ج22 - الوصاية ومنجزات المريض

المقصد السادس

في الوصاية

بكسر الواو وفتحها وهي الولاية على إخراج حق أو استيفائه أو على طفل ومجنون يملك الموصي الولاية عليه أصالة كالأب والجد له ، أو بالعرض كالوصي عن أحدهما المأذون له في الإيصاء ، ولو نهي لم يوص ومع الإطلاق خلاف يأتي ذكره أن شاء الله تعالى.

والبحث في هذا المقصد يقع في مسائل الأولى : يشترط في الوصي الكمال بالبلوغ ، والعقل فلا تصح إلى صبي بحيث يتصرف حال صباه مطلقا ، ولو ضم الى كامل نفذ تصرف الكامل حتى يبلغ الصبي فيشتركان ، وسيأتي ما فيه مزيد تحقيق للمسئلة ان شاء الله تعالى ، ولا الى مجنون ، ولو طرأ الجنون على الوصي فقد صرحوا بأنه تبطل وصيته ، وهل تعود بعود العقل؟ جزم العلامة بالعدم ، وتردد في الدروس ، ولو كان المجنون يعتوره أدوارا ، قال في الدروس : الأقرب الصحة ، وتحمل على أوقات الإفاقة ، قال : والفرق بينه وبين ما إذا طرأ الجنون انصراف الوصية في ابتدائها إلى أوقات الإفاقة ، وانصرافها هناك الى دوام عقله ، الذي لم


يدم ، وهل يشترط فيه العدالة؟ المشهور ذلك ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، والشيخ المفيد في المقنعة ، وابن حمزة وابن البراج وسلار ، وتبطل الوصية إلى الفاسق ، وقيل : بالعدم ، وهو اختيار ابن إدريس بعد الاضطراب في كلامه ، واليه ذهب المحقق في النافع ، والعلامة في المختلف.

احتج الأولون بوجوه منها ـ أن الوصية استيمان على مال الأطفال ، ومن يجرى مجريهم من الفقراء والجهات التي لا يراعيها المالك ، والفاسق ليس أهلا للاستئمان على هذا الوجه ، وان كان أهلا للوكالة ، لوجوب التثبت عند خبره ، ومنها أن الوصية تتضمن الركون باعتبار فعل ما أوصى اليه به ، من تفرقة المال وإنفاقه وصرفه في الوجوه الشرعية ، والفاسق ظالم لا يجوز الركون اليه ، لقوله تعالى (1) «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ».

ومنها ـ أن الوصية استنابة على مال الغير لا على مال الموصي ، لانتقاله عنه بعد موته ، وولاية الوصي إنما تثبت بعد الموت فيشترط في النائب العدالة ، كوكيل الوكيل ، بل أولى لأن تقصير وكيل الوكيل مجبور بنظر الوكيل والموكل ، وذلك من أكبر البواعث على تحرز وكيل الوكيل من تجاوز الحد ، بخلاف الوصي فإن ولايته بعد موت الموصى على الجهات التي أشرنا إليها ، وهي مما لا يشارفه فيها أحد غالبا.

احتج العلامة في المختلف على ما تقدم نقله عنه من عدم اشتراط العدالة ، قال : لأنها نيابة فتتبع اختيار المنوب كالوكالة.

واستند ابن إدريس إلى الإجماع على جواز إيداع الفاسق ، قال : وهي أمانة فكذا الوصية ، وأورد عليه بظهور الفرق بين الوكالة والوصية بما تقدم من مراعاة الموكل حال الوكيل في كل وقت مختار ، وبأنه في الوكالة تسلط على مال نفسه ، وفي الوصية على مال غيره ، ولهذا اشترطت العدالة في وكيل الوكيل.

__________________

(1) سورة هود ـ الاية 113.


أقول : والتحقيق أن يقال ان الناس بالنسبة إلى العدالة وعدمها على أقسام ثلاثة : أحدها ـ العادل ، وهو من عرف بالقيام بالواجب واجتناب المحرمات ، وثانيها ـ الفاسق ، وهو من أخل بشي‌ء من الواجبات أو ارتكب المحرمات ، وثالثها ـ مجهول ، وهو من لا يعرف بشي‌ء من الأمرين ، والدليلان الأولان ـ من أدلة القول الأول ـ غاية ما يدلان عليه نفي الفاسق ، دون المجهول الحال ، وحينئذ فيجوز وصاية المجهول الحال ولا تلزم العدالة.

وأما الدليل الثالث فإن أريد بالعدالة المشترطة في وكيل الوكيل ظهور العدالة فيه بالمعنى المتقدم ، فالاستدلال به مصادرة ، لأنه عين المتنازع ، وان أريد عدم ظهور الفسق سلمناه ، ولكنه لا يفيد الاشتراط المدعي.

وبالجملة فإن المسئلة عارية من النص والاحتياط فيه مطلوب ، وظواهر جملة من النصوص بالنسبة الى من مات وله أموال ، وورثة صغار ، ولا وصي له ، اشتراط عدالة المتولي لذلك ، وهو وان كان خارجا عما نحن فيه ، إلا أن فيه إشعارا بأن المتولي لأمر الوصاية ينبغي أن يكون عدلا مؤتمنا ، ولا فرق بين الأمرين ، إلا كون الأول منصوبا من قبل الشرع ، وهذا منصوب من قبل الموصي ، وإلا فهو بالنسبة الى ما يتصرف فيه واحد ، وحينئذ فكما تراعى العدالة فيه من حيث ان الناصب له الشرع ، كذا تراعى من حيث ان الناصب الموصي ، فلا ينصب لذلك إلا عدلا ، والفرق بينهما بأن الموصي له التسلط على ماله بدفعه الى من يشاء ، ويسلط عليه من يختاره ، لأن «الناس مسلطون على أموالهم» (1). بخلاف الحاكم الشرعي المنوط تصرفه بالمصلحة دون ما فيه مفسدة ضعيف ، فإن الموصي بعد الموت وانتقال التركة وفيهم الصغير ، وفيها الوصايا الى الجهات العامة ونحو ذلك من التصرفات التي تحتاج الى الوثوق والايتمان ، لا تعلق له بذلك ، فتصرفه فيما ذكر إنما هو تصرف في مال الغير ، لا مال نفسه كما ذكره ، ومما ذكرناه يعلم أنه لا ريب في

__________________

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7.


اشتراط عدم ظهور فسقه.

وأما اشتراط ظهور عدالته فقد عرفت أن الاحتياط ـ حيث ان المسئلة غير منصوصة ـ يقتضيه.

بقي هنا شي‌ء وهو أنه على تقدير اشتراطها ابتداء هل يشترط استدامتها بمعنى أنه لو نصب عدلا ثم ظهر فسقه بطلت وصايته أم لا؟ المشهور الأول ، وكذا على القول بعدم اشتراطها لو أوصى الى العدل ، ثم ظهر فسقه بعد موت الموصي ، فإن المشهور بطلان وصايته ، ووجوب عزله ، والوجه في ذلك ، أما على اشتراطها ابتداء فظاهر ، لفوات الشرط ، وأما على عدم الاشتراط فلان الظاهر أن الباعث له على اختيار العدل ـ مع جواز الوصية إلى غيره ، كما هو مقتضى القول المذكور ـ إنما هو عدالته ، والوثوق بأمانته ، فإذا خرج عن حد العدالة فات الباعث ، وخرج عن الاستيمان ، إذ الظاهر أنه لو كان حيا لاستبدل به ، كذا احتج به في المختلف ، وذهب ابن إدريس إلى صحة الوصية ، وعدم بطلانها بذلك ، قال ـ بعد أن نقل عن الشيخ في المبسوط أنه لو تغيرت حالة الوصي لفسق أخرجت الوصية من يده ، لأن الفاسق لا يكون أمينا ـ ما لفظه : هذا الكتاب معظمه فروع المخالفين ، في كلام الشافعي وتخريجاته ، ولم يورد أصحابنا في ذلك شيئا ، لا رواية ولا تصنيفا ، والأصل صحة الوصية اليه ، والاعتماد عليه مع قوله تعالى (1) «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» وعزله عن الوصية وإخراجه منها تبديل وتغيير بلا خلاف.

أقول : لا ريب أن الشيخ هنا انما حكم بالبطلان ، بناء على مذهبه في المسئلة من اشتراط العدالة ابتداء كما هو المشهور ، وهو من القائلين بذلك ، كما تقدم نقله عنه في المبسوط ، وحينئذ فرد ابن إدريس وحكمه بالصحة يعطى مخالفته في هذه الصورة أيضا ، وأما في صورة ما اختاره ابن إدريس من عدم اشتراط العدالة ابتداء فهو بطريق أولى.

__________________

(1) سورة البقرة ـ الاية 181.


والتحقيق أن يقال : إنا شرطنا العدالة كما هو المشهور ، فان الظاهر هو البطلان لو ظهر الفسق ، لأن اشتراطها ابتداء يقتضي الاستدامة ، لما عرفت من أن الغرض من شرط العدالة هو الوثوق والاطمئنان بعدم المخالفة في شي‌ء من الأمور الموصى بها ، والإتيان بها على الوجه المأمور به ، وذلك يقتضي الاستدامة في جميع تصرفاته.

وخلاف ابن إدريس على هذا التقدير ضعيف ، مع أنه قد صرح في كتاب الوصايا على ما نقله عنه في المختلف بأنه لو مات الوصي أو فسق ، أقام الحاكم مقامه من يراه ، وما استند اليه من النهى عن التبديل ليس على عمومه ، بل يجب تقييده بما إذا لم يخالف المشروع فلو خالف جاز تبديله ، ومتى لم يشترط العدالة ابتداء كما هو القول الآخر فان القول بعدم البطلان كما ذهب اليه ابن إدريس غير بعيد ، وما ذكره العلامة (رحمه‌الله عليه) في تعليل البطلان من أن الظاهر أن الباعث له على اختيار العدل انما هو عدالته جيد ، لو علم أن الباعث له على جعله وصيا هو عدالته ، وإلا فمجرد احتمال ذلك لا يكفي في الحكم بالبطلان ، إذ من الجائز والقريب كون الباعث على نصبه أمرا آخر ، من صحبته أو قرابته ، أو نحو ذلك ، وجاز أن يكون العدالة مزيدة في الباعث ، لا سببا تاما ، فلا يقدح فواتها ، ومن ثم ان المحقق في الشرائع لم يجزم هنا بالبطلان ، بل قال : أمكن القول بالبطلان.

وبالجملة فإن ما ذهب اليه ابن إدريس من الصحة على القول المذكور جيد ، إلا مع تحقق العلم بأن الباعث على نصب العدل هو العدالة ، والله العالم.

الثانية : قد صرحوا بأن من جملة الشروط أيضا في الوصية الحرية ، فلا تصح وصاية المملوك ، لاستلزامها التصرف في مال الغير ، لأن الوصاية يستدعي نظرا في الموصى به وسعيا في تنفيذه ، وهو موجب للتصرف في ملك الغير ، فلا يصح إلا بإذن المولى ، فتصح لزوال المانع ، ولا يخفى أن هذا انما يتم فيما إذا


أوصى الى مملوك غيره.

وأما مملوك نفسه من قن أو مدبر أو مكاتب أو أم ولد فنقل في الدروس عن الشيخ عدم الصحة ، وعن الشيخ المفيد وسلار أنهما جوزا الوصية إلى المدبر والمكاتب مطلقا ، وظاهر المختلف أن محل الخلاف أعم من مملوك نفسه ، ولم يحضرني الآن ما يمكن تحقيق الحال منه ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه متى أذن له المولى في قبول الوصاية لم يكن له الرجوع من الأذن المذكور بعد موت الموصي ، وان كان في حياته فله الرجوع بشرط إعلام الموصي ، والحكم هنا في المولى كما في الموصي الحر ، باعتبار التفصيل في الرجوع بين الموت والحياة بشرط الاعلام وعدمه ، فيصح الرجوع بشرط كون ذلك في الحياة ، وبشرط الاعلام ، ويبطل في ما عدا ذلك كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى بعد ذكر المسئلة ، والمولى هنا في حكم الوصي المذكور في ذلك ، وان كان فعل ما تعلقت به الوصية منوطا بالمملوك.

ومن جملة الشروط عندهم أيضا الإسلام إذا كان الموصي مسلما ، أو كافرا والوصية على أطفال المسلمين ، فلا تصح الوصية إلى كافر وان كان رحما ، لأنه ليس من أهل الولاية على المسلمين ، ولا من أهل الأمانة ، إلا أن يوصى الكافر الى مثله ان لم يشترط العدالة في الوصي ، وأما مع اشتراطها فهل يكفى عدالته في دينه أم تبطل مطلقا؟ وجهان : من أن الكفر أعظم من فسق المسلم ، ومن أن الغرض صيانة مال الطفل وأداء الأمانة ، وهو يحصل بالعدل منهم ، واضطرب كلام شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) هنا ، فرجح في المسالك الحكم بالصحة ، وفي الروضة المنع ، قال في المسالك : ويحتمل قويا الحكم بصحتها مطلقا مع عدالته في دينه ، لأن الغرض منها صيانة مال الطفل ، وحفظ حاله وأداء الأمانة ، وإذا كان الكافر في دينه مجانبا للمحرمات ، قائما بالأمانات حصل الغرض المطلوب بخلاف فاسق المسلمين ، وقال في الروضة : والأقوى المنع بالنظر الى مذهبنا ، ولو أريد صحتها عندهم وعدمه فلا غرض لنا في ذلك ، ولو ترافعوا إلينا فإن


رددناهم الى مذهبهم ، وإلا فاللازم الحكم ببطلانها ، بناء على اشتراط العدالة ، إذ لا وثوق بعدالته في دينه ، ولا ركون إلى أفعاله لمخالفتها لكثير من أحكام الإسلام ، انتهى.

وأطلق الأكثر كالمحقق في الشرائع والشهيد في اللمعة والدروس والعلامة في جملة من كتبه وغيرهم جواز وصية الكافر الى مثله ، مع أن المشهور عندهم اشتراط العدالة في الوصي ، وهو مؤذن بالقول بالاكتفاء بعدالة الكافر في دينه ، وبه يظهر رجحان ما قواه في المسالك.

ومن جملتها البلوغ ، وقد تقدم الكلام في أنه لا تجوز الوصية إلى الصبي إلا أن يكون منضما الى بالغ ، وأنه لا يتصرف الصغير قبل البلوغ ، فإذا بلغ صار شريكا ، وللبالغ الاستقلال بالتصرف ما دام صغيرا ، قيل : وفائدة صحة الوصية إلى الصغير منضما مع عدم صحة تصرفه تأثير نصيبه في تلك الحال في جواز تصرفه بعد البلوغ.

أقول : ويدل على هذه الأحكام أعني صحة وصاية الصغير منضما الى البالغ وصحة تصرف البالغ وحده قبل بلوغ الصبي ، وعدم جواز تصرف الصبي قبل البلوغ ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن علي بن يقطين (1) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى الى امرأة وأشرك في الوصية معها صبيا؟ فقال : يجوز ذلك وتمضى المرأة الوصية ولا تنتظر بلوغ الصبي وإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل وتغيير فان له أن يرده الى ما أوصى به الميت».

وما رواه المشايخ المذكورون في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (2) قال : «كتبت الى أبى محمد عليه‌السلام : رجل أوصى الى ولده وفيهم كبار قد أدركوا ، وفيهم صغار أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيته ويقضوا دينه لمن صح على الميت

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 و 2، التهذيب ج 9 ص 184 ح 743 وص 185 ح 744، الفقيه ج 4 ص 155 ح 1 و 2، الوسائل ج 13 ص 439 ح 2 وص 438 ح 1.


بشهود عدول قبل أن يدركوا الأوصياء الصغار؟ فوقع عليه‌السلام نعم على الأكابر من الولدان أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك».

وما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه (1) حيث «قال عليه‌السلام : وإذا أوصى رجل الى امرأة وغلام غير مدرك ، فجائز للمرأة أن تنفذ الوصية ، ولا تنتظر بلوغ الغلام ، وليس للغلام إذا أرادت هي وأدرك الغلام أن يرجع في شي‌ء مما أنفذته المرأة إلا ما كان من تغيير أو تبديل».

وروى الصدوق في الفقيه عن علي بن الحكم عن زياد بن أبى الحلال (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هل أوصى الى الحسن والحسين مع أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : نعم ، قلت : وهما في ذلك السن قال : نعم ، ولا يكون لغيرهما في أقل من خمس سنين». وظاهر هذا الخبر المنع من الوصية إلى الصبي قبل بلوغ خمس سنين ، ولم أطلع على قائل به ، والأخبار الدالة على الجواز غير مطلقة ، وظاهر الأصحاب الفتوى بإطلاقها ، ومقتضى الجمع بين تقييد الجميع إطلاقها بهذا الخبر ، ويحتمل أن يكون المراد بالوصية الى الحسن والحسين بالنسبة الى ما يجرى عليهما بعده من امتثال ما أمرهما به من الصبر ، والعمل بما وقع عليهما امتثالا لوصيته ، (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

بقي الكلام في أنه لو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل فالمشهور أن للبالغ الانفراد بالوصية ، ولا يداخله الحاكم ، وعلل بأن شركة الصبي مشروطة ببلوغه كاملا ، ولم يحصل ، فيبقى الاستقلال الثابت له أولا بالنص على حاله عملا بالاستصحاب ، ومداخلة الحاكم مشروطة بعدم وجود الوصي المستقل ، وهو هنا موجود.

وقيل : باحتمال بطلان استقلاله بذلك ، لأن الموصي إنما فوض اليه الاستقلال

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 526.

(2) الفقيه ج 4 ص 176 ح 619 ، الوسائل ج 13 ص 439 ح 3.


الى حين بلوغ الصبي ، فكأنه جعله مستقلا إلى مدة مخصوصة لا مطلقا.

أقول : والظاهر أنه من هنا نقل عن العلامة في التذكرة والشهيد في الدروس التردد في هذا الحكم ، وفي المسالك رجح الأول ، ثم قال : نعم لو بلغ رشيدا ثم مات بعده ولو بلحظة زال الاستقلال ، لفقد شرطه.

إلحاق :

ما ذكرنا من الصفات المشترطة في الوصي وهي الكمال والإسلام والحرية وزاد بعضهم اهتداء الوصي إلى فعل ما أوصى فيه ، وقد وقع الخلاف في وقت اعتبارها على أقوال ثلاثة ، نقلها الشيخ في المبسوط : الأول ـ أنها تعتبر حال الوصية ، لأنها حالة القبول والاستيمان والركون اليه ، ومخاطبته بالعقد ، وحالة الوفاة ، لأنها حالة ثبوت التصرف له ، وهذا القول اختيار الشيخ وابن إدريس وظاهر اختيار المحقق.

الثاني ـ اعتبار حالة الوفاة لأنها حالة ثبوت الولاية ، ولا عبرة بالتقدم لعدم نفوذ تصرفه حينئذ.

الثالث ـ اعتبارها في جميع الحالات من حين الوصية إلى حين الوفاة ، عملا بالاحتياط ، وهذه الأقوال كلها مشتركة في اعتبار حال الوفاة ، وقد نقلها الشهيد في شرح الإرشاد ، وسيأتي ان شاء الله تعالى مزيد تحقيق في ذلك.

الثالثة : لو أوصى الى اثنين فلا يخلو إما أن يشترط اجتماعهما ، وحينئذ فلا يجوز لأحدهما أن يتفرد عن صاحبه بشي‌ء من التصرف ، لأن الظاهر من شرط الاجتماع أنه لم يرض برأي أحدهما منفردا ، وبالجملة فإن ولايتهما لم تثبت إلا على هذا الوجه.

وإما أن يجوز لهما الانفراد ، ولا ريب أن تصرف كل منهما منفردا جائز بمقتضى الوصية ، لأن كل واحد منهما وصي مستقل ، ويجوز لهما حينئذ اقتسام


المال ، وتصرف كل منهما فيما يخصه ، ولكن ليست هذه القسمة حقيقة بل لكل منهما التصرف في نصيب الآخر ، لأن كلا منهما وصي في المجموع ولهذا انه لا فرق في القسمة بين كونها متساوية أو متفاوتة ، حيث لا تحصل بها ضرر.

وإما أن يطلق ، وهذا هو محل الاشكال والبحث ، فقيل ـ وهو مذهب الشيخ في الاستبصار والمبسوط وقبله الصدوق في الفقيه وغيرهما وعليه أكثر المتأخرين كالمحقق والعلامة والشهيد وغيرهم ـ : بأن الواجب الاجتماع ، لأن المفهوم من الإطلاق ارادة الاجتماع ، لو حصل الاشتباه ، فللقائل أن يقول ثبوت الولاية لهما مجتمعين معلوم ومتفق عليه ، وثبوتها لكل واحد منفردا مشكوك فيه ومختلف فيه ، فالواجب الأخذ باليقين المؤيد بالاتفاق عليه ، ويرجع الى أصالة انتفائها عن كل واحد منفردا.

وقيل ـ وهو مذهب الشيخ في النهاية ـ : بجواز الانفراد ، وهذا الاختلاف نشأ من اختلاف إفهامهم في روايات المسئلة.

ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن يحيى (1) قال : «كتب محمد بن الحسن الصفار الى أبى محمد عليه‌السلام : رجل مات وأوصى الى رجلين أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة ، والآخر بالنصف ، فوقع عليه‌السلام : لا ينبغي لهما أن يخالفا الميت ، وأن يعملا على حسب ما أمرهما ان شاء الله تعالى».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن بريد بن معاوية (2) قال : «ان رجلا مات وأوصى إلي وإلى آخر أو الى رجلين فقال أحدهما لصاحبه : خذ نصف ما ترك ، وأعطني النصف مما ترك فأبى عليه الآخر ، فسألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فقال : ذلك له». وهاتان الروايتان هما الدائرتان في كلام الأصحاب وهما محل البحث والاختلاف.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 وص 47 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 185 ح 745 و 746 ، الفقيه ج 4 ص 151 ح 523 ، الوسائل ج 13 ص 440 ح 1 و 3.


وقال عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (1) وإذا أوصى رجل الى رجلين فليس لهما أن ينفرد كل منهما بنصف التركة ، وعليهما إنفاذ الوصية على ما أوصى الميت ، وبهذه العبارة عبر الشيخ علي بن الحسين بن بابويه على ما نقله عنه في المختلف.

قال في الفقيه بعد نقل حديث الصفار ، وهذا التوقيع عندي بخطه عليه‌السلام وعليه العمل ، ثم قال بعد إيراد الخبر الثاني : لست أفتى بهذا الحديث بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه‌السلام ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام.

قال الشيخ في التهذيب ونعم ما قال : رادا على الصدوق ظن أنهما متنافيان ، وليس الأمر على ما ظن ، لأن قوله عليه‌السلام : ذلك له ، يعني «في الحديث الأخير» أن له أن يأبى عليه ولا يجيبه الى ملتمسه. فلا تنافي.

أقول : والصدوق (رحمة الله عليه) ظن رجوع الإشارة إلى صدر الخبر المتضمن لطلب أحدهما القسمة وأن الامام عليه‌السلام جوز ذلك له ، وهو بعيد جدا ، بل الحق هو رجوع الإشارة إلى الامتناع من القسمة ، فيكون موافقا للخبر الأول ، فإنه ظاهر في عدم جواز القسمة ، وأن مقتضى الإطلاق بجعلهما وصفين هو الاجتماع.

والظاهر أن الشيخ في النهاية إنما قال : بجواز الانفراد ، تعويلا على رواية بريد المذكورة ، بحمل الإشارة فيها على الرجوع ، الى صدر الخبر ، كما توهمه الصدوق (رحمة الله عليه) ، ولكنه في التهذيبين رده بما عرفت.

وبالجملة فالظاهر من الخبرين المذكورين هو ما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار وهو وجوب الاجتماع ، وعدم جواز الانفراد ، وأصرح منهما في ذلك كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي.

وأما ما ذكره في المسالك من عدم دلالة رواية الصفار على وجوب الاجتماع ، قال : لأن لفظ لا ينبغي ظاهر في الكراهة لا الحظر ، ففيها دلالة على جواز الانفراد

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 526 الباب 43 ح 1.


على كراهة ، وتبقى تلك مؤيدة لها كما فهمه الشيخ في فتوى النهاية ، فإنه أجود مما فهمه في التهذيب ، مع أن المتأخرين كالعلامة في المختلف ومن بعده فهموا من الرواية المنع من الانفراد ، واستحسنوا حمل الرواية الأخرى على ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) ، وربما رجح الحمل بأن الإباء أقرب من القسمة ، فعود اسم الإشارة إليه أولى ، وفيه أن الإشارة بذلك الى بعيد فحمله على القسمة أنسب باللفظ ، انتهى.

ففيه : أولا ـ أن ما ذكره من أن لفظ لا ينبغي ظاهر في الكراهة ان أراد باعتبار العرف الجاري بين الناس الآن فهو كذلك ، ولكن لا حجة فيه ، وان أراد باعتبار عرفهم عليهم‌السلام فهو ممنوع ، فإن ورود لا ينبغي في التحريم وينبغي في الوجوب أكثر كثير في الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، وقد حققنا في غير موضع مما تقدم ، سيما في كتاب العبادات ، ان هذا اللفظ من الألفاظ المتشابهة بحسب العرف الشرعي والحمل على أحد معنييه يحتاج إلى القرينة ، والقرينة هنا واضحة في التحريم ، وأن لا ينبغي بمعنى لا يجوز ، لأن مرجع الكلام ومحصله إلى النهي عن مخالفة الميت ، ولا ريب أن المخالفة محرمة ، لأنها متضمنة للتبديل المنهي عنه في الآية ، وإذا ثبت أن المخالفة محرمة علم أن لفظ «لا ينبغي في المقام» بمعنى لا يجوز ، كما هو واضح ، ويؤكده قوله ثانيا «ويعملا على حسب ما أمرهما» وفي الجميع إشارة الى أن القسمة والانفراد المسئول عنه في الخبر مخالفة للميت فيما أمر به ، وأنهما متى فعلا ذلك لم يعملا على حسب ما أمرهما ، ومنه يعلم أن مقتضى الإطلاق هو الاجتماع كما ذكرنا سابقا.

وثانيا ـ أن ما ذكروه في ترجيح عود الإشارة إلى القسمة ـ من أن الإشارة في الخبر وقعت بلفظ ذلك ، وهي أنسب بالحمل على البعيد ، فتكون الإشارة راجعة إلى القسمة ـ مردود ، بأن الذي في الرواية انما هو الإشارة بذاك التي هي للقريب ، لا بذلك كما توهمه (قدس‌سره) فتكون الإشارة راجعة إلى الامتناع ،


لأنه هو الأقرب ، هذا مع الجري على مقتضى هذه المضايقات البعيدة ، وإلا فباب المجاز في الكلام أوسع من أن يتطرق اليه هذا الإلزام ، سيما مع ظهور الحكم من الأخبار بما عرفت من التحقيق ، والى بعض ما أوردناه عليه أولا تنبه أخيرا فعدل الى القول بالتحريم.

وأما ما ذكره في الوافي اعتراضا على الشيخ في الاستبصار أنه لو لا تفسير الحديث بما فسره لكانا متنافيين ، وليس الأمر على ما ظن ، لان حديث الصفار ليس نصا على المنع من الانفراد ، لجواز أن يكون معناه أنه ليس عليهما إلا إنفاذ وصاياه على ما أمرهما ، وان لا يخالفا فيها أمره تفردا أو اجتمعا ، أو يكون معناه أنه ان نص على الاجتماع وجب الاجتماع ، وان جوز الانفراد جاز الانفراد ، وبالجملة انما الواجب عليهما أن لا يخالفا ، انتهى.

فلا يخفى ما فيه ، ولولا أنه اعترف بعد هذا الكلام بما أشرنا إليه ، فقال في تتمة الكلام المذكور : إلا أن ما ذكره صاحب الاستبصار هو الأحسن والأوفق والأصوب ، انتهى ، لأوضحنا ما فيه ، وقد تلخص مما ذكرناه وجوب الاجتماع في صورة الإطلاق ، كما هو الأشهر الأظهر ، فشرط الاجتماع لو وقع حينئذ محمول على التأكيد ، والمراد بوجوب اجتماعهما في الصورتين اتفاقهما ، وأن لا يصدر شي‌ء من الأمور الموصى بها إلا عن اتفاق منهما على كونه مصلحة ، وإذا توقف على عقد وقع من أحدهما بإذن الآخر ، أو إذنا لثالث.

وتمام تحقيق البحث في المقام يتوقف على بيان أمور الأول : إذا تشاح الوصيان في صورة وجوب الاجتماع عليهما من الإطلاق ، بناء على الأشهر الأظهر أو في صورة اشتراط الموصى بمعنى أنهما تمانعا ، وأبى كل واحد على صاحبه ما يريده ، فقد أطلق جمع منهم الشيخ في المبسوط عدم جواز تصرف أحدهما ، والوجه فيه ظاهر ، لأن الموصى لم يرض برأي أحدهما منفردا فيكون تصرفه حينئذ تصرفا بغير اذن ، كتصرف الأجنبي.


واستثنى جماعة منهم المحقق ما تدعو الحاجة اليه ، ولا يمكن تأخيره إلى وقت الاتفاق ، من نفقة اليتيم والرقيق والدواب ، ومثله شراء كفن الميت ، وزاد بعضهم قضاء ديونه ، وإنفاذ وصية معينة ، وقبول الهبة عن الصغير مع خوف فوات النفع.

وفصل العلامة في القواعد ، ففرق بين صورة الإطلاق في الوصية ، وبين صورة النهي عن الانفراد ، فاحتمل ضمان المنفرد في الصورة الثانية ، وجوز ما لا بد منه في الصورة الأولى ، وحمل كلام الأصحاب على ذلك.

وأورد عليه بأن من الأصحاب من صرح بعدم الفرق بين الحالين ، فلا يمكن حمل كلامه على ما ذكره من التفصيل ، وبأن حالة الإطلاق ان حملت على ارادة الاجتماع كما فهمه الأكثر فلا فرق بينهما وبين حالة النهي عن الانفراد إلا باعتبار التأكيد في هذه دون تلك كما تقدمت الإشارة إليه ، فلا وجه للفرق بالكلية حينئذ ، وقيل : ويضمن المنفرد مطلقا ، وهو الأوفق بالعلة المتقدمة ، ونقل عن أبى الصلاح أنه مع التشاح يرد الناظر في المصالح الأمر الى من كان أعلم بالأمر وأقوى عليه ، ويجعل الباقي تبعا له ، وفيه ما عرفت من أن الموصي لم يوص برأي أحدهما منفردا ، حيث أمر بالاجتماع إما بالتصريح به ، أو لكونه مقتضى الإطلاق كما عرفت ، فكيف يخص به أحدهما ، وان كان أعلم أو أقوى وقد منعه الموصي من ذلك.

ثم انه قد صرح جملة من الأصحاب بأنه مع التشاح والتعاسر منهما يجبرهما الحاكم على الاجتماع ، فان اتفق وإلا استبدل بهما ، وهو على إطلاقه مع القول باشتراط العدالة في الوصي كما عليه الأكثر لا يخلو من الإشكال ، لأنه بالتشاح والتعاسر منهما مع إمكان الاجتماع وانما قصدا بذلك محض العناد من كل منهما للآخر يثبت فسقهما الموجب لعزلهما عن الوصية ، فيجب أن يستبدل الحاكم بهما ، لا أنه يجبرهما على الاجتماع ، والحال كما عرفت.


ولقد أحسن ابن إدريس هنا حيث قال في مسئلة التشاح : وان ناقض نفسه بما ذكره في المسئلة الأولى قال : ان تشاحا في الوصية والاجتماع لم تنفذ بشي‌ء مما تصرفا فيه ، الى أن قال : وللناظر في أمور المسلمين الاستبدال بهما ، لأنهما حينئذ قد فسقا ، لأنهما أخلا بما وجب عليهما القيام به ، وقد بينا أن الفسق يخرج الوصية من يده ، انتهى مع أنه في مسئلة اشتراط العدالة وعدمه ، صرح أولا بالاشتراط ، ثم عدل عنه في آخر كلامه ، فقال : والذي يقتضيه أصول مذهبنا ويشهد به أصولنا وروايتنا أن العدالة في الوصي ليست شرطا في صحة الوصية ، للإجماع على صحة إيداع الفاسق وهي أمانة فكذا الوصية ، انتهى ، ثم عقب ذلك بمسئلة الوصيين ، وقال فيها ما عرفت ، والجميع في موضع واحد ، وربما أمكن فرض التشاح من غير استلزام الفسق فيما إذا اختلف رأيهما في وجه المصلحة مثلا ، فلا يمكنهما الاجتماع على رأي واحد ، لأن كل واحد مكلف بما يقتضيه رأيه من الحكم ، وينبغي أن يستثني هذا من محل البحث المذكور ، فإنه لا يمكن إجبار الحاكم هنا لهما على الاجتماع ، وعلى هذا يخص محل البحث بما يمكن فيه الاجتماع ويكون التشاح ناشيا عن التشهي والميل الطبيعي كأن يريد أحد الوصيين تفرقة صدقة المال الموصى به لذلك على أناس مخصوصيين ، ويريد الآخر غيرهم مع تساوى الجميع في الاستحقاق ، أو أراد أحدهما شراء نوع من المأكول والملبوس للطفل ، وأراد الآخر غيره مع التساوي في المصلحة ، ونحو ذلك فان هذا هو محل البحث.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه بالغ في المسئلة ، وصرح بأنهما لا ينعزلان بالاختلاف ، وأن اللذين أقامهما الحاكم نائبان عنهما وهو عجيب ، والله العالم.

الثاني : قالوا : لو مرض أحدهما أو عجز ضم اليه الحاكم من يقويه ، وهذه العبارة لا تخلو من الإجمال ، وتعدد الاحتمال ، فيحتمل أن يكون المراد


منها أن المضموم اليه هو المريض والعاجز بأن يكون الضمير في «اليه» و «يقويه» راجعا الى المريض ، والعاجز ، بمعنى أن الحاكم يضم إليهما شخصا يقويهما ويعينهما على التصرف ، ويساعدهما على ذلك ، فان المرض والعجز لا يخرجهما عن الوصاية ، لجواز الوصية ابتداء الى المريض والعاجز ، فكما لا يقدح في الابتداء ، كذا لا يقدح في الاستدامة ، وأيضا على هذا فيعتبر اجتماع الثلاثة في التصرف.

ويحتمل أن يكون المراد أن المضموم اليه هو الوصي الآخر المدلول عليه بأحدهما ضمنا ، وحينئذ يكون الضمير في «اليه» وفي «يقويه» راجعا إلى الوصي الآخر المشار اليه ، وعلى هذا يراد بالعجز والمرض البالغين حد المنع وعدم إمكان التصرف ، وبهذا صرح في الدروس فإنه جعل الضميمة مع عجز أحدهما كما لو جن أو فسق ، ومن الظاهر أن جعل العاجز والمريض كالمجنون والفاسق اللذين لا وصاية لهما يعطى بلوغ العجز والمرض الى حد يمنع من القيام بشي‌ء من الوصايا ، فيكون المضموم اليه هو الوصي الآخر البتة.

وبالجملة فإنه ينبغي أن يكون المدار في ذلك على مرتبتي العجز والمرض ، فان بلغتا إلى حد العجز الكلي وهو الحد الذي يمنع من القيام بشي‌ء من الوصايا ، فإنه يكون للضم إلى الوصي الآخر ، وإلا فإن الضم الى المريض والعاجز ، لأن العجز والمرض إنما منع عن القيام بالجميع مع ثبوت أصل القدرة ، فيكون المضموم إليهما مساعدا لهما في الأشياء التي تضعف عنها قوتهما ، وعلى هذا فتكون الأوصياء ثلاثة ، كما تقدم.

الثالث : قالوا : لو مات أحد الوصيين أو فسق لم يضم الحاكم الى الآخر. وجاز له الانفراد ، لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود وصي ، وتردد فيه بعضهم.

أقول : ينبغي أن يعلم أن ذكر الموت والفسق انما خرج مخرج التمثيل ، والمعنى أنه لو تعذرت مشاركة أحد الوصيين للآخر على الاجتماع ، لأحد الموانع


كموت أو فسق أو عجز كلي أو جنون أو غيبة بعيدة ، فالمشهور هو أن الحكم في ذلك ما ذكر من استقلال الآخر بالوصية ، من غير أن يضم اليه الحاكم بدلا من الوصي الآخر ، لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي ، وهو هنا موجود ونصب الآخر معه لا يخرجه من كونه وصيا ، ولهذا يقال : نصب وصيين ، هكذا قيل.

وفيه أن الظاهر من نصب الوصيين الذي قد عرفت آنفا أن مقتضاه الاجتماع ، وهو أن الموصي لم يرض برأي أحدهما منفردا كما تقدم ذكره ، فتصرفه وحده مناف لمقتضى الاجتماع المفهوم من الإطلاق ، ومنه يعلم أنه مناف لغرض الموصي.

وقولهم أنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي مسلم لو كان الوصي منفردا ، وأما في صورة الاشتراك فهو ممنوع ، وصدق وجود الوصي حقيقة هنا ممنوع ، بل الموجود جزء وصي ، وإطلاق الوصي عليه مجاز ، وبه يثبت المنع من انتفاء ولاية الحاكم هنا ، بل الولاية له ثابتة ، لأن ولايته تتعلق بما لا يشرع إنفاذه لغيره من أحكام الميت ، وهو هنا كذلك.

قال في المسالك : والأقوى وجوب الضم ، وليس للحاكم أن يفوض اليه وحده ، وان كان عنده صالحا للاستقلال ، لأن الموصي لم يرض برأيه وحده ، وعند وجود ارادة الموصي لا تعتبر ارادة الحاكم ، لأن ذلك كمنعه من كونه وصيا بالانفراد ، فلا يتخطاه الحاكم ، انتهى وهو جيد.

الرابعة : لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في أن للوصي أن يرد الوصاية ما دام الموصى حيا بشرط أن يبلغه ذلك ، فلو مات الموصى قبل الرد أو بعده ولم يبلغه لزمه القيام بها ، وبذلك تكاثر الأخبار.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (طيب الله تعالى مراقدهم) عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان أوصى رجل الى رجل وهو غائب فليس له أن يرد وصيته ، فإن أوصى اليه ، وهو بالبلد ، فهو بالخيار ان شاء قبل ، وإن شاء لم يقبل».

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 6 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 205 ح 814 ، الفقيه ج 4 ص 144 ح 496 ، الوسائل ج 13 ص 398 ح 1.


والمراد أنه مات الموصى في تلك الغيبة ، قبل أن يعلمه الوصي بالقبول أو عدمه ، فإنه يجب عليه القيام بالوصاية ، وان لم يقبل».

وما رواه في الكافي والفقيه عن فضيل بن يسار (1) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل يوصى اليه فقال : إذا بعث بها اليه من بلد فليس له ردها ، وان كان في مصر يوجد فيه غيره فذلك اليه».

والتقريب فيه ما تقدم في سابقه ، بمعنى أنه لو مات الموصي بعد البعث وقبل وصول الجواب اليه بالقبول وعدمه ، وحاصله أنه إذا أوصى اليه والوصي غائب عن البلد ، ثم مات لزمه القيام بالوصية قبل أو لم يقبل ، وان أوصى اليه وهو حاضر فإنه مخير بين القبول وعدمه ، لأن المصر يوجد فيه غيره.

وعن منصور بن حازم (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : أوصى الرجل إلى أخيه ، وهو غائب فليس له أن يرد عليه وصيته ، لأنه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الفضيل (3). وكذلك الشيخ في التهذيب «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يوصي اليه؟ قال : إذا بعث بها من بلد اليه ، فليس له ردها».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (4) «وإذا أوصى رجل الى رجل وهو شاهد فله أن يمتنع من قبول الوصية ، وكان الموصى إليه غائبا ، ومات الموصي من قبل أن يلتقي مع الموصى إليه ، فإن الوصية لازمة للموصى إليه».

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 6 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 205 ح 815 ، الفقيه ج 4 ص 144 ح 497.

(2 و 3) الكافي ج 7 ص 6 ح 3 و 4، التهذيب ج 9 ص 206 ح 816 و 817 ، الفقيه ج 4 ص 145 ح 500. الوسائل ج 13 ص 398 ح 3.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 398 ح 2 و 3 وص 399 ح 5.

(4) المستدرك ج 2 ص 522 الباب 21 ح 2.


أقول : وهذا الخبر مبين لما اجعل في الأخبار المتقدمة كما ذيلناها به ، وتحقيق الكلام في المقام أنك قد عرفت فيما تقدم أن الوصية من العقود الجائزة في حياة الموصي فلكل من الموصي والموصى له بمال ونحوه ، والموصى إليه بالولاية ، فسخها في حياة الموصي إجماعا.

وأما بعد موته فان قبل كل من الموصى له والموصى إليه فليس له الرد اتفاقا ، وان لم يقبل في حال الحياة جاز له الرد بعد وفاته ، إلا أنه في الموصى إليه مشروط بأن يبلغ الموصي ويعلمه الرد في حال حياته ، فلو لم يعلمه ذلك في حال الحياة لزمه القيام بذلك ، ولم يكن لرده أثر يترتب عليه ، هذا هو المشهور.

وعليه تدل الأخبار المذكورة ، لأنها كما عرفت متفقة في أنه لو كان الموصى إليه غائبا ومات الموصي بعد الوصية فليس له الرد ، سواء بلغه الخبر وردها ، ولكن لم يبلغ الرد الموصي أو لم يبلغه الخبر إلا بعد موت الموصي ، فإنه ليس له الرد ، بل يجب عليه القبول ، وحينئذ فالحكم في هذه الصورة كما في الصورة الأولى أعني موت الموصى بعد قبول الوصي ، فإنه ليس للوصي الرد بعد موته اتفاقا.

وذهب العلامة في التحرير والمختلف إلى أنه يجوز له الرجوع ما لم يقبل ، قال في المختلف : أطلق الأصحاب عدم جواز رد الوصية إذا لم يعلم الوصي بها حتى يموت الموصي ، أو يعلم ويرد ، ولما يعلم الموصي بالرد ، لروايات كثيرة ثم نقل رواية منصور بن حازم ، وصحيحة محمد بن مسلم قال : والوجه عندي المصير الى ذلك ان كان قد قبل الوصية أولا ، وان لم يكن قبل ولا علم جاز له الرجوع ، للأصل ، ولازالة الضرر الواصل بالتحمل غير المستحق ، وقد قال الله تعالى (1) «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وقال عليه‌السلام (2) «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». وتحمل الأحاديث على حصول القبول ، لأنه عقد ولا بد فيه من القبول ،

__________________

(1) سورة الحج ـ الاية 78.

(2) الكافي ج 5 ص 29 ح 2 ، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3.


وقد نبه الشيخ في المبسوط وفي مسائل الخلاف ، عليه ، فقال : إذا قبل الوصية له أن يردها ما دام الموصي حيا ، فان مات فليس له ردها ، واستدل بإجماع الفرقة ، وبأن الوصية قد لزمته بالقبول ، انتهى.

وقال في الدروس بعد ذكر القول المشهور في المختلف : يجوز الرد إذا لم يعلم بالوصية حتى مات ، للحرج والضرر ، ولم نعلم له موافقا عليه ، انتهى.

أقول : يظهر من شيخنا في المسالك الميل الى ما ذكره العلامة هنا حيث قال بعد ذكر القول المشهور : وأن الأصحاب استندوا فيه الى الأخبار التي قدمنا هنا ، ثم نقل قول العلامة ودليله ما هذه صورته : ، والحق أن هذه الأخبار ليست صريحة في المدعى ، لتضمنها أن الحاضر لا يلزمه القبول مطلقا ، والغائب يلزمه مطلقا ، وهو غير محل النزاع ، نعم في تعليل الرواية المتقدمة إيماء إلى الحكم ، إلا أن إثبات مثل هذا الحكم المخالف للأصول الشرعية بإثبات حق الوصاية على الموصى اليه على وجه القهر ، وتسليط الموصي على إثبات وصيته على من شاء ، بحيث يوصي ويطلب من الشهود كتمان الوصية إلى حين موته ، ويدخل على الوصي الحرج والضرر غالبا بمجرد هذه العلة المستندة إلى سند غير واضح بعيد ، ولو حملت هذه الأخبار على سبق القبول ، أو على شدة الاستحباب كأن أولى ، ولو حصل للوصي ضرر ديني ، أو دنيوي أو مشقة لا يتحمل مثلها عادة أو لزم من تحملها عليه ما لا يليق بحاله من شتم ونحوه قوي جواز الرجوع ، انتهى.

أقول : قد عرفت مما ذيلنا به بعض الأخبار المتقدمة وبه صرح عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي أن حكمه عليه‌السلام في تلك الأخبار على الغائب بأنه يلزمه القيام بالوصية متى أوصى اليه في حال الغيبة ومات الموصي أعم من أن يكون الوصي قد قبل الوصية لما بلغه الخبر أو لم يقبل ، فإنه لا أثر لعدم قبوله بعد موت الموصى ، أما على الأول فظاهر ، وهو مما لا خلاف فيه ، وأما على الثاني وهو محل الخلاف ، فلظاهر هذه الأخبار ، فإنها دلت كما عرفت على أنه بالوصية إليه حال


غيبته وموت الموصي يجب على الوصي القيام بالوصية ، رضي بالوصية أو امتنع ، فان امتناعه لا أثر له بعد موت الموصى وهذا هو محل الخلاف.

وأما إذا كان حاضرا للوصية مشافها لها ، فإنه لا يلزمه القبول ، وله أن يردها ولا ضير فيه ، لأن الموصى حي.

وحينئذ فكيف يتم قوله «أن ما تضمنته الأخبار غير محل النزاع وأنها غير صريحة في المدعى» وقد عرفت من كلام العلامة ومن كلامه هو أيضا أن محل النزاع هو أن يثبت للموصى إلزام بالقيام بوصيته مع عدم قبوله ، ولا علمه بذلك ، بل يكون قهرا عليه ، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه ، ولهذا أن غيره من الأصحاب كالعلامة في المختلف وغيره ممن قال بالقول المشهور متفقون على دلالة الأخبار على القول المذكور ، وهو الذي فهموه منها ، وغاية ما يتمسك به العلامة معارضتها بالأدلة الدالة على نفي الضرر والحرج ، فتأمل الأخبار المذكورة جمعا بين الأدلة بالحمل على القبول ، وهو الظاهر من كلامه أيضا ، وهو زاد احتمال الحمل على شدة الاستحباب.

وأنت خبير بما في التأويلين المذكورين من البعد ، وأما المعارضة بالأدلة على نفى الضرر والحرج ، فإنا نمنع حصول الضرر والحرج بمجرد الوصية اليه ، وإلا للزم عدم جواز قبول الوصاية مطلقا ، فإنه لا يجوز للإنسان أن يلقى نفسه في الضرر ، لو كان مجرد الوصية إليه يستلزم ذلك ، نعم لو فرض اتفاق ذلك في بعض الموارد كما فرضه (قدس‌سره) في آخر كلامه ، فإنه يجوز له الرجوع دفعا للضرر عن نفسه ، وبه يحصل الجمع بين أخبار الضرر وأخبار المسئلة ، ولا يحتاج الى ما ذكروه من التأويلين البعيدين.

وأما ما ذكره من أن إثبات هذا الحكم مخالف للأصول الشرعية بإثبات حق الوصاية على الموصى اليه على وجه القهر الى آخر كلامه في ذلك.

ففيه أنه إذا ثبت ذلك بالأدلة الصحيحة كما عرفته من هذه الروايات مع


صحتها باصطلاحهم من غير معارض لها في البين ، فإنه يجب تخصيص الأصول التي ذكرها بهذه الأخبار ، إذ ما من عام إلا وقد خص ، ولم يبق حينئذ إلا مجرد الاستبعاد العقلي الذي فرضه ، وهو غير مسموع في مقابلة الأخبار ، سيما مع صحتها وتكاثرها ، ووضوح دلالتها كما فصلناه ، والله العالم.

إلحاق :

قال الصدوق : إذا دعي الرجل ابنه الى قبول وصيته فليس له أن يأبى وإذا أوصى رجل الى رجل فليس له أن يأبى ان كان حيث لا يجد غيره ، وإذا أوصى رجل الى رجل وهو غائب عنه ، فليس له أن يمتنع من قبول وصيته.

أقول : أما الحكم الأول فيدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن على بن الريان (1) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام رجل دعاه والده الى قبول وصيته هل له أن يمتنع من قبول وصيته؟ فوقع عليه‌السلام : ليس له أن يمتنع».

وأما الثاني فالظاهر أن الدليل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة أيضا في الصحيح أو الحسن عن هشام بن سالم (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يوصي الى الرجل بوصية فأبى أن يقبلها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لا يخذله على هذه الحال».

وظاهره (قدس‌سره) حمل الخبر على وجوب القبول ، ولذا قيده بأن لا يجد غيره ، وفيه تأييد لما ذكرناه ردا على شيخنا المتقدم ذكره ، وينبغي تقييد كلامه بما قيدت به الأخبار المتقدمة من موت الموصي بعد الوصية والعلامة في المختلف حمل القبول في الأولين أولا على شدة الاستحباب ، ثم قال : على أن امتناع الولد نوع عقوق ، ومن لا يوجد غيره يتعين عليه ، لأنه فرض كفاية ، وبالجملة فأصحابنا

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 7 ح 6 وص 6 ح 5، التهذيب ج 9 ص 206 ح 819 و 818 ، الفقيه ج 4 ص 145 ح 498 و 499 ، الوسائل ج 13 ص 400 الباب 24 وص 399 ح 4.


لم ينصوا على ذلك ، ولا بأس بقوله ، انتهى.

وفيه عدول الى القول بوجوب القبول ، وفي حكمه ـ بكون القبول فرض كفاية يتعين مع عدم وجود فرد آخر ـ ما يوجب الإيراد عليه فيما تقدم نقله عنه من عدم وجوب قيام الموصى إليه بالوصاية بعد موت الوصي ، إذا أوصى اليه وهو غائب وان لم يعلم ، ولم يقبل ، لأن وجوب قبول الوصية كفاية انما هو حال حياة الموصي أما بعد موته فإنها يتعين فيمن أوصى اليه كما لو لم يكن غيره حال الحياة ، فإنه يصير القبول واجبا عينيا.

إلحاق آخر :

قد عرفت أنه يشترط في جواز الرد في الحياة بلوغ الخبر الموصى ، لكن يبقى الكلام في أنه لو بلغه الخبر ، ولم يمكنه إقامة وصي غيره ، فهل يكفي في جواز الرد مجرد بلوغ الخبر وان لم يوجد وصى غيره ، أو لا بد من تقييده بإمكان وجود وصى آخر عوض الأول؟ وظاهر إطلاق الفتاوى الأول ، وظاهر النصوص الثاني.

ومنها صحيحة هشام بن سالم أو حسنته المتقدمة ، وقوله عليه‌السلام فيها «لا يخذله على هذه الحال» ، وقد عرفت حملها على عدم وجود غيره ، كما صرح به الصدوق وغيره.

ومنهم العلامة في المختلف كما تقدم ، والشهيد في الدروس ، ومقتضاها كما عرفت أنه مع عدم وجود الغير لا يجوز له الرد ، ويشير الى ذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة الفضيل بن يسار المتقدم «وان كان في مصر يوجد غيره فذاك اليه» وقوله في صحيحة منصور بن حازم «لأنه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها يطلب غيره» فإنهما ظاهران في تعليق جواز الرد على وجود الغير ، فلو لم يوجد الغير لقبول الوصية لم يجز له الرد ، والله العالم.


الخامسة : لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في أن الوصي أمين ، لا يضمن ما بيده من الأموال التي تعلقت بها الولاية إلا بتعد أو تفريط ، وينبغي أن يكون المدار في التعدي وعدمه على مخالفة شرط الوصية وعدمها ، فلو ربك الدابة أو لبس الثوب لا لغرض يعود الى الطفل أو نفع يترتب عليه ، كان ذلك تعديا لأن مقتضى الوصية حفظهما أو بيعهما وصرفهما في الجهة المأمور بها ، فتصرفه فيها كذلك لأغراض نفسه تعد البتة.

أما لو تعلق بذلك غرض يعود الى الطفل ، كأن يركب الدابة للمضي في حوائج الطفل من استيفاء دينه ، أو جمع حواصله أو نحو ذلك ، ولبس الثوب لدفع الضرر عنه باللبس ، كما في ثياب الصوف ونحوها في أوقات الحر ونحو ذلك ، فإنه لا يكون تعديا ، بل ربما صار في بعض الأفراد واجبا عليه إذا علم حصول الضرر بدون ذلك.

وظاهر كلامهم أن غاية ما يوجبه التعدي والتفريط وجوب الضمان عليه مع بقائه على الوصاية ، ولا يوجب ذلك عزله ، مع أنهم قد صرحوا بأنه ان ظهر منه خيانة وجب على الحاكم عزله ، والظاهر أن التعدي والتفريط نوع خيانة أيضا إلا أنهم لم يصرحوا بذلك ، بل ربما ظهر من كلامهم في الحكم الأول عدم كون ذلك خيانة ، فينبغي التأمل في ذلك ، ثم ان ما ذكروه من أنه متى ظهرت منه خيانة وجب على الحاكم عزله ، ونصب غيره ظاهر فيما لو لم يشترط عدالة الوصي فإن للحاكم أن يعزل الخائن مراعاة لحق الأطفال ، ومصارف الصدقات ، ونحوها من تنفيذ الأمور الموصى بها.

وأما على تقدير اشتراط العدالة كما هو المشهور ، فإنه ينعزل بنفس الفسق وان لم يعزله الحاكم ، ولعل المراد بعزل الحاكم في كلامهم ما هو أعم من قوله عزلتك كما هو الحكم بالنسبة إلى القول الأول أو منعه من التصرف ، لأنه قد انعزل بنفس الفسق كما هو القول الثاني ، فالمراد بعزله يعنى منعه من التصرف ،


ولو عجز الوصي عن القيام بما أوصى به اليه ، قالوا : ضم اليه الحاكم من يساعده.

وظاهر كلامهم أنه لا فرق في العجز بين أن يكون عن الاستقلال بالوصية حال الوصية اليه ، أو تجدده بعد الوصية قبل موت الموصي أو بعده ، وبه صرح في التذكرة على ما نقل عنه حيث قال : الظاهر من مذهب علمائنا جواز الوصية الى من يعجز عن التصرف ، ولا يهتدى إليه لمشقة أو هرم أو غيرهما ، ويجبر نقصه بنظر الحاكم ، انتهى.

وعلى هذا فكما لا تبطل الوصية بالعجز الطاري كذا لا تبطل لو كان متصفا به ابتداء ، ولا يخلو من اشكال ، لأن الوصية اليه مع العلم لعدم إمكان قيامه بذلك لا فائدة فيها ، ولا يترتب عليها أثر ، فكيف يحكم بصحتها ، وضم الحاكم بعد ذلك شخصا آخر للقيام بها يكون من قبيل نصبه وصيا لمن لم يوص بالكلية ، فلا أثر له في صحة الوصية الاولى.

والى ما ذكرنا يميل كلام شيخنا الشهيد في الدروس حيث انه توقف في صحة الوصية إلى العاجز ابتداء ، فقال : ففي بطلانها من رأس ، وصحتها ويضم الحاكم اليه مقويا نظر ، ينشأ من وجوب العمل بقوله ما أمكن ، ومن عدم الفائدة المقصودة بالوصية ، انتهى.

أقول : لا ريب أن وجوب العمل بقوله انما يتم مع ترتب الأثر المقصود من الوصية عليه ، وإلا فمتى لم يترتب عليه أثر كما هو المفروض ، فإنه لا معنى لهذا الوجوب بالكلية.

وأما ما ذكره في المسالك في الاستدلال على ما ذكره الشهيد من أنه يمكن منع عدم الفائدة على هذا التقدير ، لجواز أن يكون العاجز ذا رأي وتدبير ولكنه عاجز عن الاستقلال ، فيفوض اليه الموصي أمره لذلك ، ويعتمد في إتمام الفعل على نصب الحاكم له معينا ، فتحصل الفائدة المطلوبة من الوصية ، ويسلم من تبديلها المنهي عنه.


ففيه أولا أن المفروض في كلامهم كما سمعت من عبارة التذكرة «يعجز عن التصرف ولا يهتدى إليه» هو العجز عن ذلك بجميع أنواعه في رأي كان أو فعل ، والعاجز عن الاستقلال مع كونه ذا رأي وتدبير في قوة العاجز عن البعض مع القدرة على البعض ، وهو خلاف محل البحث.

وثانيا أن الاعتماد على نصب الحاكم أمر خارج عن الوصية ، لأنه كما عرفت في قوة نصب وصي لمن لا وصي له بالكلية ، ومحل البحث انما هو وصية الوصي على هذا الوجه الذي لا يترتب على وصيته أثر بالكلية ، لأن الوصية إلى العاجز الذي يعلم عدم قيامه بشي‌ء مما يوصى به إليه في قوة العدم ، ومن المقطوع به عقلا ان مثل هذا لا يصدر عن عاقل ، وانما هو فرض ذكروه.

وبالجملة فما ذكروه من الصحة لا أعرف له وجها وجيها ، والمسئلة باقية في قالب الاشكال وللتوقف فيها مجال ، والله العالم.

السادسة : قال الشيخ في النهاية : إذا كان للوصي على الميت مال لم يجز له أن يأخذه من تحت يده ، إلا ما تقوم له به البينة ، وتبعه ابن البراج ونازعه ابن إدريس في ذلك ، فقال : هذا خبر واحد أورده (رحمه‌الله) إيرادا لا اعتقادا والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنه يأخذ من ماله في يده ، لأن من له على انسان مال ولا بينة له عليه ، ولا يقدر على استخلاصه ظاهرا ، فله أخذ حقه باطنا ، لأنه يكون بأخذ ماله من غير زيادة عليه محسنا لا مسيئا ، وقد قال الله تعالى (1) «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» ، انتهى.

وبما ذكره ابن إدريس صرح الشهيد في الدروس واللمعة ، وظاهر المحقق في الشرائع الميل الى ما ذكره الشيخ في النهاية حيث أفتى أولا بتقييد الجواز بغير اذن الحاكم بما إذا لم يكن له حجة ، ثم قال : وقيل يجوز مطلقا ، وأنت خبير بأن ظاهر كلام الشيخ هو أنه لا يجوز له الأخذ إلا مع الإثبات بالبينة عند

__________________

(1) سورة التوبة ـ الاية 91.


الحاكم ، فلو تعذر الإثبات امتنع الأخذ.

وظاهر كلام المحقق ومثله ظاهر كلام العلامة في المختلف هو التوقف على الإثبات لو كان ثمة بينة ، إلا أنه في المختلف جعله الأولى ولو لم تكن له بينة كان له الأخذ من غير توقف على الإثبات ، وهو قول متوسط بين قولي الشيخ حيث أطلق توقف الجواز على البينة ، وقول ابن إدريس حيث جوز الأخذ مطلقا.

والأصل في هذا الاختلاف ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن بريد بن معاوية (1) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ان رجلا أوصى الي فسألته أن يشرك معى ذا قرابة له ففعل ، وذكر الذي أوصى الي أن له قبل الذي أشركه في الوصية خمسين ومائة درهم ، وعنده رهن بها جام من فضة ، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدعي أن له قبله أكرار حنطة ، قال : ان أقام البينة ، وإلا فلا شي‌ء له ، قلت له أيحل له أن يأخذ مما في يده شيئا؟ قال : لا يحل له ، قلت أرأيت لو أن رجلا عدا عليه فأخذ ماله ، فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ ، أكان ذلك له؟ قال : ان هذا ليس مثل هذا».

وهذه الرواية هي مستند الشيخ فيما ذهب إليه في النهاية ، وهي ظاهرة بل صريحة فيما ذهب اليه من العموم ، وابن دريس قد اعتمد على الروايات الكثيرة الدالة على جواز الأخذ مقاصة ممن له عليه الدين ، ولم يتمكن من إثباته وأخذه ، كما صرح به ، والامام عليه‌السلام في هذه الرواية قد أشار الى الفرق بين المسئلتين ، لما عارضه الراوي بتلك المسئلة ، وحينئذ فالاستناد الى تلك الأخبار في الحكم ، كما ذكره ابن إدريس مع إشارته عليه‌السلام الى أن هذه المسئلة ليست مثل ذلك مشكل.

ولعل المراد بخروج هذه المسئلة عن تلك القاعدة التي تكاثرت بها الأخبار ،

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 57 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 232 ح 910 ، الفقيه ج 4 ص 174 ح 613 ، الوسائل ج 13 ص 479 ح 1.


أن هذا الوصي المدعي له شريك في التصرف والتنفيذ ، وهو الوصي الآخر ، فلا يجوز له التصرف بدونه ، وجواز التصرف للوصي الآخر بحيث يدفع اليه ما ادعاه موقوف على الإثبات شرعا ، لأنه ليس له أن يمكنه بمجرد دعواه ، كغيره ممن يدعي على الميت مالا ، بل يجب عليه طلب البينة منه واليمين ، كما هو المقرر في الدعوى على الميت ، ولا يكفى هنا مجرد الثبوت في الواقع ، كما في تلك المسئلة ، لأن ذلك مخصوص بما إذا لم يطلع عليه أحد سواه ، فإنه يجوز له الأخذ مقاصة ، وعلى هذا فالحكم المذكور مختص بمورد الرواية ، وهو وجود وصيين ، ودعوى أحدهما ليمكن توجيه الفرق بين المسئلتين.

وأما على ما ادعاه الشيخ من فرض المسئلة في الوصي ، وان كان واحدا وادعى دينا على الموصي ، فإن الظاهر هنا ما ذهب اليه ابن إدريس ، لأن هذا الفرد أحد أفراد تلك القاعدة التي تكاثرت بها الأخبار ، وقد تقدم تحقيق الكلام فيها في صدر الفصل الأول في البيع من كتاب التجارة (1) وبذلك يظهر أيضا ما في فتوى المحقق ، بتوقف جواز أخذ الوصي واستيفاء حقه على الإثبات ان وجدت البينة ، فإنه ان كان هذا مذهبه في تلك المسئلة كما هو أحد القولين فيها فلا اشكال ، وان كان مذهبه ثمة ، كما هو المشهور من جواز الأخذ مقاصة وان أمكن الإثبات ، فإنه لا معنى لهذا الاشتراط هنا ، مع كون هذه المسئلة أحد أفراد تلك القاعدة.

وبالجملة فالواجب الوقوف على مورد الرواية من وجود وصيين ، أحدهما يدعي المال كما ذكرناه ، فإنه أخص من تلك المسئلة ، وأما لو كان الوصي متحدا فإنه من جملة أفراد تلك المسئلة ، يحكم فيها ما يحكم في تلك المسئلة من جواز الأخذ مقاصة ، كما هو الأشهر الأظهر ، وعلله في المسالك بأن الغرض كونه وصيا في إثبات الديون ، فيقوم مقام الموصي في ذلك ، والغرض من البينة والإثبات

__________________

(1) ج 18 ص 349.


عند الحاكم جواز كذب المدعي في دعواه ، فنيطت بالبينة شرعا ، وعلمه بدينه أقوى من البينة التي يجوز عليها الخطأ ، ولأنه بقضاء الدين محسن (1) «وما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» قال : وبهذا يظهر الفرق بين دين الموصي وغيره ، حيث لا يعلم به الوصي ، وعلى تقدير علمه يمكن تجدد البراءة منه ، فلا بد من إثباته ، حتى باليمين مع البينة بذلك ، انتهى.

والأولى جعل ذلك وجها للنصوص الدالة على جواز الأخذ والمقاصة للوصي الذي هو أحد أفراد تلك القاعدة ، فإنها هي الأصل في إثبات الحكم المذكور.

تذنيب :

قد ظهر مما قررناه أنه متى كان الوصي متحدا فان الظاهر كما هو المشهور أنه يجوز له استيفاء دينه عملا بروايات تلك القاعدة المشهورة.

بقي الكلام فيما لو كان الدين لغيره ، وهو عالم به ، بمعنى أنه سمع إقرار الموصي به قبل الموت بزمان لا يمكن فيه القضاء ، ويكون المستحق ممن لا يمكن في حقه الإبراء ، كالطفل مثلا والمسجد ونحوهما ، فان ظاهر الأصحاب أن للوصي أداء الدين المذكور ، أما لو كان أصحاب الدين كبارا يمكن الإبراء في حقهم ، فلا بد من إحلافهم على بقائه ، وان علم به سابقا ، إلا أنهم (رضي‌الله‌عنهم) صرحوا بأنه لا يكفي إحلاف الوصي إياهم ، إلا إذا كان مستجمعا لشرائط الحكم ، بمعنى كونه فقيها جامع الشرائط ، وصرحوا بأنه ليس للحاكم أن يأذن له في التحليف ، بناء على علمه بالدين ، بل لا بد من ثبوته عند الحاكم ، لأن الحكم لا يجوز لغير أهله ، نعم له بعد ثبوته ـ عنده بالبينة ـ توكيله في إحلافهم.

أقول : وعلى هذا تخرج المسئلة عن الاكتفاء بعلم الموصي في جواز أداء الدين العالم به ، وتبقى ثمرة ذلك في تولية تحليفهم.

__________________

(1) سورة التوبة ـ الاية 91.


السابعة : لا خلاف في أن الموصى لو أذن لوصيه بالإيصاء ، فإنه يجوز له إجماعا ، وكذا لا خلاف فيما لو منعه ، فإنه لا يجوز له ، وانما محل الخلاف السكوت عن كل من الأمرين وإطلاق الوصية ، فالمشهور المنع ، وأن النظر بعده للحاكم الشرعي ، وهو مذهب الشيخ المفيد وأبى الصلاح وابن إدريس والمحقق والعلامة وغيرهم ، وذهب جمع منهم الشيخ في النهاية وابن الجنيد والقاضي ابن البراج الى الجواز ، والشيخ في النهاية بعد أن قال : بجواز الإيصاء.

قال : وقال بعض أصحابنا : أن ليس له أن يوصى الى غيره بما كان يتصرف فيه ، فإذا مات كان على الناظر في أمر المسلمين أن يقيم من ينظر في ذلك ، فان لم يكن هناك امام كان لفقهاء آل محمد عليهم‌السلام ، وذوي الآراء منهم أن يتصرفوا في ذلك إذا تمكنوا منه ، وان لم يتمكنوا فليس عليهم شي‌ء ، ولست أعرف بهذا حديثا مرويا.

وقال في الخلاف : إذا أوصى الى غيره وأطلق الوصية ، ولم يقل إذا متّ فوصيي فلان ، ولا قال : فمن أوصيت إليه فهو وصيي ، لأصحابنا فيه قولان : المروي أن له أن يوصي الى غيره ، وقال بعض أصحابنا : ليس له أن يوصى فإذا مات أقام الناظر في أمر المسلمين من ينظر في تلك الوصية. دليلنا على القولين ، روايات أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) بجواز الإيصاء.

أقول : أنظر الى ما دل عليه الكلام الأول من أنه ليس يعرف بهذا حديثا والى ما دل عليه الكلام الأخر ، من أن دليل القولين روايات أصحابنا.

وقال ابن الجنيد والقاضي ابن البراج : وقد روى ابن بابويه في كتابه في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (1) «أنه كتب الى أبى محمد الحسن بن علي عليه‌السلام رجل كان وصي رجل فمات فأوصى إلى رجل آخر هل يلزم الوصي وصية الرجل الذي كان هذا وصيه؟ فكتب عليه‌السلام : يلزمه بحقه ، ان كان له قبله حق ان شاء الله

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 168 ح 587 ، الوسائل ج 13 ص 460 الباب 70 ح 1.


تعالى». الظاهر أن المراد بالحق هنا حق الإيمان.

أقول : أنت خبير بما في الرواية المذكورة من الإجمال ، وتعدد الاحتمال ، والمستدل بها قد استدل بها بناء على ما ذكره من تفسير الحق بحق الإيمان ، فكأنه عليه‌السلام قال : يلزمه القيام بوصيته ان كان مؤمنا وفاء لحقه ، بسبب الايمان ، فإنه يقتضي معونة المؤمن وقضاء حوائجه.

ولا يخفى ما فيه ، والأقرب في معنى الخبر ما ذكره شيخنا في المسالك ، واليه أشار العلامة في المختلف من حمل الحق في الخبر على حق الوصية إلى الوصي الأول ، بمعنى أن الوصية تلزم الوصي الثاني بحق الأول ان كان له ، أي للأول قبله ، يعنى قبل الوصي الأول حق ، بأن يكون قد أوصى اليه ، وأذن له أن يوصي ، فقد صار له قبله حق الوصية ، فإذا أوصى بها لزمت الثاني ، وهذا الاحتمال ان لم يكن أرجح لا أقل أن يكون مساويا ، وبه يسقط الاستدلال بالخبر في هذا المجال ، على أن حق الايمان لا يختص بهذا الوصي الثاني ، بل يجب على كل مؤمن كفاية ، والكلام في اختصاص هذا الوصي من حيث الوصاية ، لا من حيث جهة المعونة العامة.

وبالجملة فالأصل يقتضي المنع من التعدي الى غير الوصي الأول ، لأن المتبادر من استنابته في التصرف مباشرته بنفسه ، وبموته يسقط ذلك ، وتفويض التصرف الى غيره يحتاج الى دليل ظاهر ، والرواية على ما عرفت من الإجمال ، وتعدد الاحتمال لا تصلح للاستدلال.

فان قيل : ان ما ادعيتموه من أن المتبادر من استنابة الوصي في التصرف مباشرته بنفسه ، ينتقض عليكم بالتوكيل فيما هو وصى فيه ، فان للوصي أن يوكل فيما جرت العادة بالتوكيل فيه ، بل وغيره على ما اختاره في المسالك أيضا ، فلو اقتضى إطلاق الإيصاء المباشرة ، لما جاز التوكيل ، وبعضهم اعتمد على هذا دليلا للقائلين بهذا القول ، فقال : ويدل عليه جواز الوكالة ، فكما جازت الوكالة جاز الإيصاء.


والجواب عن ذلك أولا بأنه يرجع الى قياس الوصاية على الوكالة ، ومع قطع النظر عن كونه قياسا مع الفارق ، غير صحيح على أصولنا معشر الإمامية

وثانيا ما ذكره شيخنا في المسالك واليه أشار الشهيد قبله في شرح الإرشاد من الفرق بين الوكالة والوصاية ، لأن الوكالة على جزئيات مخصوصة ملحوظة بنظره حيا يمضى منها ما وافق غرضه ، ويرد ما خالف ، بخلاف الإيصاء الذي لا يحصل أثره إلا بعد الموت ، وفوات نظره ، وأيضا فإن الوصي في حال حياته مالك للتصرف على الوجه المأذون فيه ، ووكيله بمنزلته ، بخلاف تصرف الوصي بعد وفاته ، لزوال ولايته المقصورة بنفسه ، وما في حكمه بموته.

وكيف كان فالظاهر بناء على المشهور أنه يرجع الأمر في تنفيذ وصاية الموصي الأول إلى الحاكم ، أو عدول المؤمنين مع عدمه ، كما صرحوا به في غير موضع ، إلا أن الظاهر من عبارة الشيخ المتقدم نقلها عن كتاب النهاية الاختصاص هنا بالإمام أو نائبه الفقيه الجامع الشرائط ، ومثلها عبارة الشيخ المفيد أيضا ، ويمكن تقييدهما بما أشرنا إليه مما صرح به الأصحاب في أمثال هذا الموضع ، كما سيأتي في المسئلة ان شاء الله تعالى ، والله العالم.

الثامنة : لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مات ولم يوص الى أحد وكان له تركة وأموال وأطفال ، فإن النظر في تركته للحاكم الشرعي ، وانما الخلاف في أنه لو لم يكن ثمة حاكم فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟ الذي قد صرح الشيخ وتبعه الأكثر الأول ، وقال ابن إدريس بالثاني.

قال الشيخ في النهاية : إذا مات انسان من غير وصية كان على الناظر في أمر المسلمين أن يقيم له ناظرا ينظر في مصلحة الورثة ، ويبيع لهم ويشترى ، ويكون ذلك جائزا فان لم يكن السلطان الذي يتولى ذلك أو يأمر به ، جاز لبعض المؤمنين أن ينظر في ذلك من قبل نفسه ، ويستعمل فيه الأمانة ويؤديها من غير إضرار بالورثة ، ويكون ما يفعله صحيحا ماضيا.


وقال ابن إدريس : والذي يقتضيه المذهب أنه إذا لم يكن سلطان يتولى ذلك فالأمر فيه الى فقهاء شيعه آل محمد عليهم‌السلام من ذوي الرأي والصلاح ، فإنهم عليهم‌السلام قد ولوهم هذه الأمور ، ولا يجوز لمن ليس بفقيه ان يتولى ذلك بحال ، فان تولاه فإنه لا يمضى شي‌ء مما يفعله ، لأنه ليس له ذلك بحال ، فأما إن تولاه الفقيه مما يفعله ، صحيح جائز ماض ، انتهى.

وتردد المحقق في الشرائع ، والواجب أولا ذكر ما وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بالمقام ، ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه منها بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر عليهم‌السلام.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قال : «مات رجل من أصحابنا ، ولم يوص فرفع أمره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله ، وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير إليه الوصية وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه‌السلام فقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصى الى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا لبيعهن أو قال : يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه ، لأنهن فروج ، فما ترى في ذلك؟ قال : فقال : إذا كان القيم مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس».

وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن علي بن رئاب (2) في الصحيح في بعض طرقه قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن رجل بيني وبينه قرابة ، مات وترك أولادا صغارا وترك مماليك وغلمان وجواري ولم يوص فما ترى

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 209 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 240 ح 932.

(2) الكافي ج 7 ص 67 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 239 ح 928 ، الفقيه ج 4 ص 161 ح 564.

وهما في الوسائل ج 12 ص 270 ح 2 وج 13 ص 274 ح 1.


فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ قال : فقال : ان كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجورا فيهم ، قلت : فما ترى فيمن يشترى منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ قال : لا بأس بذلك ، إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم وليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيم لهم والناظر لهم فيما يصلحهم».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن سعد الأشعري (1) في الصحيح قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل مات بغير وصية وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا ، وترك جواري ومماليك هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال : نعم ، وعن الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت ، ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار؟ أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه الى ولده الأكابر أو إلى القاضي؟ وان كان في بلده ليس فيها قاض كيف يصنع؟ وان كان دفع المال إلى ولده الأكبر ولم يعلم به فذهب ولم يقدر على رده كيف يصنع؟ قال : إذا أدرك الصغار وطلبوا فلم يجد بدا من إخراجه ، إلا أن يكون بأمر السلطان ، وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة صغار وكبار أيحل شراء خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك ، فان تولاه قاض قد تراضوا به ، ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال : إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس به إذا رضى الورثة بالبيع ، وقام عدل في ذلك».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن سماعة (2) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث ، قال ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 66 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 239 ح 927.

(2) الكافي ج 7 ص 67 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 240 ح 929 ، الفقيه ج 4 ص 161 ح 563.

وهما في الوسائل ج 13 ص 475 ح 3 وص 474 ح 2.


كله فلا بأس.

أقول : لا يخفى ان الظاهر من هذه الأخبار باعتبار ضم بعضها الى بعض ، وحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها هو ما صرح به الأكثر ، فإنه هو الأقرب منها والأظهر.

أما صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنه عليه‌السلام قد أجاب فيها (1) «إذا اتفق أن القيم الذي نصبه القاضي مثلك ومثل عبد الحميد يعني في الوثاقة والعدالة فلا بأس» ومن المعلوم أن نصب القاضي عندنا في حكم العدم ، فمرجع الكلام إلى أنه ان تولى ذلك ثقة فلا بأس ، وهو أظهر ظاهر في المراد.

أما صحيحة علي بن رئاب فالولي فيها مجمل ، يجب حمله على ما يدل عليه غيرها من الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى.

وأما صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري فقد دل صدرها على جواز بيع الجواري مع عدم وجود وصي كما هو المفروض في السؤال وهو وان كان مطلقا ، لكن يجب تقييد إطلاقه بتولي العدول لذلك ، كما نبه عليه في آخر السؤال الأخير ، بقوله فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع يعنى الكبار منهم ، وقام عدل في ذلك يعني بالنسبة إلى الصغار ، وأظهر من ذلك موثقة سماعة حيث شرط عليه‌السلام في صحة الميراث المذكور قيام ثقة عن الأطفال يقاسم البالغ منهم.

وبالجملة فإن الروايات المذكورة ظاهرة في جواز قيام العدل الثقة بذلك ، وأنه بهذه الأخبار مأذون في الدخول ، سواء وجد الإمام أم لا ، ولا يبعد القول بجواز تولية ذلك أيضا مع وجود الفقيه الجامع للشرائط ، وان كان ظاهر الأصحاب خلاف ذلك ، لأن القائلين بهذا القول قيدوا ذلك بتعذر الفقيه ، لأنه النائب العام كما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة (2) ونحوها إلا أنه يمكن أن يقال : انه بهذه الأخبار قد حصل الإذن للثقة العدل منهم عليه‌السلام بتولي ذلك مطلقا ، كما هو ظاهرها.

__________________

(1) نقل بالمعنى.

(2) الكافي ج 7 ص 412 ح 5 ، الوسائل ج 18 ص 3 ح 4.


وأخبار النيابة موردها كما هو الظاهر من سياقها انما هو الفتوى في الأحكام ، والقضاء بين الخصوم ، وأما مثل الولاية على طفل أو مال غائب أو نحو ذلك ، فليس في الأخبار ما يدل على اختصاصه بالإمام أو الفقيه الجامع للشرائط.

نعم ذلك وقع في كلام الأصحاب ، وبذلك يظهر لك ما في كلام ابن إدريس من الضعف والقصور لبنائه على أن الثقة غير مأذون له في الدخول في هذه الأمور.

قال في المسالك : ويستثني من موضع الخلاف ما يضطر إليه الأطفال والدواب من المؤنة ، وصيانة المشرف على التلف ، فان ذلك ونحوه واجب على الكفاية على جميع المسلمين ، فضلا عن العدول منهم ، حتى لو فرض عدم ترك مورثهم مالا فمؤنة الأطفال ونحوهم من العاجز عن التكسب واجب على المسلمين من أموالهم كفاية ، كإعانة كل محتاج ، وإطعام كل جائع يضطر اليه ، فمن مال المحتاج إليه أولى ، انتهى.

ومرجع كلامه (قدس‌سره) الى أن هذه الأشياء التي يضطر إليها يجب إخراجها عن محل الخلاف ، بمعنى أنها لا يتوقف على وجود الإمام أو النائب أو الثقة ، فلو لم يوجد أحد منهم امتنع النظر فيه ، بل يجب ذلك على الكافة وجوبا كفائيا ان لم يوجد أحد من هؤلاء ، وهو جيد.

وقال في المسالك أيضا : اعلم أن الأمور المفتقرة إلى الولاية إما أن يكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ، ثم لجده لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية ، الأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، فإن عدم الجميع فوصي الأب ، ثم وصي الجد ، وهكذا فان عدم الجميع فللحاكم ، والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي ، ثم للحاكم ، والمراد به السلطان العادل أو نائبه الخاص أو العام مع تعذر الأولين ، الى ان قال : فان فقد الجميع، فهل يجوز أن يتولى النظر حينئذ في تركة الميت من يوثق به من المؤمنين؟ قولان : ثم نقل القولين المتقدمين في المسئلة ، ونفى البأس عن القول المشهور ، والله العالم.

التاسعة : لو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب فللأصحاب في ذلك أقوال ثلاثة : أحدها ـ البطلان مطلقا ، لما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني من أن ولاية الجد وان علا على الولد مقدمة على ولاية وصي الأب ، وحينئذ فإذا نصب الأب وصيا على ولده المولى عليه مع وجود أبيه أي جد الطفل لم يصح مطلقا ، لأن ولاية الجد ثابتة بأصل الشرع ، فليس للأب نقلها عنه ، ولا جعل شريك له في ذلك.

وثانيها ـ بطلان الولاية زمان ولاية الجد خاصة ، بمعنى أنه لو أوصى الأب إلى أجنبي فإن ولايته تبطل ما دام الجد موجودا ، وبعد موت الجد تعود الولاية إلى الوصي ، لأن ولاية الأب شاملة للأزمان كلها إلا زمان ولاية الجد ، فيختص البطلان بزمان وجوده.

ورد بأن الأب لا ولاية له بعد موته مع وجود الجد ، فإذا انقطعت ولاية الأب بموته لم يقع ولاية وصيه ، فإذا مات الجد افتقر عود ولايته ـ لتؤثر في منصب الوصي ـ إلى دليل ، إذ الأصل عدم عودها ، فلا تصح في حال حياة الجد ، ولا بعد موته.

ودعوى ـ أن ولاية الأب ثابتة في جميع الأزمان المستقبلة التي من جملتها ما بعد موت الجد ـ غير معلوم ، بل هو محل البحث والنزاع ، كما لا يخفى ، وانما المعلوم انقطاع ولايته بعد موته ، مع وجود الجد بعده ، لا ثبوتها بعد موت الجد.

وثالثها ـ صحة الولاية في الثلث خاصة ، لأن له إخراجه عن الوارث أصلا ، فيكون له إثبات ولاية غيره عليه بطريق أولى ، ورد بمنع الولاية بل الملازمة ، فان ازالة الملك يقتضي إبطال حق الوارث منه أصلا ، وهو الأمر الثابت له شرعا وأما بقائه في ملك الوارث فإنه يقتضي شرعا كون الولاية عليه لمالكه ، أو وليه الثابت ولايته عليه بالأصالة ، فلا يكون للأب عليه ولاية بالنسبة إليه أصلا ، ومن ذلك ظهر أن أجود الأقوال الأول ، ونقل الأول والأخير عن الشيخ في المبسوط نقله في المسالك.

العاشرة : اختلف الأصحاب وغيرهم في وقت اعتبار الشروط المعتبرة في صحة الوصاية من الكمال والإسلام والحرية والعدالة ونحوها مما تقدم ، هل هو عند الوصية؟ أو عند الموت؟ أو من حين الوصية مستمرا الى أن ينفذها بعد الموت ، فقيل : بالأول ، وهو مختار الأكثر ، كما نقله في المسالك ، والمراد باعتبار وجودها حال الوصية بمعنى وجودها قبلها ، ولو بآن ما قضية للشرطية ، فإن الشرط يعتبر تقدمه على المشروط.

قالوا : والوجه في هذا القول أن هذه المذكورات شرائط صحة الوصية ، فإذا لم تكن حال إنشائها موجودة لم يكن العقد صحيحا ، لأن عدم الشرط يوجب عدم المشروط كما في شرائط سائر العقود ، ولأنه في وقت الوصية ممنوع من التقويض الى من ليس بالصفات ، والنهي في المعاملات إذا توجه الى ركن العقد دل على الفساد ، ولأنه يجب في الوصي أن يكون بحيث لو مات الموصي كان نافذ التصرف ، مشتملا على صفات الوصاية ، وهو هنا منتف ، لأن الموصي لو مات في هذه الحال لم يكن الوصي أهلا لها.

وقيل : بالثاني وأن المعتبر اجتماعها عند الوفاة ، حتى لو أوصى الى من ليس بأهل ، فاتفق كماله عند الوفاة واستكماله الشرائط صحت الوصية ، لأن المقصود منها التصرف بعد الموت ، فيعتبر اجتماع الشروط حينئذ ، لأنه محل الولاية ، ولا حاجة الى وجودها قبل ذلك ، لانتفاء الفائدة.

وقيل : بالثالث ، وهو الاعتبار من حين الوصية إلى حين الوفاة ، والى هذا


القول مال شيخنا الشهيد في الدروس ، حيث قال (عطر الله مرقده) بعد ذكر الشرائط : ثم هذه الشرائط معتبرة منذ الوصية إلى حين الموت ، فلو اختل أحدها في حالة من ذلك بطلت. وقيل : يكفى حين الوصية ، وقيل : حين الوفاة.

قالوا : والوجه في هذا القول ، أما حين الوصية ، فلما تقدم في توجيه القول الأول ، وأما الاستمرار الى حين الوفاة ، فلأن الوصاية من العقود الجائزة ، فمتى عرض اختلال أحد شرائطها بطلت كنظائرها ، ولأن المعتبر في كل شرط حصوله في جميع أوقات المشروط ، فمتى أخل في أثناء الفعل وجب فوات المشروط إلا ما استثنى في قليل من الموارد بدليل من خارج.

قال في المسالك : وربما يقال : أنه لا يستثني منه شي‌ء لأن ما خرج عن ذلك يدعى أن الفعل المحكوم بصحته عند فوات الشرط ليس مشروطا به مطلقا ، بل في بعض الأحوال دون بعض ، وهذا أولى ، انتهى.

وقيل : وهو الرابع أن المعتبر وجود الشرائط من حال الوصية الى أن ينتهي متعلقها بأن يبلغ الطفل ويخرج الوصايا ويقضي الديون وغير ذلك ، لأن اشتراط هذه الأمور يقتضي فوات مشروطها متى فات بعضها في كل وقت ، فلو فرض فوات بعضها بعد الوصية الى قبل انتهاء الولاية بطلت ، قال في المسالك بعد ذكر ذلك : وهذا هو الأقوى.

أقول : مبنى هذه الأقوال كلها على أن الوصية عقد ، فيجب أن يراعى فيه ما يراعى في سائر العقود ومن القواعد المقررة عندهم أن العقد إذا كان مشروطا بشرط ، فهو عدم عند عدم شرطه ، فهذا العقد إذا كان مشروطا بكون الموصى إليه معتبرا بهذه الصفات ، فلا بد من وجود هذه الصفات ، وإلا لبطل.

بقي الكلام والخلاف في وقت اعتبارها ، هل هو حال الوصية خاصة ، أو عند الوفاة؟ أو من حين الوصية إلى حين الوفاة؟ أو إلى ان ينتهي متعلق الوصاية؟ وأنت خبير بأن كون الوصية عقد مثل سائر العقود ، فيشترط فيها ما يشترط فيها ، وان كان


هو المشهور في كلامهم ، بل ظاهرهم الاتفاق عليه ، إلا أنه لم يقم عليه دليل تركن النفس اليه ، بل ربما ظهر من الأخبار خلافه ، فإنهم قد جعلوا أيضا من جملة الواجبات فيه بناء على كونها عقدا القبول ، مع أنا لم نقف فيه على دليل ، بل ربما دل الدليل على خلافه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في جملة من مسائل المقصد الأول ، وغاية ما يستفاد من الأخبار أن الوصية بالنسبة الى الموصى له لا يخرج عن العطية ، وبالنسبة إلى الوصاية لا يخرج عن الاذن والاستنابة ، ولا عقد هنا بالكلية.

فمما يدل على ما قلناه في الوصاية ما تقدم في المسئلة الثانية من خبر علي بن يقطين (1) في «رجل أوصى الى امرأة وأشرك في الوصية معها صبيا فقال عليه‌السلام : يجوز ذلك ، وتمضى المرأة الوصية ، ولا تنتظر بلوغ الصبي». الخبر فإنه لا يدل على أزيد من أن الرجل أمر المرأة بأن تنفذ ما عينه لها فيه ، واستنابها ، وضم إليها الصبي المذكور ، وأي عقد هنا يفهم من هذا الكلام أو قبول لفظي كما اعتبروه في المقام ، ونحو ذلك صحيحة الصفار المذكورة (2) ثمة في «رجل أوصى الى ولده وفيهم كبار وصغار أيجوز للكبار ان ينفذوا وصيته ، ويقضوا دينه ، قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقع عليه‌السلام : نعم» الخبر : فان المتبادر من هذا الكلام أن الموصى استناب أولاده ، وأمرهم واذن لهم في تنفيذ هذه الوصايا بأن قال : افعلوا كذا وكذا ، فوجب عليهم بعد موته القيام بذلك ، وأي دلالة لهذا الكلام على عقد في المقام ، وعلى هذا النهج جملة الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، فان سموا مثل هذا الأمر والاذن والاستنابة عقدا فلا مشاحة في التسمية ، ولكن ما ذكروه من ترتب أحكام العقود عليه ممنوع ، وإلا لجرى ذلك في كل من أمر شخصا بأمر ، وأذن له في فعل.

وبالجملة فإنك عرفت في المباحث السابقة أن ما يدعونه من العقد في كثير من تلك المواضع لا يخلو من الإشكال أيضا.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 و 2 ، الوسائل ج 13 ص 439 ح 2 وص 438 ح 1.


إذا عرفت ذلك وثبت أن غاية ما تدل عليه الأخبار هو الاذن والاستنابة في تنفيذ هذه الأمور الموصى بها.

فنقول : ينبغي أن تكون تلك الشروط محلها وقت التنفيذ ، واعتبارها في ذلك الوقت ، وهذا يرجع الى القول الثاني من الأقوال المتقدمة ، وما طعن به في المسالك ـ على هذا القول ورده به ـ من قوله ويضعف بأن الوصاية لما كانت عقدا ولم يحصل شروطها حالة الإيجاب وقع العقد فاسدا ، فيه ما عرفت من أنه لا دليل على هذا العقد الذي بنوا الكلام عليه في المقام وغيره ، وكلامنا انما هو مبني على عدمه ، فلا يرد علينا ما أورده ، ولعل القائل بهذا القول من أصحابنا أيضا يمنع كون الوصية عقدا فلا يرد عليه ما أورده ، وهذه الأقوال مع التعليلات التي ذيلت بها كلها للعامة ، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة ، وغيره من الكتب التي تصدوا فيها لنقل أقوالهم.

وفيها من البعد عن ساحة الأخبار ما لا يخفى على ذوي البصائر والأبصار ، ولأصحابنا في عدد الأقوال في المسئلة اضطراب ، فمنهم من أنها إلى أربعة حسبما ذكرناه كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ومنهم من جعلها ثلاثة كشيخنا الشهيد في الدروس وشرح الإرشاد ، ومنهم من رجعها الى اثنين خاصة ، كالمحقق والشيخ ، ولكل وجه اعتباري يدفعه ما ذكره غيره ، والله العالم.

المقصد السابع في اللواحق

وفيه أيضا مسائل الاولى : اختلف الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في منجزات المريض ، والمراد بها المعجلة حال الحياة إذا كانت تبرعا كالمحابات في المعاوضات من البيع بأقل من ثمن المثل ، والشراء بأزيد منه ، والهبة ، والصدقة ، والوقف ، والعتق ، وبالجملة فما اشتمل على تفويت المال بغير عوض ، كالهبة وما بعدها ، والمحاباة كالأولين ، ونحوهما ، هل يخرج من الأصل أو الثلث؟ مع الاتفاق على أنه لو برء ، من مرضه لزم ذلك ، وكان مخرجه من الأصل ، وانما الخلاف فيما لو مات في مرضه ذلك ، فذهب الشيخان في النهاية والمقنعة وابن البراج وابن إدريس إلى أنه من الأصل ، وهذا القول هو الظاهر عندي من الأخبار بعد النظر فيها بعين التأمل والاعتبار ، واليه مال جملة أفاضل متأخري المتأخرين ، كالمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، والفاضل المولى محمد باقر الخراساني في الكفاية ، والمحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (قدس الله أرواحهم).

وذهب الشيخ في المبسوط ، والصدوق ، وابن الجنيد الى أن ذلك من الثلث وهو المشهور بين المتأخرين ومنشأ الخلاف المذكور اختلاف الأخبار في ذلك واختلاف الأنظار والأفهام في تلك المدارك ، وها أنا أذكر أدلة كل من القولين مذيلا لها بما تنكشف به ان شاء الله تعالى غشاوة الاشكال ، ويجتمع به على وجه لا يعتريه الاختلال مستمدا منه سبحانه إفاضة الصواب ، والعصمة من الوقوع في شباك الاضطراب والارتياب.

فأقول : مما يدل على القول الأول وهو الذي عليه القول ، ظاهر قوله عزوجل (1) «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً».

وقد روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : فقال «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً» وهذا يدخل فيه الصداق والهبة».

والتقريب أنه دل بإطلاقه على ما يشمل الصحة والمرض ، فتكون الآية دالة بمعونة تفسيرها بالخبر المذكور على صحة الهبة في مرض الموت مطلقا من غير تقييد بالثلث.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الموثق عن عمار

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 4.

(2) الكافي ج 7 ص 30 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 152 ح 624 ، الوسائل ج 13 ص 439 ح 1.


الساباطي (1) «أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شي‌ء من الروح ، يضعه حيث يشاء».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : هو ماله يصنع به ما يشاء ، الى أن يأتيه الموت».

ورواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (3) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما قيل : من احتمال أن يكون المراد بإتيان الموت ما يشمل حضور مقدماته ، فيشمل مرض الموت ، فهو من الاحتمالات الباردة ، والتخريجات الكاسدة كما يكشف عنه تتمته في بعض طرق صاحب الكافي فإنه رواه بطريق آخر الى أبى بصير (4) عنه عليه‌السلام وزاد فيه «ان لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيا ان شاء وهبه ، وان شاء تصدق به ، وان شاء تركه ، الى أن يأتيه الموت ، فان أوصى به فليس إلا الثلث ، إلا أن الفضل في أن لا يضع من يعوله ، ولا يضر بورثته».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن بإبراهيم بن هاشم (5) أو الصحيح على القول بصحة حديثه ، وهو المختار ، وفاقا لجمع من علمائنا الأبرار عن أبى شعيب المحاملي عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الإنسان أحق بماله ما دامت الروح في بدنه».

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 7 ح 1 وص 8 ح 5 ، التهذيب ج 9 ص 186 ح 748 وص 178 ح 749 ، الفقيه ج 4 ص 149 ح 517.

(3) الكافي ج 7 ص 8 ح 8 ، التهذيب ج 9 ص 187 ح 750 ، الفقيه ج 4 ص 149 ح 518.

(4) الكافي ج 7 ص 8 ح 10.

(5) الكافي ج 7 ص 8 ح 9 ، التهذيب ج 9 ص 187 ح 751.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 381 ح 4 و 1 و 2 وص 383 ح 8.


وعن إبراهيم بن أبى بكر السمال الأزدي (1) عمن أخبره «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الميت أولى بماله ما دام فيه الروح».

وما رواه في الكافي والفقيه عن مرازم (2) عن بعض أصحابنا «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يعطى الشي‌ء من ماله في مرضه؟ فقال إذا أبان فيه فهو جائز ، وان أوصى به فهو من الثلث».

أقول : المراد بقوله «أبان فيه» أبي ينزه وعزله وسلمه الى من أعطاه إياه ولم يعلق إعطائه على موته.

وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن عمار الساباطي (3) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الميت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به فان تعدى فليس له إلا الثلث» ،.

هكذا في الفقيه وبعض نسخ الكافي ، وفي التهذيب عوض «فان تعدى» «فان قال بعدي ، وهو الأنسب ، بقوله يبين به ، وفي بعض نسخ الكافي هكذا «قال : قلت له : الميت أحق بماله فيه الزوج ويبين به؟ قال : نعم ، فإن أوصى به فليس له إلا الثلث» وهذا هو المناسب.

وما رواه المشايخ المذكورون أيضا عن عمار بن موسى (4) الموثق من بعض طرقه «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ، ان أوصى به كله فهو جائز له».

وهذا الخبر حمله الشيخ بالنظر الى ما تضمنه عجزه تارة على وهم الراوي ، وأخرى على فقد الوارث ، وثالثة على ما إذا أجاز الورثة.

وما رواه في التهذيب في الموثق عن عمار الساباطي (5) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 7 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 187 ح 752.

(2) الكافي ج 7 ص 8 ح 6 ، الفقيه ج 4 ص 149 ح 519.

(3 و 4) الكافي ج 7 ص 8 ح 7 وص 7 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 188 ح 756 وص 187 ح 753 ، الفقيه ج 4 ص 137 ح 477 وص 150 ح 520.

(5) التهذيب ج 9 ص 190 ح 864.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 381 ح 3 وص 382 ح 6 و 7 و 5 وص 383 ح 10.


في رجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه؟ قال : إذا أبانه جاز».

هذا ما حضرني من أدلة القول المذكور ، وهي كما ترى على ما قلناه ظاهرة الدلالة تمام الظهور ، لا يعتريها فتور ولا قصور.

وأما ما يدل على القول الآخر ، فمنه رواية علي بن عقبة (1) «عن الصادق عليه‌السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال : ما يعتق منه إلا ثلثه ، وسائر ذلك ، الورثة أحق بذلك ، ولهم ما بقي».

وموثقة سماعة (2) قال : «سألته عن عطية الوالد لولده؟ فقال أما إذا كان صحيحا فهو له يصنع به ما شاء فأما في مرض فلا يصلح».

وصحيحة الحلبي (3) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تبرأ زوجها من صداقها في مرضها؟ قال : لا».

وموثقة سماعة (4) قال : «سألته عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو بعضه فتبرءه منه في مرضها؟ قال : لا ولكنها ان وهبت له جازما وهبت له من ثلثها».

ورواية أبي ولاد (5) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرءه منه في مرضها؟ قال : بل تهبه له فتجوز هبتها له ، ويحسب ذلك من ثلثها ان كانت تركت شيئا».

وصحيحة علي بن يقطين (6) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : الثلث والثلث كثير».

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) التهذيب ج 9 ص 194 ح 781 وص 200 ح 800 وص 201 ح 802 و 803 وص 195 ح 783 وص 242 ح 940. الوسائل.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 365 ح 4 وص 384 ح 11 و 15 و 16 وص 367 ح 11 وص 363 ح 8.


وصحيحة يعقوب بن شعيب (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ماله من ماله؟ قال : له ثلث ماله ، وللمرأة أيضا».

ورواية عبد الله بن سنان (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «للرجل عند موته ثلث ماله ، وان لم يوص فليس على الورثة إمضاءه».

هذا ما حضرني من الأخبار التي استدلوا بها لهذا القول ، وأنت خبير بأن ترجيح أخبار القول الأول ظاهر من وجوه : أحدها ـ اعتضادها بظاهر القرآن بالتقريب الذي قدمنا ذكره ، وهو أحد المرجحات الشرعية التي دلت عليها مقبولة عمر بن حنظلة (3) وغيرها من عرض الأخبار عند الاختلاف على القرآن ، والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه.

وثانيها ـ أن أخبارنا مخالفة للعامة ، وأخبار الخصم موافقة لهم ، كما نبه عليه كثير من أصحابنا من أن أكثر العامة على القول بمضمون الأخبار الأخيرة ، ومن أخبارهم في هذه المسئلة ما نقله شيخنا في المسالك عن صحاحهم (4) «من أن رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد في مرضه لا مال له غيرهم ، فاستدعاهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ، قال (قدس‌سره) : وعلى هذه الرواية اقتصر ابن الجنيد في كتابه الأحمدي ، وهذه القاعدة أيضا أحد القواعد المنصوصة عنهم (صلوات الله عليهم) في مقام الترجيح بين الأخبار في مقام الاختلاف.

ولكن أصحابنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا ذكره في غير موضع ولا سيما في كتب العبادات قد ألغوا العمل بهذه القواعد المنصوصة عن أئمتهم (صلوات الله

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 191 ح 770 وص 242 ح 939.

(3) الكافي ج 7 ص 412 ح 5. الوسائل.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 362 ح 2 وص 363 ح 7 وج 18 ص 3 و 4.

(4) المسالك ج 1 ص 424 ، المستدرك ج 2 ص 521 الباب 16 ح 3.


عليهم) واتخذوا لهم قواعد لا دليل عليها ، ولا مستند لها من الجمع بين الأخبار بحمل الأمر على الاستحباب ، والنهي على الكراهة ، وجعلوا ذلك قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه ، وان عارضتها تلك القواعد المنصوصة كما لا يخفى على المتتبع لكلامهم في الخائض في بحور نقضهم وإبرامهم.

وثالثها ـ أن ما استدللنا به من الأخبار صريح الدلالة على المطلوب والمراد ، عار عن وصمة الطعن والإيراد ، ولهذا ان متأخري أصحابنا القائلين بالمشهور بينهم انما يتيسر لهم الطعن في أسانيدها ، بناء على هذا الاصطلاح المحدث ـ وعلى هذا فمن لا يرى العمل به ـ كما هو الحق الحقيق بالاتباع حسبما جرى عليه متقدمو علمائنا للصدور عنهم ، والاتباع ـ فلا مجال للطعن بذلك عنده ، على أنك قد عرفت أن فيها الصحيح والموثق ، وهم قد عملوا بالموثقات في مواضع لا تحصى ، وغمضوا العين عن مخالفة اصطلاحهم.

وبالجملة فإنك قد عرفت أنه لا مسرح للطعن في دلالتها ، بخلاف أخبارهم ، فإنها غير خالية عن الإجمال ، المانع من الاستناد إليها في الاستدلال ، كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في المقام.

ورابعها ـ اعتضاد أخبارنا بالإجماع على صحة التصرف المدلول عليه بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (1) «الناس مسلطون على أموالهم».

خرج منه ما خرج من التصرف المعلق على الموت بدليل ، وبقي الباقي لعدم الدليل الناص على الخروج كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

وخامسها ـ اتفاق القائلين من الطرفين على لزوم التصرف لو برء عن مرضه ، وأنه ينفذ من الأصل ، وهذا لا وجه له على القول الآخر ، إلا باعتبار أن يكون صحيحا غير لازم ، موقوفا على الإجازة من الوارث ان مات ، فيكون البرء كاشفا عن الصحة واللزوم واجازة الوارث ، وعدمها كاشفا عن اللزوم وعدمه ، حسبما

__________________

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7.


قالوه في بيع الفضولي.

وأنت خبير بأنه وان اشتهر ذلك في كلامهم ، وبنوا عليه في نقضهم وإبرامهم ، إلا أنا لم نظفر له بدليل في أمثال هذه المقامات ، إلا على وجوه اعتبارية لا تصلح أن تكون مستندا في الأحكام الشرعية ، كما حققنا ذلك بما لا مزيد عليه فيما تقدم في مسئلة البيع الفضولي من كتاب البيع (1) حيث إن المشهور بينهم صحته لوجوه اعتبارية ، لفقوها وتخريجات وهمية صوروها ، مع أن الأخبار تردها وتمنعها كما أوضحنا ذلك في الموضع المشار إليه بأوضح بيان ، لم يسبق إليه أحد من علمائنا الأعيان ، ويزيده تأكيدا أنه لا يخفى أن مقتضى الأدلة كتابا وسنة هو وجوب الوفاء بالعقود ، وترتب أثرها عليها من جواز التصرف بجميع أنواع التصرفات ، وإبطال ذلك يحتاج الى دليل قاطع ، ليمكن الخروج به عن الدليل الأول ، فما خرج بدليل وجب الوقوف فيه على ما اقتضاه الدليل ، وما لم يقم عليه دليل من كتاب وسنة فهو باق على مقتضى الدليل الأول وحينئذ فلزوم التصرف بعد البرء في موضع النزاع كما وقع عليه الاتفاق ، انما نشأ من لزوم الوصية أولا في حال المرض ، كما ندعيه ، الا انه انما وقعت الوصية صحيحة غير لازمة كما يدعونه ، حتى فرعوا عليه هذا القول.

وسادسها ـ ما تقدمت الإشارة إليه من عدم صلوح هذه الروايات لمعارضة ما ذكرناه من الأخبار ، لما فيها من الإجمال ، بل الاختلال في جملة منها ، والاعتلال الموجب لسقوطها عن درجة الاستدلال ، وها نحن نشير الى تلك الأخبار على التفصيل.

فمنها رواية علي بن عقبة ، وهي أوضح أدلة القائلين بذلك القول المشهور ، وأظهر الوجوه فيها عندي هو الحمل على التقية ، لمطابقتها كما عرفت للرواية العامية ، وتعارضها على الخصوص ، بما رواه في الفقيه عن هارون بن مسلم عن

__________________

(1) ج 18 ص 376.


مسعدة بن صدقه (1) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام أن رجلا من الأنصار توفي وله صبية صغار ، وله ستة من الرقيق ، فأعتقهم عند موته ، وليس له مال غيرهم ، فأتى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأخبر فقال : ما صنعتم بصاحبكم؟

قالوا : دفناه قال : لو علمت ، ما دفناه مع أهل الإسلام ، ترك ولده يتكففون الناس». وظاهر الخبر نفوذ الوصية حيث لم يحكم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بتخصيص الصحة بالثلث ، كما تضمنه خبر علي بن عقبة ، وكذا الخبر العامي ، بل حكم بصحتها ، حيث ذمه «بأنه ترك ولده يتكففون الناس» أي يسألونهم بأكفهم ، فلو لا الحكم بصحتها لما كان لهذا الكلام معنى ، والخبر إما محمول على الكراهة المؤكدة كما ظاهر من كلام الأصحاب ، واليه يشير قوله عليه‌السلام في رواية سماعة المتقدمة برواية صاحب الكافي «إلا أن الفضل في أن لا يضيع من يعوله ، ولا يضر بورثته» ، أو التحريم ، ولا ينافيه نفوذ الوصية ، كما صرح به المحدث الكاشاني في الوافي.

وكيف كان فالخبر المذكور من الأخبار الدالة على ما ذكرنا ، وان لم نذكره فيما سبق.

واحتمل في المسالك أيضا حمل رواية علي بن عقبة على الوصية ، قال : لأن حضور الموت قرينة منعه من مباشرة العتق ، ويجوز نسبة العتق اليه لكونه سببه القوي بواسطة الوصية ، قال : وهذا وان كان بعيدا ، إلا أنه مناسب ، حيث لم يبق للرواية عاضد ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، وما ذكرناه من الحمل على التقية هو الأظهر ، لكنهم (رضي‌الله‌عنهم) حيث لم يلتفتوا الى هذه القواعد في الجمع بين الأخبار ، كما قدمنا ذكره ، اضطروا الى مثل هذه التحزيجات البعيدة.

ثم إنه على تقدير تسليمها فموردها خاص ، والمدعى أعم من ذلك ، ودعوى

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 137 ح 478 ، الوسائل ج 13 ص 383 ح 9.


الأولوية ممنوعة ، بل هو قياس محض ، وعدم القائل باختصاص الحكم به لا يسوغ قياس غيره عليه.

ومنها موثقة سماعة الأولى وفي معناها رواية جراح المدائني ، وأول ما فيهما أنه لا قائل بهما على ظاهرهما ، لأن ظاهرهما المنع من عطية الوالد لولده في المرض مطلقا ، زاد على الثلث أم لا ، بل بلغ الثلث أو لم يبلغ ، والحمل على معناه أنه لا يصلح من الأصل ، بل يصلح من الثلث ، وان كان صحيحا في حد ذاته ، إلا أنه بعيد من سياق الخبرين ، إذ لا يعتبر في شي‌ء من الخبرين للأصل والثلث ، وانما السؤال عن العطية بقول مطلق ، فأجاب عليه‌السلام «أنه في حال الصحة يفعل ما يشاء ، وفي حال المرض فليس له ذلك».

والثاني ـ انهما أخص من المدعى ، فلا ينهضان حجة على العموم.

الثالث ـ احتمال حمل العطية في المرض على الوصية ، ولعله الأقرب للاعتبار ، ليحصل به الجمع بين الأخبار ، بمعنى أنه حينئذ أنه لا يوصى له بما زاد على الثلث ، وأما في الصحة فإن له أن يعطيه ماله جميعا ، ويبينه به ، والشيخ في التهذيبين حمل حديث سماعة المذكورة تارة على الكراهة ، لأنه إضرار بسائر الورثة وإيحاش لهم ، وأخرى على ما إذا لم يكن على جهة الوصية ، بل يكون هبة من غير ابانه وتسليم ، واعترضه المحدث الكاشاني في الوافي ، فقال : التأويل الأول ينافيه ما مر من تحريم الإضرار ، والثاني ينافيه قوله مع اشتراط الجواز بالصحة ، بينه في حديث جراح ، بل سائر ما بعده من أخبار هذا الباب ، فإن الإبراء وهبة ما في الذمة لا يفتقران إلى الإبانة ، فالصواب أن تحمل هذه الأخبار على ظواهرها ، ويخص المنع من العطية في المرض بمورده أعنى الوارث ، وسره ما ذكره في التهذيبين من الايحاش ، فان فعل حسبت من الثلث ، كما تدل عليه الأخبار الأخيرة ، انتهى.

أقول : فيه أولا أن ما ذكره الشيخ من تأويل رواية سماعة بحمل المنع


من عطية الولد في المرض على الكراهة جيد ، لا بأس به.

قوله «أنه ينافيه ما مر من تحريم الإضرار» إشارة إلى ما قدمنا نقله عنه من جملة حديث مسعدة بن صدقة الدال على قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما دفناه مع أهل الإسلام على تحريم العتق ، كذلك مردود ، بأن الظاهر انما هو حمله على تأكيد الكراهة ، كما يشير اليه خبر سماعة الذي أشرنا إليه ثمة وقوله عليه‌السلام فيه «إلا أن الفضل أن لا يضيع من يعوله ، ولا يضر بورثته» فان الخبر صريح في كراهية الإضرار ، دون التحريم الذي توهمه ، وكم لهم عليهم‌السلام من المبالغة في النهي عن المكروهات ما يلحقها بالمحرمات ، والأمر بالمستحبات مما يدخلها في حيز الواجبات كما لا يخفى على الفطن البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

وثانيا ـ أن تخصيصه هذه الأخبار بمعنى المنع من العطية في المرض بالوارث ، مردود بما قدمناه من تكاثر الاخبار واتفاق الأصحاب على جواز الوصية للوارث ، وعطيته في المرض ، وأن المنع من ذلك انما هو مذهب العامة ، كما تقدم في المسئلة الثانية من المقصد الخامس ، وتقدم أن ما دل على خلاف ذلك فهو محمول على التقية.

وثالثا ـ أنه مع تسليم ما ذكره من تخصيص المنع من العطية في المرض بالوارث ، ففيه أن إثبات حكم كلي بورود ذلك في جزئي خاص سيما مع عدم الصراحة كما عرفت لا يخلو من الاشكال.

ورابعا ـ أنه إذا كان متى فعل ، صح وحسب من الثلث ، فأي اختصاص بالمنع بالوارث ، إذ الاحتساب من الثلث مما لا نزاع فيه ، لوارث كان أو أجنبي ، فلا يظهر لمنع الوارث هنا وجه.

وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو عندي من النظر الظاهر ، للخبير الماهر


ومنها صحيحة الحلبي (1) وما في معناها من موثقة سماعة الثانية (2) ، ورواية أبي ولاد (3) وأول ما فيها ما ذكره شيخنا في المسالك من أن مضمونها لا يقول به أحد ، لأن الإبراء مما في الذمة صحيح بالإجماع ، دون هبته ، فالحكم فيها بالعكس ، فكيف يستند الى مثل ذلك.

الثاني ـ أنها أخص من المدعى فلا تنهض حجة على العموم.

الثالث ـ معارضتها بظاهر الآية المفسرة في صحيحة زرارة (4) بالصداق ، وأنه متى طابت نفسها عنه بإبراء أو هبة حل له في مرض كان أو صحة زاد على الثلث أو نقص ، كل ذلك لإطلاق الآية ، والخبر المذكور ، فان قيل : ان إطلاق الآية والخبر المفسر لها يجب تخصيصه بهذه الأخبار ، قلنا : هذه الأخبار حيث كانت معلومة بما عرفت من المنع من جواز الإبراء الذي لا خلاف ولا إشكال في جوازه ، يشكل الاعتماد عليها في التخصيص ، سيما ان الآية والخبر المذكورين قد اعتضدا بالأخبار الكثيرة المتقدمة في أدلة القول الأول ، فالتخصيص لهما تخصيص للجميع ، وهذه الأخبار للعلة المذكورة مع خصوص موردها كما عرفت يضعف عن تخصيص الجميع.

وأما ما تكلفه جمع من متأخري مشايخنا (رفع الله أقدارهم) في الجواب عن الطعن الأول في هذه الروايات ، بالحمل على أنه عليه‌السلام كان يعلم أن حق المرأة لم ينتقل إلى ذمة الرجل ، وانما كان عينا موجودة ، فلأجل ذلك منع من الإبراء الذي لا يقع إلا على ما في الذمة ، وأمر بالهبة ، فلا يخفى ما فيه ، على الفطن النبيه ، من التكلف والتعسف الذي يدركه كل ناظر ويعيه ، على أن هذا الاحتمال إنما ذكروه في رواية سماعة ، وغاية إمكانه ، قصره على قضية واحدة ، مع أن رواية

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) التهذيب ج 9 ص 201 ح 802 و 803 وص 195 ح 783 وص 152 ح 624. الوسائل ج 13 ص.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 384 ح 15 و 16 وص 367 ح 11 وص 339 ح 1.


أبى ولاد قد تضمنت الدين ، ووقع الجواب فيها بهذا التفصيل ، فكيف يكون المراد بذلك العين الخارجة في الذمة خاصة.

ومنها صحيحة علي بن يقطين ونحوها صحيحة يعقوب بن شعيب ، ورواية عبد الله بن سنان ، والظاهر من الجميع هو الحمل على ما بعد الموت ، أما صحيحة يعقوب بن شعيب فهي كالصريحة في ذلك ، حيث قال : الرجل يموت فما له من ماله؟ أي بعد موته ، فلا وجه حينئذ للاستدلال بها على المنجزات ، كما هو محل البحث ، وقريب منها الروايتان الأخريان لقوله «عند موته».

وبالجملة ان لم يكن ما ذكرنا هو الأظهر ، فلا أقل لأن يكون مساويا في الاحتمال ، وبه يسقط الاستناد إليها في الاستدلال ، ويؤيد ما ذكرناه من الحمل على الوصية ، تكرر هذا المعنى في الأخبار ، ودلالتها على أن غاية ما للميت الوصية به من ماله هو الثلث. وقد تقدمت ، ولعل وجه الحكمة في منع الشارع له من الزيادة على الثلث في الوصية التي يكون تنفيذها بعد الموت ، وتجويز التصرف له في حال مرضه في ماله مطلقا ، وان يفعل ما يشاء ، ويعطيه ويبينه لمن يشاء ، كما صرحت به أخبار القول الأول ، هو أن المال بعد الموت لما ينتقل إلى الورثة ، ويخرج عن ملكه وتصرفه ، فإنه يسهل على النفس السخاء به ، والجود به لمن يشاء ، فمن أجل ذلك اقتضت الحكمة الربانية منعه من الزيادة في الوصية على الثلث ، خوف الإضرار بالورثة ، والتعدي عليهم ، بل صرحت بكراهة الوصية بالثلث ، رعاية لهم هذا مع حفظه له ، وشحه به وحرصه عليه ، وهذه الحكمة ليست حاصلة في الحي ، وان كان مريضا ، فان البرء ممكن ، والشح بالمال في الجملة حاصل ، فيكون كتصرف الصحيح في ماله ، لا في مال غيره ، وتوهم كون حال المرض في معرض أن يكون للورثة بخلاف الصحيح مطلقا ممنوع ، فرب مريض عاش ، وصحيح عجل به الموت ، كما هو المشاهد بالوجدان في غير زمان ولا مكان.


وبالجملة فإن التصرف في الصورة الأولى لما كان بعد زمان الموت الذي ينتقل فيه المال الى الوارث صار كأنه تصرف في مال الوارث ، فمنع منه ، والتصرف في الصورة الأخرى لما كان في الحياة ولا تعلق له على الموت ، كان كتصرف الصحيح في ماله ، يفعل به ما يشاء.

وبما شرحناه يظهر لك أن أكثر هذه الأخبار غير ظاهرة الدلالة ، وما ربما يظهر منه ذلك فسبيله الحمل على التقية التي هي الأصل في اختلاف الأخبار ، وأما روايات القول الأول الذي عليه المعول ، فهي جميعا صريحة الدلالة ، واضحة المقالة ، لا مجال للطعن في دلالتها بوجه من الوجوه ، نعم بناء على هذا الاصطلاح المحدث الذي قد عرفت أنه لا أصل له ، ولا دليل عليه ، بل الأدلة على بطلانه لمن نظر بعين الإنصاف ورجع اليه ، اتجه لأصحاب هذا الاصطلاح الطعن فيها بضعف السند ، مع أنك قد عرفت أن فيها الصحيح ، ومن أجل ما قلنا توقف شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد البحث في المسئلة في ترجيح أحد القولين ، وتبعه المحدث الكاشاني في المفاتيح ، كما هي عادته فيه غالبا ، فقال في المسئلة المذكورة : وفي منع المريض من التبرعات المنجزة التي لا تستلزم تفويت المال على الورثة من غير عوض زيادة على الثلث من دون إذنهم أو إجازتهم قولان : وفي الأدلة من الجانبين نظر ، إذ ما صح سنده غير دال ، وما هو دال غير صحيح السند ولا معتبر ، إلا موثق في طرف الجواز ، مؤيد بالأصل ، وهو أن صاحب المال أحق بماله ما دام حيا ، ولكنه معارض بالأكثرية والأشهرية ، انتهى.

وبالجملة فإن من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، وانما عمله على الاصطلاح القديم في الحكم بصحة جميع الأخبار ، فإنه لا يرتاب ولا يشك في صحة ما اخترناه.


تذنيب :

ممن اختار القول المشهور بين المتأخرين العلامة في المختلف ، واحتج عليه برواية علي بن عقبة ، ورواية أبي ولاد وصحيحة علي بن يقطين المتقدم جميعه في المقام.

ورواية علي بن أبي حمزة عن أبى بصير (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أعتق رجل عند موته خادما له ، ثم أوصى بوصية أخرى ألغيت الوصية ، وأعتقت الجارية من ثلثه ، إلا أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية».

واستدل أيضا بصحيحة زرارة (2) «عن الصادق عليه‌السلام قال : إذا ترك الدين عليه ومثله أعتق المملوك ، واستسعى».

ورواية حفص بن البختري (3) ورواية الحسن بن الجهم (4) الدالتين على ما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة.

وهذه الروايات وأمثالها قد تقدمت في المسئلة السادسة فيما إذا كان على الإنسان دين ، فأعتق مملوكه الذي ليس له سواه منجزا ، من القصد الخامس في الموصى له ، ثم احتج ببعض الأدلة الاعتبارية كما هي قاعدتهم الى أن قال : احتج المخالف بأنه مالك تصرف في ملكه ، فكان سائغا ماضيا كالصحيح ، والجواب المنع من الملازمة ، والقياس باطل في نفسه ، والفرق ظاهر ، انتهى.

أقول : انظر الى هذه المجازفة الظاهرة في عدم استدلاله للقول المذكور بشي‌ء من تلك الروايات المتعددة الصريحة مع كثرتها ، كما عرفت ، وانما أورد هذا التعليل الاعتباري ورده بما ذكره ، وهو عجب من مثله (قدس‌سره) فان كان ذلك عن عدم اطلاع على شي‌ء من تلك الأخبار فهو عجيب من مثله ، وان كان

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 17 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 197 ح 786.

(2 و 3 و 4) التهذيب ج 9 ص 169 ح 688 و 689 و 690. الوسائل ج 13.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 365 ح 6 وص ص 422 ح 2 و 1 وص ص 423 ح 4.


مع الاطلاع عليها فهو أعجب ، ومن نظر في كلامه هذا ورأى الأخبار الدالة على القول الذي اختاره ، ولم ير في مقابلتها إلا هذا التعليل العليل ، فإنه لا يعتريه الشك في تقليده ، والحزم بما ذكره ، وأما الروايات التي استدل بها فقد عرفت الجواب عن جملة منها.

بقي الكلام فيما استدل به من صحيحة زرارة وروايتي الحفص والحسن بن الجهم وأمثالها مما قدمنا ذكره في المسئلة ، فإنه لا ريب في دلالتها على ما ذكروه ، إلا أنا قد قدمنا في تلك المسئلة أن وجه الجمع بين هذه الأخبار وبين الأخبار التي استندنا إليها هنا في الدلالة على ما اخترناه من خروج المنجزات من الأصل ، هو العمل بتلك الأخبار ، لأنها أخص فيخصص بها عموم هذه الأخبار وإطلاقها ، لأن مورد تلك الأخبار العتق مع الدين المزاحم له ، فيجب العمل فيها بما دلت عليه تلك ، ويجب الوقوف فيه على ما دلت عليه اخبار هذه المسئلة.

وأما رواية أبي بصير التي استدل بها ، فالجواب عنها ما عرفت في الجواب عن رواية علي بن عقبة ، ولنا بناء على اصطلاحهم رد هذه الرواية وأمثالها من رواية علي بن عقبة وغيرهما مما ليس بصحيح باصطلاحهم بضعف الاستناد ، إلزاما لهم باصطلاحهم ، فلا تقوم لهم بها حجة علينا كما لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الثانية : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في إقرار المريض إذا مات في مرضه على أقوال : أحدها ـ أنه ينفذ من الأصل مطلقا ، من غير فرق بين إقراره في حال مرضه ، أو صحته ، وهو مذهب سلار حيث قال : من كان عاقلا يملك أمره فيما يأتي ويذر ، فإقراره في مرضه كإقراره في صحته ولم يفرق بين الدين ولا العين ، ولا بين الوارث ولا الأجنبي ، ولا بين أن يكون المقر متهما في إقراره أو غير متهم ، وهو اختيار ابن إدريس.

وثانيها ـ أنه من الأصل أيضا لكن بشرط عدالة المقر ، وانتفاء التهمة ، لوارث كان الإقرار أو لأجنبي ، ومن الثلث مع انتفاء أحد القيدين ، وهو مذهب


الشيخين وابن البراج ، والمحقق في الشرائع ، والشهيد الثاني في المسالك ، وسبطه السيد السند في شرح النافع ، والمحدث الشيخ بن الحسن الحر العاملي في الوسائل وغيرهم ، بل صرح في المسالك أنه مذهب المحقق في النافع.

حجة القول الأول كما ذكروه عموم (1) «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». ولأنه بإقراره يريد إبراء ذمته من حق عليه في حال الصحة ، ولا يمكن التوصل اليه إلا بالإقرار ، فلو لم يقبل إقراره بقيت ذمته مشغولة ، وبقي المقر له ممنوعا من حقه ، وكلاهما مفسدة ، واقتضت الحكمة قبول قوله.

وأنت خبير بما فيه من إمكان المناقشة وتطرق البحث اليه ، أما الحديث المذكور فإنه يخص عمومه بالأخبار الآتية الدالة على أنه مع التهمة وعدم العدالة لا ينفذ إقراره.

وأما التعليل الآخر ففيه ، الإقرار كما يحتمل أن يكون لما ذكره من ارادة إبراء ذمته ، وأن ذمته مشغولة واقعا ، كذلك يحتمل أن يكون قصده من الإقرار مجرد حرمان الوارث ومنعه ، وان ذمته غير مشغولة ، كما تشير الى ذلك الأخبار الآتية المصرحة باشتراط نفي التهمة ، وكونه مرضيا ، والاستدلال المذكور مبني على الاحتمال الأول ، وهو غير متعين ، سيما مع دلالة الأخبار المذكورة على ما ذكرناه.

وبالجملة فترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ليمكن التفريع عليه والبناء على ما يقتضيه يحتاج الى دليل ، وليس فليس.

وأما القول الثاني فيدل عليه أما بالنسبة إلى الوارث فصحيحة منصور بن حازم (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا ، فقال : ان كان الميت مرضيا فأعطه له ، وموثقة أبي أيوب (3) «عن أبي

__________________

(1) الوسائل ج 16 ص 133 الباب 3 ح 2.

(2) الكافي ج 7 ص 41 ح 2.

(3) التهذيب ج 9 ص 160 ح 657. الوسائل ج 13.

وهما في الوسائل ج 13 ص 376 ح 1 وص 378 ح 8.


عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا فقال : ان كان الميت مرضيا فأعطه الذي أوصى له ، وأما بالنسبة إلى الأجنبي ، فصحيحة ابن مسكان عن العلاء بياع السابري (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة استودعت رجلا مالا فلما حضرها الموت قالت له : ان المال الذي دفعته إليك لفلانة ، وماتت المرأة ، فأتى أولياءها الرجل ، فقالوا له : أنه كان لصاحبتنا مال ، لا نراه إلا عندك ، فأحلف لنا ما قبلك شي‌ء ، أفيحلف لهم؟ فقال : ان كانت مأمونة عنده فيحلف لهم ، وان كانت متهمة فلا يحلف ، ويضع الأمر على ما كان ، فإنما لها من مالها ثلثه».

وأما القول الثالث فيدل عليه بالنسبة إلى الإقرار للأجنبي ، وأنه من الثلث ، صحيحة ابن مسكان (2) عن العلاء المتقدمة ، وأما بالنسبة إلى الوارث ، وأنه من الثلث مطلقا ، فاستدل عليه بصحيحة إسماعيل بن جابر (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أقر لوارث له وهو مريض بدين قال : قال. يجوز عليه إذا أقر به دون الثلث». وقوى جماعة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، وسبطه السيد السند في شرح النافع ، حمل الرواية المذكورة وما اشتملت عليه من اعتبار الثلث على حالة التهمة جمعا بينها ، وبين صحيحة منصور المتقدمة.

وزاد في المسالك احتمال أن نفوذه كذلك بغير قيد ، وهو لا ينافي توقف غيره عليه ، قال : مع أن ظاهرها غير مراد ، لأنه اعتبر نقصان المقر به عن الثلث ، وليس ذلك شرطا إجماعا ، انتهى.

أقول : بل الوجه هو الأول الذي يحصل به الجمع بينها وبين الصحيحة المشار إليها ، والرواية التي معها.

واحتمل بعض مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) أن يكون «دون» في

__________________

(1 و 2 و 3) الكافي ج 7 ص 42 ح 3 و 4، التهذيب ج 9 ص 160 ح 661 و 659 ، الفقيه ج 4 ص 170 ح 595 و 592 ، الوسائل ج 13 ص 377 ح 2 و 3.


الرواية بمعنى «عند» وأن يكون المراد الثلث وما دون ، ويكون الاكتفاء مبنيا على الغالب ، لأن الغالب أما زيادته عن الثلث ، أو نقصانه ، وكونه بقدر الثلث بغير زيادة ولا نقص نادر ، انتهى.

أقول : والحمل الثاني غير بعيد فقد وقع التعبير بمثل هذه العبارة في إرادة المعنى المذكور في جملة من موارد الأحكام ، وعليه حمل قوله (1) عزوجل «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» أي اثنين فما فوق.

ثم أقول : قد روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن أبى ولاد (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مريض أقر عند الموت لوارث بدين له عليه؟ قال : يجوز ذلك ، قلت : فإن أوصى لوارث بشي‌ء؟ قال : جائز».

وظاهر هذه الرواية إنما ينطبق على القول الأول ، لكنها معارضة بصحيحة منصور بن حازم (3) وموثقة أبي أيوب (4) المتقدمتين ، وقضية الجمع بين الجميع تقييد إطلاق هذه الرواية بتلك الروايتين.

وكيف كان فهي كما ترى ظاهرة في رد القول الثالث بالنسبة إلى الوارث ، سواء قيدت أم لم تقيد ، لأنه قد حكم بكون الإقرار للوارث من الثلث مطلقا ، وهذه الرواية بحسب ظاهرها قد دلت على كونه من الأصل مطلقا ، فهي ظاهرة في رده من أصله ، وبالنظر الى تقييدها بتلك الروايتين يكون ردا عليه في بعض ما أطلقه ، مضافا الى ذلك ما عرفت في الرواية التي استدل له بها ، وبما حررناه يظهر لك أن أظهر الأقوال الثلاثة المذكورة هو القول الثاني.

وفي المسئلة أيضا أقوال آخر ، منها الفرق بين المضي من الأصل والثلث بمجرد التهمة ، وانتفائها.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 11.

(2 و 3 و 4) الكافي ج 7 ص 42 ح 5 وص 41 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 160 ح 660 وص 159 ح 656 وص 160 ح 657، الوسائل ج 13 ص 377 ح 4 وص 376 ح 1 وص 378 ح 8.


ومنها جعل مناط الفرق المذكور العدالة.

ومنها تعميم الحكم للأجنبي بكونه من الأصل ، وتقييد ذلك في الوارث بعدم التهمة.

وقد ذكر جمع من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) أن المراد بالتهمة هنا الظن المستند إلى القرائن الحالية والمقالية الدالة على أن المقر لم يقصد بإقراره الاخبار عن حق متقدم ، وإنما المراد تخصيص المقر له بما أقر به ، وحرمان الوارث من حقه أو بعضه ، والتبرع به للغير ، فلذلك جرى مجرى الوصية في الخروج من الثلث خاصة.

والظاهر أن المراد من العدالة في كلامهم هو ما أشار إليه في صحيحة منصور ، وموثقة أبي أيوب بقوله مرضيا ، أى يعتمد على قوله ، ولا يظن به التهمة وقصد حرمان الورثة بإقراره ، وهو المراد أيضا من قوله عليه‌السلام في رواية العلاء بياع السابري «ان كانت مأمونة».

وبالجملة فإنه لما كان الميت ليس له من ماله بعد الموت إلا الثلث خاصة ، وما زاد فهو للوارث ، منع من تصرفه فيه بالوصية ونحوها ، وحينئذ فإذا اعترف بالدين ـ الذي مخرجه من حيث هو من الأصل لتعلقه بالذمة ـ من حيث احتمال اعترافه للصحة والبطلان ، وجب التفصيل فيه بما دلت عليه هذه الأخبار ، من أنه إذا كان مرضيا مأمونا ، له ديانة وورع يحجزه عن مخالفة الحدود الشرعية والأوامر الإلهية ، وجب العمل بظاهر اعترافه ، وأخرج من الأصل ، وإلا فإنما يخرج من الثلث.

وبهذا فيظهر ما في كلام جملة من الأصحاب من أن الإقرار انما يكون من الثلث مع ظهور التهمة ، ومع الشك والجهل بالحال يرجع فيه الى أصالة عدمها ، فيجب الخروج من الأصل ، فإنه خلاف ظاهر الأخبار المذكورة حيث إنها صريحة في كون الإخراج من الأصل مشروطا بكون المقر مرضيا مأمونا ، ومقتضاه


أنه مع الجهل وعدم العلم بوجود الشرط ، أو العلم بعدم وجوده يكون الإخراج من الثلث ، لعدم وجود الشرط الموجب لانتفاء المشروط.

وهذا التحقيق يرجع في الحقيقة إلى القول المتقدم بأن مناط الفرق المذكور العدالة ، كما هو منقول عن العلامة في التذكرة ، وأنها هي الدافعة للتهمة ، وهذا هو ظاهر الأخبار المتقدمة.

ويظهر الفرق بين هذا القول والقول الثاني ما لو كان المقر على ظاهر العدالة ، وقامت القرائن الحالية أو المقالية على التهمة ، فعلى الاكتفاء بظاهر العدالة ، يكون الإخراج من الأصل ، ولا يلتفت الى ما دلت عليه القرائن المذكورة ، وعلى تقدير المشهور من ضم عدم التهمة إلى العدالة وجعلهما شرطين ، يكون الإخراج من الثلث ، لانتفاء أحد الشرطين.

وأنت خبير بأن اعتبار انتفاء التهمة منفردا أو منضما الى شرط العدالة لا يعرف له مستند من الاخبار ، إلا ما يفهم من شرط الامانة وكونه مرضيا الذي هو عبارة عن العدالة عندهم بالتقريب الذي قدمناه.

اللهم إلا أن يقال : ان قيام القرائن بالتهمة الموجب لظنها ينافي العدالة المذكورة ، ولا يجامعها وهو غير بعيد ، وان صرح في المسالك بخلافه ، وجوز اجتماعهما ، بناء على أن العدالة المبنية على الظاهر لا تزول بالظن ، وفيه منع ظاهر فإن العدالة انما تبنى على الظن ، واللازم من ذلك تقابل الظنين وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج الى مرجح ، والظاهر أنه لما ذكرناه ذهب صاحب الكفاية إلى قول آخر في المسئلة ، فقال ـ بعد أن فسر التهمة بما قدمنا نقله عن جمع من الأصحاب ـ ما هذا لفظه : والأقوى أن التهمة بالمعنى المذكور توجب المضي من الثلث مطلقا ، وكون المقر ممن يوجب قوله الظن بصدقه ، لكونه أمينا مصدقا يوجب المضي من الأصل ، وفي غير ذلك تأمل ، انتهى.

ومحل التأمل في كلامه ما لو انتفى الوصفان كما في غير العدل ، أو المجهول


العدالة الذي لم تظهر قرائن التهمة عليه ، وقد عرفت آنفا أن مقتضى ظواهر الأخبار الدالة على اشتراط كونه مرضيا في الخروج من الأصل ، أنه متى فقد الشرط وجب انتفاء المشروط ، فالحكم بأنه من الثلث في هذه الصورة بناء على ذلك الظاهر أنه لا اشكال فيه ، إلا أن ما ذكره من التأمل في أمثال هذه المواضع لا يخلو من وجه.

هذا : وقد صرح جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة والشهيدان بأنه لو برء المريض فالظاهر نفوذ إقراره من الأصل ، تمسكا (1) «بأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». السالم عما يصلح للمعارضة ، فإن رواية العلاء مفروضة في الإقرار الواقع في مرض الموت ، وغيرها لا عموم فيه بحيث يتناول من برء بعد المرض ، واليه مال السيد السند في شرح النافع ، وهو جيد.

تذنيب

بقي في المقام روايات تتعلق بالمسئلة لا بأس بنقلها ، وبيان ما اشتملت عليه ، ومنها صحيحة الحلبي (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يقر لوارث بدين؟ فقال : يجوز إذا كان مليا».

وصحيحته (3) الأخرى قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أقر لوارث بدين في مرضه أيجوز ذلك؟ قال : نعم إذا كان مليا» ، وضمير اسم كان يحتمل رجوعه الى الوارث الذي أقر له ، والغرض من ذكر ملاءته كون ذلك قرينة على صدق المقر في إقراره له ، ويحتمل عوده الى المقر ، ويجعل ذلك كناية عن صدقه وأمانته ، وعلى هذين الاحتمالين يكون مخرجه من الأصل ، ويحتمل رجوعه الى المقر أيضا لا باعتبار الأول بل باعتبار التخصيص بالثلث ، بأن تبقى ملاءته

__________________

(1) الوسائل ج 16 ص 133 ح 2.

(2) الكافي ج 7 ص 41 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 159 ح 655.

(3) التهذيب ج 6 ص 190 ح 405.

وهما في الوسائل ج 13 ص 378 ح 5 و 7.


بالثلثين ، وحاصل الجواب أنه يجوز إقراره في الثلث خاصة ، فيكون مخرجه منه دون الأصل.

ويمكن تأييد هذا المعنى بموثقة سماعة (1) قال : «سألته عمن أقر للورثة بدين عليه وهو مريض؟ قال يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا».

بحمل القليل فما دونه ، بمعنى أن مخرج هذا الذي أقر به من الثلث ، وعلى هذا تكون هذه الروايات مطابقة لمذهب المحقق في النافع إلا أن تحمل على التهمة كما تقدم ذكره في صحيحة إسماعيل بن جابر (2) إلا أن الاستناد إليها مع ما هي عليه من الإجمال الموجب لاتساع دائرة الاحتمال لا يخلو من الاشكال ، والحق أن هذه الأخبار لا يظهر لها معنى يعتمد عليه ، ولا يفهم منها حكم يرجع اليه.

ومنها صحيحة سعد بن سعد (3) «عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن رجل مسافر حضره الموت ، فدفع مالا الى رجل من التجار ، فقال : ان هذا المال لفلان بن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير ، فادفعه اليه يصرفه حيث شاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعل له بأمر ، ولا يدرى صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال : يضعه حيث شاء».

قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) : قوله «يضعه حيث شاء» أي هو ماله يضعه حيث يشاء ، إذ ظاهر إقراره أنه أقر له بالملك ، ويكفي ذلك في جواز تصرفه ، فلا يلزمه بيان سبب الملك ، ويحتمل أن يكون المراد أنه أوصى اليه بصرف هذا المال في أي مصرف شاء ، فهو مخير في الصرف فيه مطلقا أو في وجوه البر ، انتهى.

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 160 ح 658.

(2) الكافي ج 7 ص 42 ح 4.

(3) الكافي ج 7 ص 63 ح 23 وفيه «عن سعد بن إسماعيل عن أبيه» ، التهذيب ج 9 ص 160 ح 662.

وهما الروايات في الوسائل ج 13 ص 379 ح 9 وص 377 ح 3 وص 378 ح 6.


أقول : لا يخفى أن سياق الرواية المذكورة ظاهر في أن اعتراف الرجل بذلك المال لذلك الشخص الذي سماه ، ليس له أصل بالكلية ، ولهذا ان الرجل المسمى لم يقبض المال ، ولم يأمر فيه بأمر ، بل تعجب من ذلك ، ولم يدر ما الذي حمل ذلك الرجل على الاعتراف له ، مع أنه لا يستحق في ذمته مالا بالكلية ، وحينئذ فقرينة التهمة في هذا الاعتراف ظاهرة ، فيجب بمقتضى ما تقدم أن يكون مخرجه من الثلث خاصة ، وظاهره أن المال باق في يد الأمين ، وحينئذ فيجب أن يحمل جوابه عليه‌السلام «بأن ذلك له يضعه حيث يشاء» اما على عدم وجود وارث لذلك الرجل المقر ، فان من لا وارث له ، له أن يوصى به كملا إلى من نشاء ، أو يعترف به كما هو أصح القولين في المسئلة ، أو على أن ذلك المال يخرج من الثلث ، أو أن الغرض من الجواب بيان صحة الانتقال والتملك بمجرد هذا الاعتراف مع قطع النظر عن هذه المسئلة بالكلية.

وكيف كان فالخبر غير خال من شوب الاشكال ، لما فيه من الإجمال.

ومنها رواية أبي بصير (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل معه مال مضاربة فمات وعليه دين ، وأوصى أن هذا الذي ترك لأهل المضاربة أيجوز ذلك؟ قال : نعم إذا كان مصدقا».

أقول : هذا الخبر مما ينتظم في سلك أخبار القول الثاني ، والتعبير بقوله «مصدقا» مثل قوله في تلك الاخبار «مرضيا ومأمونا».

ومنها رواية السكوني (2) «عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه كان يرد النحلة في الوصية ، وما أقر عند موته بلا ثبت ولا بينة رده».

أقول : الظاهر أن المراد من قوله «يرد النحلة في الوصية» بمعنى يجعلها داخلة في الوصية ومن قبيلها ، فيكون الجار والمجرور متعلقا بيرد ، وأما احتمال

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 167 ح 679 وص 161 ح 663 ، الوسائل ج 13 ص 380 ح 14 و 12.


تعلقه بالنحلة فإنه يقتضي رد النحلة مطلقا ، وهو مخالف لظاهر الأخبار المتقدمة ، وغيرها ، والمراد بقوله «وما أقر به عند موته» الى آخر ما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار من الحمل على ما إذا كان غير مرضي بل متهما على الورثة فيكون معنى رده يعنى من الأصل وأن اخرج من الثلث ، وظاهر الخبر رده مطلقا ، إلا أنه لما كان مخالفا لما تقدم من الأخبار ، فالواجب حمله على ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه).

ومنها رواية محمد بن عبد الجبار (1) قال : «كتبت الى العسكري عليه‌السلام : امرأة أوصت الى رجل وأقرت له بدين ثمانية آلاف درهم ، وكذلك ما كان لها من متاع البيت من صوف وشعر وشبه وصفر ونحاس ، وكل مالها أقرت به للموصى اليه ، وأشهدت على وصيتها وأوصت أنه يحج عنها من هذه التركة حجتان ، ويعطى مولاه لها أربعمائة درهم وماتت المرأة ، وتركت زوجا ولم ندر كيف الخروج من هذا ، واشتبه علينا الأمر ، وذكر الكاتب أن المرأة استشارته فسألته أن يكتب لها ما يصح لهذا الوصي فقال : لا تصح تركتك لهذا الوصي إلا بإقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود ، وتأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه به ، فكتب له بالوصية على هذا ، وأقرت للوصي بهذا الدين ، فرأيك أدام الله عزك في مسئلة الفقهاء قبلك عن هذا ، وتعرفنا ذلك لنعمل به ان شاء الله؟ فكتب عليه‌السلام بخطه : ان كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال ان شاء الله وان لم يكن الدين حقا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف».

أقول : لما كان ظاهر سياق هذه الحكاية أن المرأة المشار إليها قاصدة بهذا الإقرار حرمان الوارث لم يرتب الحكم فيها على عدالة المقر ، وكونه مرضيا ، لأن المعلوم من السياق خلافه بل رتبه على ثبوت الدين ومعلومية صحته ، وهو

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 161 ح 664 ، الوسائل ج 13 ص 379 ح 10.


نظير ما تقدم في رواية السكوني من قوله عليه‌السلام «بلا ثبت ولا بينة رده» بناء على ما ذيلنا به من التأويل بأنه إذا كان متهما احتيج إلى إخراجه من الأصل إلى البينة الموجبة لثبوته ، وإلا فمن الثلث.

وأما قوله في الخبر المذكور «فرأيك أدام الله عزك في مسئلة الفقهاء قبلك» فإنه لا يخلو من غموض ، قال المحدث الكاشاني في الوافي : ما رأيك أو أعلمنا رأيك في سؤالنا الفقهاء الذين يكونون عندك من شيعتك عن هذا ، وفي تعرفنا ذلك منهم ، إذ ليس لنا إليك وصول ، وكان غرضه الاستئذان في مطلق سؤالهم من المسائل ، انتهى.

أقول : الظاهر أنه لا يخلو من بعد ، وقال : شيخنا المجلسي في حواشيه على كتب الأخبار لعل المراد بالفقهاء الأئمة عليهم‌السلام أي نطلب رأيك أو نتبعه ، أو ان رأيت المصلحة في أن تعرفنا ما أجاب به الأئمة المتقدمة عليك عند سؤالهم عن هذه المسئلة ، فعلى الأخير يكون وتعرفنا معطوفا على مسئلة ، تفسيرا لها ، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن فقهاء أهل البلد ، وتعريف الجواب بأن يقرأ قبلك بكسر القاف وفتح الباء ، وعلى التقديرين يكون هذا النوع من الكلام الغير المعهود من أصحابهم للتقية ، وعلى الثاني لنهاية التقية ويمكن أن يكون المراد ما رأيك في مسئلة سألنا الفقهاء قبل أن نسئلك فيها يعنى فقهاء بلد السائل ، انتهى.

أقول : والذي يظهر لي من العبارة المذكورة أن المراد انما هو عرفنا رأيك في هذه المسئلة التي سئل الفقهاء قبلك لنعمل بما تعرفنا دون ما قالوا أولئك الفقهاء فيها ، وحينئذ يكون المراد بالفقهاء فقهاء العامة.

ومنها رواية مسعدة بن صدقة (1) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام لا وصية لوارث ولا إقرار بدين». يعني إذا أقر المريض لأحد من

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 162 ح 665 ، الوسائل ج 13 ص 380 ح 13.


الورثة بدين فليس له ذلك ، وحمله الشيخ في التهذيبين تارة على التقية وأخرى على المتهم ، وما زاد على الثلث.

أقول : ما تضمنه من النهي عن الوصية للوارث فلا ريب في حمله على التقية ، لأن ذلك مذهب الجمهور ، وأخبارنا المعتضدة باتفاق أصحابنا دالة على الجواز كما تقدم تحقيقه في المسئلة المذكورة من المقصد الأول ، وأما المنع من الإقرار بالدين فهو يتعين الحمل على أحد الحملين ، والله العالم.

المسئلة الثالثة : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن من مات ولا وارث له ، هل له أن يوصي بجميع ماله الى من شاء أم لا؟ فذهب الشيخ في الخلاف وابن إدريس والعلامة في المختلف الى الثاني ، وذهب ابن الجنيد والصدوق في المقنع وهو ظاهر الشيخ في كتابي الأخبار الى الأول ، وهو ظاهر المحدثين المحسن الكاشاني في الوافي والحر العاملي في الوسائل ، وهو المختار.

وقال في المختلف : قال الشيخ في الخلاف : من ليس له وارث قريب أو بعيد ، ولا مولى نعمة لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وشريك ، الى أن له أن يوصي بجميع ماله ، وروي ذلك في أحاديثنا ، ثم استدل بصحة الوصية بالثلث إجماعا ولا دليل على الزائد ، وروى معاذ بن جبل (1) «عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه قال : ان الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم». ولم يفرق بين أن يكون له وارث أم لا ، وقال ابن إدريس أيضا : لا يصح الا في الثلث ، وقال ابن الجنيد : روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (2) أنه قال : «ومن أوصى بالثلث فقد بلغ المدى». يعنى بذلك إذا كان له ورثة ومن تجاوز ذلك الى الثلث لم يجز إلا أن تشاء الورثة ، فأما من لا وارث له فجائز أن يوصى بجميعه لمن شاء ، وفيما شاء مما أبيح الوصية فيه ،

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 519 الباب 9 ح 3.

(2) التهذيب ج 9 ص 192 ح 773 ، الوسائل ج 13 ص 360 ح 1.


وقال الصدوق في المقنع : إذا مات الرجل ولا وارث له ولا عصبة قال : يوصي بماله حيث شاء في المسلمين والمساكين ، والمعتمد الأول ، لما تقدم ، واحتج الآخرون بما روى السكوني (1) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنه سئل عن الرجل يموت ولا وارث له ولا عصبة ، قال : يوصى بماله حيث شاء في المسلمين والمساكين وابن السبيل.

وقد روى الشيخ والصدوق معا عن عمار بن موسى (2) «عن الصادق عليه‌السلام قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ان أوصى به كله فهو جائز له». وتأولاه بأنه إذا لم يكن وارث قريب أن بعيد ، فيوصي به كله ، واستدلا بما سبق من حديث السكوني ، والوجه ترك هذه الرواية لضعفها ، انتهى كلامه في المختلف.

أقول : العجب من الشيخ (قدس‌سره) أنه استدل على ما ذهب إليه في الخلاف من عدم صحة الوصية في الصورة المذكورة بأن الوصية بالثلث مجمع عليه ، وما زاد لا دليل عليه مع أنه بعد أن نقل عن أبي حنيفة أن له أن يوصي بجميع ماله قال : وروى ذلك في أحاديثنا ، وحينئذ فإذا اعترف برواية ذلك في أحاديثنا كيف يتم له قوله «والوصية بما زاد على الثلث لا دليل عليه» والدليل موجود باعترافه ، إلا أن يبين وجه قدح فيه يوجب عدم العمل به ، ومع ذلك يستند الى هذه الرواية العامية ، ويطرد هذه الرواية التي اعترف بها.

وأعجب من ذلك قول العلامة بعد ذلك ، والمعتمد الأول ، بما تقدم ، وأشار بالأول إلى مذهب الشيخ في الخلاف ، وأشار بما تقدم الى الاستدلال الشيخ مع ما عرفت فيه من القصور الظاهر لكل ناظر.

نعم يمكن أن يستدل لما ذهب اليه الشيخ في الخلاف ومن تبعه بإطلاق بعض الروايات الدالة (3) على أنه متى أوصى بما زاد على الثلث وجب رده الى

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 188 ح 754.

(2) التهذيب ج 9 ص 187 ح 753 ، الفقيه ج 4 ص 150 ح 520.

(3) التهذيب ج 9 ص 192 ح 773.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 370 ح 1 وص 382 ح 5 وص 358 الباب 8 ح 1.


الثلث وبطلت الوصية بالزائد ، بإطلاقها دالة على وجوب الرد الى الثلث ، وجد وارث ثمة أم لم يوجد ، إلا أن فيه أن أكثر الأخبار قد تضمنت وجود الوارث في البين ، ففي جملة منها أنه تمضى الوصية في الثلث ، وترد الباقي على الورثة ، وفي جملة إلا أن تجيز الورثة ، وحينئذ فيحمل إطلاق تلك الأخبار على هذه.

ومما يعضد رواية السكوني موثقة عمار المتقدمة في كلام العلامة الدالة على أنه ان أوصى بماله كله فهو جائز ، بحملها على عدم الوارث ، إذ لا جائز أن يعمل بها على ظاهرها فيلزم طرحها ، والعمل بالخبر مهما أمكن أولى من طرحه ، كما صرحوا به في غير موضع ، والعلامة في المختلف انما تمسك في ردها بضعف السند ، بناء على هذا الاصطلاح الغير الصحيح ولا المعتمد ، ومن لا يعمل به لا يصح عنده رد الخبر بغير معارض.

فان قيل : أخبار كون (1) «الامام وارث من لا وارث له». تعارض هذه الرواية ، قلنا : ما ذكرت من الأخبار مطلق أو عام ، وهذه الرواية خاصة أو مقيدة فالقاعدة تقتضي تقديم العمل بهذه الرواية وتخصيص تلك الأخبار أو تقييدها بها.

على أنه مما يعضد هذه الرواية ما رواه الشيخ في الصحيح عن احمد بن محمد بن عيسى (2) قال : «كتب اليه محمد بن إسحاق المتطيب : وبعد أطال الله بقاك نعلمك يا سيدنا انا في شبهة من هذه الوصية التي أوصى بها محمد بن يحيى درياب ، وذلك أن موالي سيدنا وعبيده الصالحين ذكروا أنه ليس للميت أن يوصي إذا كان له ولد بأكثر من ثلث ماله ، وقد أوصى محمد بن يحيى بأكثر من النصف مما خلف من تركته ، فان رأى سيدنا ومولانا أطال الله بقاءه أن يفتح غياب هذه الظلمة التي شكونا ويفسر ذلك لنا نعمل عليه ان شاء الله تعالى فأجاب عليه‌السلام : ان كان أوصى بها من قبل أن يكون له ولد فجائز وصيته وذلك أن ولده ولد من بعده».

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 386 الباب 44 وص 197 ح 789 ، الوسائل ج 17 ص 547 الباب 3 وج 13 ص 370 ح 2.


وظاهر الخبر المذكور أنه لو أوصى بأكثر من الثلث ولو بالمال كله قبل وجود الوارث ، ثم تجدد له وارث ، ولم يعدل الموصي عن الوصية الى أن مات ، فإنه يجب العمل بتلك الوصية ، ويحرم الوارث من المال الموصى به ، وهو حكم غريب وفرع عجيب لم أقف على من نبه عليه ، ولا تنبه اليه.

وربما يقال : ان أدلة الإرث كتابا وسنة يقتضي وجوب رد ما زاد على الثلث الى الوارث ، إلا أنه يمكن القدح فيه ، بأن تلك الأدلة مطلقة ، وهذا الخبر خاص بصورة الوصية بالمال وتقدمها على وجود الوارث ، والقاعدة تقتضي تقديم العمل به ، سيما مع صحة الخبر باصطلاحهم ، وكيف كان فالخبر المذكور ظاهر فيما دلت عليه رواية السكوني من صحة الوصية بالمال كله مع عدم وجود الوارث ، فالقول بذلك متعين. وفاقا لما قدمنا ذكره عن أصحابنا.

وقال في الدروس بعد ذكر استحباب إقلال الوصية : وأن الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث : وقال علي بن بابويه : إذا أوصى بماله كله فهو أعلم ، ويلزم الوصي إنفاذه لرواية عمار (1) «ان أوصى به كله فهو جائز له ، وحملها الشيخ على من لا وارث له ، فجوز الوصية بجميع المال لمن لا وارث له ، وهو فتوى الصدوق وابن الجنيد لرواية السكوني ، ومنع الشيخ في الخلاف من الزيادة على الثلث مطلقا ، وهو مختار ابن إدريس والفاضل ، انتهى.

أقول : ظاهر كلام شيخنا المذكور هو التوقف في المسئلة حيث اقتصر على نقل الخلاف الذي فيها ، ولم يرجح شيئا من القولين ، ولا طعن في أحد الجانبين وأما ما نقله عن الشيخ علي بن بابويه فقد تقدم الكلام فيه ، وبينا أن مستنده في ما ذكره من الحكم المذكور انما هو كتاب الفقه الرضوي ، فإن عبارته هنا عين عبارة الكتاب كما أوضحناه في جملة من الأبواب ، ولكنهم خفي عليهم ذلك استدلوا له بهذه الرواية ، والله العالم.

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 187 ح 753 ، الوسائل ج 13 ص 382 ح 5.


المسئلة الرابعة : قال الشيخ في النهاية : إذا قال الموصي لوصيه اقض عني ديني ، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث فان تمكن من قضائه ولم يقض وهلك المال كان ضامنا له ، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل ، وان كان قد عزل من أصل المال ولم يتمكن من إعطائه أصحاب الديون وهلك من غير تفريط من جهته كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بالدين من الذي أخذوه ، وتبعه ابن البراج ، وبهذه العبارة قال ابن إدريس ، إلا أنه زاد في عبارة الشيخ ، فقال في كتابه : وإذا قال الموصي لوصيه اقض عني ديني ، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث ، فان تمكن من قضائه ولم يقضه وهلك المال كان ضامنا له ، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل ان كان قد صار إليهم من التركة حقهم ، فان كان قد عزله الوصي من أصل المال ، وقسم الباقي بينهم ، ولم يتمكن من إعطائه أصحاب الديون وهلك من غير تفريط من جهته ، كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بالدين من الذي صار إليهم وأخذوه واقتسموه ، انتهى.

والعلامة في المختلف قد استدرك عليه الزيادة الأولى ، واعترضه فيها ، فقال بعد نقل ذلك : والمعتمد أن نقول في الفرض الأول إذا كان قد بقي من المال شي‌ء وأخذه الورثة سواء كان حقهم ، أو أزيد ، أو أنقص ، كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بأقل الأمرين من حقه ومما صار إليهم ، ثم يرجع الورثة على الوصي بتفريطه لعدم انحصار حق صاحب المال فيما تلف ، وان حمل المال في قول الشيخ وهلك المال بأن هلك جميعه قبل أن يصل الى الوارث منه شي‌ء استقام الحكم وانتظم ، والظاهر أن مراد الشيخ وابن البراج ذلك ، ولكن ابن إدريس لقلة تفطنه زاد ما أفسد به الكلام من حيث لا يشعر ، انتهى.

أقول : وهذه المناقشات بعد ظهور المعنى بقرائن الحال والمقال من ابن إدريس للشيخ ، ومن العلامة لابن إدريس مما يستغنى عنه ، فان من الظاهر أن الورثة ما لم يصل إليهم شي‌ء من التركة ، لا يتعلق بهم حق من الديون بالكلية ،


ومع وصول شي‌ء لهم لا يتعلق بهم ولا يجب عليهم وفاء ما زاد عنه ، ومع هلاك التركة في يد الوصي بتفريطه يلزمه الضمان ، ولا رجوع على الورثة بشي‌ء ، لأنه لم يصل إليهم منها شي‌ء ، وهذه أحكام معلومة متفق عليها بينهم.

ثم أن الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسئلة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (1) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في رجل توفي فأوصى الى رجل وعلى الرجل المتوفى دين فعمد الذي أوصى اليه فعزل الذي للغرماء فرفعه في بيته وقسم الذي بقي بين الورثة ، فسرق الذي للغرماء من الليل ممن يؤخذ؟ قال : هو ضامن حين عزله في بيته يؤدى من ماله».

وعن أبان (2) عن رجل قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى الى رجل أن عليه دينا؟ فقال : يقضى الرجل بما عليه من دينه ، ويقسم ما بقي بين الورثة ، قلت : فسرق ما أوصى به من الدين ، ممن يؤخذ الدين أمن الورثة أم من الوصي؟ فقال : لا يؤخذ من الورثة ، ولكن الوصي ضامن لها».

قال في التهذيبين : انما يكون الوصي ضامنا للمال إذا تمكن من إيصاله إلى المستحق فلم يفعل ، انتهى وهو جيد ، فان الضمان انما يلزم مع التفريط ، والتفريط ليس إلا مع إمكان الدفع الى صاحبه ، والإخلال بذلك كما تكاثرت به الأخبار في جملة من الأحكام.

والذي يكشف عن ذلك ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (3) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل بعث زكاة ماله ليقسم فضاعت ، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن ، الى أن قال : وكذلك الوصي الذي يوصى اليه يكون ضامنا لما دفع

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 168 ح 685 و 684.

(3) الكافي ج 3 ص 553 ح 1.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 417 ح 2 وص 418 ح 4 وج 6 ص 198 ح 1.


إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه ، فان لم يجد فليس عليه ضمان».

ثم انه مع التفريط ولزوم الضمان للوصي لا يتعين رجوع الديان على الوصي ، بل يتخيرون بين الرجوع على الوصي أو على الورثة فيما قبضوه من حصصهم ، وترجع الورثة على الوصي ، لأن ما عزله الوصي لا يتعين للدين بمجرد عزله ما لم يصل الى الديان ، بل الدين يتعلق بالتركة كائنا ما كانت ، وكيف كان فالضمان انما هو على الوصي ، والنقصان انما هو عليه من ماله ، لأن الورثة متى أخذ منهم الديان الدين رجعوا به عليه ، فلا يلحقهم ضمان ولا نقص ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : إذا انتقل الى المريض من ينعتق عليه كأبيه وابنه مثلا فلا يخلو إلا أن يكون بغير عوض أو بعوض ، وعلى التقديرين فإما أن يكون الملك اختياريا أو قهريا ، وعلى تقدير الملك بعوض ، فإما أن يكون العوض موروثا أولا ، فهذه صور ست :

الأولى ـ أن يملكه بغير عوض ويكون الملك اختياريا ، كما لو أوصى له أحد بأبيه أو أمه فقبل الوصية أو وهبه له بغير عوض ، فقبل الهبة ، فإن قلنا أن منجزات المريض من الأصل كما هو أحد القولين في المسئلة ، كان انعتاقه من الأصل ، ولا اشكال فيه ، وان قلنا أن المنجزات من الثلث كما هو المشهور بين المتأخرين فوجهان : بل قولان : أحدهما ـ للمحقق في الشرائع مدعيا عليه الإجماع وهو أن عتقه من الأصل أيضا ، قال : ولو أوصى له بأبيه فقبل الوصية ، وهو مريض ، عتق عليه من أصل المال إجماعا ، لأنه انما يعتبر من الثلث ما يخرجه عن ملكه ، وهنا لم يخرجه بل بالقبول ملكه ، وانعتق عليه تبعا لملكه ، ومرجع استدلاله إلى أمرين : أحدهما الإجماع ، وثانيهما ما ذكره من أن المعتبر من الثلث على القول به في المنجزات ، انما هو بالنسبة الى ما يخرجه المريض عن ملكه بنفسه اختيارا ، كما لو أعتق العبد أو وهب أو تصدق أو نحو ذلك ، وهنا لم يخرج المريض شيئا على هذا الوجه ، وانما المخرج له هو الله سبحانه حين ملكه بالقبول ، وانعتق


عليه قهرا تبعا للملك. فلم يكن مفوتا شيئا باختياره ، وانما جاء الفوات من قبل الله عزوجل».

وثانيهما ـ للعلامة في التحرير وهو أن عتقه من الثلث ، كالعتق اختيارا ، استنادا الى أن اختيار السبب وهو قبوله الوصية وقبوله الهبة في المثالين المتقدمين اختيار للمسبب ، وهو العتق المترتب على القبول ، فمتى كان الأول معذورا كان الثاني كذلك ، وهو يرجع الى منع كون العتق قهريا كما ادعاه ذلك القائل ، بل هو اختياري له ، فإنه لو لم يقبل لما دخل في ملكه ، ولما انعتق عليه ، ولما قبل باختياره ترتب عليه ذلك ، فيكون من قبيل عتق العبد باختياره ، وبالجملة فإنه لا يلزم من كون الخروج قهريا كونه من الأصل ، وانما يلزم ذلك لو لم يكن مستندا الى اختيار المريض المتملك بالقبول ، كما ذكرناه لكنه مستند اليه ، وبذلك يظهر الجواب عن أحد الدليلين المتقدمين.

وأما الثاني وهو الإجماع ففيه ما ذكره شيخنا في المسالك ولنذكره بطوله لقوة وجودة محصوله ، وان كان قد قدمنا نبذة منه في غير موضع فيما تقدم ، وهو أيضا قد خالفه في غير موضع من كتابه هذا ، لكنه الحق الحقيق بالاتباع ، وان كان قليل الاتباع ، قال قدس‌سره : ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة بخلافه ، لأن الحق أن إجماع أصحابنا انما يكون حجة مع تحقق دخول المعصوم في جملة قولهم ، فان حجيته انما هو باعتبار قوله عندهم ، ودخول قوله في قولهم في مثل هذه المسئلة النظرية غير معلوم ، وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على ذلك ، فقال : ان حجية الإجماع لا يتحقق إلا مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم في قول المجمعين ، ونهى عن الاغترار بمن يتحكم ، ويدعى خلاف ذلك ، وهذا عند الإنصاف عين الحق ، فإن إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قوله جماعة معروفين بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم تحكم بارد ، وبها يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا


فيها الإجماع ، إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق لهم ذلك كثيرا ، لكن زلة القدم متسامحة عند الناس دون المتأخر ، انتهى وهو جيد متين كما لا يخفى على الحاذق المكين.

الثانية ـ الصورة بحالها ولكن ملكه بغير اختيار كحصوله له بالإرث ، وينبغي القطع بكونه من الأصل هنا ، وان قلنا في سابق هذه الصورة بكونه من الثلث ، لعدم الاختيار في السبب ولا في المسبب ، ونقل عن التذكرة أنه جعل العتق أقرب ، وربما قيل : بأنه متى قلنا في الصورة الأولى بكونه من الثلث ، فيحتمل كونه هنا كذلك ، فيتحقق الملك للمريض فيكون معدودا من جملة أمواله ، فانعتاقه يفوت عليهم المالية ، وفيه أنه لم يتلف على الوارث شي‌ء مما هو محسوب مالا ، لأنه بمجرد الإرث ينعتق عليه ، وأيضا فإن العتق قهري والملك قهري ، وقد عرفت في الصورة السابقة : أن وجه القول بكونه من الثلث انما هو لكون السبب اختياريا وهنا ليس كذلك كما عرفت.

الثالثة ـ أن يملكه بعوض موروث اختيارا ، بمعنى أن يملكه باختياره بعوض لو بقي في مدة ، لأنه ينتقل بعد الموت لوارثه كالشركاء بثمن المثل ، فمن قال : ان المنجزات مخرجها من الأصل ، فإنه يكون هنا من الأصل ، وهو ظاهر ، ومن قال انها من الثلث ففي انعتاقه قولان : أحدهما ـ أنه من الثلث كما اختاره العلامة في الإرشاد ، وفي الأحكام المعنوية من القواعد ، وعلل بأن تملكه له باختياره سبب في عتقه فجرى مجرى المباشرة خصوصا عند من يجعل فاعل السبب فاعل المسبب كالجبائين ، قال في المسالك : وهذا هو الأصح.

وثانيهما ـ نفوذه من الأصل ، لأنه إنما يحجر عليه في التبرعات ، والشراء بثمن المثل ليس بتبرع ، فلا يكون محجورا عليه ، والعتق حصل بغير اختياره ، فلا يعتبر فيه الثلث ، وهذا القول اختيار العلامة في كيفية التنفيذ من كتاب القواعد.


ورد بأن بذل الثمن في مقابلة ما قطع بفواته وزوال ماليته بالانعتاق تضييع على الوارث كما لو اشترى ما يقطع بموته عاجلا.

وشيخنا الشهيد في شرح الإرشاد اقتصر على نقل القولين المذكورين ، ونقل دليل كل منهما ولم يرجح شيئا منهما ولا طعن في شي‌ء من الدليلين المذكورين وهو مؤذن بالتوقف في ذلك.

الرابعة ـ أن يملكه بعوض موروث ملكا قهريا بغير اختياره ، بأن يكون مستندا الى حكم الشارع وأمره له به كما لو كان نذر في حال الصحة ، أو في حال المرض ان قلنا بكونه من الأصل ، بأنه ان وجد قريبة يباع بعوض ، وهو قادر عليه اشتراه ، فان هذا من الأصل على القولين ، ويحتمل ضعيفا كونه من الثلث بحصول السبب المقتضى للتصرف في المرض ، ووجه ضعفه بإسناد ذلك الى إيجاب الشارع فكان عليه بمنزلة الدين.

الخامسة ـ أن يملكه بعوض غير موروث كما لو آجر نفسه للخدمة به ، فإنه عندهم يعتق من الأصل لعدم تفويته شيئا على الوارث.

السادسة ـ أن يملكه كذلك بغير اختياره ، بل بإلزام الشارع كما لو نذر تملكه بالإجارة كذلك ، والحكم في هذه الصور كسابقتها بطريق أولى ، والله العالم.

المسئلة السادسة : الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في صحة الوصية بالإشارة على المراد مع تعذر اللفظ ، وكذا الكتابة مع التلفظ أيضا ، والقرينة الدالة على الدالة قصد الوصية بها.

ويدل على الأول ما رواه في الفقيه عن محمد بن أحمد عن السندي بن محمد عن يونس بن يعقوب عن أبى مريم (1) ذكره عن أبيه «أن أمامة بنت أبى العاص

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 241 ح 935 ، الفقيه ج 4 ص 146 ح 506 ، الوسائل ج 13 ص 437 ح 1 وج 16 ص 59 ح 1.


وأمها زينب بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كانت تحت علي بن ابى طالب عليه‌السلام بعد فاطمة عليها‌السلام فخلف عليها بعد علي عليه‌السلام المغيرة بن النوفل فذكر أنها وجعت وجعا شديدا حتى اعتقل لسانها ، فجاءها الحسن والحسين عليهما‌السلام ابنا علي عليه‌السلام وهي لا تستطيع الكلام : فجعلا يقولان لها والمغيرة كاره لذلك : أعتقت فلانا وأهله؟ فجعلت تشير برأسها نعم ، وكذا وكذا فجعلت تشير برأسها أي نعم لا تفصح بالكلام ، فأجازا ذلك لها».

ورواه الشيخ بهذا السند مثله ، ورواه بسند آخر في الصحيح عن الحلبي (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أن أباه حدثه أن أمامة.» الحديث.

وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري (2) في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي جعفر عن أخيه قال : «سألته عن رجل اعتقل لسانه عند الموت أو امرأة فجعل أهليهما يسأله أعتقت فلانا وفلانا فيومئ برأسه أو تومئ برأسها ، في بعض نعم ، وفي بعض لا ، وفي الصدقة مثل ذلك ، أيجوز ذلك؟ قال : نعم هو جائز».

وما رواه في الكافي بسنده عن محمد بن جمهور (3) عن بعض أصحابنا «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت أول امرأة هاجرت الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من مكة إلى المدينة على قدميها الى أن قال : وقالت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : انى أريد أن أعتق جاريتي هذه فقال لها : ان فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار ، فلما مرضت أوصت الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأمرت أن يعتق خادمها واعتقل

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 258 ح 938.

(2) قرب الاسناد ص 119.

(3) أصول الكافي ج 1 ص 253 ح 2.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 437 الباب 49 ح 2 و 3.


لسانها ، فجعلت تومئ إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إيماء ، فقبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصيتها» الحديث.

ويدل على الثاني ما رواه الصدوق عن عبد الصمد بن محمد عن حنان بن سدير (1) عن أبيه «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : دخلت على محمد بن الحنفية ، وقد اعتقل لسانه فأمرته بالوصية فلم يجب ، قال : فأمرت بالطست فجعل فيه الرمل فوضع فقلت له : فخط بيدك قال : فخط وصيته بيده في الرمل ونسخت أنا في صحيفة». وما رواه الشيخ عن محمد بن أحمد بن يحيى عن عبد الصمد بن محمد مثله ، انما الخلاف والاشكال في الاكتفاء بالكتابة في الاختيار ، فظاهر أكثر الأصحاب عدم الاكتفاء بذلك.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة بعد قول المصنف انه يكفى الإشارة والكتابة مع تعذر اللفظ ـ ما صورته : ولا تكفيان مع الاختيار وان شوهد كاتبا أو علم خطه أو عمل الورثة ببعضها ، خلافا للشيخ في الأخير أو قال : انه بخطي ، وأنا عالم به ، وهذه وصيتي فاشهدوا علي بها ، ونحو ذلك بل لا بد من تلفظه أو قرائته عليه واعترافه بعد ذلك ، لأن الشهادة مشروطة بالعلم ، وهو منفي هنا خلافا لابن الجنيد حيث اكتفى به مع حفظ الشاهد له عنده ، ثم قال : والأقوى بقراءة الشاهد له مع نفسه مع اعتراف الوصي بمعرفة ما فيه وأنه موصى به ، وكذا القول في المقر ، انتهى.

أقول : أما ما نقله عن الشيخ فإنه إشارة الى ما ذكره في النهاية حيث قال : إذا وجدت وصية بخط الميت ، ولم يكن اشهد عليها ولا أقر بها كان الورثة بالخيار بين العمل بها وبين ردها وإبطالها ، فإن عملوا بشي‌ء منها لزمهم العمل بجميعها ، واعترضه ابن إدريس في ذلك ، فقال : وقد روي أنه إذا وجدت وصية بخط الميت

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 146 ح 505 ، التهذيب ج 9 ص 241 ح 934 ، الوسائل ج 13 ص 436 ح 1.


ولم يكن أشهد عليها ولا أمر بها ، فإن الورثة بالخيار بين العمل بها وبين ردها وإبطالها ، فإن عملوا بشي‌ء منها لزمهم العمل بها جميعا ، على ما روى في بعض الأخبار وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنهم إذا أقروا بشي‌ء منها وقالوا به ، وقالوا : ان هذا حسب صحيح أوصى به دون ما عداه مما في هذا المكتوب ، فإنه لا يلزم العمل بجميع ما في المكتوب إلا بما أقروا به دون ما عداه ، وانما هذه رواية وخبر واحد أورده الشيخ إيرادا ، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشرعيات ، انتهى.

أقول والذي وقفت عليه في الاخبار مما يتعلق بهذه المسئلة هو ما رواه الصدوق (قدس الله روحه) عن إبراهيم بن محمد الهمداني (1) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام : رجل كتب كتابا بخطه ولم يقل لورثته هذه وصيتي ولم يقل انى قد أوصيت ، إلا أنه كتب كتابا فيه ما أراد أن يوصى به ، هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطه ولم يأمرهم بذلك؟ فكتب عليه‌السلام : ان كان له ولد ، ينفذون كل شي‌ء يجدون في كتاب أبيهم في وجه البر أو غيره». ورواها الشيخ في التهذيب أيضا الا أنه قد سقط من قلمه ما بين كتاب الأول الى كتاب الثاني ، والأقرب من سقط قلمه كما وقع له أمثال ذلك مما لا يحصى في متون الأخبار وأسانيدها ، وقد قدمنا التنبيه عليه في جملة من مواضع كتب العبادات.

وأنت خبير بأن الرواية المذكورة ظاهرة في وجوب تنفيذ ما يجدونه في وصيته بخطه بخلاف ما ذكره الأصحاب من منع ذلك ، وتخصيص الجواز بحال الضرورة وعدم إمكان التلفظ.

وأما ما ذكره الشيخ في النهاية من أن الورثة بالخيار بين العمل بها إذا كانت كذلك ، وبين ردها وابطالها ، وأنه مع اختيار العمل بشي‌ء منها يلزمهم

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 242 ح 936 مع اختلاف يسير ، الفقيه ج 4 ص 146 ح 507 ، الوسائل ج 13 ص 437 ح 2.


العمل بجميعها ، فلم يصل إلينا فيه خبر ، ولا ورد به أثر ، فقول ابن إدريس «وقد روى أنه إذا وجدت وصية» الى آخر كلامه الظاهر أنه من قبيل ما قدمنا ذكره في غير موضع ، من أن الشيخ لما كانت عادته غالبا الإفتاء في كتاب النهاية بمتون الأخبار ، توهم ابن إدريس أن هذه الفتوى من الشيخ مستندة الى خبر وصل اليه بذلك ، فنازعه فيه بناء على ذلك ، واحتمال وصول خبر الى الشيخ بذلك مع عدم وصوله لنا وان أمكن ، إلا أنه بعيد ، سيما بعد ما عرفت من النظائر التي قدمنا ذكرها من إفتاء الشيخ في الكتاب المذكور ، واعتراض ابن إدريس عليه بأنه خبر واحد ، مع أنه لم يرد في تلك الفتوى خبر بالكلية ، وكيف كان فحيث قد عرفت أن هذه الفتوى من الشيخ لما لم يرد لها مستند من الأخبار فلا تعويل عليها.

وانما يبقى الكلام في خبر الهمداني المذكور ، وما دل عليه من وجوب العمل بالوصية المكتوبة بخطه ، وان لم تخبر ورثته بها بالكلية ، فإن ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) كما عرفت عدم العمل بهذه الوصية ، والظاهر أنهم لم يقفوا على الخبر المذكور ، وإلا لأجابوا عنه ، ورد الخبر من غير معارض شرعي ولا دليل مرعي غير مسموع ، وظاهر صاحب الفقيه العمل به ، والقول بما دل عليه ، وسند الخبر المذكور في الفقيه صحيح أو حسن ، لأن طريقه الى إبراهيم المذكور حسن ، أو صحيح بإبراهيم بن هاشم ، وأما إبراهيم بن محمد الهمداني المذكور فهو وان لم يكن حديثه في الصحيح فلا أقل ان يكون في الحسن ، لما ذكره علماء الرجال فيه ، من أنه كان وكيل الناحية ، وكان حج أربعين سنة ، وعن الكشي توثيقه في ترجمة أحمد بن إسحاق ، وروى توكيله وجلالة قدره في بعض التوقيعات.

وبالجملة فإن الخبر المذكور حسن السند ، واضع المتن ، لا تطرق للطعن فيه بوجه من الوجوه ولا معارض له كما عرفت إلا مجرد كلامهم ، فالعمل به متعين ، والله العالم.


ختام به الإتمام :

يشمل على جملة من أخبار نوادر الأحكام.

روى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن علي بن يقطين (1) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى الى امرأة ، وأشرك في الوصية معها صبيا؟ فقال : يجوز ذلك ، وتمضى المرأة الوصية ولا تنتظر بلوغ الصبي فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل أو تغيير ، فان له أن يرده الى ما أوصى به الميت». وهو صريح في جواز الوصية إلى المرأة.

وروى في التهذيب والفقيه عن السكوني (2) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : المرأة لا يوصى إليها ، لأن الله تعالى قال (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)». وهذا الخبر حمله في التهذيبين على الكراهة أو التقية ، قال : لأنه مذهب كثير من العامة قال : وانما قلنا بذلك لإجماع علماء الطائفة على الفتوى بالخبر الأول ، وأشار به الى خبر علي بن يقطين المذكور ، وقال في الفقيه بعد أن عنون الباب بكراهة الوصية إلى المرأة تم أورد خبر السكوني قال : وفي خبر آخر (3) «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (4) (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)» قال : لا تؤتوها شارب الخمر ولا النساء ، ثم قال : وأي سفيه أسفه من شارب الخمر». ثم قال : في الفقيه وانما يعني كراهة اختيار المرأة للوصية ، فمن أوصى إليها لزمها القيام بالوصية على ما تؤمر به ويوصى إليها ان شاء الله تعالى ، انتهى.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 46 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 184 ح 743 ، الفقيه ج 4 ص 155 ح 538. الوسائل ج 13 ص 439 ح 2.

(2) التهذيب ج 9 ص 245 ح 953 ، الفقيه ج 4 ص 168 ح 585. الوسائل ج 13 ص 442 ح 1.

(3) الفقيه ج 4 ص 168 ح 586. الوسائل ج ص 442 ح 2.

(4) سورة النساء ـ الاية 4.


أقول : والأقرب الحمل على التقية التي هي أحد القواعد المنصوصة في الجمع بين الأخبار ، دون الكراهة ، وان كانت هي المعمول عليها بينهم وبلغ في الاشتهار غايته.

وروى ثقة الإسلام عن أبى بصير (1) في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : أعتق أبو جعفر عليه‌السلام من غلمانه عند موته شرارهم ، وأمسك خيارهم ، فقلت له : أبه تعتق هؤلاء ، وتمسك هؤلاء فقال : انهم قد أصابوا مني ضربا فيكون هذا بهذا». ورواه الشيخ والصدوق مثله.

أقول : فيه دلالة على استحباب عتق من ضربه السيد ، وان كان هو استحقاق.

وروى المشايخ الثلاثة عن عمر بن يزيد (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : مرض علي بن الحسين عليه‌السلام ثلاث مرضات ، في كل مرض يوصي بوصية ، فإذا أفاق أمضى وصيته».

أقول : يفهم من هذا الخبر استحباب إمضاء الوصية بعد البرء من ذلك المرض الذي أوصى فيه.

وعن أحمد بن حمزة (3) قال : «قلت له : ان في بلدنا ربما أوصى بالمال لآل محمد عليهم‌السلام ، فيأتوني به فأكره أن أحمله إليك حتى أستأمرك ، فقال : لا تأتني به ولا تعرض له».

أقول : الظاهر أنه محمول على التقية ، لأن الظاهر أن المسئول هو الكاظم عليه‌السلام وكانت التقية في وقته شديدة ، وأحمد بن حمزة في زمانه عليه‌السلام كان من الوكلاء.

__________________

(1 و 2 و 3) الكافي ج 7 ص 55 ح 13 وص 56 ح 14 وص 58 ح 3 التهذيب ج 9 ص 246 ح 956 و 955 وص 246 ح 955 وص 233 ح 911 ، الفقيه ج 4 ص 171 ح 600 وص 172 ح 601 وص 174 ح 611 ، الوسائل ج 13 ص 472 الباب 84 ولباب 85 وص 480 ح 1.


وعن حماد بن عثمان (1) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : أوصى رجل بثلاثين دينارا لولد فاطمة عليها‌السلام قال : فأتى بها الرجل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام ادفعها الى فلان ، شيخ من ولد فاطمة عليها‌السلام ، وكان معيلا مقلا ، فقال له الرجل : إنما أوصى بها الرجل لولد فاطمة عليها‌السلام فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : انها لا تقع من ولد فاطمة عليها‌السلام وهي تقع من هذا الرجل وله عيال».

أقول : الظاهر أنه لما علم عليه‌السلام أن هذا الموصى به لا يسع ولد فاطمة عليها‌السلام جميعا لكثرتهم ، أو لا يمكن إيصاله إليهم لتفرقهم ، وانما يمكن إعطاؤه لبعض منهم خص هذا الشيخ المعيل به ، حيث انها يقع منه وينتفع بها.

وروى في الكافي قال : وكتب إبراهيم بن محمد الهمداني (2) إليه عليه‌السلام ميت. وروى في التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال : كتبت اليه ميت ، ورواه الشيخ بسند آخر عن أحمد بن هلال قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام ميت أوصى بأن يجرى على رجل ما بقي من ثلثه ، ولم يأمر بإنفاذ ثلثه هل للوصي أن يوقف ثلث الميت بسبب الاجراء فكتب عليه‌السلام : ينفذ ثلثه ولا يوقف».

أقول : الظاهر أن معنى الخبر المذكور أنه أوصى أن ينفق على رجل من ثلثه ما بقي ذلك الرجل ، فلو مات الرجل قبل نفاد الثلث يرجع الباقي الى ورثة الموصي ولم يأمر بإنفاذ الثلث ، أي لم يوص اليه بالثلث كملا على وجه ينحصر استحقاقه فيه وفي ورثته من بعده ، فهل للوصي أن يقطع الاجراء عليه ويجعله موقوفا؟ حيث انه لم يوص له بالثلث كملا ولم يستحقه كملا بالوصية ، فكتب عليه‌السلام : ليس له أن يوقفه ، بل يجب أن يجرى عليه النفقة من الثلث ما دام الرجل موجودا والثلث باقيا كما هو مقتضى الوصية.

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 58 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 233 ح 912.

(2) الكافي ج 7 ص 36 ح 32 ، التهذيب ج 9 ص 144 ح 599 وص 197 ح 787 ، الفقيه ج 4 ص 177 ح 525.

وهما في الوسائل ج 13 ص 480 ح 2 وص 330 الباب 7.


وأما ما توهمه بعض متأخري المتأخرين (1) من مشايخنا (رضوان الله عليهم) من احتمال حمل يوقف على أنه يجعل الثلث وقفا ويجرى عليه من حاصل الوقف ، فهو بعيد سحيق بل غريب من مثله (قدس‌سره).

وروى الشيخ في التهذيب عن صفوان بن يحيى (2) «عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : سالته عن الرجل يوقف ثلث الميت بسبب الاجراء؟ فكتب : ينفذ ثلثه ولا يوقف».

أقول : إجمال هذا محمول على التفصيل الذي تقدم في سابقه ، وحاصل السؤال أنه هل للوصي إذا أوصى الميت بإجراء ثلثه وصرفه في مصرف مخصوص أن يجعله موقوفا ولا يجريه في ذلك المجرى ، فمنع عليه‌السلام من ذلك وأوجب إنفاذه فيما أوصى به الموصي.

وروى في الكافي والتهذيب عن الحسين بن إبراهيم بن محمد الهمداني (3) قال : كتب محمد بن يحيى وروى في الفقيه عن الحسين بن إبراهيم قال : «كتبت مع محمد بن يحيى هل للوصي أن يشتري شيئا من مال الميت إذا بيع فيمن زاد ويزيد؟ ويأخذ لنفسه؟ فقال : يجوز إذا اشترى صحيحا.

أقول : المشهور بين الأصحاب هو الجواز في هذه الصورة ، ونقل عن الشيخ القول بالمنع استنادا الى أن الواحد لا يكون موجبا وقابلا في عقد واحد ، لأن الأصل في العقد أن يكون بين اثنين إلا ما أخرجه دليل وهو الأب والجد ، ورد بأن مرجعه الى منع تولية طرفي العقد وهو ممنوع ، إذ لم يقم عليه دليل مع أصالة الجواز ، ووجود النظير في الأب والجد كما اعترف به ، ولا دليل على

__________________

(1) هو شيخنا محمد تقى والد محمد باقر المجلسي (رحمه‌الله).

(2) التهذيب ج 9 ص 144 ح 600.

(3) الكافي ج 7 ص 59 ح 10 ، التهذيب ج 9 ص 233 ح 913. الفقيه ج 4 ص 162 ح 566.

وهما في الوسائل الوسائل ج 13 ص 331 ح 2 وص 475 الباب 89.


اختصاصهما بذلك ، وهذه الرواية كما ترى ظاهرة في الجواز ، وجملة من الأصحاب قد ذكروها ، لكن لم يجعلوها دليلا لضعف رجالها وجهالة المكتوب اليه ، وانما جعلوها شاهدا ومؤيدا ، وقد تقدم الكلام في المسئلة في غير موضع وبينا أنه لم يقم دليل على المنع من تولية الواحد طرفي العقد إلا في النكاح كما دلت عليه موثقة عمار (1).

وروى المشايخ الثلاثة (تغمدهم الله تعالى برحمته) عن سعد بن إسماعيل عن أبيه (2) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن وصيي أيتام تدرك أيتامه فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم فيأبون عليه ، كيف يصنع؟ قال : يرده عليهم ويكرههم». وهو دال على وجوب القبض عليهم ، وكذا كل من له مال حال دفعه من غريمه فإنه يجب عليه قبضه.

وروى في الكافي عن محمد بن عيسى (3) في الصحيح عمن رواه «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : في رجل مات وأوصى الى رجل وله ابن صغير فأدرك الغلام وذهب الى الوصي فقال : رد علي مالي لأتزوج فأبى عليه فذهب حتى زنى قال : يلزم ثلثي إثم زنا هذا الرجل ذلك الوصي الذي منعه المال ولم يعطه ، فكان يتزوج».

أقول : لعل التمثيل بالثلثين كناية عن بيان القسط الذي يلزم بسبب المنع ، وأنه المعظم من الإثم والأكثر منه.

وروى في الكافي والتهذيب عن جعفر بن عيسى (4) قال : «كتبت الى أبى

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 378 ح 5.

(2) الكافي ج 7 ص 68 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 245 ح 951 ، الفقيه ج 4 ص 165 ح 1.

(3) الكافي ج 7 ص 69 ح 9.

(4) الكافي ج 7 ص 59 ح 9 ، التهذيب ج 9 ص 233 ح 914.

وهذه الروايات في الوسائل ج 14 ص 217 ح 4 وج 13 ص 436 الباب 47 وص 435 ح 1 وص 480 ح 1.


الحسن عليه‌السلام أسأله في رجل أوصى ببعض ثلثه من بعد موته من غلة ضيعة له الى وصيه ، يضعه في مواضع سماها له معلومة في كل سنة ، والباقي من الثلث يعمل فيه ما شاء ورأي الوصي ، فأنفذ الوصي ما أوصى به اليه من المسمى المعلوم ، وقال في الباقي : قد صيرت لفلان كذا ، ولفلان كذا في كل سنة ، وفي الحج كذا ، وفي الصدقة كذا في كل سنة ، ثم بدا له في ذلك فقال : قد شئت الأول ورأيت خلاف مشيتي الأولى ورأيي ، إله أن يرجع فيها ويصير ما صيرهم لغيرهم وينقصهم ، أو يدخل معهم غيرهم ، ان أراد ذلك ، فكتب : ذلك له أن يفعل ما شاء إلا أن يكون كتب على نفسه كتابا».

أقول : لعل المراد من الاستثناء هو أن يكون قد كتب كتابا على نفسه لمن عين له شيئا من تلك الوصايا ، بحيث انه يلزم عند القضاء لو رفع الأمر إليهم ، وان كان يجوز له الرجوع بالنظر الى الواقع وفيما بينه وبين الله تعالى.

ويحتمل على بعد أن يكون قد ملكهم ذلك بوجه شرعي على وجه لا يجوز له الرجوع ، وكتب لهم كتابا بذلك ، أو يكون كتابة الكتاب كناية عن التمليك.

وروى في التهذيب عن علي بن سالم (1) قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام فقلت : ان أبى أوصى بثلاث وصايا فأيهن آخذ؟ فقال : خذ بآخرهن ، قال : قلت : فإنها أقل ، قال : فقال : وان قل».

أقول الظاهر ان هذه الوصايا الثلاث على البدل ، والرجوع عن المتقدم منها إلى المتأخر ، فلذا أمره بالأخذ بالوصية الأخيرة ، لأنها ناسخة لما تقدمها ، وقد استفاضت الأخبار ، بأن له العدول ما دام حيا بالتقديم والتأخير ، والزيادة والنقصان ، ونحو ذلك.

ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن عيسى بن عبيد (2) قال : «كتبت الى

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 243 ح 942.

(2) الفقيه ج 4 ص 173 ح 8.

وهما في الوسائل ج 13 ص 387 ح 7 و 6.


علي بن محمد عليهما‌السلام رجل أوصى لك بشي‌ء معلوم من ماله وأوصى لأقربائه من قبيل أبيه وأمه ، ثم أنه غير الوصية ، فحرم من أعطى ، وأعطى من حرم ، أيجوز ذلك؟ فكتب عليه‌السلام : هو بالخيار في جميع ذلك الى أن يأتيه الموت».

وروى في الكافي عن سعيد بن يسار (1) «عن ابى عبد الله عليه‌السلام في رجل دفع الى رجل مالا وقال : إنما أدفعه إليك ليكون ذخرا لابنتي فلانة وفلانة ، ثم بدا للشيخ بعد ما دفع المال أن يأخد منه خمسة وعشرين ومائة دينار فاشترى بها جارية لابن ابنه ، ثم ان الشيخ هلك فوقع بين الجاريتين وبين الغلام أو إحداهما فقالتا له : ويحك والله انك لتنكح جاريتك حراما ، انما اشتراها أبونا لك من مالنا الذي دفعه الى فلان فاشترى لك منه هذه الجارية ، فأنت تنكحها حراما لا تحل لك ، فأمسك الفتى عن الجارية فما ترى في ذلك؟ قال : أليس الرجل الذي دفع المال أبا الجاريتين ، وهو جد الغلام وهو اشترى له الجارية؟ قلت بلى فقال : قل له فليأت جاريته إذا كان الجد هو الذي أعطاه وهو الذي أخذه». أقول : الوجه في هذا الخبر ما تقدم في سابقه.

وروى في الكافي عن عمار بن مروان (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان أبي حضره الموت فقيل له : أوص فقال : هذا ابني يعني عمر فما صنع فهو جائز ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فقد أوصى أبوك وأوجز قلت : فإنه أمر لك بكذا وكذا فقال أجره ، قلت؟ وأوصى بنسمة مؤمنة عارفة فلما أعتقناه بان لنا أنه لغير رشدة ، فقال : قد أجزأت عنه ، انما مثل ذلك مثل رجل اشترى أضحية على أنها سمينة فوجدها مهزولة فقد أجزأت عنه».

أقول : فيه إشارة إلى كفر ابن الزنا كما هو أحد القولين ، وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الطهارة ، وفيه دلالة على حصول الوصية بالحوالة إلى اختيار الوصي

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 66 ح 31 ، التهذيب ج 9 ص 238 ح 926.

(2) الكافي ج 7 ص 62 ح 17 التهذيب ج 9 ص 236 ح 920.

وهما في الوسائل ج 13 ص 386 ح 5 وص 481 ح 2


وروى الشيخ في التهذيب عن عنبسة العابد (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أوصني فقال : أعد جهازك وقدم زادك وكن وصي نفسك ولا تقل لغيرك يبعث إليك بما يصلحك».

وروى المشايخ الثلاثة عن السكوني (2) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال : أول شي‌ء يبدأ به من المال الكفن ، ثم الدين ثم الوصية ثم الميراث».

ورواه في التهذيب بسند آخر عن إسماعيل بن ابى زياد (3) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : أول ما يبدأ به من المال الكفن» الحديث.

وروى المشايخ الثلاثة عن محمد بن قيس (4) في الصحيح «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين : ان الدين قبل الوصية ثم الوصية على أثر الدين ثم الميراث بعد الوصية ، فإن أول القضاء كتاب الله».

أقول : لا خلاف بين الأصحاب في تقديم الكفن على ما بعده كما دلت عليه جملة من الأخبار ، وانما الإشكال في شموله للواجب والمستحب ، أو التخصيص بالأول ، ولم أقف لأحد من الأصحاب على كلام في ذلك ، والظاهر التخصيص بالواجب أخذا بالمتيقن فيما خالف الأصل ، وأما تقديم الدين على الوصية فهو ظاهر لتعلق الدين بذمة الميت ، ولهذا وجب خروجه من الأصل بخلاف الوصية وأما تقديم الجميع على الميراث فلما تكاثر في الآيات من قوله عزوجل (5)

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 65 ح 29 ، التهذيب ج 9 ص 237 ح 924.

(2) الكافي ج 7 ص 23 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 171 ح 698 ، الفقيه ج 4 ص 143 ح 488.

(3) التهذيب ج 6 ص 188 ح 398.

(4) الكافي ج 7 ص 23 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 165 ح 675 ، الفقيه ج 4 ص 143 ح 489.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 483 الباب 98 وص 406 ح 1 وص 406 ح 2.

(5) سورة النساء ـ الاية 12.


«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ».

وروى في الكافي والتهذيب عن سعد بن إسماعيل (1) عن أبيه قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل حضره الموت فأوصى الى ابنه وأخوين شهد الابن وصيته ، وغاب الأخوان ، فلما كان بعد أيام أبيا أن يقبلا الوصية مخافة أن يتوثب عليهما ابنه ولم يقدرا أن يعملا بما ينبغي ، فضمن لهما ابن عم لهما وهو مطاع فيهم أن يكفيهما ابنه ، وقد خلا بهذا الشرط فلم يكفهما ابنه وقد اشترطا عليه ابنه ، وقالا : نحن نبرأ من الوصية ونحن في حل من ترك جميع الأشياء والخروج منه ، أيستقيم أن يخليا عما في أيديهما ويخرجا منه؟ قال : هو لازم لك ، فارفق على أي الوجوه كان ، فإنك مأجور لعل ذلك يحل بابنه».

قال المحدث الكاشاني في الوافي : لما استفرس عليه‌السلام أن السائل هو أحد الأخوين خاطبه باللزوم والرفق ، ولعل المراد بالمشار اليه بذلك الموت لما ثبت ان مثل هذه المناقشات المالية مما تعجل الأجل ، أو المراد به ان رفق يعنى لعله بسبب رفقك به يصير رفيقا منقادا ، انتهى وهو جيد ، وفيه إشارة الى ما تقدم مما اخترناه في المسئلة الرابعة من المقصد السادس في الوصاية من وجوب القيام بالوصية على من جعل وصيه في حال غيبته ، ومات الموصي وان لم يقبل بعد بلوغ الخبر له ، وعلى ذلك دلت جملة من الأخبار المتقدمة ثمة ، ولهذا أنه عليه‌السلام ألزم السائل لما عرف أنه أحد الوصيين بالقيام بالوصية حسب الإمكان ، وأمر بالرفق مع الابن ولم يرخص له في الخروج والترك بالكلية ، وفيه رد على من خالف في المسئلة ممن قدمنا ذكره ثمة.

وروى في التهذيب عن صفوان (2) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل كان لرجل عليه مال فهلك ، وله وصيان ، فهل يجوز أن يدفع الى أحد الوصيين

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 60 ح 14 ، التهذيب ج 9 ص 234 ح 916.

(2) التهذيب ج 9 ص 243 ح 941.

وهما في الوسائل ج 13 ص 399 ح 6 وص 440 ح 2.


دون صاحبه؟ قال : لا يستقيم إلا أن يكون السلطان قد قسم المال فوضع على يد هذا النصف ، وعلى يد هذا النصف ، أو يجتمعان بأمر السلطان.

أقول : لا يخفى ما في هذا الخبر من الغموض ، قال في الوافي لعل المراد «إلا أن يكون السلطان أمر بوضع هذا المال عند أحد الوصيين بمقاسمته بينهما أو يجتمع أحد الوصيين مع المدين بأمره» ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الضعف ، وظاهر كلامه أن المراد بالمال الذي قسمه السلطان هو مال المدين ، والمتبادر من الخبر انما هو مال التركة ، وعلى كل منهما فإنه لا يحصل الدفع الى أحد الوصيين كما يقتضيه الاستثناء ، وبالجملة فإنه لا يظهر لي منه معنى ، يمكن الاعتماد عليه.

والشيخ في الاستبصار حمله على السلطان العادل دون الجائر ، إلا للتقية ، وهو أمر خارج عن محل الإشكال ، فإنه نظر أن مقتضى حكم المسئلة كما تقدم هو عدم جواز انفراد الوصيين متى شرط الاجتماع أو أطلق ، فتجويز المقاسمة والانفراد هنا انما رخصة ، ان حمل السلطان على السلطان العادل ، وان حمل على الجائر وجب الحمل على التقية ، لما عرفت من أن الحكم عدم جواز الانفراد والمقاسمة ، وهذا أمر آخر غير ما ذكرنا أولا.

وروى المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم عن البزنطي (1) بإسناد له «أنه سئل عن رجل يموت ويترك عيالا وعليه دين ، أينفق عليهم من ماله؟ قال : ان استيقن ان الذي عليه ، يحيط بجميع التركة فلا ينفق عليهم ، وان لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال».

ورواه في الكافي والتهذيب بسند آخر عن عبد الرحمن بن الحجاج (2) عن أبى الحسن عليه‌السلام مثله ، إلا أنه قال «ان كان يستيقن أن الذي ترك يحيط

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 43 ح 1 و 2، التهذيب ج 9 ص 164 ح 672 و 165 ح 673 ، الفقيه ج 4 ص 171 ح 599 ، الوسائل ج 13 ص 407 ح 1 وص 408 ح 2.


بجميع دينه فلا ينفق عليهم ، وان لم يستيقن فلينفق عليهم من وسط المال». قال في الكافي : وكأنه سهو من بعض الرواة.

وروي في الكافي والتهذيب عن علي بن أبي حمزة (1) «عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : قلت له : ان رجلا من مواليك مات وترك ولدا صغارا وترك شيئا وعليه دين وليس يعلم به الغرماء ، فان قضاه بقي ولده ليس لهم شي‌ء ، فقال أنفقه على ولده».

والشيخ في التهذيبين طعن فيه بقطع الاسناد حيث ان المروي عن علي بن أبي حمزة بعض أصحابنا ، وطعن فيه بمخالفة القرآن ، واحتمل بعض مشايخنا المحدثين حمله على أنه عليه‌السلام كان عالما بأنه لا حق لأرباب الديون في تلك الواقعة أو أنهم كانوا نواصب ، فأذن في التصرف في أموالهم ، أو على أنهم كانوا بمعرض الضياع والتلف ، فيلزم الإنفاق عليهم من أي مال تيسر.

أقول : وكيف كان فان الخبر على ظاهره غير معمول عليه ، لما تقدم من أن الدين متقدم على الإرث ، فلا بد في تصحيح ما دل عليه من التأويل بأحد الوجوه المذكورة ونحوها ، كأن يكون الأخذ قرضا من حيث الضرورة أو ضمان الوصي ذلك ، أو نحو ذلك.

وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (2) قال : «أوصت الي امرأة من أهلي بثلث مالها ، وأمرت أن يعتق ويحج ويتصدق فلم يبلغ ذلك ، فسألت أبا حنيفة عنها فقال : يجعل أثلاثا ، ثلثا في العتق ، وثلثا في الحج ، وثلثا في الصدقة ، فدخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فقلت له ان امرأة من أهلي ماتت وأوصت الي بثلث مالها ، وأمرت أن يعتق عنها ويتصدق ويحج عنها. فنظرت فيه فلم يبلغ ، فقال : ابدأ بالحج فإنه فريضة من فرائض الله

__________________

(1 و 2) الكافي ج 7 ص 43 ح 3 وص 19 ح 14 ، التهذيب ج 9 ص 165 ح 674 وص 221 ح 869 ، الوسائل ج 13 ص 408 ح 3 وص 455 ح 1.


تعالى ، وتجعل ما بقي طائفة في العتق وطائفة في الصدقة ، فأخبرت أبا حنيفة بقول أبى عبد الله عليه‌السلام ، فرجع عن قوله وقال : بقول أبى عبد الله عليه‌السلام. وبهذا المضمون أخبار أخر.

أقول : حكمه عليه بتقديم الحج لكونه فريضة ، إما لعلمه عليه بكونها لم تحج حجة الإسلام ، أو لفهم ذلك بقرينة المقام ، وإلا فالسؤال بحسب الظاهر مجمل ، وظاهره أنه لو كان الحج مستحبا كان الحكم في ذلك ما ذكره أبو حنيفة من القسمة أثلاثا.

بقي في الحديث اشكال من وجه آخر ، وهو أن السائل أخبر بأن الثلث الموصى به لا يقوم بالحج والصدقة والعتق ، بل متى صرف في واحد أو اثنين لزم الإخلال بالباقي فكيف عليه‌السلام يأمره بالبدأة بالحج ، ثم بعد ذلك يجعل ما بقي طائفة في العتق وطائفة في الصدقة ، فإنه ظاهر في أن الثلث يقوم بالجميع ، اللهم إلا أن يراد انه ان بقي شي‌ء يقوم بهذين الآخرين صرف فيهما ، أو بواحد منهما صرف فيه ، وإلا فلا.

وبالجملة فإن النقص انما يدخل فيما عدا الحج خاصة ، ويحتمل أن يكون المراد أن ما بقي يصرف فيهما فيشترى نسمة للعتق بما يناسب الباقي من القلة والصدقة يكفي فيها المسمى.

وروى الشيخ في التهذيب عن محمد بن الحسن (1) أنه «قال لأبي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك قد اضطر الى مسئلتك فقال : هات فقلت : ان سعد بن سعد أوصى حجوا عنى مبهما ولم يسم شيئا ولا ندري كيف ذلك؟ فقال يحج عنه ما دام له مال».

أقول : المراد بالمال الثلث ، فإنه هو الذي له بعد موته.

ويفسره ما رواه في التهذيب عن محمد بن الحسن بن أبى خالد (2) قال : «

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 226 ح 888 مع اختلاف يسير وح 889 ، الوسائل ج 8 ص 120 ح 1 و 2.


سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل أوصى أن يحج عنه مبهما فقال : يحج عنه ما بقي من ثلثه شي‌ء».

وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن مهزيار (1) قال : «كتبت اليه عليه‌السلام أن مولاك علي بن مهزيار أوصى أن يحج عنه من ضيعة صير ربعها الى حجة في كل سنة الى عشرين دينارا ، وأنه قد انقطع طريق البصرة فتتضاعف المؤنة على الناس وليس يكتفون بالعشرين دينارا ، وكذا أوصى عدة من مواليك في حجهم فكتب : يجعل ثلاث حجج حجتين ان شاء الله ، قال إبراهيم : وكتب اليه علي بن محمد الحضيني : أن ابن عمى أوصى ان يحج عنه حجة بخمسة عشر دينارا في كل سنة فليس يكفى فما تأمرني في ذلك؟ فكتب عليه‌السلام : يجعل حجتين حجة فان الله عالم بذلك.

أقول : يعنى ان الله عالم بالعذر المذكور ، فإن الإخلال بما أوصى ليس على سبيل الاختيار ، وهو مؤيد لما اشتهر من حديث «إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» وينبغي أن يحمل هذا الخبر وما تضمنه من السؤالين المذكورين على كون الوصية بالحج من البلد كما ينبئ ظاهر السؤال الأول ، وإلا فلو كانت مطلقة فإن الظاهر ان حج عنه من أي مكان اتفق ، ولو من الميقات.

كما يدل عليه ما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن ابن بكير (2) «عن ابى عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل أوصى بمال في الحج فكان لا يبلغ ما يحج به من بلاده قال : فيعطى في الموضع الذي يبلغ أن يحج به منه».

وعن ابن مسكان عن ابى سعيد (3) «عمن سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بعشرين درهما في حجة قال : يحج بها عنه رجل من حيث يبلغه». ونحوهما غيرهما من الأخبار.

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 310 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 226 ح 890 ، الفقيه ج 2 ص 272 ح 2.

(2 و 3) التهذيب ج 9 ص 227 ح 892 وص 229 ح 897.

وهذه الروايات الوسائل ج 8 ص 117 ح 2 وص 118 ح 5.


وروى في الكافي عن علي بن فرقد (1) صاحب السابري قال : «أوصى الى رجل بتركته وأمرني أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فإذا شي‌ء يسير لا يكفى للحج ، فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة فقالوا : تصدق بها عنه ، فلما حججت لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف ، فسألته وقلت له : ان رجلا من مواليكم من أهل الكوفة مات وأوصى بتركته الي ، وأمرني أن أحج بها عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج فسألت من قبلنا من الفقهاء فقالوا : تصدق بها ، فتصدقت بها ، فما تقول؟ فقال لي : هذا جعفر بن محمد في الحجر فأته واسأله ، قال : فدخلت في الحجر فإذا أبو عبد الله عليه‌السلام تحت الميزاب ، مقبل بوجهه على البيت يدعو ، ثم التفت الي فرآني فقال : ما حاجتك؟ قلت : جعلت فداك انى رجل من أهل الكوفة من مواليكم قال : فدع ذا عنك ، حاجتك؟ قلت : رجل مات وأوصى بتركته ان أحج بها عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج ، فسألت من عندنا من الفقهاء قالوا : تصدق بها ، فقال : ما صنعت؟ قلت : تصدقت بها فقال : ضمنت إلا أن يكون لا يبلغ أن يحج به من مكة ، فإن كان لا يبلغ ان يحج به من مكة فليس عليك ضمان ، وان كان يبلغ به من مكة فأنت ضامن.

أقول : يستفاد من هذا الخبر فوائد : منها ضمان الوصي مع التبديل والعمل بخلاف الوصية إذا كانت الوصية على وجه المشروع ، وهو مما لا اشكال فيه ، ومنها أنه مع تعذر العمل بالوصية وصرفها فيما أوصى به الموصي ، يصرف الموصى به في وجوه البر كما هو المشهور ، ولا تبطل الوصية كما هو القول الآخر.

وقد تقدم الكلام في ذلك في التتميم الذي ذكر في الوصايا المبهمة من المقصد الثالث في الموصى به في تقدم نقل مضمون هذه الرواية دليلا على ذلك ، ومنها ما تقدمت الإشارة إليه قريبا ، من أنه متى أوصى بوجه للحج ، ولم يقيد

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 21 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 228 ح 896 وفيه على بن مزيد الفقيه ج 4 ص 154 ح 534 ، الوسائل ج 13 ص 473 الباب 87.


بالبلد ولا غيرها ، فإنه يجب الحج بما أوصى به من أقرب الأماكن التي يمكن الحج ولو من مكة ، كما تضمنه الخبر فإنها أحد المواقيت في الجملة.

بقي الكلام هنا في شي‌ء آخر ، وهو أن السائل قال : انه أمرني أن أحج بها ، والظاهر أن لفظ أحج من الرباعي من أحج غيره ، إذا أعطاه ما يحج به ، لا من الثلاثي المجرد بأن يكون الموصي هو الذي يحج بنفسه ، وأن الميت أوصى اليه بذلك ، وصدر الخبر وان كان محتملا لكل من الأمرين ، إلا أن حكمه في الجواب لما سأله السائل عن ذلك ، بأنه ان بلغ المال لأن يحج به من مكة فأنت ضامن ، انما يتجه على تقدير كونه مأمورا بأن يستأجر من يحج عنه ، بناء على كون أحج من الرباعي ، وإلا فلو كان الوصي هو المأمور بالحج بنفسه بناء على كون اللفظ من الثلاثي المجرد ، والرجل من أهل الكوفة ، فكيف يوجب عليه الامام عليه‌السلام أن يتحمل مؤنة النفقة إلى مكة من ماله حتى إذا وصل مكة حج عنه بذلك الوجه الموصى به ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

وروى الشيخ في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي (1) قال : «قال : ان رجلا حضرته الوفاة فأوصى الى ولده : غلامي يسار هو ابني فورثوه مثل ميراث أحدكم ، وغلامي يسار فأعتقوه ، فهو حر ، فذهبوا يسألونه أيما يعتق وأيما يرث ، فاعتقل لسانه ، قال : فسألوا الناس فلم يكن عند أحد جواب ، حتى أتوا أبا عبد الله عليه‌السلام فعرضوا المسئلة عليه قال : فقال : معكم أحد من نسائكم؟ قال : فقالوا : نعم معنا أربع أخوات لنا ، ونحن أربع إخوة ، قال : فاسألوهن أي الغلامين كان يدخل عليهن فيقول أبوهن لا تسترن منه ، فإنما هو أخوكن ، قالوا : نعم كان الصغير يدخل فيقول أبونا : لا تسترن منه انما هو أخو كن ، فكنا نظن أنه يقول ذلك لأنه ولد في حجورنا ، وانما ربيناه ، قال : فيكم أهل البيت علامة؟ قالوا : نعم ، قال : انظروا أترونها بالصغير؟ قالوا : فرأوها به ، قال : تريدون أعلمكم أمر الصغير؟

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 171 ح 700 ، الوسائل ج 13 ص 427 الباب 43.


قال : فجعل عشرة أسهم للولد ، وعشرة أسهم للعبد ، قال : ثم أسهم عشر مرات ، قال : فوقعت على الصغير سهام الولد ، قال : فقال : أعتقوا هذا ، وورثوا هذا».

أقول : الظاهر أن الحكم الشرعي في المسئلة المذكورة هو القرعة ، كما تضمنه آخر الخبر ، وما ذكره أولا من الأمرين المذكورين مؤيدين لمزيد الإيضاح ، ولو حصلت العدالة في النساء الأربع المذكورين لكان الظاهر العمل بما أخبرن به من اعتراف الأب به ، ولم يحتج إلى القرعة ، إلا أن يكون لمزيد الإيضاح.

وروى في الفقيه عن يونس بن عبد الرحمن عن داود بن نعمان عن الفضيل (1) مولى أبى عبد الله عليه‌السلام «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : أشهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على وصيته الى علي عليه‌السلام أربعة من عظماء الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وآخر لم أحفظ اسمه».

أقول : الظاهر أن المراد بالوصية هنا أو عنه أمير المؤمنين عليه‌السلام في بيت أم سلمة حين خلا به من الصبح الى قرب الظهر من الأمور التي يحدث عليه ، ويتجدد بعد موته ، وأمره باحتمالها والصبر عليها ، ونحو ذلك كما يدل عليه خبر أم سلمه وهو طويل ليس هذا موضع ذكره.

وروى الشيخ في التهذيب عن علي بن الحسن بن فضال عن محمد بن عبدوس (2) قال : «أوصى رجل بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمد عليه‌السلام فكتبت اليه : جعلت فداك رجل أوصى الي بجميع ما خلف لك ، وخلف ابنتي أخت له ، فرأيك في ذلك؟ فكتب الي : بع ما خلف ، وابعث به الي ، فبعث به اليه ، فكتب الي : قد وصل» ، «قال علي بن الحسن : ومات محمد بن عبد الله بن زرارة فأوصى الى أخي أحمد وخلف دارا وكان أوصى في جميع تركته أن تباع ويحمل ثمنها الى أبى الحسن عليه‌السلام

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 175 ح 616.

(2) التهذيب ج 9 ص 195 ح 785.

وهما في الوسائل ج 13 ص 427 الباب 43 وص 369 ح 16 و 17 و 18.


فباعها فاعترض فيها ابن أخت له ، وابن عم له ، فأصلحنا أمره بثلاثة دنانير ، وكتب إليه أحمد بن الحسن ودفع الشي‌ء بحضرتي إلى أيوب بن نوح ، وأخبره أنه جميع ما خلف ، وابن عم له وابن أخته عرض. فأصلحنا أمره بثلاثة دنانير فكتب : قد وصل ذلك وترحم على الميت وقرأت الجواب» ، «قال علي : ومات الحسنين بن أحمد الحلبي وخلف دراهم مائتين فأوصى لامرأته بشي‌ء من صداقها وغير ذلك وأوصى بالبقية لأبي الحسن عليه‌السلام فدفعها احمد بن الحسن إلى أيوب بحضرتي ، وكتب اليه كتابا ، فورد الجواب بقبضها ودعا للميت».

أقول : لا يخفى ما في ظاهر الخبر من الاشكال ، والشيخ لذلك قد حمله تارة على تخصيصه بهم عليهم‌السلام ، وآخر على كون حمل المال إليهم لا على جهة الوصية بل على جعلها صلة لهم في حال حياة الموصي ، وثالثة على أن يكون ذلك قبل أن تكون لهم وارث ثم يوجد الوارث كما تقدم في حديث المتطيب ، ورابعة على كون الوارث مخالفا ، ثم جوز في الوجه الأخير فقد الوارث ، ولا يخفى ما في الجميع عن البعد سوى الأخير فإنه أقرب قريب ، وأما بالنسبة الى وصية محمد بن عبد الله بن زرارة المشتملة على اعتراض ابن الأخت وابن العم ، فالاحتمالان فيهما متساويان ، ولعل الأقرب الأول منهما ، وهو كونهما مخالفين.

وأما بالنسبة الى وصية الحسين بن أحمد الحلبي فظاهره أنه ليس له وارث إلا الزوجة ، ومن المحتمل أنه أوصى لها بصداقها وميراثها المعبر عنه بغير ذلك ، فلا اشكال بحمد الملك المتعال.

ولنقطع الكلام حامدين للملك العلام على نعمه الجسام التي لا تحصيها الأقلام التي من جملتها التوفيق للفوز بسعادة الاختتام لهذا الجلد الشريف والمؤلف المنيف وهو الجلد الثامن (1) من كتاب «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» ويتلوه ان شاء الله تعالى الجلد التاسع في كتاب النكاح وما يلحق به من الكتب المتعلقة به ، مصلين بعد الحمد له سبحانه على نبينا أشرف الأنبياء والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين.

__________________

(1) بحسب تجزأة المؤلف ، والجلد الثاني والعشرون بحسب تجزئتنا ، ويتلوه ان شاء الله تعالى الجلد الثالث والعشرون في كتاب النكاح ، وما يلحق به.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *