ج4 - أحكام التيمم
المطلب الخامس
وفيه مسائل:
(الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) من غير خلاف يعرف ان التيمم مبيح لما تبيحه الطهارة المائية مطلقا من
الصلاة والطواف ومس كتابة القرآن ونحو ذلك مما الطهارة شرط في حصوله أو كماله ،
ويدل عليه عموم الاخبار من قوله (صلىاللهعليهوآله) لأبي ذر (1) «يكفيك الصعيد
عشر سنين». وقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة
حماد (2) «هو بمنزلة
الماء». وفي صحيحة جميل (3) «فان الله جعل
التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي صحيحة محمد بن مسلم وغيرها (4) «ان رب الماء
هو رب الصعيد». كما في بعض «أو رب الأرض» كما في آخر (5) وقوله (عليهالسلام) في كتاب
الفقه (6) «ان التيمم غسل
المضطر ووضوؤه وهو نصف الوضوء في غير ضرورة إذا لم يوجد الماء». ونحو ذلك مما يدل
على قيامه مقام الماء في كل موضع تعذر استعماله.
__________________
(1 و 2 و 3) المروي في الوسائل في الباب 23 من أبواب التيمم.
(4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 3 و 14 من أبواب التيمم.
(6) ص 4.
وقد وقع الخلاف هنا في موضعين (الأول) ـ ما نقل عن فخر
المحققين ابن العلامة (طاب ثراهما) من انه منع من استباحة اللبث بالتيمم في
المساجد لقوله تعالى : «إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا» (1) حيث جعل نهاية التحريم الغسل فلا
يستباح بغيره وإلا لم تكن الغاية غاية ، والحق به مس كتابة القرآن لعدم فرق الأمة
بينهما ، ويلزم على كلامه تحريم الطواف على الجنب لاستلزامه دخول المسجد وان لم
يقل به. وأجاب في المدارك عن الآية ـ بعد الاستدلال على أصل المسألة ببعض الأخبار
التي قدمناها ـ بالمنع من دلالتها على ما ذكره ، قال : لأن إرادة المساجد من
الصلاة مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة ، مع احتمالها لغير ذلك المعنى احتمالا
ظاهرا وهو ان يكون متعلق النهي الصلاة في أحوال الجنابة إلا في حال السفر لجواز
تأديتها حينئذ بالتيمم ، وأيضا فإن ذلك لا ينافي حصول الإباحة بدليل من خارج وهو
ثابت كما بيناه. انتهى. أقول : لا يخفى انه قد ذكر المفسرون لهذه الآية معنيين (أحدهما)
ـ ان المراد لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا ان تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها
بالتيمم ، وعلى هذا المعنى بناء كلام المدارك ومرجعه إلى النهي عن الصلاة حال
الجنابة ، وحينئذ فتكون الصلاة هنا مرادا بها معناها الشرعي والمراد بقوله سبحانه «عابِرِي سَبِيلٍ» يعني مسافرين
كما ذكره. و (ثانيهما) ـ ان المراد لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب
حتى تغتسلوا إلا بقصد المرور فيها والعبور ، وعلى هذا المعنى بناء الاستدلال
بالآية ، وهذا المعنى هو الذي دلت عليه الأخبار المتضمنة لتفسير الآية ، فروى
الصدوق في العلل في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن مولانا الباقر (عليهالسلام) (2) قالا : «قلنا
له الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلا
مجتازين ان الله تبارك وتعالى يقول (وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ... الحديث».
__________________
(1) سورة المائدة. الآية 42.
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
ونحوه روى العياشي في تفسيره عنه (عليهالسلام) (1) وعلي بن
إبراهيم في تفسيره عن الصادق (عليهالسلام) (2) ونقله في مجمع
البيان عن الباقر (عليهالسلام) (3) وهو الذي رجحه
واختاره في تفسيره ايضا بعد ذكره المعنى الأول ، قال (قدسسره) : «وهذا
القول الأخير أقوى لأنه سبحانه بين حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء فلو
حملناه على ذلك لكان تكرارا ، وانما أراد سبحانه ان يبين حكم الجنب في دخول
المساجد في أول الآية وبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية» انتهى.
أقول : واستعمال الصلاة هنا في مواضعها جرى على طريق الاستخدام كما ذكره بعض
البارعين في علم البلاغة من علمائنا الأعلام في كتاب ألفه في الصناعات البديعية
عند ذكر الاستخدام بعد ان عرفه بأنه عبارة عن أن يأتي المتكلم بلفظة مشتركة بين
معنيين مقرونة بقرينتين يستخدم كل قرينة منهما معنى من معاني تلك اللفظة ، قال :
وفي الآية الكريمة استخدام لفظ الصلاة لمعنيين : أحدهما إقامة الصلاة بقرينة قوله عزوجل «حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ» والآخر مواضع
الصلاة بقرينة قوله عزوجل : «وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ» انتهى. وهذا
هو الحق الموافق لما ذكرناه من الأخبار ، وبذلك يتبين لك ما في كلام المدارك من
النظر الظاهر لبنائه على ما في تفاسير العامة وغفلته عن اخبار أهل البيت (عليهمالسلام) التي هي
المرجع في مفاد معاني القرآن وصحة استدلال فخر المحققين (طاب ثراه) بالآية ،
وحينئذ فالجواب عما ذكره القائل المشار إليه انه وان كان معنى الآية ما ذكره إلا
انها مخصوصة بالأخبار المتقدمة ، واليه يشير آخر كلام السيد في المدارك بقوله «وأيضا
فإن ذلك لا ينافي. إلخ».
(الثاني) ـ ما ذكره السيد في المدارك حيث أورد على ما
ذكره الأصحاب ـ مما ظاهرهم الاتفاق عليه من ان التيمم يبيح كل ما تبيحه الطهارة
المائية وبعبارة اخرى ان التيمم يجب لما تجب له الطهارتان ـ بان ذلك مشكل لانتفاء
الدليل عليه ، قال : والأظهر
__________________
(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 7 من أبواب الجنابة.
(2) ص 127.
(3) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
ان التيمم يبيح كل ما تبيحه الطهارة
المائية لقوله (عليهالسلام) في صحيحة
جميل (1) «ان الله تعالى
جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي صحيحة حماد (2) «هو بمنزلة
الماء». وفي صحيحة محمد بن مسلم (3) «قد فعل أحد
الطهورين». فما ثبت توقفه على مطلق الطهارة من العبادات يجب له التيمم وما ثبت
توقفه على نوع خاص منها كالغسل في صوم الجنب فالأظهر عدم وجوب التيمم له مع تعذره
إذ لا ملازمة بينهما فتأمل. انتهى.
أقول : وتوضيح كلامه ان غاية ما يستفاد من الأخبار ان
التيمم مبيح لما تبيحه الطهارة المائية بمعنى انما ورد في الشرع انه لا يباح بدون
الطهارة أو لا يفعله بدون الطهارة أو انه مشروط بها كالصلاة مثلا ومس كتابة القرآن
واللبث في المساجد من حيث تحريمها على المحدث وانها لا تباح إلا بالطهارة فالتيمم
مبيح لها لكونه طهارة كما دلت عليه الأخبار التي ذكرها ، واما ما ورد في الشرع
بأنه لا يباح إلا بالوضوء مثلا أو الغسل مثلا أو مشروط بأحدهما أو نحو ذلك من
العبارات فاباحة التيمم له غير ثابتة إلا إذا دل دليل خاص من خبر أو إجماع أو
نحوهما كالغسل من الجنابة للصوم مثلا لتوقف صحة الصوم عليه على المشهور وكذا غسل
الحيض والنفاس والاستحاضة بناء على القول بوجوبها للصوم ، فقيام التيمم في ذلك
مقام الغسل يحتاج الى دليل.
أقول : والى ذلك ايضا يشير كلام الشهيد في الألفية حيث
نسب التيمم بدلا من الغسل للصوم إلى الأولى ، قال الشهيد الثاني في الشرح : ووجه
عدم الوجوب أصالة عدمه إذ لا دليل عليه ظاهر فإن الآية في سياق الصلاة ولا نزاع في
وجوب التيمم بدلا من الغسل لها. انتهى ، والظاهر هو القول المشهور لعموم الأخبار
التي قدمناها في صدر المسألة فإنها مكشوفة الدلالة واضحة المقالة في قيامه مقام
الماء في كل موضع مشروط به سواء كان بلفظ الطهارة أو بلفظ الوضوء أو الغسل. والله
العالم.
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب التيمم.
(المسألة الثانية) ـ المشهور في كلام الأصحاب بل ادعي
عليه الإجماع ان من تيمم تيمما صحيحا وصلى به فإنه لا يجب عليه الإعادة لو وجد
الماء بعد خروج الوقت قال في المعتبر : كل موضع حكمنا فيه بصحة التيمم والصلاة لا
نوجب قضاءها مع وجود الماء ، قال الشيخ وهو مذهب جميع الفقهاء إلا طاوس (1). وقال في
المنتهى : قال علماؤنا إذا تيمم وصلى ثم خرج الوقت لم يجب عليه الإعادة وعليه
إجماع أهل العلم ، ثم نقل الخلاف عن طاوس خاصة بأنه يعيد ما صلى بالتيمم لان
التيمم بدل فإذا وجد الأصل نقض حكم البدل.
أقول : ويدل على ما ذكروه (رضوان الله عليهم) جملة من
الأخبار ، ومنها ـ صحيحة عبيد الله بن علي الحلبي (2) «انه سأل
الصادق (عليهالسلام) عن الرجل إذا
أجنب ولم يجد الماء؟ قال يتيمم بالصعيد فإذا وجد الماء فليغتسل ولا يعيد الصلاة». وحسنة
زرارة عن أحدهما (عليهماالسلام) (3) قال قال : «إذا
لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا خاف ان يفوته الوقت فليتيمم
وليصل في آخر الوقت فإذا وجد الماء فلا قضاء عليه وليتوضأ لما يستقبل». وحسنة
الحلبي (4) قال : «سمعت
أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول إذا لم
يجد الرجل طهورا وكان جنبا فليمسح من الأرض ويصل فإذا وجد ماء فليغتسل وقد أجزأته
صلاته التي صلى». ومثلها صحيحة عبد الله بن سنان (5) وصحيحة العيص (6) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يأتي الماء وهو جنب وقد صلى؟ قال يغتسل ولا يعيد الصلاة». وصحيحة محمد بن مسلم (7) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أجنب
فتيمم بالصعيد
__________________
(1) حكاه في المغني ج 1 ص 243 عن عطاء وطاوس والقاسم بن محمد
ومكحول وابن سيرين والزهري وربيعة.
(2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7) المروية في الوسائل في الباب 14 من
أبواب التيمم.
وصلى ثم وجد الماء؟ قال لا يعيد ان رب
الماء رب الصعيد فقد فعل أحد الطهورين». وصحيحة زرارة (1) قال : «قلت
لأبي جعفر (عليهالسلام) فإن أصاب
الماء وقد صلى بتيمم وهو في وقت؟ قال تمت صلاته ولا اعادة عليه». وموثقة علي بن
أسباط عن عمه عن الصادق (عليهالسلام) (2) «في رجل تيمم
وصلى ثم أصاب الماء وهو في وقت؟ قال قد مضت صلاته وليتطهر».
إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد وقع الخلاف هنا في مواضع : (الأول)
ـ انه على تقدير المشهور من جواز التيمم مع السعة فلو تيمم وصلى فإنه لا يعيد ،
وهو المشهور وعليه دلت الأخبار المتقدمة ، وعن ابن ابي عقيل وابن الجنيد القول هنا
بوجوب الإعادة وربما كان مستندهما صحيحة يعقوب بن يقطين (3) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجل تيمم
وصلى فأصاب بعد صلاته ماء أيتوضأ ويعيد الصلاة أم تجوز صلاته؟ قال إذا وجد الماء
قبل ان يمضي الوقت توضأ وأعاد فان مضى الوقت فلا اعادة عليه». وموثقة منصور بن حازم
عن الصادق (عليهالسلام) (4) : «في رجل
تيمم وصلى ثم أصاب الماء؟ قال اما انا فكنت فاعلا إني كنت أتوضأ وأعيد».
(الثاني) ما نقل عن المرتضى (رضياللهعنه) في شرح
الرسالة ان الحاضر إذا تيمم لفقد الماء وجب عليه الإعادة إذا وجده ، ولم نقف له
على دليل وبذلك اعترف أيضا جملة من الأصحاب ، ولعله استند الى الخبرين المذكورين ،
وهو بعيد.
(الثالث) ـ ما ذهب اليه الشيخ (قدسسره) من ان من
تعمد الجنابة وخشي على نفسه من استعمال الماء تيمم وصلى ثم يعيد إذا وجد الماء ،
واحتج على ذلك بما رواه عن جعفر بن بشير عمن رواه عن الصادق (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
عن رجل أصابته جنابة في ليلة باردة يخاف على نفسه التلف ان اغتسل؟ قال يتيمم فإذا
أمن البرد اغتسل وأعاد الصلاة».
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 14 من أبواب
التيمم.
(الرابع) ـ ما ذهب اليه الشيخ في النهاية والمبسوط من ان
من منعه الزحام في الجمعة عن الخروج فإنه يتيمم ويصلي ثم يعيد لما رواه السكوني عن
جعفر عن أبيه عن علي (عليهمالسلام) (1) «انه سئل عن
رجل يكون في وسط الزحام يوم الجمعة أو يوم عرفة لا يستطيع الخروج من المسجد من
كثرة الناس؟ قال يتيمم ويصلي معهم ويعيد إذا انصرف». ومثلها موثقة سماعة ، وقد
قدمنا ذكر هذه المسألة (2).
(الخامس) ـ إذا لم يكن معه إلا ثوب واحد نجس ولم يتمكن
من نزعه قال الشيخ انه يصلي فيه فإذا تمكن من الماء نزعه وغسله وأعاد الصلاة
استنادا الى ما رواه في الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) (3) «انه سئل عن
رجل ليس عليه إلا ثوب ولا تحل الصلاة فيه وليس يجد ماء يغسله كيف يصنع؟ قال يتيمم
ويصلي فإذا أصاب ماء غسله وأعاد الصلاة».
(السادس) ـ ما ذهب اليه ابن الجنيد من ان من فقد الماء
ولم يجده إلا بثمن غال فإنه يتيمم ويعيد ، ولم نقف له على دليل.
(السابع) ـ ما تقدم من ان من أخل بالطلب حتى ضاق الوقت
فتيمم وصلى ثم وجد الماء في محل الطلب فالمشهور انه يجب عليه الإعادة استنادا إلى رواية
أبي بصير (4) قال : «سألته
عن رجل كان في سفر وكان معه ماء فنسيه فتيمم وصلى ثم ذكر ان معه ماء قبل ان يخرج
الوقت؟ قال عليه ان يتوضأ ويعيد الصلاة». وقد تقدم البحث في هذه المسألة (5) وجمهور
الأصحاب (رضوان الله عليهم) قد حملوا الأمر بالإعادة فيما عدا الصورة الأخيرة على
الاستحباب ، لمعارضتها بما تقدم من الاخبار ، ولأن الأمر بالأداء والقضاء معا خارج
عن مقتضى الأصول المقررة فإنه متى كان مأمورا بالتيمم والصلاة
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب التيمم.
