ج18 - الخراج والمقاسمة الجوائز

المقدمة الرابعة

في تحقيق مسائل تدخل في حيز هذا المقام ، وتنتظم في سلك هذا النظام :

الأولى : لو دفع إنسان إلى غيره مالا ليصرفه في قبيل ، وكان المدفوع اليه منهم ، فان علم عدم دخوله فيهم ، ولو بقرينة مقامية ، كأن يعين له حصة على حدة من ذلك ، فلا إشكال في عدم جواز أخذه منه.

وان علم دخوله فيهم ، ولو بقرينة حالية ، بأن يصرح له بان الغرض وصوله الى هذا الصنف ـ مثلا ـ أيا كان ، وكان هو منهم ، فإنه يجوز له الأخذ.

ولا خلاف بين أصحابنا في الحالتين المذكورتين ، وانما الخلاف مع عدم العلم بأحد الأمرين المذكورين.

وقد اختلف كلامهم ، بل كلام الواحد منهم في ذلك. والمشهور هو الجواز. ذهب اليه الشيخ في النهاية ، الا انه قيده بقدر ما يعطى غيره ، وهكذا شرط من جوز له الأخذ.

وفي المبسوط : منع من ذلك. وتبعه العلامة في المختلف. وفي المنتهى : اختار الجواز بقدر ما يعطى غيره.

وبالجواز قال ابن إدريس في كتاب المكاسب ، ومنع في كتاب الزكاة.

والمحقق في كتاب المكاسب من الشرائع جوز ذلك ، ومنع في كتاب النافع.

ولكل من القائلين علل اعتبارية زيادة على ما استند اليه من الاخبار.

فمن قال بالجواز كالعلامة ، علل ذلك بأصالة الجواز ، وكون الوكيل متصفا بما عين له من أوصاف المدفوع إليهم ، لأنه المفروض.

قال في المنتهى : لأنه بإطلاق الأمر ، وعدم التعيين قد وكل اليه وفوض اليه التعيين ، ولا فرق بينه وبين غيره في الاستحقاق ، إذ التقدير ذلك ، فيجوز له التناول.

ومن قال بالمنع ، علل بان المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إياه في أمر غيره ، فان الله تعالى إذا أمر نبيه أن يأمر أمته ان يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر.

وأنت خبير بما قدمناه في غير مقام ، من عدم صلوح أمثال هذه التعليلات لتأسيس الأحكام الشرعية ، المبنية على الأدلة الواضحة الجلية ، بل القطعية.

* * *

واما الروايات الواردة في المسألة ، فمنها : ما رواه في الكافي في الصحيح عن سعد بن يسار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعطى الزكاة يقسمها في أصحابه أيأخذ شيئا منها؟ قال : نعم (1).

وعن الحسين بن عثمان في الصحيح أو الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ عن أبي إبراهيم عليه‌السلام ، في رجل اعطى مالا يفرقه فيمن يحل له ، أله أن يأخذ منه شيئا لنفسه ، وان لم يسم له؟ قال : يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطى غيره (2).

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 199 حديث : 1 باب : 40.

(2) الوسائل ج 6 ص 200 حديث : 2.


وعن عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، عن الرجل يعطى الرجل الدراهم يقسمها ويضعها في مواضعها ، وهو ممن تحل له الصدقة ، قال : لا بأس ان يأخذ لنفسه كما يعطى غيره. قال : ولا يجوز له ان يأخذ إذا أمره أن يضعها في مواضع مسماة إلا باذنه (1).

وانما وصفنا هذه الرواية بالصحة وان كان في طريقها محمد بن عيسى عن يونس ، وقد نقل عن القميين الطعن فيما تفرد به محمد بن عيسى عن يونس ، تبعا لجملة من مشايخنا المحققين المتأخرين ، لعدم ثبوت ما ذكره القميون. وقد وصفها العلامة في المنتهى أيضا بالصحة ، وهو ظاهر في عدم العمل بما نقل عنهم من الطعن المذكور.

وأنت خبير بما في هذه الروايات ـ مع صحتها ـ من وضوح الدلالة على القول المشهور ، وهو المؤيد المنصور.

ويؤيده أيضا ما رواه في التهذيب في الصحيح ، عن عبد الرحمن بن الحجاج ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، في رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في المساكين ، وله عيال محتاجون أيعطيهم منه من غير ان يستأمر صاحبه؟ قال : نعم (2).

واما ما يدل على القول الثاني ، فهو ما رواه الشيخ بالإسناد الأخير عن عبد الرحمن المذكور ، قال : سألته عن رجل أعطاه رجل مالا يقسمه في محاويج أو مساكين ، وهو محتاج ، أيأخذ منه لنفسه ولا يعلمه؟ قال : لا يأخذ منه شيئا ، حتى يأذن له صاحبه (3).

وربما طعن بعضهم في هذه الرواية بالإضمار. والظاهر ضعفه ، لما تقدم تحقيقه في غير مقام ، من ان مثل هؤلاء الأجلاء لا يعتمدون في أحكام دينهم على

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 200 حديث : 3.

(2) الوسائل ج 12 ص 206 حديث : 2.

(3) الوسائل ج 12 ص 206 حديث : 3.


غير الامام ، ولما ذكره غير واحد من الأصحاب ، في سبب الإضمار الواقع في الاخبار. على ان العلامة في التحرير أسندها إلى الصادق عليه‌السلام ، كما نقله في المسالك ، قال : وهو شهادة الاتصال. ولعله رحمه‌الله اطلع على المسئول من محل آخر غير المشهور في كتب المحدثين. انتهى.

وأنت خبير بأن الرواية المذكورة وان كانت ظاهرة فيما ذكروه ، الا انها معارضة بما هو أكثر عددا ، من الروايات المتقدمة. ولهذا حملها الشيخ على الكراهة ، ونفى عنه البأس في المسالك.

واحتمل بعض مشايخنا ـ رضوان الله عليهم ـ ايضا الحمل على ما إذا علم ان مورده غيره ، أو الأخذ زيادة على غيره. ولا بأس بالجميع في مقام الجمع ، وان بعد كل واحد منها في حد ذاته عن ظاهر الخبر.

ولا يحضرني الان مذهب العامة في المسألة ، فلعل هذه الرواية إنما خرجت مخرج التقية.

وظاهر شيخنا الشهيد في الدروس التوقف في المسألة ، حيث اقتصر على نقل أدلة القولين ، فقال : وفي جواز أخذه لنفسه رواية صحيحة ، وعليها الأكثر ، وربما جعله الشيخ مكروها ، لرواية أحرى صحيحة بالمنع انتهى.

والظاهر ان مراده بالرواية الأولى الجنس ، والا فهي كما عرفت ثلاث روايات.

فروع :

الأول : ظاهر الشرط المذكور في روايتي حسين وعبد الرحمن ـ وهو عدم الزيادة على غيره ـ وجوب التسوية في القسمة على غيره من أصحاب ذلك القبيل ، وانه لا يجوز له تفضيل بعضهم على بعض ، لانه من جملتهم.


ويشكل ذلك في غير المحصورين كالفقراء ، فإنه يجوز التفاضل مع عدم قرينة خلافه كما دلت عليه أخبار قسمة الزكاة ، فإن التسوية فيها غير واجبة ، والمسألة هنا مفروضة فيما هو أعم من الواجب والندب.

نعم لو كانوا محصورين أمكن ذلك ، كما صرحوا به في المال الموصى به لأشخاص معينين ، مع إمكان المناقشة هنا ايضا ، لعموم الدليل وصدق التفريق مع التفاضل.

وبالجملة فالظاهر : ان منع المأمور عن أخذ الزيادة على غيره لا يدل على وجوب التسوية. ولهذا قال العلامة في التحرير : وان لم يعين تخير في إعطاء من شاء من المحاويج كيف شاء ، مع قوله في الكتاب المذكور بعدم تفضيله نفسه على غيره.

واما الوصية ، فثبوت ذلك فيها بدليل خاص ان كان ، لا يقتضي ثبوته فيما لا دليل عليه.

ولعل المراد بعدم تفضيله نفسه على غيره ، مع القول بجواز التفضيل في القسمة ، كما هو الظاهر ، هو انه متى وقعت القسمة بالتفضيل بالمزايا الموجبة لذلك ، فينبغي ان يراعى المقسم نفسه بكونه من أهل المزايا الموجبة للتفضيل أم لا ، فيأخذ بنسبة القبيل الذي هو منهم ، لا يزيد على ذلك.

الثاني : الظاهر انه لا اشكال ولا خلاف على القولين المذكورين في انه يجوز له ان يدفع الى عياله وأقاربه ، كما يدفع الى غيرهم ، من تسوية أو تفاضل ، اقتصارا في موضع المنع على مورد الروايات المتقدمة ، وهو نفسه. وتخرج صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الثانية (1) شاهدة على ذلك.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 206 حديث : 3.


الثالث : الظاهر : انه لا فرق على القولين بين ان يقول له الأمر : اقسمه أو اصرفه أو ادفعه إليهم أو ضعه فيهم أو نحو ذلك ، لاشتراك الجميع عرفا في المعنى.

ونقل عن بعضهم الفرق ، فجوز له الأخذ ان كانت الصيغة «ضعه فيهم» أو ما ادى هذا المعنى ، ومنع من الأخذ إذا كانت الصيغة بلفظ «ادفعه» أو «اصرفه» أو نحوهما. والظاهر ضعفه.


المسألة الثانية

الظاهر : انه لا خلاف بين الأصحاب رضوان الله عليهم ، في ان ما يأخذه السلطان الجائر باسم المقاسمة والخراج من الأراضي والغلات ، وما يأخذه باسم الزكاة من الانعام والغلات ونحو ذلك ، يجوز شراؤه ، وقبول اتهابه. بل ظاهر كلام جملة من الأصحاب دعوى الإجماع على ذلك.

ولم أقف على مخالف في الحكم المذكور ، الا المقدس الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وقبله الفاضل الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي أصلا ، والحلي مسكنا.

وهذا الشيخ كان معاصرا للمحقق الشيخ على بن عبد العالي الكركي ، وجرت بينهما مناقشات ومباحثات ، رد فيها كل منهما على الأخر ، منها هذه المسألة فإن المحقق الشيخ على قد صنف فيها رسالة في حل الخراج ، فصنف الشيخ إبراهيم ردا عليه رسالة في تحريمه.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف : «ما يأخذه السلطان الجائر من الغلات باسم المقاسمة أو الأموال باسم الخراج عن حق الأرض ومن الانعام باسم الزكاة ، يجوز ابتياعه وقبول هبته ، ولا يجب إعادته على أربابه وان عرف بعينه» ما صورته :


«المقاسمة : حصة من حاصل الأرض ، تؤخذ عوضا عن زراعتها.

«والخراج : مقدار من المال يضرب على الأرض أو الشجر حسبما يراه الحاكم.

«ونبه بقوله «باسم المقاسمة واسم الخراج» على انهما لا يتحققان الا بتعيين الامام العادل.

«الا ان ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا ـ عليهم‌السلام ـ في التناول منه.

«وأطبق عليه علماؤنا ، لا نعلم فيه خلافا ، وان كان ظالما في أخذه ، لاستلزام تركه والقول بتحريمه الضرر والحرج العظيم على هذه الطائفة.

«ولا يشترط رضاء المالك ، ولا يقدح فيه تظلمه ما لم يتحقق الظلم بالزيادة عن المعتاد أخذه من عامة الناس في ذلك الزمان.

«واعتبر بعض الأصحاب في تحققهما اتفاق السلطان والعمال على القدر ، وهو بعيد الوقوع والوجه.

«وكما يجوز ابتياعه واستيهابه يجوز سائر المعاوضات.

«ولا يجوز تناوله بغير إذن الجائز ، ولا يشترط قبض الجائر له ، وان أفهمه قوله «ما يأخذه» فلو أحال به أو وكله في قبضه أو باعه وهو في يد المالك أو ذمته حيث يصح البيع كفى ووجب على المالك الدفع.

«وكذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة ، ولا يختص ذلك بالإنعام كما افادته العبارة ، بل حكم زكاة الغلات والأموال كذلك.

«لكن يشترط هنا ان لا يأخذ الجائر زيادة عن الواجب شرعا في مذهبه ، وان يكون صرفه لها على وجهها المعتبر عندهم ، بحيث لا يعد عندهم عاصيا ، إذ يمتنع الأخذ منه عندهم ايضا.

«ويحتمل الجواز مطلقا ، نظرا إلى إطلاق النص والفتوى ، ويجي‌ء مثله في المقاسمة والخراج ، لان مصرفها مصرف بيت المال ، وله أرباب مخصوصون عندهم ايضا.

«وهل تبرأ ذمة المالك من إخراج الزكاة مرة أخرى؟ يحتمله ، كما في


المقاسمة والخراج ، مع ان حق الأرض واجب لمستحق مخصوص ، والتعليل بكون ذلك حقا واجبا عليه.

«وعدمه ، لأن الجائر ليس نائب المستحقين فيتعذر النية ، ولا يصح الإخراج بدونها.

«وعلى الأول ، تعتبر النية عند الدفع اليه كما تعتبر في سائر الزكوات.

«والأقرب عدم الاجتزاء بذلك ، بل غايته سقوط الزكاة عما يأخذه إذا لم يفرط فيه ، ووجوب دفعه إليه أعم من كونه على وجه الزكاة أو المضي معهم في أحكامهم والتحرز عن الضرر بمباينتهم.

«ولو اقطع الجائر أرضا مما تقسم أو تخرج ، أو عاوض عليها ، فهو تسليط منه عليها ، فيجوز للمقطع له أخذها من الزارع والمالك ، كما يجوز احالته عليه.

