكون فيه جنب ،
أو يكثر أهله فلا تدري فيهم جنب أم لا».
ورواية حمزة بن احمد عن ابي الحسن (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
أو سأله غيري عن الحمام. قال : ادخله بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي
يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا
أهل البيت ، وهو شرهم».
وصحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) «وسئل عن الماء
تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. قال : إذا كان الماء قدر كر لم
ينجسه شيء».
هذا ما حضرني من الأخبار التي تصلح ان تكون مستندا لهذا
القول.
واحتج المانع أيضا بأن الماء المستعمل في غسل الجنابة
مشكوك فيه ، فلا يحصل باستعماله يقين البراءة.
والذي يدل على الجواز ما تقدم في المسألة الاولى من عموم
الأدلة الدالة على استعمال
__________________
(1) في الصحيفة 436.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق.
المطلق في رفع الحدث من الآيات (1) والروايات ،
وهذا ماء مطلق.
وخصوص صحيحة علي بن جعفر عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة؟
إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق ،
الى ان قال (عليهالسلام) : فان كان في
مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فان ذلك
يجزيه».
ويدل على ذلك أيضا الأخبار المشار إليها آنفا في
الاستدلال على أصل الطهارة ، فإنها قد اشتركت في الدلالة على نفي البأس عما ينتضح
من جسد الجنب في الإناء حال غسله.
وتفصيل القول في هذه المسألة ان يقال : ان دلالة صحيحة
علي بن جعفر على الجواز لا تخلو من اشكال ، لإمكان حملها على الضرورة كما يقتضيه
سياق الخبر ، وعلى ذلك حملها الشيخ (رضياللهعنه) في كتابي
الأخبار. وهو جيد ، لما قلنا. وربما يفهم منه ان مذهبه حينئذ جواز الاستعمال في
الضرورة ، إلا انه لم ينقل ذلك قولا عنه في المسألة. والتحقيق ان مجرد جمعه بين
الأخبار بالوجوه القريبة أو البعيدة لا يوجب كون ذلك مذهبا له ، كما قدمنا الإشارة
إليه في مقدمات الكتاب (3) إذ ليس غرضه
ثمة إلا مجرد رفع التنافي بينها ردا على من زعمه ، حتى أوجب خروجه عن المذهب كما
أشار إليه في التهذيب (4) واما الأخبار
الدالة على نفي البأس عما ينتضح
__________________
(1) ومنها قوله تعالى : «فَلَمْ
تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا» حيث علق التيمم على عدم وجود الماء ، فينتفى مع وجوده ، وهو صادق
على ما نحن فيه ، فلا يسوغ التيمم مع وجود هذا الماء ، ونحو ذلك من العمومات (منه رحمهالله).
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(3) في الصحيفة 90.
(4) في الصحيفة 2 من الجزء الأول.
من بدن الجنب فسيأتي ما فيها. وحينئذ
فلم يبق إلا الدليل الأول ، فلقائل أن يقول : ان عموم تلك الأدلة مخصوص بالأخبار
المذكورة كما هو القاعدة المطردة. إلا ان ذلك فرع سلامة هذه الاخبار من الطعن ،
وهي غير سالمة.
أما الخبر الأول (1) فضعيف السند باشتماله على احمد بن
هلال الذي حاله في الضعف أشهر من ان يذكر ، واحتمال الحمل على وجود النجاسة في بدن
الجنب ، بل الظاهر رجحانه كما سيأتي بيانه.
واما الثاني (2) ففيه (أولا) ـ انه معارض بصحيحة محمد
بن مسلم أيضا الأخرى (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الحمام
يغتسل فيه الجنب وغيره ، اغتسل من مائه؟ قال : نعم لا بأس ان يغتسل منه الجنب».
ورواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «قلت : أخبرني
عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال : ان ماء
الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا».
إلا انه يمكن حمل هذين الخبرين على ما له مادة أو كان
كثيرا ، ويخص الأول بما ليس كذلك كما نقل عن الشيخ الجمع به بين صحيحتي محمد بن
مسلم ، وحينئذ تبقى الصحيحة الأولى سالمة من المعارض.
و (ثانيا) ـ تضمنه للتعويل على الشك والاحتمال في المنع
في مقابلة يقين
__________________
(1) وهو خبر عبد الله بن سنان المتقدم في الصحيفة 436.
(2) وهو صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الصحيفة 439.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء المطلق
، والباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء المطلق.
الطهارة الثابت بالأصل ، وهو خلاف
القواعد الشرعية المتفق عليها (1) فلا بد من الخروج عن ظاهره الى الحمل
على الكراهة ومرجوحية الاستعمال. إلا انه يمكن تطرق النظر الى هذا الوجه أيضا بأن
يقال : ان هذا مخصوص بصورة الشك بوجود الجنب ، والخروج فيه ـ عن الظاهر باعتبار ما
ذكر من المعارض ـ متجه. لكن يبقى الكلام في صورة العلم بوجود الجنب ، كما هو أحد
الأمرين المذكورين في الخبر ، والخروج عن الظاهر ثمة لمعارض لا يستلزم الخروج عنه
فيما لا معارض فيه ، غاية الأمر أنه يراد من الخبر الحقيقة والمجاز باعتبارين ،
ولا نكير فيه.
وما أجاب به في المعالم عن ذلك ـ حيث قال : «ان هذا تكلف
، والتعلق بهذا التكلف إنما يتوجه لو كانت الرواية ظاهرة في المدعى من غير هذا
الوجه. والأمر على خلاف ذلك.
(اما أولا) ـ فلان عدم الاغتسال من ماء الحمام مع مباشرة
الجنب له إنما أفاده فيها استثناؤه من النهي عن الاغتسال بماء آخر ، وهو أعم من
الأمر به ، إذ يكفي في رفع النهي الإباحة.
و (اما ثانيا) ـ فلان الاغتسال فيها مطلق بحيث يصلح
لإرادة رفع الحدث وازالة الخبث ، وستعلم ان المانعين من رفع الحدث به قائلون بجواز
استعماله في إزالة الخبث ، فلا بد من التأويل بالنظر اليه ، فتضعف الدلالة ، ويشكل
الخروج عن ظواهر العمومات بمجرد ذلك» انتهى ـ مخدوش بوجهيه.
__________________
(1) فإنه تضمن المنع من استعمال ماء الحمام إذا كثر الناس فيه
واحتمل وجود الجنب فيهم ، والاتفاق واقع على ان الشك في حصول المقتضى واحتماله غير
موجب للمنع فلا بد من صرفه عن ظاهره. ومما يدل ايضا من الاخبار على ما ذكرنا في
خصوص هذا المقام مضمرة أبي الحسن الهاشمي قال سئل عن الرجال يقومون على الحوض في
الحمام لا أعرف اليهودي من النصراني ولا الجنب من غير الجنب؟ قال : تغتسل منه ولا
تغتسل من ماء آخر ، فإنه طهور (منه قدسسره).
(اما أولهما) ـ فلما تقرر من أن الاستثناء يقتضي ثبوت
الحكم للمستثنى إثباتا ونفيا على عكس ما ثبت للمستثنى منه ، ولذا عرف نجم الأئمة
في شرح الكافية المستثنى بأنه المذكور بعد (إلا) وأخواتها مخالفا لما قبلها نفيا
وإثباتا ، وحينئذ فإذا قيل : لا تضرب أحدا إلا زيدا. فهم منه انه مريد لضرب زيد
وآمر به لا انه أعم من الأمر بضربة وعدمه ، وكذا قوله (عليهالسلام) (1) : «اقتلوا
المشركين إلا أهل الذمة». مفيد للنهي عن قتل أهل الذمة لا انه للأعم منه ومن عدمه
، ولو تم ما ذكره لا طرد في جميع صور الاستثناء ، فلا يثبت للمستثنى بمجرد
الاستثناء حكم على الخصوص ، بل لا بد معه من التصريح ، فلو قال : لزيد علي عشرة
إلا ثلاثة. لم يفد نفي الثلاثة عنه بطريق اليقين ، بل لا بد في نفيها جزما من أمر
زائد على الاستثناء وهو ظاهر البطلان. وبذلك يظهر لك ان قوله (عليهالسلام) في الخبر
المذكور : «ولا تغتسل من ماء آخر إلا ان يكون فيه جنب.». دال على الأمر بالاغتسال
من الماء الآخر مع وجود الجنب لا لمجرد إباحة الآخر وعدم النهى عنه.
و (اما ثانيهما) ـ فلان الاغتسال شرعا وعرفا مخصوص بغير
ازالة الخبث ، إذ إنما يطلق عليها الغسل لا الاغتسال (2).
__________________
(1) لم نعثر على هذا الحديث بعد الفحص عنه في مظانه ، والذي
وجدناه في الوسائل في الباب 18 من كتاب الجهاد عن النبي (صلىاللهعليهوآله) انه قال : «اقتلوا المشركين واستحيوا
شيوخهم وصبيانهم» ..
(2) وحاصل كلامه ان الاستثناء عبارة عن رفع الحكم السابق ،
والحكم السابق هنا هو النهى عن الاغتسال بماء آخر ، ورفعه هو عدم النهى عن ذلك ،
وعدم النهي أعم من الأمر ، فيرجع الى الإباحة. وفيه ان الاستثناء إنما هو إثبات
نقيض ما ثبت للمستثنى منه من الحكم ، كما عرفته من تعريف نجم الأئمة. وايضا على
تقدير ما ذكره فرفع الحكم السابق لا يتحقق الا بوجود نقيضه وإثباته للمستثنى ،
لانه مع ارادة العموم كما زعمه المحتمل لجواز ان يثبت للمستثنى ما ثبت أولا
للمستثنى منه لا يحصل رفع الحكم السابق كما لا يخفى (منه قدسسره).
والتحقيق ان الأظهر في الجواب هو الحمل على وجود النجاسة
في بدن الجنب ، حملا على الغالب المتكرر من تأخيرها إلى وقت الغسل. وعلى ذلك ايضا
يحمل الخبر الثالث والرابع (1) والى ذلك أشار
أيضا في المعالم ، حيث قال : «ولعل الأخبار الواردة بالنهي عن استعمال ما يغتسل به
الجنب ناظرة الى ما هو الغالب من عدم انفكاكه من بقايا آثار المني» انتهى.
بل نقول : ان المستفاد من الأخبار الواردة في بيان كيفية
غسل الجنابة حمل الجنب في الأخبار ـ حيث يطلق ـ على من كان كذلك ، وان لم يكن كليا
فلا أقل ان يكون غالبا.
ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «سألته
عن غسل الجنابة. قال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ، ثم تغسل فرجك ، ثم تصب الماء على
رأسك. الحديث».
وصحيحة زرارة (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غسل
الجنابة. فقال : تبدأ فتغسل كفيك ، ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك. الحديث».
وصحيحة ابن ابي نصر (4) قال : «سألت الرضا (عليهالسلام) عن غسل
الجنابة. فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول
ثم تدخل يدك في الإناء ، ثم اغسل ما أصابك منه. الحديث». الى غير ذلك من الأخبار
المستفيضة بذلك ، فمن أحب الوقوف عليها فليرجع الى مظانها.
__________________
(1) وهما رواية حمزة بن احمد وصحيحة محمد بن مسلم المتضمنة
لعدم نجاسة الكر المتقدمتان في الصحيفة 439.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 26 ـ من أبواب الجنابة.
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 26 و 34 من أبواب الجنابة.
وجه الدلالة ان اشتمال اجوبتهم (عليهمالسلام) عن بيان
كيفية غسل الجنابة على إزالة المني يشعر بان له مدخلا في الكيفية ، وما ذلك إلا
بناء على ما قلنا من انه لما كان الغالب تأخير إزالة المني إلى حين ارادة الاغتسال
أدرجه في الكيفية. والأحكام في الاخبار ـ كما ذكرنا في غير مقام ـ إنما تبنى على
ما هو الغالب المتكرر ، ألا ترى ان أحد سببي الجنابة الموجب للغسل ايضا الإيلاج
خاصة ، مع ان الأخبار الواردة في بيان الكيفية إنما خرجت بناء على السبب الآخر
الذي هو الانزال ، وما ذاك الا بناء على ما ذكرنا ، وحينئذ فحيث يطلق الجنب في
أخبارهم (عليهمالسلام) يحمل على من
كان كذلك إلا مع قيام القرينة المخرجة. وبهذا التحقيق في المقام يحصل المخرج من
المضيق في جملة من الأحكام : منها ـ اخبار هذا الموضع ، ومنها ـ الأخبار الواردة
بنزح سبع دلاء لاغتسال الجنب في البئر ، فإنه مع عدم النجاسة في بدنه لا يظهر
للنزح ـ واجبا أو مستحبا ـ وجه حسن في ذلك المجال. وما تكلفه جملة من أصحابنا لدفع
ذلك لا يخلو من تمحل وإشكال ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع
للاخبار.
وعلى هذا فتكون الأخبار التي أشرنا إليها آنفا ـ مما دل
على نفي البأس عما ينتضح من الجنب حال اغتساله ـ محمولة على الاستثناء من نجاسة
القليل دفعا للحرج ، كما يشير اليه الاستشهاد بالآية في صحيحة الفضيل (1) المتقدمة (2).
__________________
(1) فإن ظاهر الاستشهاد بالآية المذكورة حصول الحرج لو منع من
استعمال ذلك الماء الذي انتضح فيه من غسل الجنب ، ومن المعلوم انه لو كان طاهرا
فلا منع ولا حرج في ذلك فإنه متى كان بدن الجنب طاهرا والأرض التي يغتسل عليها
طاهرة فالمنتضح منها باق على أصله الطهارة كسائر المواضع الملاقية للماء الطاهر ،
فأي نكتة تترتب على إيراد الآية هنا؟ بل إنما يتجه إيرادها على تقدير نجاسة الأرض
أو بدن الجنب ، إذ موردها كون ذلك رخصة وتخفيفا ، ومن شأن الرخص ورودها في
المقامات المقتضية للمنع. ويؤيد ذلك ويوضحه رواية عمر بن يزيد المذكورة ، فان نفى
البأس عما ينزو من الأرض التي يبال عليها صريح فيما ذكرناه. والله العالم (منه رحمهالله).
(2) في الصحيفة 438.
وأصرح منها دلالة على الاستثناء المذكور رواية عمر بن
يزيد (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : اغتسل في
مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة ، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال : لا
بأس به».
وينبغي التنبيه على فوائد :
(الأولى) ـ ان الماء المستعمل الذي يتعلق به البحث هل هو
عبارة عن البقية بعد الاستعمال ـ سواء كان بعد تمام الاستعمال أو في أثنائه ـ أو
عبارة عما ينفصل عن البدن ولو تتقاطر وترشح ، أو يخص بما كان له قدر يعتد به فلا
يدخل فيه التقاطر ونحوه.
الظاهر انه لا خلاف في خروج الأول وجواز رفع الحدث به ،
ويدل عليه الأخبار المتضمنة لاغتساله (صلىاللهعليهوآله) مع عائشة من
إناء واحد ، ومنها صحيحة زرارة (2) وفيها «فضرب بيده في الماء قبلها
فأنقى فرجه ، ثم ضربت هي فأنقت فرجها. ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا.
الحديث». قال في الفقيه (3). «ولا بأس بأن
يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد ، ولكن تغتسل بفضله ولا يغتسل بفضلها».
واما الثاني فالذي يظهر من المنتهى انه محل البحث ، إلا
ان الظاهر من كلام الصدوق (رحمهالله) خلافه. لانه
مع منعه التطهير بغسالة الجنب قال (4) : «وان اغتسل الجنب فنزا الماء من
الأرض فوقع في الإناء أو سال من بدنه في الإناء ، فلا بأس به» انتهى. وعلى ذلك تدل
الأخبار المستفيضة التي أشرنا إليها آنفا (5) ومما يؤيد
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب الجنابة.
(3 و 4) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
(5) وهي الأخبار الدالة على نفى البأس عما ينتضح من الجنب حال
اغتساله. المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
ذلك ان الشيخ (رضوان الله عليه) قد
روى أكثر تلك الروايات ولم يتعرض لردها ولا تأويلها بوجه ، مع كونها مخالفة لمذهبه
لو كان ذلك من محل النزاع ، وفيه إيذان بأنه ليس من محل النزاع في شيء. ومع فرض
دخوله في محل البحث فهو مردود بالاخبار المشار إليها ، لدلالتها على جواز
الاستعمال مع تساقط ماء الغسل في الإناء.
واما الثالث فالظاهر انه هو محل البحث على الخصوص.
(الثانية) ـ ينبغي ان يعلم ان موضع البحث هو الماء الذي
يغتسل به المحدث الخالي بدنه من نجاسة خبثية ، وإلا كان حكم الماء المتساقط عن
الموضع النجس حكم غسالة النجاسة ، وبذلك صرح ايضا جمع من الأصحاب. والظاهر انه
بهذا خرجت الأخبار التي استند إليها الخصم كما أشرنا إليه آنفا.
(الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف في إزالة الخبث بهذا
الماء كما مرت الإشارة اليه ، وممن نقل الإجماع على ذلك العلامة في المنتهى وابنه
فخر المحققين في الشرح.
واحتج له مع ذلك في المنتهى فقال ما لفظه : «الثالث ـ المستعمل
في غسل الجنابة يجوز إزالة النجاسة به إجماعا منا ، لإطلاقه. والمنع من رفع الحدث
به عند بعض الأصحاب لا يوجب المنع من إزالة النجاسة ، لأنهم إنما قالوه ثم لعلة لم
توجد في إزالة الخبث ، فان صحت تلك العلة ظهر الفرق وبطل الإلحاق ، وإلا حكموا
بالتساوي في الماءين كما قلناه» انتهى.
وعبارة الذكرى هنا ظاهرة في الخلاف ، حيث قال : «جوز
الشيخ والمحقق إزالة النجاسة به ، لطهارته ولبقاء قوة إزالته الخبث وان ذهب قوة
رفعه الحدث ، وقيل : لا ، لان قوته استوفيت فالتحق بالمضاف» انتهى ، ومن ثم اعترض
به بعض المتأخرين على مدعي الإجماع. وأجاب في المعالم باحتمال ان يكون المنقول عنه
في عبارة الذكرى بعض المخالفين ، كما يشعر به تعليله الواهي المنقول ثمة. وفيه ان
المعهود
من كلامه التصريح بذلك لو كان ، ثم
احتمل ايضا ان يكون هذا القول مستحدثا بعد دعوى الإجماع فلا يقدح. وفيه ما فيه.
إلا ان فيه ان الخطب هين بعد الإحاطة بما أسلفنا من ضعف أدلة المنع من رفع الحدث ،
وحينئذ فلا تكون في شك من ضعف هذا القول في هذا المكان من أي قائل كان.
(الرابعة) ـ المنقول في كتب الأصحاب (رضوان الله عليهم)
جعل محل الخلاف هو غسالة الحدث الأكبر ، حتى ان المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ بعد
ان نقل عن المنتهى الاقتصار ـ في جواز إزالة النجاسة بالمستعمل ـ على ما استعمل في
غسل الجنابة كما قدمنا من عبارته ـ حمل ذكر غسل الجنابة على التمثيل دون الحصر.
وأنت خبير بان كلام الصدوق في الفقيه صريح في التخصيص بغسالة الجنابة ، وكذا
الأخبار المنقولة دليلا للقول المذكور كما أسلفناها ، ومثله ايضا ما نقله في
المختلف عن الشيخ (رحمهالله) من الدليل ،
حيث قال : احتج الشيخ (رحمهالله) بأن الإنسان
مكلف بالطهارة بالمتيقن طهارته المقطوع على استباحة الصلاة باستعماله ، والمستعمل
في غسل الجنابة ليس كذلك ، لانه مشكوك فيه ، فلا يخرج عن العهدة باستعماله ، ولا
معنى لعدم الاجزاء إلا ذلك. وبما رواه عبد الله بن سنان ثم ساق الرواية كما قدمنا (1). ولم يحضرني
من كتب أولئك القائلين زيادة على ما ذكرت لا حقق منه الحال ، وينبغي التنبيه لمثل
ذلك. وعلى تقدير كون محل البحث على ما نقله الأصحاب من العموم فلا يخفى ان الدليل
حينئذ أخص من المدعى لما عرفت. نعم ربما يتمسك بقوله (عليهالسلام) في رواية عبد
الله بن سنان (2) التي هي أحد
أدلة ذلك القول : «وأشباهه» بعطفه على «الماء الذي يغتسل به من الجنابة». إلا ان
فيه احتمال عطفه على فاعل «يجوز» اعني قوله : «ان يتوضأ به» بمعنى انه لا يجوز
الوضوء به ولا أشباه الوضوء من سائر الاستعمالات في رفع حدث أو خبث.
__________________
(1) في الصحيفة 436.
(2) في الصحيفة 436.
(الخامسة) ـ نفى جملة من المتأخرين الخلاف عن المستعمل
في الأغسال المندوبة ونقل ذلك ايضا عن الشيخ في الخلاف ، وهو ظاهره في الاستبصار
أيضا. والظاهر انه بناء منهم على عدم رفعه الحدث ، كما هو المشهور من عدم التداخل
بين الأغسال المستحبة والواجبة وعدم رفع المستحب للحدث ، وإلا فإنه يأتي الكلام
فيه ايضا كما لا يخفى. وسيأتي ما يوضح هذه الجملة في بحث نية الوضوء ان شاء الله
تعالى.
(السادسة) ـ إذا وجب الغسل من حدث مشكوك فيه ـ كمن تيقن
الجنابة والغسل وشك في المتأخر منهما ، وواجد المني في ثوبه المختص به ، ونحوهما ـ
فهل يكون الماء مستعملا أم لا؟ اشكال نبه عليه في المنتهى ، قال : «لأنه ماء طاهر
في الأصل لم تعلم ازالة الجنابة به ، فلا يلحقه حكم المستعمل. ويمكن ان يقال انه
مستعمل ، لانه قد اغتسل به من الجنابة وان لم تكن معلومة ، الا ان الاغتسال معلوم
فيلحقه حكمه ، لأنه ماء أزال مانعا من الصلاة ، فانتقل اليه المنع كالمتيقن»
انتهى.
واستظهر بعض (1) الاحتمال الأول ، ووجهه غير ظاهر.
والأظهر عندي الثاني ، لأنه متى حكم بكونه محدثا شرعا
وممنوعا من الصلاة بدون الغسل ، ترتب على غسله ما يترتب على غسل متيقن الحدث. واما
كونه كذلك واقعا أم لا فلا يؤثر في المقام ، إذ الأحكام الشرعية ـ كما عرفت في غير
موضع ـ إنما ترتبت على الظاهر لا على نفس الأمر والواقع.
(السابعة) ـ هل يشترط في صدق الاستعمال الانفصال عن
البدن أم لا؟ المفهوم من كلام العلامة (قدسسره) ـ في النهاية
والمنتهى ـ الثاني ، قال في المنتهى : «لو اغتسل من الجنابة وبقيت في العضو لمعة
لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على العضو الى تلك اللمعة جاز ، اما على ما
اخترناه نحن فظاهر ، واما على قول
__________________
(1) هو المحقق الشيخ حسن في المعالم ، والفاضل الخراساني في
الذخيرة (منه رحمهالله).
الحنفية فكذلك (1) لأنه إنما
يكون مستعملا بانفصاله عن البدن ، الى ان قال : وليس للشيخ فيه نص ، والذي ينبغي
ان يقال على مذهبه عدم الجواز في الجنابة ، فإنه لم يشترط في المستعمل الانفصال»
انتهى.
وأنكر هذه النسبة إلى الشيخ (رحمهالله) جمع ممن تأخر
عنه ، لعدم تصريحه بذلك في كتبه المشهورة ، مع استلزام ذلك عدم الاجتزاء بإجراء
الماء في الغسل من محل الى آخر بعد تحقق مسماه. وهو بمحل من البعد بل البطلان ،
كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار الواردة في كيفية الغسل من الجنابة (2).
(الثامنة) ـ لو اجتمع كر فصاعدا من الماء المستعمل ، فهل
يزول عنه حكم الاستعمال بذلك أم لا؟ قولان ، اختار أولهما الشيخ في المبسوط والعلامة
في المنتهى ، وثانيهما المحقق في المعتبر. وتردد الشيخ في الخلاف.
احتج في المنتهى بما حاصله ان بلوغ الكر مانع من
الانفعال بالنجاسة. فمنعه من الانفعال بارتفاع الحدث أولى ، إذ لو كانت نجاسة
لكانت تقديرية. وبأنه لو اغتسل في كر لما انفعل فكذا المجتمع. ثم قال : «لا يقال :
يرد ذلك في النجاسة العينية. لأنا نقول : هناك إنما حكمنا بعدم الزوال لارتفاع قوة
الطهارة بخلاف المتنازع» انتهى.
احتج المحقق في المعتبر بان ثبوت المنع معلوم شرعا فيقف
ارتفاعه على وجود الدلالة ، قال : «وما يدعى ـ من قول الأئمة (عليهمالسلام) : «إذا بلغ
الماء كرا
__________________
(1) تقدم الكلام في قول الحنفية في التعليقة 3 في الصحيفة 436.
(2) لتصريح جملة منها «انه يصب على منكبه الأيمن مرتين وعلى
منكبه الأيسر مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه» وفي بعض «ان كان يغتسل في
مكان يسيل الماء على رجليه بعد الغسل فلا عليه ان لا يغسلهما ، وان كان يغتسل في
مكان يستنقع رجلاه في الماء فليغسلهما» (منه رحمهالله).
لم يحمل خبثا» (1). ـ لم نعرفه
ولا نقلناه عنهم ، ونحن نطالب المدعي نقل هذا اللفظ بالإسناد إليهم. اما قولهم (عليهمالسلام) : «إذا كان
الماء قدر كر لم ينجسه شيء» (2). فإنه لا
يتناول موضع النزاع ، لان هذا الماء عندنا ليس بنجس ، ولو بلغ كرا ثم وقعت فيه
نجاسة لم تنجسه. نعم لا يرتفع ما كان فيه من المنع» انتهى.
ونقل عن الشيخ في الخلاف ان منشأ التردد عنده ، من انه
ثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرا فيحتاج في جواز استعماله بعد بلوغه الى دليل ، ومن
دلالة ظاهر الآيات والأخبار على طهارة الماء ، خرج منه الناقص عن الكر بدليل فيبقى
ما عداه ، وقولهم (عليهمالسلام) : «إذا بلغ
الماء كرا لم يحمل خبثا» (3).
ولا يخفى على المنصف الخبير ان ما ذهب اليه المحقق هو
الحري بالتخيير ، قال في المعالم بعد نقل كلمات القوم في هذا المجال ، ونعم ما قال
: «والعجب ان الشيخ احتج في الخلاف ـ على عدم زوال النجاسة في المجتمع من الطاهر
والنجس ـ بأنه ماء محكوم بنجاسته ، فمن ادعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع ،
فعليه الدليل ، وليس هناك دليل فيبقى على الأصل. ولو صح الحديث الذي جعله في موضع
النزاع منشأ لاحتمال زوال المنع ، لكان دليلا على زوال النجاسة هناك ، وليس بين
الحكمين في الخلاف إلا أوراق يسيرة. والحق بناء الحكم هنا على الخلاف الواقع في
زوال النجاسة بالإتمام ، فمن حكم بالزوال هناك تأتى له الحكم هنا بطريق اولى ، ومن
لا فلا. واما التفرقة التي صار إليها الشيخ والعلامة فلا وجه لها» انتهى.
(التاسعة) ـ قال في المنتهى : «لو غسل رأسه خارجا ثم
أدخل يده في القليل
__________________
(1) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 346.
(2) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق.
(3) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 346.
ليأخذ ما يغسل به جانبه ، فالأقرب ان
الماء لا يصير مستعملا ، ولو نوى غسل يده صار مستعملا» انتهى.
وتوقف في النهاية في صورة وضع اليد ليأخذ ما يغسل به.
قال بعض فضلاء متأخري المتأخرين (1) : «وكأن وجه
التوقف انه لا دخل للقصد في غسل اليد ، بل إدخاله يده في الإناء يحسب من الغسل وان
لم يقصده ، فيصير به مستعملا. ولا يخفى ان لهذا الوجه قوة سيما إذا كان عند إدخال
اليد ذاهلا عن أنه يقصد الغسل والأخذ ، وحينئذ يقوى الاشكال. وما ذكره بعضهم ـ من
انه لا وجه لهذا التوقف ـ لا وجه له» انتهى. وأشار بقوله : «وما ذكره بعضهم. إلخ»
الى صاحب المعالم ، حيث قال بعد نقل التوقف عن النهاية : «ولا وجه له».
أقول : وما ذكره هذا الفاضل مردود من وجوه :
(أحدها) ـ ما تقدم في الفائدة الاولى من الاتفاق على
خروج مثل ذلك عن المستعمل ، كما يدل عليه أخبار غسله (صلىاللهعليهوآله) مع عائشة.
و (ثانيها) ـ ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في بحث
النية من ان المدار في تميز الأفعال بعضها عن بعض من عبادات وغيرها على القصود
والنيات.
و (ثالثها) ـ انه يأتي على قوله انه لو ارتمس في الماء
وكان جنبا ذاهلا عن قصد الغسل فضلا عن ان يكون ناويا لأخذ شيء من داخل الماء ،
فإنه يحصل له الطهارة من حدث الجنابة. ولا أظنه يلتزمه.
وبالجملة فكلامه هنا مما لا ينبغي ان يلتفت اليه ولا
يعرج في مقام التحقيق عليه.
(العاشرة) ـ لا يخفى انه كما يصدق المستعمل بالنسبة الى
ما يسيل ويتقاطر من الاغتسال ترتيبا ، كذلك يصدق بالنسبة الى ما يغتسل فيه ارتماسا
من الماء القليل
__________________
(1) هو الفاضل الخوانساري في شرح الدروس (منه رحمهالله).
من غير خلاف يعرف فيه بينهم. إلا ان
الخلاف هنا وقع في موضعين :
(أحدهما) ـ ان المرتمس إذا نوى خارج الماء سواء كان
بجميع بدنه أم لا ، فهل يحكم بصحة غسله وان كان الماء يصير مستعملا بعد إتمام غسله
، أو يصير الماء بمجرد إدخال عضو فيه بعد النية مستعملا ويكون غسله حينئذ باطلا ،
بناء على المنع من استعمال المستعمل ثانيا.
قرب في المنتهى الأول وجعله في النهاية احتمالا ، حيث
قال فيها : «لو نوى قبل تمام الانغماس اما في أول الملاقاة أو بعد غمس بعض البدن ،
احتمل ان لا يصير مستعملا ، كما لو ورد الماء على البدن ، فإنه لا يحكم بكونه
مستعملا بأول الملاقاة ، لاختصاصه بقوة الورود ، والحاجة الى رفع الحدث ، وعسر
افراد كل موضع بماء جديد. وهذا المعنى موجود سواء كان الماء واردا أو هو» انتهى.
أقول : وربما كان وجه الاحتمال الآخر هو الفرق بين الغسل
الترتيبي والارتماسي ، بأن يقال : ان عدم الحكم بكونه مستعملا في الترتيبي بأول
الملاقاة ـ لما ذكر من الضرورة ولزوم الحرج ـ لا يستلزم الحكم بذلك في الارتماسي ،
لانتفائهما فيه ، بأن ينوي بعد تمام الانغماس لئلا يلزم المحذور المذكور. إلا ان
فيه ان ما دل على جواز الارتماس من الأخبار مطلق لا تقييد فيه بكونه في الكثير أو
كون النية بعد تمام الانغماس في الماء. وما دل من الأخبار على منع استعمال
المستعمل ثانيا ـ بعد تسليمه ـ لا شمول له للصورة المذكورة حتى تقيد به تلك
الأخبار ، فيجب العمل بإطلاق تلك الأخبار ، والحكم باجزاء الارتماس على اي نحو
كان.
و (ثانيهما) ـ إذا نوى بعد تمام انغماسه في الماء فإنه
يصح غسله إجماعا ويكون الماء مستعملا ، لكن هل يكون مستعملا بالنسبة اليه والى
غيره وان لم يخرج من الماء ، أو لا يكون مستعملا بالنسبة إليه حتى يخرج من الماء
أو ينتقل الى محل آخر وان كان مستعملا بالنسبة إلى غيره بدون ذلك ، أو يكون
مستعملا بالنسبة إليه بدون ذلك ولا
يكون مستعملا بالنسبة إلى غيره إلا بذلك؟ أقوال :
(أولها) ـ صريح العلامة في المنتهى ، حيث قال : «لو
انغمس الجنب في ماء قليل ، فان نوى بعد تمام انغماسه واتصال الماء بجميع البدن
ارتفع حدثه ، لوصول الماء الطهور الى محل الحدث مع النية ، ويكون مستعملا ، وهل
يحكم بالاستعمال في حق غيره قبل انفصاله عنه؟ الوجه ذلك» انتهى.
و (ثانيها) ـ ظاهر الشهيد في الذكرى ، حيث قال : «يصير
الماء مستعملا بانفصاله عن البدن ، فلو نوى المرتمس في القليل بعد تمام الارتماس
ارتفع حدثه وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره وان لم يخرج».
وأورد عليه بان حكمه ـ بصيرورته مستعملا بالنسبة إلى
غيره قبل الخروج ـ مشكل بعد قوله أولا : ان الاستعمال يتحقق بانفصاله عن البدن ،
إذ مقتضاه توقف صيرورته مستعملا حينئذ على خروجه أو انتقاله تحت الماء الى محل آخر
غير ما ارتمس فيه.
وأجيب بأنه كان مراده اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة
إلى نفس المغتسل وان كان ظاهر عبارته العموم. ولا يخلو من بعد ، لعدم صحة تفريع «فلو
نوى» على ما قبله (1).
ولعل الأظهر في الجواب انه (قدسسره) جعل تمام
الارتماس المترتب عليه ارتفاع الحدث وصيرورة الماء مستعملا في حكم انفصال الماء عن
البدن ، فيكون مراده بانفصال الماء عن البدن المترتب عليه صيرورته مستعملا ما هو
أعم من ذلك. وبهذا المعنى
__________________
(1) لانه متى فسر قوله : «يصير الماء مستعملا. إلخ» بالمغتسل
نفسه وخص به يصير اعتبار الانفصال عن البدن بالنسبة إليه خاصة ، مع ان ما فرع عليه
من صيرورة الماء مستعملا بعد نية المرتمس بعد تمام الارتماس انما هو بالنسبة إلى
الغير ، ولا وجه للتفريع المذكور ، لتغاير محل الحكم المذكور (منه رحمهالله).
صرح شيخنا الشهيد الثاني في شرح
الإرشاد (1) والظاهر ان
تحقق الاستعمال وصدقه على الماء متفرع على رفع الحدث به في صورة الارتماس وان لم
يخرج ، إذ يصدق عليه انه ماء اغتسل به من الجنابة ، فتشمله رواية ابن سنان (2) القائلة بان
ما يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز ان يتوضأ به. ويجب بناء على العمل بها
التجنب عنه. واما التوقف على الخروج أو الانتقال فمما لا دليل عليه في حقه ولا في
حق غيره. لما ذكرناه.
و (ثالثها) ـ ظاهر العلامة في النهاية ، حيث قال : «لو
انغمس الجنب في ماء قليل ونوى ، فان نوى بعد تمام انغماسه فيه واتصال الماء بجميع
البدن ارتفع حدثه وصار مستعملا للماء ، وهل يحكم باستعماله في حق غيره قبل انفصاله؟
يحتمل ذلك ، لانه مستعمل في حقه فكذا في حق غيره. وعدمه ، لان الماء ما دام مترددا
على أعضاء المتطهر لا يحكم باستعماله. فعلى الأول لا يجوز لغيره رفع الحدث به عند
الشيخ ويجوز على الثاني» انتهى. ولا يخفى عليك ما في تعليله العدم من الوهن بما
حققناه قال في المعالم بعد نقل كلام الذكرى وكلام النهاية : «والتحقيق ان الانفصال
إنما يعتبر في صدق الاستعمال بالنظر الى المغتسل ، فما دام الماء مترددا على العضو
لا يحكم باستعماله بالنسبة اليه ، وإلا لوجب عليه افراد كل موضع من البدن بماء
جديد ، ولا ريب في بطلانه ، إذ الأخبار ناطقة بخلافه ، والبدن كله في الارتماس كالعضو
الواحد. واما بالنظر الى غير المغتسل فيصدق الاستعمال بمجرد اصابة الماء المحل
المغسول بقصد الغسل ، وحينئذ فالمتجه هنا صيرورة الماء مستعملا بالنسبة الى غير
المغتسل بمجرد النية والارتماس ، وتوقفه بالنظر اليه على الخروج أو الانتقال. وقد
حكم
__________________
(1) حيث قال : «لو ارتمس في القليل ارتفع حدثه بعد تمام
الارتماس ، لأنه في حكم الانفصال ، وصار مستعملا بالنسبة إلى غيره وان لم يخرج منه»
انتهى. (منه رحمهالله).
(2) المتقدمة في الصحيفة 436.
في المنتهى بصيرورته مستعملا بالنسبة
إليهما قبل الانفصال. والوجه ما ذكرناه» انتهى.
وفيه نظر من وجوه :
(اما أولا) ـ فلان هذا الفرق الذي ذكره بين المغتسل
وغيره اما مستفاد من كلام المانعين أو من الأدلة الواردة لهم ، وكلاهما ممنوع (اما
الأول) فلعدم تصريح أحد منهم بذلك. و (اما الثاني) فلأن المستفاد من رواية ابن
سنان (1) التي هي أصرح
أدلتهم صدق الاستعمال على هذا الماء بعد حصول رفع الحدث به ، انفصل أو لم ينفصل.
واما ما علل به عدم الاستعمال بالنسبة إلى المغتسل نفسه ـ من انه ما دام الماء
مترددا على العضو لا يحكم. إلخ ـ ففيه ان هذا انما يلزم بالنسبة إلى المغتسل
ترتيبا أو ارتماسا إذا نوى خارج الماء مثلا كما تقدمت الإشارة إليه آنفا ، لا فيما
إذا نوى بعد تمام الارتماس كما هو المفروض. وعدم الحكم بكونه مستعملا ثمة للحرج
الذي ذكره لا يستلزم ذلك في محل البحث ، لعدم العلة المذكورة.
و (اما ثانيا) ـ فلانه يرد عليه انه لو لم يخرج من الماء
مدة يوم مثلا لا يحكم باستعمال الماء بالنسبة إليه فيجوز له الوضوء أو الاغتسال
منه ، بل ولو خرج بعض بدنه ولم يخرج بتمامه. والتزامه لا يخلو من بعد.
و (اما ثالثا) ـ فلان حكمه بأن الانتقال بمنزلة الخروج ـ
في صدق الاستعمال به ـ فيه ان جميع هذا الماء اما في حكم الماء الواحد أو المياه
المتعددة ، فعلى الأول فما لم ينفصل عنه بتمامه فإنه يجري فيه الدليل الذي ذكره ،
وعلى الثاني فإنه يلزم جواز ان يتطهر به شخص آخر في موضع آخر منه وان انتقل أو خرج
ايضا ، وهو لا يقول به. نعم اعتبار الانتقال أو الخروج انما يعتبر بعد النية داخل
الماء في صدق الغسل الذي هو عبارة عن جري جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه
أو بمعاون لو كان الماء ساكنا ، وهو غير محل البحث.
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 436.
(الحادية عشرة) ـ هل يختص البحث في هذه المسألة والخلاف
فيها بما كان قليلا فقط ، أو يشمل الكثير ايضا؟
الظاهر من كلمات جمع من الأصحاب ـ تصريحا تارة وتلويحا
اخرى ـ هو الاختصاص بالقليل.
ونقل بعض فضلاء متأخري المتأخرين عن شيخنا المفيد في
المقنعة انه حكم بكراهة الارتماس في الماء الكثير الراكد. والظاهر انه ليس الوجه
فيه إلا صيرورته مستعملا يمتنع الطهارة به من الحدث ثانيا بناء على مذهبه.
والكراهة في كلام المتقدمين ـ كما هو في الأخبار ـ أعم من المعنى المصطلح.
قال شيخنا البهائي (قدسسره) في حواشي
كتاب الحبل المتين ـ بعد ان نقل في الأصل صحيحة صفوان بن مهران الجمال الدالة على
السؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، وقد تقدمت في مبحث نجاسة الماء القليل
بالملاقاة (1) وصحيحة محمد بن
إسماعيل ابن بزيع (2) قال : «كتبت
الى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقى فيه من بئر ، فيستنجي فيه
الإنسان من البول أو يغتسل فيه الجنب ، ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب : لا توضأ من
مثل هذا إلا من ضرورة إليه». ـ ما صورته : «استدلال العلامة في المختلف بالحديث
السابع والثامن يعطي ان الخلاف ليس في الماء المنفصل عن أعضاء الغسل فقط ، بل هو
جار في الكر الذي يغتسل فيه ايضا فتدبر» انتهى.
أقول : فيه ان الظاهر ان استدلال العلامة بصحيحة صفوان
إنما هو من حيث الإطلاق الشامل للأقل من كر ، ولهذا انه نقل ثمة عن الشيخ (رحمهالله) الجواب عن
الصحيحة المذكورة بالحمل على بلوغ الكر ولم يتعرض لرده. وهو ظاهر في ان الكر ليس
محل خلاف كما لا يخفى.
__________________
(1) في الصحيفة 296.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق.
واما صحيحة محمد بن إسماعيل فلا يخفى ما فيها من
الإجمال. لأن الماء المسؤول عنه وان كان السائل قد سأل عن بيان حده الذي يجوز
التوضؤ معه لكن الامام (عليهالسلام) لم يبينه له
، إلا انه بالنظر الى قيام الدليل على نجاسة الماء القليل وانه بالنسبة إلى
الطهارة حينئذ في حكم العدم ، فلا بد من الحمل على الكرية وحمل النهي عنه إلا مع
الضرورة على التنزيه ، بناء على انه يشترط في ماء الطهارة ما لا يشترط في غيره من
المزية ، وحينئذ يتم ما ذكره شيخنا البهائي (رحمهالله) بالنسبة الى
هذا الخبر.
نعم يبقى الكلام في استدلال العلامة به على الجواز ، فان
للخصم الاستدلال به على المنع وحمل الجواز هنا على الضرورة كما ينطق به لفظه ،
بعين ما تقدم (1) من حمل الشيخ
صحيحة علي بن جعفر على ذلك. وقول العلامة في المختلف ـ في بيان وجه الاستدلال بهذه
الرواية : «انه لو كان هذا الماء غير مطهر لما جاز الوضوء منه من ضرورة وغيرها» ـ مردود
بحصول الرخص في الشريعة في مواضع لا تحصى ، وليس الرخصة إلا بتجويز ما منع منه
تخفيفا وتسهيلا في بعض الموارد كما لا يخفى. إلا ان كلام الشيخ في التهذيب (2) ظاهر الإباء
لذلك ، حيث انه ـ بعد ان نقل عبارة المقنعة الدالة على انه بالاغتسال في الكثير
يخالف السنة ـ استدل عليه بالصحيحة المذكورة ، قائلا بعد نقلها : «قوله (عليهالسلام) : ـ لا توضأ
من مثل هذا إلا من ضرورة إليه ـ يدل على كراهة النزول فيه ، لانه لو لم يكن مكروها
لما قيد الوضوء والغسل منه بحال الضرورة. ثم قال : واما الذي يدل على انه لا يفسد
الماء إذا زاد على الكر ـ بنزول الجنب فيه ـ ما تقدم من الأخبار وانه إذا بلغ
الماء كرا لم ينجسه شيء» انتهى. وهو ـ كما ترى ـ صريح في عدم دخول قدر الكر في
محل الخلاف ، وعبارة المقنعة المنقولة ايضا ظاهرة الانطباق على هذا الكلام ،
فحينئذ فما توهم من نسبة الخلاف إليهما في قدر
__________________
(1) في الصحيفة 440.
(2) في الصحيفة 42.
الكر ايضا ظاهر البطلان إلا ان يعلم
تصريحهما بذلك في محل آخر. والله أعلم.
(الثانية عشرة) ـ روى الشيخ في التهذيب (1) في الصحيح عن
علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) قال : «سألته
عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة
، إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء ، وهو متفرق
، فكيف يصنع به وهو يتخوف ان يكون السباع قد شربت منه؟ فقال : إذا كانت يده نظيفة
فليأخذ كفا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفا امامه وكفا عن يمينه وكفا عن
شماله. فإن خشي ان لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده ، فان ذلك يجزيه.
وان كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه. وان كان الماء متفرقا
فقدر ان يجمعه وإلا اغتسل من هذا وهذا. فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه
لغسله فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء فيه ، فان ذلك يجزيه».
أقول : وهذا الخبر من مشكلات الأخبار ومعضلات الآثار ،
وقد تكلم فيه جملة من علمائنا الأبرار رفع الله تعالى أقدارهم في دار القرار ،
وحيث كان مما يتعلق بهذا المقام ويدخل في سلك هذا النظام رأينا بسط الكلام فيه
وإردافه بما يكشف عن باطنه وخافية.
فنقول : ان الكلام فيه يقع في مواضع :
(الأول) ـ اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ان النضح
للجوانب الأربعة في الخبر المذكور هل هو للأرض أم البدن. وعلى اي منهما فما الغرض
منه وما الحكمة فيه؟
فقيل بان محل النضح هو الأرض ، وقد اختلف في وجه الحكمة
على هذا القول.
__________________
(1) في الصحيفة 118 ، وفي الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب
الماء المضاف والمستعمل.
فظاهر الخبر المشار اليه ـ وبه صرح البعض ـ ان ذلك لدفع
النجاسة الوهمية الناشئة من تخوف شرب السباع التي من جملتها الكلاب ونحوها مع قلة
الماء. ولكن فيه ان تعداد النضح في الجهات الأربع لا يظهر له وجه ترتب على ذلك ،
إذ يكفي النضح في جهة واحدة. ولعل الأقرب كون ذلك لما ذكر مع منع رجوع الغسالة إلى
الماء ، كما يشير اليه قوله (عليهالسلام) في آخر الخبر
: «فان كان في مكان واحد وهو قليل لا يكفيه لغسله ، فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء
فيه». فإنه يشعر بكون النضح أولا لمنع رجوع الغسالة ، لكن مع قلة الماء على الوجه
المذكور لا عليه ان يغتسل ويرجع الى مكانه.
ويؤيد ذلك ويوضحه ان الذي صرح به غير هذا الخبر من
الأخبار الواردة في هذا المضمار هو ان العلة منع رجوع الغسالة.
ومنها ـ رواية ابن مسكان (1) قال : «حدثني
صاحب لي ثقة أنه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد ان يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة ،
فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء ، كيف يصنع؟ قال :
ينضح بكف بين يديه وكفا من خلفه وكفا عن يمينه وكفا عن
شماله ، ثم يغتسل».
وما رواه في المعتبر (2) والمنتهى عن جامع البزنطي عن عبد
الكريم عن محمد ابن ميسر عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «سئل
عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وهدة ، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء
، كيف يصنع؟ قال : ينضح بكف بين يديه وكف خلفه وكف عن يمينه وكف عن شماله ، ويغتسل».
وبذلك ايضا صرح شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب
من لا يحضره الفقيه (3) حيث قال : «فان
اغتسل الرجل في وهدة وخشي ان يرجع ما ينصب عنه
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء الماء
المضاف والمستعمل.
(2) في الصحيفة 22.
(3) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
الى الماء الذي يغتسل منه ، أخذ كفا
وصبه امامه وكفا عن يمينه وكفا عن يساره وكفا من خلفه ، واغتسل منه».
وقال ايضا والده (قدسسره) في رسالته
اليه : «وان اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت ان يرجع ما ينصب عنك الى المكان الذي
تغتسل فيه ، أخذت له كفا وصببته عن يمينك وكفا عن يسارك وكفا خلفك وكفا امامك ،
واغتسلت».
والخبران المنقولان مع العبارتين المذكورتين وان اشتركا
في كون العلة منع رجوع الغسالة لكنها مجملة بالنسبة إلى كون المنضوح الأرض أو
البدن.
وما ذكره في المعالم ـ من ان العبارة المحكية عن رسالة
ابن بابويه ظاهرة في الأول حيث قال فيها : أخذت له كفا. الى آخره. والضمير في قوله
: «له» عائد إلى المكان الذي يغتسل فيه ، لانه المذكور قبله في العبارة ، وليس
المراد به محل الماء كما وقع في عبارة ابنه ، حيث صرح بالعود الى الماء الذي يغتسل
منه ، وكان تركه للتصريح بذلك اتكالا على دلالة لفظ الرجوع عليه ، فالجار في قوله
: «الى المكان» متعلق ب «ينصب» وصلة «يرجع» غير مذكورة. لدلالة المقام عليها.
انتهى ـ فظني بعده ، لاحتمال كون الضمير في «له» عائدا الى ما يفهمه سوق الكلام من
خوف رجوع ما ينصب عنه ، بمعنى انك إذا خشيت ذلك أخذت لأجل دفع ما تخشاه كفا ،
ويؤيده السلامة من تقدير صلة ل «يرجع» بل صلته هو قوله : «الى المكان» غاية الأمر
انه عبر هنا عن الماء الذي يغترف منه ـ كما وقع في عبارة ابنه ـ بالمكان الذي
يغتسل فيه. وهو سهل.
وقيل بأن الحكمة فيه اجتماع أجزاء الأرض ، فيمتنع سرعة
انحدار ما ينفصل عن البدن الى الماء. ورده ابن إدريس وبالغ في رده بان استعداد
الأرض برش الجهات المذكورة موجب لسرعة نزول ماء الغسل. والظاهر ان لكل من القولين
وجها
باعتبار اختلاف الأراضي ، فإن بعضها
بالابتلال يكون قبولها لابتلاع الماء أكثر وبعضها بالعكس.
وقيل بأن الحكمة هي عدم عود ماء الغسل ، لكن لا من جهة
كونه غسالة بل من جهة النجاسة الوهمية التي في الأرض ، فالنضح إنما هو لإزالة
النجاسة الوهمية منها. والظاهر بعده ، فإنه لا إيناس في الخبر المذكور ولا في غيره
من الأخبار التي قدمناها بذلك.
وقيل بأن الحكمة إنما هي رفع ما يستقذر منه الطبع من
الكثافات بأن يأخذ من وجه الماء أربع أكف وينضح على الأرض.
صرح بذلك السيد السند صاحب المدارك في حواشي الاستبصار.
وأيده بحسنة الكاهلي (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول : إذا
أتيت ماء وفيه قلة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ، وتوضأ».
ورواية أبي بصير (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : انا نسافر
، فربما بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية فتكون فيه العذرة ويبول فيه
الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال : ان عرض في قلبك منه شيء فقل هكذا ، يعني
افرج الماء بيدك ، ثم توضأ.».
وفيه (أولا) ـ انه يكفي على هذا مطلق النضح وان كان الى
جهة واحدة ، مع ان الخبر قد تضمن تفريقه في الجهات الأربع ، ومثله الخبران
الآخران. واما النضح الى الجهات الثلاث في خبر الكاهلي فالظاهر انه عبارة عن تفريج
الماء كما في خبر ابي بصير.
و (ثانيا) ـ ان ظاهر الخبرين الذين قدمناهما ـ وكذا كلام
الصدوقين ـ كون
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق.
العلة منع رجوع الغسالة. وهذا الخبر
وان كان مجملا بالنسبة الى ذلك إلا ان الظاهر ـ كما قدمنا لك ـ ان ذلك مما استشعره
الامام (عليهالسلام) من سؤال
السائل كما يشعر به آخر الخبر ، ولا ينافي ذلك ظهور ما ادعاه في حسنة الكاهلي
ورواية أبي بصير ، فان الظاهر ان هذا حكم آخر مرتب على علة أخرى غير ما تضمنته هذه
الأخبار.
و (ثالثا) ـ ان ظاهر الخبر ـ كما أشرنا إليه آنفا ـ إنما
هو إزالة النجاسة الوهمية من الماء. وربما احتمل بعضهم بناء على ذلك ان المنضوح هو
الماء ، وأيده أيضا بحسنة الكاهلي ورواية أبي بصير. ولا يخفى بعده وان قرب احتماله
في الخبرين المذكورين.
وقيل بان محل النضح هو البدن ، وقد اختلف أيضا في وجه
الحكمة على هذا القول على أقوال :
(منها) ـ ان الحكمة في ذلك هو ترطيب البدن قبل الغسل
لئلا ينفصل عنه ماء الغسل كثيرا فلا يفي بغسله لقلة الماء.
وفيه (أولا) ـ ان ذلك وان احتمل بالنسبة الى الخبر
المذكور لكنه لا يجري في خبر ابن مسكان والخبر المنقول عن جامع البزنطي (1) لظهورهما في
كون العلة إنما هي خوف رجوع الغسالة. والظاهر ـ كما قدمنا الإشارة إليه ـ كون مورد
الأخبار الثلاثة أمرا واحدا.
و (ثانيا) ـ انه يلزم من ذلك عدم جواب الامام (عليهالسلام) في الخبر
المبحوث عنه عن استشكال السائل المتخوف من ورود السباع.
و (منها) ـ ان الحكمة ازالة توهم ورود الغسالة ، اما
بحمل ما يرد على الماء على وروده مما نضح على البدن قبل الغسل الذي ليس من الغسالة
، واما انه مع الاكتفاء
__________________
(1) المتقدمين في الصحيفة 460.
بالمسح بعد النضح لا يرجع الى الماء
شيء. ولا يخلو ايضا من المناقشة (1).
و (منها) ـ ان الحكمة في ذلك ليجري ماء الغسل على البدن
بسرعة ، ويكمل الغسل قبل وصول الغسالة الى ذلك الماء.
واعترض عليه بان سرعة جريان ماء الغسل على البدن مقتض
لسرعة تلاحق اجزاء الغسالة وتواصلها ، وهو يعين على سرعة الوصول الى الماء.
وأجيب بأن انحدار الماء عن أعالي البدن الى اسافله أسرع
من انحداره إلى الأرض المائلة إلى الانخفاض ، لانه طالب للمركز على أقرب الطرق ،
فيكون انفصاله عن البدن أسرع من اتصاله بالماء الذي يغترف منه ، هذا إذا لم تكن
المسافة بين مكان الغسل وبين الماء الذي يغترف منه قليلة جدا ، فلعله كان في كلام
السائل ما يدل على ذلك ، كذا نقل عن شيخنا البهائي (قدسسره).
(الثاني) ـ ان هذا الخبر قد اشتمل على جملة من الأحكام
المخالفة لما عليه علماؤنا الأعلام.
(منها) ـ امره (عليهالسلام) بغسل رأسه
ثلاث مرات ومسح بقية بدنه ، فإنه يدل على اجزاء المسح عن الغسل عند قلة الماء ،
وهو غير معمول عليه عند جمهور الأصحاب عدا ابن الجنيد ، فان المنقول عنه وجوب غسل
الرأس ثلاثا والاجتزاء بالدهن في بقية البدن. إلا ان اخبار الدهن الآتية ان شاء
الله تعالى في بحث الوضوء تساعده.
__________________
(1) اما التعليل الأول فلان الوارد على الماء ان علم ورئي حال
وروده فلا مجال للحمل المذكور ، وإلا فأصالة العدم كافية. واما الثاني فلان المسح
انما ذكر في الخبر على سبيل الفرض بناء على عدم كفاية الماء للغسل بعد النضح
المذكور ، كما يشير اليه قوله : «فإن خشي ان لا يكون. إلخ» وحينئذ فلا يتم ذلك (منه
قدسسره).
و (منها) ـ قوله (عليهالسلام) : «وان كان
الوضوء. إلخ». فإنه صريح في الاجتزاء بمسح اليدين عن غسلهما في الوضوء عند عوز
الماء.
و (منها) ـ قوله (عليهالسلام) : «فان كان
في مكان واحد. إلخ». فإنه يدل على ان الجنب إذا لم يجد من الماء إلا ما يكفيه لبعض
أعضائه غسل ذلك البعض به وغسل الآخر بغسالته ، وانه لا يجوز ذلك إلا مع قلة الماء
، كما يفيده مفهوم الشرط وهو مؤيد لما ذهب اليه المانعون من استعمال الغسالة
ثانيا. ومؤذن بما أشرنا إليه سابقا من ان النضح المأمور به في صدر الخبر إنما هو
للمنع من رجوع الغسالة. إلا ان الأكثر يحملون ذلك على الفضل والكمال.
(الثالث) ـ انه على تقدير جعل متعلق النضح في الخبر
المذكور الأرض ـ وان وجه الحكمة فيه هو عدم رجوع ماء الغسل الى الماء الذي يغتسل
منه ، كما هو أظهر الاحتمالات المتقدمة ، مع اعتضاده بخبري ابن مسكان ومحمد بن
ميسر المتقدمين (1) ـ يكون ظاهر
الدلالة على ما ذهب اليه المانعون من استعمال المستعمل ثانيا. وظاهر الأكثر حمل
ذلك على الاستحباب. كما صرح به العلامة في المنتهى مقربا له بحسنة الكاهلي
المتقدمة (2) ، ووجه
التقريب ان الاتفاق واقع على عدم المنع من المستعمل في الوضوء ، فالأمر بالنضح له
في الحديث محمول على الاستحباب عند الكل ، فلا يبعد ان تكون تلك الأوامر الواردة
في تلك الأخبار كذلك. وأنت خبير بأنه يأتي بناء على ما حققناه سابقا احتمال ابتناء
ذلك على ما هو الغالب من بقاء النجاسة إلى آن الغسل. إلا انه يدفعه في الخبر
المبحوث عنه قوله في آخره في صورة فرض قلة الماء : «فلا عليه ان يغتسل ويرجع الماء
فيه ، فإنه يجزيه».
(الرابع) ـ روى في كتاب الفقه الرضوي (3) قال (عليهالسلام) : «وان
__________________
(1) في الصحيفة 460.
(2) في الصحيفة 462.
(3) في الصحيفة 4.
اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت ان يرجع
ما تصب عليك ، أخذت كفا فصبت على رأسك وعلى جانبيك كفا كفا ، ثم تمسح بيدك وتدلك
بدنك».
أقول : وهذا الخبر قد ورد بنوع آخر في منع رجوع الغسالة.
وهو ان يغتسل على الكيفية المذكورة في الخبر. والظاهر تقييد ذلك بقلة الماء كما دل
عليه الخبر المبحوث عنه ، إذ الاجتزاء بالغسل المذكور ـ مع كثرة الماء وإتيانه على
الغسل الكامل ـ لا يخلو من الإشكال إلا على مذهب المانعين من استعمال الغسالة.
(الخامس) ـ قال الشيخ في النهاية : «متى حصل الإنسان عند
غدير أو قليب ولم يكن معه ما يغترف به الماء لوضوئه ، فليدخل يده فيه ويأخذ منه ما
يحتاج اليه وليس عليه شيء. وان أراد الغسل للجنابة وخاف ـ ان نزل إليها ـ فساد
الماء ، فليرش عن يمينه ويساره وامامه وخلفه ، ثم ليأخذ كفا كفا من الماء فليغتسل
به» انتهى.
قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : «وهو لا يخلو من اشكال
، فإن ظاهره كون المحذور في الفرض المذكور هو فساد الماء بنزول الجنب اليه
واغتساله فيه ، ولا ريب ان هذا يزول بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه. وفرض إمكان
الرش يقتضي إمكان الأخذ فلا يظهر لحكمه بالرش حينئذ وجه» ثم نقل عن المحقق في
المعتبر انه تأوله فقال : «ان عبارة الشيخ لا تنطبق على الرش إلا أن يجعل في «نزل»
ضمير ماء الغسل ، ويكون التقدير «وخشي ـ ان نزل ماء الغسل ـ فساد الماء» وإلا
فبتقدير ان يكون في «نزل» ضمير المريد لا ينتظم المعنى ، لأنه ان امكنه الرش لا مع
النزول امكنه الاغتسال من غير نزول» ثم قال بعده : «وهذا الكلام حسن وان اقتضى كون
المرجع غير مذكور صريحا ، فان محذورة هين بالنظر الى ما يلزم على التقدير الآخر ،
خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان الحكم الذي وردت به النصوص ، فإنه لا ربط للعبارة
به على ذلك التقدير. وفي بعض نسخ النهاية «وخاف ان ينزل إليها فساد الماء» على
صيغة المضارع ، فالإشكال حينئذ مرتفع ، لانه مبني على كون
العبارة عن النزول بصيغة الماضي ،
وجعل «ان» مكسورة الهمزة شرطية ، وفساد الماء مفعول «خشي» ، وفاعل «نزل» الضمير
العائد إلى المريد. وعلى النسخة التي ذكرناها يجعل «ان» مفتوحة الهمزة مصدرية ،
وفساد الماء فاعل «ينزل» ، والمصدر المأول من «ان ينزل» مفعول «خشي» ، وفاعله ضمير
المريد. وحاصل المعنى انه مع خشية نزول الماء المنفصل عن بدن المغتسل الى المياه
التي يريد الاغتسال منها ـ وذلك بعود الماء الذي اغتسل به إليها ـ فإن المنع
المتعلق به يتعدى إليها بعوده فيها ، وهو معنى نزول الفساد إليها ، فيجب الرش
حينئذ حذرا من ذلك الفساد. وهذا عين كلام باقي الجماعة ومدلول الأخبار فلعل الوهم
في النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي ، فإن حصول الاشتباه في مثله وقت الكتابة ليس
بمستبعد» انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول : ما نقله عن بعض نسخ النهاية ـ من التعبير في تلك
اللفظة بلفظ المضارع ـ هو الموجود في أصل النسخة التي عندي وهي معتمدة ، إلا ان
الياء قد حكت ، وعلى الهامش مكتوب بخط شيخنا العلامة أبي الحسن الشيخ سليمان
البحراني (قدسسره) «نزل» بيانا
لذلك. ولا ريب انه على تقدير النسخة المذكورة يضعف الاشكال كما ذكره (قدسسره). إلا انه من
المحتمل بل الظاهر انه على تقدير نسخة الماضي ان المعنى انه إذا أراد الغسل
للجنابة وخاف ـ بنزوله في الماء للغسل ارتماسا ـ فساد الماء. اما باعتبار نجاسة
بدنه أو باعتبار إثارة الحمأة أو نحو ذلك ، فإنه يغتسل ترتيبا خارج الماء ، ولكن
يرش الأرض لأحد الوجوه المتقدمة التي أظهرها وأوفقها بمذهبه منع رجوع الغسالة.
ولا ريب انه معنى صحيح لا غبار عليه ولا اشكال يتطرق
إليه.
(المسألة الثالثة) ـ في الماء المستعمل في الاستنجاء ،
والبحث فيها يقع في مواضع :
(الأول) ـ اتفق الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ على ما
نقله غير واحد
منهم ـ على عدم وجوب ازالة ماء
الاستنجاء عن الثوب والبدن لما هو مشروط بالطهارة من صلاة وغيرها ، وعلى ذلك تدل
الاخبار ايضا.
(فمنها) ـ صحيحة محمد بن النعمان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «قلت له
: استنجي ثم يقع ثوبي فيه وانا جنب؟ فقال : لا بأس به».
واستظهر بعض محدثي المتأخرين كون الاستنجاء هنا من المني
بقرينة قوله : «وانا جنب» قال : «فينبغي استثناء الاستنجاء من المني أيضا».
واحتمل آخر كون الاستنجاء مختصا بغير المني وذكر الجنابة
لتوهم سراية النجاسة المعنوية الحدثية إلى الماء.
و (منها) ـ صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل يقع
ثوبه على الماء الذي استنجى به ، أينجس ذلك ثوبه؟ قال : لا».
و (منها) ـ حسنة محمد بن النعمان الأحول (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : اخرج من
الخلاء فاستنجي بالماء ، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به؟ فقال : لا بأس
به» وزاد في الفقيه «ليس عليك شيء».
و (منها) ـ ما رواه الصدوق عطر الله مرقده في كتاب العلل
(4) عن الأحوال
أيضا قال : «دخلت على أبي عبد الله (عليهالسلام) فقال لي : سل
عما شئت فارتجت علي المسائل ، فقال لي : سل ما بدا لك فقلت : جعلت فداك الرجل
يستنجي فيقع ثوبه في الماء الذي استنجى به؟ فقال : لا بأس به. فسكت فقال : أو تدري
لم صار لا بأس به؟
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب
الماء المضاف والمستعمل.
(4) في الصحيفة 105 وفي الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب
الماء المضاف والمستعمل.
قلت : لا والله جعلت فداك. فقال : ان
الماء أكثر من القذر».
وهذه الأخبار وان اشتركت في نفي البأس عن ملاقاته الثوب
كما في أكثرها وعدم التنجيس كما في بعضها ، إلا ان الظاهر ـ كما عليه الأصحاب ـ انه
لا مدخل لخصوصية الثوب في ذلك ، فيتعدى الحكم الى غيره من باب تنقيح المناط القطعي
الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة ، وإلا للزم ايضا اختصاص الحكم بالرجل دون المرأة
كما هو مورد تلك الاخبار ، وهو خلاف ما عليه كافة علمائنا الأبرار. وربما أشعر
التعليل الذي في آخر رواية العلل بعدم نجاسة غسالة الخبث مطلقا مع عدم التغيير. وسيأتي
الكلام فيه في محله ان شاء الله تعالى. وإطلاق هذه الاخبار يقتضي عدم الفرق بين
المخرجين ، لصدق الاستنجاء بالنسبة الى كل منهما. وبذلك صرح الأصحاب (رضوان الله
عليهم) أيضا.
(الثاني) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بعد
الاتفاق ـ كما عرفت ـ على عدم وجوب إزالته ـ في ان ذلك لطهارته أو لكونه معفوا
عنه. وربما أشعر ذلك (1) بكون العفو
عبارة عن الحكم بنجاسته مع الرخصة في مباشرته. والذي يظهر من كلام شيخنا الشهيد في
الذكرى ـ وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ـ كون العفو هنا إنما هو بمعنى سلب الطهورية
، حيث قال بعد نقل القولين : «وتظهر الفائدة في استعماله» وحينئذ فيصير محط الخلاف
في جواز رفع الحدث أو الخبث به وعدمه ، وكذا تناوله وعدمه. إلا انهم نقلوا الإجماع
ايضا على عدم جواز رفع الحدث بما تزال به النجاسة مطلقا كما سيأتي في تالي هذه
المسألة ، وحينئذ فينحصر الخلاف في الآخرين.
والظاهر ـ كما هو المشهور ـ الجواز تمسكا بأصالة الطهارة
عموما وخصوصا ، وصدق
__________________
(1) اى مقابلة العفو بالطهارة وجعل القول بالعفو مقابلا للقول
بالطهارة ، وقد نقل السيد في المدارك عن المحقق الثاني في حواشي الشرائع انه نقل
عن المحقق في المعتبر انه اختار كونه نجسا معفوا عنه (منه قدسسره).
الماء المطلق عليه ، فيجوز شربه
وازالة الخبث به.
وجملة من متأخري المتأخرين (1) أيدوا ذلك
أيضا بأن أدلة نجاسة القليل بالملاقاة لا عموم لها بحيث تشمل ما نحن فيه ، وإنما
كان التعدي عن الموارد المخصوصة التي وردت فيها الروايات الى بعض الصور لأجل
الشهرة وعدم القول بالفصل ، وكلاهما مفقودان فيما نحن فيه ، فيبني على الأصل ،
فيثبت جواز الطهارة والتناول.
وأنت خبير بما فيه ، بل الحق ان هذا الموضع مما خرج
بالأخبار المتقدمة عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة.
واستدل جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على الطهارة
بلزوم الحرج والمشقة لو لم يكن كذلك ، والظاهر ان مرادهم الاستدلال على خروجه عن
قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة ، بمعنى انه لو حكم بنجاسته كغيره من افراد الماء
القليل للزم الحرج من ذلك والمشقة ، لتكرره وعدم إمكان التحرز عنه ، لا ان مرادهم
الاستدلال على الطهارة بالمعنى المقابل للعفو ، وحينئذ فلا يرد ما أورده الفاضل
الخوانساري في شرح الدروس على شيخنا الشهيد الثاني في الروض ، حيث قال ـ بعد نقل
الاستدلال عنه على الطهارة بان في الحكم بالنجاسة حرجا ومشقة ، لعموم البلوى ،
وكثرة تكرره ودورانه ، بخلاف باقي النجاسات ـ ما لفظه : «وفيه ان الحرج على تقدير
تسليمه إنما يرتفع بالعفو ولا يتوقف على طهارته ، إذ لا حرج في عدم جواز استعماله
في رفع الخبث والتناول ، وهو ظاهر» انتهى.
وبالجملة فههنا مطلبان : (أحدهما) ـ الحكم بطهارته
واستثنائه من عموم نجاسة القليل بالملاقاة. و (ثانيهما) ـ انه هل يثبت له حكم
الطاهر بجميع موارده ، أم يخص بما دون التناول ورفع الخبث والحدث؟ واستدلال شيخنا
الشهيد الثاني إنما هو
__________________
(1) منهم : المحقق الشيخ حسن في المعالم والفاضل الخوانساري في
شرح الدروس وغيرهما (منه رحمهالله).
على الأول دون الثاني ، ويدلك على ذلك
إناطتهم الحرج والمشقة بالنجاسة ، مع ان العفو عندهم هنا ـ كما عرفت ـ ليس المراد
به النجاسة مع جواز الاستعمال ، بل المراد به سلب الطهورية.
نعم ناقش المحدث الأمين الأسترآبادي (عطر الله مرقده) في
الاستدلال بهذا الوجه قائلا : «لا يخفى ان هذا الوجه غير سديد ، لان المقدار الذي
اعتبره الشارع من الحرج والعسر غير منضبط في أذهاننا فكيف يتمسك بهما؟ نعم يمكن
التمسك بهما من باب مفهوم الموافقة مع وجود نص في فرد أخف ، فتأمل» انتهى. وهو
متجه.
وما ذكره من التمسك بهما من باب مفهوم الموافقة متجه
باعتبار ورود النص بالعفو عما ينزو من غسالة الجنب في إنائه ، وما ينزو من الأرض
المتنجسة بالبول ، وما يتساقط من غسالته كما تقدم في المسألة الثانية. إلا ان في
العمل بمفهوم الموافقة ما عرفت في المقدمة الثالثة (1) وان كان
المحدث المذكور ممن يعتمد عليه في غير موضع من تحقيقاته
(الثالث) ـ اعلم ان ممن رجح القول بالعفو شيخنا الشهيد
الأول في الذكرى ، حيث قال : «وفي المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح بالطهارة وإنما
هو بالعفو ، وتظهر الفائدة في استعماله. ولعله أقرب ، لتيقن البراءة بغيره» انتهى.
ويظهر ذلك من المنتهى ايضا.
واما كلام المعتبر في هذا الباب فلا يخلو من إجمال بل
اضطراب ، ولهذا اختلفت في نقل مذهبه كلمة من تأخر عنه من الأصحاب ، قال (عطر الله
مرقده) : «واما طهارة ماء الاستنجاء فهو مذهب الشيخين. وقال علم الهدى في المصباح.
لا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن. وكلامه صريح في العفو وليس
بصريح في الطهارة. ويدل على الطهارة ما رواه الأحول عن ابي عبد الله (عليهالسلام) ثم ساق حسنته
المتقدمة (2) وأردفها
برواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي المتقدمة أيضا (3)
__________________
(1) في الصحيفة 57.
(2 و 3) في الصحيفة 468.
ثم قال : ولأن في التفصي عنه عسرا
فشرع العفو دفعا للعسر» انتهى.
وأنت خبير بان مقتضى قوله : «ويدل على الطهارة. إلخ» بعد
نقله القولين أولا هو اختيار الطهارة التي هي أحد ذينك القولين. وقوله في الدليل
الثاني : «ولأن في التفصي عنه عسرا فشرع العفو. إلخ» ظاهر في اختيار العفو الذي هو
القول الآخر ايضا (1) وأيضا ففي
حكمه على كلام المرتضى بالصراحة في القول بالعفو ـ مع حكمه على رواية الأحول
بالدلالة على الطهارة ـ نوع تدافع ، فإن العبارة فيهما واحدة ، إذ نفي البأس ان
كان صريحا في العفو ففي الموضعين ، وان كان في الطهارة فكذلك ، وحينئذ فنسبة القول
بالطهارة إلى المعتبر ـ كما فهمه السيد السند في المدارك وجمع ممن تأخر عنه ـ كما
ترى ، وأعجب من ذلك نقل شيخنا الشهيد في الذكرى ـ كما تقدم في عبارته ـ القول
بالعفو عن المعتبر بتلك العبارة. وتبعه على ذلك المحقق الشيخ علي (رحمهالله) في شرح
القواعد وشيخنا الشهيد الثاني في الروض فقال في شرح
__________________
(1) أقول : الذي يظهر من كلام المحقق (رحمهالله) هنا هو ان مراده بالعفو هو الطهارة ،
بمعنى انه وان كان مقتضى كلية نجاسة القليل بالملاقاة هو النجاسة هنا إلا انه لما
كان في التفصي عنه عسر وحرج. استثناه الشارع من تلك الكلية فحكم بطهارته عفوا عنه
ورحمة للعباد ، كما هو شأن الرخص الواردة في الشريعة ، والتعبير بالعفو إشارة الى
ان الطهارة هنا من قبيل الرخص تخفيفا ، إذ مقتضى تلك الكلية هو النجاسة كما عرفت ،
ويبعد من مثل المحقق (ره) ـ على تقدير ارادة المعنى الذي فهموه ـ التعبير بمثل هذه
العبارة المضطربة كما عرفته في الأصل ، ويؤيد ما قلناه قوله ـ بعد هذه المسألة في
الفرع الذي ذكره في حكم غسالة إناء الولوغ ، بعد ان نقل عن الشيخ الاستدلال على
طهارة هذه الغسالة مطلقا بأنه لو كان المنفصل نجسا لما طهر الإناء ، لأنه كان يلزم
نجاسة البلة الباقية بعد المنفصل ثم ينجس الماء الثاني بنجاسة البلة وكذا ما بعده
ـ ما صورته «والجواب ان ثبوت الطهارة بعد الثانية ثابت بالإجماع فلا يقدح ما ذكره
، ولانه معفو عنه دفعا للحرج» انتهى. فان حكمه بطهارة البلة بالإجماع أولا
واستدلاله بالعفو ثانيا لا يجتمع إلا على ما ذكرناه وحينئذ فالظاهر من عبارته في
ماء الاستنجاء هو الطهارة والله العالم (منه رحمهالله).
القواعد : «واعلم ان قول المصنف ـ :
فإنه طاهر ـ مقتضاه انه كغيره من المياه الطاهرة في ثبوت الطهارة له. ونقل في
المنتهى على ذلك الإجماع. وقال المحقق في المعتبر : ليس في الاستنجاء تصريح
بالطهارة وانما هو بالعفو. وتظهر الفائدة في استعماله. قال شيخنا في الذكرى :
ولعله أقرب ، لتيقن البراءة بغيره» انتهى. وقال في الروض : «وفي المعتبر هو عفو ،
وقربه في الذكرى».
والظاهر ان أصل السهو من شيخنا الشهيد في الذكرى ، وتبعه
من تبعه من غير ملاحظة لكتاب المعتبر (1) وعبارة المعتبر ـ كما مرت بك ـ خالية
عما ذكروه. وما اعتذر به الفاضل الخوانساري في شرح الدروس ـ بعد ان ناقش في دلالة
الاخبار على الطهارة ، من ان مراد الذكرى من ان في المعتبر ليس في الاستنجاء تصريح
بالطهارة ، انه ليس في الروايات لا في كلام الأصحاب ، وهو كذلك كما قررنا. الى آخر
كلامه ـ غير مستقيم ، إذ تفسير العبارة المذكورة بما ذكره فرع وجودها أو وجود ما
يؤدي معناها ، وليس فليس.
بقي هنا شيء وهو ان ما ذهب إليه في الذكرى وتبعه عليه
جمع من المتأخرين ـ من ان العفو مراد به سلب الطهورية دون النجاسة مع سلب حكمها (2) ـ مما لا
يساعد عليه كلام المعتبر ، فان نقله عن المرتضى (رضياللهعنه) القول بالعفو
ـ ونفيه عنه
__________________
(1) ومما يؤيد ذلك نقل المحقق الشيخ على (قدسسره) قوله : «وتظهر الفائدة. إلخ» من تتمة
كلام المعتبر ظنا منه ان هذا من جملة المنقول عن المعتبر ، حيث أخر نقل كلام
الذكرى عن هذه العبارة ، مع انها من كلام الذكرى قطعا ، كما لا يخفى على من راجع
عبارته (منه رحمهالله).
(2) اى ان نفى البأس أعم من الطهارة ، إذ قد يكون نجسا ويجوز
مباشرته والصلاة فيه كما في غيره من النجاسات المعفو عنها ، وحينئذ فنفى البأس
غايته العفو خاصة (منه رحمهالله).
صراحة القول بالطهارة بمجرد نفيه
البأس عما ينتضح على الثوب والبدن من ماء الاستنجاء ـ يؤذن بأن محل النزاع في
ملاقاة هذا الماء للثوب والبدن وانه هل ينجس به وان انتفى البأس عن الصلاة فيه كما
هو مذهب المرتضى ، أو يحكم بالطهارة كما هو القول الآخر؟ (1) ، لا ان مظهر
النزاع استعماله ثانيا وان الملاقي للثوب والبدن منه طاهر إجماعا. وهذا بحمد الله
ظاهر غاية الظهور ، وحينئذ فلا استبعاد في حمل العفو في عبارة المعتبر على المعنى
المعهود. نعم يبقى الإشكال في نسبة ذلك اليه كما عرفت.
وكيف كان فالتحقيق في المقام ان يقال : ان أكثر الأخبار
المتقدمة قد اشتركت في نفي البأس عن ملاقاته للثوب والبدن ، ونفي البأس وان كان
أعم من الطهارة إلا ان تصريح صحيحة عبد الكريم (2) بعدم التنجيس يقتضي حمل نفي البأس في
تلك الأخبار على الكناية عن الطهارة. وأيضا فإنه من الظاهر البين الظهور انه متى
عفي عن ملاقاته لما هو مذكور في الاخبار ، وقد عرفت انه لا خصوصية لها بذلك ،
فيتعدى الحكم الى غيرها ، وانه لا تتعدى النجاسة من تلك الأشياء الى ما تلاقيه
برطوبة من ماء قليل وغيره ، فإنه يلزم ان يكون طاهرا البتة ، إذ لا معنى للطاهر
شرعا إلا ذلك.
قال المحقق الشيخ علي (رحمهالله) في شرح
القواعد ـ على اثر الكلام المتقدم
__________________
(1) وبالجملة فالعفو ان أخذ بالمعنى الذي ذكره شيخنا الشهيد ـ وهو
عبارة عن سلب الطهورية ـ كان مقابلته بالطهارة بمعنى المطهرية ، وان أخذ بالمعنى
المشهور ، كانت الطهارة المقابلة له بمعنى عدم النجاسة ، وحينئذ فنسبة صاحب
المعتبر الى السيد (رحمهالله) القول بالعفو دون الطهارة من حيث نفيه
البأس عن ملاقاة ماء الاستنجاء للثوب والبدن للترجيح له على المعنى الأول ، إذ لا
معنى لأخذ الطهورية وعدمها في ملاقاة الماء للثوب والبدن ، بل يتعين المعين الثاني
البتة ، وحينئذ لا يستقيم ما ذكره في الذكرى (منه قدسسره).
(2) المتقدمة في الصحيفة 468.
نقله ـ ما صورته «قلت : اللازم أحد
الأمرين : اما عدم إطلاق العفو عنه أو القول بطهارته ، لأنه إن جاز مباشرته من كل
الوجوه لزم الثاني ، لأنه إذا باشره بيده ثم باشر به ماء قليلا ولم يمنع من الوضوء
به ، كان طاهرا لا محالة ، وإلا وجب المنع من مباشرة نحو ماء الوضوء به إذا كان
قليلا ، فلا يكون العفو مطلقا ، وهو خلاف ما يظهر من الخبر ومن كلام الأصحاب ،
فلعل ما ذكره المصنف أقوى وان كان ذلك أحوط» انتهى. وهو جيد. وفيه دلالة على ما
ذكرنا من ان معنى العفو في هذا المقام إنما هو عبارة عن النجاسة مع سلب حكمها لا
ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمهالله).
(الرابع) ـ قد اشترط الأصحاب في ثبوت ما تقدم من اي
الحكمين لهذا الماء شروطا :
(منها) ـ عدم تغيره بالنجاسة في أحد أوصافه الثلاثة. ولا
بأس به. الا ان بعض فضلاء متأخري المتأخرين إنما اعتمد في ذلك على كون الحكم به
إجماعيا ، قال : «والظاهر ان الحكم به إجماعي ، وإلا لأمكن المناقشة ، إذ الروايات
الدالة على نجاسة المتغير عامة ، وهذه الروايات خاصة».
و (منها) ـ عدم ملاقاته لنجاسة أخرى خارجة معه كالدم
المصاحب للخارج ونحوه ، أو خارجة عنه كالأرض النجسة لو وقع عليها. واشتراطه واضح ،
لان ظاهر الأخبار الواردة في المسألة نفي البأس باعتبار إزالة النجاسة المخصوصة لا
باعتبار غيرها. ولا يخفى ان ماء الاستنجاء لا يزيد قوة على المياه الأخر مما لم
يستنج به ، فحيث تنجس تلك بمجرد الملاقاة فهو ينجس ايضا. وما ناقش به بعض فضلاء
متأخري المتأخرين ـ بالنسبة إلى النجاسة المصاحبة للخارج ، مستندا إلى إطلاق اللفظ
في تلك الأخبار ـ مردود بجريان ذلك في النجاسة الغير المصاحبة ، وهو لا يقول به.
وما ادعاه ـ من ان الغالب عدم انفكاك الغائط من شيء آخر من الدم أو الأجزاء الغير
المنهضمة من الغذاء أو الدواء ـ ممنوع بل الغالب خلافه كما لا يخفى ، إذ حصول شيء
مما ذكره إنما يكون لعلة أو مرض ، ومن
كان صحيح الطبيعة فلا يحصل له شيء من ذلك نعم في صحيحة محمد بن النعمان المتقدمة (1) إشعار بدخول
نجاسة الجنابة على أحد الاحتمالين المتقدمين.
و (منها) ـ كون الخارج غائطا أو بولا ، فلو كان غيرهما
لم يلحقه الحكم المذكور ، لعدم صدق الاستنجاء على ازالة غير ذينك الحدثين. وهو
جيد.
و (منها) ـ عدم انفصال اجزاء من النجاسة متميزة معه ،
وإلا كان حكمها حكم النجاسة الخارجة ، فينجس بها الماء مع مفارقة المحل. وفيه
إشكال ، لإطلاق أخبار المسألة ، الا ان الاحتياط يقتضيه.
و (منها) ـ ان لا يتفاحش بحيث يخرج عن صدق الاستنجاء
عليه. وهو كذلك.
و (منها) ـ ما نقل عن بعض المتأخرين من سبق الماء اليد ،
فلو سبقت اليد تنجست وكان كالنجاسة الخارجة. ورد بان وصول النجاسة إليها لازم على
كل حال.
والظاهر ـ كما ذكره المحقق الشيخ حسن في المعالم ـ ان
نجاسة اليد انما تستثنى من حيث جعلها آلة للغسل ، فلو اتفق لغرض آخر كان في معنى
النجاسة الخارجية.
و (منها) ـ ما صرح به شيخنا الشهيد في الذكرى من عدم
زيادة وزنه ، والمنقول عن العلامة في النهاية جعل زيادة الوزن في مطلق الغسالة
كالتغير. ولا ريب في ضعف الجميع.
وربما استدل على هذا الشرط هنا بالتعليل المذكور في آخر
رواية العلل المتقدمة (2) حيث انه يعطي
ان نفي البأس عنه لاكثريته واضمحلال النجاسة فيه وحينئذ فلو زاد في وزنه لدل على
وجود شيء من النجاسة فيه وعدم اضمحلالها.
__________________
(1 و 2) في الصحيفة 468.
وفيه ان الأقرب ان غرضه (عليهالسلام) إنما هو بيان
اشتراط غلبة المطهر على قياس ما تقدم في صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في المقالة
التاسعة من الفصل الأول (1) ، الواردة في السطح
يبال عليه ، فتصيبه السماء ، فيكف فيصيب الثوب ، فقال (عليهالسلام) : «لا بأس به
، ما اصابه من الماء أكثر منه».
(الخامس) ـ لا ريب ان ما ادعوه ـ من الإجماع على عدم
جواز رفع الحدث بماء الاستنجاء ـ إنما يتم عند من يعول على هذه الإجماعات
المتناقلة في كلامهم والمتكررة على ألسن أقلامهم ، وإلا فمقتضى الأخبار المذكورة ـ
الدالة على استثنائه من كلية نجاسة القليل بالملاقاة ـ هو الطهورية مطلقا من حدث
كان أو من خبث ، وبذلك ايضا يشعر كلام المولى المحقق الأردبيلي (نور الله تعالى
تربته) في شرح الإرشاد ، حيث قال : «والظاهر هو بقاء الطهارة والطهورية ،
للاستصحاب ، وعدم الخروج بالاستعمال الموجب للنجاسة بأدلة نجاسة القليل ، للخبر بل
الإجماع فيبقى على حاله ، ولأن النجاسة إذا لم تخرجه عن الطهارة للأدلة فكذا عن
الطهورية بالطريق الاولى» انتهى.
(المسألة الرابعة) ـ في الماء المستعمل في إزالة النجاسة
عدا ما تقدم. ولا خلاف في نجاسته مع التغير في أحد أوصافه الثلاثة. اما مع عدمه
فقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ذلك على أقوال :
(أحدها) ـ النجاسة مطلقا وان حكمها حكم المحل قبل الغسل ،
وحينئذ فيجب غسل ما لاقته العدد المعتبر في المحل ، اختاره المحقق والعلامة ، بل
الظاهر انه المشهور بين المتأخرين.
احتج المحقق في المعتبر بأنه ماء قليل لاقى النجاسة فيجب
ان ينجس.
وما رواه العيص بن القاسم (2) قال : «سألته
عن رجل أصابته قطرة من طشت
__________________
(1) في الصحيفة 215.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
فيه وضوء. قال : ان كان من بول أو قذر
فيغسل ما اصابه». وزاد بعضهم في آخر هذه الرواية «وان كان وضوء الصلاة فلا يضره».
واحتج العلامة في المختلف برواية عبد الله بن سنان
المتقدمة في المسألة الثانية (1) الدالة على ان
الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به من الجنابة لا يتوضأ به وأشباهه.
واحتج بعضهم أيضا بإيجاب تعدد الغسل واهراق ماء الغسلة
الأولى بالكلية من الظروف ، ووجوب العصر فيما يجب فيه العصر ، وعدم تطهير ما لا
يخرج منه الماء إلا بالكثير ، والإجماع المدعى من العلامة في المنتهى ، حيث قال : «ومتى
كان على جسد الجنب أو المغتسل من حيض وشبهه نجاسة ، فالمستعمل ان قل عن الكر نجس
إجماعا» فإنه يعطى الإجماع على نجاسة الغسالة هنا ، ويضم الى ذلك عدم القائل
بالفرق بين الاستعمال في الغسل وغيره.
وأجيب عن هذه الأدلة ، أما عن الأول فبمنع كلية كبراه ،
لأنها عين المتنازع ، فأخذها في الدليل مصادرة.
وفيه ان الدليل على كلية الكبرى المذكورة الأخبار الدالة
بمفهوم الشرط على نجاسة الماء القليل بالملاقاة كما تقدم تحقيقه في تلك المسألة.
وما شاع في كلام جملة من فضلاء متأخري المتأخرين ـ من عدم العموم في هذا المفهوم ـ
مدفوع بما أسلفنا تحقيقه في المسألة المذكورة. والعجب من شيخنا الشهيد الثاني
وأمثاله من القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة ، حيث احتجوا على ذلك بهذا المفهوم
ثم يعترضون هنا بمنع الكلية المذكورة.
واما عن الثاني فبضعف السند ، لعدم وجود الخبر المذكور
في شيء من كتب الأخبار ، وإنما نقله الشيخ في الخلاف وجمع ممن تأخر عنه مع كونه
مضمرا. ومنع
__________________
(1) في الصحيفة 436.
الدلالة ، إذ الجملة الخبرية لا ظهور
لها في الوجوب.
ويمكن الجواب عن الأول بأن الظاهر ان الشيخ (رحمهالله) إنما أخذ الرواية
المذكورة من كتاب العيص ، فإنه نقل في الفهرست ان له كتابا ، وطريقه في الفهرست
الى الكتاب المذكور حسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم ، وصحيح عندنا وفاقا لجملة
من متأخري مشايخنا. وقد صرح أيضا في كتابي الأخبار بأنه إذا ترك بعض اسناد الحديث
يبدأ في أول السند باسم الرجل الذي أخذ الحديث من كتابه فلعل نقله لها في الخلاف
جار على تلك القاعدة. وبالجملة فرواية الشيخ (رضوان الله عليه) له في كتب الفروع
لا تقصر عن روايته في كتب الأخبار.
واما الإضمار في أخبارنا فقد حقق غير واحد من أصحابنا
انه غير قادح في الاعتماد على الخبر ، فان الظاهر ان منشأ ذلك هو ان أصحاب الأصول
لما كان من عادتهم أن يقول أحدهم في أول الكلام : «سألت فلانا» ويسمي الإمام الذي
روى عنه ، ثم يقول : وسألته أو نحو ذلك ، حتى تنتهي الأخبار التي رواها. كما يشهد
به ملاحظة بعض الأصول الموجودة الآن ككتاب علي بن جعفر وكتاب قرب الاسناد وغيرهما
، وكان ما رواه عن ذلك الامام (عليهالسلام) أحكاما
مختلفة ، فبعضها يتعلق بالطهارة وبعض بالصلاة وبعض بالنكاح وهكذا ، والمشايخ
الثلاثة (رضوان الله عليهم) لما بوبوا الاخبار ورتبوها ، اقتطعوا كل حكم من تلك
الأحكام ووضعوه في بابه بصورة ما هو مذكور في الأصل المنتزع منه ، وقع الاشتباه
على الناظر فظن كون المسؤول غير الامام (عليهالسلام) وجعل هذا من
جملة ما يطعن به في الاعتماد على الخبر.
واما منع دلالة الجملة الخبرية على الوجوب ، ففيه انه لا
خلاف ولا إشكال في كون الجملة الخبرية في مثل هذا الموضع إنما أريد بها الإنشاء
دون الخبر ، فيكون بمعنى الأمر. والأدلة الدالة على كون الأمر للوجوب من الآيات
والاخبار التي
قدمناها في المقدمة السابعة (1) لا اختصاص لها
بلفظ الأمر وان جعلوه في الأصول مطرح البحث والنزاع ، وحينئذ فيقرب الاعتماد على
الرواية المذكورة.
وأجاب المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) عنها ـ حيث
انه اختار في الغسالة الطهارة ـ بالحمل على كون الاستنجاء في الطشت إنما وقع بعد
التغوط أو البول فيه ، مدعيا ان ذلك مقتضى العادة.
وهو بعيد (أما أولا) ـ فإنه لا تصريح في الخبر بكون ذلك
الوضوء ماء استنجاء ، إذ الوضوء بفتح الواو ـ وهو اسم لما يتوضأ به اي يغسل به ـ كما
يطلق في الاخبار على ماء الاستنجاء ، كذلك يطلق على ما يغسل به الوجه واليدان بل
سائر الجسد من نجاسة أو بدونها.
و (اما ثانيا) ـ فلانه لا ملازمة بين التغوط أو البول في
الإناء وبين الاستنجاء فيه.
وأجاب عنها في الذكرى بالحمل على التغير أو الاستحباب.
وفيه ان الحمل على خلاف الظاهر فرع وجود المعارض.
واما عن الثالث فبضعف السند أولا ، وكونه أعم من المدعى
ثانيا. فان المنع من الوضوء أعم من النجاسة فلا يستلزمها ، بل ربما كان عطف
الجنابة يؤذن برفع الطهورية لا الطهارة. والثاني منهما متجه.
واما عن الرابع والخامس فبجواز ان يكون تعبدا. وكذا عن
السادس وفيه ما فيه.
واما عن كلام المنتهى فبعد تسليم الاعتماد على هذا
الإجماع المتناقل فالظاهر ان كلامه إنما هو في الاستعمال بطريق الارتماس ، كما
يشعر به قوله بعد هذا الكلام : «فإذا ارتمس فيه ناويا للغسل. إلخ».
__________________
(1) في الصحيفة 112. وفي النسخ المطبوعة والمخطوطة (الرابعة).
(الثاني) ـ القول بالنجاسة لكن حكمه حكم المحل قبل
الغسلة ، فيجب غسل ما اصابه ماء الغسلة الأولى مرتين والثانية مرة فيما يجب فيه
المرتان ، وهكذا. ونقل هذا القول عن شيخنا الشهيد ومن تأخر عنه ، واليه مال المحقق
المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) في شرح الإرشاد. والوجه في الفرق بين الغسلتين
ـ باعتبار التعدد في الأولى دون الثانية فيما يجب غسله مرتين مثلا ـ هو ان المحل
المغسول تضعف نجاسته بعد كل غسلة وان لم يطهر ، ولهذا يكفيه من العدد بعدها ما لا
يكفي قبلها ، فيكون حكم ماء الغسلة كذلك ، لان نجاسته مسببة عنه ، فلا يزيد حكمه
عليه. لان الفرع لا يزيد على الأصل. وهذا هو المقيد لتلك الأدلة الدالة على
النجاسة على الإطلاق. قال والدي (نور الله تعالى مرقده) بعد نقل هذا الكلام : «أقول
: هذا التفصيل بالفرق بين المنفصل من الغسلتين وان كان لا يفهم من الأخبار ، لكنه
قريب من جهة الاعتبار» انتهى. وهو كذلك إلا انه بمجرده لا يمكن الاعتماد عليه في
تأسيس حكم شرعي.
(الثالث) ـ القول بالنجاسة ان كان من الغسلة الاولى والطهارة
ان كان من الثانية فيما يغسل مرتين مثلا ، ومرجعه الى ان حكمه كالمحل بعد الغسلة.
وهذا القول منقول عن الشيخ في الخلاف ، ونقل عنه ايضا تخصيص ذلك بتطهير الثوب.
واما المستعمل في تطهير الآنية فلا ينجس عنده مطلقا سواء كان من الأولى أو من
غيرها.
احتج في الخلاف ـ على ما نقل عنه ـ على الأول بأنه ماء
قليل معلوم حصول النجاسة فيه فيجب ان يحكم بنجاسته. وبرواية العيص المتقدمة (1).
وعلى الثاني بأن الماء على أصل الطهارة ، والنجاسة تحتاج
الى دليل. وبالروايات المتقدمة في مسألة الاستنجاء (2).
وعلى الثالث بان الحكم بالنجاسة يحتاج الى دليل ، وليس
في الشرع ما يدل عليه. وبأنه لو حكم بالنجاسة لما طهر الإناء أبدا ، لأنه كلما غسل
فما يبقى فيه من النداوة
__________________
(1) في الصحيفة 477.
(2) في الصحيفة 468.
يكون نجسا ، فإذا طرح فيه ماء آخر نجس
ايضا ، وذلك يؤدي الى ان لا يطهر ابدا.
وأورد عليه ان التوجيه الذي ذكره لنجاسة الغسلة الاولى
في غسل الثوب ـ على تقدير تمامه ـ يقتضي نجاسة الثانية ، لأن المحل لم يطهر بعد ،
وإلا لم يحتج إليها ، وإذا كان الحكم بنجاسته باقيا فالماء الملاقي له ـ والحال
هذه ـ ينجس ايضا ، لعين ما ذكره في الاولى. والرواية التي تمسك بها ليس فيها تقييد
بالأولى ، فإن كانت صالحة للاحتجاج فهي متناولة للصورتين. وما ذكره من التعليل
لطهارة غسالة الإناء جار بعينه في غسالة الثوب كما لا يخفى.
ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض عن
الشيخ في الخلاف انه احتج على طهارة الغسلة الأخيرة بأن المحل بعدها طاهر مع بقاء
مائها فيه ، والماء الواحد لا تختلف أجزاؤه في الطهارة والنجاسة ، ثم أجاب عنه
باختصاص المتصل بالعفو للحرج والضرورة بخلاف المنفصل. وانه يعارض بماء الاولى ،
للقطع ببقاء شيء منه. وبالجملة فكلام الشيخ (رحمهالله) في هذا
المجال لا يخلو من الاشكال ، وتعليلاته لا تخلو من الاختلال.
والتحقيق ان يقال : انه لما قام الدليل على طهارة المحل
بعد الغسل في ثوب كان أو إناء مع العصر فيما ورد فيه ، وكان من المعلوم عادة تخلف
شيء في المحل المغسول ، فإنه يجب الحكم بطهارة المحل مع ما تخلف فيه ، فان ثبت
الدليل على نجاسة الغسالة وجب الحكم بها ، ولا ينافيه اتصالها سابقا بذلك الماء
المتخلف ، واي بعد في ان يوجب الشارع اجتناب ما ينفصل من الغسالة عن الثوب والبدن
ولا يوجبه في المتخلف والباقي منها؟ فإن أحكام الشرع تعبدية لا مجال للعقل فيها
بوجه.
(الرابع) ـ القول بالطهارة مطلقا وان حكمها كالمحل بعد
الغسل. وهو على طرف النقيض من القول الأول ، وقواه الشيخ في المبسوط ، وجعل الأحوط
في تطهير الثياب النجاسة مطلقا ، والأحوط في تطهير الأواني النجاسة في الغسلة
الاولى. والى القول بالطهارة مطلقا يميل ظاهر كلام الشهيد في الذكرى ، وربما كان
الظاهر
من كلام ابن بابويه في الفقيه اختياره
، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر ورافع الحدث الأكبر طاهر إجماعا ، ونقل عن
المحقق الشيخ علي في بعض فوائده اختياره ، ويعزى الى جماعة من متقدمي الأصحاب
اختياره ايضا كما نقله في المعالم. ومقتضى مذهب السيد المرتضى (رضياللهعنه) الطهارة بشرط
ورود الماء على النجاسة ، واقتفاه ابن إدريس في ذلك ، واليه يميل كلام السيد السند
في كتاب المدارك ، والمحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته عليه.
ونقل عن المبسوط الاستدلال عليه بان ما يبقى في الثوب جزء
منه ، وهو طاهر إجماعا ، فيكون المنفصل ايضا كذلك.
وفيه زيادة على ما سلف ـ ان ما يبقى في الثوب ان أريد به
ما هو أعم من الغسلة الأولى فالإجماع على طهارته ممنوع. وان كان من الأخيرة فلا
يثبت به المدعى بتمامه.
ونقل السيد في المدارك عن جماعة من الأصحاب ان من قال
بطهارة الغسالة اعتبر فيها ورود الماء على النجاسة ، قال : «وهو الذي صرح به
المرتضى (رضياللهعنه) في المسائل
الناصرية. ولا بأس به ، لأن أقصى ما يستفاد من الروايات انفعال القليل بورود
النجاسة عليه ، فيكون غيره باقيا على حكم الأصل» انتهى.
أقول : ومن ثم احتجوا على هذا القول ـ على ما نقله شيخنا
الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض ـ بأنه
لو حكم بنجاسة القليل الوارد لم يكن لوروده اثر ، ومتى لم يكن له أثر لم يشترط
الورود ، فيطهر النجس وان ورد على القليل ، ولانه لو حكم بنجاسته لم يطهر المحل
بالغسل العددي. والتالي باطل بالإجماع. والملازمة واضحة.
وأنت خبير بما في الحجة الأولى كما سيأتي بيانه ان شاء
الله تعالى في الكلام في المطهرات ، من ان جملة من علمائنا القائلين بنجاسة القليل
بالملاقاة اشترطوا في التطهير بالقليل وروده على النجاسة وان نجس بعد حصول التطهير
به ، وحينئذ فالأثر المترتب على وروده حصول التطهير به وان تنجس بعد ذلك.
واما الثانية فقد تقدم نقل جواب العلامة عن ذلك ـ وما
أورد عليه ، وما أجبنا به عن الإيراد المشار اليه ، وما هو الحق في الجواب عن ذلك
ـ في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد.
وتنظر والدي (نور الله تعالى ضريحه) فيما نقله في
المدارك من اشتراط القائلين بطهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة دون العكس ،
قائلا بعد نقله ذلك عنه : «لا يخفى ما فيه ، لان من جملة القائلين بطهارة الغسالة
من قال بعدم نجاسة القليل مطلقا بالملاقاة ومن المعلوم انه لا يظهر للشرط وجه
عندهم. ومنهم من قال بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا كالشيخ (قدسسره) وابن إدريس
ومن وافقهما من المتأخرين ، فكيف يتم اشتراط ورود الماء على النجاسة دون عكسه في
صحة التطهير بالقليل وطهارة الغسالة؟ بناء على ان الماء حينئذ لا ينجس بالملاقاة ،
مع قولهم بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا من غير فرق بين الأمرين ، ومن ثم استوجه
في الذكرى عدم اعتبار الورود مع ميله إلى طهارة الغسالة مطلقا ، لانه لو اقتضى
ورود النجاسة على الماء نجاسة الغسالة وعدم صحة التطهير به ، لاقتضى ذلك ايضا ورود
الماء على النجاسة ، لأن الامتزاج بالنجاسة حاصل على كل تقدير. وبهذا يعلم ما في
الاستدلال على طهارة الغسالة ايضا ، لابتنائه على هذا الاشتراط. وبالجملة فهذا
الاشتراط ـ وكذا الاستدلال المبني عليه ـ لا يتم على القول بنجاسة القليل
بالملاقاة مطلقا ، ولا على القول بطهارته مطلقا. نعم يتجه على مذهب السيد المرتضى (عطر
الله مرقده) حيث حكم بعدم نجاسة القليل في مادة ورود الماء على النجاسة دون عكسه ،
فيتجه هنا اشتراط الورود في صحة التطهير وطهارة الغسالة ، لأنه مع ورود النجاسة
على الماء ينجس ، فلا يفيد المحل عنده طهارة فضلا عن طهارة غسالته. نعم يبقى
الإشكال في الحكم بطهارة الغسالة مع القول بنجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، لحصول
المنافاة بين الأمرين. وربما يجاب عنه حينئذ باختيار أن الغسالة قد خرجت بالدليل
عن قاعدة نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا ، كما خرج ماء الاستنجاء منها.
ولا استبعاد بعد قيام الدليل عليه ،
مع ما في النجاسة من العسر والحرج ، وكون النجاسة والطهارة من التعبديات المحضة ،
مع ضعف أدلة النجاسة. وفيه نظر» انتهى كلامه زيد في الخلد مقامه. وهو وجيه.
(الخامس) ـ القول بالنجاسة مطلقا وان كان بعد طهارة
المحل ، بمعنى ان ماء كل غسلة كمغسولها قبل الغسل وان ترامت الغسلات الى غير
النهاية ، حكاه الشهيد (رحمهالله) في حاشية
الألفية عن بعض الأصحاب ، قال في المدارك بعد حكاية القول المذكور : «وربما نسب
الى المصنف والعلامة ، وهو خطأ ، فإن المسألة في كلامهما مفروضة فيما تزال به
النجاسة ، وهو لا يصدق على الماء المنفصل بعد الحكم بالطهارة» انتهى.
أقول : نقل الشيخ مفلح الصيمري في شرح كتاب موجز الشيخ
ابن فهد عن مصنفه انه نقل هذا القول في كتاب المهذب والمقتصر عن المحقق والعلامة
وابنه فخر المحققين ، ثم نسبه في ذلك الى الغلط الفاحش والسهو الواضح وأطال في
بيان ذلك ونقل شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) في الروض ـ بعد
نقله القول المذكور ـ ان قائله احتج بأنه ماء قليل لاقى نجاسة ، قال : «وبيانه ان
طهارة المحل بالقليل على خلاف الأصل المقرر من نجاسة القليل بالملاقاة. فيقتصر فيه
على موضع الحاجة ، وهو المحل دون الماء» ثم رده بحكم الشارع بالطهارة عند تمام
الغسلات ، فلا اعتبار بما حصل بعد ذلك ، وبلزوم الحرج المنفي. وناقش بعض أفاضل
متأخري المتأخرين في كلام شيخنا الشهيد الثاني هنا بما لا ينبغي ان يصغى اليه ولا
يعرج في المقام عليه. وكيف كان فهذا القول بمحل سحيق عن جادة التحقيق فهو بالإعراض
عنه حقيق.
إذا عرفت ذلك فاعلم انا لم نعثر في الأخبار على ما يقتضي
الحكم في الغسالة إلا على رواية العيص ورواية عبد الله بن سنان السالفتين (1) والاولى منهما
ظاهرة
__________________
(1) في الصحيفة 477 و 436.
في النجاسة وان أجيب عنها بما تقدم ،
إلا انك قد عرفت ما فيه. واما الثانية فهي مجملة في ذلك ، إذ غاية ما يستفاد منها
المنع من الوضوء به ، وهو أعم من النجاسة كما عرفت آنفا.
نعم ربما يستفاد ـ من جملة من الأخبار المتفرقة في أحكام
متعددة ـ الطهارة ، إلا انه ايضا ربما يستفاد من جملة أخرى النجاسة.
فما يستفاد من ظاهره الطهارة ـ الأخبار الدالة على نفي
البأس عما ينتضح من غسالة الجنب في إنائه حال الغسل (1) بناء على ما
قدمنا بيانه من ان الغالب في المغتسل من الجنابة بقاء النجاسة إلى آن الغسل ، كما
تشعر به الاخبار الواردة في صفة غسل الجنابة (2).
ومنه ـ صحيحة هشام بن سالم (3) الواردة في
السطح يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب ، قال : «لا بأس به ، ما اصابه من
الماء أكثر منه».
وجه الدلالة التعليل المستفاد منها مع ضم تنقيح المناط
اليه. وقريب منها ظاهر التعليل المتقدم في رواية العلل المتقدمة في المسألة
الثالثة (4) كما أشرنا
إليه ثمة.
ومنه ـ الاخبار الدالة على الأمر بالرش أو النضح فيما
يظن فيه النجاسة من ثوب أو أرض أو نحوهما وهي كثيرة ، ومنها ـ
صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس. فقال : رش وصل».
وجه الدلالة انه لو تنجس الماء الوارد بالملاقاة لكان
الرش سببا لزيادة المحذور.
ومنه ـ صحيحة إبراهيم بن عبد الحميد (6) قال : «سألت
أبا الحسن (عليه
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 36 ـ من أبواب الجناية.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء المطلق.
(4) في الصحيفة 468.
(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب مكان المصلي.
(6) المروية في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب النجاسات.
السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ
الى الجانب الآخر ، وعن الفرو وما فيه من الحشو. قال : اغسل ما أصاب منه ومس
الجانب الآخر ، فان أصبت مس شيء منه فاغسله وإلا فانضحه». والتقريب ما تقدم.
ومما يؤيد ذلك إطلاق الاخبار الواردة بتطهير البدن من
البول من غير تقييد بالأعضاء السافلة.
كصحيحة الحسين بن ابي العلاء (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن البول
يصيب الجسد. قال : صب عليه الماء مرتين ، فإنما هو ماء».
ومما يؤيده ايضا نفي البأس عما ينزو من الأرض النجسة في
إناء المغتسل كما في رواية عمر بن يزيد (2) وعد التجنب عن ذلك من الحرج كما في
رواية الفضيل (3) فإنه يدل
بمفهوم الموافقة على ان ما يترشح من الغسالة حال الغسل لا بأس به وان اجتنابه حرج
ايضا.
وأنت خبير بان المستفاد من هذه الأدلة مع ضم رواية عبد
الله بن سنان (4) هو الطهارة مع
عدم الطهورية من الحدث. واما الطهورية من الخبث فيبقى على حكم الأصل ، إذ لا مخرج
له من الأدلة.
والى هذا القول مال المحدث الأمين (قدسسره) حيث قال بعد
الكلام في المسألة : «ملاحظة الروايات الواردة في أبواب متفرقة تفيد ظاهرا طهارة
غسالة الأخباث وسلب طهوريتها بمعنى رفع الحدث ، ولم أقف على دلالة على سلب
طهوريتها بمعنى إزالة الخبث ، والأصل المستصحب بمعنى الحالة السابقة ـ وأصالة
الطهورية بمعنى القاعدة الكلية ، والبراءة الأصلية بمعنى الحالة الراجحة ،
والعمومات ـ تقتضي
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب النجاسات.
(2) المتقدمة في الصحيفة 446.
(3) المتقدمة في الصحيفة 438.
(4) المتقدمة في الصحيفة 436.
إجراء حكم الطهورية بهذا المعنى الى
ظهور مخرج. والله اعلم».
ومما يستفاد منه النجاسة ما تقدم في مبحث نجاسة الماء
القليل بالملاقاة من الأخبار الدالة على اهراق ماء الركوة والتور ونحوهما متى وقع
فيها إصبع أو يد فيها قذر ، فإن إطلاق تلك الاخبار شامل لما لو كان بقصد الغسل أم
لا بل ولو لم يكن بقصد الغسل ، فإنه يجب الحكم بالطهارة متى زالت العين ولم يتغير
الماء بمجرد ذلك الوضع أو لم يكن ثمة عين ، إذ لا يشترط في إزالة الخبث وتطهير
النجاسة القصد الى ذلك كما لا يخفى. نعم هذا انما يتمشى على تقدير القول بنجاسة
القليل بالملاقاة مطلقا ، واما من خص ذلك بورود النجاسة على الماء دون العكس ـ كالسيد
المرتضى والمحدث الأمين وغيرهما ممن اختار هذه المقالة ، كما أسلفنا نقله في
المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد ـ فلا يتجه ذلك عنده ، لانه
يحكم بنجاسة الماء بمجرد ملاقاته النجاسة ، ولا يفيدها تطهيرا عنده فضلا عن ان
يكون طاهرا بعد الانفصال عنها. وقد تقدم البحث معهم في اعتبار الورود وعدمه في
المقام المشار اليه وحصول الإشكال في ذلك ، ومنه ينقدح الاشكال هنا ايضا.
ومما يدل بظاهره ايضا على نجاسة الغسالة ما تقدم ذكره في
أدلة القول بالنجاسة من إيجاب تعدد الغسل فيما ورد فيه ذلك ، وإهراق الغسلة الاولى
من الظروف ، ووجوب العصر فيما ورد فيه ، وعدم تطهير ما لا يخرج منه الماء إلا
بالكثير ، فإنه لا وجه لهذه الأشياء على تقدير القول بطهارة الغسالة. وما أجيب به
عن ذلك ـ من كون ذلك تعبدا ـ بعيد جدا.
ومنه ـ رواية العيص المتقدمة (1) وما أجيب به
عنها مما قدمنا نقله قد عرفت ما فيه. وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف والاحتياط
فيها لازم. والله العالم.
__________________
(1) في الصحيفة 477.
تنبيهات
(الأول) ـ اعلم ان ما ذكره جملة من المتأخرين ومتأخريهم
بالنسبة إلى القول بالنجاسة مطلقا وهو القول الأول من الأقوال التي قدمنا ذكرها ـ من
ان حكم الغسالة كالمحل قبل الغسل فيعتبر التعدد فيما تلاقيه متى كان معتبرا في
المحل ـ لم أجد له أثرا في كلام القائلين بهذا القول كالمحقق والعلامة ، بل يحتمل
ان يكون مرادهم انه في حكم المحل قبل الغسلة ، إذ غاية ما يدل عليه كلامهم هو
النجاسة ، واما انه يجب فيما يلاقيه العدد المعتبر في المحل فلا ، بل ظاهر كلام
شيخنا الشهيد في الذكرى ان القول المنسوب اليه وهو القول الثاني من الأقوال
المتقدمة هو بعينه القول الأول ، وان القول بالنجاسة مطلقا عبارة عن كون حكم
الغسالة حكم المحل قبل الغسلة ، فإنه نقل أولا القول بالطهارة عن المبسوط ، ثم نقل
مذهب الشيخ في الخلاف ، ثم نقل مذهب المحقق والعلامة وهو القول بالنجاسة مطلقا
ونقل أدلته وطعن فيها. ثم قال : «ولم يبق دليل سوى الاحتياط ولا ريب فيه. فعلى هذا
ماء الغسلة كمغسولها قبلها وعلى الأول كمغسولها بعدها أو كمغسولها بعد الغسل»
انتهى. ومثله كلام المحقق الشيخ علي (قدسسره) في شرح
القواعد. وحينئذ فما ذكره شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) وغيره ـ من
المغايرة بين القولين ـ كما ترى. والجواب ـ بأنه لا منافاة لجواز اختيار الشيخين
المشار إليهما كون الحكم في الغسالة على تقدير النجاسة انها كالمحل قبل الغسلة ،
واختيار أولئك على هذا التقدير كونها في حكم المحل قبل الغسل ـ
فيه (أولا) ـ ان ذلك فرع تصريح القائلين بالنجاسة مطلقا
بكونها كالمحل قبل الغسل.
و (ثانيا) ـ ان التفريع في عبارة الذكرى إنما جرى على
مقتضى الأقوال المتقدمة ، فإن قوله : «فعلى هذا» اي فعلى القول بالنجاسة ، وهو
المنقول عن
المحقق والعلامة ، وقوله : «وعلى
الأول. إلخ» إشارة إلى مذهبي المبسوط والخلاف وان كان على سبيل اللف والنشر المشوش
، وعلى تقدير ما ذكر في الجواب يلزم عدم التفريع على مذهب المحقق ولعلامة.
(الثاني) ـ الظاهر ـ على تقدير القول بنجاسة الغسالة ـ الاكتفاء
في تطهير ما لاقته بالمرة الواحدة ، وفاقا للمحقق الشيخ حسن في كتاب المعالم ،
ونقله أيضا في الكتاب المذكور عن بعض مشايخه المعاصرين.
لنا ـ أصالة البراءة من التكليف به ، إذ مورد التعدد في
الأخبار نجاسات مخصوصة ، وهذا ليس منها ، فلا مقتضي للتعدد فيه سواء كان من الغسلة
الأولى أو غيرها. وما ذكره الأصحاب من الأقوال المتقدمة في ذلك لم نقف له على دليل
معتمد.
(الثالث) ـ ادعى المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى
الإجماع على ان ما تزال به النجاسة مطلقا لا يجوز رفع الحدث به. واحتجا لذلك ـ مع
الإجماع ـ برواية عبد الله بن سنان المتقدمة (1) الدالة على ان ما يغسل به الثوب لا
يجوز ان يتوضأ به. ويرد على الأول ما سيأتي من ظاهر عبارتي الدروس والذكرى ، مضافا
الى ما عرفت في المقدمة الثالثة (2) من المجازفة في دعوى الإجماعات في
كلامهم (رضوان الله عليهم) وقد تقدم في المسألة الثالثة (3) من النقل عن
المولى الأردبيلي ما يوهن هذه الدعوى ايضا وعلى الثاني ان الرواية أخص من المدعى ،
إلا ان يضم الى ذلك تنقيح المناط.
(الرابع) ـ قال شيخنا الشهيد في الدروس : «وفي إزالة
النجاسة نجس ان تغير بالإجماع ، وإلا فنجس في الأولى على قول ، ومطلقا على قول ،
وكرافع الأكبر على قول ، وطاهر إذا ورد على النجاسة على قول. والاولى ان ماء
الغسلة كمغسولها قبلها» انتهى.
__________________
(1) في الصحيفة 436.
(2) في الصحيفة 35.
(3) في الصحيفة 477.
ولا ريب ان القول الأول هو ما ذهب اليه الشيخ في الخلاف.
واما القول الثاني فالظاهر انه هو المنقول عن المحقق والعلامة ، وهو أول الأقوال
التي قدمناها. وربما ظهر من كلام المحقق الشيخ علي في فوائد التحرير ان ذلك إشارة
إلى القول الخامس الذي قدمناه. وهو بعيد. واما القول الثالث فنقله في الذكرى عن
ابن حمزة والبصروي ، حيث قال : «وابن حمزة والبصروي سويا بين رافع الأكبر ومزيل
النجاسة» انتهى. والظاهر أنهما قائلان مع طهارته برفعه الحدث حينئذ ، ويكون هذا هو
الفرق بين هذا القول وبين ما بعده بلا فصل. ويحتمل ان يكون وجه الفرق باعتبار ورود
الماء في الثاني دون هذا القول. وشيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ مع استقصائه نقل
الأقوال في هذه المسألة ـ لم ينقل هذا القول معها ، مع ان صريح العبارة المذكورة ـ
وظاهر عبارة الذكرى ـ انه قول آخر في المسألة. ونسب هذا القول المحقق الشيخ علي (رحمهالله) في شرح
القواعد إلى الأشهر بين المتقدمين ، ثم نقل بعده قول المرتضى وابن إدريس ، مع ان
شيخنا الشهيد في الذكرى قال : «والعجب خلو أكثر كلام المتقدمين عن الحكم في
الغسالة مع عموم البلوى بها» انتهى.
بقي الكلام في قوله : «والاولى ان ماء الغسلة كمغسولها
قبلها» هل هو قول آخر خارج عن الأقوال المتقدمة أم لا؟ الذي يظهر لي من كلام
الذكرى ـ كما قدمنا بيانه ـ ان هذا إشارة إلى اختيار القول المتقدم بالنجاسة لكن
لا على سبيل الجزم ، ونسبته إلى الأولوية هنا مثل نسبته الى الاحتياط في عبارة
الذكرى ، وقد عرفت ان مقتضى كلام شيخنا الشهيد الثاني عد ذلك قولا مغايرا.
(الخامس) ـ قال السيد السند في المدارك : «اختلف
القائلون بعدم نجاسة الغسالة في ان ذلك هل هو على سبيل العفو بمعنى الطهارة دون
الطهورية ، أو تكون باقية على ما كانت عليه من الطهورية ، أو يكون حكمها حكم رافع
الحدث الأكبر؟
فقال بكل قائل» وقال في المعتبر : «ان
ما تزال به النجاسة لا يرفع به الحدث إجماعا» انتهى.
وأنت خبير بان مقتضى القول الأول من هذه الأقوال التي
نقلها هو الطهارة خاصة دون الطهورية من حدث كان أو من خبث حسبما تقدم في معنى
العفو عندهم في ماء الاستنجاء ، ومقتضى القول الثاني هو الطهورية من الخبث والحدث
، كما يشعر به التعبير ببقائه على ما كان عليه من الطهورية ، وحينئذ فلا معنى
للقول الثالث وجعله ثالثا إلا باعتبار الطهارة والطهورية من الخبث خاصة دون الحدث
لتتم مقابلته بالقولين الآخرين. وفي فهم هذا المعنى من التشبيه نوع اشكال ، اللهم
إلا ان يعلم ان مذهب القائل بهذا القول كون رافع الحدث مطهرا من الخبث دون الحدث
كما هو مذهب الشيخين. وقد عرفت ان هذا القول منسوب الى ابن حمزة والبصروي ، الا
انه لم ينقل مذهبهما في تلك المسألة. والذي يقرب الى الفهم ـ وبه صرح ايضا المحقق
الشيخ حسن في المعالم وغيره في غيره ـ ان المراد من التشبيه هو كونه طاهرا مطهرا
من الحدث والخبث كما هو المشهور ، إلا انه لا يخلو ايضا من شيء. وبالجملة فإن فهم
المراد من هذه العبارة يتوقف على معرفة مذهب هذا القائل في مسألة غسالة الحدث
الأكبر ليمكن تمشية التشبيه. ويحتمل ان يكون مراد القائل المذكور بالتشبيه لحوق
حكم الغسالة من سائر الأخباث لغسالة الحدث الأكبر وترتبها عليها ، فان قيل بالرفع
من الحدث في تلك قيل به في هذه وإلا فلا. والظاهر بعده.
(السادس) ـ قال في المدارك ايضا ـ بعد نقل اشتراط
القائلين بطهارة الغسالة ورود الماء على النجاسة دون العكس ـ ما صورته : «وربما
ظهر من كلام الشهيد (رحمهالله) في الذكرى
عدم اعتبار ذلك ، فإنه مال الى الطهارة مطلقا واستوجه عدم اعتبار الورود في
التطهير. وهو مشكل ، لنجاسة الماء بورود النجاسة عليه عنده ، اللهم إلا ان يقول :
ان الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال القليل بعد ورود النجاسة
عليه ، وذلك لا ينافي الحكم بطهارة
المحل المغسول فيه ، لصدق الغسل مع الورود وعدمه» انتهى.
وفيه (أولا) ـ ان ظاهر الشهيد (رحمهالله) ايضا القول
بنجاسة القليل مع ورود الماء على النجاسة ، لتصريحه بان الامتزاج بالنجاسة حاصل
على التقديرين ، والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة ، وحينئذ فلا وجه
لاختصاص الإشكال بمادة ورود النجاسة على القليل دون عكسه.
و (ثانيا) ـ ان ما ذكره في الاعتذار عنه ـ من ان
الروايات إنما تضمنت المنع من استعمال الماء بعد ورود النجاسة عليه ، وهو لا ينافي
طهارة المحل المغسول ، لصدق الغسل في حال الورود وعدمه ـ لا يكاد يحسم مادة
الإشكال ، بل ربما يزيد في الاختلال ، إذ غاية ما يعطيه هو صحة التطهير به مع
نجاسة الغسالة ، فلا يدفع الإشكال بالنسبة إلى حكمه بطهارة الغسالة بل يؤكده. نعم
لو كان المعلوم من مذهبه القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة مع ورود الماء على
النجاسة ، والقول بالتطهير دون الطهارة مع ورود النجاسة على الماء ، لاتجه ما
ذكره. الا ان الظاهر من مذهبه هو الميل إلى طهارة الغسالة مطلقا من غير اعتبار
الورود كما نقله عنه فيما تقدم من عبارته ، وحينئذ فالظاهر ان وجه الاشكال هو ما
سبق التنبيه عليه في مسألة نجاسة القليل بالملاقاة من ان القول بنجاسة القليل
بالملاقاة يقتضي عدم صحة التطهير به فضلا عن طهارة الغسالة ، فكيف يتم مع ذلك
القول بصحة التطهير وطهارة الغسالة؟ والجواب عنه ما عرفته في آخر الكلام المتقدم
نقله عن الوالد (قدسسره) من خروج
غسالة النجاسة من كلية نجاسة القليل بالملاقاة بالدليل كما خرج ماء الاستنجاء. إلا
ان فيه ما عرفته آنفا من الاشكال وعدم وضوح الدليل في هذا المجال.
(السابع) ـ هل الباقي في المحل بعد العصر فيما يجب فيه
ذلك ـ أو الإراقة
في الأواني ونحوها ـ طاهر مطلقا ، أو
نجس مطلقا ، أو معفو عنه ، أو طاهر ما دام في المحل ونجس بعد الانفصال؟ أقوال :
ظاهر المشهور الأول ، وهو الظاهر من الأدلة كما قدمنا
ذكره.
ومقتضى القول الخامس هو الثاني. وقد عرفت ما فيه.
ونقل عن ظاهر المحقق في المعتبر الثالث. وفيه إشكال ،
فإن عبارته في هذا المقام لا تخلو من الإبهام ، وذلك فإنه ـ بعد ان اختار النجاسة
في غسالة إناء الولوغ ونقل عن الشيخ الحكم بالطهارة ، واحتجاجه بأنه لو كان
المنفصل نجسا لما طهر الإناء ، لأنه كان يلزم نجاسة البلة الباقية بعد المنفصل ثم
ينجس الماء الثاني بنجاسة البلة وكذا ما بعده ـ قال : «والجواب ان ثبوت الطهارة
بعد الثانية ثابت بالإجماع فلا يقدح ما ذكره ، ولانه معفو عنه دفعا للحرج» انتهى.
ولا ريب ان حكمه بالطهارة التي ادعى عليها الإجماع مناف للعفو الذي هو عبارة عن
النجاسة وان سلب حكمها. ولا مجال لحمل العفو هنا على المعنى الذي ذكروه في
الاستنجاء ، إذ الكلام في تأثر الملاقي لهذه البلة بالنجاسة وعدمه ، لا في رفع
الحدث والخبث ونحوهما وعدمه.
والذي يظهر لي ان مراده بالعفو هنا ليس هو المعنى
المصطلح بل التنبيه على بيان ان الحكم بالطهارة إنما هو من قبيل الرخص الواردة في
الشريعة ، إذ مقتضى كلية نجاسة الماء القليل بالملاقاة هو النجاسة ، لكنه لما كان
اللازم من النجاسة هنا الحرج عفى الشارع عن النجاسة وحكم بالطهارة دفعا للعسر
والحرج ، ولا يبعد ايضا حمل عبارته المتقدمة في الاستنجاء على ذلك ، وبه يرتفع
التناقض الذي أوردناه عليها ثمة. وبالجملة فالظاهر عندي من عبارته هنا هو الحكم
بطهارة البلة الباقية وان كانت العلة هو العفو ، وإلا لتناقض طرفا كلاميه. نعم ذكر
المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) العفو في هذا المقام احتمالا ، حيث قال
: «وإذا خرج منه ما يمكن الإخراج عادة بقي المحل مع ما فيه طاهرا أو عفوا ،
للضرورة والحرج والسهلة» انتهى.
وبالقول الرابع صرح العلامة في القواعد ، والظاهر انه
مبني على ما اختاره من عدم نجاسة القليل الذي تزال به النجاسة إلا بعد الانفصال عن
المحل ، قال في الكتاب المذكور : «والمتخلف في الثوب بعد عصره طاهر ، فان انفصل
فهو نجس» انتهى. فعنده انه إذا عصر الثوب من الغسل المعتبر في تطهيره حكم بطهارته
قطعا ، والمتخلف فيه على حكم الطهارة ، فلو بالغ أحد في عصره فانفصل منه شيء كان
نجسا ، لأن أثر ملاقاته للمحل النجس عنده إنما يظهر بعد الانفصال. ولعل هذا منشأ
وهم من نقل عنه القول بالنجاسة وان حكم بطهر المحل كما تقدم في القول الخامس ، قال
المحقق الشيخ علي (قدسسره) في شرح
الكتاب : «والظاهر ان هذا الحكم عنده مختص بالغسل المقتضي لحصول الطهارة ، فلو غسل
زيادة على الموظف كان ماء الغسل الزائد طاهرا ، لعدم ملاقاته للمحل في حال نجاسته
، مع إمكان أن يقول بنجاسته ايضا ، لانفصال شيء من الماء المتخلف في المحل معه
والتنجيس فيه بعد انفصاله. وهو بعيد ، مع ان الأصل العدم» انتهى. وكيف كان فالقول
المذكور وما يبتني عليه بمحل من البعد عن ساحة الاخبار المعصومية.
(الثامن) ـ قال العلامة في المنتهى : «إذا غسل الثوب من
البول في إجانة بأن يصب عليه الماء ، فسد الماء وخرج من الثانية طاهرا ، اتحدت
الآنية أو تعددت».
ثم احتج على ذلك بوجهين : (أحدهما) ـ انه قد حصل
الامتثال بغسله مرتين فيكون طاهرا.
و (ثانيهما) ـ صحيحة محمد بن مسلم (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الثوب
يصيبه البول. قال : اغسله في المركن مرتين ، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة».
وأورد عليه بأنه يشكل حكمه بطهارة الثوب مع نجاسة الماء
المجتمع تحته في الإجانة
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب النجاسات.
سيما على مذهبه المتقدم من عدم نجاسة
الغسالة إلا بعد الانفصال عن المحل المغسول ، ومن المعلوم ان الماء هنا بعد
انفصاله عن الثوب المغسول يلاقيه في الإناء ، واللازم مما ذكر تنجسه به.
وقد يتكلف في دفع الإيراد المذكور بان المراد من
الانفصال خروج الغسالة عن الثوب أو الإناء المغسول فيه ، تنزيلا للاتصال الحاصل
باعتبار الإناء منزلة ما يكون في نفس المغسول ، للحديث المذكور.
قيل : ولا يخفى ان هذا التكلف إنما يحسن ارتكابه مع قيام
الدليل الواضح على نجاسة الغسالة ، وإلا فظاهر الرواية يدل على طهارة الغسالة.
وفيه (أولا) ـ ان هذا التكلف إنما ارتكب لدفع المنافاة
بين كلامي العلامة (قدسسره) من حكمه
بنجاسة الغسالة بعد الانفصال وحكمه بطهارة الثوب في الصورة المفروضة ، فنزل الإناء
في الصورة المفروضة منزلة الثوب لتندفع به المنافاة بين كلاميه واما الكلام في
نجاسة الغسالة وطهارتها فهو بحث آخر.
و (ثانيا) ـ ان دعوى دلالة الرواية على طهارة الغسالة مع
تضمنها وجوب التعدد في الغسل محل اشكال كما عرفت ، إلا ان يدعى حمل التعدد على محض
التعبد وفيه ما تقدم. على انه ربما يقال : ان أصل الإشكال مما لا ورود له في هذا
المجال وان ذكره بعض علمائنا الأبدال ، وذلك فان الثوب بعد وضعه في الإجانة وصب
الماء عليه حتى يغمره ويأتي عليه ، فان الماء يدخل في جميع اجزائه وان انفصل بأسفل
الإجانة. ولكن مثل هذا لا يعد انفصالا عرفا ، بل الانفصال في مثل هذا إنما يصدق
بعد رفع الثوب من الإجانة وخروج الماء بنفسه أو بالعصر.
(التاسع) ـ قد عرفت ان محل الخلاف في الغسالة ـ طهارة
ونجاسة ـ إنما هو مع عدم التغير ، والا فلو تغيرت بالاستعمال تنجست إجماعا ،
والمشهور ان التغير المعتبر هنا هو التغير في أحد الأوصاف الثلاثة خاصة كما تقدم.
ونقل عن العلامة في النهاية
انه استقرب اجراء زيادة الوزن مجرى
التغير ، فلو غسلت النجاسة بماء فزاد وزنه بعد الغسل كان حكمه كالمتغير. وهو ـ مع
عدم الوقوف له على دليل ـ عديم الرفيق في ذلك السبيل.
(المسألة الخامسة) ـ في غسالة الحمام ، وقد اختلف كلام
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في حكمها ، فقال الصدوق عطر الله مرقده (1) : «ولا يجوز
التطهير بغسالة الحمام ، لانه تجتمع فيه غسالة اليهودي والمجوسي والنصراني والمبغض
لآل محمد (صلىاللهعليهوآله) وهو شرهم»
وقريب منه كلام أبيه في رسالته اليه وقال الشيخ في النهاية : «غسالة الحمام لا
يجوز استعمالها على حال» وجرى عليه ابن إدريس ، فقال : «غسالة الحمام لا يجوز
استعمالها على حال ، وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة (عليهمالسلام) آثار معتمدة
قد أجمع الأصحاب عليها لا أحد خالف فيها» وقال المحقق في المعتبر : «ولا يغتسل
بغسالة الحمام إلا ان يعلم خلوها من النجاسة» ونحوه قال العلامة في القواعد.
وظاهر ما عدا عبارتي النهاية وابن إدريس هو الطهارة ، إذ
مقتضاها عدم جواز الاستعمال ، وهو أعم من النجاسة. ويؤيده نقل الصدوق الرواية
الدالة على نفي البأس عن ملاقاتها الثوب (2) وربما حمل كلام النهاية على ما تقضي
به العادة من عدم انفكاك غسالة الحمام عن ملاقاة النجاسة ، كما اعتذر به المحقق
عنه في نكت النهاية ،. إذ لم نقف له على حجة في تعميم المنع من استعمالها.
وبالطهارة صرح العلامة في المنتهى. فقال بعد نقل بعض
الأقوال المتقدمة : «والأقوى عندي انه على أصل الطهارة» ثم استدل بمرسلة الواسطي
الآتية. وبالنجاسة صرح في الإرشاد فقال : «غسالة الحمام نجسة ما لم يعلم خلوها من
النجاسة»
__________________
(1) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).
(2) وهي رواية أبي يحيى الواسطي الآتية في الصحيفة 498.
وفي التحرير عبر بعدم جواز الاستعمال
كما هو عبارة النهاية.
والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمسألة روايات.
(منها) ـ رواية حمزة بن احمد عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
أو سأله غيري عن الحمام. قال : ادخله بمئزر ، وغض بصرك ، ولا تغتسل من البئر التي
يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا
أهل البيت ، وهو شرهم».
و (منها) ـ رواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «لا
تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام ، فان فيها غسالة ولد الزنا ، وهو لا
يطهر إلى سبعة آباء. وفيها غسالة الناصب ، وهو شرهما».
و (منها) ـ رواية علي بن الحكم عن رجل عن ابي الحسن (عليهالسلام) (3) قال : «لا
تغتسل من غسالة ماء الحمام ، فإنه يغتسل فيه من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا
والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
و (منها) ـ رواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن
ابي الحسن الماضي (عليهالسلام) (4) قال : «سئل عن
مجتمع الماء في الحمام من غسالة الناس يصيب الثوب. قال : لا بأس».
و (منها) ـ ما رواه الصدوق (قدسسره) في كتاب العلل
(5) في الموثق عن
عبد الله بن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) في حديث قال
: «وإياك
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب
الماء المضاف والمستعمل.
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.
(5) في الصحيفة 106 وفي الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب
الماء المضاف والمستعمل.
ان تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها
تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».
وأنت خبير بان الظاهر ان مطرح النزاع في هذه المسألة
إنما هو حال الشك في عروض شيء من النجاسات ، وإلا فمع العلم بملاقاة شيء منها
فلا خلاف في الحكم بالنجاسة ممن قال بنجاسة القليل بالملاقاة ، ومع العلم بالخلو
عنها فالظاهر انه لا إشكال في الحكم بالطهارة ، ولا خلاف في ذلك إلا ما يظهر من
عبارة الصدوق ، إلا ان الظاهر صرفها الى ما ذكره المحقق من التفصيل ، حيث استثنى
من المنع من الغسل بالغسالة صورة العلم بخلوها من النجاسة ، وكذا ظاهر عبارتي
النهاية وابن إدريس ، إلا انه لا يبعد صرفهما الى ما ذكرنا آنفا.
وقال المحقق في المعتبر ـ بعد نقل ما تقدم من كلام ابن
إدريس وان عبر عنه ببعض المتأخرين إلا انه هو المراد على التعيين ـ ما صورته : «وهو
خلاف الرواية ، وخلاف ما ذكره ابن بابويه ، ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك
الرواية ورواية مرسلة ذكرها الكليني ، قال : بعض أصحابنا عن ابن جمهور ، وهذه
مرسلة وابن جمهور ضعيف جدا ، ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال ، فأين الإجماع واين
الأخبار المعتمدة؟ ونحن نطالبه بما ادعاه وأفرط في دعواه» انتهى. وأشار بقوله :
وهو خلاف الرواية. إلى رواية الواسطي ، حيث قدمها أولا ، وبالرواية التي رواها
الكليني إلى رواية ابن ابي يعفور.
ثم انه مع الشك في ملاقاة النجاسة الذي هو محل النزاع
كما ذكرنا ، فهل يحكم بالطهارة أو النجاسة أو المنع من الاستعمال خاصة؟ الأول صريح
العلامة في المنتهى كما عرفت ، واليه مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم ، منهم :
المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، حيث قال : «والذي يقتضيه النظر انه مع الشك في النجاسة
تكون على حكمها الثابت لها قبل الاستعمال وان كان اجتنابها أحوط» والى ذلك مال
المحقق الشيخ حسن
في المعالم ، وقبله والده في الروض
وغيرهم. والثاني صريح العلامة في الإرشاد ، وربما تبعه فيه بعض من تأخر عنه ، قال
في المعالم : «وربما قيل انه حجته النهي عن استعمالها وسقوطها ظاهر» انتهى.
والثالث ظاهر الصدوقين والمحقق. إلا انهم خصوا المنع بالغسل ، والذي فهمه من تأخر
عنهم من كلامهم هو الحكم بالطهارة وان امتنع الغسل بها.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه لقائل أن يقول : ان جل الأخبار
المتقدمة قد دلت على المنع من الغسل ، والظاهر انه لا خصوصية لذكر الغسل إلا من
حيث ان الحمام غالبا إنما اتخذ لذلك ، والأحكام في الاخبار ـ كما نبهنا عليه غير
مرة ـ إنما تخرج بناء على الافراد المتكررة الغالبة ، وحينئذ فلا فرق في المنع من
الاستعمال بين الغسل وغيره ومما يوضح ذلك ان الحكم بالنجاسة في أكثر المواضع إنما
استفيد من نهي الشارع عن استعمال ما لاقته أو الأمر بغسله أو نحو ذلك ، حتى انه لو
ورد شيء بلفظ النجاسة في مقام النزاع لسارعوا إلى تأويله بالحمل على المعنى
اللغوي ، ويؤيد ذلك ما ذكره السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد الاستدلال على
نجاسة البول من غير المأكول بحسنة عبد الله بن سنان المتضمنة للأمر بغسل الثوب من
أبوال ما لا يؤكل لحمه (1) وكلام في
البين ـ ما صورته : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له ، بل سائر
الأعيان النجسة إنما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من
ملاقاتها» انتهى. والأمر فيما نحن فيه كذلك.
فان قيل : ان القاعدة الكلية الدالة على طهارة ما لا
يعلم ملاقاته النجاسة ترد ما ذكرتم.
قلنا : ما ذكرنا من الاخبار بالتقريب المذكور خاص ، وهو
مقدم على العام كما تقرر بين العلماء الأعلام.
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب النجاسات.
إلا انه يبقى الكلام في مرسلة الواسطي ، حيث دلت على نفي
البأس عن ملاقاته للثوب ، ولا ريب ان الترجيح لما عارضها بالكثرة.
نعم استدل المحقق المولى الأردبيلي (عطر الله مرقده) في
شرح الإرشاد على الطهارة بصحيحة محمد بن مسلم (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) : الحمام
يغتسل فيه الجنب وغيره ، أغتسل من مائه؟ قال : نعم لا بأس ان يغتسل منه الجنب ،
ولقد اغتسلت فيه ثم جئت فغسلت رجلي ، وما غسلتهما إلا مما لزق بهما من التراب». ومثلها
صحيحته الأخرى (2)
وموثقة زرارة (3) قال : «رأيت أبا جعفر (عليهالسلام) يخرج من
الحمام فيمضي كما هو لا يغسل رجليه حتى يصلي».
وفيه ان مورد الروايات في هذه المسألة هو البئر التي
يجتمع فيها ماء الحمام ، وإلحاق المياه المنحدرة في سطح الحمام بها مما لا دليل
عليه ، سيما مع ورود هذه الروايات دالة على الطهارة ، وحينئذ فمحل الخلاف في
المسألة مختص بالبئر خاصة ، فالاستدلال بهذه الاخبار هنا مما لا وجه له. إلا ان
الأقرب الى النظر هو ما ذكره المحقق المشار إليه ، فإن الظاهر ان وصول الماء إلى
البئر المشار إليها إنما يكون بعد المرور في سطح الحمام ، لان تلك البئر إنما أعدت
للمياه التي تجري من الحياض التي يغتسل عليها ، ومن الظاهر مرورها على سطح الحمام
، فالكلام في سطح الحمام كالكلام في الآبار نعم لو كان لوصول الماء الى تلك الآبار
طريق على حدة لا يتعلق بالسطح فالاستدلال بتلك الأخبار في غير محله ، وعلى تقدير فرض
محل النزاع ما يشمل السطح فالاستدلال على الطهارة بتلك الاخبار ، فتحمل الأخبار
الأول على الكراهة المغلظة ، ولعل في عد
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء المطلق
وفي الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف
والمستعمل.