(2) ص 268.
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب التيمم.
(4) المروية في الوسائل في الباب 14 من أبواب التيمم.
(5) ص 256.
فلا ريب ان قضية الأمر الاجزاء فلا
يتعقبه القضاء وإلا فلا وجه للتيمم والصلاة أداء قال في المعتبر في الموضع الثالث
: والوجه عندي انه لا إعادة لأن التيمم عند الخوف على النفس اما ان يكون مبيحا
للصلاة أم لا يكون ، فان كان مبيحا سقط القضاء لانه اتى بصلاة مستكملة للشرائط ،
وان لم يكن مبيحا لم يجب الأداء ، فالقول بوجوب الأداء مع وجوب القضاء مما لا
يجتمعان لكن الأداء كان واجبا فالقضاء غير واجب. انتهى. وبالجملة فإن الوجه هو
العمل على الأخبار المتقدمة. بقي الكلام في حمل هذه الأخبار على الاستحباب كما هي
القاعدة المطردة في كلام الأصحاب في جميع الأبواب ، فإن فيه ما عرفت مما قدمناه في
غير موضع ، وهو وان أمكن في بعض لما يلوح من القرائن على ذلك إلا انه يمكن حمل ما
عداه على التقية التي هي في اختلاف الأحكام أصل كل بلية وإلا فارجاعها إلى قائلها
لضعفها عن النهوض بمعارضة ما قابلها. والله العالم.
(المسألة الثالثة) ـ لو وجد المتيمم الماء وتمكن من
استعماله فله صور :
(الاولى) ـ ان يجده قبل دخوله في الصلاة ، والظاهر انه
لا خلاف في انتقاض تيممه ووجوب استعمال الماء حتى انه لو فقده بعد التمكن من ذلك
أعاد التيمم ، قال في المعتبر : وهو إجماع أهل العلم. قال في المدارك : «وإطلاق
كلامهم يقتضي انه لا فرق في ذلك بين ان يبقى من الوقت مقدار ما يسع الطهارة
والصلاة وعدمه ، وهو مؤيد لما ذكرناه فيما سبق من ان من أخل باستعمال الماء حتى
ضاق الوقت يجب عليه الطهارة المائية والقضاء لا التيمم والأداء» انتهى. أقول : فيه
ان الظاهر انه لا ريب في ان المتبادر من كلامهم وكذا من اخبار المسألة ان التقسيم
إلى الأقسام المذكورة في هذه المسألة انما هو في الوقت خاصة والبحث ومحل الخلاف
انما هو في وجوب المضي في الصلاة بعد وجود الماء مطلقا أو الرجوع ما لم يركع ،
واما كون ذلك يؤدي الى فوات الوقت أم لا وانه هل يشترط مضي زمان يسع الطهارة أم لا؟
فهاتان مسألتان على حدة وكل من قال بقول في تينك المسألتين فرع عليه ما اندرج تحته
من هذه المسألة أو غيرها ، ولا يخفى ان من قال في
تلك المسألة التي أشار إليها بأنه مع
ضيق الوقت عن استعمال الماء يتيمم ويصلي أداء لا يوافق هنا على التمكن من استعمال
الماء ، لان استعماله على وجه يؤدي الى فوات الوقت والصلاة قضاء غير جائز عنده
فوجود الماء في هذه الصورة عنده في حكم العدم كما تقدم تحقيقه.
(الثانية) ـ ان يجده بعد الفراغ من الصلاة ، والمشهور
انه لا اعادة عليه ولكن ينتقض تيممه ، قال في المعتبر : وهو موضع وفاق ايضا. وقد
تقدم في سابق هذه المسألة ما في ذلك من الخلاف لذهاب ابن ابي عقيل وابن الجنيد الى
وجوب الإعادة.
(الثالثة) ـ ان يجده بعد الدخول في الصلاة ، وقد اختلف
في هذه الصورة كلام الأصحاب ، فقال الشيخ (قدسسره) في النهاية
انه يرجع ما لم يركع ، وهو اختيار ابن ابي عقيل وابي جعفر بن بابويه والمرتضى في
شرح الرسالة ، وللشيخ قول آخر في المبسوط والخلاف وهو انه متى كبر للافتتاح لم يجز
له الرجوع ومضى في صلاته بتيممه وهو اختيار المفيد والمرتضى في مسائل الخلاف وقواه
ابن البراج واختاره ابن إدريس والمحقق في المعتبر والسيد في المدارك والعلامة في
جملة من كتبه والظاهر انه المشهور ، وقال سلار يرجع إلا ان يقرأ ، وقال ابن الجنيد
: ان وجد الماء بعد دخوله في الصلاة قطع ما لم يركع الركعة الثانية فإن ركعها مضى
في صلاته ، فان وجده بعد الركعة الاولى وخاف من ضيق الوقت ان يخرج ان قطع رجوت ان
يجزئه ان لا يقطع صلاته ، فاما قبله فلا بد من قطعها مع وجود الماء. انتهى. ونقل
في الذكرى عن ابن حمزة في الوسيلة قولا غريبا وهو وجوب القطع بعد الشروع مطلقا إذا
غلب على ظنه سعة الوقت بقدر الطهارة والصلاة وعدم وجوب القطع ان لم يمكنه ذلك
واستحباب القطع ما لم يركع ، فهذه خمسة أقوال في المسألة.
أقول : والأصل في الخلاف في هذه المسألة اختلاف الأخبار
فيها فها أنا أسوق ما وقفت عليه من الأخبار في المقام وأبين ما ظهر لي من ذلك
بتوفيق الملك العلام بما
ينكشف عنه نقاب الإبهام ويصير ظاهرا
لجملة الافهام.
فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) في حديث قال :
«قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ان أصاب
الماء وقد دخل في الصلاة؟ قال فلينصرف وليتوضأ ما لم يركع فان كان قد ركع فليمض في
صلاته فان التيمم أحد الطهورين». ورواه الكليني بسندين أحدهما في الصحيح والثاني
في الحسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم والصحيح عندي (2).
وما رواه الشيخ عن عبد الله بن عاصم (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل لا
يجد الماء فيتيمم ويقوم في الصلاة فجاء الغلام وقال هو ذا الماء؟ فقال ان كان لم
يركع فلينصرف وليتوضأ وان كان قد ركع فليمض في صلاته». ورواه ابن إدريس في آخر
السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب مثله (4) ورواه الكليني
مثله (5).
وما رواه الشيخ عن محمد بن حمران عن الصادق (عليهالسلام) (6) قال : «قلت له
رجل تيمم ثم دخل في الصلاة وقد كان طلب الماء فلم يقدر عليه ثم يؤتى بالماء حين
يدخل في الصلاة؟ قال يمضي في الصلاة ، واعلم انه ليس ينبغي لأحد ان يتيمم إلا في
آخر الوقت».
وما رواه أيضا في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (7) قال : «قلت في
رجل لم يصب الماء وحضرت الصلاة فتيمم وصلى ركعتين ثم أصاب الماء أينقض الركعتين أو
يقطعهما ويتوضأ ثم يصلي؟ قال لا ولكنه يمضي في صلاته فيتمها ولا ينقضها لمكان انه
دخلها وهو على طهور بتيمم. الحديث».
وعن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) (8) قال : «سألته
عن رجل صلى ركعة
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8) رواه في الوسائل في الباب 21
من أبواب التيمم.
على تيمم ثم جاء رجل ومعه قربتان من
ماء؟ قال يقطع الصلاة ويتوضأ ثم يبني على واحدة». ورواه ابن إدريس في آخر السرائر
نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب (1).
وعن الحسن الصيقل (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل تيمم ثم
قام يصلي فمر به نهر وقد صلى ركعة؟ قال فليغتسل وليستقبل الصلاة. قلت انه قد صلى
صلاته كلها؟ قال لا يعيد».
وفي الفقه الرضوي (3) «فإذا كبرت في
صلاتك تكبيرة الافتتاح وأوتيت بالماء فلا تقطع الصلاة ولا تنقض تيممك وامض في
صلاتك».
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي يدل على القول الأول من هذه
الأخبار صحيحة زرارة ورواية عبد الله بن عاصم ، والذي يدل على الثاني رواية محمد
بن حمران وعبارة كتاب الفقه ، ولعل مستند ابن الجنيد هو رواية زرارة وهي الأخيرة
إلا ان في دلالتها على ما ذكره من التفصيل اشكالا. وبالجملة فهذه روايات المسألة
التي وصلت إلينا ومنها يعلم عدم الدليل على ما عدا القولين الأولين المشهورين.
وأجاب العلامة في المنتهى عن روايتي زرارة وعبد الله بن
عاصم بالحمل على الاستحباب أو على ان المراد بالدخول في الصلاة الشروع في مقدماتها
كالأذان وبقوله : «ما لم يركع» ما لم يتلبس بالصلاة وبقوله : «وان كان قد ركع»
دخوله فيها إطلاقا لاسم الجزء على الكل. والأول من محامله وهو الحمل على الاستحباب
قد اختاره جملة ممن تأخر عنه ، واما الحمل الثاني فردوه بالبعد غاية البعد عن
الظاهر وبذلك اعترف في الذكرى والمدارك ، واما الحمل على الاستحباب فسيأتي ما فيه
ان شاء الله تعالى.
وقال المحقق في المعتبر بعد الاحتجاج برواية محمد بن
حمران على ما اختاره : فان احتج الشيخ بالروايات الدالة على الرجوع ما لم يركع
فالجواب عنها ان أصلها عبد الله بن عاصم فهي في التحقيق رواية واحدة وتعارضها
روايتنا وهي أرجح من وجوه : (أحدها) ـ ان
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب التيمم.
(3) ص 5.
محمد بن حمران أشهر في العدالة والعلم
من عبد الله بن عاصم والأعدل مقدم. (الثاني) ـ انها أخف وأيسر واليسر مراد الله
تعالى (الثالث) ـ مع العمل بروايتنا يمكن العمل بروايته أيضا بأن ننزلها على
الاستحباب ومع العمل بروايته لا يمكن العمل بروايتنا. قال السيد في المدارك بعد
نقل ذلك عنه : قلت ويؤيده أيضا مطابقته لمقتضى الأصل والعمومات الدالة على تحريم
قطع الصلاة ، وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم قال : «قلت في رجل
لم يصب الماء. الرواية كما قدمناه». ثم قال : فان التعليل يقتضي وجوب المضي في
الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام. انتهى. أقول : ظاهر كلام السيد السند (قدسسره) الموافقة
للمحقق فيما ذكره من الوجوه المذكورة المرجحة لرواية محمد بن حمران حيث قد زاده
تأييدا بالوجوه التي ذكرها.
والجميع منظور فيه من وجوه : (الأول) ـ ما ادعاه في
المعتبر من الأشهرية في العلم والعدالة لمحمد بن حمران المؤذن من حيث صيغة التفضيل
بعدالة عبد الله بن عاصم ولو في الجملة مع انا لا نعرف لذلك وجها في واحد منهما ،
اما محمد بن حمران فهو في كتب الرجال مشترك بين النهدي وهو الثقة وغيره ولا قرينة
هنا تعين كونه النهدي الثقة ولم يدع هو ايضا انه النهدي دون غيره ، وهذا مما يوجب
ضعف الحديث عند أصحاب هذا الفن بغير خلاف ، واما عبد الله بن عاصم فهو غير مذكور
في كتب الرجال بالكلية. والجواب ـ بأنه لعل المحقق استفاد توثيقهما من محل آخر وان
لم يتعرض له علماء الرجال حتى انه ربما توهم بعض الحكم بوثاقة عبد الله بن عاصم من
هذا الكلام ـ مجازفة لا ينبغي الالتفات إليها فإن المعتمد في ذلك انما هو على
علماء هذا الفن المتصدين لتحقيقه.
(الثاني) ـ ان ما رواه عبد الله بن عاصم فقد رواه زرارة
في الصحيح ولا ريب في أرجحية زرارة في العدالة والوثاقة وشهرته بذلك على محمد بن
حمران لو ثبت أنه النهدي الثقة فبطل هذا الوجه من أصله. وهذا الوجه الثاني وان
أمكن عدم وروده
على المحقق حيث انه لم يورد صحيحة
زرارة في هذا المقام ولعله لعدم الاطلاع عليها حينئذ لكن يرد على السيد الذي قد
أوردها في شرحه دليلا للقول المذكور ومع هذا جمد على كلام المحقق هنا.
(الثالث) ـ ان الأخفية والايسرية ليست من الأدلة الشرعية
التي تصلح لتأسيس الأحكام سيما في مقابلة النصوص الواردة عنهم (عليهمالسلام) وانما هي
وجوه تصلح للتأييد أو بيان وجه الحكمة بعد ورود النص بما اقتضته وإلا لانتقض ذلك
بكثير من الأحكام المشتملة على الأحكام الشاقة كصوم الهجير والحج في الأوقات
الشديدة والجهاد ونحو ذلك ، وبالجملة فالأمر فيما ذكرناه أظهر من ان يحتاج الى
مزيد بيان فبطل هذا الوجه ايضا من أصله.
(الرابع) ـ ان دعواه انه لا يكون لرواية محمد بن حمران
محمل تحمل عليه لو عملنا على رواية عبد الله بن عاصم مدفوع بإمكان الجمع بين
الأخبار بحمل مطلقها على مقيدها ، فإن رواية محمد بن حمران مطلقة في المضي وصحيحة
زرارة ورواية عبد الله بن عاصم قد خصتا المضي بالركوع فيرجع قبله ، وبهذا يحصل
الجمع بين الاخبار وهو أحد قواعدهم التي يجمعون بها بين الأخبار ، على ان التحقيق
عندي ان ظاهر خبر محمد بن حمران ـ كما صرح به في آخره ـ هو ان التيمم انما وقع في
آخر الوقت وهذه الرواية احدى روايات القول بالتضييق كما هو أحد الأقوال في المسألة
كما أوضحناه سابقا ، ولا ريب انه على هذا القول يجب المضي في الصلاة وعدم قطعها
لان المفروض على هذا التقدير انه لم يبق من الوقت إلا بقدر الصلاة فلو قطعها وتوضأ
أو اغتسل ثم صلى لزم وقوعها أو وقوع جزء منها خارج الوقت ، وحينئذ ففي الخبر المذكور
تأييد لما قدمناه في صدر المسألة من الكلام على كلام السيد المشار اليه فيما تقدم.
(الخامس) ـ ان ما ذكره السيد في وجوه تأييده من التأييد
بمطابقة الأصل فإن فيه انه يجب الخروج عنه بالدليل متى قام على خلافه كما صرح به
هو وغيره وهو هنا موجود
كما عرفت ، والرواية الدالة عليه صحيحة باصطلاحه صريحة
الدلالة لا مجال للقدح في متنها ولا سندها.
(السادس) ـ ان ما ذكره من العمومات الدالة على تحريم قطع
الصلاة لم نقف عليها في خبر من الأخبار ولا نقلها ناقل ، وهو من جملة من صرح بذلك
في كتاب الصلاة فقال انه لم يقف على رواية تدل بمنطوقها على ذلك ، ثم قال ـ بعد ان
نقل عن جده (قدسسره) تقسيم قطع
الصلاة الى الأقسام الخمسة ـ ما صورته : «ويمكن المناقشة في جواز القطع في بعض هذه
الصور لانتفاء الدليل عليه إلا انه يمكن المصير اليه لما أشرنا إليه من انتفاء
دليل التحريم» انتهى وحينئذ فكيف يستند هنا إلى الأدلة الدالة على تحريم قطع
الصلاة مع تصريحه بعدمها؟ ثم العجب كل العجب انهم يستدلون هنا بتحريم قطع الصلاة
وظاهرهم ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة ـ الإجماع على تحريم قطعها
ومع هذا يحملون صحيحة زرارة ونحوها على الاستحباب وهذا من أوضح المناقضات عند ذوي
الألباب.
(السابع) ـ قوله : «فان التعليل يقتضي وجوب المضي في
الصلاة مع الدخول فيها ولو بتكبيرة الإحرام» فإن فيه ان صحيحة زرارة أيضا قد
اشتملت على مثل هذا التعليل وهو قوله في آخرها : «فان التيمم أحد الطهورين» مع انه
(عليهالسلام) صرح في صدرها
بأنه يرجع ما لم يركع ، ومنه يعلم ان التعليل في حد ذاته وان كان ظاهره العموم إلا
انه انما وقع تعليلا للنهي بعد الركوع كما في صحيحة زرارة أو بعد الركعتين كما في
الصحيحة التي ذكرها فهو مخصوص بما وقع تعليلا له وان كان ظاهره في حد ذاته العموم
فإن رواية زرارة الأخيرة ورواية الصيقل قد دلتا على الرجوع بعد صلاة ركعة ، وبذلك
يتبين لك قوة القول الأول وان كلماتهم هنا وتعليلاتهم لا تخلو من مجازفة وضعف.
والعجب من السيد المشار اليه ـ كما لا يخفى على من مارس
كتابه وعرف طريقته فيه ـ انه مع زيادة مبالغته في التمسك بهذا الاصطلاح المحدث لا
يعمل إلا بالخبر الصحيح ويرد في مقابله الأخبار الموثقة بل الحسنة فضلا عن الضعيفة
ويخالف الأصحاب في كثير
مما ظاهرهم الاتفاق عليه تمسكا بهذا
الاصطلاح وانه لا يجمع بين الأخبار إلا مع التكافؤ في صحة السند وإلا فتراه يطرح
المرجوح ، فكيف خرج عن مقتضى قواعده في هذا المقام بعد نقله لصحيحة زرارة المذكورة
وجمد على كلام صاحب المعتبر الذي يفهم من ظاهره انه لم يقف على الصحيحة المشار
إليها؟ وإلا فالظاهر انه لو وقف عليها لم يتفوه بشيء من هذه الوجوه الضئيلة
والتعليلات العليلة. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ قد عرفت انه يجب إتمام الصلاة بعد وجود الماء
في أثنائها إما لكونه قد تجاوز محل القطع أو قلنا بالاكتفاء بمجرد الدخول فيها وان
تيممه ذلك لا ينتقض في الحال المذكورة ، وانما الكلام في انتقاضه بالنسبة الى غير
هذه الصلاة ، فالمنقول عن الشيخ في المبسوط انه ينتقض تيممه بالنسبة إلى غيرها ،
وقواه العلامة في المنتهى والتذكرة لأنه متمكن عقلا من استعمال الماء ، قال :
والمنع الشرعي لا يرفع القدرة لأنها صفة حقيقية والحكم معلق عليها. وثانيهما منقول
عن المحقق حيث قال في المعتبر بعد نقله عن الشيخ انه ينتقض تيممه بالنسبة إلى
الصلاة المستأنفة : «ولو قيل لا يبطل تيممه لكان قويا لان وجدان الماء لا يبطل
التيمم ما لم يتمكن من استعماله والاستعمال هنا ممنوع منه شرعا ضرورة وجوب المضي
في صلاته لأنا نتكلم على هذا التقدير فلا يكون الاستعمال ممكنا فلا ينتقض التيمم».
انتهى.
وأنت خبير بان حاصل تعليل القائل بالانتقاض هو صدق
التمكن من استعمال الماء عقلا ومنع الشرع من الابطال لا يخرجه عن التمكن فإنه صفة
حقيقية لا يتغير بالأمر الشرعي أو النهي ، وعدم فساده بالنسبة إلى الصلاة التي كان
فيها للإذن في إتمامها حذرا من إبطال العمل اما غيرها فلا مانع من بطلانه بالنسبة
اليه. وضعفه ظاهر فإن الاذن في إتمامها انما هو من حيث صحة التيمم وعدم انتقاضه
وبقاء الإباحة به ولا يجوز
اجتماع الفساد والصحة في طهارة واحدة
، والمنع الشرعي كاف في عدم النقض كالمرض فهو بمنزلة المنع الحسي بل أقوى ، ولان
التيمم لم ينتقض بوجود الماء فبعد فقده اولى كذا افاده شيخنا الشهيد الثاني في
الروض. وهو جيد متين ، ومنه يظهر ان ظاهره اختيار القول المذكور ، ومثله سبطه في
المدارك ، وهو المشهور بين المتأخرين وعليه العلامة في باقي كتبه ، وهو الأظهر لما
سيأتي من ان الانتقاض بوجود الماء انما يتحقق فيما إذا تمكن من استعمال الماء
بمعنى ان لا يمنع منه مانع حسي ولا شرعي ، وبالجملة فإن إيجاب الشارع إتمام الصلاة
والحال ان الماء موجود دليل ظاهر على صحة التيمم وإلا لأوجب إعادتها وبعد الفراغ
منها لم يكن ثمة ماء كما هو المفروض فأي موجب هنا للنقض؟ وقد تقدم ان موجب النقض
اما الحدث أو التمكن من استعمال الماء وشيء منهما بعد الفراغ من الصلاة غير
موجود.
(الثاني) ـ قيل انه يتفرع على مذهب الشيخ في المبسوط ـ من
انتقاض التيمم بالنسبة الى ما عدا هذه الصلاة ـ انه لا يجوز العدول عن هذه الصلاة
الى فائتة سابقة لانتقاض التيمم بالنسبة الى كل صلاة غير هذه. ورد بان العدول ان
كان واجبا فالمعدول اليه بدل مما هو فيها بجعل الشارع فلا موجب للبطلان ، وان كان
مستحبا كما في الحاضرة المعدول عنها إلى الفائتة على القول بعدم الترتيب بين
الفوائت والحواضر فهو ايضا انتقال من واجب الى واجب غايته ان الانتقال غير واجب
متعين ، وبالجملة ان قول الشيخ انما هو بالنسبة إلى الصلوات المستقبلة المحكوم
عليها بالصحة من نوع تلك الصلاة التي شرع فيها لا شخصها بعينه.
(الثالث) ـ إطلاق الصلاة في الأخبار المتقدمة يقتضي شمول
الحكم المتقدم للنافلة فلو وجد الماء بعد دخوله فيها جرى فيه الخلاف المتقدم فيها
ولم ينتقض تيممه بوجود الماء ، وبه جزم الشهيدان في البيان والمسالك ، قال في
المدارك بعد نقل ذلك عنهما : ويحتمل قويا انتقاض تيممه بوجود الماء لجواز قطع
النافلة اختيارا فينتفي المانع من استعماله عقلا
وشرعا. والمسألة عندي محل توقف.
(الرابع) ـ لو وجد الماء في أثناء صلاة يجب قضاؤها بعد
وجود الماء كالصلوات المذكورة في المسألة الثانية عند من قال بذلك فالظاهر انتقاض
التيمم وانقطاع الصلاة وبه صرح الشهيد في الدروس ، لانه يجب عليه العادة عند وجود
الماء عند القائل المذكور وان كان قد فرغ منها فمع وجوده في أثنائها اولى. قيل
ويحتمل المنع نظرا الى عموم المنع عن إبطال العمل. وهو ضعيف (أما أولا) ـ فلانا لم
نقف على هذا الدليل الذي يكررونه في كلامهم من عموم النهي عن إبطال العمل كما
سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في محل أليق. و (اما ثانيا) ـ فلان النهي عن إبطال
العمل على تقدير تسليمه انما يتبادر الى العمل الصحيح وهو غير معلوم في صورة
النزاع. والظاهر ان الوجهين آتيان فيما لو قلنا باستحباب القطع قبل الركوع. فإنه
يحتمل عدم الانتقاض لاستمرار الإباحة إلى الفراغ واستظهره في المدارك ، ويحتمل
الانتقاض كما هو قول الشيخ لانتفاء المانع من الاستعمال عقلا وشرعا.
(الخامس) ـ تفرد العلامة (قدسسره) بجواز العدول
الى النفل مع سعة الوقت جمعا بين عدم إبطال الفريضة وبين أدائها بأكمل الطهارتين
قياسا على من أراد تحصيل فضيلة الجماعة. وفيه نظر لعدم الدليل على ما ذكره من
النقل ، وجواز العدول في بعض المواضع لدليل اقتضاه لا يقتضي الجواز مطلقا بل هو
قياس محض ، على ان العدول الى النفل في معنى القطع ولو جاز العدول الى النفل لجاز
الابطال بغير واسطة وهو لا يقول به ، وبالجملة فإن المستفاد من الاخبار وكلام
الأصحاب هو تحريم الرجوع بعد فوات محله سواء قلنا ان محله هو الدخول في الصلاة أو
الركوع أو غيرهما ، فما ذهب اليه (قدسسره) ـ مع كونه
كما عرفت بمحل من الضعف ـ مخالف لظاهر الأخبار وكلام الأصحاب.
(المسألة الرابعة) ـ لو أحدث المتيمم في أثناء الصلاة
سهوا ووجد الماء فمذهب الشيخين (قدسسره) انه يتطهر
ويبني وقيل بالإبطال ، وتفصيل الكلام في المسألة
بوجه ابسط ـ وان كان البحث الكامل
فيها كما هو حقه موكول الي ذكرها في محلها ان شاء الله تعالى ـ ان يقال اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الحدث سهوا في الصلاة فالمشهور الابطال به مطلقا
وانه لا فرق بين العمد والسهو وعليه يدل إطلاق جملة من الأخبار الآتية ان شاء الله
تعالى عند ذكر المسألة ، وقيل بعدم الابطال وانه يتطهر ويبني وعليه تدل أيضا جملة
من الأخبار الصحيحة الصريحة ، وحملت على محامل عديدة أقربها التقية ، وقيل انه ان
كان سبقه الحدث في الصلاة وهو متيمم تطهر وبنى والا وجب عليه الإعادة ، ذهب اليه
الشيخان في المقنعة والنهاية والمبسوط وابن ابي عقيل إلا انه لم يشترط النسيان ،
وظاهر الصدوق في الفقيه القول بذلك ايضا حيث نقل فيه صحيحة زرارة الآتية ومن ثم
أسنده إليه في الذكرى ، والى هذا القول مال جملة من محققي المتأخرين ومتأخريهم :
منهم ـ المحقق في المعتبر والسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة
وهو الأظهر ، إلا انه لما انتهت النوبة إلى الأمين الأسترآبادي جرد لسان التشنيع
على الشيخ المفيد في الفوائد المدنية بذهابه الى ذلك وحمله الرواية المذكورة عليه
ونسب خلافه في هذه المسألة إلى الاستنباطات الظنية ، قال ـ بعد التشنيع عليه
بذهابه الى جواز التمسك بالاستصحاب ـ ما صورته : «وذهابه الى ان من دخل في الصلاة
بتيمم ثم سبقه الحدث فأصاب ماء يتوضأ ويبني بخلاف من دخل في الصلاة بوضوء وسبقه
الحدث فإنه يتوضأ ويستأنف الصلاة مع انه تواترت الأخبار بان الحدث في أثناء الصلاة
ينقضها ، والباعث له على ذلك انه كان في بعض الأحاديث لفظ «أحدث» فسبق ذهنه الى
حمله على وقوع الحدث من المصلي وغفل عن احتمال ان يكون أمطر السماء بل هذا
الاحتمال أظهر معنى كما حققناه في بعض كتبنا ، الى ان قال هذا كله بعد التنزل عن
حمله على التقية والصواب حمله على التقية لأن أبا حنيفة ذهب الى ذلك ولكن ما خص
الحكم بالتيمم» (1) انتهى.
واقتفاه في الحمل على هذا المعنى الكاشاني في الوافي فقال في ذيل
__________________
(1) في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج 1 ص 220 «لا يفسد
الصلاة لو سبقه الحدث فيها من غير تعمد فإنه يتوضأ ويبنى في صلاته».
خبر زرارة الآتي : «ثم أحدث فأصاب ماء»
على البناء للمفعول اي أحدث حدث ووجد سبب وسنح أمر من أمطار السماء ونحوه من أسباب
وجدان الماء ، والكناية عن مثله بالحدث شائعة في كلامهم ، وهذا المعنى أقرب مما
فهمه الأكثرون من حمل الحدث على معناه المتعارف إذ لا رابطة بين الحدث بهذا المعنى
واصابة الماء المتفرع عليه. انتهى.
أقول : اما ما ذكره المحدث الأمين ففيه (أولا) ان دعواه
تواتر الأخبار بان الحدث في أثناء الصلاة ينقضها مجازفة ظاهرة ، نعم ورد ذلك في
جملة من الأخبار إلا ان بإزائها من الأخبار ايضا ما هو أصح سندا وأكثر عددا وأصرح
دلالة مما يدل على عدم النقض وانه يتطهر ويبني كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى
في محله ، وباختلاف الأخبار في هذا المضمار اختلفت كلمة علمائنا الأبرار فذهب الى
القول بكل منها قائل وبذلك يظهر لك ما في كلامه من الإجمال بل الإهمال.
و (ثانيا) ـ ان ما فهمه الشيخ المفيد (قدسسره) من الخبر
المذكور هو الذي فهمه كل من وقف على الخبر المذكور من عصر الأئمة (عليهمالسلام) الى الآن ممن
قال به أو لم يقل إخباري أو مجتهد ما عداه وعدا المحدث المشار اليه حيث تبعه
واقتفاه ، وقد وافق الشيخ المشار اليه على القول بمضمون الخبر المذكور جملة من
الأصحاب المتقدم ذكرهم ومن جملتهم ـ كما عرفت ـ أستاذه صاحب المدارك ، وحينئذ
فالتشنيع الذي ذكره لا يختص بالشيخ المفيد بل بجملة العلماء الاعلام وكفي به شناعة
في المقام.
و (ثالثا) ـ ان ما فهمه الشيخ المذكور وجملة الأصحاب (رضوان
الله عليهم) ليس من قبيل الاستنباطات الظنية كما زعمه وانما هو المعنى المتبادر من
اللفظ عند إطلاقه ، والتبادر امارة الحقيقة كما صرحوا به ، ولو كان حمل اللفظ على
معناه المتبادر منه من قبيل الاستنباطات الظنية لكان هو ايضا من جملة القائلين
بتلك الاستنباطات ، اللهم إلا ان يدعى في ذلك إلهاما روحانيا ، كما يعطيه بعض تلك
المنامات
التي أوردها في ذلك الكتاب بل
الخرافات التي لا تليق بمثله من العلماء الأطياب ، نعم ان ذلك انما يتوجه إليه في
استنباطه هذا المعنى الذي اختص به وذهب اليه واعتمد في المقام عليه بل هو في
الحقيقة أشبه شيء بالألغاز الذي هو بمراحل عن الحقيقة فضلا عن المجاز.
و (رابعا) ـ انه من الجائز خروج هذا الخبر مخرج التقية
كما صرح به في آخر كلامه واستصوبه ، ومن الظاهر انه لا يتم ذلك إلا بحمل الحدث على
المعنى الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولا ريب ان الخبر الخارج مخرج التقية
مما قد رخصوا في العمل به حال التقية ومطلقا بالنسبة الى من لا يعلم بالتقية حتى
يظهر وجه التقية فيه فلم لا حمل كلام الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) على هذا الحمل
الصحيح العاري عن الريب وكف لسان قلمه عن الطعن عليه والعيب؟ ولكنه قد أولع في هذا
الكتاب بتجريد لسان الطعن على العلماء الاعلام ، ومن أراد الوقوف على ما وقع لنا
معه في مثل هذا المقام من الجواب عن جملة من متفرداته ولا سيما مطاعنه في جملة من
فضلائنا الكرام فليرجع الى كتابنا الدرر النجفية وحواشينا على كتابه.
واما ما ذكره المحدث الكاشاني ففيه زيادة على ما عرفت
انه قد اعترف بان ما حمل عليه الأصحاب الخبر هو المعنى المتعارف ، ولا ريب ان
الواجب هو الحمل عليه لانه المتبادر الى الفهم والمعنى بالحمل عليه صحيح لا غبار
عليه والحمل على خلافه يحتاج إلى قرينة صارفة عنه. قوله ـ انه لا رابطة بين الحدث
بهذا المعنى واصابة الماء المتفرع عليه ـ فيه ان القائل بذلك لا يجعل الفاء هنا
للتفريع بل هي كالفاء في الحديث الآخر في قوله : «فصلى ركعة فأحدث» فإنه لا ارتباط
ايضا بين الصلاة ركعة والحدث بأي المعنيين اعتبر ، بل حاصل المعنى هو السؤال عن
رجل اتفقت له هذه الأمور وهو انه لما صلى اتفق له سبق حدث منه واتفق وجود ماء في
تلك الحالة ، والسؤالات المبنية على الفروض في الأخبار من هذا القبيل غير عزيز.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الدليل الذي استند اليه الشيخان
في هذه المسألة هو
ما رواه الشيخ في تتمة صحيحة زرارة
ومحمد بن مسلم المتقدمة في صدر المسألة الثالثة (1) قال : «قال
زرارة فقلت له دخلها وهو متيمم فصلى ركعة فأحدث فأصاب ماء؟ قال يخرج ويتوضأ ويبني
على ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم». وما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمد
بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «قلت له
رجل دخل في الصلاة وهو متيمم فصلى ركعة ثم أحدث فأصاب الماء؟ قال يخرج ويتوضأ
ويبني على ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم».
قال المحقق في المعتبر : «من صلى بتيمم ثم أحدث في أثناء
الصلاة ووجد الماء روى محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) «انه يخرج ثم
يتوضأ ويبني ما مضى من صلاته التي صلى بالتيمم». وهذه الرواية متكررة في الكتب
بأسانيد مختلفة وأصلها محمد بن مسلم وفيها اشكال من حيث ان الحدث يبطل الطهارة
وتبطل ببطلانها الصلاة واضطر الشيخان بعد تسليمها الى تنزيلها على المحدث سهوا ،
والذي قالاه حسن لأن الإجماع على ان الحدث عمدا يبطل الصلاة فيخرج من إطلاق
الرواية فيتعين حملها على غير صورة العمد لأن الإجماع لا تصادمه الرواية. ولا بأس
بالعمل بها على الوجه الذي ذكره الشيخان فإنها رواية مشهورة ، ويؤيدها ان الواقع
من الصلاة وقع مشروعا مع بقاء الحدث فلا يبطل بزوال الاستباحة كصلاة المبطون إذا
فجأه الحدث ، ولا يلزم مثل ذلك في المصلي بطهارة مائية لأن حدثه مرتفع فالحدث
المتجدد رافع لطهارته فتبطل لزوال الطهارة» قال في المدارك بعد نقله ملخصا : هذا
كلامه (قدسسره) وقوته ظاهرة.
وأنكر ابن إدريس هذا القول وأوجب الإعادة سواء كان حدثه
عمدا أو سهوا قال في المختلف : وهو الأقوى عندي ، لنا ـ ان صحة الصلاة مشروطة
بدوام الطهارة وقد زال الشرط فيزول المشروط ، ولأن الإجماع واقع على ان ناقض
الطهارة مبطل للصلاة ولأن الصلاة لو فعلت بطهارة مائية انتقضت بالحدث فكذا
الترابية لأنها أحد الطهورين ، ولان
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 1 من قواطع الصلاة.
الإجماع واقع على ان الفعل الكثير
مبطل للصلاة وهو حاصل هنا بالطهارة الواقعة في أثناء الصلاة. احتج الثلاثة بما
رواه زرارة ومحمد بن مسلم ، ثم أورد الخبر المتقدم ثم عقبه بخبر زرارة المتقدم
ايضا ثم اردفهما برواية زرارة المتقدمة في المسألة الثالثة المتضمنة للقربتين حيث
أمر فيها بالقطع والبناء ايضا ثم قال : والجواب عن الحديث الأول انا نحمل الركعة
على الصلاة كما تقدم إطلاقا الاسم الجزء على الكل ، وقوله «يخرج ويتوضأ ثم يبنى
على ما مضى من صلاته» إشارة إلى الاجتزاء بتلك الصلوات السابقة على وجدان الماء ،
وعن الثاني بذلك ايضا ، ويحتمل انه يرجع استحبابا إذا صلى ركعة واحدة وقوله : «ويبني
على ما مضى من صلاته» لا يشير به الى تلك الركعة السابقة بل الى الصلوات السابقة
على التيمم ، وعن الثالث بالمنع من صحة السند ، على ان الأحاديث لا تدل على
التفصيل الذي ذكره الشيخان من وجوب الوضوء والإتمام مع النسيان والاستئناف مع
العمد فالذي ذهبا اليه لم تدل الأحاديث عليه. انتهى.
والشهيد في الذكرى نقل عن ابن إدريس انه رد الرواية
للتسوية بين نواقض الطهارتين وان التروك متى كانت من النواقض لم يفرق بين العامد
فيها والساهي ، ثم نقل عنه انه قال : وانما ورد هذا الخبر فأوله بعض أصحابنا بصلاة
المتيمم ، ثم اعترضه فقال قلت : الأول محل النزاع والرواية مصرحة بالمتيمم فكيف
يجعل تأويلا؟ ثم انه في الذكرى نقل عن المختلف رد الرواية لاشتراط صحة الصلاة
بدوام الطهارة ولما قاله ابن إدريس وقال الطهارة المتخللة فعل كثير ، ثم اعترضه
بان كل ذلك مصادرة ، ثم نقل عن المختلف انه أول الرواية بحمل الركعة على الصلاة
تسمية للكل باسم الجزء ، وبان المراد مما مضى من صلاته ما سبق من الصلوات السابقة
على وجدان الماء ، ثم رده فقال : قلت لفظ الرواية «يبني على ما بقي من صلاته» وليس
فيها «ما مضى» فيضعف التأويل مع انه خلاف منطوق الرواية صريحا. انتهى. أقول : كلام
شيخنا المذكور بان لفظ الرواية «يبني على ما بقي من صلاته» لعله كان هو الموجود في
نسخ الكتاب الذي عنده وإلا فإن
الموجود فيما وصل إلينا من كتب
الأخبار والمنقول في كتب الفروع أيضا انما هو «ما مضى من صلاته» كما ذكره العلامة.
وكيف كان فإنه قد علم بما ذكره شيخنا المشار اليه الجواب عما ذكره العلامة في
المختلف إلا انه مع وجود الخبر كما ذكره العلامة (قدسسره) فتأويله بما
ذكره في غاية البعد. وأشد بعدا حمل الركعة على الصلاة كملا.
وللمحقق الشيخ حسن في المنتقى هنا كلام جيد لا بأس بنقله
وان طال به زمام الكلام لما يترتب عليه من النفع في غير مقام ، قال بعد نقل كلمات
القوم التي ذكرناها في هذه المسألة : والتحقيق عندي في هذا المقام ان الخبرين
الصحيحين ليسا بصريحين في إفادة الحكم المتنازع فيه بل هما محتملان لإرادة البناء
على الصلاة التي صلاها تامة بالتيمم وقوله (عليهالسلام) في آخر
الكلام «التي صلى بالتيمم» قرينة قوية على ارادة هذا المعنى فيكون مفاد الخبرين
حينئذ عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة بالتيمم بعد وجدان الماء ، وهو معنى صحيح
وارد في اخبار كثيرة مضى بعضها وسيأتي سائرها ، وإذ قد عرفت اعترافهم بالمضايقة في
المعنى الذي وقع فيه النزاع باعتبار مخالفته لما هو المعهود في قواطع الصلاة فلا
بد في المصير اليه من صراحة اللفظ فيه ، وقول العلامة ان الأحاديث لا تدل على
التفصيل ليس بجيد لأنها بتقدير دلالتها على أصل الحكم لا تخلو من ظهور في الاختصاص
بحالة عدم العمد ، وحمله الركعة على الصلاة تعسف زائد لا حاجة له اليه ، وقول
الشهيد ان لفظ الرواية «يبني على ما بقي» عجيب فإن الرواية مذكورة في التهذيب
مرتين كما بيناه وفي الفقيه وكلها متفقة مع تعدد النسخ على لفظ «ما مضى» وحكاها
كذلك ايضا الشيخ في الخلاف والمحقق في المعتبر حتى ان الشهيد (قدسسره) نقلها في
مسألة من وجد الماء في أثناء الصلاة في حمله كلام الشيخ في الخلاف بهذه الصورة ،
وفي عبارات القدماء شهادة بهذا ايضا لوقوفهم في التأدية مع ألفاظ النصوص غالبا.
وقد اتفق لوالدي (قدسسره) في شرح
الإرشاد مناقشة العلامة بنحو ما قاله الشهيد (قدسسره) حتى انتهى
الى هذا الموضع فذكره بصورة ما في الذكرى اعتمادا على تحقيق الشهيد وحسن ظنه به
وهو أعجب
من صنع الشهيد (قدسسره) لكن المعلوم
من طريقة والدي في هذا الشرح مشاركة جماعة المتأخرين في تخفيف المراجعة والاتكال
على حكايات السلف وقد عدل عن ذلك فيما بعد حيث انكشف له حقيقة الحال ، هذا مع ان
الفرق بين اللفظين هنا والتفاوت بين مفاديهما قليل عند التأمل وان الجمع بين كلمة «يبني»
وبين كلمة «ما بقي» باقيتين على ظاهر هما غير متصور ، وليس التجوز في «يبني» حرصا
على نفي الاحتمال بأولى من حمل «ما بقي» على ارادة ما سلم من الحدث المبطل وقوفا
مع المعهود واقتصارا على إثبات الأحكام الشرعية على ما يتضح اليه السبيل وينتفي
فيه الاحتمال القادح في دلالة الدليل. انتهى كلامه.
أقول : وما ذكره من الاحتمال المذكور وما ذيله به جيد
وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، وبه تنطبق الروايتان المذكورتان على القواعد
الشرعية من غير حاجة الى تخصيصهما باستثناء الصورة التي جعلوها محل النزاع بناء
على ما فهموه من الروايتين المذكورتين ، هذا ، واحتمال التقية فيهما أقرب قريب كما
تقدمت الإشارة اليه. والله العالم.
(المسألة الخامسة) ـ إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب وكان من
الماء ما يكفي أحدهم خاصة ، فإن كان ملكا لأحدهم اختص به ولم يجز له بذله لغيره مع
مخاطبته باستعماله ووجوب صرفه في طهارته ، ولو كان مباحا حازه من سبق اليه من
المحدث والجنب ولو توافيا عليه دفعة اشتركا ، وان كان ملكا لهم أو لمالك يسمح به
فلا ريب ان لمالكه الخيرة في تخصيص من شاء به ، انما يبقي الكلام في الاولى من
الثلاثة وكذا لو كان منذورا أو موصى به للأحوج ، فقال الشيخ في النهاية : إذا
اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم فليغتسل به الجنب وليتيمم
المحدث ويدفن الميت بعد ان يؤمم. وقال في الخلاف ان كان الماء لأحدهم فهو أحق به وان
لم يكن لواحد بعينه تخيروا في التخصيص ، لأنها فروض اجتمعت وليس بعضها اولى من بعض
فتعين التخيير ولان الروايات قد اختلفت على وجه لا ترجيح فتحمل على التخيير. وقال
ابن إدريس
ان كان ملكا اختص بالمالك وان كان
مباحا فلمن حازه ، وان تعين عليهما تغسيل الميت ولم يتعين أداء الصلاة لخوف فوات
وقتها فعليهما ان يغسلاه بالماء الموجود ، فان خافا فوات الصلاة فإنهما يستعملان
الماء ولا يغسلان به الميت. ونقل المحقق في الشرائع قولا باختصاص الميت به ، قال
في المدارك : ولم أعرف قائله ، وبذلك ظهر ان في المسألة أقوالا أربعة.
والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما
رواه الصدوق في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي نجران (1) «انه سأل أبا
الحسن موسى (عليهالسلام) عن ثلاثة نفر
كانوا في سفر أحدهم جنب والثاني ميت والثالث على غير وضوء وحضرت الصلاة ومعهم من
الماء قدر ما يكفي أحدهم ، من يأخذ الماء وكيف يصنعون؟ قال يغتسل الجنب ويدفن
الميت بتيمم ويتيمم الذي هو على غير وضوء ، لان الغسل من الجنابة فريضة وغسل الميت
سنة والتيمم للآخر جائز».
ورواه الشيخ في التهذيب عن عبد الرحمن بن ابي نجران عن
رجل حدثه قال : سألت الرضا (عليهالسلام) وذكره نحوه (2) إلا ان الذي
فيه «ويدفن الميت» من غير قوله «بتيمم».
وما رواه في التهذيب عن الحسن التفليسي (3) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن ميت وجنب
اجتمعا ومعهما ما يكفي أحدهما أيهما يغتسل؟ قال إذا اجتمعت سنة وفريضة بدئ بالفرض».
وعن الحسين بن النضر الأرمني (4) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا (عليهالسلام) عن القوم
يكونون في السفر فيموت منهم ميت ومعهم جنب ومعهم ماء قليل قدر ما يكفي أحدهما
أيهما يبدأ به؟ قال يغتسل الجنب ويترك الميت لان هذا فريضة وهذا سنة». ورواه
الصدوق في العلل والعيون بسنده عن الحسين بن النضر مثله (5).
وعن علي بن محمد عن محمد بن علي عن بعض أصحابنا عن
الصادق (عليهالسلام) (6)
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) رواه في الوسائل في الباب 18 من أبواب
التيمم.
قال : «قلت له الميت والجنب يتفقان في
مكان لا يكون فيه الماء إلا بقدر ما يكتفي به أحدهما أيهما اولى ان يجعل الماء له؟
قال يتيمم الجنب ويغسل الميت بالماء».
وعن ابي بصير (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قوم كانوا
في سفر فأصاب بعضهم جنابة وليس معهم من الماء إلا ما يكفي الجنب لغسله يتوضأون هم
هو أفضل أو يعطون الجنب فيغتسل وهو لا يتوضأون؟ قال يتوضأون هم ويتيمم الجنب».
إذا عرفت هذا فاعلم ان جملة من الأصحاب : منهم ـ السيد
السند في المدارك رجحوا العمل بصحيحة عبد الرحمن بن ابي نجران لصحة سندها وضعف ما
عارضها من مرسلة محمد بن على وتأيدها بروايتي التفليسي والأرمني. واستدلوا للقول
بتقديم الميت بان الجنب يستدرك طهارته والميت لا استدراك لطهارته ، وبرواية محمد
بن علي المذكورة ورد الأول بأن الاعتبار لا يعارض النص مع انه معارض بتعبد الجنب
بطهارته بخلاف الميت فإنه قد خرج عن التكليف بالموت ، وبان للجنب غايتين استباحة
الصلاة وطهارة بدنه من الحدث وللميت الثانية لا غير. والثاني بالطعن في الرواية
بضعف السند وبالإرسال والإضمار فلا تصلح لمعارضة الخبر الصحيح.
أقول : والحق انه مع العمل بهذا الاصطلاح المحدث فلا ريب
في قوة ما ذكروه ، واما مع عدم ذلك كما هو الحق الذي عليه متقدمو الأصحاب (رضوان
الله عليهم) فالوجه ان يقال بما ذهب اليه الشيخ من التخيير مع أولوية الجنب ، وهذا
هو الظاهر من كلام المحقق في المعتبر حيث انه بعد فرض المسألة قال : فالأشهر من
الروايتين اختصاص الجنب به ، ثم نقل عبارة الخلاف الدالة على التخيير ونقل رواية
التفليسي وعدها مع رواية الأرمني رواية واحدة ثم أردفها بمرسلة محمد بن علي ثم رجح
رواية التفليسي بأنها متصلة الاسناد وان العامل بها من الأصحاب كثير والأخرى
مقطوعة ، ثم قال : والذي ذكره الشيخ ليس موضع البحث فانا لا نخالف في ان لهم
الخيرة لكن
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 18 من أبواب التيمم.
البحث في من الأولى أولوية لا تبلغ
اللزوم ولا تنافي التخيير. انتهى. وهو ظاهر في ان المراد بقوله أولا : «ان الأشهر
من الروايتين اختصاص الجنب به» انما هو اختصاص أولوية وبهذا جمع بين الخبرين
المذكورين في كلامه ، والظاهر انه لم تحضره صحيحة عبد الرحمن المذكورة يومئذ وإلا
لذكرها ، هذا فيما إذا كان الماء لباذل أجنبي أو مشترك بين الجميع مع فرض ان حصة
كل واحد منهم لا تفي بحاجته فإنه يستحب له بذلها للأحوج مع عدم رجاء ما يحصل به
الإكمال ، واما لو كان منذورا به للأحوج أو موصى به كذلك فالتخيير غير متجه في المقام
بل يحتاج الى النظر في الراجح من الاخبار الواردة في المسألة ولا ريب في حصوله في
جانب القول بتقديم الجنب للصحيحة المذكورة المعتضدة بالروايتين الأخريين سيما مع
تضمنها للعلة المذكورة المصرح بها في غير موضع ايضا. واما ما ذهب اليه ابن إدريس
من التفصيل المتقدم نقله عنه فإنه مبني على طرح روايات المسألة كما لا يخفى ،
وضعفه لذلك أظهر ظاهر.
وينبغي التنبيه على فوائد (الاولى) ـ لو أمكن الجمع بأن
يتوضأ المحدث ثم يجمع الماء ويغتسل به الجنب الخالي بدنه من النجاسة ثم يجمع ماؤه
ويغسل به الميت وجب بناء على القول بان المستعمل في الحدث الأكبر يكون مطهرا. قيل
: ولو جامعهم ذات دم أو ماس ميت فإشكال والتخيير حسن واستعمال القرعة أولى ، أما
العطشان فهو اولى من الجميع قطعا.
(الثانية) ـ قال في الذكرى بعد الإشارة إلى خبر عبد
الرحمن بن ابي نجران : «وفيه إشارة الى عدم طهورية المستعمل وإلا لأمر يجمعه»
وأورد عليه بان جمعه لا يلزم منه ان يجتمع منه ما يكفي واحدا فإنه أعم من ذلك ولا
دلالة للعام على الخاص وجائز ان يعلم (عليهالسلام) منه عدم
اجتماع ما يرفع حدثا آخر. وفيه انه يمكن ان يكون مبنى كلام شيخنا المشار اليه على
عدم الاستفصال المفيد عندهم للعموم في المقال ، لأنهم قد صرحوا في غير مقام بان
ترك الاستفصال يفيد العموم في المقال. نعم يمكن ان يقال ان
الرواية محمولة على ما هو الغالب من
عدم إمكان هذا الجمع في مثل هذا الماء القليل الذي لا يكفي إلا لأحدهم كما هو
المفروض في أصل المسألة.
(الثالثة) ـ لو كان الماء مباحا وجب على كل من الحيين
المبادرة إليه فإن سبق أحدهما إلى حيازته ملكه وان اتفقا جميعا اشتركا ، ولو تغلب
أحدهما على الآخر في حيازته بعد استوائهما في السبق اليه فلا خلاف ولا ريب في انه
يأثم ، وهل يملك أم لا؟ فالمحقق في المعتبر والعلامة في التذكرة على الأول لأن
الوصول الى المباحات لا يفيد الملك لافتقار تملك المباحات إلى الحيازة مع النية
ولم يحصل الشرطان إلا للمتغلب واستشكله الشهيد في الذكرى بإزالة أولوية غيره وهي
في معنى الملك ، قال : وهو مطرد في كل أولوية كالتحجير. وفيه ما عرفت من عدم حصول
شرطي الحيازة إلا للمتغلب فيملك وان أثم ، هذا ما يقتضيه الجري على قواعدهم وإلا
فالمسألة لعدم النص لا تخلو من توقف.
(الرابعة) ـ قال المحقق في المعتبر : هل يجوز لمالك
الماء ان يبذله لغيره مع وجوب الصلاة؟ الوجه لا لأن الطهارة تعينت عليه وهو متمكن
من الماء والعدول الى التيمم مشروط بالتعذر والتقدير عدمه ، ويؤيد ذلك رواية وهب
بن حفص عن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) ثم ساق
الرواية كما قدمناه ، وقال : وذكر النجاشي ان وهب بن حفص كان واقفيا لكنه ثقة.
انتهى. واعترضه في الذكرى بأنه ليس في الخبر تخصيص باختصاصهم بملكه ولعلهم مشتركون
ولكن الجنب لا يكتفي بنصيبه. أقول : الظاهر ان استناد المحقق إلى الرواية لا يتوقف
على اختصاصهم بالملك بل يكفيه تحقق اشتراكهم فيه ، فان ظاهر سياق الخبر ان الماء
مشترك بين القوم كملا إلا ان حصة الجنب لا تكفيه لغسله وحصة كل منهم تكفي لوضوئه
فسأل انه هل يجوز لهم أو يجب عليهم ان يدفعوا حصصهم من الماء الى الجنب ليغتسل به
كملا ويتيممون هم أو يتوضأ كل واحد بنصيبه ويتيمم الجنب؟ فأجاب (عليهالسلام) بما يدل على
ما ذكره المحقق (قدسسره)
من ان مالك الماء الذي يجزئه لطهارته
لا يجوز له ان يعطيه غيره بل يتوضأ به والجنب لعدم وفاء حصته بالغسل ينتقل الى
التيمم ، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه.
(المسألة السادسة) ـ الظاهر انه لا خلاف نصا وفتوى في
انه متى وجد الماء وتمكن من استعماله انتقض تيممه فلو فقده بعد ذلك وجب عليه اعادة
التيمم ، وقد نقل الإجماع على ذلك المحقق في المعتبر ، والمراد من التمكن من
استعماله ان لا يكون له مانع حسي من تغلب على الماء أو كونه في بئر ولا وسيلة اليه
أو كونه في يد من لا يبذله أو يتوقف بثمن لا يمكنه ونحو ذلك ، ولا شرعي من مرض
وخوف عطش ونحو ذلك مما قد تقدم
ومما يدل على أصل الحكم من الأخبار قوله (عليهالسلام) في صحيحة
زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) (1) وقد سأله : «يصلي
الرجل بتيمم واحد صلاة الليل والنهار؟ فقال نعم ما لم يحدث أو يصب ماء. قلت فإن
أصاب الماء ورجا ان يقدر على ماء آخر وظن انه يقدر عليه فلما اراده تعسر ذلك عليه؟
قال ينتقض تيممه وعليه ان يعيد التيمم».
وفي رواية السكوني (2) «لا بأس بان
يصلي صلاة الليل والنهار بتيمم واحد ما لم يحدث أو يصب الماء».
وروى الشيخ عن الحسين العامري (3) عن من «سأله
عن رجل أجنب فلم يقدر على الماء وحضرت الصلاة فتيمم بالصعيد ثم مر بالماء ولم
يغتسل فانتظر ماء آخر وراء ذلك فدخل وقت الصلاة الأخرى ولم ينته الى الماء وخاف
فوت الصلاة؟ قال يتيمم ويصلي فان تيممه الأول انتقض حين مر بالماء ولم يغتسل».
وروى العياشي في تفسيره عن أبي أيوب عن الصادق (عليهالسلام) (4) قال : «التيمم
بالصعيد لمن لم يجد الماء كمن توضأ من غدير ماء ، أليس الله تعالى يقول :
__________________
(1 و 3 و 4) المروي في الوسائل في الباب 19 من أبواب التيمم.
(2) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب التيمم.
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً.) قال : قلت فإن
أصاب الماء وهو في آخر الوقت؟ قال فقال : قد مضت صلاته. قال قلت فيصلي بالتيمم
صلاة أخرى؟ قال إذا رأى الماء وكان يقدر عليه انتقض التيمم».
وقال (عليهالسلام) في الفقه
الرضوي (1) : «وان مر
بماء فلم يتوضأ وقد كان تيمم وصلى في آخر الوقت وهو يريد ماء آخر فلم يبلغ الماء
حتى حضرت الصلاة الأخرى فعليه ان يعيد التيمم لان ممره بالماء نقض تيممه».
وبالجملة فإن أصل المسألة مما لا خلاف فيه ولا اشكال
وانما الإشكال في انه بعد وجود الماء هل يعتبر في انتقاض التيمم مضى زمان يتمكن
فيه من فعل الطهارة المائية أم لا؟ وجهان بل قولان : أحدهما نعم لامتناع التكليف
بعبادة في وقت لا يسعها فإذا تلف الماء مثلا قبل مضي زمان يتمكن فيه من فعل
الطهارة تبين عدم التكليف باستعمال الماء فيلزم بقاء التيمم لان النقض انما يتحقق
مع تمكنه من البدل. واليه مال في المدارك وهو ايضا ظاهر المنتهى ، وثانيهما انه لا
يعتبر لصدق التمكن من استعمال الماء بحسب الظاهر.
أقول : الحق ان الحكم في المسألة المذكورة لا يخلو من
اشكال وذلك فإنه بالنظر الى ظواهر الاخبار مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة
زرارة : «أو يصب ماء» وقوله فيها : «فإن أصاب ماء» وفي رواية السكوني «أو يصب
الماء» يترجح القول الثاني لأنه رتب النقض على مجرد الإصابة أعم من ان يمضي زمان
يتمكن فيه من الإتيان بالطهارة أم لا ، والى هذا القول يميل كلام الصدوق في الفقيه
حيث قال : «ومتى أصاب المتيمم الماء ورجا ان يقدر على ماء آخر أو ظن انه يقدر عليه
كلما أراد فعسر عليه ذلك فان نظره الى الماء ينقض تيممه» انتهى. وهو ايضا ظاهر
شيخنا البهائي في الحبل المتين.
وربما استدل عليه أيضا بأن الخطاب متوجه الى المكلف
بالطهارة المائية وتوجه
__________________
(1) ص 5.
التكليف بالطهارة المائية ينافي بقاء
التيمم. وأجيب عنه بان المراد بتوجه الخطاب بالطهارة المائية ان كان بفعلها في نفس
الأمر فممنوع ، وان كان توجه الخطاب بالاشتغال بها فمسلم لكن الكبرى ممنوعة.
وعندي في هذا الاستدلال والجواب على الإطلاق نظر ،
والتحقيق في ذلك ان يقال ان كان وجدان الماء بعد التيمم في الوقت وقبل الصلاة فلا
ريب انه مكلف باستعمال الماء والخطاب متوجه اليه بغير اشكال ، وإيجاب الشارع
الطهارة المائية عليه في تلك الحال لا يجامع بقاء التيمم البتة. وقول المجيب هنا
على هذا التقدير ـ انه ان كان مكلفا بالطهارة في نفس الأمر. إلخ يعني ان التكليف
بالطهارة كاملة لا يجوز تعلقه بالواقع ونفس الأمر لتبين خلافه كما هو المفروض ـ فيه
انه يكفي في تعلق التكليف ظن بقاء الماء المدة المذكورة استصحابا للحال فيكون مجرد
وجوده ناقضا وان طرأ عليه بعد ذلك التلف قبل مضي المدة المذكورة ، وان كان وجدان
الماء في غير وقت الصلاة كما هو ظاهر إطلاق الأخبار المتقدمة وغيرها من اخبار
المسألة فلا معنى لهذا الاستدلال من أصله ، لأنه لا يتوجه اليه الخطاب بالكلية ،
هذا بالنظر الى ظواهر الاخبار.
وبالنظر الى انه يلزم من القول بذلك التكليف بعبادة في
وقت لا يسعها وهو ممنوع عقلا وشرعا يترجح القول الأول ، فإن تلف الماء قبل مضي
زمان يتمكن فيه من فعل الطهارة كاشف عن عدم التكليف باستعماله فيلزم بقاء التيمم
لان النقض لا يتحقق إلا بالتمكن من البدل كما تقدم.
وتنظر فيه شيخنا البهائي (قدسسره) في الحبل
المتين بأنه لا ملازمة بين عدم تكليف المتيمم باستعمال الماء وبين بقاء تيممه من
غير إيجاب تيمم آخر عليه. قال : بل الظاهر ان يكون نفس وجود الماء المظنون بقاؤه
ذلك المقدار استصحابا للحال ناقضا فيجب به تيمم آخر إذا لم يبق ذلك المقدار بطرو
انعدام عليه أو سبق آخر اليه مثلا ، والتزام القول بأنه يجوز للمتيمم لفقد الماء
بعد وجوده فعل مشروط بالطهارة كابتداء
الصلاة ومس خط المصحف مثلا الى ان
يمضي ذلك المقدار لا يخلو من اشكال. انتهى. وهو جيد. والمراد بقوله (قدسسره) والتزام
القول. إلخ هو إلزام القائلين بالقول الأول بأنه يلزم منه إذا كان لا ينتقض التيمم
إلا بمضي هذا المقدار من الزمان انه بعد وجود الماء وقبل مضي المدة المذكورة يجوز
له مس خط المصحف والدخول في الصلاة بتيممه ذلك لأنه طهارة صحيحة لم تنتقض فإذا مضى
ذلك المقدار حرم عليه تلك الأشياء ، وهو مشكل فان ظواهر الأخبار تمنعه ، وانما قيد
الصلاة بالابتداء احترازا عن وجدان الماء في أثنائها كما تقدم فإنه لا إشكال في
وجوب مضيه في الصلاة على التفصيل المتقدم ، وهذا الإلزام ظاهر متوجه والتزام القول
بصحة الدخول في الصلاة بهذا التيمم حال وجود الماء لا يخلو من شناعة.
ونظير هذه المسألة ما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب
الحج في من استطاع للحج فبادر في عام الاستطاعة ومات بعد الإحرام أو قبله وقبل
دخول الحرم ، فان ظواهر الاخبار دلت على وجوب القضاء عنه وأكثر الأصحاب حملوها على
من استقر الحج في ذمته قبل هذا العام للعلة المتقدمة ، ونقل عن الشيخين وجوب
القضاء عنه عملا بظاهر الاخبار ، ورجحه الشيخ علي بن سليمان البحراني في حاشيته
على المختصر ، وهو مؤيد للقول الثاني في هذه المسألة. والله العالم.
(المسألة السابعة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ ان المحتلم في أحد المسجدين المسجد الحرام ومسجد
الرسول (صلىاللهعليهوآله) لا يجوز له
المرور فيه والخروج منه إلا متيمما ولا بأس بأن يمر في غيرهما من المساجد.
والأصل في هذا الحكم صحيحة أبي حمزة (1) قال : «قال
أبو جعفر (عليهالسلام) إذا كان
الرجل نائما في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله)
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
فاحتلم فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمر
في المسجد إلا متيمما ولا بأس بأن يمر في سائر المساجد ولا يجلس في شيء منها».
ومرفوعة أبي حمزة (1) قال : «إذا كان الرجل نائما في
المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) فاحتلم
فأصابته جنابة فليتيمم ولا يمر في المسجد إلا متيمما حتى يخرج منه ثم يغتسل ، وكذا
الحائض إذا أصابها الحيض تفعل ذلك ، ولا بأس ان يمرا في سائر المساجد ولا يجلسان
فيها».
وفي الفقه الرضوي (2) : «وإذا احتلمت في مسجد من المساجد
فاخرج منه واغتسل إلا ان تكون احتلمت في المسجد الحرام أو مسجد الرسول (صلىاللهعليهوآله) فإنك إذا
احتلمت في أحد هذين المسجدين فتيمم ثم اخرج ولا تمر بهما مجتازا إلا وأنت متيمم». انتهى.
وعن ابن حمزة القول باستحباب التيمم في الصورة المذكورة
، وهو ضعيف. وبالجملة فإن أصل الحكم لا اشكال فيه ولا كلام لما عرفت من الاخبار.
وانما يبقى الكلام في مواضع (الأول) ـ انه قد اختلف
الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب الغسل في الصورة المذكورة وعدمه لو وجد الماء
في أحد المسجدين فقيل بان الواجب هو التيمم مطلقا وقوفا على ظاهر النص ، وقيل بأنه
إن أمكن الغسل وساوى زمانه زمان التيمم أو نقص عنه وحصل الأمن من تعدى النجاسة الى
المسجد وآلاته وجب وكان مقدما على التيمم واليه ذهب جملة من المتأخرين ، واحتمل في
الذكرى تقديم الغسل مطلقا حيث قال : وانما قيد جواز الغسل مع إمكانه بمساواة زمانه
لزمان التيمم أو قصوره عنه مع ان الدليل يقتضي تقديمه مطلقا مع إمكانه لعدم العلم
بالقائل بتقديمه مطلقا وان كان القول به متجها. ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك الميل اليه. والوجه في القول الأول ما عرفته من الوقوف على ظاهر النص.
واما القول الثاني
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.
(2) ص 4.
فالجمع بين الأخبار الدالة على وجوب
استعمال الماء وعدم مشروعية التيمم وبين هذه الأخبار بحمل اخبار التيمم على ما إذا
زاد زمان الغسل عن زمانه أو أوجب التلوث بالنجاسة. واما الثالث فهو تخصيص اخبار
التيمم بعدم وجود الماء.
ويمكن ترجيح القول الثاني بما أشرنا إليه في غير موضع
وصرح به غير واحد من محققي الأصحاب من ان الأحكام المودعة في الأخبار انما تبنى
على الافراد الشائعة المتكررة الوقوع دون الفروض النادرة التي ربما لا توجد ، وحيث
كان وجود الماء في المسجدين على الوجه المذكور بالشروط المذكورة من الفروض النادرة
التي ربما لا تتفق بالكلية وانما هو فرض عقلي واحتمال فرضي خرجت الأخبار بالتيمم
بناء على ما هو المتعارف المعتاد ، وحينئذ فلا مانع من العمل بتلك الأخبار
المستفيضة في صورة وجود الماء وإمكان استعماله بالشروط المذكورة.
قال السيد (قدسسره) في المدارك
بعد ذكر صحيحة أبي حمزة المذكورة : «وإطلاق الخبر يقتضي وجوب التيمم مطلقا وان
أمكن الغسل في المسجد وساوى زمانه زمان التيمم أو نقص عنه ، وبه قطع المحقق الشيخ
علي في حاشية الكتاب ، ورجح جماعة : منهم ـ جدي (قدسسره) في جملة من
كتبه وجوب الغسل مع مساواة زمانه لزمان التيمم أو نقصه عنه وعدم استلزامه تنجيس شيء
من المسجد وآلاته ، واستدل عليه في الروض بان فيه جمعا بين ما دل على الأمر
بالتيمم مطلقا وهي صحيحة أبي حمزة السابقة وبين ما دل على اشتراط عدم الماء في
جواز التيمم ، قال وانما قيدنا جواز الغسل في المسجد مع إمكانه بمساواة زمانه
لزمان التيمم أو قصوره عنه مع ان الدليل يقتضي تقديمه مطلقا مع إمكانه لعدم القائل
بتقديمه مطلقا وإلا لكان القول به متوجها. وفيه نظر فانا لم نقف على ما يقتضي
اشتراط عدم الماء في جواز التيمم لغير الصلاة ، وايضا قد ثبت بالنصوص الصحيحة
تحريم الكون للجنب في المساجد مطلقا وغاية ما علم استثناؤه من ذلك حالة التيمم
بالنص السابق فيبقى غيره مندرجا تحت العموم ، والأظهر الاقتصار
على التيمم وقوفا مع ظاهر الخبر ،
وكما جاز ان يكون الأمر بالتيمم مبنيا على الغالب من تعذر الغسل في المسجدين فيجوز
ان يكون وجهه اقتضاء الغسل فيهما إزالة النجاسة فإن مورد الخبر المحتلم وهو ملازم
للنجاسة ، وقد أطلق جملة من الأصحاب تحريم إزالتها في المساجد وصرح بعضهم بعموم
المنع وان كانت الإزالة في الكثير» انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول : ما ذكره من النظر منظور فيه ايضا من وجوه : (الأول)
ـ قوله : «انا لم نقف على ما يقتضي اشتراط عدم الماء في جواز التيمم لغير الصلاة»
فإن فيه (أولا) ـ انه مردود بالأخبار المتقدمة الدالة على عموم البدلية مثل قوله (عليهالسلام) (1) «ان الله تعالى
جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وقوله (عليهالسلام) (2) : «هو بمنزلة
الماء». ونحو ذلك من الأخبار المتقدمة مما يقتضي وجوب التيمم مع فقد الماء عند
وجوب ما لا يستباح إلا به ، وعليه الأصحاب من غير خلاف يعرف كما تقدم في المسألة
الاولى من مسائل هذا المطلب إلا منه ومن فخر المحققين كما تقدم بيانه. و (ثانيا) ـ
انه قد صرح هو نفسه في كتاب الحج في الطواف انه يستباح بالطهارة الترابية كما
يستباح بالطهارة المائية عملا بالأخبار المشار إليها ورد على من زعم خلاف ذلك
والحال في المسألتين واحدة ، قال (قدسسره) في الموضع
المشار اليه : «واعلم ان المعروف من مذهب الأصحاب استباحة الطواف بالطهارة
الترابية كما يستباح بالمائية ويدل عليه عموم قوله (عليهالسلام) (3) في صحيحة جميل
«ان الله تعالى جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي صحيحة محمد بن مسلم (4) «هو بمنزلة
الماء». وذهب فخر المحققين الى ان التيمم لا يبيح للجنب الدخول في المسجدين ولا
اللبث فيما عداهما من المساجد ومقتضاه عدم استباحة الطواف به ايضا وهو ضعيف»
انتهى. ومدافعته
__________________
(1 و 2 و 3) المروي في الوسائل في الباب 23 من أبواب التيمم.
(4) لم نقف على رواية لمحمد بن مسلم تتضمن هذا اللفظ وقد ورد
في صحيحة حماد ابن عثمان المتقدمة ص 373.
(قدسسره) لكلامه في
هذه المسألة أظهر من ان يخفى.
(الثاني) ـ ان قوله : «وايضا قد ثبت بالنصوص الصحيحة.
إلخ» مردود بانا متى حملنا الخبر على ما ذكرناه آنفا من الخروج مخرج الغالب كما
اعترف به أخيرا لا انه حكم كلي فلنا ان نعمل بتلك الأخبار المستفيضة في حكم التيمم
وانه لا يسوغ التيمم إلا مع العذر كفقد الماء ، ونقول حينئذ هنا لا ريب في تحريم
اللبث كما ذكره إلا ان الخبر لما دل على جواز اللبث بقدر التيمم لعدم الماء كما
حملنا عليه الخبر فلنا ان نجوز اللبث ذلك المقدار أو أقل منه كما هو المفروض مع
وجود الماء للغسل ، وبالجملة فإنا لا نسلم العمل بالخبر المذكور إلا مع عدم وجود
الماء أو لزوم أحد الأشياء المذكورة وإلا فالواجب هو الغسل بالشرطين المذكورين ،
فاستثناء هذا المقدار من الزمان مما لا نزاع فيه وانما النزاع في ان الواجب في هذا
المقدار هو التيمم مطلقا كما يدعيه أو الغسل على الوجه المذكور.
(الثالث) ـ ان قوله : «وكما جاز ان يكون الأمر بالتيمم
مبنيا على الغالب.» ـ قاصدا بذلك الجواب عما قدمنا ذكره من حمل الخبر على الخروج
مخرج الغالب فلا يكون الحكم كليا ـ فيه (أولا) ـ ان تحريم إزالة النجاسة في المسجد
مما لم يقم عليه دليل كما صرح به هو وغيره ، وتصريح الأصحاب به مع عدم الدليل عليه
لا ينهض حجة ، واليه يشير ايضا كلامه هنا بقوله : «وقد أطلق جملة من الأصحاب.»
و (ثانيا) ـ انه مع تسليمه فان كان من حيث التعدي الى
المسجد أو آلاته فهو لا يلزمنا لأنا قد استثنيناه وإلا فهو مبني على تحريم إدخال
النجاسة المسجد مطلقا وان لم تتعد ، وهو (قدسسره) ممن نازع في
ذلك ورد على الأصحاب في بحث النجاسات من الكتاب فكيف يحتج هنا بما نازع فيه وأبطله
ورده؟ ما هذه إلا مجازفة ظاهرة. وبما حققناه في المقام يظهر لك قوة القول المذكور
وانه عار عن وصمة القصور. والله العالم.
(الثاني) ـ ظاهر جمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) وبه
صرح
آخرون ايضا انه لا فرق في هذا الحكم
بين المحتلم وبين من أجنب في المسجد أو دخله جنبا لاشتراك الجميع في العلة وهو
تحريم قطع شيء من المسجد جنبا مع إمكان الطهارة وعدم تعقل الفرق بين المحتلم
وغيره. ويرد عليه ان مقتضى الأخبار تحريم لبث الجنب في المسجد خرج منه المحتلم
بالنصوص المتقدمة وبقي ما عداه مندرجات تحت عموم الأخبار المذكورة ، وما ذكر من
العلة ليس من قبيل العلة المنصوصة أو مفهوم الموافقة حتى يجب انسحاب الحكم الى ما
ذكروه بناء على القول بذلك فيكون من باب القياس حينئذ ، وعدم تعقل الفرق كما ذكره
لا يدل على العدم واقعا ، ولو أمكن التيمم في أثناء الخروج من غير استلزام لزيادة
الكون قيل لا يبعد وجوبه لقطع بقية الطريق. وفيه تأمل.
(الثالث) ـ هل تلحق بالجنب الحائض في هذا الحكم؟ الظاهر
نعم وفاقا لجملة من الأصحاب لمرفوعة أبي حمزة المتقدمة ، وأنكر ذلك المحقق في
المعتبر لقطع الرواية ولانه لا سبيل لها إلى الطهارة بخلاف الجنب ، ثم حكم
بالاستحباب. واعترضه في الذكرى بأنه اجتهاد في مقابلة النص وبالمعارضة باعترافه
بالاستحباب. وأجاب عنه في الروض بان المحقق طعن في الرواية بالقطع فلا حجة فيها
فيرجع الى الاجتهاد ويصح استناد الاستحباب إلى الرواية للتسامح في دلائل السنن.
أقول : ومرجع هذا الاعتذار الى ان الرواية وان ضعفت
بالقطع عن الدلالة على الوجوب إلا انها تصلح دليلا للاستحباب للتسامح في أدلة
السنن. وهذه القاعدة وان اشتهرت في كلامهم إلا انها لا تخلو من المجازفة في أحكامه
سبحانه ، لما علم من ان الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم فيتوقف على الدليل
الواضح وإلا كان من قبيل القول على الله سبحانه بغير علم ، وقد استفاضت الآيات
القرآنية والأخبار المعصومية بالمنع عنه وحينئذ فالخبر الضعيف ان كان دليلا شرعيا
وجب القول بما دل عليه من وجوب أو استحباب وإلا وجب طرحه والاعراض عنه في جميع
الأبواب ، وقد تقدم في بحث الأغسال المستحبة من هذا الباب ما فيه زيادة تذكرة
لاولى الألباب.
(الرابع) ـ الأشهر الأظهر انه لا يلحق بالمسجدين غيرهما
من المساجد في شرعية التيمم للخروج ، لعدم النص وتوقف العبادة على التوقيف ، وقرب
شيخنا الشهيد في الذكرى استحباب التيمم فيها لما فيه من القرب من الطهارة وعدم
زيادة الكون فيها له على الكون له في المسجدين ، قال في المدارك : «وهو ضعيف
ودليله مزيف» أقول : والظاهر ان وجه الضعف فيه هو ان التيمم انما شرع في المسجدين
لعدم جواز المرور فيهما جنبا فأمر بالتيمم ليكون على طهارة حال خروجه واما سائر
المساجد فإنه يجوز المرور فيها جنبا مع تحريم اللبث فيها ، واما ما ذكره من الدليل
ففيه انه لا وجه لارتكاب أمر محرم لأجل الإتيان بأمر مستحب لما ثبت من تحريم اللبث
فارتكابه لأجل حصول القرب من الطهارة الذي هو أمر مندوب اليه مما لا يكاد يعقل ،
وعدم زيادة الكون فيها على الكون له في المسجدين غير مجد نفعا في المقام لثبوت
التحريم مطلقا خرج منه مورد النص في المسجدين وبقي ما عداه داخلا تحت الإطلاق.
(الخامس) ـ مقتضى الأخبار الواردة في هذه المسألة وكذا
كلام الأصحاب انه لا ينوي بهذا التيمم البدلية عن الغسل وانما ينوي به استباحة
المرور في المسجد خاصة وعلى هذا فلا يكون مبيحا للصلاة ونحوها ، وعلل ذلك أيضا
بأنه يجب عليه الخروج عقيبه بغير فصل متحريا أقرب الطرق.
ولشيخنا الشهيد الثاني هنا في الروض تفصيل حسن قال : «والتحقيق
ان يقال ان كان الغسل ممكنا في المسجد ولم نقل بتقديمه على التيمم فلا إشكال في
عدم اباحة هذا التيمم للإجماع على عدم إباحة الصلاة بالتيمم مع إمكان الغسل ، وان
لم يكن في المسجد فلا يخلو اما ان يكون الغسل ممكنا خارجه كما لو كان الماء موجودا
ولا مانع لهذا المتيمم من الغسل من مرض ولا غيره ، وهنا ايضا يتوجه عدم إباحة
الصلاة لأن وقوعها في المسجد ممتنع لوجوب المبادرة إلى الخروج وبعد الخروج يتمكن
من الغسل فيفسد التيمم ، وانما شرع التيمم هنا مع إمكان الغسل خارجا لتحريم المرور
في المسجدين من دون الغسل أو التيمم
فإذا تعذر الغسل داخله فالتيمم قائم
مقامه في إباحة قطع مسافته ، وان كان الغسل متعذرا خارج المسجد فالوجه كون هذا
التيمم مبيحا لعدم المانع فان التيمم مع تعذر الطهارة يبيح ما تبيحه إلا على قول
ولد المصنف من عدم اباحة دخول المساجد مطلقا بالتيمم وسيأتي بطلانه ، ونمنع حينئذ
وجوب المبادرة إلى الخروج وتحري أقرب الطرق لان ذلك مشروط بإمكان الغسل خارج
المسجد جمعا بين قولهم هنا كذلك وقولهم في باب التيمم انه يبيح ما تبيحه المائية
ومن جملة ما تبيحه المائية اللبث في المسجدين وغيرهما فيصح حينئذ اللبث والصلاة»
انتهى. وهو جيد.
والظاهر ان مبنى الأخبار وكذا كلام الأصحاب فيما قدمنا
نقله عنهما على ما هو الغالب من وجود الماء خارج المسجد ، وحينئذ فلا يستبيح
بتيممه هذا بعد الخروج من المسجد الصلاة ولا غيرها ، واما مع تقدير هذا الفرض
النادر الوقوع فالظاهر ان الحكم فيه هو ما ذكره شيخنا المشار اليه لخروجه عن مقتضى
الأخبار المذكورة واندراج ذلك في جزئيات مسائل باب التيمم.
(المسألة الثامنة) ـ المشهور سيما بين المتأخرين هو
تحريم الطهارة وضوء أو غسلا أو تيمما في المكان المغصوب بل نقل بعض الأفاضل
الإجماع عليه جسما يظهر من اتفاقهم على ذلك في الصلاة ، وممن صرح بالحكم المذكور
شيخنا الشهيد في الألفية والذكرى والعلامة في التذكرة والنهاية والشهيد الثاني في
الروض حتى عدوا الحكم في غير الصلاة والطهارة إلى سائر العبادات الواجبة المشتملة
على فعل ، قال في الروض ـ بعد ذكر تحريم الصلاة في المكان المغصوب مع العلم بالغصب
ـ ما صورته : «ولا فرق في الصلاة هنا بين الفريضة والنافلة ، وكما تبطل الصلاة فيه
فكذا ما أشبهها من الأفعال التي من ضرورتها المكان وان لم يشترط فيها الاستقرار
كالطهارة وأداء الزكاة والخمس والكفارة وقراءة القرآن المنذور ، اما الصوم في
المكان المغصوب فقد قطع الفاضل بجوازه لعدم كونه فعلا فلا مدخل للكون فيه. ويمكن
الاشكال فيه باعتبار النية
فإنها فعل فيتوقف على المكان كالقراءة
وان افترقا بكون أحدهما فعل القلب والآخر فعل اللسان» انتهى.
وجزم في المدارك وقبله المحقق في المعتبر وتبعهما جملة
من أفاضل متأخري المتأخرين بالصحة في الطهارة ونحوها مع جزمهم بالبطلان في الصلاة
، قال في المدارك ـ في باب التيمم في مسألة التيمم بالتراب المغصوب ـ ما لفظه «ولو
تيمم في المكان المغصوب فالأصح انه لا يبطل تيممه إذا كان التراب المضروب عليه
مباحا لتوجه النهي إلى أمر خارج عن العبادة فإن الكون ليس من أفعال التيمم وانما
هو من ضروريات الجسم» انتهى.
وقال في المعتبر بعد ان ذكر انه لا تصح الصلاة في مكان
مغصوب مع العلم بالغصب اختيارا ثم علل ذلك بأنها صلاة منهي عنها والنهي يدل على
فساد المنهي عنه ، ثم قال : (لا يقال) : هذا باطل بالوضوء في المكان المغصوب
وبإزالة عين النجاسة بالماء المغصوب ، وبان النهي يدل على الفساد حيث يكون متناولا
لنفس العبادة وليس في صورة النزاع كذلك بل النهي متناول لعارض خارج عن ماهية
الصلاة فلا يكون مبطلا (لأنا نقول) : الفرق بين الوضوء في المكان والصلاة فيه ان
الكون بالمكان ليس جزء من الوضوء ولا شرطا فيه وليس كذلك الصلاة فإن القيام جزء من
الصلاة وهو منهي عنه لانه استقلال في المكان المنهي عن الاستقلال فيه وكذا السجود
، وإذا بطل القيام والسجود وهما ركنان بطلت الصلاة. وازالة عين النجاسة ليست بعبادة
إلا مع نية التقرب وإذا جاز ان تقع غير عبادة أمكن إزالة النجاسة وان كان المزيل
عاصيا بالإزالة كما يصح ازالة عين النجاسة من الكافر والطفل ، اما الصلاة فإنها لا
تقع إلا عبادة فلا تقع صحيحة مع النهي عنها ، وقوله النهي لم يتناول العبادة قلنا
النهي يتناول العبادة بطريق اللزوم لانه يتناول القيام والسجود ويلزم من بطلانهما
بطلان الصلاة. وجرى على منواله في المنتهى كما هي عادته غالبا من اقتفائه أثر
المعتبر إلا فيما شذ وندر.
واعترضه الشهيدان في الذكرى وشرح الألفية بأن الأفعال
المخصوصة من ضرورتها
المكان فالأمر بها أمر بالكون مع انه
منهي عنه.
أقول : مرجع هذا الإيراد الى ما استدلوا به على بطلان
الصلاة في المكان المغصوب كما سيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الصلاة من ان الحكم
بصحة الصلاة يوجب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وهو محال قطعا وما استلزم
المحال باطل كما اعترف به في المدارك ، حيث قال : لان الحركات والسكنات الواقعة في
المكان المغصوب منهي عنها كما هو المفروض فلا تكون مأمورا بها ضرورة استحالة كون
الشيء الواحد مأمورا به ومنهيا عنه. وهذا الدليل بعينه آت في الطهارة في المكان
المغصوب كما ذكره الشهيدان ، فان الكون في المكان لما كان من ضروريات الجسم
وأفعاله فالأمر بتلك الأفعال أمر بالكون مع انه منهي عنه فيلزم من القول بصحة
الطهارة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد. وظاهرهما موافقة المعتبر في صحة ما
استدل به وفرق به بين الطهارة والصلاة وانما أوردا عليه من طريق آخر وهو جريان الدليل
الذي أبطلوا به الصلاة في المكان المغصوب في الطهارة أيضا.
وقال شيخنا المجلسي (قدسسره) في البحار ـ بعد
نقل الفرق بين الطهارة والصلاة عن المعتبر والمنتهى ـ ما لفظه : «والفرق بين
الطهارة والصلاة في ذلك مشكل ، إذ الكون كما انه مأخوذ في مفهوم السكون مأخوذ في
مفهوم الحركة وليس الوضوء والغسل إلا حركات مخصوصة ، وليس المكان منحصرا فيما
يعتمد عليه الجسم فقط فان الملك والأحكام الشرعية لا تتعلق به خاصة بل يعم الفراغ
الموهوم أو الموجود فكل منهما عبارة عن الكون أو مشتمل عليه» ومحصله ان الصلاة كما
انها عبارة عن حركات مخصوصة من قيام وقعود وركوع وسجود وانتقالات من حال إلى أخرى
فكذلك الوضوء والغسل عبارة عن حركات مخصوصة وان كانت هذه الحركات انما هي في
المكان الذي هو عبارة عن الفراغ الذي يشغله الإنسان دون ما يعتمد عليه وإطلاق
المكان والكون شامل لكل منهما ، فعين ما قالاه في الصلاة ـ من ان القيام والسجود
ونحوهما
منهي عنها والنهي يقتضي الفساد ـ يقال
في حركات الوضوء والغسل من رفع اليد ووضعها وامرارها على الجسد وقيامه ونحو ذلك
أنها منهي عنها لأنها تصرف في المكان المغصوب ، وهي وان لم تكن جزء من الطهارة إلا
انها شرط فيها ولازم لها لا تتم بدونه والنهي عنها موجب لبطلان الطهارة البتة ،
فيكون الحكم في الطهارة والصلاة واحدا ولا يظهر لهذا الفرق الذي ذكراه معنى محصل.
وسيأتي ان شاء الله تعالى تمام القول في هذه المسألة في
كتاب الصلاة عند تحقيق القول في حكم الصلاة في المغصوب وما وقع من الخلاف في
المقام وما اشتمل عليه من النقض والإبرام وبيان ما هو المختار عندي في كل من
المسألتين. والله العالم.
(المسألة التاسعة) ـ الظاهر انه لا خلاف في استحباب
التيمم للنوم ولو مع وجود الماء ، ويدل عليه ما رواه الصدوق والشيخ عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «من
تطهر ثم أوى إلى فراشه بات وفراشه كمسجده فان ذكر انه على غير وضوء فليتيمم من
دثاره كائنا ما كان فان فعل ذلك لم يزل في صلاة ما ذكر الله تعالى».
والمشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ـ جوازه
كذلك للجنازة واحتج عليه بموثقة سماعة (2) قال : «سألته عن رجل مرت به جنازة
وهو على غير طهر كيف يصنع؟ قال يضرب بيديه على حائط اللبن فيتيمم به». وقيده ابن
الجنيد بخوف فوت الصلاة ، وقال في المعتبر بعد نقل قول الشيخ : «وفيما ذكره الشيخ
إشكال ، اما الإجماع فلا نعلمه كما علمه ، واما الرواية فضعيفة من وجهين : (أحدهما)
ـ ان زرعة وسماعة واقفيان. و (الثاني) ـ ان المسؤول في الرواية مجهول ، فاذن
التمسك باشتراط عدم الماء في جواز التيمم أصل ، ولأن الرواية ليست صريحة في الجواز
مع وجود الماء ، لكن لو قيل إذا فاجأته الجنازة وخشي فوتها مع الطهارة تيمم لها
كان حسنا لأن الطهارة لما لم
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 9 من أبواب الوضوء.
(2) المروية في الوسائل في الباب 21 من أبواب صلاة الجنازة.
تكن شرطا وكان التيمم أحد الطهورين
فمع خوف الفوت لا بأس بالتيمم لان حال المتيمم أقرب الى شبه المتطهرين من الخالي
منه» انتهى. وهو راجع الى مذهب ابن الجنيد في المسألة ، وأجاب عنه الشهيدان في
الذكرى والروض انه مردود بحجية الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وضعف الرواية مجبور
بعمل الأصحاب بها وهي ظاهرة في المراد.
ومن اخبار المسألة أيضا ما رواه في الكافي في الصحيح أو
الحسن عن الحلبي (1) قال : «سئل
أبو عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
تدركه الجنازة وهو على غير وضوء فان ذهب يتوضأ فاتته الصلاة؟ قال يتيمم ويصلي». ويمكن
الاستدلال بهذه الرواية لابن الجنيد إلا ان التقييد بخوف الفوت انما وقع في كلام
السائل.
وبالجملة فإنه لا ريب في الاستحباب في الموضعين
المذكورين للأخبار المتقدمة ، وانما الكلام في انه هل يستحب في كل موضع يستحب فيه
الوضوء أو الغسل مطلقا أم لا؟ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيدان والمحقق
الشيخ علي بأنه لا إشكال في استحبابه إذا كان المبدل رافعا إنما الإشكال فيما عدا
ذلك ، قال في الروض بعد حكمه بالبدلية عن الرافع : وهل يستحب بدلا عن غير الرافع
كنوم الجنب وذكر الحائض؟ يحتمله لحلوله محل الرافع فغيره اولى ، والعدم لعدم النص.
ويستحب ايضا بدلا عن غسل الإحرام مع تعذره ، وهل يستحب بدلا عن غيره؟ وجهان
أرجحهما العدم لعدم النص ، وعلى القول برفع الغسل المندوب الحدث كما ذهب اليه
المرتضى لا إشكال في الاستحباب ويكون مبيحا للصلاة. انتهى. وقال في المدارك : هل
يستحب التيمم بدلا عن الغسل المستحب مع تعذره؟ فيه وجهان أظهرهما العدم وان قلنا
انه رافع لعدم النص ، وجزم جدي (قدسسره) بالاستحباب
على هذا التقدير ، وهو مشكل. انتهى.
أقول : الظاهر من كلامهم ـ كما أشرنا إليه ـ انه لا
إشكال في البدلية عن الرافع غسلا كان أو وضوء استنادا إلى إطلاق النصوص الدالة على
البدلية ، فإن الظاهر ـ من
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 21 من أبواب صلاة الجنازة.
قوله (عليهالسلام) في بعضها (1) «ان الله جعل
التراب طهورا كما جعل الماء طهورا». وفي آخر (2) «هو بمنزلة الماء». وفي ثالث (3) «هو أحد
الطهورين». ونحو ذلك ـ هو انه في كل موضع تكون الطهارة المائية رافعة مبيحة للصلاة
فإن التيمم يقع بدلا عنها فحيثما ثبتت الطهارة المائية ثبتت البدلية ، إنما
الإشكال فيما لو لم يكن كذلك كوضوء الحائض للذكر ونوم الجنب والأغسال المستحبة على
المشهور من عدم كونها رافعة ، وحينئذ فتوقفه في المدارك في البدلية عن الغسل
المستحب على تقدير كونه رافعا لعدم النص لا وجه له ، لانه وان لم يرد بذلك نص على
الخصوص إلا انه داخل تحت إطلاق الأخبار المذكورة وهو كاف في الاستدلال. وظاهر كلام
شيخنا في الروض ورود النص ببدلية التيمم عن غسل الإحرام خاصة من بين الأغسال
المستحبة ، ولم أقف عليه فيما حضرني من كتب الاخبار.
وممن ناقش في هذا الحكم على إطلاقه أيضا الفاضل الخوانساري
في شرحه على الدروس حيث قال ـ بعد قول المصنف : ويستحب التيمم بدلا من الوضوء
المستحب الرافع ـ ما هذا لفظه : «في هذا الحكم على إطلاقه نظر بل استحباب التيمم
انما يكون فيما فيه نص أو إجماع أو شهرة وليس كذلك كل ما يستحب فيه الوضوء الرافع
كما هو الظاهر ، نعم ما ورد فيه الأمر الاستحبابي بالطهارة مطلقا كما ورد في دخول
المساجد لم يبعد ايضا الحكم باستحباب التيمم حال فقدان الماء لأنه طهور ايضا»
انتهى. وملخصه انه ينبغي ملاحظة الدليل في جزئيات الأحكام فان دل على انه مما
يستحب فيه الطهارة فلا إشكال في استحباب التيمم بدلا عنه لظاهر قوله سبحانه : «وَلكِنْ يُرِيدُ
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب التيمم.
(2) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب التيمم.
(3) ورد في صحيحة زرارة المروية في الوسائل في الباب 21 من
التيمم «ان التيمم أحد الطهورين». وفي صحيحة محمد بن مسلم المروية في الوسائل في
الباب 14 و 23 من التيمم «قد فعل أحد الطهورين».
لِيُطَهِّرَكُمْ» (1) وإطلاق
الأخبار المتقدمة بالتقريب المذكور ذيلها ، وان دل على انه مما يستحب فيه الوضوء
أو الغسل فان التيمم لا يستحب بدلا عنه إلا بدليل ، لعدم الملازمة بين خصوصية هذين
الفردين وبين التيمم بخلاف الأول لاشتراكهما في كلية الطهارة وما يتراءى من حديث
ابي ذر (2) وقوله (صلىاللهعليهوآله) : «يجزيك
التراب عشر سنين». ونحوه فهو مقصور على مورده من الطهارة للصلاة.
وهذا الكلام وان كان بحسب الظاهر وبادئ الرأي مما يتراءى
قوته إلا انه بالتأمل فيه بعين التحقيق لا يخلو من نظر لتطرق المناقشة اليه ، وذلك
فان الظاهر من اخبار هذه الأفراد التي وردت الأخبار باستحباب الوضوء أو الغسل لها
انما هو من حيث إرادة إيقاعها على الوجه الأكمل بالطهارة الموجبة لزوال الحالة
الحديثة ، وهذا المعنى لا يتفاوت فيه التعبير بلفظ الطهارة أو لفظ الوضوء إذ
المرجع إلى أمر واحد كما عرفت وهو ازالة تلك الحالة وإيقاع الفعل أو الكون على تلك
الحالة الكاملة ، ولهذا عبر في اخبار تلك الموارد بلفظ الطهارة في بعض ولفظ الوضوء
في بعض ، ففي رواية مرازم ابن حكيم (3) المروية في المجالس بالنسبة إلى
استحباب الوضوء لدخول المساجد قال : «ومن أتاها متطهرا طهره الله من ذنوبه». وفي
مرسلة الفقيه (4) «طوبى لعبد
تطهر في بيته ثم زارني في بيتي». ورواية محمد بن الفضيل (5) المروية في
قرب الاسناد بالنسبة الى قراءة القرآن قال : «لا حتى تتوضأ للصلاة». وفي حديث
الأربع مائة (6) «لا يقرأ العبد
القرآن إذا كان على غير طهر حتى يتطهر». وفي رواية محمد بن كردوس (7) بالنسبة
__________________
(1) سورة المائدة. الآية 6.
(2) رواه في الوسائل في الباب 14 و 23 من أبواب التيمم واللفظ
الوارد «يكفيك الصعيد».
(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 10 من أبواب الوضوء.
(5 و 6) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب قراءة
القرآن.
(7) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الوضوء.
الى النوم «من تطهر ثم أوى إلى فراشه
بات وفراشه كمسجده». وفي رواية محمد بن مسلم (1) المروية في الخصال والعلل «لا ينام
المسلم وهو جنب ولا ينام إلا على طهور فان لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد فان روح
المؤمن تصعد الى الله تعالى فيلقاها ويبارك عليها. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ صريح
في استحباب التيمم بدلا عن الغسل المستحب ، الى غير ذلك من الأخبار الواردة
باستحباب الوضوء في تلك المواضع المذكورة في كلام الأصحاب المشتملة على التعبير
بلفظ الطهارة أو الوضوء. وينبغي القول بذلك ايضا فيما كان من الأغسال ـ بناء على
كونها رافعة كما هو الأظهر ـ مقصودا به الرفع كالأغسال الفعلية بالتقريب المتقدم ،
ونحوها الأغسال المكانية ، وفي دخول الأغسال الزمانية بناء على القول المذكور كما
يقول الأصحاب احتمال. وبالجملة فإنه حيث ان هذه الثلاثة أعني الوضوء والغسل
والتيمم قد اشتركت في عنوان الطهارة وان المقصود منها ذلك سواء عبر عن ذلك في كل
منها بهذا العنوان أو بخصوصية ذلك الفرد فحيثما تعذرا كان قائما مقامهما وبدلا
منهما ، وتخرج الأخبار المتقدمة ونحوها شاهدا على ذلك من خبر ابي ذر ونحوه ، فان
المعنى المتبادر من قوله (صلىاللهعليهوآله) (2) : «يجزيك
الصعيد عشر سنين». انما هو في كل موضع توقف على الطهارة وجوبا أو استحبابا ، ومن
ذلك يظهر قوة القول المشهور. نعم ما ذكروه من التفصيل والمناقشة جيدة بالنسبة الى
ما يجب له الوضوء أو الغسل كما أشار إليه السيد السند في المدارك وان كان كلامه
هنا لا يخلو من خلل وقصور كما أوضحناه في شرحنا على الكتاب المذكور. والله العالم.
(المسألة العاشرة) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) وبه صرح الشيخ في الخلاف انه إذا تيمم الجنب بدلا من الغسل ثم أحدث أعاد
التيمم بدلا من الغسل سواء كان حدثا أصغر أو أكبر ، للإجماع المدعى من الشيخ
والمحقق في المعتبر على ان التيمم لا يرفع الحدث ولهذا إنما ينوي به الاستباحة دون
الرفع ، وقد تقدم
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الوضوء.
(2) ص 414.
الكلام في هذه المسألة في المقام
الأول من المطلب الثالث ، وحينئذ فمتى أحدث زالت الاستباحة وعاد حكم الحدث الأول
فيجب التيمم بدلا من الغسل وجد ماء للوضوء أو لم يجد ، ويدل على بقاء الجنابة وعدم
ارتفاعها إلا بالغسل قول ابي جعفر (عليهالسلام) في صحيحة
زرارة (1) «ومتى أصبت
الماء فعليك الغسل ان كنت جنبا والوضوء ان لم تكن جنبا». واستدل في المختلف لهذا
القول بصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (2)
«في رجل أجنب في سفر ومعه ماء قدر ما يتوضأ به؟ قال
يتيمم ولا يتوضأ». وفيه ما أوضحناه في الفرع العاشر من الفروع المذكورة في المطلب
الأول (3) وعن المرتضى
في شرح الرسالة ان الجنب إذا تيمم ثم أحدث حدثا أصغر فوجد ما يكفيه للوضوء توضأ به
فان حدثه الأول قد ارتفع وجاء ما يوجب الصغرى وقد وجد من الماء ما يكفي لها فيجب
عليه استعماله ولا يجزئه تيممه. انتهى. ومقتضاه انه لو لم يجد الماء تيمم بدلا من
الصغرى خاصة. ورد هذا القول بناء على المشهور بدعوى الإجماع ـ كما أشرنا إليه آنفا
ـ على عدم رفع التيمم الحدث ، فقوله ان الحدث الأول قد ارتفع باطل. واعتذر عنه في
الذكرى بأنه يمكن ان يريد بارتفاع حدثه استباحة الصلاة وان الجنابة لم تبق مانعة
فلا ينسب الى مخالفة الإجماع. واعترضه في الروض بعد تضعيفه لمذهب المرتضى بمخالفته
الإجماع بأن هذه الإرادة لا تدفع الضعف لأن الاستباحة إذا لم تستلزم الرفع
فبطلانها بالحدث يوجب تعلق حكم الحدث الأول. وهو جيد فان مقتضى كلام المرتضى ان
حكم هذا الحدث في هذا الموضع حكمه بعد الطهارة المائية في كونه موجبا للصغرى لا
انه موجب لعود الحدث الأول كما يقولون به ، وهذا لا يتم إلا على تقدير كون التيمم
قد رفع الحدث الأول وازاله لا على انه انما حصلت به الاستباحة وان كان
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب التيمم.
(2) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب التيمم.
(3) ص 260.
الحدث باقيا واي وجه للوضوء في كلامه
مع بقاء حدث الجنابة؟ وبالجملة فحمل الرفع في كلامه على الاستباحة غير جيد.
والسيد السند في المدارك ـ بناء على ما اختاره من القول
بترادف الرفع والاستباحة وانه لا مانع من نية الرفع بالتيمم بان يراد الرفع إلى
غاية وجود الماء كما هو القول الآخر في المسألة المتقدمة في الموضع المشار اليه
آنفا وحمل الرفع في عبارة المرتضى على هذا المعنى ـ أجاب عن كلام السيد (قدسسره) فقال :
وجوابه المنع من ارتفاع الحدث السابق الى ان يتمكن من الغسل بل القدر المتحقق
ارتفاعه الى ان يحصل أحد الأمرين اما التمكن من الغسل أو الحدث ومع حصول أحدهما
ينتهي الرفع ويظهر اثر الحدث السابق انتهى.
أقول : لقائل أن يقول بناء على ما اختاره من كون التيمم
رافعا إلى غاية لا ريب انه قد قام الدليل على ان وجود الماء موجب لنقض التيمم وعود
الحدث السابق كما تدل عليه صحيحة زرارة المذكورة وحينئذ فالتيمم يكون رافعا إلى
غاية وجود الماء ، واما الحدث الأصغر فلم يقم دليل على انه بهذه المثابة وانما
القدر المتحقق هو نقضه للتيمم على حسب نقضه للطهارة المائية ورفعها وإيجاب مسببه
لا عود الحدث الأول حتى كأن لم يكن ثمة طهارة كما هو المفروض في نقض وجود الماء
للتيمم ، ومن ثم أوجب المرتضى هنا الوضوء إذا وجد الماء لان حدث الجنابة عنده قد
ارتفع بالتيمم الى وجود الماء ، وبالجملة فدعوى ان الحدث حكمه هنا حكم الماء في
عود الحدث الأول بعروضه تحتاج الى دليل وليس فليس ، وبذلك يظهر قوة ما ذهب اليه
المرتضى (رضياللهعنه) الا انه لما
كانت المسألة عارية عن النص الواضح فالاحتياط فيها مما لا ينبغي تركه بحال ، والى
ما ذكرناه من تقوية قول المرتضى (رضياللهعنه) يميل كلام
الفاضل الخراساني في الذخيرة.
وبالجملة فالظاهر ان الخلاف في هذه المسألة متفرع على
الخلاف في المسألة التي قدمناها
في الموضع المشار اليه آنفا والقول
المشهور في هذه المسألة جار على القول المشهور ثمة ، فإن حكمهم بإعادة التيمم بدلا
من الغسل متى أحدث انما هو من حيث ان التيمم انما أفاد رفع المنع خاصة واباحة
الدخول في العبادة وان كان الحدث باقيا وما ذهب اليه المرتضى جار على القول الآخر
من الرفع بالتيمم وان كان الرفع انما هو الى غاية وجود الماء ، وكلام السيد (قدسسره) وان كان
مطلقا إلا انه يجب تقييده بما ذكرنا صونا له عن الخروج عن مقتضى النص الصحيح
المتقدم ، وحينئذ فالتيمم عنده رافع الى وجود الماء. واما الحدث الأصغر بعد التيمم
فقد عرفت ان الحكم فيه عنده حكمه مع طروه على الطهارة المائية.
والمحدث الكاشاني في المفاتيح ـ بعد ان صرح بان القول
المشهور مبني على كون التيمم انما يحصل به الإباحة دون الرفع ـ قال : «على انه لو
قيل ان التيمم انما يفيد الإباحة دون الرفع فالإباحة بالتيمم الأول ثابتة فيستصحب
حكمها حتى يعلم رفعها والمعلوم قطعا مانعية الأصغر لا عود الأكبر» انتهى. وهو جيد
بناء على القول بحجية الاستصحاب كما عليه جمهور الأصحاب ، واما من لا يراه دليلا
شرعيا كما حققناه في مقدمات الكتاب فلا يتجه عنده هذا الكلام إلا انه صالح
للإلزام. والله العالم.
(تم الجزء الرابع من كتاب الحدائق الناضرة ، ويتلوه الجزء الخامس في الطهارة من النجاسات وما يتبعها من ذكر النجاسات وأحكامها وأحكام الأواني والجلود. والحمد لله أولا وآخرا).