«والظاهر : ان الحكم مختص بالجائر المخالف للحق ، نظرا الى معتقده واستحقاقه ذلك عندهم ، فلو كان مؤمنا لم يحل أخذ ما يأخذه منها ، لاعترافه بكونه ظالما فيه ، وانما المرجع حينئذ إلى رأى الحاكم الشرعي.

«مع احتمال الجواز مطلقا ، نظرا إلى إطلاق النص والفتوى.

«ووجه التقييد : أصالة المنع الا ما أخرجه الدليل ، وتناوله للمخالف متحقق ، والمسؤول عنه للأئمة ـ عليهم‌السلام ـ انما كان مخالفا للحق فيبقى الباقي. وان وجد مطلق فالقرائن دالة على ارادة المخالف منه ، التفاتا الى الواقع أو الغالب. انتهى كلامه زيد إكرامه.

وقال في الكفاية : والظاهر ان الأئمة (ع) لما علموا انتفاء تسلط السلطان العادل الى زمان القائم (عج) ، وعلموا ان للمسلمين حقوقا في الأراضي المفتوحة عنوة ، وعلموا انه لا يتيسر لهم الوصول الى حقوقهم في تلك المدة المتطاولة الا بالتوسل والتوصل الى السلاطين والأمراء ، حكموا بجواز الأخذ منهم. إذ في


تحريم ذلك حرج وغضاضة عليهم وتفويت لحقوقهم بالكلية. انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي رحمه‌الله في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف ما تقدم نقله عن الشرائع ما صورته ـ اعلم ان الخراج والمقاسمة هما المقدار المعين من المال ، بمنزلة الأجرة في الأرض الخراجية ، اى المعمورة المفتوحة عنوة بإذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الإمام عليه‌السلام على المشهور. والمأخوذة بالصلح ، بان يكون الأرض للمسلمين ولهم السكنى ، وهي لمصالح المسلمين ، والأمر فيها إليهم ـ صلوات الله عليهم ـ والمقاسمة : الحصة المعينة من حاصل تلك الأرض ، مثل العشر. والخراج : المال المضروب عليها غالبا ، فلا يضر إطلاق الخراج على المقاسمة ، كما ورد في بعض الروايات والعبارات ، والأمر في ذلك هين ، فان المقصود ظاهر ، لان المراد منهما ومن الطسق والقبالة واحد ، وهو : ما يؤخذ من الأرض المذكورة بمنزلة الأجرة ، سوى الأجرة للعملة. وانما الإشكال في الإباحة وعدمها حال الغيبة أو حين الحضور ، والأمر واضح ظاهر والمعصوم يفعل ما يريد ، وكذا تحقق الأرض التي يؤخذ منها.

ثم ساق الكلام في تحقيق الأرض الخراجية الى ان قال :

واما حليتهما يعنى الخراج والمقاسمة كما هو ظاهر أكثر العبارات ، لكل أحد مستحق لذلك كالمصالح أم لا ، قليلا كان أم كثيرا ، بشرط عدم التجاوز عن العادة التي تقتضي كونهما أجرة ، بإذن الجائر مطلقا ، سواء كان مخالفا أو موافقا ، قبضهما أم لا ، وعدمها بدون اذنه مع كونه جائرا وظالما في الأخذ والاذن ، وعدم إباحتهما له ، مع وجوب الدفع اليه والى من يأمره ، وعدم جواز كتمان الرعية والسرقة منهما بوجه من الوجوه ، مع كونهما أجرة للأرض ومنوطة برأي الامام ورضاء الرعية كما هو في الإجارات ، فهي بعيدة جدا. ويدل على العدم العقل والنقل ، ولا دليل عليها مع الإشكال في ثبوتها وتحققها في نفسها ثم العلم بها ثم ثبوتها بالنقل وحجيته. وما ادعى ولا نقل أيضا الإجماع صريحا ، بل قيل : انه اتفاق ـ ونقل عبارات البعض في الرسالة


المدونة لهذه المسألة بخصوصها مع كثرة الاهتمام بتحقيقها وإثبات الإباحة فيها ـ ثم قال : وهو إجماع. وفيه ما فيه لعدم ثبوت الإجماع بعبارات البعض مع خلو البعض عنه ، ولهذا ترى بعض العبارات خالية عن هذه. وقد ذكر اباحة الشراء فقط. مثل عبارة نهاية الشيخ على ما نقل في هذه الرسالة. ويظهر من شرح الشرائع أيضا دعوى الإجماع في الجملة ، فالسماع منهما مشكل وقد ادعى فيهما دلالة الأخبار المتظافرة عليه وما عرفتها وما فهمتها من خبر واحد ، وكأنه لذلك ما ادى في المنتهى ، بل استدل على ذلك بالضرورة ودفع الجرح ، وإثبات مثله بمثله بعيد ، كما ترى. انتهى كلامه.

أقول : والتحقيق ـ كما ستقف عليه إنشاء الله تعالى ـ : ان ما استدل به من الاخبار على القول المشهور ، منه ما هو ظاهر المقصود ، ومنه ما يظهر منه ذلك ، لكنه لا يفي بتمام ما ادعوه في هذا المقام ، وما ذكره المانع أيضا في أكثر هذا المجال لا يخلو من البحث والاشكال.

* * *

وها أنا أسوق لك ما استدل به للقول المذكور ، مذيلا كل خبر بما يتعلق به من الكلام ، بالذي يتجلى به غشاوة الإبهام. فأقول ـ مستمدا منه تعالى العصمة من زيغ الافهام وزلل الاقدام ـ :

(الأول) من الاخبار المشار إليها : ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن جميل بن صالح قال : أرادوا بيع تمر عين ابى زياد ، فأردت أن أشتريه ، ثم قلت حتى استأمر أبا عبد الله عليه‌السلام. فأمرت مصادفا فسأله فقال : قل له فليشتره ، فإنه ان لم يشتره اشتراه غيره (1).

استدل به في المنتهى على جواز ابتياع المقاسمة والزكاة.

وقال المحقق الشيخ على قدس‌سره في رسالته التي وضعها في المسألة : احتج بذلك في المنتهى على حلهما.

ورده المحقق الأردبيلي ، بعدم الدلالة على المطلوب ، قال : ويمكن ان

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 162 حديث : 1 باب : 53.


يكون المعنى جواز شراء مال الظلمة مع عدم العلم بالغصب بعينه ، كما يدل عليه الأصل والاخبار الكثيرة الدالة على جواز أخذ جوائزهم مع كراهة ولكن تزول مع الضيق. انتهى.

أقول : الحق هنا ما ذكره المحقق الأردبيلي رحمه‌الله ، على انه قد روى في الكافي في باب نادر ، آخر أبواب الزكاة ، ما يدل على ان عين ابى زياد المذكورة في هذا الخبر كانت ملكا لأبي عبد الله عليه‌السلام :

روى فيه عن يونس أو غيره عمن ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال قلت له : جعلت فداك ، بلغني انك تفعل في غلة عين زياد شيئا فأنا أحب ان أسمعه منك. قال : فقال لي : نعم ، كنت آمر إذا أدركت الثمرة ان يثلم في حيطانها الثلم ليدخل الناس ويأكلوا ، وكنت آمر في كل يوم ان توضع عشر بنيات يقعد على كل بنية عشرة ، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى ، يلقى لكل نفس منهم مد من رطب ، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم ، الشيخ والعجوز والمريض والصبي والمرأة ، ومن لا يقدر أن يجي‌ء فيأكل منها ، لكل انسان منهم مد ، فإذا كان الجذاذ أوفيت القوام والوكلاء والرجال أجرتهم ، واحمل الباقي الى المدينة ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين ، الراحلتين والثلاثة والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم : وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار ، وكان غلتها أربعة آلاف دينار (1).

ومن هذا الخبر يظهر ان الضيعة المذكورة كانت له عليه‌السلام ثم اغتصبت منه ، وان استئماره عليه‌السلام في الشراء من ثمرتها انما هو من حيث كونه له عليه‌السلام.

ولعل المعنى في جوابه عليه‌السلام وقوله للسائل : ان لم يشتره اشتراه غيره ، بمعنى ان تركه شراءه لا ينفع في قلع الظالم عن ظلمه وارتداعه ، فان غيره يشتريه ، نعم لو اتفق الناس على عدم شرائه ، لربما كان ذلك رادعا لهم عن الظلم ، كما تقدم في خبر على بن أبي حمزة ، في المسألة الثالثة من المقام الثالث من مقامات المقدمة

__________________

(1) الكافي ج 3 ص 569 حديث : 2.


الثالثة ، من قوله عليه‌السلام : لو لم يجد بنو أمية من يحضر جماعاتهم ، ويجبي لهم الخراج ، ويكتب لهم ، ما غصبونا حقنا (1).

ولا ينافي ما ذكرنا اشتمال الخبر الأول على تسمية الضيعة المذكورة بعين ابى زياد ، وتسميتها في هذا الخبر بعين زياد ، فان مثل هذا التجوز كثير في الكلام.

واما قوله في الوافي ـ بعد ذكر الخبر الأول في كتاب المتاجر ـ «أبو ـ زياد كان من عمال السلطان» فهو تخرص ، وانما هو اسم الضيعة المذكورة ، وكأنه غفل عن الخبر الذي نقلناه ، وهو قد قدمه في كتاب الزكاة.

وبالجملة فإن الخبر المذكور لا دلالة فيه على ما ادعوه من حل الخراج والمقاسمة ونحوهما بوجه ، وقصاراه ـ مع قطع النظر عما ذكرناه ـ هو ما ذكره المقدس الأردبيلي رحمه‌الله.

(الثاني) : ما رواه الشيخ ، في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : مالك لا تدخل مع على في شراء الطعام ، إني أظنك ضيقا ، قال : قلت : نعم ، فإن شئت وسعت على ، قال : اشتره (2).

وأنت خبير بما فيه من الإجمال المانع من صحة الاستناد إليه في الاستدلال ، إذ لا تعرض فيه ـ ولو بالإشارة ـ إلى كون ذلك الطعام من وجه الخراج أو المقاسمة أو الزكاة بوجه ، ومجرد احتمال كون المقام من أحد هذه الوجوه لا يكفي في الدلالة.

(الثالث) : ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحذاء عن الباقر عليه‌السلام قال :

__________________

(1) نقله هنا بالمعنى. راجع : ص 125 من هذا المجلد. والوسائل ج 12 ص 144 ـ 145.

(2) الوسائل ج 12 ص 161 حديث : 1.


سألته عن الرجل منا يشترى من السلطان من إبل الصدقة وغنمها وهو يعلم انهم يأخذون منهم أكثر من الحق الذي يجب عليهم. قال : فقال : ما الإبل والغنم الا مثل الحنطة والشعير وغير ذلك لا بأس به ، حتى تعرف الحرام بعينه. قيل له : فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منا صدقات أغنامنا ، فنقول : بعناها فيبيعناها ، فما ترى في شرائها منه؟ فقال : ان كان قد أخذها أو عزلها فلا بأس. فقيل له : فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا ويأخذ حظه فيعزله بكيل ، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال : ان كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل (1).

واعترض المحقق الأردبيلي على هذه الرواية ، بأنه لا دلالة فيها على إباحة المقاسمة بوجه من الوجوه ، ولكن لها دلالة على جواز شراء الزكاة ، ولهذا جعلها في المنتهى دليلا عليه فقط ، وفي الدلالة ـ أيضا ـ تأمل ، إذ لا دلالة في قوله «لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه» الا انه يجوز شراؤ ما كان حلالا بل مشتبها ايضا ، ولا يجوز شراؤ ما هو معروف انه حرام ، ولا يدل على جوار شراء الزكاة بعينها صريحا.

نعم ظاهرها ذلك ، ولكن لا ينبغي الحمل عليه ، لمنافاته العقل والنقل. ويحتمل ان يكون سبب الإجمال التقية. ويؤيد عدم الحمل على الظاهر : انه غير مراد بالاتفاق ، إذ ليس بحلال ما أخذه الجائر فتأمل. انتهى.

وأجاب عن ذلك في الكفاية ، فقال ـ بعد نقل هذا الكلام ـ : وفيه نظر ، لأن السؤال وقع عن أصل الصدقة ، والجواب : انه لا بأس به ، لانه يحتمل ان يكون مفروضا في غيره ، لكن لما فرض السائل انه يعلم انهم يأخذون أكثر من الحق ، فقد فرض وقوع الحرام في الصدقات التي في أيديهم ، فوقع الحاجة الى الاستثناء الذي فعله عليه‌السلام ، وكان غرض السائل كان متعلقا باستعلام الحكم باعتبار الاختلاط المذكور ،

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 162 حديث : 5.


وكان جواز شراء أصل الصدقة مستغنيا عن البيان عنده. ثم قوله : لا ينبغي الحمل عليه لمنافاته العقل والنقل ، محل نظر. إذ لا اعرف دليلا عقليا ولا نقليا يدل على ما ذكروه حتى يقع الحاجة الى التأويل أو الحمل على التقية ، إذ ذلك غير سائغ. ودعوى الاتفاق الذي ذكره غير ظاهر. انتهى.

أقول : اما ما ذكره الأردبيلي ـ رحمه‌الله ـ من عدم دلالة الرواية على إباحة المقاسمة بوجه ، فجيد ، الا انه من المحتمل قريبا ، ان المراد بالقاسم في قوله «يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظنا» هو الأخذ لمال المقاسمة ، لأنك قد عرفت ان المقاسمة حصة من حاصل الأرض تؤخذ عوضا عن زراعتها. بقرينة التعبير عن آخذ الزكاة في صدر الخبر بالمصدق ، اى جامع الصدقات الا ان الخبر غير صريح في ذلك ، لاحتمال الحمل على قسمة حق الزكاة أيضا ، وان عبر عنه أو لا بعبارة أخرى.

واما ما ذكره من التأمل في جواز شراء الزكاة بالتقريب الذي ذكره ، فليس بجيد. والحق هنا هو : ما ذكره في الكفاية ، فإن سوق الكلام ظاهر فيه.

واما ما ذكره الأردبيلي ـ قدس‌سره ـ من الاعتراف بان الجواز ظاهر فيه الرواية لكن لا ينبغي الحمل عليه لمنافاته العقل والنقل فغير بعيد ، بل هو محتمل احتمالا قريبا.

وقول صاحب الكفاية : انه لا يعرف دليلا عقليا ولا نقليا يدل على ما ذكره فيه : ان الظاهر ان مراد المحقق المذكور بالدليل العقلي والنقلي في هذا المقام ، انما هو ما دل على قبح التصرف في مال الغير إلا بإذنه ، فإن العقل والنقل متطابقان على ذلك. وما نحن فيه من جملة ذلك ، الا ان يقوم الدليل على ما ادعوه في هذه المسألة من الحلية ، فيكون موجبا لخروج هذا الفرد ، والا فلا.

ومن أجل منافاة ظاهر هذه الرواية لما ذكره ، من دلالة العقل والنقل على عدم جواز التصرف في مال الغير بغير اذنه حملها على التقية ، ثم أيده بما ذكره من ان ظاهرها غير مراد بالاتفاق. ومراده الاتفاق على ان ما يأخذه الجائر محرم عليه. وهو كذلك ، فإن القائلين بالحل يعترفون بذلك ، ولكن يدعون ان الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ


قد أذنوا ورخصوا في جواز شرائه وقبول هبته ونحو ذلك ، فقول صاحب الكفاية هنا ايضا : ان دعوى الاتفاق الذي ذكره فيه غير ظاهر ، غفلة أو تغافل.

وبالجملة ، فإن غاية ما يدل عليه ظاهر الرواية المذكورة : جواز الشراء من الزكاة التي يأخذونها من الانعام كانت أو من الغلات ، مع معارضة ذلك بالأدلة الدالة على المنع من التصرف في مال الغير إلا بإذن صاحبه. وتلك الأدلة قطعية تضعف هذه الرواية عن معارضتها لدلالة العقل والنقل ، كتابا وسنة. والإجماع على ذلك. الا ان ظاهر جملة من الاخبار الاتية مما يعضد هذه الرواية. وبذلك يجب تخصيص الأدلة المذكورة بهذه الاخبار ، مع قطع النظر عن هذه المعارضة.

فغاية ما تدل عليه هو جواز الشراء من الزكاة إذا أخذه الجائر قهرا ، فلا دلالة فيها على الجواز في غيرها ، الا على الاحتمال المتقدم ، ولا على جواز دفع الزكاة إليهم اختيارا ، كما يدعونه في المسألة أيضا.

وقال الأردبيلي ـ رحمه‌الله ـ ايضا : وعلى تقدير دلالتها على جواز الشراء من الزكاة فلا يمكن ان يقاس عليه جواز الشراء من المقاسمة. وعلى تقديره ايضا لا يمكن ان يقاس عليه جواز قبول هبتها وسائر التصرفات فيها مطلقا كما هو المدعى ، إذ قد يكون ذلك مخصوصا بالشراء بعد القبض ، بسبب لا نعرفه كسائر الأحكام الشرعية. الا ترى ان أخذ الزكاة لا يجوز منهم مطلقا. ويجوز شراؤها منهم.

وقال في الكفاية ـ في الجواب عن هذا الكلام ـ : اما لو سلمنا ان أخذ السلطان وجمعه حق الخراج من الأرضين حرام مطلقا ، حتى لو كان مقصوده جمع حقوق المسلمين وصرفه في مصارفه الشرعية بقدر طاقته ، كان حراما ايضا ، لكن لا نسلم أن إعطاءه لأحد في هذه الصورة هبة أو غير ذلك حرام ، إذا كان الأخذ مستحقا لفقره أو كونه من مصالح المسلمين ، كالغازى والقاضي والذي له مدخل في أمور الدين ، وان كان الأخذ حراما أولا. ولا أجد ـ بحسب نظري ـ دليلا على ذلك ولا الأصل يقتضيه. انتهى.


أقول : فيه ان الخصم يدعى ان الجائر هنا غاصب ، للدليل العقلي والنقلي الذي تقدمت الإشارة إليه «انه لا يحل مال امرء إلا بإذنه» فجميع تصرفاته المتفرعة على هذا الغصب باطلة شرعا ، وهو قد وافق على تحريم أخذه لهذا المال ، فكيف يصح تصرفاته بالهبة له ونحوها.

نعم قام الدليل ـ بناء على تسليم القول بالرواية المذكورة ـ على جواز الشراء منه في الصورة المذكورة ، فيجب استثناء ذلك بالنص ، ويبقى ما عداه على حكم الأصل ، من قبح التصرف في مال الغير.

وبالجملة ، فان الحق هنا فيما ذكره المحقق الأردبيلي ـ رحمه‌الله عليه ـ وكلام صاحب الكفاية هنا ظاهر القصور.

وبذلك يظهر لك ايضا ما في قوله في الكفاية : ثم يظهر من الحديث ان تصرف العامل بالبيع جائز ، إذ لو كان حراما لكان الظاهر ان يكون الشراء منه حراما ايضا ، لكونه اعانة على الفعل المحرم ، وحيث ثبت ان التصرف بنحو البيع والشراء جائز ، ظهر ان أصل التصرف فيه ليس بحرام.

وفيه ـ زيادة على ما عرفت ـ : ان قضية تحريم الأخذ على الجائر ، المتفق عليه ، الموجب لكون ذلك غصبا ، هو إجراء أحكام الغصب على هذا المأخوذ من وجوب رده على المالك ، وتحريم التصرف فيه بأي نحو كان.

هذا هو الموافق للقواعد الشرعية والضوابط المرعية.

نعم قام الدليل ـ بناء على تقدير تسليمه ـ على جواز الشراء فوجب استثناؤه من ذلك ، فكيف يمكن ادعاء حل البيع للبائع ونحوه بمجرد دلالة الرواية على جواز الشراء ، مع ان جواز الشراء باطل بمقتضى القواعد التي ذكرناها. ولكنا انما صرنا إلى إخراجه ، بهذه الرواية.

وبالجملة فإن الحكم على خلاف مقتضى الأصول ، فيجب الاقتصار فيه على مورد النص. ولو تمت هذه الدعوى التي ادعاها ، من ان جواز الشراء مستلزم لحل


جميع التصرفات ، لأمكن ايضا ان يدعى ان جواز الشراء مستلزم لحل أخذ الجائر لهذا المال ، حيث انه لم يعهد في القواعد الشرعية تحريم الغصب وحل التصرف في المغصوب ، فمتى دل الدليل على جواز التصرف كان مستلزما لحل الأخذ وعدم تحريمه ، مع انه خلاف الاتفاق في المقام.

والحق هو ما تقدمت إليه الإشارة ، في كلام المحقق المتقدم ذكره ، من انه قد يكون ذلك مخصوصا بالشراء بعد القبض بسبب لا نعرفه كسائر الأحكام الشرعية.

وبالجملة ، فإن كلام صاحب الكفاية هنا ، عند من عض على المسألة بضرس قاطع ، مما يحسبه الظمآن ماء أو هو سراب لا مع ، وكيف كان فان هذه الرواية من معتمدي أدلة القول المشهور ، وهو على ما ترى من القصور ، بالنسبة إلى الخراج. والمقاسمة. واما بالنسبة إلى الزكاة فقد تقدم تحقيق القول. فيها.

* * *

(الرابع) : ما رواه في التهذيب عن ابى بكر الحضرمي ، قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام وعنده إسماعيل ابنه فقال : ما يمنع ابن ابى السماك ان يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس ويعطيهم ما يعطى الناس؟ ثم قال لي : لم تركت عطاءك؟ قلت : مخافة على ديني! قال : ما منع ابن ابى السماك ان يبعث إليك بعطائك ، أما علم ان لك في بيت المال نصيبا؟ (1).

قال الأردبيلي ـ رحمه‌الله ، بعد نقله الرواية ـ : ليس فيها دلالة أصلا ، الا على جواز إعطاء مال من بيت المال الذي هو لمصالح المستحقين من الشيعة. واين هذا من الدلالة على جواز أخذ المقاسمة من الجائر على العموم الذي تقدم. والعجب انه (2) قال ـ في المنفردة ـ : هذا نص في الباب ، لانه عليه‌السلام بين ان لا خوف للسائل على دينه إذ لم يأخذ الا حقه من بيت المال. وقد ثبت في الأصول : تعدى الحكم بتعدي العلة المنصوصة ـ وانا ما فهمت هنا منها دلالة ما ، كيف وغاية دلالتها ما ذكر ، وذلك

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث : 6.

(2) الضمير يعود الى «الشيخ على» الذي الف رسالة منفردة في هذه المسألة.


قد يكون من بيت المال الذي يجوز أخذه وإعطاؤه للمستحقين ، مثل ان يكون منذورا أو وصية لهم بان يعطيه ابن ابى السماك أو غير ذلك. ثم أطال الكلام.

أقول : لا يخفى على المتتبع للسير والآثار ، والمتطلع في كتب الاخبار : ان بيت المال المذكور في أمثال هذا المقام ، انما هو المشتمل على الأموال المعدة لمصالح المسلمين وأرزاقهم ، كما يدل عليه أخبار إعطاء المؤذن والقاضي ، والديات التي يعطى من بيت المال ونحو ذلك. وليس في الأموال التي يأخذها الإمام عادلا أم جائرا ، ويكون في بيت المال ، ما يكون كذلك الا مال الخراج والمقاسمة ، والا فالزكاة لها أرباب مخصوصون.

واحتمال الحمل على ما ذكره من بيت مال يكون منذورا أو وصية ، عجيب من مثله رحمة الله عليه ، لا سيما مع ما صرح به غير واحد من المحققين ، من ان الإطلاق الواقع في الاخبار انما يحمل على الافراد الشائعة المتكثرة لها وانها هي التي ينصرف إليها الإطلاق دون الفروض النادرة.

وبالجملة فإن مناقشته هنا في بيت المال ، بالحمل على غير ما ذكرناه ضعيفة.

واما كون أحد مصاريف بيت المال ارتزاق الشيعة أو هم مع غيرهم ، فالأخبار به أكثر من ان يأتي عليها المقام ، كما لا يخفى على المتتبع للاخبار بعين التحقيق والاعتبار.

وبالجملة فإن الخبر المذكور ، بمعونة غيره من الاخبار في جواز ارتزاق الشيعة من بيت المال ، مما لا يحوم حوله الاشكال ، وان كانت أبواب المناقشة منسدة في هذا المجال.

والظاهر ـ ايضا ـ من قوله «ما يمنع ابن ابى السماك ان يخرج شباب الشيعة» أي إلى جباية الخراج وجمعه ويعطيهم ما يعطى غيرهم ، والظاهر ان الرجل المذكور كان منصوبا من قبل الخليفة على جمع الخراج وحفظه وخزنه في بيت المال وقسمته. ومراده عليه‌السلام حث الرجل المذكور على نفع الشيعة وصلتهم ، يجعلهم


أعوانا له على جمع الخراج ليحصل لهم اجرة ذلك. وجواز أخذ الشيعة من بيت المال الذي قد عرفت انه مال الخراج والمقاسمة. هذا هو ظاهر الخبر وسياقه.

وكيف كان ، فان الخبر وان كان ظاهره ما ذكرناه ، الا انه لا يفي بتمام ما ادعوه في هذا المقام ، مما تقدمت الإشارة إليه في كلام المحقق الأردبيلي.

* * *

(الخامس) : ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسحاق بن عمار ، في الموثق قال : سألته عن الرجل يشترى من العامل وهو يظلم ، فقال : يشترى منه ما لم يعلم انه ظلم فيه أحدا (1).

قال المحقق المتقدم ذكره : ولا دلالة فيها أصلا الا على شراء شي‌ء لا يكون ظلم فيه أحدا ، فالاستدلال بها على المطلوب بعيد. انتهى.

أقول : الظاهر ان الاستدلال بهذه الرواية بتقريب : ان العامل ـ في الخبر المذكور ـ شامل لمن يجبى المقاسمة ويجمعها ، فيكون الخبر من حيث العموم دالا على جواز الشراء من المقاسمة ، ما لم يعلم انه ظلم فيه أحدا.

والاستدلال بالخبر انما هو بالنظر الى عموم العامل لمن قد ذكرناه ، لا من حيث شراء شي‌ء لا يكون فيه ظلم ، كما ذكره حتى ينتفي بذلك الاستدلال به. والخبر ـ بهذا التقريب ـ صالح للاستدلال ، كما لا يخفى.

* * *

(السادس) : الأخبار الدالة على جواز قبالة الخراج والجزية. استدل بها في الكفاية.

ومنها : ما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح. عن إسماعيل بن الفضل ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل يتقبل بخراج الرجال وجزية رؤوسهم و

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 163 حديث : 2 باب : 53.


خراج النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير ، وهو لا يدرى لعل هذا لا يكون أبدا أو يكون ، أيشتريه ، وفي أي زمان يشتريه ، ويتقبل منه؟ فقال : إذا علمت ان من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتره وتقبل به (1). وما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، في الرجل يتقبل بجزية رؤوس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير ، وهو لا يدرى ولعله لا يكون. الخبر المتقدم بأدنى تفاوت.

قال : وظاهره ان غرض السائل متعلق بالسؤال من حيث انه لا يدرى ، يكون من ذلك شي‌ء أم لا ، ولهذا لم يذكر خراج الأرض ، فكأن أصل الجواز من حيث كون ذلك خراجا أمر مسلم عندهم.

ومنها : ما رواه الشيخ عن الحلبي في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، في جملة حديث قال : لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض وأهلها من السلطان. وعن مزارعة أهل الخراج بالربع والنصف والثلث ، قال : نعم لا بأس به ، وقد قبل رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ خيبر ، أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالجز ، والجز هو النصف (2).

أقول : لا يخفى ان غاية ما تدل عليه هذه الاخبار ـ بناء على ما ذكره ـ هو انه يجوز للإنسان أن يتقبل من السلطان الجزية التي على رؤوس أهل الذمة ، وهي المشار إليها بخراج الرجال في صدر الخبر ، فيكون العطف تفسيريا ، وكذا خراج النخل ونحوه مما ذكر من الأرض الخراجية ، بأن يستأجر من السلطان ما يأخذه من هذه الأشياء المعدودة ، بمبلغ معين يدفعه اليه. وفيها دلالة على حل ذلك وان كان من الجائر ، واشارة الى ان حكم تصرف الجائر في هذه الأرض حكم تصرف

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 264 حديث : 4.

(2) الوسائل ج 12 ص 200 حديث : 8.


الامام العادل ، ردا على القول الأخر. الا انه لا يفي بتمام ما ادعاه الأصحاب في المقام مما تقدمت الإشارة اليه.

ونحو هذه الروايات ايضا فيما قلناه ما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل ابن الفضل عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل استأجر من السلطان ارض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام مسمى ، ثم آجرها وشرط لمن يزرعها ان يقاسمه النصف أو أقل من ذلك أو أكثر ، وله في الأرض بعد ذلك فضل ، أيصح له ذلك؟ قال نعم ، إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك ، فله ذلك ، قال : وسألته عن رجل استأجر أرضا من ارض الخراج بدراهم مسماة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشي‌ء معلوم ، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان ، ولا ينفق شيئا. أو يواجر تلك الأرض قطعا على ان يعطيهم البذر والنفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته ، وله تربة الأرض أو ليست له؟ فقال له : إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها ، فلا بأس بما ذكرت (1).

ومنها ما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل استأجر أرض الخراج. الحديث (2).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن الفيض بن المختار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، ما تقول في الأرض أتقبلها من السلطان ثم أؤاجرها أكرتي على ان ما اخرج الله منها من شي‌ء ، كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان قال : لا بأس به كذلك أعامل أكرتي (3).

وبالجملة فإن هذه الروايات ـ باعتبار ما دلت عليه جواز قبالة الخراج و

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 261 حديث : 3 و 4.

(2) الوسائل ج 12 ص 262.

(3) الوسائل ج 12 ص 208 حديث : 3.


الأرض الخراجية ، مع ما تقدم في رواية أبي بكر الحضرمي ، وما ذيلناها به ، وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم في حكم الزكاة وجواز شرائها ـ مما يثمر الظن الغالب بجواز تناول الخراج والمقاسمة من الجائر ، وان تصرفه في ذلك يجرى مجرى تصرف الامام عليه‌السلام.

لكن لا في جميع الوجوه التي ذكروها ، من انه لا يحل إنكار ذلك عنه ، ولا خيانته فيه ولا سرقته ونحو ذلك. حيث ان غاية ما يفهم من هذه الروايات : هو التوصل الى الانتفاع من هذه الأراضي الخراجية ، وخراجها بقبول ذلك من الجائر ، والاستيجار منه ، والشراء من مال الخراج والزكاة التي قبضها.

واما ما ذكروه من الزيادة على ذلك من عدم جواز إنكاره ، ووجوب دفعه له ، فربما دلت بعض الاخبار على خلافه ، مثل صحيحة عيص بن القاسم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الزكاة ، قال : ما أخذه منكم بنو أمية فاحتسبوا به ، ولا تعطوهم شيئا ما استطعتم ، فان المال لا يبقى على هذا ان يزكيه مرتين (1).

والرواية وان كان موردها الزكاة خاصة ، الا ان فيها إشارة إلى انه لا يجوز دفع الحقوق الشرعية لغير مستحقها وأهلها ، لا سيما مع ما يستلزمه من اعانة الظلمة ، الذي تقدم التصريح بتحريمه. والى ذلك ايضا تشير صحيحة زيد الشحام ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ان هؤلاء المصدقين يأتوننا فيأخذون الصدقة فنعطيهم إياها أتجزي عنا؟ قال : لا ، إنما هؤلاء قوم غصبوكم ـ أو قال ظلموكم ـ أموالكم ، وانما الصدقة لأهلها (2).

وحمله الشيخ على استحباب الإعادة ، جمعا بينه وبين ما يدل على الاجزاء من الاخبار. وقد تقدمت في كتاب الزكاة.

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 174 حديث : 3.

(2) الوسائل ج 6 ص 174 حديث : 6. والراوي هو زيد بن يونس أبو ـ أسامة الشحام.


والأظهر في وجه الجمع. انما هو حمل ما دل على الاجزاء على عدم التمكن من إنكارها ومنعها ، وانما تؤخذ منه قهرا. وما دل على العدم على من تمكن من عدم الدفع ودفعها لهم اختيارا ، كما تدل عليه صحيحة العيص المذكورة. والله العالم.

(السابع) : الأخبار الدالة على جواز أخذ جوائز خلفاء الجور. ومنها : ما رواه في التهذيب عن يحيى بن ابى العلاء عن ابى عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام : ان الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ كانا يقبلان جوائز معاوية (1). ونحوها من الاخبار الاتية في المسألة التالية إنشاء الله. وأنت خبير بما فيه من الضعف الغنى عن التنبيه.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث : 4.


المسألة الثالثة

لا اشكال ولا خلاف في حل جوائز السلطان وجميع الظلمة ، على كراهية ما لم يخبره بأن ذلك من ماله ، فإنه لا كراهة. وما لم يعلم بكونه حراما فيجب رده على مالكه ، أو الصدقة به عنه.

ويدل على الثالث : ما تقدم في مسألة تحريم معونة الظالمين ، من رواية على ابن أبي حمزة (1).

وعلى الأول والثاني : أصالة الحل ، المدلول عليها بالأخبار المتكاثرة ، وقد تقدم شطر منها في مقدمات الكتاب.

وعلى الكراهة في الأول : وقوع الشبهة فيها ، باحتمال كونها من الحرام أو دخول الحرام في تلك الجوائز ، لعدم تورع الدافع لها ، مع عدم اخباره بالحل.

ولهذا صرح الأصحاب باستحباب إخراج الخمس منها ، من حيث احتمال الاختلاط ، وخروج الخمس محلل للمال المختلط حلاله بحرامه.

قال في المنتهى : ولو لم يعلم حراما جاز تناولها وان كان المجيز لها ظالما ،

__________________

(1) تقدمت في صفحة : 125 من هذا الجزء.


وينبغي له ان يخرج الخمس من جوائز الظالم ، ليطهر بذلك ماله ، لان الخمس يطهر المختلط بالحرام فيطهر ، ما لم يعلم فيه الحرام. وينبغي ان يصل إخوانه من الباقي بشي‌ء وينتفع هو بالباقي.

أقول : ومن الاخبار الواردة في المقام ما تقدم قريبا من خبر يحيى بن ابى العلاء (1).

وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح ، عن ابي ولاد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في الرجل يلي أعمال السلطان ليس له كسب الا من أعمالهم ، وانا أمر به وانزل عليه فيضيفني ويحسن الى ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة ، وقد ضاق صدري من ذلك؟ فقال لي : كل وخذ منه ، لك المهنا وعليه الوزر (2).

وما رواه في الفقيه عن ابى المعزا ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وانا عنده ، فقال : أصلحك الله أمر بالعامل أو اتى العامل ، فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال : نعم ، وحج بها. (3). ورواه الشيخ في الصحيح مثله بدون قوله «أو اتى العامل».

وما رواه الشيخ عن محمد بن هشام أو غيره ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أمر بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال : نعم. قلت : وأحج منها؟ قال : نعم حج منها (4).

وعن محمد بن مسلم وزرارة قالا : سمعناه يقول : جوائز العمال ليس بها

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث : 4.

(2) الوسائل ج 12 ص 156 حديث : 1 باب : 51.

(3) الوسائل ج 12 ص 156 حديث : 2.

(4) الوسائل ج 12 ص 157 حديث : 3.


بأس (1).

وعن عمار في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال : لا ، الا ان لا يقدر على شي‌ء يأكل ولا يشرب ، ولا يقدر على حيلة ، فإن فعل فصار في يده شي‌ء فليبعث بخمسه الى أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ (2).

وما رواه في الكافي عن عمر أخي عذافر ، قال : دفع الى انسان ستمائة درهم أو سبعمائة درهم لأبي عبد الله عليه‌السلام فكانت في جوالقي ، فلما انتهيت إلى الحفيرة شق جوالقي وذهب بجميع ما فيه ، ورافقت عامل المدينة بها ، فقال : أنت الذي شق جوالقك وذهب بمتاعك؟ قلت : نعم. قال : إذا قدمنا المدينة فأتنا نعوضك. قال : فلما انتهينا إلى المدينة ، دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام فقال : يا عمر شقت زاملتك وذهب بمتاعك؟ فقلت : نعم. فقال : ما أعطاك الله تعالى خير مما أخذ منك ـ الى ان قال ـ فائت عامل المدينة فتنجز منه ما وعدك ، فإنما هو شي‌ء دعاك الله اليه لم تطلبه منه (3).

الى غير ذلك من الاخبار الدالة على صلة خلفاء بنى العباس للأئمة ـ عليهم‌السلام ـ وقبولهم ذلك منهم.

فوائد

الأولى : ما ذكره الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من كراهة هذه الجوائز لما تقدم ذكره ، ربما نافاه الأخبار الدالة على قبولهم ـ عليهم‌السلام ـ لجوائز

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث : 5.

(2) الوسائل ج 12 ص 146 حديث : 3.

(3) الوسائل ج 12 ص 158 حديث : 8.


خلفاء الجور ، وقد تقدم خبر قبول الحسن والحسين عليهما‌السلام لجوائز معاوية ، ومثله ما رواه في كتاب الاحتجاج في حديث : انه كان يبعث الى الحسين عليه‌السلام في كل سنة ألف ألف درهم سوى عروض وهدايا من كل ضرب (1).

ويمكن الجواب عن ذلك ، بوجوه :

(أحدها) : ان الأرض وما فيها لهم ـ عليهم‌السلام ـ كما دلت عليه جملة من الاخبار التي قدمناها في كتاب الخمس (2) فكيف بما في أيدي هؤلاء الفجرة من ذلك.

و (ثانيها) : انه من المحتمل ـ قريبا ـ ان قبولهم لها لا يستلزم أكلهم منها ، فيجوز ان يتصدقوا بها ، لأنها من مال المسلمين فيصرفونها عليهم.

ويدل على ذلك : ما رواه في العيون عن صاحب الفضل بن الربيع ، عن ابى الحسن موسى عليه‌السلام ، في حديث : ان الرشيد بعث اليه بخلع وحملان ومال. فقال : لا حاجة لي بالخلع والحملان والمال ، إذا كان فيه حقوق الأمة. فقلت : ناشدتك بالله ان لا ترده فيغتاظ. قال : اعمل به ما أحببت (3).

وفي خبر آخر ، ان الرشيد أمر ان يحمل بين يديه خلع وبدرتان دنانير. فقال عليه‌السلام : والله لو لا انى ارى من أزوجه بها من عزاب بني أبي طالب لئلا ينقطع نسله ما قبلتها (4).

وروى في الكافي عن محمد بن قيس بن رمانة قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام فذكرت له بعض حالي ، فقال : يا جارية هاتي ذلك الكيس ، هذه أربعمائة دينار

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 159 حديث : 14.

(2) الجزء 12 ص 434 من هذه الطبعة.

(3) الوسائل ج 12 ص 158 حديث : 10.

(4) الوسائل ج 12 ص 159 حديث : 11.


وصلني بها أبو جعفر ، فخذها وتفرج بها (1) الحديث.

و (ثالثها) : جواز فعلهم للمكروه أحيانا ، كما دلت عليه جملة من الاخبار لبيان جوازه ، وانهم لو امتنعوا من قبول ذلك امتنع الناس التابعون لهم بامتناعهم منه اقتداء بهم ، ولزم به إدخال الضرر عليهم في بعض الموارد ، لا سيما في مقام الضرورة ، مع حل ذلك شرعا.

و (رابعها) : ان لهم حقا في بيت المال ، فيكون ذلك من حقوقهم الواجبة لهم ، ويحمل الامتناع منهم في بعض الأوقات على التنزه والله العالم.

الثانية : ما ذكره الأصحاب هنا من استحباب إخراج الخمس من هذه الجوائز لم أقف فيه على خبر ، الا ما قدمناه من خبر عمار (2).

ومورده انما هو الدخول في أعمالهم وحصول شي‌ء له من ذلك. والفرق بينه وبين الجوائز ظاهر ، لما تقدم من اختلاف الاخبار في جواز الدخول في أعمالهم ، وقد تقدمت في تلك المسألة ، بخلاف مسألة الجوائز ، فإن الأخبار متفقة على حلها ، ومعارضة بالقاعدة المتفق عليها ـ نصا وفتوى ـ كل شي‌ء فيه حلال وحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه (3).

ومورد اخبار الخمس ـ الكثيرة بالنسبة الى هذا الفرد ـ انما هو المال المعلوم دخول الحرام فيه ، مع عدم معلوميته بعينه ، وعدم معلومية صاحبه. وقد تقدمت في كتاب الخمس (4).

وظاهر عبارة العلامة المتقدمة : انه انما استند في إخراج الخمس في هذا المقام

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 158 حديث : 9.

(2) الوسائل ج 12 ص 126 حديث : 3.

(3) الوسائل ج 17 ص 91 حديث : 1 و 2.

(4) في الجزء الثاني عشر ص 363 ـ 364.


الى هذه الاخبار باعتبار دلالتها على ذلك بطريق الأولوية. حيث انها دلت على تطهير المال المعلوم فيه وجود الحرام بإخراج الخمس ، فتطهير ما ظن كونه حراما أو دخل فيه الحرام بطريق اولى.

وفيه منع ظاهر ، بل هو قياس محض مع الفارق ، للاتفاق هنا على الحل نصا وفتوى ، مع الاعتضاد ـ كما عرفت ـ بالقاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، بخلاف ما لو علم فيه الحرام ، إذ لا خلاف في تحريمه بمقتضى النصوص الواردة في المحصور من ذلك ، لكن لما وردت هذه الاخبار بتحليله بإخراج الخمس منه وجب استثناؤه من النصوص المذكورة.

الثالثة : قد صرحت موثقة عمار المتقدمة (1) بأنه يبعث بخمس المال الذي يصير في يده من عملة الظالمين إليهم ـ عليهم‌السلام ـ والظاهر من ذلك : ان مصرفه مصرف الخمس المأخوذ من الغنائم ونحوها ، مما تقدم في كتاب الخمس ، مع ان هذا الموضع مما لم يتعرض أحد من الأصحاب لعده في كتاب الخمس في عداد تلك الأشياء وقد وقع في الخمس المأخوذ من الحلال المختلط بالحرام بحث في مصرفه قدمنا ذكره في الكتاب المشار اليه.

والظاهر : ان عدم تعرض الأصحاب لهذا الفرد ، اما من حيث عدم وجوبه ، فان ظاهرهم انما هو الاستحباب ، أو ندور الرواية المذكورة.

وكيف كان فإخراج الخمس مخصوص بمورد الخبر ، وهو العمل لهم ، دون ما نحن فيه من الجوائز. والله العالم.

الرابعة : قد عد بعض مشايخنا المحققين من محدثي متأخري المتأخرين جوائز الظالم ، في الشبهات الواردة في اخبار التثليث «حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك» (2). بناء على ان ما احتمل الحرمة وان كان بحسب ظاهر الشرع حلالا ،

__________________

(1) في صفحة : 263.

(2) راجع : الكافي ج 1 ص 68.


الا انه من جملة أفراد الشبهة المعدودة في هذه الاخبار.

وعد من ذلك ـ بناء على هذا الأصل الذي ذكره ايضا ـ ما اختلف فيه الاخبار ، مع ترجيح أحد طرفيها في نظر الفقيه ، كمسألة نجاسة البئر مثلا ، مع القول بالطهارة.

وفيه ـ أولا ـ : ان الحل والحرمة ـ كما حققناه في محل أليق وقد تقدم أيضا في المجلد الثاني من كتاب الطهارة ـ ليس عبارة عما كان كذلك في نفس الأمر والواقع ، وانما ذلك بالنظر الى علم المكلف ، وكذلك الطهارة والنجاسة ، فالحلال هو ما لم يعلم المكلف حرمته ، وان كان حراما في الواقع ، لا ما علم عدم حرمته. والطاهر : ما لم يعلم نجاسته ، لا ما علم عدم نجاسته.

ولا يقال : هذا حلال بحسب الظاهر وحرام في الواقع ، إذ لا واقع هنا لذلك ، فإن الأحكام الشرعية لم يجعلها الشارع منوطة بالواقع ونفس الأمر الذي لا يعلمه الا هو ، وانما جعلها منوطة بعلم المكلف.

وتحقيق البحث في المقام واسع ، وقد تقدم في الموضع المشار اليه.

وثانيا : ان المفهوم من الاخبار في هذا القسم الثالث ـ اعنى قسم الشبهة ـ هو الكف والتثبت والرد إلى الأئمة ـ عليهم‌السلام (1) كما ان الحكم في الحلال البين والحرام البين ، هو الإباحة في الأول ، والمنع مع المؤاخذة بالمخالفة في الثاني.

ومن الاخبار المشار إليها : قول ابى جعفر عليه‌السلام في حديث طويل : وما اشتبه عليكم فقفوا عنده وردوه إلينا نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا (2).

وقول الصادق عليه‌السلام : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الأمور ثلاثة ، أمر تبين لك رشده

__________________

(1) راجع : الكافي ج 1 ص 50 حديث : 10.

(2) الوسائل ج 18 ص 123 حديث : 43.


فاتبعه ، وأمر تبين لك غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فرده الى الله عزوجل (1).

وقول الصادق عليه‌السلام : أورع الناس من وقف عند الشبهة (2).

وقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام : أوصيك يا بنى ـ الى ان قال ـ : والصمت عند الشبهة (3).

وقوله عليه‌السلام : الوقوف عند الشبهة ، خير من الاقتحام في الهلكة (4). الى غير ذلك من الاخبار.

وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لتصريح الاخبار به ، واتفاق الأصحاب على الحل من غير توقف.

وبالجملة ، فإن دخول ما ذكره في افراد الشبهة المعدودة في هذه الاخبار ظاهر الفساد لمن تأمل في ما ذكرناه بعين الفكر والسداد.

نعم يمكن ان يقال : ان معنى الشبهة لا ينحصر في هذا الفرد المذكور في هذه الاخبار ، بل من جملته ما يستحب التنزه عنه فيما إذا حصل الشك أو الظن باحتمال النقيض لما قام الدليل على حليته أو طهارته على الإطلاق كما فيما نحن فيه ، فان الدليل دل على ان كل شي‌ء حلال حتى تعلم حرمته ، وجوائز الظالم من هذا القبيل كما صرحت به اخبارها ، لكن يحتمل قريبا بسبب العلم بأخذه الحرام كون هذا الفرد منه ، وان لم يعلم المكلف. فالأفضل له التورع عنه. والله العالم.

الخامسة : روى في الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، انه كتب الى صاحب الزمان ـ عجل الله فرجه ـ يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف

__________________

(1) الكافي ج 1 ص 68. واللفظ في الوسائل ج 18 ص 118 حديث : 23.

(2) الوسائل ج 18 ص 118 حديث : 24.

(3) الوسائل ج 18 ص 123 حديث : 42.

(4) الكافي ج 1 ص 68 واللفظ في الوسائل ج 18 ص 112 حديث : 2.


مستحلا لما في يده ، لا يتورع عن أخذ ماله ربما نزلت في قريته وهو فيها ، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه فيدعوني إليه ، فان لم آكل من طعامه عاداني عليه ، فهل يجوز لي ان آكل من طعامه ، وأتصدق بصدقة ، وكم مقدار الصدقة؟ وان اهدى هذا الوكيل هدية الى رجل آخر فيدعوني الى ان أنال منها ، وانا اعلم ان الوكيل لا يتورع عن أخذ ما في يده فهل على فيه شي‌ء إذا أنا نلت منها؟ الجواب : ان كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده ، فكل طعامه واقبل بره ، والا فلا (1). ورواه الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في كتاب الغيبة أيضا.

وأنت خبير بان ظاهر هذا الخبر : عدم جواز قبول جوائز الظالم الا مع العلم بان له معاشا أو مالا حلالا ، وظواهر الأخبار المتقدمة أعم من ذلك ، فالواجب تقييد تلك الاخبار به.

الا ان ذلك خلاف ما عليه ظاهر اتفاق كلمة الأصحاب في هذا الباب ، فإنهم يكتفون في الحكم بالحلية بمجرد مجهولية الحال وان لم يعلم ان له مالا حلالا أو معاشا حلالا ، وهو ظاهر الاخبار المتقدمة. وانما يستثنون معلومية كونه حراما.

اللهم الا ان يقال : ان ظاهر هذا الخبر يعطي : ان السائل عالم بان هذا الوكيل ليس له مال الا مال الوقف الذي في يده ، وانه يستحل اكله ، وعلى هذا فيكون جميع ما يصرفه ويهديه انما هو من هذا المال الذي في يده ، فأجابه عليه‌السلام ان كان كذلك فلا يجوز الأكل من عنده ، وان كان له معاش أو مال غير ذلك ، بحيث يحتمل كون ما يعطيه من ذلك المال الحلال جاز الأكل ، وحينئذ فلا يدخل في هذا مجهول الحال الذي دل كلام الأصحاب وظواهر الأخبار المتقدمة على حل جوائزه.

السادسة : قد صرح الأصحاب ، وعليه دلت الأخبار ، بأنه لا بأس بمعاملة

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 160 حديث : 15.


الظلمة والبيع عليهم والشراء منهم ، وان كان مكروها.

ومن الاخبار في ذلك ما تقدم في المسألة السابقة ، من موثقة إسحاق بن عمار الدال على انه يشترى من العامل ما لم يعلم انه يظلم فيه أحدا (1).

وما رواه في التهذيب عن محمد بن أبي حمزة عن رجل ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترى طعاما فيجيئني من يتظلم يقول : ظلموني ، فقال : اشتره (2).

أقول : إنما أمره عليه‌السلام بالاشتراء ، لانه لم يعلم ان ظلمة كان في ذلك الطعام بعينه ، بل أخبره بأنهم يظلمون الناس. وقد عرفت ان ذلك غير مانع من جواز الشراء منهم ، ما لم يعلم الظلم في ذلك المبيع المعين المعلوم.

وعن على بن عطية ، قال أخبرني زرارة ، قال : اشترى ضريس بن عبد الملك واخوه من هبيرة أرزا بثلاثمائة الف ، قال : فقلت له : ويلك ـ أو ويحك ـ انظر الى خمس هذا المال فابعث به اليه واحتبس الباقي ، فأبى على ، قال : فأدى المال ، وقدم هؤلاء (3) فذهب أمر بنى أمية. قال : فقلت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال ـ مبادرا للجواب ـ : هو له هو له. فقلت : انه قد أداها ، فعض على إصبعه (4).

وظاهر سياق الخبر المذكور : ان هبيرة كان من بنى أمية أو أعمالهم ، وان الشراء وقع في مقدمات ذهاب دولتهم على يد العباسية. وزرارة لما علم ذلك أمر ابن أخيه ان يبقى الثمن ولا يدفعه إلى البائع ، وان يبعث بخمسه الى الامام عليه‌السلام ليحل له المال ، لانه مال الناصب المأمور بإخراج الخمس منه ، فامتنع ابن أخيه من ذلك ، فلما أخبر زرارة الإمام عليه‌السلام قبل ان يتم له الحكاية ، حلل له الخمس الذي

__________________

(1) أصل الحديث في الوسائل ج 12 ص 163 حديث : 2 باب 53.

(2) الوسائل ج 12 ص 161 حديث : 3.

(3) اى بنوا العباس. والمقصود : ظهور أمرهم واستيلائهم على سرير الخلافة.

(4) الوسائل ج 12 ص 161 حديث : 2.


امره بإرساله ، ثم لما أخبره زرارة انه دفع الثمن عض على يديه ندما على ما فعل ضريس من دفع الثمن ، ففي الخبر المذكور دلالة على حل مال الناصب كما ورد به غيره ، وعلى إخراج خمسه ، وعلى تحليل الامام عليه‌السلام بالخمس ، كما تقدم في كتاب الخمس ، وعلى جواز معاملة الظلمة كما هو المقصود بالبحث ، الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام.

واما الكراهة فالوجه فيها : ما تقدم بيانه في الجوائز. والله العالم.


المسألة الرابعة

قد اختلفت الاخبار وكلمة الأصحاب ، وان كان الأول أشد اختلافا ، فيما يأخذ كل من الولد والوالد من مال الأخر.

فقال الشيخ في الاستبصار ـ بعد إيراد صحيحة محمد بن مسلم ، وصحيحة أبي حمزة الثمالي ، وحسنة محمد بن مسلم الآتي (1) جميع ذلك إنشاء الله تعالى ـ ما لفظه : هذه الاخبار كلها دالة على انه يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده ، إذا كان محتاجا ، فأما مع عدم الحاجة فلا يجوز له أن يتعرض له ، ومتى كان محتاجا وقام الولد به وبما يحتاج اليه فليس له ان يأخذ من ماله شيئا ، وان ورد في الاخبار ما يقتضي جواز تناوله من مال ولده مطلقا ، من غير تقييد. فينبغي ان يحمل على هذا التقييد. انتهى.

وقال في النهاية : لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا على كل حال ، إلا بإذنه قل ذلك أم كثر ، لا مختارا ولا مضطرا ، فان اضطر ضرورة شديدة حتى يخاف تلف النفس ، أخذ من ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم. والوالد فما دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته ، من الكسوة

__________________

(1) بعد الانتهاء من نقل كلمات الأصحاب ـ رضوان الله عليهم.


والطعام بالمعروف ، فليس للوالد أن يأخذ من ماله شيئا. وان لم يكن الولد ينفق عليه وكان الوالد مستغنيا عن ماله ، فلا يجوز له ايضا ان يأخذ من ماله شيئا على حال. فان احتاج الى ذلك أخذ من ماله قدر ما يحتاج اليه من غير إسراف. بل على طريق القصد. وإذا كان للولد مال ولم يكن لوالده ، جاز له ان يأخذ منه ما يحج به حجة الإسلام ، فأما حجة التطوع فلا يجوز له ان يأخذ نفقتها من ماله إلا باذنه ، وإذا كان للولد جارية ولم يكن وطأها ولا مسها بشهوة ، جاز للوالد أن يأخذها ويطأها ، بعد ان يقومها على نفسه بقيمة عادلة ، ويضمن قيمتها في ذمته. ومن كان له ولد صغار فلا يجوز له ان يأخذ شيئا من أموالهم إلا قرضا على نفسه ، والوالدة لا يجوز لها ان تأخذ من مال ولدها شيئا الا على سبيل القرض على نفسها. انتهى.

وقال ابن إدريس في السرائر : لا يجوز للولد ان يأخذ من مال والده شيئا ، قليلا كان أو كثيرا إلا بإذنه ، لا مختارا ولا مضطرا. وان اضطر ضرورة يخاف معها على تلف نفسه أخذ من ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم.

«هذا إذا كان الوالد ينفق عليه ويقوم بواجب حقه ، لأن نفقة الولد عندنا تجب على الوالد إذا كان الولد معسرا ، سواء كان بالغا أم غير بالغ ، ويجبر الوالد على ذلك. فاما إذا كان الولد موسرا فلا تجب نفقته على والده ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، بلا خلاف بيننا.

«فإذا تقرر ذلك فإن أنفق عليه والا رفعه الى الحاكم ، وأجبره الحاكم على الإنفاق. فان لم يكن حاكم يجبره على ذلك ، فللولد عند هذه الحال الأخذ من مال والده ، مقدار ما ينفقه على الاقتصاد ، ويحرم عليه ما زاد على ذلك.

«والوالد فما دام الولد ينفق عليه مقدار ما يقوم بأوده وسد خلته ، من الكسوة والطعام بالمعروف ، فليس لوالده ان يأخذ من ماله بعد ذلك شيئا ، لا لقضاء ديونه ، ولا ليتزوج به ، ولا ليحج به ، ولا لغير ذلك. فان لم يكن الوالد معسرا وكان مستغنيا


من مال ولده ، فلا يجوز ان يأخذ من ماله شيئا على كل حال ، لا بالمعروف ولا غيره. لان نفقة الوالد لا تجب على الولد عندنا الا مع الإعسار ، فاما مع الاستغناء فلا تجب النفقة على ولده».

ثم نقل عن الشيخ في النهاية : جواز أخذ الوالد لحج الإسلام. ثم قال : الا انه رجع عنه في الاستبصار. فإنه ـ رحمه‌الله ـ قال. ثم نقل عبارته المتقدمة في صدر المسألة ، ثم نقل عنه في الاستبصار في حيزه : أما موثقة سعيد بن يسار الاتية إنشاء الله ، الدالة على الحج من مال ابنه الصغير ، وانه ينفق من مال ولده. وانه أجاب عن الإنفاق بالحمل على ما إذا امتنع الولد من القيام به ، وعن الحج بأنه محمول على انه يأخذ على وجه القرض على نفسه ، إذا كان وجبت عليه حجة الإسلام.

ثم نقل عنه في الاستبصار أيضا ، بحمل الأخبار الدالة على انه يطأ جارية ابنه ، على ما إذا كان الابن صغيرا وقومها على نفسه ، أو يكون هو القيم بأمورهم والناظر في أموالهم.

ثم اعترضه في تجويزه أخذ نفقة الحج قرضا. قال : فان هذا لا يجوز ، لانه لا تجب عليه الاستدانة ليحج بها ، الا انه لو حج به كانت الحجة مجزية عما وجبت ، واستقر في ذمته. انتهى.

أقول : وأنت خبير بأن ما ادعاه ابن إدريس هنا ، من ان الشيخ رجع عما ذكره في النهاية ، من جواز أخذ الوالد للحج في الاستبصار ، واستدل بالعبارة المتقدمة ، لا يخلو من خدش ، فان من تأمل كلام الاستبصار في هذا المقام ، من أوله الى آخره ، يعلم ان العبارة المتقدمة ، وان أوهمت ما ذكره ، الا ان آخر كلامه وحكمه بجواز القرض إذا كانت ذمة الأب مشغولة بالحج ، مخصص للكلام المتقدم.

ولا فرق بين كلامه في النهاية وكلامه في الاستبصار ، إلا إطلاقه في النهاية «جواز الأخذ للحج وان لم يستطع قبل ذلك» وتقييده في الاستبصار بما إذا كانت الذمة مشغولة


بالحج ، وأخذه على سبيل القرض. ولهذا نازعه في جواز القرض للحج ايضا. وبهذا يظهر انه لم يرجع عن أصل المسألة ، كما هو ظاهر كلامه ، وانما رجع عن ذلك الإطلاق الى هذا التقييد.

ثم ان ما ذكره في النهاية أيضا ، بالنسبة إلى وطي الأب جارية ابنه ، مطلق بالنسبة إلى الولد صغيرا كان أو كبيرا ، وظاهر الاستبصار التخصيص بالصغير.

قال ابن إدريس : وهذا هو الصحيح الذي عليه الإجماع ، فاما إذا كان الولد كبيرا بالغا فلا يجوز للوالد وطي جاريته إلا باذنه على كل حال.

ثم انه في السرائر اعترض على الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ أيضا في قوله في آخر كلامه بجواز أخذ الأم قرضا من مال ولدها مع الاستغناء ، فقال بعد نقل كلام الشيخ رحمه‌الله المتقدم : وهذا غير واضح ، لانه لا دلالة على ذلك. وقوله عليه‌السلام : «لا يحل مال مرء الا عن طيب نفس منه» (1). وايضا التصرف في مال الغير بغير اذنه قبيح عقلا وسمعا ، فمن جوزه فقد اثبت حكما يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي. انتهى.

وما ذكره ابن إدريس هنا محل نظر ، لما سيأتي إنشاء الله تعالى عند نقل الاخبار ، من جواز أخذها قرضا ، مع تحقيق المسألة.

أقول : والواجب هنا أو لا نقل الأخبار الواردة في المقام ، ثم الكلام فيها بتوفيق الملك العلام ، بما ينحل به عنها شبهة الإبهام ، وينجلي عنها غياهب الظلام.

(الأول) : ما رواه في الكافي والفقيه ، في الصحيح ، عن محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن رجل لابنه مال ، فيحتاج الأب إليه ، قال : يأكل منه. فأما الأم فلا تأكل منه الا قرضا على نفسها (2).

(الثاني) : ما رواه في الكافي عن على بن جعفر عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : سألته

__________________

(1) راجع الوسائل ج 3 ص 424 باب : 3 من أبواب مكان المصلي.

(2) الوسائل ج 12 ص 196 حديث : 5.


عن الرجل يأكل من مال ولده؟ قال : لا ، الا ان يضطر إليه فيأكل منه بالمعروف ، ولا يصلح للولد ان يأخذ من مال والده شيئا ، إلا بإذن والده (1).

ورواه الحميري في قرب الاسناد ، عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر ، الا انه قال : لا ، إلا بإذنه أو يضطر فيأكل بالمعروف أو يستقرض منه حتى يعطيه إذا أيسر (2).

(الثالث) : ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لرجل : أنت ومالك لأبيك. ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : ما أحب ان يأخذ من مال ابنه الا ما احتاج اليه مما لا بد منه ، ان الله عزوجل لا يحب الفساد (3).

(الرابع) : ما رواه في الكافي عن ابن ابى يعفور عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون لولده مال ، فأحب أن يأخذ منه ، قال : فليأخذ. وان كانت امه حية فما أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا على نفسها (4).

(الخامس) : ما رواه في الكافي والتهذيب ، عن محمد بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يحتاج الى مال ابنه ، قال : يأكل منه ما شاء من غير سرف. وقال : في كتاب على عليه‌السلام : ان الولد لا يأخذ من مال والده شيئا إلا باذنه ، والوالد يأخذ من مال ابنه ما شاء ، وله ان يقع على جارية ابنه إذا لم يكن الابن وقع عليها. وذكر ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لرجل : أنت ومالك لأبيك (5).

ورواه الصدوق عن العلاء ، عن محمد بن مسلم ، عن ابى جعفر عليه‌السلام في كتاب

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 196 حديث : 6.

(2) الوسائل ج 12 ص 196 حديث : 6.

(3) الوسائل ج 12 ص 195 حديث : 2.

(4) الوسائل ج 12 ص 196 حديث : 7.

(5) الوسائل ج 12 ص 194 ـ 195 حديث : 1.


على عليه‌السلام : ان لم يكن الابن وقع عليها. ثم قال : وفي خبر آخر : لا يجوز ان يقع على جارية ابنه إلا بإذنه (1).

(السادس) : ما رواه في الكافي والفقيه ، عن الحسين بن ابى العلاء ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما يحل للرجل من مال ولده؟ قال : قوته بغير سرف إذا اضطر اليه. قال : فقلت له : فقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للرجل الذي أتاه فقدم أباه ، فقال له : أنت ومالك لأبيك؟ فقال : انما جاء بأبيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا رسول الله هذا ابى ، وقد ظلمني ميراثي من أمي ، فأخبره الأب انه قد أنفقه عليه وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شي‌ء أو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يحبس الأب للابن؟!. ورواه الصدوق في كتاب معاني الاخبار في الحسن (2).

(السابع) : ما رواه الشيخ في الموثق عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيحج الرجل من مال ابنه وهو صغير؟ قال : نعم. قلت : يحج حجة الإسلام وينفق منه؟ قال : نعم ، بالمعروف. ثم قال : نعم ، يحج منه وينفق منه ، ان مال الولد للوالد ، وليس للولد ان يأخذ من مال والده إلا بإذنه (3).

(الثامن) : ما رواه عن الحسين بن علوان ، عن زيد بن على ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قال : انى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ان ابى عمد الى مملوك لي ، فأعتقه كهيأة المضرة لي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت ومالك من هبة الله لأبيك ، أنت سهم من كنانته ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ...) جازت عتاقة أبيك ، يتناول والدك من مالك وبدنك ، وليس لك ان تتناول من ماله ولا من بدنه شيئا إلا بإذنه (4).

__________________

(1) الوسائل ج 14 ص 544 حديث : 6 و 7.

(2) الوسائل ج 12 ص 197 حديث : 8.

(3) الوسائل ج 12 ص 195 ـ 196 حديث : 4.

(4) الوسائل ج 16 ص 78 حديث : 1 باب : 67 من أبواب العتق.


(التاسع) : ما رواه أيضا في الصحيح عن ابن سنان (1) ـ والظاهر انه عبد الله ـ قال : سألته ـ يعني أبا عبد الله عليه‌السلام ـ ما ذا يحل للوالد من مال ولده؟ قال : أما إذا أنفق عليه ولده بأحسن النفقة ، فليس له ان يأخذ من ماله شيئا. وان كان لوالده جارية للولد فيها نصيب ، فليس له ان يطأها الا ان يقومها قيمة تصير لولده قيمتها عليه. قال : ويعلن ذلك. قال : وسألته عن الوالد ، أيرزأ من مال ولده شيئا؟ قال : نعم ، ولا يرزأ الولد من مال والده شيئا إلا بإذنه ، فإن كان لرجل ولد صغار ، لهم جارية ، فأحب أن يفتضها فليقومها على نفسه قيمة ، ثم ليصنع بها ما شاء ، ان شاء وطأ وان شاء باع (2).

(العاشر) : ما رواه ايضا عن إسحاق بن عمار في الموثق ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الوالد ، يحل له من مال ولده إذا احتاج اليه؟ قال : نعم ، وان كان له جارية فأراد أن ينكحها قومها على نفسه ويعلن ذلك ، قال : وإذا كان للرجل جارية فأبوه أملك بها ان يقع عليها ما لم يمسها الابن (3).

(الحادي عشر) : ما رواه الصدوق في العيون والعلل ، بسنده عن محمد بن سنان ، ان الرضا عليه‌السلام كتب اليه فيما كتب من جواب مسائله : وعلة تحليل مال الولد لوالده بغير اذنه ، وليس ذلك للولد ، لان الولد موهوب للوالد في قوله عزوجل «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ» مع انه المأخوذ بمؤنته صغيرا وكبيرا. والمنسوب اليه والمدعو له ، لقوله عزوجل «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ». ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك». وليس للوالدة مثل ذلك ، لا تأخذ من ماله شيئا إلا بإذنه أو بإذن الأب ، ولان الوالد مأخوذ بنفقة الولد ولا تؤخذ الام بنفقة ولدها (4).

__________________

(1) بقرينة رواية ابن المغيرة عنه ، وروايته عن الصادق ـ ع ـ.

(2) الوسائل ج 12 ص 195 حديث : 3. والارزاء : الاصاب من شي‌ء. يقال : أرزا الرجل ماله ـ بنصب المفعولين ـ اى أصاب من ماله شيئا بمعنى الأخذ مهما كان.

(3) الوسائل ج 12 ص 198 ـ 199 حديث : 2.

(4) الوسائل ج 12 ص 197 حديث : 9.


(الثاني عشر) : ما رواه على بن جعفر في كتابه ، عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون لولده الجارية ، أيطأها؟ قال : ان أحب. وان كان لولده مال ، وأحب ان يأخذ منه فليأخذ. وان كانت الأم حية فلا أحب ان تأخذ منه شيئا إلا قرضا (1).

(الثالث عشر) : ما في الفقه الرضوي ، حيث قال عليه‌السلام : اعلم انه جائز للوالد أن يأخذ من مال ولده بغير اذنه ، وليس للولد ان يأخذ من مال والده إلا بإذنه (2).

* * *

أقول : ظاهر كلام الأصحاب ـ في غير مسألتي الحج ووطئ الجارية ـ : الاتفاق على انه لا يجوز للوالد الأخذ من مال ولده شيئا متى أنفق عليه وقام بما يحتاج اليه الا بإذنه.

قال في المنتهى : ولا يجوز للوالد أن يأخذ من مال ولده البالغ مع الغناء عنه ، ولا مع إنفاق الولد عليه. بالاتفاق ، لأن الأصل عصمة مال الغير. انتهى.

ويدل على ذلك ، من هذه الاخبار المذكورة : الخبر الثاني. لا سيما برواية الحميري.

والمراد بما يضطر اليه فيه : هو القوت الواجب على الولد ، كما فسره الخبر السادس.

ويدل على ذلك ـ ايضا ـ : الخبر الثالث والسادس والتاسع.

وما دلت عليه هذه الاخبار ، المعتضدة باتفاق كلمة الأصحاب ، هو الموافق للقواعد الشرعية ، من الآيات القرآنية ، والسنة النبوية ، الدالة على تحريم التصرف في مال الغير إلا بإذن صاحبه.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 198 حديث : 10.

(2) مستدرك الوسائل ج 2 ص 454 باب : 62 من أبواب ما يكتسب به حديث : 3.


ولهذا ان الأصحاب أجمعوا على طرح ظاهر هذه الاخبار المخالفة لذلك ، وتأولوها بالحمل على كون أخذ الوالد للنفقة.

الا أن الاخبار المذكورة تنبو عن ذلك ، إذ لا فرق حينئذ بين الولد والوالد ، مع ان الروايات المذكورة دلت على الفرق ، وانه انما يباح الأخذ للوالد خاصة دون الولد.

وكذلك الفرق في الاخبار المذكورة بين الام والأب حيث منعت الام من الأخذ مع انها واجبة النفقة أيضا كالأب.

وبالجملة فإن الحمل المذكور ، وان أمكن إجراؤه في بعض ، الا انه لا يتم في الجميع ، كما عرفت.

وأجاب بعض الأصحاب ، بان ما تضمن جواز أخذ الأب من مال الولد ، محمول اما على قدر النفقة الواجبة عليه مع الحاجة ، أو على الأخذ على وجه القرض ، أو على الاستحباب بالنسبة إلى الولد. وما تضمن منع الولد ، محمول على عدم الحاجة ، أو على الأخذ لغير النفقة الواجبة ، وكذا ما تضمن منع الام ، لجواز وجود الزوج لها فتجب نفقتها عليه لا على الولد.

وأنت خبير بما في ذلك كله من البعد ، الا انه لا مندوحة عن المصير اليه لعدم إمكان الوقوف على ظواهر هذه الاخبار.

والأظهر عندي هو : حمل هذه الاخبار ـ وان تعددت ـ على التقية ، لاتفاق الأصحاب على ترك العمل بها ، مضافا الى خروجها عن مقتضى القواعد الشرعية. وبعد التأويلات التي ذكروها ، مع إمكان إرجاع بعضها الى ما يوافق القول المشهور.

ويشير الى ما ذكرناه من الحمل المذكور : الخبر الثالث ، حيث انه عليه‌السلام بعد ان نقل الخبر النبوي الدال على الحكم المذكور ، أضرب عنه تنبيها واشارة الى عدم صحته. والا فكيف ينقله وهو صحيح عنده ، ثم يخالفه ويسمي ذلك فسادا ،


وان الله لا يحب الفساد.

وقد اشتمل خبر الحسين بن علوان ـ وهو الخبر الثامن ورجاله من العامة والزيدية ـ على المبالغة التامة في معنى هذا الخبر ، وأكثر أخبار الجواز انما تدور على هذا الخبر ، مع انك عرفت من الخبر السادس تأويل الخبر المذكور بما يدفع الاستناد اليه.

واما الكلام في وطئ جارية الابن ، فقد عرفت من كلام الشيخ في الاستبصار ، التخصيص بالصغير ، مع تقويم الجارية على نفسه وان أطلق ذلك في النهاية.

وأنت خبير بان ظاهر الخبر الخامس : جواز وقوعه على جارية ابنه الكبير ، فان قوله عليه‌السلام فيه : «ان لم يكن الابن وقع عليها» لا يجري في الصغير. والخبر التاسع ، ظاهر في جواز وطئه لجارية ولده.

واما الخبر العاشر فهو مطلق شامل بإطلاقه للولد الصغير والكبير ، وعجزه ظاهر في الابن الكبير.

وكذلك الخبر الثاني عشر مطلق. ومن ذلك يعلم مستند كلام الشيخ في النهاية ، ويظهر ان اعتراض ابن إدريس فيما تقدم من كلامه على النهاية ليس في محله.

الا انه يمكن ان يقال : ان هذه الاخبار ، الظاهرة في جواز وطئ الأب جارية ابنه الكبير بغير إذنه ، مخالفة لمقتضى القواعد الشرعية ، وحينئذ يكون سبيلها سبيل الروايات المتقدمة ، من وجوب الحمل والتأويل فيها بما قدمناه.

واما الابن الصغير فالأمر فيه أهون ، لأن ولاية التصرفات في ماله للأب ، والروايات قد دلت على تصرف الأب في جاريته على الوجه المذكور فيها ، وليس فيها من الخروج عن القواعد ما في رواية جارية الابن الكبير.


واما مسألة الحج ، فقد تقدم الكلام فيها في كتاب الحج ، وبينا : ان سبيل الرواية الواردة به ، سبيل الروايات الدالة على الأخذ من مال الابن مطلقا ، ولا معنى لمنع القول بتلك الروايات ، مع القول بهذه ، كما صار اليه الشيخ ومن تبعه والله العالم.

تتمة

اتفق الأصحاب على ان المرأة لا يجوز لها ان تتصدق بشي‌ء من مال زوجها. إلا المأدوم.

قال في المنتهى : لا يجوز للمرأة أن تأخذ من مال زوجها شيئا قل أو كثر ، إلا المأموم إجماعا ، فإنه يجوز لها ان تأخذ منه الشي‌ء اليسير وتتصدق به ، ما لم يؤد الى الضرر بالزوج ، أو لم يمنعها بصريح القول ، انتهى.

ويدل على ذلك : ما رواه في الكافي والتهذيب ، في الموثق ، عن ابن بكير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ما يحل للمرأة ان تتصدق به من مال زوجها بغير اذنه؟

قال : المأدوم (1).

واما ما رواه في التهذيب عن على بن جعفر عليه‌السلام انه سأل أخاه موسى عليه‌السلام عن المرأة ، لها ان تعطى من بيت زوجها بغير اذنه؟ قال : لا ، الا ان يحللها (2). فيجب حمله على الخبر الأول ، حمل المطلق على المقيد ، كما هو القاعدة المشهورة نصا وفتوى.

ومثل هذا الخبر الأخير : ما رواه في الفقيه في حديث وصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلى عليه‌السلام

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 201 حديث : 2.

(2) الوسائل ج 12 ص 200 حديث : باب : 82.


عن حماد بن عمرو ، وانس بن محمد ، عن أبيه جميعا ، عن جعفر بن محمد ، عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قال : يا على ، ليس على النساء جمعة ـ الى ان قال ـ ولا تعطى من بيت زوجها شيئا بغير اذنه (1).

ويحتمل العمل بظاهر هذين الخبرين ، وحمل الأول على حصول الرضا وان لم يصرح بالاذن.

والى ذلك يميل كلام صاحب الوسائل ، الا ان شهرة الحكم بين الأصحاب ، بل الاتفاق عليه كما عرفت ، يوجب المصير إلى التأويل الأول.

قال في الدروس : والمأدوم : ما يؤتدم به كالملح واللحم. وفي التعدية إلى الخبز والفواكه نظر ، انتهى.

ولا يجوز للرجل ـ ايضا ـ ان يأخذ من مال زوجته إلا بإذنها ، للأصل الدال على عصمة مال الغير ، فأما إذا إباحته أو وهبته ، اقتصر على ما تعلق به ذلك.

وروى الكليني والشيخ ، في الموثق ، عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، امرأة دفعت الى زوجها مالا من مالها ليعمل به ، وقالت له ـ حين دفعت إليه ـ : أنفق منه ، فان حدث بك حدث فما أنفقت منه لك حلال طيب ، وان حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب. فقال : أعد على يا سعيد المسألة ، فلما ذهبت أعيد عليه المسألة ، اعترض فيها صاحبها وكان معى حاضرا فأعاد عليه مثل ذلك ، فلما فرغ ، أشار بإصبعه الى صاحب المسألة ، وقال : يا هذا ، ان كنت تعلم انها قد أفضت (2) بذلك إليك فيما بينك وبينها وبين الله فحلال طيب ـ ثلاث مرات ـ ثم قال : يقول الله جل اسمه في كتابه «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» (3).

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 201 حديث : 3.

(2) وفي التهذيب بدل «أفضت» : «ارضت».

(3) الوسائل ج 12 ص 199 حديث : 1.


وروى في التهذيب في الموثق ، عن سماعة قال : سألته عن قول الله عزوجل «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» قال : يعنى بذلك أموالهن التي في أيديهن مما يملكن (1).

وعن هشام وغيره في الصحيح ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل تدفع إليه امرأته المال فتقول : اعمل به واصنع به ما شئت. إله ان يشترى الجارية يطأها؟ قال : لا ، ليس له ذلك (2).

وعن الحسين بن المنذر قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : دفعت الى امرأتي مالا اعمل به ، فاشترى من مالها الجارية أطأها؟ قال : فقال : أرادت أن تقر عينك وتسخن عينها (3)؟! ورواه في الفقيه عن حفص بن البختري عن الحسين المنذر ..

أقول : في هذين الخبرين ما يشير الى تقييد المطلق بما دلت عليه قرائن الحال ، فإن الاذن في الخبرين ، ولا سيما الأول ، وان كان مطلقا في جميع وجوه الانتفاع ، الا انه لما كان المعلوم من المرأة الغيرة وعدم الرضا بامرأة عليها ، جارية أو غيرها منعه عليه‌السلام من ذلك.

وظاهر الخبرين المذكورين : تحريم الشراء ، وقوفا على ظاهر النهي ، في الأول والتعليل في الثاني.

وظاهر كلام من وقفت عليه : الكراهة. صرح بذلك في القواعد ، والمحقق ، والشيخ على في الشرح.

فقال ـ بعد ذكر المصنف ذلك ـ : لان فيه مقابلة نفعها بإضرارها بها. ولقول الصادق عليه‌السلام وقد سأله الحسين بن المنذر. ثم ساق الرواية كما قدمناه.

وقال في الدروس : والزوج يحرم عليه تناول شي‌ء من مالها ، الا برضاها ،

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 199 ـ 200 حديث : 22490.

(2) الوسائل ج 12 ص 200 حديث : 1 باب : 81.

(3) الوسائل ج 12 ص 200 حديث : 2 باب : 81.


ولو ملكته (1) مالا كره له التسري به ، ويحتمل كراهة جعله صداقا لضرة إلا بإذنها. انتهى.

وأنت خبير بما فيه ـ اما أولا ـ فلما عرفت من دلالة الخبرين المذكورين على التحريم. و ـ اما ثانيا ـ فلاتفاقهم على تحريم تصرف الزوج في مال زوجته إلا بإذنها. ومن المعلوم المقطوع ، بالنظر الى قرائن الأحوال ، كما أشار إليه عليه‌السلام في الخبرين المذكورين ، عدم الاذن في هذا التصرف الخاص فان حاصل كلامه عليه‌السلام : ان هذا التصرف مستثنى من عموم اللفظ الدال على إباحتها له التصرف في مالها.

__________________

(1) الظاهر انه اشارة الى ما دل عليه الخبران المتقدمان. وأنت خبير بأنهما لا ظهور لهما في التمليك ، بل ظاهرهما انما هو الاذن له في الاتجار به ، المكنى عنه بالعمل به. نعم فيه الإذن بأن يتصرف فيه بالأكل والشرب واللبس ونحوها. والظاهر : انه لهذا منعوا ـ ع ـ من ان يتسرى منه. والحمل على التحريم والحال هذه ظاهر. واما مع تمليكه فالظاهر انه كذلك لما ذكرناه في الأصل. منه قدس‌سره.


المسألة الخامسة

اختلف الأصحاب في جواز التناول لمن مر بالزرع أو الشجر اتفاقا ، هل يجوز له الأكل منه أم لا؟

فالمشهور ، الجواز ، بل ادعى عليه في الخلاف الإجماع.

قال الشيخ في النهاية : إذا مر الإنسان بالثمرة ، جاز له ان يأكل منها بقدر كفايته ، ولا يحمل منها شيئا على حال.

وكذا قال على بن بابويه وابنه في المقنع. وبذلك قال ابن البراج وأبو الصلاح.

وقال ابن إدريس : إذا مر الإنسان بالثمرة جاز له ان يأكل منها قدر كفايته ، ولا يحمل منها شيئا على حال ، من غير قصد إلى الثمرة للأكل ، بل كان مجتازا في حاجة ، ثم مر بالثمار ، سواء كان أكله منها لأجل الضرورة أو غير ذلك ، على ما رواه أصحابنا ، وأجمعوا عليه. لأن الاخبار في ذلك متواترة ، والإجماع منهم منعقد. ولا يعتد بخبر شاذ ، أو خلاف من لا يعرف اسمه ونسبه ، لان الحق مع غيره.

ونقل عن الشيخ ـ في المسائل الحائرية ـ : تخصيص الجواز بالنخل.


والى المنع مال جملة من المتأخرين ، منهم العلامة في المختلف. وفي القواعد جعل المنع أحوط.

وبالمنع صرح ولده «فخر المحققين» في الشرح على ما نقله عنه بعض مشايخنا المعاصرين. وكذا المحقق الشيخ على في شرحه ، قال : والحق انه لا يجوز. تمسكا بالدلائل القاطعة على تحريم مال المسلم الا عن طيب نفسه منه ، سوى بيوت من تضمنته الآية الأكل من بيوتهم. والقائل : الشيخ ، استنادا الى بعض الاخبار التي لا تنهض معارضتها لدلائل التحريم.

ونقل في المسالك القول بالمنع عن المرتضى في المسائل الصيداوية.

واختلف كلام المحقق هنا في الشرائع ، ففي كتاب البيع ، جزم بالجواز من غير نقل خلاف. وفي كتاب الأطعمة ، تردد في الجواز.

وكذلك كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فان ظاهره في كتاب البيع الميل الى الجواز ، حيث انه نقل عن العلامة حمل اخبار الجواز على ما إذا علم بشاهد الحال الإباحة. ثم قال : وهو بعيد. ثم نقل عن الشيخ الجمع بين الاخبار بحمل اخبار المنع على الكراهة أو على النهى عن الحمل ، ثم قال : وهو جمع حسن. هذا كلامه ـ رحمه‌الله ـ هنا.

وقال في كتاب الأطعمة ـ بعد ذكر المصنف المسألة ـ : وقد اختلف الأصحاب فيه بسبب اختلاف الرواية وبالجواز قال الأكثر ، وبه روايتان مرسلتان لا تقاومان ما دل عليه الدليل عموما ، من تحريم تناول مال الغير بغير اذنه ، فالمنع لا يحتاج إلى رواية تخصه ، وما ورد فيه فهو مؤكد ، مع انه من الصحيح. انتهى. وهو كما ترى ظاهر في اختياره المنع.

استدل القائلون بالمنع بصحيحة الحسن بن يقطين الاتية ، واعتضادها بالقرآن الكريم المتضمن للنهى عن أكل مال بغير تراض ، وبقبح التصرف في مال الغير ، وباشتمالها على الحظر وهو مقدم على ما تضمن الإباحة عند التعارض ، لان دفع


الضرر اولى من جلب النفع. وحملوا الأخبار المنافية على ما تقدم في كلام المسالك نقلا عن العلامة.

واحتج المجوزون بمرسلة ابن ابى عمير ، ورواية محمد بن مروان ، وقد تقدم نقل جمع الشيخ بين الاخبار.

* * *

أقول : والواجب هنا أولا نقل ما وصل الى من الاخبار الواردة عنهم ـ عليهم‌السلام ـ ثم الكلام فيها بما يقتضيه المقام.

فمنها : ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : لا بأس بالرجل يمر على الثمرة ويأكل منها ولا يفسد ، قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان تبنى الحيطان بالمدينة لمكان المارة ، قال : وكان إذا بلغ نخلا أمر بالحيطان فخرقت (فخربت) لمكان المارة (1). ورواه احمد بن ابى عبد الله البرقي في المحاسن عن أبيه عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان مثله ..

وعن ابى الربيع عن ابى عبد الله عليه‌السلام نحوه الا انه قال : ولا يفسد ولا يحمل (2).

وروى في الفقيه مرسلا ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : من مر ببساتين فلا بأس ان يأكل من ثمارها ولا يحمل منها شيئا (3).

وما رواه في التهذيب بطرق ثلاثة ، عن ابى داود عن بعض أصحابنا عن محمد بن مروان ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أمر بالثمرة فآكل منها؟ قال : كل ولا تحمل. قلت : جعلت فداك ، ان التجار قد اشتروها ونقدوا أموالهم ، قال :

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 139 حديث : 1 باب : 17.

(2) الوسائل ج 6 ص 140 حديث : 2 باب : 17.

(3) الوسائل ج 12 ص 16 حديث : 8.


اشتروا ما ليس لهم (1) كذا في سند من الأسانيد الثلاثة المذكورة. وفي سند آخر «قلت : فإنهم اشتروها؟ قال : كل ولا تحمل».

وعن يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يمر بالبستان وقد حيط عليه أو لم يحط عليه ، هل يجوز ان يأكل من ثمرة؟ وليس يحمله على الأكل من ثمره الا الشهوة ، وله ما يغنيه من الأكل من ثمره ، وهل له ان يأكل من جوع؟ قال : لا بأس ان يأكل ولا يحمله ولا يفسده (2).

وعن ابن ابى عمير عن بعض أصحابنا ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يمر بالنخل والثمرة ، فيجوز له ان يأكل منها من غير اذن صاحبها ، من ضرورة أو غيرها؟ قال : لا بأس (3).

وما رواه في الكافي عن السكوني ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن سرق الثمار في كمه ، فما أكل منه فلا اثم عليه ، وما حمل فيغرمها ويغرم قيمته مرتين (4).

ورواه الشيخ ايضا. وما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يمر على ثمرة فيأكل منها ، قال : نعم ، قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان تستر الحيطان برفع بنائها (5).

وروى الصدق في كتابه «إكمال الدين» بسنده عن محمد بن جعفر الأسدي ، فيما ورد عليه من محمد بن عثمان العمرى ، في جواب مسائله عن صاحب الزمان عليه‌السلام وعجل الله تعالى فرجه ، قال : أما ما سألته من أمر الثمار من أموالنا يمر به

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 14 حديث : 4.

(2) الوسائل ج 13 ص 15 حديث : 5.

(3) الوسائل ج 13 ص 14 حديث : 3.

(4) الوسائل ج 13 ص 14 حديث : 1.

(5) الوسائل ج 13 ص 14 حديث : 2.


المار فيتناول منه ويأكل ، هل يحل له ذلك؟ فإنه يحل له أكله ، ويحرم عليه حمله (1) ورواه الطبرسي في الاحتجاج عن ابى الحسن محمد بن جعفر مثله ..

وروى في مستطرفات السرائر من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن على بن محمد ـ عليهما‌السلام ـ ، من مسائل داود الصرمي ، قال : سألته عن رجل دخل بستانا ، أيأكل من ثمرها من غير علم صاحب البستان؟ قال : نعم (2).

* * *

هذا ما وقفت عليه (3) من الاخبار الدالة على القول المشهور ، وهي ظاهرة الدلالة على ذلك تمام الظهور ، وقد تقدم ـ ايضا ـ من برهان المسألة الثانية ، مرسلة

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 16 حديث : 9.

(2) الوسائل ج 12 ص 16 حديث : 11.

(3) أقول : والعلامة في المنتهى لم ينقل في هذا المقام إلا رواية محمد بن مروان ومرسلة يونس الدالتين على الجواز ، ثم نقل مرسلة مروك بن عبيد ، وقال. والحديثان الأولان يدلان على اباحة التناول من الثمرة ، فإن عملنا بهما خصصناهما بالثمرة مع عدم العلم بكراهة المالك ، على الأقوى. اما لو علم من صاحبه الكراهة فالوجه عندنا : التحريم. اما الزرع فالأظهر عندي تحريم التناول ، عملا بالرواية وبالأصل الدال على التحريم السالم من المعارض. انتهى ، وكلامه ـ كما ترى ـ يدل على الفرق بين الثمرة والزرع ، ولم أقف على قائل به سواه ، مع ان صحيحة ابن ابى عمير المرسلة قد دلت على الجواز في الزرع ، ولكنه لم يطلع عليها ، فما ذكره من الفرق غير جيد ، الا ان الأظهر هو ما أشرنا إليه في الأصل ، من ان إدخال السنبل في المسألة ليس مما ينبغي ، لعدم الأكل منها على تلك الحال.

 

منه قدس‌سره.

 


يونس الدالة على ما كان يفعله الصادق عليه‌السلام في ضيعته «عين زياد» (1).

واما ما يدل من الاخبار على القول الأخر ، فمنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن على بن يقطين ، قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يمر بالثمرة من الزرع والنخل والكرم والشجر والمباطخ وغير ذلك من الثمر ، أيحل له ان يتناول منه شيئا ، ويأكل بغير اذن صاحبه؟ وكيف حاله ان نهاه صاحب الثمرة ، أو أمره القيم فليس له ، وكم الحد الذي يسعه ان يتناول منه؟ قال : لا يحل له ان يأخذ منه شيئا (2).

وعن مروك بن عبيد عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يمر على قراح الزرع ويأخذ منه السنبلة. قال : لا. قلت : أى شي‌ء السنبلة!. قال : لو كان كل من يمر به يأخذ منه سنبلة كان لا يبقى شي‌ء (3).

أقول : الظاهر ان هذا الخبر لا يدخل في سياق هذه الاخبار ، فلا معنى لإجرائه في هذا المضمار. فان موضوع المسألة هو الأكل من الثمار في مكانه من غير ان يحمله. ومن الظاهر ان السنبلة ليست من المأكول على تلك الحال. وان الظاهر انما هو ارادة حمله معه ، لا إرادة أكله. والمنع في هذه الصورة مما لا خلاف فيه.

وعن محمد الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البستان ان يكون عليه المملوك أو أجير ليس له من البستان شي‌ء. فيتناول الرجل من بستانه؟ فقال : ان كان بهذه المنزلة لا يملك من البستان شيئا ، فما أحب ان يأخذ منه شيئا. وروى في قرب الاسناد عن مسعدة بن زياد ، عن جعفر بن محمد عليه‌السلام انه سئل عما يأكل الناس من الفاكهة والرطب مما هو حلال لهم ، فقال : لا يأكل أحد الا من ضرورة ، ولا

__________________

(1) الوسائل ج 6 ص 140 حديث : 2 باب : 18.

(2) الوسائل ج 13 ص 15 حديث : 7.

(3) الوسائل ج 13 ص 15 حديث : 6.


يفسد ، إذا كان عليها فناء محاط ، ومن أجل الضرورة نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يبنى على حدائق النخل والثمار بناء لكي لا يأكل منها أحد (1).

* * *

وأنت خبير بأن هذه الاخبار تقصر عن معارضة الأخبار المتقدمة ، الا انه مع عدم القول بها فلا بد لها من محمل تحمل عليه.

وقد تقدم حمل الشيخ لها على الكراهة ، أو الحمل. وقد تقدم ايضا حمل العلامة للأخبار الدالة على الجواز على ما إذا علم ذلك بشاهد الحال. وهو غير بعيد ، بقرينة روايات هدم الحيطان.

وجمع في الوافي بين الاخبار بأنه يمكن تخصيص الجواز بالبلاد التي تعرف من أرباب بساتينها وزروعها عدم المضايقة في مثله لوفورها عندهم. وهو وان كان لا يخلو عن بعد ، الا انه في مقام الجمع غير بعيد.

وربما أشعر ظاهر رواية قرب الاسناد بالجمع بين الاخبار بالضرورة وعدمها حيث انها أشعرت بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله انما نهى عن الحيطان من أجلها ، الا انه يدفعه ما تقدم من الاخبار الدالة على الجواز من غير ضرورة.

وبالجملة ، فإن القول المشهور ، وان كان لا يخلو من قوة ، لكثرة الأخبار الدالة عليه ، الا ان المسألة غير خالية عن شوب الاشكال ، لعدم المحمل الظاهر لاخبار المنع.

ولا يحضرني الان مذهب العامة في هذه المسألة لعرض هذه الاخبار عليه فيؤخذ منها بما يخالفه ويصار اليه.

* * *

وكيف كان ، فان الظاهر من النصوص وكلام الأصحاب في المقام انه يشترط في الجواز شروط ثلاثة :

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 16 حديث : 10.


(أحدها) : ان يمر بالثمر ، بمعنى ان يكون المرور اتفاقيا. وعلى هذا فلو قصدها ابتداء لم يجز له الأكل ، اقتصارا في الرخصة المخالفة للأصل على موضع اليقين. وهو اتفاق النص والفتوى.

والمراد بالمرور هنا : ان يكون الطريق قريبة منها ، بحيث يصدق ـ عرفا ـ انه مر بها ، لا ان يكون الطريق على نفس الشجرة أو ملاصقة للبستان.

و (ثانيها) : ان لا يفسد. والظاهر ان المراد بالإفساد : هدم حائط ، أو كسر غصن ، أو نحو ذلك.

وزاد بعض الأصحاب : ان لا يأكل منها شيئا كثيرا ، بحيث يورث فيها أثرا بينا يصدق معه الإفساد عرفا. قال : ويختلف ذلك باختلاف كثرة الثمرة وقلتها ، وكثرة المارة وقلتهم. وهو غير بعيد ايضا. وان كان المتبادر الأول.

و (ثالثها) : ان لا يحمل منها شيئا ، بل يأكل في موضعه. وقد دل خبر السكوني المتقدم على انه يغرم ما حمله ، أو يغرم قيمته. والظاهر ان المراد بقوله «مرتين» ان الغرم يتعدد.

وزاد بعض الأصحاب (رابعا) وهو : عدم علم الكراهة.

و (خامسا) هو : عدم ظنها. واستحسنه في المسالك.

ويدفعه : قوله ـ في رواية محمد بن مروان : «قد اشتروا ما ليس لهم» فإنه يشعر بأن هذا حق للمارة ليس لهم المنع منه.

و (سادسا) هو : كون الثمرة على الشجرة.

أقول : ولا بأس به ، فإنه هو الظاهر من الاخبار.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *