ج2 - كيفية الوضوء

الفصل الثاني

في كيفية الوضوء الواجبة

وهي تعتمد أركانا خمسة:

الركن الأول ـ النية

ولا ريب ان النية ـ في جملة أفعال العقلاء العارية عن السهو والنسيان ـ مما يجزم بتصورها بديهة الوجدان ، لارتكازها في الأذهان ، فهي في التحقيق غنية عن البيان ، فعدم التعرض لها أحرى بالدخول في حيز القبول ، ومن ثم خلا عن التعرض لها كلام متقدمي علمائنا الفحول ، وطوي البحث عنها في اخبار آل الرسول ، إلا انه لما انتشر الكلام فيها بين جملة من متأخري الأصحاب ، وكان بعضه لا يخلو من اشكال واضطراب ، أحببنا الولوج معهم في هذا الباب ، وتنقيح ما هو الحق عندنا والصواب جريا على وتيرتهم (رضوان الله عليهم) فيما قعدوا فيه وقاموا ، وأسامة لسرح اللحظ حيث اساموا. وقد أحببنا أن نأتي على جملة ما يتعلق بالنية من الأحكام بل كل ما له ارتباط بها في المقام ونحو ذلك مما يدخل في سلك هذا النظام على وجه لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام وفضلائنا العظام ، فنقول : البحث فيها يقع في مقامات :

(المقام الأول) ـ لا ريب في وجوب النية في الوضوء بل في جملة العبادات ، والوجه فيه انه لما كان الفعل من حيث هو ممكن الوقوع على أنحاء شتى ـ ولا يعقل انصرافه إلى شي‌ء منها إلا بالقصد إلى ذلك الشي‌ء بخصوصه ، ولا يترتب عليه أثره

__________________

(1) ج 1 ص 32.


إلا بذلك ، مثلا ـ الدخول تحت الماء من حيث هو صالح لأن يقصد به التبرد أو التسخن تارة ، وازالة الوسخ اخرى والغسل مثلا ، وإخراج شي‌ء من الماء ونحو ذلك ، فلا ينصرف إلى واحد من هذه الأشياء أو أزيد إلا بنيته وقصده. ومثل ذلك لطمة اليتيم تأديبا وظلما وهكذا جميع أفعال العقلاء من عبادات وغيرها لا يمكن تجردها وخلوها من النية والقصد بالكلية ، وإلى ذلك يشير ما صرح به بعض فضلائنا واستحسنه آخرون ، من انه لو كلفنا الله العمل بلا نية لكان تكليفا بما لا يطاق ـ فالعبادة لا تكون عبادة يترتب عليها أثرها ويمتاز بعض أصنافها عن بعض إلا بالقصود والنيات ففي العبادة الواجبة تكون النية واجبة شرطا أو شطرا ، لعدم تعينها ـ كما عرفت ـ وتشخصها إلا بها ، وفي المندوبة تكون من شروط صحتها جزء كانت أو خارجة ، كغيرها من الأفعال التي لا تصح إلا بها. وعدم الاتصاف بالوجوب فيها ـ ولا في غيرها مما هو واجب في الفريضة وشرط في صحتها ـ انما هو من حيث انه لا يعقل وجوب الشرط أو الجزء مع ندبية المشروط أو الكل ، وربما عبروا عن مثل ذلك بالوجوب الشرطي.

ويدل على أصل ما قلناه ما رواه في التهذيب (1) مرسلا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله : «إنما الأعمال بالنيات». وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «انما لكل امرئ ما نوى». وقول علي بن الحسين (عليهما‌السلام) في حسنة الثمالي : «لا عمل إلا بنية» (2). فإن الظاهر ان المراد بالنية هنا المعنى اللغوي. لأصالة عدم النقل ، بمعنى

__________________

(1) ج 1 ص 63 ، وفي الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(2) ومن الأخبار في ذلك صحيحة علي بن جعفر المروية في الفقيه والتهذيب عن أخيه موسى (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الأضحية يخطئ الذي يذبحها فيسمى غير صاحبها اتجزئ عن صاحب الأضحية؟ فقال : نعم ، انما له ما نوى». والظاهر ان المراد منه انما للذابح ما نواه أولا دون ما سماه حال الذبح غلطا. ويحتمل انما لصاحب الذبيحة ما نواه الذابح


إنما الأعمال حاصلة بالقصود والنيات ، وانما لكل امرئ ما قصده ، وانه لا عمل حاصل إلا متلبسا بقصد ونية. فالأول والثالث صريحا الدلالة في عدم حصول العمل بالاختيار من النفس إلا بقصدها إلى إصداره ، والثاني صريح في ان المرء لا يستحق من جزاء عمله الاجزاء ما قصده ، كما يدل عليه السبب فيه ، وينادي به تتمته من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه» (1). ومن هنا يعلم ان مدار الأعمال ـ وجودا وعدما واتحادا وتعددا وجزاءها ثوابا وعقابا ـ على القصود والنيات.

وبما ذكرنا ثبت ما ادعيناه من ضرورية النية في جميع الأعمال ، وعدم احتياجها الى تكلف واحتمال ، ووجوبها في جميع العبادات المترتب صحتها عليها ، فإن الأعمال كالاشباح والقصود لها كالارواح.

هذا وجملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) لما حكموا بوجوب النية في جميع العبادات وفسروها بالمعنى الشرعي ، أشكل عليهم الاستدلال على الوجوب :

فاستدل بعض ـ منهم : السيد السند في المدارك ـ على ذلك بما قدمنا من الاخبار ، واعترضه آخرون بمنع ذلك ، قالوا : لان الظاهر من الحصر في حديثي «إنما الأعمال بالنيات». و «لا عمل إلا بنية» (2). انتفاء حقيقة العمل عند انتفاء النية ، وهو باطل ، فلما تعذر الحمل على الحقيقة فلا بد من المصير إلى أقرب المجازات. والتجوز بالحمل على نفي الصحة ـ كما يدعيه المستدل ـ ليس اولى من الحمل على نفي الثواب. ولو قيل :

__________________

سمى أو لم يسم. وصحيحة أخرى له أيضا عن أخيه (عليه‌السلام) «عن الرجل يحلف وينسى ما قال؟ قال : هو على ما نوى». (منه رحمه‌الله).

(1) رواه في الوافي ج 3 ص 71 وفي المستدرك ج 1 ص 8.

(2) المرويين في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب مقدمة العبادات.


ان الأول أقرب إلى الحقيقة ، عورض بان حملهما عليه يستلزم التخصيص في الأعمال ، فإنها أعم من العبادات التي هي محل الاستدلال ، فيخرج كثير من الأعمال حينئذ من الحكم.

واما الحديث الثالث (1) فلا انطباق له على مدعاهم بالكلية ، لما أوضحناه سابقا مؤيدا بتتمته وعلته (2).

نعم ربما يستدل لهم بما رواه الشيخ (رحمه‌الله) في كتاب الأمالي (3) بسنده فيه عن أبي الصلت عن الرضا عن آبائه (عليهم‌السلام) عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «لا قول إلا بعمل ، ولا قول وعمل إلا بنية ، ولا قول وعمل ونية إلا بإصابة السنة».

وما رواه في كتاب بصائر الدرجات (4) بسنده فيه عن علي (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا قول الا بعمل ، ولا عمل إلا بنية ، ولا عمل ونية إلا بإصابة السنة».

فان الظاهر من سياق الخبرين ان المراد بالعمل فيهما العبادة ، وحينئذ فالنية عبارة عن المعنى الشرعي المشترط في صحة العبادة.

(المقام الثاني) ـ قد عرف جملة من أصحابنا النية شرعا بأنها القصد المقارن للفعل ، قالوا : فلو تقدمت ولم تقارن سمى ذلك عزما لا نية. وأصل هذا التعريف للمتكلمين ، فإنهم ـ على ما نقل عنهم ـ عرفوها بأنها الإرادة من الفاعل للفعل بالمقارنة له

وللأصحاب (رضوان الله عليهم) في بيان المقارنة في نية الصلاة اختلاف فاحش :

قال العلامة (رحمه‌الله) في التذكرة : «الواجب اقتران النية بالتكبير ، بان

__________________

(1) وهو قوله (ع) : «انما لكل امرئ ما نوى» المتقدم في الصحيفة 171.

(2) المتقدمة في الصحيفة 172.

(3) في الصحيفة 215 ، وفي الوسائل عن غير الأمالي في الباب ـ 5 ـ من أبواب مقدمة العادات.

(4) في الصحيفة 3 ، وفي الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب مقدمة العبادات.


يأتي بكمال النية قبله ثم يبتدئ بالتكبير بلا فصل ، وهذا تصح صلاته إجماعا» قال : «ولو ابتدأ بالنية بالقلب حال ابتداء التكبير باللسان ثم فرغ منهما دفعة واحدة ، فالوجه الصحة».

ونقل الشهيد (رحمه‌الله) عن بعض الأصحاب انه أوجب إيقاع النية بأسرها بين الألف والراء ، قال : «وهو ـ مع العسر ـ مقتض لحصول أول التكبير بلا نية»

ونقل السيد السند في المدارك عن العلامة والشهيد انهما أوجبا استحضار النية إلى انتهاء التكبير ، لان الدخول في الصلاة إنما يتحقق بتمام التكبير.

ورده بلزوم العسر ، وان الأصل براءة الذمة عن هذا التكليف ، وان الدخول في الصلاة يتحقق بالشروع في التكبير ، لانه جزء من الصلاة بإجماعنا ، فإذا قارنت النية أوله فقد قارنت أول الصلاة ، لأن جزء الجزء جزء ، ولا ينافي ذلك توقف التحريم على انتهائه. انتهى.

وفي البال اني وقفت منذ مدة على كلام للعلامة (رضي‌الله‌عنه) الظاهر انه في أجوبة مسائل السيد مهنا بن سنان المدني في المقارنة ، قال (رحمه‌الله) حكاية عن نفسه : «انى أتصور الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها ثم اقصد إليها ، فاقارن بها النية» والكتاب لا يحضرني الآن لا حكي صورة عبارته ولكن في البال ان حاصله ذلك.

أقول : لا يخفى عليك ـ بعد تأمل معنى النية ومعرفة حقيقتها ـ ان جملة هذه الأقوال بعيدة عن جادة الاعتدال ، فإنها مبنية على ان النية عبارة عن هذا الحديث النفسي والتصوير الفكري ، وهو ما يترجمه قول المصلي ـ مثلا ـ : «أصلي فرض الظهر أداء لوجوبه قربة إلى الله» والمقارنة بها بان يحضر المكلف عند ارادة الدخول في الصلاة ذلك بباله وينظر اليه بفكره وخياله ، ثم يأتي ـ بعد الفراغ من تصويره بلا فصل ـ بالتكبير كما هو المجمع على صحته عندهم ، أو يبسط ذلك على التلفظ بالتكبير ويمده بامتداده كما هو القول الآخر ، أو يجعله بين الالف والراء كما هو القول الثالث. وكل


ذلك محض تكلف وشطط ، وغفلة عن معنى النية أوقع في الغلط ، فإنه لا يخفى على المتأمل انه ليست النية بالنسبة إلى الصلاة إلا كغيرها من سائر أفعال المكلف من قيامه وقعوده واكله وشربه وضربه ومغداه ومجيئه ونحو ذلك. ولا ريب ان كل عاقل غير غافل ولا ذاهل لا يصدر عنه فعل من هذه الأفعال إلا مع قصد ونية سابقة عليه ناشئة من تصور ما يترتب عليه من الأغراض الباعثة والأسباب الحاملة له على ذلك الفعل ، بل هو أمر طبيعي وخلق جبلي لو أراد الانفكاك عنه لم يتيسر له إلا بتحويل النفس عن تلك الدواعي الموجبة والأسباب الحاملة ، ولهذا قال بعض من عقل هذا المعنى من الأفاضل ـ كما قدمنا نقله عنه ـ : «لو كلفنا العمل بغير نية لكان تكليفا بما لا يطلق» ومع هذا لا نرى المكلف في حال ارادة فعل من هذه الأفعال يحصل له عسر في النية ولا اشكال ولا وسوسة ولا فكر ولا ملاحظة مقارنة ولا غير ذلك مما اعتبروه في ذلك المجال ، مع ان فعله واقع بنية وقصد مقارن البتة ، فإذا شرع في شي‌ء من العبادات اضطرب في أمرها وحار في فكرها ، وربما اعتراه في تلك الحال الجنون مع كونه في سائر أفعاله على غاية من الرزانة والسكون ، وهل فرق بين العبادة وغيرها إلا بقصد القربة والإخلاص فيها لذي الجلال؟ وهو غير محل البحث عندهم في ذلك المجال ، مع انه أيضا لا يوجب تشويشا في البال ولا اضطرابا في الخيال.

وان أردت مزيد إيضاح لما قلناه فانظر إلى نفسك ، إذا كنت جالسا في مجلسك ودخل عليك رجل عزيز حقيق بالقيام له والتواضع ، ففي حال دخوله قمت له إجلالا وإعظاما كما هو الجاري في رسم العادة ، فهل يجب عليك أن تتصور في بالك «أقوم تواضعا لفلان لاستحقاقه ذلك قربة إلى الله»؟ وإلا لكان قيامك له من غير هذا التصور خاليا من النية ، فلا يسمى تواضعا ولا يترتب عليه ثواب ولا مدح ، أم يكفي مجرد قيامك خاليا من هذا التصور ، وانه واقع بنية وقصد على جهة الإجلال والإعظام


الموجب للمدح والثواب ، ومن المقطوع به انك لو تكلفت تخيل ذلك بجنانك وذكرته على لسانك لكنت سخرية لكل سامع ومضحكة في المجامع ، وهذا شأن النية في الصلاة أيضا ، فإن المكلف إذا دخل عليه وقت الظهر مثلا وهو عالم بوجوب ذلك الفرض سابقا وعالم بكيفيته وكميته. وكان الغرض الحامل له على الإتيان به الامتثال لأمر الله سبحانه مثلا ، ثم قام عن مكانه وسارع إلى الوضوء ، ثم توجه إلى مسجده ووقف في مصلاه مستقبلا ، وأذن وأقام ثم كبر واستمر في صلاته ، فان صلاته صحيحة شرعية مشتملة على النية والقربة.

وان أردت مزيد إيضاح لمعنى النية فاعلم ان النية المعتبرة مطلقا إنما هي عبارة عن انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها عاجلا أو آجلا ، وهذا الانبعاث والميل إذا لم يكن حاصلا لها قبل فلا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد النطق باللسان أو تصوير تلك المعاني بالجنان هيهات هيهات ، بل ذلك من جملة الهذيان ، مثلا ـ إذا غلب على قلب المدرس أو المصلي حب الشهرة وحسن الصيت واستمالة القلوب اليه لكونه صاحب فضيلة أو كونه ملازم العبادة ، وكان ذلك هو الحامل له على تدريسه أو عبادته ، فإنه لا يتمكن من التدريس أو الصلاة بنية القربة أصلا وان قال بلسانه أو تصور بجنانه «أصلي أو أدرس قربة الى الله» وما دام لم يتحول عن تلك الأسباب الأولة وينتقل عن تلك الدواعي السابقة إلى غيرها مما يقتضي الإخلاص له تعالى ، فلا يتمكن من نية القربة بالكلية ، وحينئذ فإذا كانت النية إنما هي عبارة عن هذا القصد البسيط الذي لا تركيب فيه بوجه ، ولا يمكن مفارقته لصاحبه بعد تصور تلك الأسباب الحاملة على الفعل إلا بعد الدخول في الفعل ، فكيف يتم ما ذكروه من معاني المقارنة المقتضية للتركيب وحصول الابتداء فيه والانتهاء ، بامتداده بامتداد التكبير وانحصاره بين حاصرين من الهمزة والراء؟ الى غير ذلك من التخريجات العرية عن الدليل ، والتمحلات الخارجة عن نهج السبيل ، الموقعة للناس في تيه الحيرة والالتباس والوقوع في شباك الوسواس الخناس.


(المقام الثالث) ـ لما كانت النية ـ كما أشرنا آنفا ـ هي المعينة والمشخصة لخصوصية الفعل ـ كما دلت عليه تلك الأخبار ، وان مدار الأعمال ـ وجودا وعدما واتحادا وتعددا ومدار جزأيها ثوابا وعقابا ـ على القصود كما بيناه آنفا ، وانها للأعمال كالارواح للاشباح لا قوام لها بدونها إلا قواما صوريا ، وان المرء لا يستحق من جزاء عمله الاجزاء ما قصد ، فلا يستحق جزاء ما لم يتعلق به قصد ولا جزاء عمل قصد سواه ـ وجب تصحيح القصود في الأعمال على وجه يترتب عليه الثواب والنجاة من العقاب ، وهو لا يحصل في العبادات إلا بقصد الفعل خالصا له سبحانه ، لقوله عز شأنه : «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...» (1) وقوله : «واعبدوا الله مخلصين له الدين» (2) وقوله : «قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي» (3) الى غير ذلك من الآيات ، ويتلوها نحوها في ذلك من الروايات.

وهو يتحقق بأحد أمور : (منها) ـ قصد طاعة الله تعالى والتقرب اليه. و (منها) ـ قصد رضاه تعالى. و (منها) ـ قصد تحصيل الثواب ودفع العقاب أو أحدهما.

ولا خلاف ـ فيما أعلم ـ في صحة العبادة بهذه القصود إلا في الأخير ، فإن ظاهر المشهور بين الأصحاب ـ بل ادعى عليه الإجماع ـ بطلان العبادة به.

والذي اختاره جماعة من متأخري المتأخرين هو الصحة ، وهو المؤيد بالآيات والروايات :

كقوله سبحانه : «... يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...» (4) وقوله تعالى : «... وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً ...» (5).

__________________

(1) سورة البينة الآية 5.

(2) لم نعثر عليه بعد التتبع في المرشد.

(3) سورة الزمر الآية 14.

(4) سورة السجدة الآية 17.

(5) سورة الأنبياء الآية 91.


وما روى في الحسن عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «العباد ثلاثة : قوم عبدوا الله عزوجل خوفا ، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب ، فتلك عبادة الاجراء وقوم عبدوا الله عزوجل حبا له ، فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة». فإن قضية أفعل التفضيل ان العبادة على الوجهين الأولين لا تخلو من فضل أيضا وان نقصت مرتبته.

وما روى عنهم (عليهم‌السلام) بطرق عديدة (2) : «من بلغه شي‌ء من الثواب على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أو تيه وان لم يكن الحديث كما بلغه». فإنه يعطى ان ذلك العمل الحامل على فعله قصد تحصيل الثواب صحيح مثاب عليه.

وما ورد عنهم (عليهم‌السلام) من العبادات والأعمال المأمور بها للحاجة أو تحصيل الولد أو المال أو النكاح أو الشفاء أو الاستخارة أو نحو ذلك من المقاصد الدنيوية. الى غير ذلك من الوجوه التي يطول بنشرها الكلام.

واما ما ذكروه من ان قصد الثواب والخلاص من العقاب ينافي الإخلاص له سبحانه ، لأن قاصد ذلك إنما قصد جلب النفع إلى نفسه ودفع الضرر.

ففيه (أولا) ان الإخلاص بذلك المعنى الخاص لا يحصل إلا من خواص الخواص ، وهو درجة من قال : «ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» (3). وطلب هذه المرتبة من غيرهم (عليهم‌السلام) قريب من التكليف بالمحال بل هو محال بلا اشكال.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : «ومدعى هذه المرتبة إنما يصدق

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(2) المروي في الوسائل في الباب ـ 18 ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(3) رواه صاحب الوافي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في الجزء الثالث في باب نية العبادة ص 70.


في دعواه إذا علم من نفسه انه لو أيقن ان الله يدخله بطاعته النار وبمعصيته الجنة يختار الطاعة ويترك المعصية تقربا اليه تعالى ، واين عامة الخلق من هذه الدرجة القصوى والمنزلة العليا؟» انتهى.

و (ثانيا) ـ ان العبادة الواقعة على ذلك النحو بأمره تعالى ، لما عرفت من الآيات والروايات ، وطالبها طالب لرضاه وهارب من سخطه ، فهو المقصود بها عند التحقيق.

و (ثالثا) ـ انه سبحانه قد ندب في غير موضع إلى التجارة عليه ووعد بالجزيل من ثوابه لمن قصد بذلك اليه.

فقال جل شأنه : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» (1)

«وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً» (2).

«... لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ» (3).

وفي جملة من الاخبار (4) ان الله تعالى قال : «ان من عبادي من يتصدق بشق تمرة فأربيها له كما يربي أحدكم فلوه وفصيله ، فيأتي يوم القيامة وهو مثل جبل أحد وأعظم من أحد».

الى غير ذلك من الآيات والروايات الدالة على وعده سبحانه بالثواب في مقابلة تلك الأعمال ترغيبا لهم.

ومن سرح بريد النظر في الكتاب والسنة وجدهما مملوءين من الترغيب في مقام الطاعات بالجنان المزخرفة بالحور الحسان والولدان ، والترهيب في مقام المخالفة والعصيان بأهوال الحساب وشدائد يوم المآب وعذاب النيران ، وسر ذلك انما هو كونهما باعثين على الفعل وجودا أو عدما ، ومتى كان كذلك كان قصدهما صحيحا

__________________

(1) سورة البقرة الآية 246.

(2) سورة المزمل الآية 20.

(3) سورة إبراهيم الآية 8.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الصدقة.


البتة ، وفي بعض الاخبار (1) «ان العمل الخالص هو الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد سوى الله عزوجل». وهو مؤيد لما قلناه وموضح لما ادعيناه.

(المقام الرابع) ـ لا ريب ولا إشكال في الإبطال بقصد الرياء والسمعة في نية العبادة ، والوجه فيه انه لا ريب في ان قصد ذلك لما كان منافيا للإخلاص الذي هو مدار الصحة والبطلان في العبادة كما عرفت ، وجب الحكم ببطلانها باشتمالها عليه.

وقد استفاضت الروايات بالنهي عن ذلك ، كقول الصادق (عليه‌السلام) لعباد البصري (2) : «ويلك يا عباد إياك والرياء ، فإنه من عمل لغير الله وكله الله الى من عمل له».

وقول الرضا (عليه‌السلام) لمحمد بن عرفة (3) : «ويحك يا ابن عرفة اعملوا لغير رياء ولا سمعة ، فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ...».

بل دلت الآيات على ان ذلك شرك ، كقوله سبحانه : «... وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (4).

وفي بعض الاخبار في تفسير هذه الآية «ومن صلى مراءاة الناس فهو مشرك» (5).

وفي آخر أيضا (6) «الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية الناس يشتهي أن يسمع به الناس ، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه ...». ونقل جملة من أصحابنا (رضوان الله عليهم) عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في الانتصار انه لو نوى الرياء بصلاته لم تجب إعادتها وان سقط الثواب عليها. ولا يخفى ان هذا الكلام يجري في جميع العبادات بل في غيرها بطريق أولى.

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(2 و 3 و 5) المروي في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب مقدمة العبادات.

(4) سورة الكهف الآية 110.

(6) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 12 ـ من أبواب مقدمة العبادات.


ولعل مستنده في ذلك ان غاية ما يستفاد من الآية والاخبار الواردة في المقام عدم القبول الموجب لعدم استحقاق الثواب ، وهو غير مناف للصحة بمعنى عدم وجوب الإعادة.

وربما أيد ذلك بكثير من ظواهر الكتاب والسنة كقوله تعالى : «... إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)» (1) «... و لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ...» (2).

وكما ورد في الاخبار الصحيحة (3) : «ان صلاة شارب الخمر إذا سكر لا تقبل أربعين صباحا أو أربعين يوما أو ليلة».

مع عدم القول بفساد شي‌ء من ذلك ووجوب إعادته من تلك الجهة.

وأنت خبير بان الكلام هنا يرجع إلى بيان معنى الصحة في العبادات ، هل هي عبارة عن موافقة الأمر وحصول ما يستلزم الثواب ، أو انها عبارة عما يوجب سقوط العقاب وان لم يستلزم الثواب ، وإنما يستلزمه القبول وهو أمر زائد على الاجزاء والصحة ومرجع ذلك إلى كونها عبارة عما يسقط القضاء خاصة؟ المشهور الأول والمرتضى على الثاني

والظاهر هو المشهور من ان الصحة إنما هي عبارة عن موافقة الأمر وامتثاله ، وان ذلك موجب للقبول وترتب الثواب :

(أما أولا) ـ فلانه لا خلاف بين كافة العقلاء في ان السيد إذا أمر عبده أمرا إيجابيا بفعل ووعده الأجر عليه ، فاتى العبد بالفعل حسبما أمر به السيد ، ثم ان السيد رده عليه ولم يقبله منه ومنعه الأجر الذي وعده ، مع انه لم يخالف شيئا مما امره به فان العقلاء لا يختلفون في لوم السيد ونسبته إلى خلاف العدل ، سيما إذا كان السيد ممن يصف نفسه بالعدل ويتمدح بالفضل والكرم.

و (اما ثانيا) ـ فلان تفسير الصحة بأنها عبارة عما أسقط القضاء مستلزم للقول

__________________

(1) سورة المائدة الآية 27.

(2) سورة البقرة الآية 264.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الأشربة المحرمة.


بترتب القضاء على الأداء ، وهو خلاف ما عليه محققو الأصحاب ، وخلاف ما يستفاد من الأدلة من ان القضاء موقوف على أمر جديد ولا ترتب له على الأداء.

ولو قيل : ان الاخبار قد صرحت بأن الصلاة لا يقبل منها إلا ما اقبل عليه وربما قبل نصفها وربما قبل ثلثها وهكذا ، مع انها صحيحة إجماعا ، فالصحة حينئذ غير القبول.

قلنا : فيه ـ بعد ما عرفت ـ ان الأمر بالإقبال في العبادة انما هو أمر استحبابي وهو ما يوجب امتثاله مزيد الفضل والأجر ، لا أمر إيجابي ليكون تركه موجبا لترك الأجر بالكلية وعدم القبول بالمرة ، وحينئذ فتحمل هذه الاخبار على القبول الكامل كما لا يخفى.

على ان ثبوت الصحة فيما نحن فيه من عبادة الرياء على القول الآخر ممنوع :

(أما أولا) ـ فلان سقوط ما وجب في الذمة بيقين فرع وجود المسقط يقينا والمسقط هنا غير معلوم حينئذ ، إذ لا تسقط العبادة بغير جنسها وان تحلى بجنس صورتها ولا تتأدى الطاعة بجعلها لباسا وقالبا لضرتها.

ويرشد إلى ذلك. ما رواه أبو بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا. قال : حسن النية بالطاعة».

ومع هذا فكيف يمكن ان يقال ان العبادة الواقعة على وجه الرياء صحيحة بمعنى مسقطة للقضاء؟

و (اما ثانيا) ـ فلأنك قد عرفت ـ مما تقدم من الآيات والاخبار الدالة على جعل مناط الصحة هو الإخلاص وان الرياء شرك ـ ما هو صريح في البطلان ولزوم العقاب بالمخالفة ، فكيف يتم القول بالصحة الموجبة لسقوط العقاب؟

واما ما ذكر من الظواهر فالظاهر ان المراد بعدم القبول فيها يعنى القبول الكامل ، بمعنى عدم ترتب الثواب المضاعف الموعود به. على انه قد ورد في تفسير الآية الأولى عن أهل

__________________

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب مقدمة العبادات.


العصمة (عليهم‌السلام) ان المراد بالمتقين الشيعة.

(المقام الخامس) ـ صرح جملة من أصحابنا بوجوب اشتمال النية ـ سيما في الطهارة والصلاة ـ على جملة من القيود ، واختلفوا فيها كمية وكيفية ، واستدلوا على ذلك بوجوه عقلية واعتبارات غير مرضية لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، قد نقلها جماعة من متأخري المتأخرين في كتبهم الاستدلالية وأجابوا عنها ، ولا حاجة بنا إلى الإطالة بنقلها ونقل أجوبتها ، فإنا قد التزمنا في هذا الكتاب ان لا نطول البحث غالبا إلا فيما أغفلوا تحقيقه ولم يلجوا مضيقة.

وقصارى ما يستفاد من الأدلة الشرعية مما يتعلق بأمر النية هو قصد القربة كما تقدم تحقيقه ، ولولاه لكان الأولى الاعراض عن البحث في ذلك من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه». «وأبهموا ما أبهم الله» (1).

نعم لو كان الفعل المقصود غير متعين في الواقع فلا بد في تعلق قصد المكلف به الى إصداره من قيد يشخصه لينصرف القصد اليه ، لما عرفت سابقا من انه لا تميز بين افراد الماهية عند القصد إلى إيجاد بعضها إلا بقصده ، كما لو اشتغلت ذمة المكلف بفائت الظهر مثلا ، فبعد دخول وقت الظهر ـ بناء على القول بالمواسعة المحضة في القضاء ـ لا يتعين ما يأتي به منها إلا بالقصد اليه بخصوصه ، فلا بد في هذه الصورة من تعيين الأداء ان قصده والقضاء كذلك.

وما عدا ذلك فلا يجب فيه التعيين ، لتعينه واقعا وان لم يتعين في نظر المكلف أيضا ، كما لو قصد إيقاع غسل الجمعة مع تعارض الاخبار عنده في الوجوب والاستحباب وعدم طريق إلى العلم بذلك ، فإنه لا يتعين عليه قصد أحدهما ، للزوم التكليف بما لا يطاق ، بل ولو امكنه العلم بذلك أيضا لعدم الدليل عليه وأصالة عدمه ، بل متى علم

__________________

(1) تقدم في التعليقة 2 من الصحيفة 60 ، وفي الصحيفة 156 من الجزء الأول ما يتعلق بذلك.


رجحان الفعل شرعا وقصد إلى إيقاعه لوجه الله سبحانه ، كفى من غير تعرض فيه لقصد وجوب أو استحباب.

(المقام السادس) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز تقديم النية في الوضوء والغسل عند غسل اليدين المستحب ، بل حكم العلامة في المنتهى بالاستحباب ، وجوزه ابن إدريس في الغسل دون الوضوء ، فخص الجواز فيه بالمضمضة والاستنشاق ، ومنع صاحب البشرى من ذلك مطلقا ، وأوجب التأخير إلى أول الأفعال الواجبة ، نظرا إلى عدم دخول ما تقدم في مسمى الوضوء أو الغسل حقيقة ، وأيده بعضهم بأنه كيف ينوي الوجوب ويقارن به ما ليس بواجب ويجعله داخلا فيه؟ ولهذا لم يجوزوا تقديمها ومقارنتها لسائر المندوبات مثل السواك والتسمية إجماعا.

أقول : ويؤيده أيضا انه لو ساغ ذلك لجاز مثله في الصلاة أيضا ، فيقدم النية في أول الإقامة رخصة مع انهم لا يجوزونه ، والفرق بين الموضعين غير ظاهر.

وبالجملة فحيث كانت المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط. وخبر ـ «إنما الأعمال بالنيات». و «لا عمل إلا بنية» (1). مع تسليم حمل النية فيه على المعنى الشرعي ، باعتبار احتمال الباء فيه للمصاحبة فيمتنع التقديم ، أو الملابسة المطلقة فيجوز ، أو السببية التي هي أعم من الناقصة والتامة فيحتملهما ـ فيه ـ كما ترى ـ من الإجمال والاحتمال ما يخرج به عن حيز الاستدلال.

وأنت خبير بان الظاهر ان الأمر في هذه المسألة بناء على ما حققناه من معنى النية هين ، فان القصد إلى إيقاع الفعل لما كان مما لا يمكن الانفكاك عنه ولا الإصدار بدونه ، وان المقارنة التي أدعوها لا دليل عليها ، فمن المعلوم ان المكلف متى جلس للوضوء عالما بكيفيته شرعا والغرض منه ، فلا يكون البتة إلا عن قصد إلى إيقاع هذه الكيفية متقربا بها ، وحينئذ فلا معنى لتقديم النية وتأخيرها ، أو افراد كل من مستحباته

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب مقدمة العبادات.


وواجباته بنية على حياله. نعم ذلك إنما يتمشى على مذاق القوم من جعل النية عبارة عن ذلك الحديث النفسي ، ووجوب المقارنة به لأول الأفعال كما ذكروا. وقد عرفت ما فيه

(المقام السابع) ـ قد صرح غير واحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) بان من جملة واجبات النية استدامتها حكما إلى الفراغ ، ووجهه انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى إيقاع الفعل بعد تصوره وتصور غايته الباعثة على الإتيان به ، وانه بعد التلبس بالفعل على الوجه المذكور كثيرا ما تحصل الغفلة ويحصل السهو والنسيان الذي هو كالطبيعة الثانية للإنسان عن ذلك القصد والتصور المذكورين مع الاستمرار على الفعل لكن يكون بحيث لو رجع إلى نفسه لاستشعر ما قصده وتصوره أولا ، اقتضت الحكمة الربانية والشريعة السمحة المحمدية الجري على مقتضى النية السابقة ما لم يعرض هناك قصد أخر ناشى‌ء عن غاية أخرى باعثة عليه مرتبا للفعل عليها ، فان الفعل حينئذ يخرج بذلك عما هو عليه أولا ، لما عرفت من دوران المغايرة بين الأفعال مدار القصود والنيات.

ولك ان تقول ـ كما حققه بعض المحققين من متأخري المتأخرين ـ انه لما كانت النية عبارة عن القصد إلى الفعل بعد تصور الداعي له والحامل عليه ، والضرورة قاضية ـ كما نجده في سائر أفعالنا ـ بأنه قد يعرض لنا مع الاشتغال بالفعل الغفلة عن ذلك القصد والداعي في أثناء الفعل ، بحيث انا لو رجعنا إلى وجداننا لرأينا النفس باقية على ذلك القصد الأول ، ومع ذلك لا نحكم على أنفسنا ولا يحكم علينا غيرنا بان ما فعلناه وقت الذهول والغفلة بغير قصد ونية ، بل من المعلوم أنه أثر ذلك القصد والداعي السابقين ، كان الحكم في العبادة كذلك ، إذ ليست العبادة إلا كغيرها من الأفعال الاختيارية للمكلف ، والنية ليست إلا عبارة عما ذكرنا.

ثم قال (قدس‌سره) : «انه كما يجوز صدور الفعل بالإرادة لغرض مع الذهول في أثنائه عن تصور الفعل والغرض مفصلا ، فكذلك يمكن صدوره بالإرادة لغرض مع الذهول عنها مفصلا في ابتداء الفعل أيضا ، إذا تصور الفعل والغرض في زمان سابق


عليه ، وكان ذلك باعثا على صدور الفعل في هذا الزمان ، والضرورة حاكمة أيضا بوقوع هذا الفرض عند ملاحظة حال الأفعال ، فحينئذ يجوز ان يصدر الوضوء لغرض الامتثال والقربة باعتبار تصوره وتصور ذلك الغرض في الزمان السابق ، فيلزم أن يكون ذلك الوضوء صحيحا أيضا ، لما عرفت من عدم لزوم شي‌ء على المكلف زائدا على هذا المعنى ، فبطل القول بمقارنة النية لأول الأفعال» انتهى.

وهو جيد رشيق ، وفيه تأكيد اكيد لما قدمناه في المقام الثاني من التحقيق.

وبالجملة فتجدد الذهول ـ بعد قصد الفعل أولا وتصور داعيه الباعث عليه ـ لا يخرج تلك الأفعال الواقعة حال الذهول عن كونها بذلك القصد السابق. نعم لو كان أصل الدخول في الفعل بغير قصد بالكلية سهوا وغفلة فهذا هو الذي لا يعتد به اتفاقا ، لما عرفت غير مرة من ان الفعل من حيث هو لا ينصرف إلى مادة ولا يحمل على فرد إلا بالقصد اليه.

هذا. وأنت إذا حققت النظر في المقام وسرحت بريد الفكر فيما ذكره الأقوام وجدت ان البحث في هذه المسألة ليس مما له مزيد فائدة سيما في الوضوء ، وذلك لأن مجرد النية الثانية لا يترتب عليها أثر في الإبطال عندهم.

وحينئذ فلا يخلو اما ان يأتي بشي‌ء من تلك الأفعال بالنية الثانية أولا ، وعلى الثاني فاما ان يرجع إلى مقتضى النية السابقة قبل فوات الموالاة أولا.

فعلى الأول يكون بطلان الفعل بما فعله بالنية الثانية ، ويدخل في مسألة من أبطل عمله بأحد المبطلات ، ولا خصوصية له بهذه المسألة.

وعلى الثالث يبطل الوضوء لفوات بعض واجباته التي هي الموالاة ، ويرجع ذلك الى مسألة الموالاة.

وعلى الثاني فإنه لا إشكال في الصحة عندهم ، لعدم ثبوت كون مثل ذلك قادحا فيها ، مع انها الأصل.


نعم لو اتفق ذلك في نية الصلاة بأن نوى الخروج أو فعل المنافي ولم يفعل ، فهل يبطل ذلك الصلاة أم لا؟ قولان :

المشهور الثاني استنادا إلى أصالة الصحة ، فالإبطال يتوقف على الدليل ، وليس فليس.

وقيل بالأول استنادا إلى ان الاستمرار على حكم النية السابقة واجب إجماعا ، ومع نية الخروج أو التردد أو نية فعل المنافي يرتفع الاستمرار.

وأورد عليه ان وجوب الاستدامة أمر خارج عن حقيقة الصلاة ، فلا يكون فواته مقتضيا لبطلانها ، إذ المعتبر وقوع الصلاة بأسرها مع النية كيف حصلت ، وقد اعترف الأصحاب بعدم بطلان ما مضى من الوضوء بنية القطع إذا جدد النية قبل فوات الموالاة ، والحكم في المسألتين واحد. والفرق بينهما ـ بأن الصلاة عبادة واحدة لا يصح تفريق النية على اجزائها بخلاف الوضوء ـ ضعيف ، فإنه دعوى مجردة عن الدليل. والمتجه تساويهما في الصحة مع تجديد النية لما بقي من الأفعال ، لكن يعتبر في الصلاة عدم الإتيان بشي‌ء من أفعالها الواجبة قبل تجديد النية ، لعدم الاعتداد به ، واستلزام إعادته الزيادة في الصلاة. هكذا حققه السيد السند (قدس‌سره) في المدارك.

وأنت خبير بأن المصلي متى كبر للإحرام ودخل في الصلاة فلا يخرج منها إلا بالتسليم أو التشهد ، فجميع حالاته ـ من قيامه وقعوده وركوعه وسجوده وتشهده وما بينها حال الانتقال من أحدها إلى الآخر ـ كله من اجزاء الصلاة ، فمع نية القطع والخروج أو نية فعل المنافي يلزم ـ البتة ـ وقوع جزء من اجزاء الصلاة بغير نية ، ويلزم الخروج عن مقتضى النية السابقة. وتجديد النية الأولى ـ بعد مضي شطر من اجزاء الصلاة خاليا منها بل على نية تنافيها ـ لا يوجب نفعا في المقام ولا دفعا لذلك الإلزام. ومن ذلك ظهر الفرق بين الصلاة والوضوء ، وبه يظهر رجحان القول الأول.

إلا أن لقائل أن يقول : ان المفهوم من الاخبار جواز إيقاع بعض الأفعال


الخارجة عن حقيقة الصلاة فيها وان استلزمت التقدم أو التأخر بما لا يستلزم الاستدبار كغسل دم الرعاف ، وقتل الحية ، وإرضاع الصبي ، ونحوها ، مع القطع بكونها ليست من أفعال الصلاة ، مع انها لا تبطل الصلاة بها ، فبالأولى ان يكون مجرد ترك النية ـ وان استلزم ان يكون الحال الذي نوى فيه القطع خاليا عن النية السابقة ـ غير موجب للبطلان وحينئذ يتوجه المنع إلى ان جميع حالاته من بعد التكبير إلى حين التسليم من اجزاء الصلاة. الا ان الحكم بعد لا يخلو من شوب الاشكال. وحيث كانت المسألة خالية من النص فالواجب الوقوف فيها على ساحل الاحتياط.

(المقام الثامن) ـ اختلف الأصحاب في حكم نية الضمائم اللازمة في النية.

فقيل بالصحة مطلقا ، والظاهر انه المشهور.

وقيل بالبطلان مطلقا ، وهو ظاهر جماعة : منهم ـ أول الشهيدين في بيانه ، وثانيهما في روضته ، والمولى الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وغيرهم.

وقيل بالتفصيل بين ما إذا كانت راجحة فتصح وإلا فتبطل ، واختاره جماعة : منهم ـ السيد السند في المدارك ، وادعى انه مع الرجحان لا خلاف في الصحة ، وتبعه على هذه الدعوى بعض ممن تأخر عنه.

وفيه ان جملة من عبارات من قدمنا نقل القول بالإبطال عنهم ظاهرة في الحكم بذلك من غير تفصيل بالرجحان وعدمه ، ولا سيما كلام المولى الأردبيلي (رحمه‌الله) ، حيث قصر الحكم بالصحة على مجرد كون الفعل لله ، وحكم بان كل ما يضم اليه من لازم وغيره فهو مناف لذلك.

وقيل بتخصيص الصحة بما إذا كانت الضميمة راجحة ولا حظ المكلف رجحانها ، وهو الذي اختاره شيخنا أبو الحسن (قدس‌سره) في رسالة الصلاة ، وجزم به والدي (قدس‌سره).

وقيل بالتفصيل بأنه ان كان الباعث الأصلي هو القربة ثم طرأ قصد التبرد مثلا


عند الابتداء في الفعل لم يضر ، وان كان العكس أو كان الباعث مجموع الأمرين ، لم يجزئ ، وهذا القول ذكره في الذكرى احتمالا ، واليه ذهب بعض متأخري المتأخرين.

والظاهر ان مراد مشترط رجحان الضميمة هو ملاحظة رجحانها أيضا وقصده ، نظرا إلى ان التعليق على الوصف مشعر بالعلية ، فان مجرد رجحانها في الواقع من غير ملاحظة المكلف له لا يخرج الضميمة عن كونها مرجوحة أو متساوية الطرفين ، فإن العبادة إنما تصير عبادة يترتب عليها أثرها بنيتها وقصدها ، وحينئذ فيرجع القول الثالث والرابع الى واحد.

احتج من ذهب إلى الأول بعدم منافاة الضميمة لنية القربة ، وانه كنية الغازي للقربة والغنيمة ، وانها لكونها لازمة فنيتها لا تزيد على أصل حصولها.

وفيه ان ما ادعوه من عدم المنافاة فهو أول البحث. والتمثيل بالغازي لا ينهض حجة ، لمنع ذلك فيه أيضا. وقوله ـ : «ان نيتها لا تزيد على أصل حصولها» ـ ممنوع ، إذ لا يلزم من حصولها ضرورة جواز نية حصولها ، وهل الكلام إلا فيه؟ مع انه منتقض بالرياء وان رؤية الناس أيضا لازم ، فيجب ان يكون قصده غير مضر بالعبادة ، والخصم لا يقول به.

واحتج من ذهب إلى الثاني بمنافاة الضميمة للإخلاص له سبحانه.

وفيه انه مع عدم رجحان الضميمة مسلم ومع الرجحان ممنوع ، كما سيأتي بيانه.

احتج من ذهب إلى الثالث بما ورد في الاخبار من قصد الإمام بإظهار تكبيرة الإحرام الاعلام ، وضم الصائم إلى نية الصوم قصد الحمية ، ومخرج الزكاة علانية ـ بل سائر أفعال الخير ـ اقتداء الناس به ، ونحو ذلك.

ومن هذه الأدلة يعلم ان قصد المكلف هذه الضمائم إلى ما ضمت اليه إنما تعلق بها لرجحانها ، وإلا فلربما تطرق إليها احتمال الإبطال في بعضها من حيث دخوله في الرياء ، كالاعلان بالزكاة ونحوه.


وهذا القول هو الأقوى عندي ، لعدم الدليل على ما سواه كما عرفت ، واعتضاده بما عرفت من الأدلة (1) الا ان الظاهر انه لا اختصاص له بالضميمة اللازمة بل يجري في الخارجة أيضا ، فإن ما ذكر ـ من مثال مخرج الزكاة علانية لاقتداء الغير به ـ إنما هو من قبيل الضميمة الخارجة دون اللازمة ، إذ لا ملازمة بين إخراج الزكاة واقتداء الغير. ومثل ذلك أيضا ما ورد من استحباب إطالة الإمام ذكر الركوع لانتظار الداخل ، وإطالته القيام في صلاة الخوف لانتظار إتمام الفرقة الاولى ودخول الثانية ، وجهر المصلي بصلاة الليل في منزله ليوقظ جاره للصلاة ان كان ممن يعتادها ، ونحو ذلك.

(المقام التاسع) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو نوى ببعض واجبات العبادة الندب عمدا أو جهلا بطلت ، ولو نوى ببعض مندوباتها الوجوب ، فان اتصف بالكثرة بطلت أيضا وإلا فلا ، وهو مبني على أمور :

(أحدها) ـ وجوب قصد الوجه من وجوب أو ندب في أصل العبادة ، وفيما يأتي به من الأفعال الواجبة أو المندوبة.

و (ثانيها) ـ عدم تداخل الواجب والندب ، فلا يجزئ أحدهما عن الثاني ، لتغاير الجهتين فيهما ، وحينئذ فلو خالف بان نوى بالواجب الندب عمدا أو جهلا بطلت الصلاة ، للإخلال بالواجب على ذلك الوجه اللازم منه عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه ، فلم يطابق فعله ما في ذمته ، لاختلاف الوجه ، ويمتنع إعادته ، للزوم زيادة أفعال الصلاة عمدا ، فلم يبق إلا البطلان. ولو نوى بالمندوب الوجوب فان كان ذكرا بطلت أيضا ، للنهي المقتضي للفساد ، ولانه كلام في الصلاة ليس منها ولا مما استثنى منها ، وان

__________________

(1) أقول : ومن ذلك أيضا حديث حماد بن عيسى الدال على ان الصادق (عليه‌السلام) صلى تلك الركعتين اللتين صلاهما تعليما لرعيته ، ومثله الحديث الدال على العلة في استحباب التكبيرات الافتتاحية وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كبرها لأجل أن يتابعه الحسين (عليه‌السلام) فيها حين ابطأ عن الكلام. وأمثال ذلك كثير يقف عليه المتتبع لموارد الأخبار (منه رحمه‌الله).


كان فعلا كالطمأنينة مثلا ، اعتبر في الحكم بإبطاله الكثرة التي تعتبر في الفعل الخارج عن الصلاة. واستقرب الشهيد في البيان الصحة في هذا القسم مطلقا ، لأن نية الوجوب إنما أفادت تأكيد الندب.

و (ثالثها) ـ وجوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها ليقصد الوجه في كل منهما ، وعدم معذورية الجاهل في ذلك ، بل الواجب عليه العلم بذلك اجتهادا أو تقليدا وبدونه يبطل ما يأتي به من العبادة ، وانه لا معذورية للجاهل إلا في الموضعين المشهورين هكذا قرروا (رضوان الله عليهم).

وهو منظور فيه من وجوه : (أحدها) ـ ما أشرنا إليه آنفا ـ وبه صرح جملة من متأخري أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ من انه لم يقم لنا دليل يوجب المصير الى ما ذكروه من وجوب قصد الوجه في العبادة واستحبابه ، والأحكام الشرعية توقيفية لا يجوز الحكم فيها إلا بما قام الدليل الشرعي عليه ، وإلا كان من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه». و «أبهموا ما أبهمه الله» كما ورد عنهم (عليهم‌السلام) (1).

وما ذكروه في مقام الاستدلال على ذلك مجرد اعتبارات عقلية ووجوه تخريجية لا تصلح للاعتماد عليها في الأحكام الشرعية.

وبذلك يظهر ان ما ذكروه من البطلان بنية الواجب ندبا ممنوع. قوله : للإخلال بالواجب ـ مردود بعدم قيام الدليل على وجوب ما أوجبه ، وكذلك قوله : لعدم مطابقة فعله ما في ذمته ، لعدم قيام الدليل على المطابقة المزبورة على الوجه الذي ذكره.

و (ثانيها) ان ما ذكر ـ من كون أحدهما لا يجزئ عن الآخر ـ مردود بوقوع ذلك في جملة من الموارد :

__________________

(1) تقدم في التعليقة (2) من الصحيفة (60) وفي الصحيفة 156 من الجزء الأول ما يتعلق بذلك.


منها ـ صلاة الاحتياط المقصودة بنية الوجوب ، فإنها بعد ظهور الاستغناء عنها تكون نافلة اتفاقا نصا وفتوى.

ومنها ـ ما لو صام يوما قضاء عن شهر رمضان ثم تبين انه اتى به سابقا ، فان الظاهر ترتب الثواب على ما اتى به.

ومنها ـ ما لو شرع في نافلة ثم سهى في أثنائها فاتى ببعض الأفعال بقصد الوجوب ظنا منه انه في فريضة.

هذا في اجزاء الواجب عن الندب. واما بالعكس :

فمنه ـ ما لو صام يوم الشك بنية الندب فظهر انه من شهر رمضان.

ومنه ـ ما لو دخل في الفريضة فسهى في أثنائها واتى ببعض أفعالها على انها نافلة ومنه ـ ما لو توضأ للتجديد فظهر كونه محدثا.

ومنه ـ ما لو جلس للاستراحة فلما قام ظهر أنه نسي سجدة ، فإنه يسجد ويقوم الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.

فان قيل : ان هذا كله خارج عن صورة العمد. قلنا : المدعى عندهم أعم وبه يلزم المطلوب.

و (ثالثها) ـ ان ما ذكره ـ من انه يمتنع إعادته للزوم زيادة أفعال الصلاة ـ مردود بان ما اتى به إنما قصد به الندب ، والعبادة ـ كما عرفت ـ تابعة للقصد ، وحينئذ فليس ما اتى به من أفعال الصلاة على هذا التقدير ، فيكون الواجب باقيا في ذمته ، فإنه لو قرأ الفاتحة ـ مثلا ـ بقصد الندب وانها قرآن ، وهو مستثنى عندهم في الصلاة اتفاقا ، أو اتى بأحد الأذكار الواجبة أيضا بقصد الندب ، مع استثناء ذلك أيضا عندهم في الصلاة اتفاقا ، ثم اتى بالواجب في الموضعين بقصد الوجوب ، فأي موجب للبطلان هنا؟

و (رابعها) ـ ان ما ذكره ـ من بطلان الصلاة بنية المندوب واجبا إذا كان


ذكرا ممنوع ، لأن النهي على تقدير تسليمه لم يتعلق بعين الصلاة ولا يجزئها ، فلا يلزم البطلان.

قوله : «ولانه كلام في الصلاة. إلخ» فيه ان المعلوم كونه مبطلا من الكلام هو ما لم يكن ذكرا ولا دعاء ، وما نحن فيه ليس كذلك.

ثم حكمه أيضا ـ بالإبطال في الفعل مع الكثرة ـ فيه انه متى كان الفعل ذكرا ممنوع ، إذ الظاهر من الدليل هو ما عداه.

و (خامسها) ـ ان ما ذكره ـ من وجوب العلم بواجبات الصلاة ومندوباتها عن اجتهاد أو تقليد ، وانه لا يعذر الجاهل بذلك ـ فيه انه ليس على إطلاقه.

والتحقيق ـ كما هو اختيار جمع من المحققين من متأخري المتأخرين ـ ان نقول : انه لا إشكال في وجوب التعلم على الجاهل ، وانه بالإخلال به يأثم ، لكن لو أوقع العبادة والحال كذلك ، واتفق مطابقتها للواقع حسبما أمر به الشارع وان لم يكن له معرفة بواجباتها ولا مندوباتها ، فلا نسلم بطلانها ووجوب قضائها كما ذهبوا إليه ، إذ لم يثبت من الشارع في التكليف بأمثال ذلك أمر وراء الإتيان بما أمر به ، من الكيفية المخصوصة وقصد التقرب به اليه ، والفرض ان المكلف قد أوقعه كذلك ، ولا ينافي ذلك ما تردد من أفعالها بين الوجوب والاستحباب باعتبار الخلاف فيه ، لان قصد القربة به لرجحانه شرعا آت عليه. نعم لو كان الفعل مما تردد بين الوجوب والتحريم مثلا ، فان قصد القربة لا يأتي عليه ، فلا بد من العلم حينئذ بأحد الأمرين اجتهادا أو تقليدا ، وإلا فيجب الوقوف حينئذ على صراط الاحتياط ، والمفهوم من الأخبار ـ كما أوضحناه في درة الجاهل بالأحكام الشرعية من كتاب الدرر النجفية ـ ان الاحتياط في مثل ذلك بالترك.

واما عدم معذورية الجاهل بالأحكام الشرعية مطلقا كما ذكروه. فقد عرفت


ما فيه في المقدمة الخامسة (1).

(المقام العاشر) ـ لو نوى بوضوئه صلاة نافلة ، فالظاهر انه لا خلاف في الدخول به في الفريضة ، واما إذا قصد به غير الصلاة ، فإن كان مما لا يستباح إلا به ، كمس خط المصحف على المشهور ، والطواف المندوب على القول به ، فالمشهور انه كذلك ونقل عن الشيخ في المبسوط المنع ، وهو ظاهر ابن إدريس أيضا ، وان كان مما يستباح بدونها ، كسائر ما يستحب له الوضوء مما لا يجامعه حدث أكبر ، فهل يصح الوضوء مطلقا ويرتفع به الحدث ويجوز الدخول به في الفريضة ، أو لا يرتفع به الحدث مطلقا ، أو يكون كالأول إلا فيما إذا نوى وضوء مطلقا ، أو التفصيل بين نية ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث كقراءة القرآن ونية ما يستحب له لا لأجل الحدث كالتجديد ، فيرتفع الحدث به ويجوز الدخول به في الفريضة على الأول دون الثاني ، أو التفصيل بين ما يستحب له الطهارة لأجل الحدث ويقصد به الكمال فيصح ، أو لا يستحب له الطهارة أو يستحب ولكن لا مع قصد الكمال فيبطل ، أو الصحة ان قصد ما الطهارة مكملة له على الوجه الأكمل ، وكذا ان قصد به الكون على طهارة ، وعدم الصحة في غير هاتين الصورتين؟ أقوال : أظهرها ـ كما استظهره جماعة من متأخري أصحابنا ـ الأول.

ولنا عليه وجوه : (الأول) ـ ان الأخبار الواردة مستندا لتلك الوضوءات المعدودة كلها ـ إلا ما شد ـ بلفظ الطهر أو الطهور أو الطهارة ، ومن الظاهر البين اعتبار معنى الزوال والإزالة في لازم هذه المادة ومتعديها لغة وشرعا ، فلا معنى لكون الوضوء مطهرا أو طهورا أو نحوهما إلا كونه مزيلا للحدث الموجود قبله ، وإلا فلا معنى لهذه التسمية بالكلية ، ومن ثم صرحوا بأن الطهارة لغة : النظافة ، وشرعا حقيقة في رافع

__________________

(1) في الصحيفة 82 من الجزء الأول.


الحدث. واما الوضوء المجامع للحدث الأكبر فقرينة التجوز فيه ظاهرة ، كإطلاق الصلاة على صلاة الجنازة.

(الثاني) ـ ان المفهوم من الأخبار الواردة في بيان علة الوضوء ان أصل مشروعيته انما هو للصلاة خاصة ، وقضية ذلك انه حيثما أمر به الشارع لا يكون إلا رافعا ـ إلا ما خرج بدليل ـ تحقيقا للجري على أصل المشروعية ، ويحقق ذلك ويوضحه ان الغاية الكلية للوضوء من حيث هو إنما هي الرفع ، وهذه الغايات إنما تترتب عليه ، إذ لا يخفى ان المتوضئ لأحد هذه الغايات لو لم يرتفع حدثه ، للزم اجتماع الطهارة والحدث في حالة واحدة ، مع انهما متقابلان ، على انه لو قصد في الوضوء لدخول المسجد مثلا عدم رفع الحدث ، لم نسلم صحته ، ولا ترتب أثره الذي قصد عليه.

وما قيل ـ من انه يجوز أن يكون الغرض من الوضوء وقوع تلك الغاية المترتبة عليه عقيبه وان لم يقع رافعا كما في الأغسال المندوبة عند الأكثر (1) ـ فيه (أولا) ـ ما قد عرفت في الوجه الأول والثاني.

و (ثانيا) ـ ان الإيراد بالأغسال إنما يتم لو اقتضى الدليل كونها كذلك ، ومجرد ذهاب الأكثر اليه ـ مع كونه خاليا من الدليل بل الدليل قائم على خلافه ـ لا يثمر نقضا كما لا يخفى.

(الثالث) ـ انا لا نعرف من الوضوء شرعا إلا هذه الأفعال المعهودة ، فمتى اتى بها المكلف متقربا صح وضوؤه ، ومتى صح وضوؤه جاز له الدخول به في الصلاة ، إذ الشرط فيها طهارة صحيحة وقد حصلت ، ومدعى الزيادة عليه إثباتها. وهذا كله ـ بحمد الله سبحانه ـ ظاهر لمن شرب من كأس الأخبار وجاس خلال تلك الديار.

واما ما استجوده السيد السند في المدارك ـ من الاستدلال بعموم ما دل على ان

__________________

(1) فيه إشارة إلى الرد بذلك على صاحب المدارك حيث انه القائل بذلك (منه قدس‌سره).


الوضوء لا ينقض إلا بالحدث ـ فقد أورد عليه بان عدم الانتقاض لا يقتضي ترتب جميع ما يترتب على كل وضوء ، بل يقتضي استصحاب ما ثبت ترتبه على ذلك الوضوء وهو متجه.

(المقام الحادي عشر) ـ اختلف الأصحاب (قدس الله أرواحهم) في تداخل الأغسال في النية على أقوال سيأتي تفصيلها ان شاء الله تعالى ، الا أنا قبل الشروع في ذلك نقدم من مجمل التحقيق ما يكون طريقا إلى الخروج من ذلك المضيق.

فنقول : الظاهر ان الحدث ـ الذي هو عبارة عن الحالة المسببة عن أحد الموجبات الممتنع الدخول معها في الصلاة ـ أمر كلي وان تعددت أسبابه من البول والغائط ونحوهما والجنابة والحيض ونحوهما ، ولا يتعدد بتعددها ، والمقصود من الطهارة بأنواعها رفع هذه الحالة ، وملاحظة خصوصية السبب كلا أو بعضا لا مدخل له في ذلك بصحة ولا إبطال فذكره كتركه ، وان الطهارة ـ وضوء كانت أو غسلا ـ لغاية من الغايات متى كانت خالية من المبطل ، صح ترتب ما عدا تلك الغاية من سائر الغايات المشاركة لها على تلك الطهارة وان لم تكن مقصودة حال الفعل ، وهذا في الوضوء واضح كما أسلفنا بيانه في سابق هذا المقام ، واما في الغسل فمبني على أصح القولين ـ وان لم يكن بأشهرهما ـ من رفع ما عدا غسل الجنابة من الأغسال واجبا كان أو مستحبا وعدم احتياجه إلى الوضوء كما ذهب اليه علم الهدى من المتقدمين ، ونهج على منواله طائفة من متأخري المتأخرين ، وعليه دلت أخبار أهل الذكر (سلام الله عليهم) واما على المشهور فيشكل الحكم ، لعدم الرفع ، ولهذا يوجب المانعون نية الأسباب في تداخل الأغسال المستحبة ، لعدم اشتراكها في موجب الرفع ، فلا تداخل بدونه ، وأشكل على بعضهم اندراج غسل الجنابة تحت ما عداه من الأغسال الواجبة ، لعدم رفعه إلا مع الوضوء ، لو نوى ما عدا الجنابة خاصة ، وأشكل على جملة منهم الحكم بالتداخل في الواجب والمستحب للتضاد بين وجهي الوجوب والاستحباب.


والمفهوم من اخبار التداخل ـ كما ستمر بك ان شاء الله تعالى ـ هو التداخل مطلقا ، واجباتها بعضها في بعض ، ومستحباتها كذلك ، وواجباتها ومستحباتها كل في الآخر ، أعم من ان يقصد شيئا من الأسباب الحاملة والغايات الباعثة أم لا ، بل الظاهر منها انه بملاحظة بعض تلك الأسباب والغايات يستباح به ما عداه مما لم تلحظ غايته ، وانه لا فرق في هذا المقام بين الوضوء والغسل.

وتفصيل هذه الجملة ـ على وجه يحيط بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في المقام ، والتنبيه على ما زلت به اقدام أقلام بعض الاعلام ـ

هو ان يقال : الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم الافتقار إلى نية الحدث المتطهر منه في الوضوء ، أعم من ان يكون متحدا أو متعددا ، اما على تقدير الاكتفاء بمجرد القربة فظاهر ، واما على تقدير وجوب نية الرفع فالواجب هو قصد رفعه من حيث هو ، لكن لو قصد رفع حدث بعينه مع تعدد الأسباب ، فقد قطع أكثر الأصحاب بارتفاع الجميع أيضا ، لأن الحدث أمر كلي وان تعددت أسبابه ، فمن أجل ذلك ثبت لها التداخل باشتراكها في ذلك الأمر الكلي ، فبارتفاع أحدها يرتفع الجميع ، فمتى نوى أحدها وجب حصوله ، وحصوله يستلزم حصول الجميع لما عرفت.

وبذلك يظهر الجواب عما يقال : ان الأحداث لا تتجزأ وليس ثمة إلا أمر واحد كلي ، فمع عدم نيته لا يرتفع ، ونية خصوصية فرد منه لا تستلزم نيته.

ويمكن أيضا الجواب بالصحة وان وقع الخطأ في النية ، لصدق الامتثال بذلك ووقوع القيد لغوا.

واعترض آخر أيضا بمنع تداخل الأحداث عند تعدد أسبابها ، فقال : لم لا يجوز ان يحصل من كل منها حدث على حدة لا بد لنفيه من دليل؟

أقول : وكأنه لهذا احتمل العلامة في النهاية رفع ما نواه خاصة ، بناء


على انها أسباب متعددة ، قال : «فإن توضأ ثانيا لرفع آخر صح ، وهكذا إلى آخر الأحداث» انتهى.

وفيه ـ مع ما تقدم ـ ان المفهوم من الأخبار الواردة في تداخل الأغسال هو الاكتفاء بغسل واحد مع تعدد أسبابه كما سيأتي ان شاء الله تعالى. وهو دليل على عدم تعدد الأحداث وان تعددت الأسباب ، وإلا وجب لكل منها غسل ، والدليل على خلافه. والفرق بين حدثي الوضوء والغسل في ذلك غير معقول ، مع انه لا قائل به.

وكيف كان فالخطب عندنا بعد عدم ثبوت نية الرفع سهل. هذا في الوضوء.

واما الغسل فقد اختلف فيه على أقوال : (أحدها) ـ التداخل مطلقا و (ثانيها) ـ عدمه مطلقا. و (ثالثها) ـ التداخل مع انضمام الواجب لا بدونه و (رابعها) ـ التداخل لا مع انضمامه ، هكذا نقل عنهم بعض متأخري المتأخرين من مشايخنا المحققين ، إلا ان الظاهر من تتبع كلامهم في هذا المجال هو التفصيل في هذه الأقوال كما سنوضحه ـ ان شاء الله تعالى ـ على وجه يرفع الاشكال.

فنقول : انه مع اجتماع الأسباب المذكورة فلا يخلو اما ان يكون كلها واجبة أو كلها مستحبة أو مجتمعة منهما ، فههنا صور ثلاث : (الاولى) ـ ان تكون كلها واجبة ، والأظهر الأشهر الاكتفاء بغسل واحد مطلقا ، داخلها الجنابة أم لا ، عين الأسباب كلا أو بعضا أم لا ، اقتصر على نية القربة كما هو الأظهر غير الأشهر أو زاد عليها الرفع والاستباحة.

وذهب العلامة في جملة من كتبه إلى انه مع انضمام الجنابة إلى غيرها ، فان نوى الجنابة أجزأ عنها وعن غيرها ، وان نوى غيرها فظاهر كلامه في النهاية صحة الغسل ورفعه للحدث الذي نواه خاصة دون حدث الجنابة ، معللا بان رفع الأدون لا يستلزم رفع الأعلى ، هذا مع عدم اقترانه بالوضوء ، ومعه احتمل الرفع وعدمه. وظاهر كلامه في التذكرة الاستشكال في صحة الغسل من أصله ، من جهة عدم ارتفاع ما عدا الجنابة مع بقائها لعدم نيتها وعدم اندراجها تحت ما عداها ، ومن أنها طهارة قرنت بها


الاستباحة ، فإن صحت قرن بها الوضوء ، وحينئذ فالأقرب رفع حدث الجنابة بها. ولا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العليلة سيما في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة.

(الصورة الثانية) ـ ان يكون بعضها واجبا وبعضها مستحبا ، والأظهر أيضا ـ كما استظهره جملة من أصحابنا (قدس الله أرواحهم) ـ هو الاكتفاء فيها بغسل واحد مطلقا حسبما قدمنا من التفصيل في الإطلاق.

وذهب الشيخ في خلافه ومبسوطه ـ والظاهر انه هو المشهور بينهم كما صرح به بعض المتأخرين ـ إلى انه ان نوى الجميع أو الجنابة أجزأ غسل واحد ، وان نوى غسل الجمعة مثلا لم يجزه ، لا عن غسل الجنابة ، لعدم نيته ، ولا عن الجمعة ، لأن المراد به التنظيف وهو لا يحصل مع بقاء الحدث.

واعترضه المحقق في الثاني بأنه يشكل باشتراط نية السبب في الغسل المستحب ، وفي الثالث بأنه يجزئ عن الجمعة خاصة ، إذ ليس المراد من المندوب رفع الحدث ، فيصح ان يجامعه الحدث كما يصح غسل الإحرام من الحائض.

وذهب العلامة في التذكرة إلى انه مع نيتهما معا يبطل الغسل ، ومع نية الجنابة خاصة يصح بالنسبة إليها خاصة ، وان نوى الجمعة صح عنها خاصة مع بقاء حدث الجنابة ، ولو اغتسل ولم ينو شيئا بطل. وههنا إشكال سيأتي التنبيه عليه ان شاء الله تعالى.

(الصورة الثالثة) ـ ان تكون كلها مستحبة ، والأظهر أيضا الصحة حسبما قدمنا وذهب المحقق في المعتبر إلى الصحة ان نوى الجميع ، واما إذا نوى بعضها اختص بما نواه ، قال : «لأنا قد بينا ان نية السبب في المندوب مطلوبة ، إذ لا يراد به رفع الحدث ، بخلاف الأغسال الواجبة ، لأن المراد بها الطهارة فتكفي نيتها وان لم ينو السبب» انتهى. وهو صريح العلامة في التذكرة وظاهر الشهيد في الذكرى.

وفي المنتهى قرب الاكتفاء بغسل واحد ولم يفصل ، وفي التحرير والقواعد والإرشاد حكم بعدم التداخل ولم يفصل ، وهو ظاهر الدروس ، حيث نسب القول


بالتداخل إلى قول مروي.

ونقل عن المحقق الشيخ علي في شرح القواعد انه رجح عدم التداخل في هذه الصورة ولو مع نية الأسباب ، متمسكا بعدم الدليل على التداخل.

هذا. والذي يدل على ما اخترناه ويؤيد ما رجحناه روايات مستفيضة :

(منها) ـ حسنة زرارة (1) قال : «إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة والجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة ، وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد ، ثم قال : وكذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها وإحرامها وجمعتها وغسلها من حيضها وعيدها».

وهذه الرواية وان كانت مضمرة في الكافي إلا ان الإضمار الواقع في أخبارنا ، سيما إذا كان المضمر من أجلاء الرواة وأعيانهم ـ كما حققناه في موضع آخر ، وصرح به جملة من أصحابنا المتأخرين ـ غير مضر ، مع ان هذه الرواية مسندة في التهذيب عن أحدهما (عليهما‌السلام) وان كان في طريقها علي بن السندي وهو مجهول ، وقد رواها ابن إدريس (رحمه‌الله) في مستطرفات السرائر ، ونقل انه مما انتزعه من كتاب حريز ، فرواها عنه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) وكتاب حريز أصل معتمد وكيف كان فالرواية صحيحة ، وهي صريحة في المطلوب.

و (منها) ـ مرسلة جميل عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «إذا اغتسل الجنب بعد طلوع الفجر أجزأه ذلك الغسل من كل غسل يلزمه في ذلك اليوم».

وفي جملة من الاخبار ما يدل على التداخل في خصوص بعض الأغسال :

كصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) : قال :

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 43 ـ من أبواب الجنابة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 43 ـ من أبواب الجنابة. والرواية ـ كما في الكافي ج 1 ص 14 وسائر كتب الحديث ـ عن أحدهما (عليهما‌السلام).

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 43 ـ من أبواب الجنابة.


«سألته عن المرأة تحيض وهي جنب هل عليها غسل الجنابة؟ قال : غسل الجنابة والحيض واحد».

وفي رواية الخشاب (1) في مثل هذه الصورة «تجعله غسلا واحدا عند طهرها». ومثلها رواية أبي بصير (2) وغيرها.

وفي صحيحة زرارة (3) فيمن مات وهو جنب «يغسل غسلا واحدا يجزئ ذلك للجنابة ولغسل الميت ، لأنهما حرمتان اجتمعتا في حرمة واحدة». الى غير ذلك من الأخبار التي يطول بنقلها المقام.

وأنت خبير بان ظواهرها تعطي ان حكم الغسل كالوضوء في رفع الأحداث المتعددة واستباحة العبادات المتعددة ، وهي بإطلاقها دالة على الصحة مع نية الأسباب كلا أو بعضا أو عدم نية شي‌ء منها مع قصد القربة.

وكما تدل على تداخل الواجبات الصرفة والمجتمعة مع المندوبة صريحا كذلك تدل على تداخل المستحبات الصرفة ، إذ من الظاهر البين أن تعداده (عليه‌السلام) لجملة تلك الأغسال في حسنة زرارة (4) إنما هو من قبيل التمثيل وبيان للاجتزاء بغسل واحد لأسباب متعددة ، وحينئذ فذكر الجنابة معها ليس إلا كذكر غيره من سائرها ، ويؤيد ذلك ويحققه قوله (عليه‌السلام): «وإذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد». فان المراد بالحقوق هي الثابتة في الشريعة ولو على وجه الاستحباب ، وانه بملاحظة بعض الغايات الحاصلة يجزئ عن جملة من الغايات الأخر السابقة على الفعل وان لم تلحظ حال الفعل.

بل ربما يقال وعن الغايات المتجددة بعد الفعل ، كما رجحه بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين حسبما قررنا في الوضوء.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 43 ـ من أبواب الجنابة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب غسل الميت.

(4) ص 200.


كما هو ظاهر مرسلة جميل المتقدمة (1) ومثلها رواية عثمان بن يزيد ـ واستظهر بعض مشايخنا المتأخرين انه تصحيف عمر بن يزيد بقرينة رواية ابن عذافر عنه ، فتكون الرواية صحيحة ـ عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل ، ومن اغتسل ليلا كفاه غسله الى طلوع الفجر».

فان ظاهرهما الدلالة على الاجتزاء بالغسل الواقع أول النهار عن كل غسل نهاري ، وهو أعم من ان تكون غايته حاصلة قبل الفعل أو متجددة بعده. والظاهر ان المراد بالوجوب واللزوم فيهما مجرد الثبوت ، إذ يبعد الجزم بإرادة المعنى المصطلح عليه بين المتفقهة من كلامهم (عليهم‌السلام) سيما مع وجود القرينة الدالة على ما قلنا من عده (عليه‌السلام) في حسنة زرارة في جملة ما يجزئ الغسل عنه بعد الفجر جملة من الأغسال المستحبة ، بل هي الأكثر ، إذ لم يعد في صدر الرواية من الواجبات سوى غسل الجنابة مع انك قد عرفت ان الظاهر ان ذلك انما خرج مخرج التمثيل ، على ان احتمال الواجبة بناء على ما قلنا ـ غير ممكن ، لأن الأغسال الواجبة كغسل الجنابة ونحوه مسببة عن إحداث خاصة ، ولا يعقل تقدم المسبب على سببه ، وحينئذ فتكون الروايتان المذكورتان مخصوصتين بالأغسال المستحبة إذا تجددت غاياتها بعد الفعل ، ولفظ «يجب» و «يلزم» في الروايتين ظاهر في التجدد.

واما ما ظنه بعض مشايخنا المتأخرين ـ من قوله (عليه‌السلام): «إذا اجتمعت لله عليك حقوق. الحديث». حيث انه دال بمفهوم شرطه على عدم اجزاء الغسل الواحد قبل اجتماع الحقوق عنها ، فيكون منافيا لظاهر الخبرين الأولين ـ

ففيه (أولا) ـ ان دلالة الخبرين الأولين على ما ذكرناه ـ بناء على ما حققناه ـ

__________________

(1) في الصحيفة 200.

(2) رواها صاحب الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الإحرام من كتاب الحج.


بالمنطوق نظرا إلى العموم المستفاد منهما ، ودلالة الخبر المشار اليه بالمفهوم ، ولا شك في رجحان الأول على الثاني.

و (ثانيا) ـ انه لا ينحصر المعنى المراد من ترتب الاجزاء على اجتماع الحقوق في انتفائه بانتفائها ، بل يجوز أن يكون المراد ـ كما هو الظاهر ـ هو اجزاء غسل واحد مع اجتماع الحقوق لا تعدد الغسل لكل واحد واحد من الحقوق ، ردا على من زعم التعدد. ومفهوم الشرط إنما يكون حجة ما لم يظهر للترتب معنى آخر غير انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما هو مسلم في الأصول.

وبما ذكرنا يظهر دلالة الخبرين ـ كما هو الظاهر من غيرهما من أخبار المسألة أيضا ـ على عدم وجوب تعيين الوجه والسبب في الغسل ، بل يكفي إيقاع غسل له صلاحية الانصباب على الأغسال الواقعة في ذلك اليوم وان لم يلحظ تقدم سببها أو تأخره كالغسل الواقع بعد الفجر ، فإنه لوقوعه بعده يصلح للانصباب على جميع الأغسال المتعلقة بذلك اليوم ، وكذلك الواقع بعد الغروب بالنسبة إلى الأغسال الليلية.

ومما يدل على عدم وجوب تعيين الوجه والسبب في الغسل كما قلنا ـ بل يكفي غسل له صلاحية ما ذكرنا ـ ما رواه الصدوق في الفقيه (1) مرسلا وتلقاه الأصحاب بالقبول : «ان من جامع في شهر رمضان ونسي الغسل حتى خرج شهر رمضان ان عليه ان يغتسل ويقضي صلاته وصومه إلا أن يكون قد اغتسل للجمعة ، فإنه يقضي صلاته وصومه إلى ذلك اليوم».

وبما ذكرنا يظهر ان تداخل هذه الأغسال ـ كما دلت عليه الاخبار فرع اجتماعها في أمر كلي مشترك بينها وهو الرفع ، ومنه يظهر قوة القول بكون الغسل وان كان مندوبا فإنه يكون رافعا ، ومن اخبار تلك المسألة يظهر قوة ما ذكرنا أيضا ، إذ لو لم تكن مشتركة فيما ذكرنا ـ مع وجوب كون الأفعال تابعة للقصود والغايات المترتبة عليها كما

__________________

(1) في باب ما يجب على من أفطر أو جامع في شهر رمضان متعمدا أو ناسيا.


حققناه سابقا ، بل انه لا تحقق لها إلا بها حسبما دلت عليه تلك الأخبار التي قدمناها في المقام الأول ـ لم يظهر للتداخل وجه بالكلية ، فإنه كما لا تداخل بين الوضوء والغسل لتغاير الغرضين المترتبين على كل منهما ، فلا تداخل بين الغسلين المختلفي الغايتين بل يجب لكل منهما غسل على حدة ، ولهذا ذهب البعض ـ كما تقدم نقله ـ الى عدم التداخل مطلقا ، نظرا إلى اختلاف الأسباب فيجب اختلاف المسببات.

وان كان جملة من أصحابنا من المتأخرين المانعين من رفع الغسل المستحب ، لما وردت عليهم الأخبار الدالة على التداخل في الأغسال المستحبة ورأوا انه لا مندوحة عن العمل بها ، تكلفوا للتفصي عن ذلك بوجوب تعيين الأسباب فيها ، وصرحوا بأنه لو نوى البعض خاصة اختص صحة الغسل بما نواه. إلا ان الأخبار ـ كما عرفت ـ لا دلالة لها على ذلك بل هي دالة على عدمه.

ولهذا ان بعضهم ـ بعد ان اعترف بدلالة الأخبار على ما ذكرناه ـ استشكل فيما لو قصد معينا ، فكيف يجزئ عما لم يعينه؟ ثم أجاب انه ليس بعيدا من كرم الله تعالى إيصال الثواب بهذا الفعل الخاص في هذا الوقت المشتمل على شرعية هذه الأغسال مع فعله متقربا ، كما قيل في حصول ثواب الجماعة للإمام مع عدم شعوره بأن أحدا يصلي وراءه وغير ذلك. انتهى.

وأيضا فإنه لما وردت عليهم اخبار تداخل الأغسال الواجبة والمستحبة ، أشكل عليهم المخرج منها باعتبار تضاد وجهي الوجوب والاستحباب ، واعتبار نية السبب ، بل لزوم اتصاف شي‌ء واحد بمتضادين ، وهو كون غسل واحد واجبا وندبا ، وهو بديهي البطلان

وأجابوا تارة بعدم وجوب نية الوجه اما مطلقا أو فيما نحن فيه للاخبار ، وتارة باختيار نية الوجوب ودخول المندوب فيه وسقوط اعتبار السبب هنا بمعنى تأدي إحدى الوظيفتين بفعل الأخرى ، كما تتأدى صلاة التحية بقضاء الفريضة ، وصيام أيام البيض بصيام الواجب فيها. وبالجملة فالواقع هو الغسل الواجب خاصة لكن الوظيفة المسنونة تتأدى به


وأنت خبير بان ما ذكروه من الجواب وان اندفع به الإشكال بالنسبة إلى النية لكن الاشكال باعتبار لزوم كون شي‌ء واحد في نفس الأمر واجبا وندبا باق على حاله والاشكال المذكور على هذا لا اختصاص له بنية الجميع كما ذكروا بل نية أحدهما أيضا بأن يقال لو كان الغسل الواحد مجزئا عن الجميع لكان واجبا ومندوبا ، وهو محال لتضادهما.

وما ذكروه من تأدي الوظيفة المستحبة بفعل الواجبة لا يحسم مادة الإشكال ، لأن تأدي وظيفة المستحب ـ بمعنى استحقاق ما يترتب عليه من الثواب بفعل الواجب ـ تقتضي كون ذلك الغسل مستحبا ، لان ما يكون امتثالا للأمر المذكور يلزم أن يكون ندبا قطعا. وبالجملة فلما كان الوجوب والندب صفتين متضادتين فكما لا يتأدى الواجب بالإتيان بالمندوب فكذا العكس.

واما ما ذكر ـ من مثال صلاة التحية وصيام أيام البيض ـ فيمكن الجواب بان مقصود الشارع ثمة هو إيقاع العبادة في هذا المكان والزمان المخصوصين من حيث هي أعم من ان يكون بوجه الوجوب أو الندب ، لا خصوصية المندوب ، بخلاف ما نحن فيه بناء على ما يدعونه من عدم رفع المندوب ، فإن خصوصية كل واحد ملحوظة على حدة ، لعدم الاشتراك في أمر كلي يجمعهما حتى يجعل ذلك الأمر الكلي موجبا لاجزاء أحد الفردين عن الآخر واندراجه تحته.

وأجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين عن الاشكال المذكور ـ بعد الاعتراف بلزوم ما ذكرنا ـ بالتزام ذلك ومنع استحالته لاختلاف الجهة ، قال : «فان هذا الغسل الواحد من حيث انه فرد لغسل الجمعة وامتثال للأمر به مستحب ، ومن حيث انه فرد لغسل الجنابة وامتثال للأمر به واجب».

ولا يخفى ما فيه أيضا ، فإن الطبيعة انما تكون متعلقة للتكاليف باعتبار اتحادها


مع أفرادها في الخارج ، فمتى تعلق التكليف الاستحبابي كان معناه في الحقيقة يرجع الى ان ما تصدق عليه هذه الطبيعة يستحب فعله ويجوز تركه ، فلو كان بعض إفرادها ما لا يجوز تركه لم يكن القدر المشترك بين تلك الأفراد جائز الترك ، فلا يتعلق به التكليف الاستحبابي ، هذا خلف ، فإذا لا يجوز ان يكون الأمر الذي لا يجوز تركه فردا للطبيعة المستحبة. نعم يمكن ان يكون أمر واحد فردا للطبيعة المستحبة وفردا للطبيعة الواجبة فردا يجوز تركه بأن يأتي بفرد آخر لا مطلقا ، وهو خارج عن محل البحث

وأنت خبير بأنه إذا رجعت إلى ما قررناه آنفا ـ من ان الاخبار إنما وردت بالتداخل في جميع أقسام الغسل كما اخترناه ، من حيث اشتراكها في ذلك الأمر الكلي ـ اندفع الاشكال من المقام بحذافيره ، كما انه لا مجال لهذا الاشكال عندهم في تداخل الأغسال الواجبة بعضها في بعض ، لاشتراكها في الرفع.

والعجب من جملة من أصحابنا المرجحين لما اخترناه في مسألتي التداخل ورفع الغسل المندوب ، ضاق عليهم الخناق في التفصي عن هذا الاشكال ، وأكثروا من الترديد في دفعه والاحتمال.

وسيأتي ـ ان شاء الله تعالى في بيان المسألة الثانية ـ ما يزيد هذا المقام إيضاحا ويتسع له الصدر انشراحا.

هذا ما اقتضاه النظر القاصر باعتبار ما هو مقتضى الدليل ، واستفادة الفكر الفاتر من كلام تراجمة الوحي والتنزيل. والاحتياط مما لا ينبغي تركه في جميع الأبواب ولا سيما هنا ، بقصد الغايات المتعددة والأسباب.

(المقام الثاني عشر) ـ قد صرح جملة من الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) بنقل النية في مواضع :

(الأول) ـ ما إذا اشتغل بلاحقة ثم ذكر سابقة ، سواء كانتا مؤداتين


أو مقضيتين ، أو المعدول عنها حاضرة والمعدول إليها فائتة أو بالعكس بشرط ضيق الوقت عن الحاضرة.

(الثاني) ـ العدول من القصر إلى الإتمام وبالعكس. (الثالث) ـ من الائتمام الى الانفراد وبالعكس. (الرابع) ـ من الائتمام إلى الإمامة ، ومن الائتمام بإمام الى الائتمام بآخر. (الخامس) ـ من الفرض إلى النفل. (السادس) ـ من النفل الى النفل.

إذا عرفت هذا فنقول : (اما الموضع الأول) فقد اشتمل على اربع صور ، والمعلوم صحة ما عدا الرابعة ، لاعتضاده بالأخبار بل وعدم الخلاف كما سيأتي تحقيقه في موضعه ان شاء الله تعالى واما الرابعة فمحل اشكال ، لعدم الوقوف فيها على نص ، وجزم الشهيد في البيان بالعدول من القضاء إلى الأداء ، وكذا من السابقة إلى اللاحقة مع تضيق الوقت ، وبالأولى منهما صرح في المفاتيح أيضا.

(الموضع الثاني) ـ والقول فيه انه لا يخفى ان جواز العدول من أحد هذين الفرضين إلى الآخر انما يكون في موضع يباح فيه كل منهما ، كالمسافر المريد لنية الإقامة ومن حصل في أحد المواطن الأربعة ، فإنه لو صلى بقصد أحد الفرضين مع كون الآخر مباحا له ، فإنه يجوز له العدول إلى الثاني :

وتفصيل القول في ذلك اما بالنسبة إلى العدول من القصر إلى الإتمام ، فقد ورد في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن رجل خرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو في صلاته. قال : يتم إذا بدت له الإقامة». ومثلها رواية محمد بن سهل عن أبيه عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (2) والحكم هنا مما لا خلاف فيه.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب صلاة المسافر.


والظاهر ان الحكم مثله في المصلى في أحد الأماكن الأربعة لو عدل في أثناء صلاة القصر إلى التمام وبالعكس أيضا ، عملا بعموم الدليل الدال على التخيير بالنسبة إليه في هذه الأماكن ، وانه بمجرد دخوله في أحد الفرضين لا يزول حكم التخيير عنه.

وبالتخيير هنا صرح المحقق في المعتبر واستحسنه جماعة ممن تأخر عنه : منهم ـ السيد السند في المدارك وشيخنا المجلسي في البحار وغيرهما في غيرهما.

وينبغي تقييده بما إذا لم يتجاوز محل العدول فيما إذا عدل من التمام إلى القصر ، وما لم يسلم على الركعتين في العكس ، وإلا لأشكل ذلك فيما لو دخل بنية الإتمام ثم سلم على الركعتين ساهيا ، أو دخل بنية القصر ثم صلى الركعتين الأخيرتين ساهيا ، فان الحكم بالصحة ـ بناء على انه مخير في الإتيان بأيهما وقد اتى بأحدهما ـ مشكل ، لان الظاهر ان المكلف وان كان مخيرا بين الفردين لكن باختياره أحدهما وقصده الامتثال به من غير عدول عنه يتعين في حقه ويترتب عليه أحكامه من الابطال بزيادة ما زيادته مبطلة ونقصان ما نقصانه مبطل ، وإلا للزم الحكم بالصحة بناء على استحباب التسليم فيما لو صلى بنية التمام ثلاث ركعات ثم سلم على الثالثة ساهيا ، فإنه قد أوجد الصلاة المقصورة في ضمن هذه الثلاث ركعات وان كانت غير مقصودة ، فتكون مجزئة ، بل ولو سلم عامدا أو أحدث والحال هذه في أثناء الركعتين الأخيرتين أو فعل ما يبطلها ، فإنه تكون صلاته صحيحة باعتبار اشتمالها على الصلاة المقصورة في الجملة. والحكم بالصحة في أمثال ذلك خارج عن مقتضى الأصول المقررة والقواعد المعتبرة.

وبذلك يظهر لك ما في كلام الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد ، حيث قال : «الظاهر انه لو نوى القصر ثم تممها نسيانا أو عمدا مع النقل تصح الصلاة وبالعكس» انتهى.

واما بالنسبة إلى العدول من الإتمام إلى القصر فقد عرفت الكلام فيه بالنسبة


إلى المواضع الأربعة. واما في قاصد الإقامة فهو إنما يتم بالنسبة إلى أول فريضة يريد إيقاعها بنية التمام ، إذ بعدها لا مجال للعدول. لوجوب الإتمام حينئذ حتى يقصد المسافة.

وقد اختلف كلام الأصحاب في هذا المقام ، فالمنقول عن الشيخ في المبسوط وابن الجنيد وأبي الصلاح وجوب المضي على التمام في تلك الفريضة حتى يخرج مسافرا. وتردد المحقق في المعتبر والشرائع ، نظرا إلى افتتاح الصلاة على التمام وهي على ما افتتحت عليه ، وإلى عدم الإتيان بالشرط وهو الصلاة على التمام. وفصل في التذكرة والمختلف والقواعد بتجاوز محل القصر فلا يرجع ، وبعدم تجاوزه فيرجع ، لانه مع التجاوز يلزم من جواز الرجوع إبطال العمل المنهي عنه ، ومع عدم تجاوزه يصدق انه لم يصل فريضة على التمام ، واليه ذهب في البيان والدروس. وأطلق في المنتهى العود إلى التقصير ، لعدم حصول الشرط ، واختاره السيد السند في المدارك وشيخنا المجلسي في كتاب البحار.

والمسألة غير منصوصة على الخصوص ، الا انه لما كان فرض المسافر التقصير وانتقال فرضه إلى آخر يحتاج إلى دليل ـ وغاية ما يستفاد من صحيحة أبي ولاد (1) التي هي مستند هذا الحكم هو صلاة فريضة على التمام بنية الإقامة. وبالعدول في أثنائها وان تجاوز محل القصر لا يصدق حصول فريضة على التمام ، فينتفي الشرط وبانتفائه ينتفي المشروط ـ كان الأظهر هو القول الأخير. وحينئذ فمتى كان العدول بعد تحقق الزيادة المبطلة يتعين الإعادة ، لفوات شرط التمام ، وبطلان المقصورة بما اشتملت عليه من الزيادة ، وإلا صحت صلاته قصرا.

(الموضع الثالث) ـ وهو العدول من الائتمام إلى الانفراد وبالعكس ، ويشتمل على صورتين :

(إحداهما) ـ العدول من الائتمام إلى الانفراد ، واستدلوا عليه بصحيحة

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 18 ـ من أبواب صلاة المسافر.


علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل يكون خلف امام فيطول في التشهد ، فيأخذه البول أو يخاف على شي‌ء ان يفوت أو يعرض له وجع ، كيف يصنع؟ قال : يسلم وينصرف ويدع الامام».

وعندي في الاستدلال بهذه الرواية إشكال ، وذلك لأنها وان دلت على جواز الانصراف مع العذر لكنها قد دلت على كون محله التشهد ، وانه بسبب تطويل الإمام في التشهد ، والظاهر ان المراد بتطويله عبارة عن الإتيان بما اشتمل عليه من الأذكار المستحبة في التشهد وهو التشهد المستحب ، وحينئذ فمن المحتمل قريبا ان الأمر بالانصراف انما هو في ضمن تلك الأذكار المستحبة بعد الإتيان بالصيغة الواجبة ، وعلى هذا فلا دلالة في هذا الخبر على المدعى ، لأنهم قد صرحوا بجواز تسليم المأموم قبل الامام وان كان لا لعذر ، وجعلوها مسألة مستقلة غير ما نحن فيه ، واستدلوا عليها بصحيحة أبي المغراء عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «في الرجل يصلي خلف الامام فيسلم قبل الامام؟ قال : ليس عليه بذلك بأس». واستدلوا أيضا بالرواية السابقة في تلك المسألة ، وكأنه لفهمهم منها الأولوية لهذه الصورة.

والظاهر عندي ـ لما عرفت ـ هو الاختصاص بهذه الصورة ، على ان الرواية المذكورة ـ بناء على ما ذكروا ـ معارضة بصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن رجل يكون خلف الامام فيطيل الامام التشهد. قال : يسلم ويمضي لحاجته ان أحب». فإنها دالة على جواز الانفراد لا لعذر مع تعين محل المفارقة فيها كتلك الرواية. وعلى ما ذكرنا من تخصيص ذلك بما بعد التشهد يزول الاشكال عن الجميع مع ان العذر المذكور في صحيحة علي بن جعفر انما وقع في كلام السائل. هذا مع العذر.

واما مع عدمه فالمشهور أيضا جواز العدول مع نية الانفراد ، وذهب الشيخ في المبسوط إلى العدم.

وأدلة كل من الطرفين لا تخلو من دخل ، إلا ان يقين البراءة من التكليف

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 64 ـ من أبواب الجماعة.


الثابت يقينا يعضد ما ذهب إليه في المبسوط.

ويؤيده أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) انه «سأله عن إمام أحدث فانصرف ولم يقدم أحدا ، ما حال القوم؟ قال : لا صلاة لهم إلا بإمام ...».

ومن مواضع العدول في الصورة المذكورة ما لو تبين للمأموم في أثناء الصلاة بطلان صلاة الإمام ، فإنه يعدل إلى الانفراد ، لصحيحة زرارة عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل صلى بقوم ركعتين ثم أخبرهم انه ليس على وضوء. قال : يتم القوم صلاتهم ، فإنه ليس على الامام ضمان».

(الصورة الثانية) ـ العدول من الانفراد إلى الائتمام وهو قول الشيخ في الخلاف مدعيا عليه الإجماع ، ونفى عنه البأس العلامة في التذكرة ، واختاره السيد العلامة المحدث نعمة الله الجزائري (قدس‌سره) في رسالة التحفة ، ونقل من حجة المنع من ذلك التعويل على ما روى (3) : «ان الشارع في فريضة ينقلها إلى النفل ويجعلها ركعتين إذا أحرم إمام الجماعة». فلو ساغ العدول لم يكن ذلك. ثم أجاب بأن القطع والنقل انما شرعا تحصيلا لصلاة الجماعة من أول الصلاة. انتهى.

والأظهر ـ كما استظهره جمع من متأخري المتأخرين ـ العدم ، لعدم ثبوت التعبد بمثله ، مؤيدا بما ذكره السيد المشار اليه. وما أجاب به (قدس‌سره) عن ذلك منظور فيه ، بأنه لو كان العلة ما ذكره لكان الأنسب بذلك هو العدول دون النقل ، إذ لا يخفى انه متى كان الغرض إدراك الصلاة من أولها مع الامام والمسارعة إلى ذلك ، فان العدول أقرب إلى تحصيله ، إذ ربما كان في النقل إلى النفل ما يفوت به الغرض المذكور

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 72 ـ من أبواب الجماعة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 36 ـ من أبواب الجماعة.

(3) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 56 ـ من أبواب الجماعة.


سيما إذا كان المصلي المنفرد لم يأت بشي‌ء من صلاته سوى تكبيرة الإحرام ، وبناء صلاة الجماعة على التخفيف فربما يفوته بالنقل الإدراك للركعة الأولى كما لا يخفى ، ولا سيما إذا جعلنا الموضع الذي يكلف المنفرد بالنقل فيه ما إذا اشتغل الإمام بشي‌ء من واجبات الصلاة دون ما يقدم من المندوبات ، كما هو أحد القولين في المسألة. وبالجملة فما ذكره (رحمه‌الله) في الجواب ليس بذلك المستجاب في هذا الباب.

(الموضع الرابع) ـ وهو العدول من الائتمام إلى الإمامة ، ومن الائتمام بإمام الى الائتمام بآخر ، وهو منصوص في مواضع ثلاثة :

(أحدها) ـ ما إذا أحدث الإمام في أثناء الصلاة ، فإنه يستخلف بعض المأمومين يتم بهم الصلاة.

ويدل عليه روايات عديدة : منها ـ صحيحة معاوية بن عمار (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يأتي المسجد وهم في الصلاة وقد سبقه الإمام بركعة أو أكثر. فيعتل الإمام فيأخذ بيده ويكون ادنى القوم اليه فيقدمه. فقال : يتم صلاة القوم ثم يجلس. الحديث».

وما رواه في الفقيه (2) مرسلا عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وفيه : «... ثم لينصرف وليأخذ بيد رجل فليصل مكانه. الحديث».

و (ثانيها) ـ ما إذا حدث بالإمام حدث من موت أو إغماء ، فان المأمومين يستخلفون بعضهم ليتم بهم ، وعليه تدل

صحيحة الحلبي (3) «في رجل أم قوما فصلى بهم ركعة ثم مات؟ قال : يقدمون رجلا آخر ويعتدون بالركعة. الحديث».

و (ثالثها) ـ ما لو ائتم المتمم بالمقصر ، فإنه بعد تمام صلاة الإمام يتم بهم بعضهم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 40 ـ من أبواب الجماعة.

(2) ج 1 ص 261 وفي الوسائل في الباب ـ 72 ـ من أبواب الجماعة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 43 ـ من أبواب الجماعة.


وعليه تدل صحيحة الفضل بن عبد الملك عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا يؤم الحضري المسافر ولا المسافر الحضري. فإذا ابتلى بشي‌ء من ذلك فأم قوما حاضرين ، فإذا أتم الركعتين سلم ثم أخذ بيد بعضهم فقدمه فأمهم. الحديث». ولا اعلم خلافا في هذه المواضع الثلاثة.

بقي هنا صور ينبغي التنبيه عليها :

(إحداها) ـ هل يجوز العدول من الائتمام بإمام في أثناء الصلاة إلى الائتمام بآخر لو حضرت جماعة أخرى في ذلك المكان؟ قولان ، اختار أولهما العلامة في التذكرة وتبعه المحدث الكاشاني في المفاتيح. ورد بعدم ثبوت التعبد به. وهو كذلك.

و (ثانيها) ـ لو صلى الإنسان مأموما وكان مسبوقا ، فبعد فراغ الامام وانفراده بما بقي عليه هل يجوز الاقتداء به من المأمومين المشاركين له في المسبوقية وغيرهم أو لا؟ الظاهر العدم ، لأن العبادة توقيفية ، والنص انما ورد في تلك المواضع الثلاثة ، ومجرد الإلحاق بها قياس.

واستشكل العلامة في التحرير ، حيث قال : «ولو سبق الامام اثنين ففي ائتمام أحدهما بصاحبه بعد تسليم الإمام إشكال» انتهى.

وكأن وجه الاشكال ، من جهة المساواة للموضع الثالث من المواضع المتقدمة فيصح الائتمام ، ومن حيث عدم النص القاطع على ذلك ، والعبادة توقيفية. والإلحاق لمجرد المساواة قياس.

و (ثالثها) ـ لو صلى مأموما ثم عدل في أثناء الصلاة إلى نية الإمامة ببعض المأمومين أو غيرهم بعد نقل نيته إلى الانفراد أو عدمه.

و (رابعها) ـ ان ينقل الامام نيته في أثناء الصلاة إلى الائتمام ببعض المأمومين والمأموم نيته إلى الإمامة.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 18 ـ من أبواب صلاة الجماعة.


ولم أقف لأحد من الأصحاب على تصريح في هاتين الصورتين. ومقتضى ما قلنا سابقا عدم الجواز ، لما عرفت.

(الموضع الخامس) ـ العدول من الفرض إلى النفل وقد ورد النص به في مواضع :

(أحدها) ـ لو دخل الإنسان في الصلاة منفردا فأقيمت الجماعة ، فإنه يعدل بنيته من الفرض إلى النفل ويتم صلاته ركعتين ثم يلحق بالإمام.

ويدل عليه روايات : منها ـ صحيحة سليمان بن خالد (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل دخل المسجد فافتتح الصلاة ، فبينما هو قائم يصلي إذ أذن المؤذن واقام الصلاة. قال : فليصل ركعتين ثم ليستأنف الصلاة مع الامام ، ولتكن الركعتان تطوعا».

وظاهر الرواية ان تعلق الحكم بالمصلي ـ من نقل صلاته إلى النافلة ـ متى أقيمت الصلاة ، وهو أحد القولين في المسألة. وقيل انه لا يتعلق به إلا بعد اشتغال الإمام بشي‌ء من واجبات الصلاة.

و (ثانيها) ـ لو نسي قراءة الجمعة والمنافقين في ظهر الجمعة وقرأ غيرهما حتى تجاوز النصف ، فإنه ينقل الفريضة إلى النافلة ويتمها ركعتين ثم يستأنف الظهر ، كذا نقل عن الصدوق (رحمه‌الله).

والخبر الذي وقفت عليه في هذه المسألة إنما تضمن صلاة الجمعة ، وهو صحيحة صباح بن صبيح (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل أراد ان يصلي الجمعة فقرأ بقل هو الله أحد؟ قال : يتمها ركعتين ثم يستأنف». ولم أقف بعد التتبع على خبر سواه في المسألة.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 56 ـ من أبواب الجماعة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 72 ـ من أبواب القراءة في الصلاة.


وخص الحكم في البيان بصلاة الجمعة. ونقل عن ابن إدريس انه أنكر النقل الى النفل هنا.

وعد في المفاتيح في هذا الموضع أيضا ناسي الأذان والإقامة ، مستندا إلى جواز القطع له والعدول اولى. وهو عجيب منه (قدس‌سره).

ثم انه بعد ذلك استظهر جواز العدول لمطلق طلب الفضيلة ، قال : «لاشتراك العلة الواردة في النصوص عليه» وهو منه أعجب ، فإن ما استند اليه من الاشتراك في العلة غير خال من العلة ، إذ الفضيلة التي ظنها مجوزة للعدول بزعمه اما ان يريد بها في المعدول اليه أو في الفعل المستأنف في الموضع الذي يكون كذلك ، كما في هذا الموضع. وعلى الأول فبطلانه أوضح من ان يبين ، حيث ان اخبار الموضع الأول إنما تضمنت العدول إلى السابقة لتقدم اشتغال الذمة بها مع وجوب مراعاة الترتيب. واما اخبار الموضع الثاني فإنما هو لإباحة كل من الأمرين له ، واما اخبار الموضع الثالث فإنما هو للرخصة بل المعدول إليها مفضولة ، وأما اخبار الموضع الرابع فإنما هو في فريضة واحدة لإتمامها ، واما اخبار هذا الموضع فإنما المعدول إليه نافلة وهي مفضولة. واما على الثاني فيما ذكرنا انما يتمشى له في اخبار هذا الموضع ، ولم نقف في شي‌ء منها على علة منصوصة فيها حتى يتم له البناء عليها وان أمكن استفادة ذلك منها بحسب المقام ، الا انه غير مجوز لان يبنى عليه شي‌ء من الأحكام ، بل هو محض القياس المنهي عنه في اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام).

(الموضع السادس) ـ النقل من النفل إلى النفل ، وقد نقل السيد السند (قدس‌سره) في المدارك عن الأصحاب التصريح بالجواز إذا شرع في نافلة لاحقة ثم ذكر السابقة. ولم أقف في ذلك على نص يوجب المصير اليه.

(المقام الثالث عشر) ـ لو شك في نية الصلاة وقد كبر فالظاهر انه لا خلاف في الصحة والمضي في صلاته ، للأخبار المستفيضة الدالة على انه بالدخول في غير المشكوك


فيه يمضي في صلاته (1).

ولو سهى عن النية حتى كبر ، فمقتضى كلام الأصحاب ـ القائلين بوجوب المقارنة في النية. وانها عبارة عن ذلك الحديث النفسي والتصوير الفكري ـ البطلان.

ومقتضى ما قدمنا من التحقيق في معنى النية انه ان كان السهو انما عرض له حال التكبير مع استصحابه لها حال القيام للصلاة والشروع في مستحباته المتقدمة ، فلا وجه للبطلان.

ولو نوى الفريضة ودخل فيها ثم نوى النافلة سهوا واتى ببعض الركعات أو بالعكس ، فان كان قد علم حال نفسه عند القيام للصلاة بأنه في الصورة الأولى إنما قام للفريضة وفي الثانية انما قام للنافلة ، بنى على ما قام له وجدد النية لما بقي وصح ما مضى من صلاته ، وان لم يعلم حاله ثمة بطلت صلاته. وهكذا لو ذكر القيام للفريضة وانها ظهر مثلا ، ثم سهى في الأثناء واتى ببعض أفعالها على انها العصر ثم ذكر ، فإنه يجدد النية لما بقي ويمضي.

ويدل على ذلك روايات : منها ـ ما رواه في الكافي (2) والتهذيب في الحسن عن عبد الله بن المغيرة قال : «في كتاب حريز انه قال : اني نسيت انى في صلاة فريضة حتى ركعت وانا أنويها تطوعا؟ قال : فقال : هي التي قمت فيها : ان كنت قمت وأنت تنوي فريضة ثم دخلك الشك فأنت في الفريضة ، وان كنت دخلت في نافلة فنويتها فريضة فأنت في النافلة ...».

ورواية عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن رجل قام في صلاة فريضة فصلى ركعة وهو ينوي أنها نافلة؟ قال : هي التي قمت

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

(2) ج 1 ص 101 وفي التهذيب ج 1 ص 233 وفي الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب النية من كتاب الصلاة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب النية من كتاب الصلاة.


فيها ولها ، وقال : إذا قمت وأنت تنوي الفريضة فدخلك الشك بعد ، فأنت في الفريضة على الذي قمت له ، وان كنت دخلت فيها وأنت تنوي نافلة ثم انك تنويها بعد فريضة فأنت في النافلة ، وانما يحسب للعبد من صلاته التي ابتدأ في أول صلاته».

ورواية معاوية بن عمار (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل قام في الصلاة المكتوبة فسهى فظن أنها نافلة ، أو قام في النافلة فظن أنها مكتوبة. قال : هي على ما افتتح الصلاة عليه».

والظاهر أيضا ثبوت الحكم المذكور وان لم يذكر إلا بعد الفراغ ، كما هو ظاهر إطلاق الرواية الأخيرة.

وهل المراد بالوقت الذي عليه المدار في البناء ، هو حال النهوض والقيام للصلاة من التوجه لها بالأذان والإقامة ونحوها من الأفعال المتقدمة ، أو حال النية وتكبيرة الإحرام؟

الظاهر من ظاهر الأخبار الأول ، ويؤيده ما صرح به جماعة من الأصحاب من انه لو لم يعلم ما نواه فإن الصلاة تبطل ، إلا إذا علم ما قام له فإنه يبني عليه ، عملا بالظاهر من انه نوى ما في نفسه ان يفعله.

واستدل عليه بعضهم بهذه الأخبار المنقولة هنا.

ورد بأنها لا دلالة لها على ذلك ، إذ مدلولها انما هو ما لو نوى شيئا ثم قصد خلافه سهوا. فإنه يبنى على ما نوى أولا ولا يضره ما فعله بقصد غيره.

وفيه أن الظاهر من قوله (عليه‌السلام) : «هي التي قمت فيها ولها» انه يبنى على ما قصده حين قيامه وتوجهه للصلاة. أعم من أن يكون نسي ما نواه أولا ولم يعلمه على اليقين ، أو شك فيه ، أو ذكره ولكن عرض له السهو بان نوى غيره ، إذ خصوص السؤال عن ذلك الفرد لا يخصص كما قرر في محله ، مع أن هذا المورد صرح بأنه لو علم ما تعين عليه وقام له ثم عرضه الشك في نيته ، لا يبعد البناء عليه.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب النية من كتاب الصلاة.


(المقام الرابع عشر) ـ نقل عن بعض متأخري المتأخرين ان من لم يكن من نيته فعل الصلاة بعد الوضوء لا يجوز له الوضوء ولو فعله كان باطلا ، بل لو كان من نيته فعل الصلاة ولم يفعلها تبين بطلانه.

ونقل عن فخر المحققين (رحمه‌الله تعالى) ان من كان بالعراق ونوى بوضوئه استباحة الطواف صح وضوؤه ، ومثله نقل عن الشهيد في البيان.

واستشكله المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) بأنه نوى امرا ممتنعا فكيف يحصل له؟

وأجيب بأن المنوي ليس وقوع الطواف بالفعل بل استباحته ، فالمنوى غير ممتنع والممتنع غير منوي.

وتوضيحه ـ على ما حققه شيخنا البهائي (قدس‌سره) في بعض فوائده ـ انه لا ريب ان كون المكلف على حالة يتمكن معها من الدخول في عبادة مشروطة بالطهارة ـ كالصلاة والطواف مثلا ـ أمر راجح في نظر الشارع ، فلو توضأ المكلف بقصد صيرورة الصلاة مباحة له ـ اعني حصول تلك الحالة ـ فينبغي ان تحصل له ، وكونه يأتي بعد ذلك بالصلاة أو لا يأتي أمر خارج عن القصد المذكور ، فان حصول تلك الحالة أمر مغاير لفعل الصلاة بغير مرية. نعم لو نوى بالوضوء فعل الصلاة مجردا عن استباحتها ولم يكن من قصده فعلها ، لكان متلاعبا بنيته. فلا بعد في القول بفساد طهارته حينئذ.

أقول : لا يخفى ما في كلام البعض المذكور من الضعف والقصور :

(أما أولا) ـ فلعدم الدليل على ما ذكره ، بل الدليل على خلافه واضح السبيل

و (اما ثانيا) ـ فلما فيه من الإجمال بل الاختلال ، فإنه ان أراد بذلك ما لو كان في الوقت ، فإنه لا يخفى ان الواجب عليه هو الوضوء والصلاة ، والإتيان بأحد الواجبين وان لم يأت بالآخر بعده غير مضر بصحته. فمن اين له انه لا يجوز له الوضوء وهو مخاطب به وواجب عليه؟ غايته انه تجب عليه الصلاة معه ولكن وجوب الصلاة موسع عليه ، وحينئذ فلو توضأ في أول الوقت لأجل ان يصلي في آخره فلا مانع


من صحته ، ومدعى الابطال عليه الدليل ، وليس فليس. وان أراد في غير الوقت ، فإنه لا يخفى ان للوضوء غايات متعددة ، وان قصد ايها كان موجب لصحة الوضوء وان لم يقصد الصلاة ، ومع ذلك فإنه يجوز له الدخول به في الصلاة.

والحق هو ما ذكره شيخنا المذكور (قدس‌سره) لما تقدم تحقيقه في المقام العاشر مما حاصله ان من نوى بوضوئه إحدى الغايات المتقدمة ، فلا ريب في صحة وضوئه وجواز دخوله به في الصلاة وغيرها مما هو مشروط بالطهارة ، وان التحقيق ان الغاية الحقيقة للوضوء إنما هو قصد الرفع وان تلك الغايات إنما تترتب عليه.

الا ان قول شيخنا المشار إليه في آخر كلامه : «نعم لو نوى بالوضوء فعل الصلاة. إلخ» لا يخلو من مناقشة ، فإنه لا يخفى انه متى كان المكلف عالما بأنه لا يجوز له الدخول في الصلاة بغير وضوء وقد قصد بوضوئه هذا الإتيان بالصلاة بعده ، فهذا هو معنى الاستباحة شرعا وان لم يتصور هذا العنوان بخصوصه ولم يخطر بباله ، إذ لا معنى لاستباحة الصلاة إلا اعتقاد كونها مباحة له بعد الوضوء وانها لا تباح له قبله ، فقصد الدخول فيها والإتيان بها بهذا الوضوء هو عين قصد الاستباحة. ولعل مبنى كلامه (قدس‌سره) على ما هو المشهور من تصور هذا العنوان بخصوصه وإخطاره بباله ، حيث ان النية عندهم عبارة عن هذا الحديث النفسي والتصوير الفكري ، وإلا فإن مرجع هذه النية التي فرضها وزعم بطلان الطهارة بها إلى ما ذكره أولا. والله العالم.

(المقام الخامس عشر) ـ قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك ـ بعد ان استدل على وجوب النية في الوضوء بآية «وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...» (1) وبالأخبار المتقدمة في المقام الأول (2) ـ ما صورته : «واعلم ان الفرق ـ بين ما تجب فيه النية من الطهارة ونحوها ، وما لا تجب من إزالة النجاسة وما شابهها ـ ملتبس جدا ، لخلو الاخبار من هذا البيان. وما قيل ـ من ان النية انما تجب في الأفعال

__________________

(1) سورة البينة الآية 5.

(2) في الصحيفة 171.


دون التروك ـ منقوض بالصوم والإحرام. والجواب بان الترك فيهما كالفعل تحكم. ولعل ذلك من أقوى الأدلة على سهولة الخطب في النية وان المعتبر فيها تخيل المنوي بأدنى توجه. وهذا القدر أمر لا ينفك عنه أحد من العقلاء كما يشهد به الوجدان ، ومن هنا قال بعض الفضلاء : لو كلفنا الله الصلاة وغيرها من العبادات بغير نية كان تكليف ما لا يطاق. وهو كلام متين لمن تدبره». انتهى.

أقول : الظاهر ان وجه الإشكال الذي أشار إليه (قدس‌سره) في ذلك هو ان كلا من الطهارة ونحوها من العبادات وازالة النجاسة وما شابهها مما قد وقع التكليف به من الشارع ، مع انهم قد أوجبوا النية في القسم الأول دون الثاني ، ووجه الفرق غير واضح.

وأنت خبير بأنه اما ان يراد بالنية هنا المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن مجرد القصد إلى الفعل ، كما يشعر به آخر كلامه من قوله : «وان المعتبر فيها تخيل المنوي. إلخ» أو المعنى الشرعي الذي هو القصد المخصوص المقرون بالقربة ، كما يشعر به صدر كلامه من الاستدلال بالآية والأخبار المشار إليها. وعلى الأول يكون الإشكال في إزالة النجاسة من جهة انه لا يجب في إزالتها القصد إلى ذلك ، بل لو زالت بوقوع الثوب في الماء أو اصابة المطر له اتفاقا أو نحو ذلك كفى في الحكم بالطهارة. وعلى الثاني أيضا انه متى كان الأمر كذلك فبالطريق الاولى ان لا يشترط في الإزالة القربة ولا نية الندب ولا غيرهما من قيود النية الشرعية.

وجملة من الأصحاب قد أجابوا عن الاشكال المذكور بالفرق بين المقامين ، وان النية إنما تجب في الأفعال من حيث وقوعها على أنحاء متعددة ، كما تقدم منا بيانه في المقام الأول (1) فلا بد من النية في تميز بعضها عن بعض ، واما التروك فباعتبار كونها مرادة للشارع لكن لا على وجه مخصوص بل بأي وجه تحققت ، فليس هناك وجوه متعددة

__________________

(1) في الصحيفة 170.


لمتعلق التكليف يتوقف الامتثال على تعيين فرد منها بالنية ، بل يكفي في حصول المطلوب شرعا مجرد الترك وان كان لا عن قصد ، وفي حكمها الأفعال المطلوب بها ترك شي‌ء آخر كمحل البحث ، فإن إزالة النجاسة لما كان المطلوب بها ترك النجاسة كانت ملحقة بالتروك

وأورد عليهم الانتقاض بالصوم والإحرام ، فان كلا منهما مفسر بترك الأشياء المعينة.

أجابوا بأن الترك هنا كالفعل في وجوب النية ، قالوا : ان متعلق التكليف اما فعل محض أو ترك كالفعل ، وكل منهما مما تجب فيه النية ، أو ترك محض أو فعل كالترك ، وهما مما لا تجب فيه النية.

ولا يخفى ما في الجواب المذكور من القصور ، كما أشار إليه السيد السند (قدس‌سره) والتحقيق في هذا المقام ما افاده المحدث الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل عبارة الكتاب ـ «قلت : تحقيق المقام ان المطلوب من العبد قد يكون إيجاد أثر في الخارج ، كالقراءة والركوع والسجود ، وقد يكون إيجاد أثر في الذهن ، كعزمه ان لا يتعمد شيئا من المفطرات من طلوع الفجر إلى المغرب بشرط ان لا يقع منه ما ينافيه. وحقيقة الصوم هو هذا العزم المقيد بالشرط المذكور ، ولذا لو نوى وأخذه النوم إلى المغرب صح صومه ، ولو لم ينو واجتنب المفطرات لم يصح صومه كما تقرر. فان كانت حقيقة الإحرام عزمه على ان لا يتعمد شيئا من الأمور المعينة من حين التلبية إلى وقت الحلق والتقصير بشرط الإتيان بالتلبية ، فهو من الباب الثاني وان كانت حقيقته الحالة المترتبة على نية الحج والعمرة والإتيان بأول جزء منه وهو التلبية ـ كما هو الظاهر عندي من الروايات ـ فليس من الباب الثاني ، بل هو من الأحكام المترتبة على مجموع النية والإتيان بجزء من المنوي ، نظير حرمة منافيات الصلاة على المصلي بسبب نية الصلاة وتكبيرة الإحرام. وقد يكون وجود حالة كطهارة ثوبه حال صلاته ،


ففي الصورة الأولى تتميز العبادة عن غيرها كاللعب بالنية. وفي الصورة الثانية العبادة المطلوبة نفس العزم المقيد بقيد ، فلا حاجة لها إلى عزم وارادة أخرى ، وهو واضح. واما الصورة الثالثة فليس المطلوب فيها إيجاد أثر ، ولذا لو كانت طهارة الثوب حالة اصلية مستصحبة أو حاصلة بفعل الغير أو بغير فعل أحد كأن يقع في النهر أو يصيبه السيل ، لكفت. وفي الصورة الأولى لما كان المطلوب إيجاد اثر لم يجز ان يغسله غيره أو يوضئه ، ومع الاضطرار لا يصح ذلك أيضا إلا بإرادته كما قرر في موضعه» انتهى كلامه. وهو جيد متين.

الركن الثاني ـ غسل الوجه

وفيه مسائل (الأولى) ـ هل الواجب في الغسل ما يجري فيه جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو معاون ، أو يرجع فيه إلى العرف ، أو يكفي الدهن؟ وعلى الثالث فهل يخص بالضرورة ، أو مطلقا؟ أقوال : المشهور الأول ، وبالثاني قال جماعة من متأخري المتأخرين ، والتخصيص بالضرورة في الثالث نقله في الذكرى عن الشيخين.

ويدل على اعتبار الجريان في الغسل ـ بأي من المعنيين الأولين ـ انه المتبادر من معنى الغسل لغة وعرفا.

ومن الأخبار قوله (عليه‌السلام) في حسنة زرارة (1) : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه». ولا قائل بالفرق بين الغسل والوضوء.

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (2) : «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد ان يغسلوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء».

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الجنابة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 46 ـ من أبواب الوضوء.


وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن مروان (1) : «يأتي على الرجل ستون سنة أو سبعون سنة ما قبل الله منه صلاة. قلت : وكيف ذلك؟ قال : لانه يغسل ما أمر الله بمسحه».

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (2) : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض ، لم يكن ذلك بوضوء ...».

والتقريب في هذين الخبرين الأخيرين انه لو لا اعتبار الجريان في مسمى الغسل لما حصل الفرق بينه وبين المسح المقابل له بظاهر الآية.

ويؤيده أيضا ما اشتملت عليه اخبار الوضوء البياني من الصب والإفاضة والإسدال والغرفة لكل عضو.

ويدل على الثالث مطلقا اخبار عديدة : منها ـ قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (3) : «انما الوضوء حد من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه ، وان المؤمن لا ينجسه شي‌ء. إنما يكفيه مثل الدهن».

وقوله (عليه‌السلام) في رواية محمد بن مسلم (4) : «يأخذ أحدكم الراحة من الدهن فيملأ بها جسده ، والماء أوسع من ذلك».

وقوله في صحيحة زرارة (5) : «... إذا مس جلدك الماء فحسبك ...».

وقوله في الغسل (6) : «وكل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته».

وقوله في الغسل والوضوء (7) : «يجزي منه ما أجزأ من الدهن الذي يبل الجسد».

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 25 ـ من أبواب الوضوء.

(3 و 5 و 7) المروية في الوسائل في الباب ـ 52 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(6) المروي في الوسائل في الباب ـ 26 ـ من أبواب الجنابة.


وقوله (عليه‌السلام) (1) : «يجزئك في الغسل والاستنجاء ما بلت يدك».

والدهن كما يحتمل انه من الأدهان اي الإطلاء من الدهن كما هو صريح بعضها ، يحتمل أيضا انه من دهن المطر الأرض إذا بلها بلا يسيرا ، وعلى التقديرين فلا جريان فيه قطعا على الأول وظاهرا على الثاني.

وربما تحمل الأخبار كملا على المعنى الأول ويقيد مطلقها بمقيدها.

والأكثر حملوا هذه الأخبار على المبالغة في أقل الجريان ، وظواهرها ـ كما ترى ـ لا تقبله.

وأنت خبير بان ما اشتمل من الأخبار المتقدمة على الجريان صريحا أو مفهوما لا دلالة فيه على الانحصار في هذا الفرد وعدم اجزاء ما عداه ، ولا في شي‌ء من الأخبار الأخيرة على الانحصار فيه وعدم جواز ما زاد عليه ، حتى تثبت المنافاة بين اخبار الطرفين ويرتكب الحمل في أحد الجانبين ، بل ربما دل لفظ الاجزاء في بعض الأخبار الأخيرة على انه أقل المجزي المستلزم لثبوت مرتبة فوقه.

فلم يبق حينئذ إلا دعوى اعتبار الجريان في مسمى الغسل.

وفيه ان المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته ان ذلك غير مفهوم من كلام أهل اللغة ، قال : «لعدم تصريحهم باشتراط جريان الماء في تحققه ، وان العرف دال على ما هو أعم منه ، الا انه المعروف من الفقهاء سيما المتأخرين ، والمصرح به في عباراتهم» انتهى.

ويؤيده ما صرح به السيد السند في المدارك ، حيث قال ـ بعد ان نقل القول باشتراط الجريان في مسمى الغسل ـ ما لفظه : «وفي دلالة العرف على ذلك نظر» ثم قال ـ بعد ان نقل عن الشارح حمل اخبار الدهن على المبالغة ـ ما صورته : «وقد

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أحكام الخلوة ، وفي الباب ـ 31 ـ من أبواب الجنابة.


يقال : لا مانع من كونه على سبيل الحقيقة لوروده في الأخبار المعتمدة» ثم ساق جملة من الأخبار المتقدمة.

وحينئذ فمجرد شهرة ذلك بينهم ـ من غير دلالة نص عليه من آية أو رواية ، بل وجود الروايات المستفيضة ـ كما تري ـ بخلافه ـ لا يوجب المصير اليه. وبالجملة فالمسألة لذلك محل اشكال.

وصار بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ بعد ان صرح بأن المسألة محل تأمل ، ينشأ من تعارض الظاهرين ، وقبول التأويل من الطرفين ـ إلى تخصيص ذلك بالضرورة وتقديمه على التراب ، كعوز الماء وانجماده على وجه لا يمكن إذابته ، كما هو المنقول آنفا عن الشيخين (رحمهما‌الله) استنادا إلى بعض الأخبار المصرحة بجواز ذلك ضرورة ، كقول الكاظم (عليه‌السلام) في صحيحة أخيه علي (1) حيث «سأله عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع ، أيغتسل منه للجنابة أو يتوضأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره ، والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدا للوضوء وهو متفرق؟ فكيف يصنع؟ فقال : إذا كانت يده نظيفة ، إلى ان قال : فإن خشي ان لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرات ثم مسح جلده بيده ، وان كان الوضوء غسل وجهه ومسح يده على ذراعيه ورأسه ورجليه ...».

وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة أخيه الثانية (2) حين «سأله عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا ، أيهما أفضل : أيتيمم أم يتمسح بالثلج؟ قال : الثلج إذا بل رأسه وجسده أفضل ، فان لم يقدر على ان يغتسل به فليتيمم». ونحوها رواية معاوية بن شريح (3).

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب التيمم.


وما رواه في الكافي (1) مرسلا مضمرا : «في رجل كان معه من الماء مقدار كف وحضرت الصلاة؟ قال : فقال : يقسمه أثلاثا : ثلث للوجه وثلث لليد اليمنى وثلث لليسرى ، ويمسح بالبلة رأسه ورجليه».

وعد من ذلك أيضاقول الصادق (عليه‌السلام) في صحيحة الحلبي (2) : «أسبغ الوضوء ان وجدت ماء ، وإلا فإنه يكفيك اليسير». وظني انها ليست منه ، لان مقابلة اليسير بما يحصل به الإسباغ قرينة على وجود ما يحصل به الجريان ولو في الجملة.

وحينئذ فالأظهر حمل روايات الدهن على هذه الأخبار دون الحمل على المبالغة. إلا انه بعد لا يخلو من شوب نظر.

(المسألة الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف في أن الوجه الواجب غسله في الوضوء هو ما كان من قصاص الشعر ـ مثلث القاف والضم أعلى ، كما ذكره الجوهري ، وهو حيث ينتهي نبت الشعر من مقدم الرأس ومؤخره ، والمراد هنا المقدم ـ الى طرف الذقن بالتحريك ، وهو مجمع اللحيين الذين تنبت عليهما الأسنان السفلى ، طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى من مستوي الخلقة عرضا ، لما في صحيح زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (3) حيث قال : «أخبرني عن حد الوجه الذي ينبغي أن يوضأ ، الذي قال الله تعالى. فقال : الوجه الذي أمر الله بغسله ـ الذي لا ينبغي لأحد ان يزيد عليه ولا ينقص منه ، ان زاد عليه لم يؤجر وان نقص منه اثم ـ ما دارت عليه الوسطى والإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن وما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه ، وما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت : الصدغ من الوجه؟ قال : لا».

__________________

(1) ج 1 ص 9 وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 52 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 17 ـ من أبواب الوضوء.


وأنت خبير بان تطبيق الرواية المذكورة على مدعى الأصحاب لا يخلو من عسر وما وجهه بعضهم ـ من ان قوله (عليه‌السلام) : «ما دارت عليه الوسطى والإبهام» بيان لعرض الوجه ، وقوله : «من قصاص شعر الرأس إلى الذقن» لطوله ، وقوله : «ما جرت عليه الإصبعان» كأنه تأكيد لبيان العرض ـ فلا يخفى ما فيه من التكلف وعدم الارتباط.

وأورد شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) على الأصحاب ـ في استنباط ما ذهبوا اليه من الخبر المذكور ـ انه متى جعل الحد الطولى من القصاص الذي هو عبارة عن منابت الشعر من المقدم ـ والحال ان منتهى منابت الشعر يأخذ من كل جانب من الناصية ويرتفع عن النزعة ثم ينحدر إلى مواضع التحذيف ويمر فوق الصدغ حتى يتصل بالعذار ـ لزم دخول النزعتين والصدغين في التحديد المذكور مع انهم لا يقولون به ، وخروج العذارين مع ان بعضهم ادخله ، وكيف يصدر مثل هذا التحديد الظاهر القصور الموجب لهذا الاختلاف عنهم (عليهم‌السلام

ثم وجه للرواية معنى آخر ، وهو ان كلا من طول الوجه وعرضه هو ما اشتمل عليه الإبهام والوسطى ، بمعنى ان الخط الواصل من القصاص إلى طرف الذقن وهو مقدار ما بين الإصبعين غالبا ، إذا فرض إثبات وسطه وأدير على نفسه ليحصل شبه دائرة ، فذلك القدر هو الوجه الذي يجب غسله ، وذلك لأن الجار والمجرور في قوله (عليه‌السلام) : «من قصاص شعر الرأس» اما متعلق بقوله : «دارت» أو صفة مصدر محذوف ، والمعنى ان الدوران يبتدئ من القصاص منتهيا إلى الذقن ، واما حال من الموصول الواقع خبرا عن الوجه وهو لفظ «ما» ان جوزنا الحال عن الخبر ، والمعنى ان الوجه هو القدر الذي دارت عليه الإصبعان حال كونه من القصاص إلى الذقن ، إلى ان قال : «وبهذا يظهر ان كلا من طول الوجه وعرضه قطر من أقطار تلك الدائرة من غير تفاوت ، ويتضح خروج النزعتين والصدغين عن الوجه وعدم دخولهما في التحديد


فإن أغلب الناس إذا طبق انفراج الإصبعين على ما بين قصاص الناصية إلى طرف ذقنه وادارهما على ما قلناه ليحصل شبه دائرة وقعت النزعتان والصدغان خارجة عنهما ، وكذلك يقع العذران ومواضع التحذيف ، كما يشهد به الاستقراء والتتبع. واما العارضان فيقع بعضهما داخلا والبعض خارجا ، فيغسل ما دخل ويترك ما خرج على ما يستفاد من الرواية» انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو بمحل من القبول ، وقد تلقاه بالتسليم جملة ممن تأخر عنه من الفحول.

الا انه يمكن الجواب عما أورده على القول المشهور ونسبه اليه من القصور : اما عن دخول النزعتين فبأنهما وان دخلا في التحديد بالقصاص على ما هو معناه لغة ، إلا أنهما لما كانتا محاذيتين للناصية التي هي من الرأس قطعا دون الوجه ، وخارجتين عن التسطيح الذي ينفصل به الوجه عن الرأس ، وداخلتين في التدوير المختص ، وجب حمل القصاص في الخبر على منتهى الناصية وما يحاذيه من جانبيه كما عليه الأصحاب ، وما هو إلا من قبيل العام المخصوص أو المطلق المقيد ، وكم مثله في الأخبار.

واما عن الصدغين فإنهما وان فسرا في كلام أهل اللغة بما بين العين والاذن تارة ، وبالشعر المتدلي على هذا الموضع اخرى ، كما في عبارة القاموس ونقل أيضا عن الصحاح والنهاية ، الا أن العلامة في المنتهى فسره بالشعر الذي بعد انتهاء العذار المحاذي لرأس الاذن وينزل عن رأسها قليلا ، وفي الذكرى ما حاذى العذار فوقه ، وحينئذ فيمكن حمل الصدغ في الخبر على هذا المعنى الثاني ، وهو أحد معنييه لغة أيضا كما عرفت ، ولا يشمل شيئا منه الإصبعان ، على انه متى حمل على المعنى الأول فلا ريب انه يدخل بعضه في الإدارة التي اعتبرها (قدس‌سره) وما ذكره (قدس‌سره) من خروجه كملا مما تمنعه المشاهدة.

واما العذاران فالمشهور عندهم خروجه ، فلا يرد الاشكال به إلا عند من أدخله

إذا عرفت هذا فاعلم أن ههنا مواضع قد وقع الخلاف فيها في البين :


(أحدها) ـ الصدغ ، وقد تقدم معناه. فادخله الراوندي في الوجه ، والمشهور خروجه كما تدل عليه الرواية (1) ويمكن حمل كلام الراوندي على البعض الذي لا شعر فيه كما عرفت من كلام أهل اللغة ، وحمل الرواية على ما ذكرناه آنفا ، فترتفع المنافاة.

و (ثانيها) ـ العذار ، وهو الشعر النابت على العظم الذي على سمعت الصماخ ، يتصل أعلاه بالصدغ وأسفله بالعارض ، والمشهور بين الأصحاب خروجه ، لعدم شمول الإصبعين له غالبا ، ولاتصاله بالصدغين. ونقل عن ظاهر كلام الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد دخوله ، وبه صرح ثاني المحققين وثاني الشهيدين. وجمع بعض المحققين بين القولين بما يكون به النزاع لفظيا في البين ، فقال : «انه لا نزاع في الحقيقة بل القائلون بالدخول إنما يريدون به دخول بعضه مما يشمله الإصبعان ، والقائلون بالخروج يريدون خروج البعض الآخر كما يشعر به تتبع كلماتهم» انتهى.

و (ثالثها) ـ مواضع التحذيف بالذال المعجمة ، وهي ما بين الصدغ والنزعة ، وفسرها بعضهم بما بين منتهى العذار والنزعة. وأنت خبير بما فيه ، فان العذار أعلاه يتصل بالصدغ كما تقدم ، فالصدغ فوقه. وقد قطع العلامة في المنتهى والتذكرة بخروجها وجملة من الأصحاب حكموا بدخولها احتياطا.

و (رابعها) ـ العارض ، وهو الشعر المنحط عن محاذاة الأذن ، يتصل أسفله بما يقرب من الذقن وأعلاه بالعذار. وقد قطع العلامة في المنتهى بخروجه والشهيدان بدخوله ، بل ادعى ثانيهما الإجماع على ذلك. وفصل في النهاية بين ما خرج عن حد الإصبعين فيخرج ، ودخل فيهما فيدخل. وهو الأقرب ، لما دلت عليه الرواية (2).

وما أورده السيد السند في المدارك ـ من ان الاستدلال على الوجوب ببلوغ الإبهام والوسطى ضعيف ، فان ذلك إنما يعتبر في وسط التدوير من الوجه خاصة ، وإلا لوجب غسل ما نالته الإبهام والوسطى وان تجاوز العارض ، وهو باطل إجماعا ـ

__________________

(1) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 226.

(2) وهي صحيحة زرارة المتقدمة في الصحيفة 226.


مردود (أولا) ـ بأن التخصيص بما ذكره لا دليل عليه.

و (ثانيا) ـ بان خروج بعض الافراد بدليل خاص لا يقدح في الدلالة على ما لا معارض له ، فان ما تجاوز العارض خارج عن الوجه بالإجماع.

(المسألة الثالثة) ـ اختلف الأصحاب (نور الله مراقدهم) في وجوب الابتداء بالأعلى في غسل الوجه ، فالمشهور الوجوب ، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى جواز النكس ، واختاره جمع من المتأخرين ومتأخريهم.

ويدل على المشهور صحيحة زرارة (1) قال : «حكى لنا أبو جعفر (عليه‌السلام) وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعى بقدح من ماء فادخل يده اليمنى فأخذ كفا من ماء فأسدله على وجهه من أعلى الوجه. الحديث». وفعله إذا كان بيانا للمجمل وجب اتباعه فيه.

وأجيب بأنه من الجائز ان يكون ابتداؤه (عليه‌السلام) بالأعلى لكونه أحد جزئيات مطلق الغسل المأمور به لا لوجوبه بخصوصه ، فان امتثال الأمر الكلي إنما يتحقق بفعل جزئي من جزئياته. وقوله ـ : «ان فعله إذا وقع بيانا للمجمل وجب اتباعه فيه» ـ مسلم ، الا انه لا إجمال في غسل الوجه حتى يحتاج إلى البيان ، مع ان أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خالية من ذلك ، هكذا ذكره السيد السند في مداركه ، وتبعه فيه جمع ممن تأخر عنه.

وفيه نظر من وجوه : (الأول) ـ ان الأوامر والأحكام القرآنية كلها إلا ما شذ لا تخلو من إطلاق أو عموم أو إجمال أو نسخ أو نحو ذلك ، وقد استفاضت الأخبار عن أهل الذكر (صلوات الله عليهم) بالرجوع إليهم في ذلك والنهي عن القول فيه بغير توقيف منهم ، وقد نقلنا شطرا وافرا من تلك الأخبار في كتاب الدرر النجفية ، وأظهرنا ما في المسألة من الكنوز الخفية ، وقد تقدمت الإشارة إلى شطر

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.


منها في المقدمة الثالثة (1) وحينئذ فإذا بينوا لنا شيئا من ذلك فالواجب قبوله والعمل عليه.

ومما يؤيد ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (2) قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال : ان الله عزوجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (3). فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا : قلنا له انما قال الله عزوجل : (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ، ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك؟ فقال (عليه‌السلام) : أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (4). ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض لأن الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله)؟ وكذلك التقصير في السفر شي‌ء صنعه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وذكره الله في كتابه. الحديث».

فإنه ـ كما ترى ـ صريح الدلالة في ان فعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لما ذكره الله تعالى في كتابه وان كان غير صريح في الوجوب كنفي الجناح في الآيتين ، صار موجبا لذلك ، وما نحن فيه كذلك.

وبالجملة فإنا لو خلينا وظاهر الآية ولم يرد لنا عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كيفية بيان لذلك ، لكان الأمر كما ذهبوا اليه ، واما بعد ورود كيفية البيان فيجب الوقوف عليها والأخذ بها.

واعترض شيخنا البهائي (قدس‌سره) في حبله وأربعينه بأنه لو اقتضى البيان وجوب الابتداء بالأعلى للزم مثله في إمرار اليد ، لوروده كذلك في مقام البيان.

وفيه ان صحيحة علي بن جعفر ـ (5) الدالة على الوضوء بالمطر بمجرد تساقطه

__________________

(1) ج 1 ص 27.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 22 ـ من أبواب صلاة المسافر.

(3) سورة النساء. الآية 102.

(4) سورة البقرة. الآية 158.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 36 ـ من أبواب الوضوء.


وغسله الأعضاء ـ دليل على عدم وجوب إمرار اليد.

ولو قيل بان ما ذكرتموه يضعف باشتمال الوضوء البياني على جملة من المستحبات أيضا قلنا : خروج ما قام الدليل على استحبابه لا يوجب خروج ما لا دليل عليه.

(الثاني) ـ ان منعه الإجمال في غسل الوجه ممنوع بما ذكره المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في حاشيته على المدارك ، من ان الإجمال قد ينشأ من نفس المعنى ، وذلك لأن بعض الماهيات الكلية تحته افراد تصلح عرفا لتعلق غرض الشارع ببعضها دون بعض ، كحج البيت وغسل الوجه في الوضوء ، ويقبح عند العقلاء اقدام مريد الامتثال على فرد مشكوك فيه من إفرادها من غير دلالة على ان المقصود بالذات هو الماهية الكلية من حيث هي. انتهى كلامه (زيد مقامه).

ومما يدل على وقوع الإجمال في الغسل هنا وقوع السؤال عن كيفية غسل اليدين في رواية صفوان (1) ورواية الهيثم (2) الآتيتين في بيان وجوب الابتداء بالمرفق.

(الثالث) ـ ان خلو أكثر الأخبار الواردة في وصف وضوئه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الابتداء بالأعلى لا يستلزم حمل هذه على الاستحباب ، بل الطريقة الشائعة في مثله حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، على ان بعض الأخبار ظاهر الدلالة في مطابقة هذه الصحيحة :

كصحيحة زرارة الأخرى عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (3) في حكاية الوضوء أيضا قال : «ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال : بسم الله ، وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمر يده على وجهه. الحديث».

__________________

(1) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ـ 18 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 19 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.


وروى الحميري في كتاب قرب الاسناد (1) عن احمد بن محمد عن ابن محبوب عن أبي جرير الرقاشي قال : «قلت لأبي الحسن موسى (عليه‌السلام) : كيف أتوضأ للصلاة؟ الى ان قال : ولا تلطم وجهك بالماء لطما ولكن اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا. الحديث».

والكتاب المذكور من الأصول المعتبرة المشهورة فلا يضر ضعف الراوي ، وهو صريح في المطلوب ، للأمر فيه بالغسل من الأعلى ، وهو حقيقة في الوجوب عندهم.

وروى العياشي في تفسيره عن زرارة وبكير ابني أعين (2) قالا : «سألنا أبا جعفر (عليه‌السلام) عن وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فدعا بطشت أو تور فيه ماء فغمس كفه اليمنى فغرف بها غرفة فصبها على جبهته فغسل وجهه بها. الحديث».

(الرابع) ـ ان الوضوء على غير هذا الوجه لا أقل ان يكون مشكوكا في صحته ، لوقوعه على خلاف ما بينه صاحب الشرع ، والشك في صحته يقتضي الشك في رفعه ، ويقين الحدث لا يرتفع إلا بيقين الطهارة ، للحديث الصحيح المتفق على العمل بمضمونه (3) : «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا».

وما افاده بعض المحققين من متأخري المتأخرين ـ من ان القدر المعلوم من هذا الخبر إنما هو عدم النقض بالشك في وجود الناقض ، دون الشك في فردية بعض الافراد للناقض ، بمعنى ان تيقن الحدث فيما نحن فيه لا يزول بالشك في وجود الرافع ، واما كونه لا يزول بوجود بعض الافراد المشكوك في فرديتها للرافع فلا دلالة للحديث عليه ـ ففيه ما قدمنا ذكره في المقدمة الحادية عشرة (4) وحينئذ فالواجب تحصيل يقين البراءة

__________________

(1) في الصحيفة 129 وفي الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2) رواها في مستدرك الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(3) وهو صحيح زرارة المروي في الوسائل في الباب ـ 37 و 41 و 44 ـ من أبواب النجاسات.

(4) في الصحيفة 145 من الجزء الأول.


من التكليف الثابت بيقين ، وهو لا يتم الا بالغسل من الأعلى.

وما ذكره البعض ـ من ان تحصيل يقين البراءة إنما هو من الاحتياط المستحب وليس بواجب ـ فليس على إطلاقه ، وذلك فان تحصيل يقين البراءة اما ان يكون بعد ثبوت الحكم شرعا بإرادة المطابقة لما هو الحكم واقعا والخروج من جميع الاحتمالات المنافية للمطابقة ، وهذا هو المستحب ، كالتنزه عن جوائز الظالم ونحوه ، ونكاح من علم ارتضاعها معه لكن لم يعلم حصول القدر المحرم ولا عدمه ، ونحو ذلك ، واما ان يكون مع عدم ثبوت الحكم شرعا ، فيكون الغرض من الاحتياط تحصيله ، وهذا هو الواجب ، ولا يخفى ان ما نحن فيه من قبيل الثاني دون الأول ، فإن عدم ثبوت الحكم ومعلوميته أعم من ان يكون لعدم الدليل بالكلية ، أو لتعارض الأدلة ، أو لاشتباه الحكم منها ، أو نحو ذلك ، وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لتعارض ظاهر الآية والأخبار. والجمع الذي ذكروه بينهما لا يتعين المصير اليه ، لاحتمال غيره بل رجحانه عليه ، فيبقى الحكم في قالب الاشتباه.

وتوهم استحباب الاحتياط في مثل ذلك مردود بالأخبار المستفيضة الدالة على الأمر بالوقوف على جادة الاحتياط مع الشك والاشتباه ، كما تقدم لك بيانه في المقدمة الرابعة.

ومن ذلك ما ورد عن الصادق (عليه‌السلام) في جملة من الأخبار في كلامه مع بعض الزنادقة المنكرين للصانع (1) حيث قال (عليه‌السلام): «ان يكن الأمر كما نقول ـ وهو كما نقول ـ فقد نجونا وهلكتم ، وان يكن الأمر كما تقولون ـ وليس كما تقولون ـ فنحن وأنتم سواء ، ولن يضرنا ما صلينا وصمنا. الحديث».

وفيه دلالة على وجوب سلوك ما فيه النجاة ودفع الضرر عند الاشتباه ، وهو بعينه ما ذكروه من الدليل العقلي على وجوب معرفة الصانع ، من انها لدفع الضرر ، وهو واجب. وكما يجب دفع الضر المحقق فكذا دفع الضرر المشتبه ، فان من عرض

__________________

(1) المروية في الكافي في باب (حدوث العالم وإثبات المحدث) من كتاب التوحيد.


عليه طعام محتمل لأن يكون غذاء نافعا ولأن يكون سما قاتلا ، فان المخاطر بنفسه في أكله خارج عن ربقة العقلاء ، فان كان هذا في الأمور الدنيوية ففي الدينية بطريق أولى ، لشدة خطرها وزيادة ضررها ، فالاحتياط فيها أوجب ، وحينئذ فالحديث المذكور دليل نقلي عقلي.

وهذا الدليل وما قبله مما تلجئ إليه الحاجة في جملة من الأحكام ، فاحتفظ بهما فإنهما أقوى دليل في مقام الخصام.

(الخامس) ـ ما افاده المحدث الأمين (قدس‌سره) في حاشية المدارك أيضا ، من ان الأمر بالوضوء وبالطهور ورد في اخبار كثيرة ، واللفظان من المجملات ، فلا تبرأ الذمة إلا برعاية الاحتياط ، وهو الإتيان بفرد لم يشك في اجزائه. لا يقال : الآية الشريفة بيان لهما. لأنا نقول : الآية الشريفة إنما تدل على وجوب كذا وكذا ولا تدل على كفاية ذلك القدر في الصلاة. لا يقال : لو وجب قيد زائد لذكره سبحانه وتعالى. لأنا نقول : هذا منقوض بصور كثيرة. وأيضا إنما تتجه تلك المقدمة لو لم يكن البيان مرجوعا اليه وإلى أهل بيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

(السادس) ـ ما أفاده أيضا (قدس‌سره) من انا إذا لاحظنا ما روى عن الصادق (عليه‌السلام): «الوضوء غسلتان ومسحتان» (1). وسائر الروايات المتضمنة لمضمونها ، مع صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا». تبادر إلى ذهننا بمعونة قرينة المقام وجود البأس في غسل الوضوء مدبرا.

ثم اعلم ان شيخنا البهائي (قدس‌سره) في حبله وأربعينه ـ بعد ان طعن في دليل المشهور بما قدمنا نقله عن المدارك ـ قال : «وظني انه لو استدل على هذا المطلب بان المطلق ينصرف إلى الفرد الشائع المتعارف ، والشائع المتعارف في غسل الوجه غسله

__________________

(1) لم نقف على حديث بهذا النص عن الصادق (عليه‌السلام) ولعل نظره إلى ما يفيد هذا المضمون.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب الوضوء.


من فوق إلى أسفل ، فينصرف في قوله تعالى : «... فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...» (1) اليه لم يكن بعيدا» انتهى.

وفيه (أولا) ـ انه لو تم لزم عدم اجزاء غمس الوجه واليد في الماء ، وهو لا يقول به ، وكذا عدم وجوب غسل الإصبع الزائدة ، مع انهم اتفقوا على الوجوب.

و (ثانيا) ـ ما حققه بعض المحققين (طيب الله مرقده) من ان المتبادر بحسب التصور والتخيل غير ملزوم للمتبادر بحسب التصديق بأنه مراد ، كما في إطلاق اللفظ المشترك من غير قرينة. وتحقق الثاني هنا على وجه بين واضح محل التردد ، والتمسك به مشكل. انتهى.

واما الاستدلال بما رواه في الفقيه (2) مرسلا ـ من قوله : «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به». ـ ففيه من الإجمال ـ مضافا إلى ما هو عليه من الإرسال ، وبسط جملة من متأخري أصحابنا في رده لسان المقال ـ ما يوجب الاعراض عنه في هذا المجال ، مع ان الأدلة ـ بحمد الله تعالى ـ على ما اخترناه واضحة المنار ساطعة الأنوار ، كما تلوناه عليك وأوضحناه لديك.

فائدة

قال السيد السند في المدارك : «واعلم ان أقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى ، بمعنى صب الماء على أعلى الوجه ثم اتباعه بغسل الباقي واما ما تخيله بعض القاصرين ـ من عدم جواز غسل شي‌ء من الأسفل قبل غسل الأعلى وان لم يكن في سمته ـ فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة» انتهى. ونسج على منواله في هذه المقالة جملة ممن تأخر عنه.

__________________

(1) سورة المائدة. الآية 6.

(2) ج 1 ص 25 ، وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.


ونسبة السيد السند (قدس‌سره) ذلك إلى خيال بعض القاصرين ـ مع ان جده من جملة القائلين ـ غفلة منه ، فإنه صرح في شرح الرسالة بأن المعتبر في غسل الوجه الأعلى فالأعلى ، لكن لا حقيقة لتعسره أو تعذره بل عرفا ، فلا تعتبر المخالفة اليسيرة التي لا يخرج بها في العرف عن كونه غسل الأعلى فالأعلى. ثم قال : «وفي الاكتفاء ـ بكون كل جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطه وان غسل ذلك الجزء قبل الأعلى من غير جهته ـ وجه وجيه» انتهى.

بل هو ظاهر العلامة في مسألة ما لو أغفل لمعة من غسل أعضاء وضوئه ، حيث قال ـ بعد ان نقل عن ابن الجنيد التفصيل بأنها ان كانت دون سعة الدرهم بلها وصلى ـ ما صورته : «ولا أوجب غسل جميع ذلك العضو ، بل من الموضع المتروك إلى آخره ان أوجبنا الابتداء من موضع بعينه ، والموضع خاصة ان سوغنا النكس» انتهى.

وأنت خبير بان هذا هو الظاهر من الأخبار المشتملة على الوضوء البياني وغيرها

ففي صحيحة زرارة (1) «ثم غرف فملأها ماء فوضعها على جبينه ، ثم قال بسم الله وسدله على أطراف لحيته ، ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه مرة واحدة ، ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ، ثم وضعه على مرفقه اليمنى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم ذكر في غسل اليسرى مثله».

وفي حسنة زرارة وبكير (2) «فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى ، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق ، ثم ذكر مثله في غسل اليسرى».

ومثله أيضا في رواية أخرى لهما أيضا (3) صرح بأنه غسل اليدين من المرفق إلى الكف لا يردها إلى المرفق.

وفي صحيحة صفوان المروية في تفسير العياشي (4) «ثم يفضه على المرفق ثم يمسح إلى الكف ...».

وأمثال ذلك.

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ـ 19 ـ من أبواب الوضوء.


وظاهر ذلك ـ كما ترى ـ انه ـ بعد الابتداء في الوجه بالأعلى وفي اليدين بالمرفقين ـ يستمر في إجراء الماء المغسول به إلى آخر العضو ، وهو صريح في الترتيب في نفس العضو على الوجه المذكور في كلام شيخنا الشهيد الثاني. ولزوم الحرج في ذلك ـ كما أورده شيخنا الشهيد الأول في الذكرى على العلامة بعد نقله عنه ما نقلناه هنا ـ غير واضح. وليس في شي‌ء من الأخبار ما يدل على ما ذكروه من وقوع غسل بعض الأجزاء السافلة قبل العالية سواء كانت في سمتها أم لا ، بل غاية بعضها ان يكون مطلقا والبعض الآخر كما عرفت من الظهور في الترتيب ، والقاعدة تقتضي حمل المطلق على المقيد. وبذلك يظهر ضعف ما ذهب اليه السيد السند (قدس‌سره) ومن تبعه.

(المسألة الرابعة) ـ قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب ـ منهم : العلامة في بعض كتبه ، بل ربما كان هو أولهم ، وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ـ إثبات الخلاف في وجوب تخليل اللحية الخفيفة وعدمه ، فنقلوا عن الشيخ في المبسوط والمحقق في المعتبر وجماعة ممن تبعهما عدم الوجوب ، وعن المرتضى وابن الجنيد وجوب ذلك. واختار العلامة في المنتهى والإرشاد الأول وفي المختلف والتذكرة الثاني.

والتحقيق عند التأمل في كلام هؤلاء المنقول عنهم انه لا خلاف في البين ولا نزاع بين الفريقين ، فان كلام ابن الجنيد ينادي بصريحه على عدم وجوب غسل ما ستره الشعر من البشرة ووجوب غسل ما لم تستره ، حيث قال : «إذا خرجت اللحية فلم تكثر فتوارى بنباتها البشرة من الوجه ، فعلى المتوضئ غسل الوجه كما كان قبل ان ينبت الشعر حتى يستيقن وصول الماء إلى بشرته التي يقع عليها حس البصر اما بالتخليل أو غيره ، لان الشعر إذا ستر البشرة قام مقامها ، وإذا لم يسترها كان على المتوضئ إيصال الماء إليها» ولا أراك في شك مما ذكرنا بعد ما تلونا عليك من عبارته ، ونحوها عبارة السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، وكذا في مسائل الخلاف. وقال الشيخ في المبسوط : «لا يجب تخليل شعر اللحية سواء كانت خفيفة أو كثيفة ، أو بعضها


كثيفة وبعضها خفيفة» وقال المحقق في المعتبر : لا يلزم تخليل شعر اللحية كثيفا كان الشعر أو خفيفا ، بل لا يستحب ، وأطبق الجمهور على الاستحباب (1) ثم نقل خبرا من طريق الجمهور ، وقال بعده : ولأن الوجه اسم لما ظهر فلا يتبع المغابن ، ثم استدل بصحيحة زرارة (2) الدالة على نفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر. انتهى.

وأنت خبير بأن عبارة الشيخ وان أوهمت ما ادعوه إلا ان عبارة المحقق ـ بمعونة التعليلين المذكورين ـ ظاهرة في وجوب غسل ما ظهر وعدم وجوب غسل ما ستره الشعر ، لتخصيص الوجه بما ظهر ودخول ما ستر الشعر في المغابن ، ولنفي وجوب طلب ما أحاط به الشعر.

وبالجملة فمن لاحظ معنى التخليل ـ وانه عبارة عن إيصال الماء إلى البشرة المستورة ، إذ الظاهر ان إيصاله إلى الظاهرة لا يسمى تخليلا ، فمعنى عدم وجوب التخليل هو بعينه ما صرحت به صحيحة زرارة (3) من نفي وجوب الطلب والبحث عما أحاط به الشعر ، وصحيحة محمد بن مسلم (4) من نفي وجوب التبطين ـ لا يرتاب في اشتراك القولين في الدلالة على عدم وجوب إيصال الماء إلى البشرة المستورة بالشعر من كل اللحية كانت أو من بعضها. وبه يظهر ان ما ذكره البعض ـ من ان مطرح النزاع وجوب غسل ما ستره الشعر من اللحية الخفيفة وعدمه ـ ليس في محله ، كذلك لا يرتاب أيضا في اشتراكهما في وجوب إيصاله إلى البشرة الظاهرة التي يقع عليها حس البصر في مجلس التخاطب. وبه يظهر أيضا ضعف قول من عكس فجعل محل النزاع وجوب غسل البشرة الظاهرة دون المستورة ، مدعيا الاتفاق على عدم غسل المستورة.

__________________

(1) كما في المهذب للشيرازي ج 1 ص 18 والوجيز للغزالي ج 1 ص 8 والمغني لابن قدامة ج 1 ص 105 ورد المحتار لابن عابدين ج 1 ص 86.

(2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 46 ـ من أبواب الوضوء.


الركن الثالث ـ غسل اليدين

والكلام فيه يقع في مواضع (الأول) ـ اختلف الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) في وجوب الابتداء بالمرفق كمنبر ومجلس : المفصل ، وهو عبارة عن رأس عظمي الذراع والعضد كما هو المشهور ، أو مجمع عظمي الذراع والعضد ، فعلى هذا شي‌ء منه داخل في العضد وشي‌ء منه في الذراع :

فالمشهور وجوبه ، وذهب المرتضى وابن إدريس إلى الاستحباب وجواز النكس على كراهية ، تمسكا بإطلاق الآية (1) وإلى هذا القول مال أولئك الفضلاء المشار إليهم في المسألة الثالثة من الركن المتقدم.

والأظهر هو القول المشهور ، لما عرفت من الأدلة السابقة وانهم (صلوات الله عليهم) قد غسلوا كذلك ، فيقين البراءة لا يحصل إلا بمتابعتهم والعمل بما عملوه ، وخلاف ذلك ان لم يكن مرجوح الصحة فلا أقل من ان يكون مشكوكا فيها وموجبا لاحتمال البقاء تحت العهدة. والأخبار هنا قد اشتملت ـ الا النادر منها ـ على الابتداء بالمرفق :

و (منها) ـ صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (2) في حكاية الوضوء البياني ، قال فيها : «ثم غمس يده اليسرى فغرف بها ملأها ثم وضعه على مرفقه اليمنى ، وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ثم غرف بيمينه ملأها فوضعه على مرفقه اليسرى وأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ...».

و (منها) ـ ما رواه العياشي في تفسيره عن صفوان (3) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن قول الله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ

__________________

(1) سورة المائدة. الآية 6.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في مستدرك الوسائل في الباب ـ 19 ـ من أبواب الوضوء.


وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (1) فقال : قد سأل رجل أبا الحسن عن ذلك فقال : ستكفيك ـ أو كفتك ـ سورة المائدة ، إلى ان قال : قلت : فإنه قال اغسلوا أيديكم إلى المرافق ، فكيف الغسل؟ قال : هكذا ان يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبه في اليسرى ثم يفضه على المرفق ثم يمسح إلى الكف. قلت له : مرة واحدة؟ فقال : كان يفعل ذلك مرتين. قلت له : يرد الشعر؟ قال : إذا كان عنده آخر فعل وإلا فلا». وحسنة زرارة وبكير (2) وروايتهما أيضا (3).

ورواية الهيثم بن عروة التميمي عن الصادق (عليه‌السلام) (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (5) فقلت : هكذا ، ومسحت من ظهر كفي إلى المرفق؟ فقال : ليس هكذا تنزيلها. انما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق ، ثم أمر يده من مرفقه إلى أصابعه».

وأنت خبير بان ظاهر هذه الرواية كون التحديد للغسل دون المغسول ، لأن السائل لما توهم كون «الى» في الآية لانتهاء الغسل فمسح من ظفر كفه إلى المرفق ، لم يرد عليه الامام (عليه‌السلام) إلا بأنه ليس هكذا تنزيلها ، وظاهره تقريره على ما ذهب اليه من معنى الآية ، بأنه لو كان تنزيلها كما ذكرت لكان كذلك لكن تنزيلها إنما هو من المرافق بمن الابتدائية المقتضية لابتداء الغسل من المرفق ، ثم أمر يده (عليه‌السلام) تعليما له وتأكيدا لما قرره بقوله. هذا هو ظاهر الرواية المشار إليها وان حصل المخالفة فيها من جهة أخرى.

وكيف كان فهو ظاهر في الوجوب البتة. وكذلك سؤال صفوان في رواية العياشي عن كيفية الغسل ، وبيانه (عليه‌السلام) على ذلك الوجه ، وقوله في آخر

__________________

(1 و 5) سورة المائدة. الآية 6.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 19 ـ من أبواب الوضوء.


الرواية : «قلت : يرد. إلخ» فإن الظاهر ان رد الشعر عبارة عن الغسل منكوسا ، وقوله : «إذا كان عنده آخر» الظاهر ان المراد ممن يتقيه ، فظاهر الخبر انه لا يغسل منكوسا إلا في مقام التقية. وكذلك حكاية غسله (عليه‌السلام) في حسنة زرارة وبكير (1) وروايتهما الأخرى (2) ـ من كونه ابتدأ في غسله من المرفق لا يردها اليه ـ صريح في الوجوب.

وما يتناقل في أمثال هذه المقامات ـ من انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال ـ فكلام شعري جدلي لا يعتمد عليه عند التحقيق ، فان مدار الاستدلال في جميع الموارد مع عدم النص على الظواهر. نعم ربما يخرج عنه إلى التأويل لضرورة الجمع بين الأدلة متى تعارضت على وجه لا يمكن تطبيقها إلا بارتكاب جادة التأويل.

واما إطلاق الآية هنا فهو مخصوص بهذه الأخبار ، كما هو القضية الجارية في جميع إطلاقات الكتاب وعموماته ومجملاته ، على انه لو ورد ما يخالف هذه الأخبار لوجب حمله على التقية ، لأن عمل المخالفين على الابتداء من الأصابع (3).

(الثاني) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في وجوب غسل المرفق هنا ، انما الخلاف في كونه أصالة أو من باب المقدمة ، وتظهر الفائدة في وجوب غسل جزء من العضد لو قطعت اليد من المرفق ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى.

وأنت خبير بان الظاهر انه لا دلالة في الآية هنا على شي‌ء من الدخول وعدمه ، لوقوع الخلاف في الغاية دخولا وخروجا وتفصيلا.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(3) في تفسير مفاتيح الغيب للرازى ج 3 ص 370 جعل من السنة الابتداء من الأصابع ونسبه إلى جمهور الفقهاء ، وكذا في (الفقه على المذاهب الأربعة) ج 1 ص 67 وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 22.


والتحقيق ـ كما حققه بعض الفضلاء ـ ان كلا من الغاية الابتدائية والانتهائية قد تكون داخلة تارة ، كما في قوله سبحانه : «... من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ...» (1) وقولك : «حفظت القرآن من أوله إلى آخره» وقد تكون خارجة ، كقوله سبحانه : «... ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ...» (2) وقوله : «... فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ...» (3).

وما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) ـ من ان «الى» في الآية بمعنى مع ، مدعيا في الخلاف ثبوت ذلك عن الأئمة (عليهم‌السلام) ـ

ففيه ان المفهوم من حسنة زرارة وبكير (4) المشار إليها آنفا ، حيث قال (عليه‌السلام) فيها : «وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له ان يدع شيئا من يديه إلى المرفقين إلا غسله ، لان الله تعالى يقول (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) (5). الحديث». فان قوله (عليه‌السلام) : «فليس له ان يدع» صريح في ان «إلى» في الآية غاية للمغسول ، فان التحديد له ، لأن «الى» في كلامه (عليه‌السلام) غاية لليد بلا اشكال وإيراده الآية مستدلا بها على ذلك يقتضي كون «الى» فيها مثلها في كلامه.

ويؤيده أيضا ان اليد لما كانت تطلق بإطلاقات متعددة ـ فإنها لغة وعرفا من الكتف إلى أطراف الأصابع ، وفي التيمم إلى الزند ، وفي قطع السرقة إلى أصول الأصابع ، وفي الوضوء إلى المرفق ـ كان الأهم في المقام والاولى لدفع الإيهام الحمل على التحديد وبيان الغاية.

وممن نص على عدم دلالة الآية على الدخول الشيخ الطبرسي (قدس‌سره) في جامع الجوامع ، حيث قال : «لا دليل في الآية على دخول المرافق في الوضوء ، إلا أن أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسلها ، وهو مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) انتهى

__________________

(1) سورة بني إسرائيل. الآية 2.

(2) سورة البقرة. الآية 187.

(3) سورة البقرة. الآية 280.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(5) سورة المائدة. الآية 6.


وبما حققناه يظهر ان من استدل من أصحابنا ـ على وجوب غسل المرفق بظاهر الأخبار التي قدمناها في الوضوء البياني واستند إلى ان ذلك أصالة ـ يرد عليه ما أورده على وجوب الابتداء بالأعلى في غسل الوجه ، فلا يتم له ذلك.

(الثالث) ـ مقطوع اليد اما ان يكون من تحت المرفق أو من فوقه أو منه.

فعلى الأول الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل الباقي ، ولعله الحجة وإلا فالأخبار المستدل بها في المقام لا تخلو من إجمال وإبهام.

فمما استدل به على ذلك صحيحة رفاعة برواية الشيخ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الأقطع اليد والرجل كيف يتوضأ؟ قال : يغسل ذلك المكان الذي قطع منه».

وحسنته برواية الكليني (2) قال «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الأقطع قال : يغسل ما قطع منه».

واحتمل بعض المحققين من متأخري المتأخرين أنهما واحد وان التغيير نشأ من النقل بالمعنى.

وصريح الاولى ـ كما ترى ـ غسل محل القطع خاصة ، مع عدم تعيين ذلك المحل فيها بأنه من المرفق أو من تحته أو فوقه ، والموصول في الثانية يحتمل وقوعه على المكان فتصير كالأولى ، وحينئذ ف «قطع» خال عن الضمير ونائب الفاعل هو الجار والمجرور ويحتمل وقوعه على العضو ، فيكون المعنى يغسل العضو الذي وقع القطع منه. وكيف كان فمحل القطع أيضا غير معلوم. ولعل الاستدلال بهما بناء على ان الأمر بالغسل ملزوم لكون القطع من تحت المرفق ، لعدم وجوب غسل ما فوقه. لكن يبقى فيه احتمال كونه من المرفق ، فإنه ـ كما سيأتي ـ يجب غسل الباقي.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 49 ـ من أبواب الوضوء.


ومما استدل به أيضا ان غسل الجميع واجب فقطع بعضه لا يسقط وجوب غسل الباقي.

وفيه ان هذا راجع إلى استصحاب الحكم السابق على القطع ، وهو ممنوع فيما نحن فيه ، فإنه انما يكون حجة عند القائل به فيما إذا لم تتجدد هناك حالة أخرى مغايرة لحالة تعلق الحكم ، كما صرحوا به في محله. ولا يخفى ان الأوامر الواردة بغسل اليد انما تعلقت بالمجموع من حيث هو مجموع لا باعتبار كل جزء جزء منها ، فبزوال الأمر المجموعي بالقطع يحتاج في غسل الجزء الباقي إلى دليل على حدة.

وعلى الثاني فالظاهر هو سقوط غسل الباقي وجوبا واستحبابا ، خلافا لجمع من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى ، حيث صرحوا باستحباب غسله. وما استندوا إليه في الاستحباب ـ من صحيحة علي بن جعفر الآتية ـ فليس في محله كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى. نعم ربما يمكن الاستدلال لهم بصحيحة رفاعة وحسنته السابقتين (1) لشمول إطلاقهما لهذه الصورة.

ونقل عن الشيخ في المبسوط والعلامة في التذكرة استحباب مسح الباقي. ولم أقف لهما على مستند ان أريد بالمسح معناه حقيقة ، وان أريد به الغسل مجازا فيمكن الاستدلال عليه بما عرفت من روايتي رفاعة.

وعلى الثالث فالظاهر وجوب غسل الباقي من المرفق ، لصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل قطعت يده من المرفق. قال يغسل ما بقي من عضده». بجعل الموصول للعهد أي الباقي من موضع الفرض ، و «من عضده» اما ظرف مستقر على انه حال مؤكدة ، أو لغو متعلق ب «يغسل» ومن ابتدائية أو تبعيضية.

وبما ذكرنا يظهر كون وجوب غسل المرفق أصالة لا من باب المقدمة. ويظهر

__________________

(1) ص 244.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 49 ـ من أبواب الوضوء.


انه لا حاجة إلى ما تكلفه شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ بعد حمله الرواية على القطع من نفس المرفق وحكمه بوجوب غسل الباقي ـ من التجوز بإطلاق العضد على رأس العضد وانه لا ضرورة أيضا إلى الحمل على الندب واستحباب غسل العضد كملا ، بحمل الرواية على القطع من أعلى المرفق ، كما هو صريح الذكرى ، حتى انه لذلك ذهب إلى ان في الرواية إشارة إلى استحباب غسل العضد مع اليد ، ثم قال : «وبه استدلوا على مسح المقطوع باقي العضد» كما ذهب اليه جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك والعلامة في المنتهى ، بحمل الموصول في كلا الفرضين على الاستغراق و «من» على البيانية ، فإنه لا ضرورة تلجئ اليه ، مع كون ما ذكرناه معنى صحيحا لا غبار عليه.

هذا. وعبارات الأصحاب في هذا المقام مختلفة النظام بعيدة الالتئام ، فعن الشيخ في المبسوط انه يغسل ما بقي ، والمحقق في المعتبر «سقط عنه غسلهما ويستحب مسح موضع القطع بالماء» وفي الشرائع ذكر سقوط فرض الغسل ولم يذكر استحباب المسح ، وابن الجنيد «غسل ما بقي من عضده» والعلامة في المنتهى «سقط غسلها لفوات محل الغسل» وفي التذكرة «فقد بقي من محل الفرض بقية وهو طرف عظم العضد ، لانه من جملة المرفق ، فان المرفق مجمع عظم العضد وعظم الذراع» وهذه العبارات المنقولة كلها جمل جزائية لشرط القطع من المرفق. والعلامة في المنتهى بعد ان ذكر ما نقلناه عنه نقل عن أصح وجهي الشافعي الوجوب ، لان غسل العظمين المتلاقيين من العضد والمرفق واجب ، فإذا زال أحدهما غسل الآخر. ثم رده بأنا إنما نوجب غسل طرف العضد توصلا إلى غسل المرفق ، ومع سقوط الأصل انتفى الوجوب. وهذا الكلام يشعر بان وجوب غسل المرفق عنده انما هو من باب المقدمة ، وهو خلاف ما عرفت من كلامه في التذكرة ، فإنه صريح في كون غسل المرفق عنده أصالة. ثم اعترض على نفسه في المنتهى بصحيحة علي بن جعفر المذكورة (1) وردها بأنها مخالفة للإجماع ، فان

__________________

(1) في الصحيفة 245.


أحدا لم يوجب غسل العضد ، فتحمل على الاستحباب. وتبعه على ذلك السيد السند. ومنشأ الوهم حمل الموصول على الاستغراق و «من» على انها بيانية كما تقدم. ولا يخفى ان عبارة ابن الجنيد مطابقة لعبارة الرواية ، فتحمل على ما حملنا عليه الرواية ، فلا يكون من مخالفة الإجماع المشار إليه في المنتهى في شي‌ء.

(الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل ما تحت المرفق مما زاد على أصل الخلقة من يد ولحم زائد وجلد متدل وإصبع زائدة ، نظرا إلى كونها اجزاء من اليد المأمور بغسلها كما علله البعض ، أو كالأجزاء كما في كلام آخر ، أو داخلة في محل الفرض فتكون تابعة له كما في كلام ثالث.

وكذا ما فوقه من يد غير متميزة عن الأصلية ، لدخولها في مفهوم اليد وصدق اليد عليهما بالسوية ، فتخصيص إحداهما بالغسل ترجيح من غير مرجح ، فوجب غسل الكل أصالة في إحداهما ومن باب المقدمة في الأخرى تحصيلا للامتثال.

وللمناقشة في الأول منهما مجال ، لمنع كون ما زاد على أصل الخلقة اجزاء حقيقية تنصرف إليها الأحكام الشرعية ، واولى بالمنع تعليلها بكونها كالأجزاء ، إذ ترتب الأحكام الشرعية لا يكفي فيه مجرد المشابهة لما ثبت تعلق الحكم به ، وأشد أولوية بالمنع التعليل الثالث. وبالجملة فظاهر الآية كون الإضافة في قوله سبحانه : «وَأَيْدِيَكُمْ» عهدية فيتعلق الحكم باليد المعهودة وما اشتملت عليه من الاجزاء المعهودة.

وحينئذ فالمعتمد في الاستدلال هو الوقوف على جادة الاحتياط وتحصيل اليقين في مقام الشك ، مؤيدا ذلك بالاتفاق المنقول.

اما اليد المتميزة فوق المرفق فقيل بوجوب غسلها ، لصدق اليد عليها ، وقيل بالعدم للأصل وعدم دليل مخرج عنه ، ويؤيده ما أشرنا إليه سابقا من ان الظاهر ان اضافة «وَأَيْدِيَكُمْ» عهدية ، فيتعلق الحكم بالمعهودة. ولو حملت الإضافة على العموم اندفع ما أوردناه سابقا ووجب غسل اليد المذكورة.


قال بعض المحققين : «ولو لم يكن لليد الزائدة مرفق لم يجب غسلها قطعا» وهو جيد. إلا ان ظاهر عبارته بان ذلك محل وفاق وان محل الخلاف ما لو كان لها مرفق ، والظاهر من فرض الأصحاب اليد الزائدة فيما فوق المرفق المشعر باتحاد المرفق ان تميزها مع عدم وجود المرفق لها ، إذ لو كان لها مرفق لكانت دونه ووجب غسلها البتة ، إما لدخولها في حكم اليد فيما دون المرفق ، أو عدم امتيازها حينئذ عن الأصلية.

وبالجملة فالتحقيق في ذلك ان يقال : ان هذه اليد المفروضة اما ان تكون ذات مرفق أم لا ، وعلى الأول فاما ان تكون كالاصلية على وجه لا امتياز لها عنها أم لا.

والظاهر انه لا ريب في وجوب الغسل في الصورة الأولى ، لكونها يدا ذات مرفق مشتبهة باليد الأصلية. وفي الصورة الثانية توقف ، لان مجرد كون لها مرفق ـ مع تميزها عن الأصلية ، لضعف البطش بها مثلا ، أو نقص أصابعها ، ونحو ذلك ـ لا يوجب غسلها ، سيما مع اعتبار العهدية في الإضافة. وفي الصورة الثالثة الظاهر عدم وجوب الغسل ، حيث ان الشارع أمر بغسل اليد إلى المرفق ، وهذه لا مرفق لها. الا انه بموجب ذلك يلزم انه لو لم يكن له إلا يد واحدة لا مرفق لها فلا يجب غسلها حينئذ ، الا ان يتمسك بالإجماع هنا على وجوب الغسل.

(الخامس) ـ الظاهر انه لا خلاف في انه يجب تحريك ما يمنع وصول الماء إلى المغسول من دملج وسوار وخاتم ونحوها ، أو نزعه.

ويدل عليه صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) حيث «سأله عن المرأة يكون عليها السوار والدملج في بعض ذراعها ، لا تدري يجري الماء تحته أم لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه ...».

وحسنة ابن أبي العلاء عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الخاتم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 41 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 41 ـ من أبواب الوضوء.


إذا اغتسلت. قال : حوله من مكانه ، وقال في الوضوء تديره ...».

وصرح جملة من الأصحاب بأنه يجب تخليل الشعر النابت في اليد وان كثف لغسل ما تحته ، نظرا إلى أن المأمور به غسل اليد التي هي عبارة عن العضو المخصوص ، بخلاف النابت في الوجه ، لدخوله في مسماه ، فان الوجه اسم لما يواجه به ، والمواجهة تحصل بالشعر ، فيكفي غسله عما تحته.

وربما يناقش في الحكم المذكور بقوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (1) : «كل ما أحاط به الشعر فليس للعباد ان يطلبوه ولا يبحثوا عنه ، ولكن يجري عليه الماء». فإنه بعمومه شامل لما نحن فيه.

وربما يجاب بحمل الف ولام «الشعر» على العهد إشارة إلى شعر الوجه ، لتقدمه في صدر الرواية ، كما رواه في الفقيه (2).

وفيه ان الظاهر انها رواية مستقلة مصدرة بقوله : «أرأيت ما أحاط به الشعر. إلخ» كما ذكره الشيخ في التهذيب (3) وذكر صاحب الفقيه لها ـ على أثر صحيحة زرارة الواردة في تحديد الوجه ، كما هي عادته في سبك الأخبار ، بل جعل كلامه تارة بينها حتى يظن انه من جملة الخبر ـ لا يدل على انها من جملتها ، ولهذا انه في الوافي (4) نقلها عن الفقيه منفصلة. وتخصيصها بالإجماع والأخبار على وجوب غسل البشرة في الغسل يوجب الاقتصار على ما خرج بالدليل ، وكيف كان فالعمل على ما عليه ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم).

ثم ان ظاهر المشهور وجوب غسل الشعر هنا ، لدخوله في محل الفرض كما علله البعض ، أو انه من توابع اليد كما علله آخر. وقد عرفت ما فيه ، ومن ثم استظهر بعض

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 46 ـ من أبواب الوضوء.

(2) ج 1 ص 28.

(3) ج 1 في الوسائل في الباب ـ 46 ـ من أبواب الوضوء 104.

(4) ج 4 ص 45.


محققي متأخري المتأخرين العدم هنا للأصل ان لم يكن إجماع. الا ان الحكم هنا ربما كان أقرب ، لعدم انفكاك اليد غالبا عن الشعر ، فيدخل في خطاب الحكم المتعلق بها ، بخلاف ذلك لندوره ، فلا ينصرف إليه الإطلاق. نعم لو قيل بعدم وجوب إيصال الماء إلى ما تحته انتقل حكم الوجوب اليه.

(السادس) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب غسل الأظفار ما لم تخرج عن حد اليد. واما معه فقيل بالوجوب أيضا ، لجزئيتها من اليد عرفا ، وبالعدم كمسترسل اللحية ، للأصل وعدم دليل صالح للخروج عنه.

وكيف كان فالمشهور وجوب نزع ما تحتها من الوسخ متى كان مانعا من وصول الماء ، لكونه في حد الظاهر. واحتمل في المنتهى عدم الوجوب ، لكونه ساترا عادة وأيده المحدث الثقة الأمين الأسترآبادي (نور الله رمسه) بالروايات المتضمنة استحباب إطالة المرأة أظفار يديها ، قال : «فان فيها دلالة على عدم إخلال وسخها بالوضوء والغسل وجه الدلالة ان الإطالة مظنة اجتماع الوسخ وكان ما تحتها من البواطن. وأيضا اجتماع الوسخ عادي ومع ذلك لم يرد بإزالته قول أو فعل ، وهذا قرينة على عدم وجوب إزالته. والله أعلم» انتهى. وما ذكره (قدس‌سره) لا يخلو من قرب إلا ان الاحتياط في الإزالة.

وأيده بعض أيضا بصدق غسل اليد بدونه ، وعدم ثبوت أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أعراب البادية وأمثالهم بذلك ، مع ان الظاهر عدم انفكاكهم عن ذلك.

وقيده بعض آخر بالوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة الظاهرة ، قال : «اما المانع من بشرة مستورة تحت الظفر بحيث لا تظهر للحس لو لا الوسخ ، فالظاهر عدم الوجوب».

هذا. والمفهوم من عبائر الأصحاب (رحمهم‌الله) في المقام ـ حيث صرحوا بوجوب إزالة الوسخ المذكور متى كان مانعا من وصول الماء ، فلو لم يمنع استحب إزالته


ـ ان مجرد وصول الماء إلى ما تحت الوسخ كاف في صحة الغسل ، وهو مناف لما فسروا به الغسل من اشتراط الجريان في تحققه ، لان ما تحت الوسخ من جملة ما يجب غسله الذي لا يتحقق إلا بإجراء الماء عليه.

نعم يظهر من شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) في بعض تحقيقاته الاكتفاء بذلك في تطهير ما تحت الوسخ من النجاسة الخبيثة ، بل ظاهره نقل الاتفاق على ذلك ، حيث أسنده إلى ظاهر النصوص والفتاوى ، قال (قدس‌سره) ـ بعد تقرير المسألة بأن دخول الماء في الوسخ الكائن تحت الظفر هل يكفي في طهارته إذا كان نجسا؟ من حيث انه لم يدخل فيه بقوة وجريان بل على وجه الترشح والسريان ـ ما لفظه : «الظاهر من النصوص والفتاوى طهارة ما أصابه الماء من ذلك وأمثاله وان لم يصل إليه بقوة ، بل يكفي مطلق وصوله اليه ونفوذ الماء في الاجزاء النجسة ، وعموم الأوامر بالغسل وإطلاقها يشمله ، والإجماع واقع على طهارة الثوب والجلد والحشايا التي تدخل النجاسة إلى أجزائها الداخلة بوصول الماء إليها ، مع عصر ما يمكن عصره كالثوب ، ودق الحشايا وتغميزها لإخراج الغسالة الداخلة في أعماقها. ولا شبهة في ان دخول الماء إلى هذه الأشياء انما هو على وجه الترشح والنفوذ اللطيف» ثم أطال في الاستدلال على ذلك بذكر النظائر لما ذكره ، ثم اعترض على الأصحاب فيما أطلقوه مما قدمنا نقله عن ظاهر كلامهم ، وقال بعد نقل شطر من عبائرهم في ذلك : «وظاهر هذه العبارات ـ كما ترى ـ الاكتفاء بمطلق وصول الماء إلى البشرة ، لكن لما عهد من الشارع في غسل الوضوء والغسل اعتبار الجريان ، فليكن هناك كذلك ، إلى ان قال : ولو فرض انهم يكتفون بمطلق وصول الماء فالأظهر عندنا انه لا يكفي ذلك ، لعدم الدليل على سقوط ما وجب فيه. ثم قال : وعلى هذا يحصل الفرق بين طهارة ما تحت الوسخ من الخبث ومن الحدث ، إذ المعتبر في طهارة الخبث مجرد وصول الماء إلى ما ذكر مع انفصال ما يمكن انفصاله عنه ، وفي الحدث الجريان على نفس البشرة» انتهى كلامه زيد إكرامه.


وما ذكره (قدس‌سره) ـ من الاكتفاء في طهارة الوسخ المذكور بمجرد وصول الماء إلى اجزاء الوسخ ولو على جهة الترشح والسريان ـ لا يخلو من قوة ، لما ذكره من الأدلة. إلا ان ما ذكره أخيرا ـ من الفرق في طهارة ما تحته من الخبث والحدث بالاكتفاء بمجرد وصول الماء في الأول ، واعتبار الجريان في الثاني ـ ليس بموجه ، فان الغسل متى اعتبر بالنسبة إلى البدن ونحوه من الأجسام الصلبة ، كان عبارة عندهم عما يدخل الجريان في مسماه ولا يتحقق بدونه ، سواء كان لازالة خبث أو حدث ، ومتى اعتبر بالنسبة إلى الثوب والحشايا ونحوها من الأجسام المنطبعة ، كان عبارة عن استيعاب المحل النجس مع انفصاله عنه ، ولهذا قابلوه في الأول بالمسح الذي لا يشترط فيه الجريان عندهم ، وفي الثاني بالرش والصب الذي لا يشترط فيه الكثرة ولا الانفصال ، وحينئذ فالغسل متى اعتبر في البدن لارالة حدث أو خبث ، فلا بد في تحققه وصدق اسمه عليه من الجريان عندهم ، إذ الواجب الغسل ، وهو شرعا بالنسبة إلى البدن ونحوه عبارة عن جري جزء من الماء على جزئين من البشرة بنفسه أو بمعاون ، واعتبار الاكتفاء بمجرد الوصول إلى اجزاء المتنجس ـ ولو على جهة الترشح والنفوذ ـ انما قام بالنسبة إلى غير البدن من الأجسام المنطبعة ، كما عرفت مما حققه هو وغيره في محله ، وحينئذ فحق الكلام بالنسبة إلى تطهير الوسخ تحت الظفر ـ بمقتضى قواعدهم وتحقيقاتهم ـ هو طهارة الوسخ بمجرد نفوذ الماء فيه ، وتوقف تطهير ما تحته على الجريان المعتبر في حقيقة الغسل عندهم متى تعلق بالبدن ونحوه. وانما أطلنا الكلام في هذا المقام لقلة دوران المسألة في كلام علمائنا الأعلام.

الركن الرابع ـ مسح الرأس

وتحقيق الحكم فيه يتوقف على أمور :

(الأول) ـ اختصاص المسح بمقدم الرأس ـ بشرة أو شعرا مختصا به ـ مما


انعقد عليه الإجماع فتوى ، وهو الأشهر رواية :

فمن الأخبار في ذلك قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (1) : «مسح الرأس على مقدمه».

وقوله في حسنته بل صحيحته أيضا (2) : «امسح على مقدم رأسك ...».

وقوله في صحيح زرارة (3) : «... وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ...».

الى غير ذلك من الأخبار.

وظاهر الآية وأكثر الأخبار وان تضمن مسح الرأس بقول مطلق إلا ان الواجب تقييده بالمقدم ، لما ذكرنا من الإجماع والأخبار ، حملا للمطلق على المقيد. وما دل على خلاف ذلك من الأخبار ـ كحسنتي الحسين بن أبي العلاء (4) ورواية أبي بصير (5) حيث تضمنت مسح المقدم والمؤخر ـ فخارج مخرج التقية (6). وما ذكره بعض من الاحتياط بمسح المؤخر ضعيف.

__________________

(1 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 22 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 25 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروي في الوسائل في الباب ـ 15 و 31 ـ من أبواب الوضوء.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.

(6) في شرح صحيح الترمذي لابن العربي المالكي ج 1 ص 51 «ان المشهور من أقوال مالك وجوب مسح جميع الرأس : يبدأ بيديه بالمقدم إلى القفا» وفي بداية المجتهد لابن رشد ج 1 ص 10 «ذهب مالك إلى ان الواجب مسح الرأس كله ، والشافعي وأبو حنيفة وبعض أصحاب مالك إلى ان الفرض مسح بعضه ، وحده أبو حنيفة بالربع وبعض أصحاب مالك بالثلث وبعضهم بالثلثين ، والشافعي لم يحد الماسح ولا الممسوح» وفي المغني لابن قدامة ج 1 ص 125 «روى عن احمد وجوب مسح جميعه في كل أحد ، وروى عنه اجزاء مسح بعضه ، الا ان الظاهر عنه وجوب الاستيعاب في حق الرجل ويجزئ المرأة مسح مقدم رأسها ، لأن عائشة كانت تمسحه» وفي الهداية لشيخ الإسلام الحنفي ج 1 ص 4 «المفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس».


ثم انه قد ذكر جملة من الأصحاب انه يشترط في شعر المقدم الذي يمسح عليه ان لا يخرج بمده عن حد المقدم ، فلو خرج عن الحد المذكور لم يجز المسح على الزائد ، لخروجه عن محل الفرض ، بل يمسح على أصوله وما زاد ما لم يخرج عن الحد المذكور.

بقي هنا شي‌ء أغفل الأصحاب (رضوان الله عليهم) تحقيقه ولم يلجوا مضيقة ، وهو ان المقدم الوارد في هذه الأخبار هل هو عبارة عما هو المتبادر من ظاهر اللفظ ، وهو ما كان من قبة الرأس إلى القصاص مما يلي الجبهة ، الذي هو كذلك إلى القصاص من خلف ، فبأي جزء من هذه المسافة مسح تأدى به الواجب ، أو هو عبارة عن الناصية وهي ما بين النزعتين كما فسرها به جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في التذكرة وغيره في غيره ، وحينئذ فيكون المقدم عبارة عما ارتفع من القصاص إلى ان يساوي أعلى النزعتين؟

لم أقف بعد التتبع على من كشف عن ذلك نقاب الإبهام بكلام صريح في المقام إلا ان عباراتهم عند التأمل في مضامينها ترجع إلى الأول.

وقد وقفت على رسالة لشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (نور الله تعالى ضريحه بأنوار جوده السبحاني) نقل فيها المعنى الأول عن بعض معاصريه من الفضلاء العظام. والظاهر انه الوالد (قدس الله نفسه ونور رمسه) ونقل عنه دعوى إجماع الطائفة عليه وعدم الخلاف ، ثم نسبه في دعوى ذلك إلى الوهم ، وقال : انه لم يصرح بهذه الدعوى الغريبة غير شيخنا الشهيد الثاني في الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ، وهو ظاهر كلامه في غيرها ، وربما يستفاد من إطلاق فحاوي كلام غيرهما أيضا ، لكن أكثر عبارات الأصحاب والأخبار وأهل اللغة ظاهرة بل صريحة في ان المقدم هو قصاص الشعر والناصية ، والمستفاد منها ان ذلك هو محل الفرض ، ويكفي مسماه ، وأفضله مقدار ثلاث أصابع مضمومة من قصاص الشعر إلى ما بلغت لا أزيد ، وانه لو مسح ما فوق ذلك


بدون مسح الناصية لم يكفه وكان الوضوء باطلا ، لعدم الدليل الثابت على جواز التعبد به.

ثم أورد (قدس‌سره) مقامات ثلاثة تتضمن الاستدلال على ما ذهب اليه : ذكر في أولها الأخبار الواردة في المسألة ، وفي ثانيها كلام أهل اللغة في ذلك. وفي ثالثها عبارات الأصحاب الدالة على ما ذكره.

وحيث ان المسألة غير مكشوف عنها نقاب الإبهام في كلام علمائنا الاعلام مع كونها من المهام العظام ، فلا بد من إرخاء عنان القلم في تنقيحها وتمييز باطلها من صحيحها وبيان ما هو المستفاد من كلام الأصحاب في المقام واخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) :

فنقول : الظاهر ان ما ذكره شيخنا المشار اليه ـ وادعى انه المفهوم من كلام أكثر علمائنا الأبرار ، وأخبار الأئمة الأطهار ، وكلام أهل اللغة الذي عليه المدار ـ ليس بذلك المقدار ، ومنشأ الشبهة عنده هي حسنة زرارة (1) الدالة على المسح على الناصية خاصة وها نحن نتكلم على المقامات الثلاثة بما يقشع غمام الإبهام ونشير إلى ما أورده (قدس‌سره) على الخصوص في كل مقام ، ليتبين للناظر ما هو الأوفق باخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) والاربط بكلام علمائنا الأعلام :

فنقول : اما الأخبار الواردة في هذه المسألة فقد تضمن شطر منها ـ وهو أكثرها ـ المسح على الرأس ، وجلها في الوضوء البياني ، وشطر منها تضمن المسح على مقدم الرأس وشطر تضمن المسح على الناصية ، وهو صحيحة زرارة المتقدمة خاصة (2).

والكلام في المعنى المراد من الأخبار انما يتضح بعد الوقوف على كلام الأصحاب وما ذكره أهل اللغة في هذا الباب :

فاما كلام الأصحاب فمنه ـ ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في شرح الألفية بعد قول المصنف : «الرابع ـ مسح مقدم شعر الرأس» حيث قال في ضبطه : «المقدم بضم الميم وتشديد الدال المفتوحة نقيض المؤخر بالتشديد» انتهى. وصراحة العبارة

__________________

(1) الآتية في الصحيفة 256.

(2) ص 253.


في المراد أظهر من ان يعتريها الإيراد.

وقال في الروض بعد قول المصنف : «ويجب مسح مقدم بشرة الرأس» ما لفظه : «دون وسطه أو خلفه أو أحد جانبيه».

وقريب منها عبارة الفاضل الخراساني في الذخيرة ، حيث قال بعد عبارة المصنف : «دون سائر جوانبه».

وقال المحقق الخوانساري في شرح الدروس بعد تقسيم ذكره سابقا : «وثانيها ـ اختصاصه بالمقدم ، فلو مسح المؤخر أو الوسط أو أحد جانبيه لم يجز».

وأنت خبير بان مقابلة الاختصاص بالمقدم في هذه العبائر ونحوها بهذه المواضع الثلاثة ـ من مؤخر الرأس ووسطه وجانبيه ـ تعطى انحصار المقدم فيما بين القصاص إلى الوسط ، وإلا لبقي فرد آخر مغفل في الكلام ، فلا يدل التفريع على الانحصار ، إذ لا يخفى ان الغرض من المقابلة ـ في أمثال هذه المقامات بعد إثبات الحكم لبعض الافراد بنفيه عن الافراد الأخر ـ إنما هو الحصر في ذلك الفرد ، كما لا يخفى على الفطن اللبيب العارف بالأساليب.

وقال المولى المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) : «ان ظاهر الآية وبعض الأخبار يدل على اجزاء مسح اي جزء كان من الرأس. ولعل الإجماع ـ مؤيدا بالوضوء البياني ، وبصحيحة محمد بن مسلم (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : امسح الرأس على مقدمه». وبحسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (2) «وتمسح ببلة يمناك ناصيتك». ـ دال على ان المراد جزء من مقدم الرأس لا اي جزء كان ، ولعل المراد بالناصية في الخبر هو مقدم الرأس ، لأنه أقرب إلى الناصية المشهورة أو اسم له حقيقة» انتهى.

وحاصل كلامه ان ظاهر الآية وبعض الأخبار دل على اجزاء مسح اي جزء

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 22 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 و 31 ـ من أبواب الوضوء.


من الرأس ، ولما عارضه الإجماع والأخبار الدالة على خصوص مسح المقدم دل على تخصيص الرأس بالمقدم ، لكن لما كان من تلك الأخبار المخصصة حسنة زرارة الدالة على الناصية التي هي أخص من المقدم ، أراد الجمع بينها وبين اخبار المقدم بحمل الناصية على المقدم ، مجازا لقرينة المجاورة ، أو حقيقة شرعية.

ثم ان أكثر عبائر الأصحاب في هذا المقام قد اشتملت على التعبير بالمقدم مفردا أو مضافا إلى الرأس ، ومن الظاهر البين ان كل أحد لا يفهم من لفظ المقدم المضاف إلى الرأس أو غيره متى أطلق إلا ما قابل المؤخر ، وسيأتي لك أيضا ما يعضده من كلام أهل اللغة. وبذلك يعلم أيضا انه لا يطلق مجردا عن القرينة الأعلى ذلك المعنى.

وبذلك أيضا اعترف شيخنا المذكور في آخر رسالته حيث قال : «لا يقال : ان إطلاق الدليل من الآية يقتضي جواز المسح على الرأس ، وحيث قد جاءت السنة مخصصة له بالمقدم وهو يطلق على ضد المؤخر ، كانت مقيدة لإطلاق الكتاب ، فيبقى ما صدق عليه المقدم سالما من التقييد ، فيكون كله صالحا للمسح. لأنا نقول : الأمر كما ذكرتم لكن نحن لا نسلم إطلاق المقدم هنا على ما ادعيتموه بعد تفسير أهل اللغة له بالناصية وورود الحديث الصحيح بكون الباء للتبعيض ، فهو وان سلمنا ما هو أعم منها فلا أقل ان يكون من باب حمل المطلق على المقيد» انتهى.

وسيظهر لك الجواب عما أورده هنا. وبذلك يظهر لك ما في استدلاله بعبارات جملة من الأصحاب ، فإن جلها من هذا الباب :

فمما نقله (قدس‌سره) كلام الصدوق (رحمه‌الله) في الفقيه حيث قال : «وحد مسح الرأس ان تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس» ومثله عبارته في الهداية إلا انه قال : «أربع أصابع».

وأنت لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما حررناه انه لا دلالة فيها على شي‌ء مما ادعاه لانه حكم بوجوب مسح هذا المقدار المعين من المقدم ، وقد عرفت المعنى المتبادر من المقدم


وسيأتي أيضا ما يؤكده ، فيكون معناه وجوب مسح هذا المقدار من اي جزء من اجزاء هذه المسافة ، واي دليل له في ذلك؟ بل هو بالدلالة على خلاف مدعاه ـ بتقريب ما حققناه ـ أشبه.

ثم نقل عن الشيخ المفيد في المقنعة انه قال : «يمسح من مقدم رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة من ناصيته إلى قصاص شعره مرة واحدة» وعبارة الشيخ في النهاية «ثم يمسح بباقي نداوة يده من قصاص شعر رأسه مقدار ثلاث أصابع مضمومة» وهاتان العبارتان وان دلتا على كون المسح في هذا المكان الذي يدعيه. لكن لا دلالة لهما على الانحصار فيه وعدم اجزاء ما سواه كما هو المدعى. وصدر عبارة الشيخ المفيد ظاهر الدلالة على ان مقدم الرأس عبارة عما ادعيناه.

ثم نقل كلام السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، فقال : «قال الناصر في المسائل الناصرية : فرض المسح متيقن بمقدم الرأس والعامة إلى الناصية. فكتب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في جوابه : هذا صحيح وهو مذهبنا ، وبعض الفقهاء يخالفون في ذلك ويجوزون المسح على اي بعض كان من الرأس. والدليل على صحة مذهبنا الإجماع المتقدم ذكره. وأيضا فلا خلاف بين الفقهاء في ان من مسح على مقدم الرأس فقد ادى الفرض ، وليس كذلك من مسح مؤخر الرأس ، فما عليه الإجماع أولى» انتهى والعجب منه (قدس‌سره) في إيراد هذه العبارة واستناده إليها وهي ـ كما ترى ـ صريحة الدلالة في خلاف مدعاه ، اما في كلام الناصر فظاهر ، واما في كلام السيد (رحمه‌الله) فلجوابه بأنه مذهبنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، وكأنه (قدس‌سره) أوردها بطريق الاستعجال أو مع تشويش في البال.

ثم أورد عبارة المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في الانتصار ، وهو قوله : «ومما انفردت به الإمامية القول بان الفرض مسح مقدم الرأس دون سائر أبعاضه ، والفقهاء


كلهم مخالفون في هذه الكيفية ولا يوجبونها ، ولا شبهة في ان الفرض عند الإمامية متعلق بمقدم الرأس دون سائر أبعاضه» انتهى.

ثم نقل شطرا من عبائر المتأخرين المشتلمة على التعبير بمقدم الرأس.

وأنت خبير بعد الإحاطة بما أسلفناه انه لا اشعار فيها بما ذكره ولا إيناس ، بل هي في الدلالة على خلاف ما يدعيه عارية عن الإبهام والالتباس ، وحينئذ فما ذكره (رحمه‌الله) بعد ذلك ـ من قوله : «فان كان مراد هؤلاء المتأخرين بالمقدم الناصية ، وبالناصية قصاص الشعر وما فوقه بيسير وهو ما بين النزعتين فلا كلام ، وان كان المراد ما هو أعم فالبحث أيضا جار معهم ، لانه خلاف فتوى المتقدمين من الأصحاب والنصوص واللغة» انتهى ـ فهو تطويل بغير طائل. واعادة الكلام عليه بعد تحقيق ما أسلفناه تحصيل الحاصل.

واما كلام أهل اللغة فمما استند اليه وأورده كلام القاموس ، حيث قال : «... ومقدمة الجيش ـ وعن ثعلب فتح دالة ـ متقدموه ، وكذا قادمته وقداماه ، ومن الإبل أول ما ينتج ويلقح ، ومن كل شي‌ء اوله ، والناصية ، والجبهة» ثم قال (قدس‌سره) بعده «وهو صريح في كون المقدم هو الناصية» انتهى.

وأنت خبير بان الظاهر من هذه العبارة بالنسبة إلى ما نحن فيه إطلاق المقدم على ثلاثة معان : (أحدها) ـ أول الشي‌ء ، فإذا أضيف المقدم إلى الرأس يكون بمعنى اوله. و (الثاني) ـ الناصية. و (الثالث) ـ الجبهة.

والأول منها هو الذي اتفقت عليه كلمة أهل العرف ، وعليه أيضا اتفقت كلمة أهل اللغة :

فمنها ـ ما ذكره هنا ، فان المراد من الأول في عبارته ما قابل الآخر ، كما ذكره في مادة (أخر) حيث قال : «والآخر خلاف الأول» ومن المعلوم ان الأول بالنسبة إلى الرأس هو المقدم كما ان الآخر هو المؤخر.


ومن ذلك ـ ما صرح به في كتاب مجمع البحرين حيث قال : «والمقدم بفتح الدال والتشديد نقيض المؤخر ، ومنه مسح مقدم رأسه» انتهى. وفيه دلالة واضحة على انه المراد شرعا.

وقال في الصحاح : «ومؤخر الشي‌ء نقيض مقدمه».

وقال في المصباح : «ومؤخر كل شي‌ء بالتثقيل والفتح خلاف مقدمه».

واما المعنى الثاني وهو إطلاقه على الناصية فلا دليل فيه على ما ادعاه (طاب ثراه) فإن الناصية عند أهل اللغة إنما هي عبارة عن القصاص الذي هو لغة وشرعا آخر منابت شعر الرأس ، قال في القاموس : «الناصية قصاص الشعر» ومثله في المصباح. وفي مجمع البحرين : «الناصية قصاص الشعر فوق الجبهة» والناصية عند الفقهاء ـ كما تقدم في كلام العلامة في التذكرة ، وهو الذي يدعيه شيخنا المزبور ويخص موضع المسح به ـ هو ما ارتفع عن القصاص حتى يسامت أعلى النزعتين ، وحينئذ فإطلاق المقدم على الناصية في عبارة القاموس ـ مع ما عرفت من معناها لغة ـ لا دليل فيه على ما ادعاه. ومع تسليم ان المراد بها ما ادعاه ، ففيه انه قد أطلق فيه أيضا على ما ادعيناه ، وهو المعنى الأول فالتخصيص بما ادعاه ترجيح من غير مرجح ، بل المرجح في جانب المعنى الذي ادعيناه حيث انه مما اتفقت عليه كلمة العرف واللغة كما عرفت ، فحمل الأخبار عليه أظهر البتة. على ان هذا المعنى الذي ذكره لم نجده في شي‌ء من كتب اللغة بعد الفحص سوى القاموس. وكيف كان فلا ريب في رجحان مقابله.

ومما نقله أيضا في رسالته عبارة المصباح المنير ، حيث قال فيه : «الناصية قصاص الشعر وجمعها النواصي. ونصوت فلانا نصوا من باب قتل : قبضت على ناصيته. وقول أهل اللغة ـ : النزعتان هما البياضان اللذان يكتنفان الناصية ، والقفا مؤخر الرأس والجانبان ما بين النزعتين والقفا ، والوسط ما أحاط به ذلك. وتسميتهم كل موضع باسم يخصه ـ كالصريح في ان الناصية مقدم الرأس ، فكيف يستقيم على هذا تقدير الناصية بربع


الرأس؟ وكيف يصح إثباته بالاستدلال؟ والأمور النقلية إنما نثبت بالسماع لا بالاستدلال ومن كلامهم «جز ناصيته» «وأخذ بناصيته» ومعلوم انه لا يتقدر ، لأنهم قالوا : الطرة هي الناصية. واما الحديث «ومسح بناصيته» فهو دال على هيئة ، ولا يلزم نفي ما سواها. وان قلنا : الباء للتبعيض ارتفع النزاع» انتهى. ثم قال (رحمه‌الله) بعدها : «وهو نص على ما امليناه وشاهد صدق على ما ادعيناه» انتهى.

أقول : والذي يلوح للفكر القاصر ان مراد صاحب المصباح من سوق هذا الكلام ـ حيث انه شافعي المذهب ـ الرد على أبي حنيفة فيما ذهب اليه من وجوب المسح على ربع الرأس مدعيا أنه الناصية ، مستندا إلى رواية المغيرة بن شعبة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بأنه مسح على ناصيته ، قال : «والناصية تقرب من ربع الرأس» (1). فقال صاحب الكتاب بعد تفسير الناصية بما فسيرها به غيره من أهل اللغة بقصاص الشعر : ان تخصيص أهل اللغة كلا من هذه المواضع من اجزاء الرأس باسم على حدة ـ ولم يعينوا اسما للمسافة التي من القصاص مما يلي الوجه إلى قمة الرأس ـ يعطي أن الناصية في كلامهم اسم لمقدم الرأس الذي هو عبارة عن هذه المسافة ، وحينئذ فاما ان تكون الناصية عبارة عن القصاص كما هو المشهور في كلامهم ، أو عن مجموع المقدم كما هو المستفاد من هذا التقسيم ، فالقول بكونها عبارة عن ربع الرأس لا مجال له. ثم اعترض عليه بأنه كيف يثبت بالاستدلال ، إشارة إلى الاستدلال بالرواية المذكورة ، وساق الكلام في الرد على أبي حنيفة وتأويل الحديث الذي استند اليه. هذا ما يفهم من العبارة المذكورة. وقوله ـ : «كالصريح في ان الناصية مقدم الرأس» بحمل المقدم على الناصية دون العكس ـ يرشد إلى ما ادعيناه ، وحينئذ فالعبارة في الدلالة على ما ندعيه أظهر.

__________________

(1) في الهداية لشيخ الإسلام الحنفي ج 1 ص 4 «المفروض في مسح الرأس مقدار الناصية وهو ربع الرأس ، لما روى المغيرة بن شعبة : «ان النبي (ص) توضأ ومسح بناصيته وخفيه ، والكتاب مجمل فالتحق بيانا به». وفي التعليقة 6 في الصحيفة 253 ما يتعلق بالمقام.


إذا عرفت ذلك فاعلم ان جل الأخبار قد اشتمل على وجوب المسح على الرأس وجملة منها قد اشتمل على وجوب مسح مقدمه ، فيجب حمل مطلقها على مقيدها كما هو القاعدة المطردة.

بقي في المقام صحيحة زرارة المشتملة على مسح الناصية (1) ويمكن الجمع بينها وبين اخبار المقدم بوجوه :

(أحدها) ـ بما تقدم في كلام المحقق المولى الأردبيلي (رحمه‌الله) من حمل الناصية على المقدم ، مجازا لقرينة القرب والمجاورة ، أو حقيقة شرعية. ويؤيده ما صرح به الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله) في كتاب مجمع البيان في تفسير قوله سبحانه : «... فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ)» (2) حيث قال : «والناصية شعر مقدم الرأس».

و (ثانيها) ـ كون الأمر بالمسح بالناصية لكونها أحد أجزاء الموضع الممسوح ولا دلالة فيه على الاختصاص ونفى ما سوى هذا الموضع وانه لا يجزئ المسح عليه ، كما ورد في جملة من الأخبار المسح بإصبع ، فإنه لا دلالة فيه على تعيين هذا القدر لا في الماسح ولا في الممسوح ، ويؤيد ذلك ما ورد في الأخبار ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ من ان المرأة لا تمسح بالرأس كما تمسح الرجال ، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، وإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها ، فان ظاهره ـ كما ترى ـ ان مسح رأسها في الصبح بعد وضع الخمار عنها في غير موضع الناصية أو زيادة عليها ، بخلاف باقي الصلوات مع بقاء الخمار عليها فإنها تدخل يدها تحته وتمسح على الناصية خاصة.

و (ثالثها) ـ حمل المسح ببلة اليمنى على الدخول في حيز الاجزاء ، بعطف قوله : «وتمسح» بإضمار «ان» على قوله : «ثلاث غرفات» كما سيأتي تحقيقه ،

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 253.

(2) سورة الرحمن. الآية 41.


فيصير مسح الناصية داخلا تحت الأجزاء الذي هو أقل مراتب الواجب ، فيسقط الاستدلال بها رأسا.

وذيل الكلام في المقام واسع الأطراف إلا أنا اقتصرنا على ما فيه كفاية للمتأمل بعين الإنصاف.

وبما حققناه في المقام وكشفنا عنه نقاب الإبهام ، ظهر لك ان ما نقله شيخنا المشار إليه في رسالته عن الوالد الماجد (نور الله تعالى تربتهما) من الإجماع صحيح لا غبار عليه ، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه وليته كان حيا فاهدى هذا التحقيق اليه ، ويتبين أيضا ان هذا القول ليس مخصوصا بشيخنا الشهيد الثاني في الروضة أو غيرها من كتبه ، وان الوالد قلده في ذلك فأغرب بدعوى الإجماع على ما هنالك ، كما بسط به ذلك الفاضل لسان التشنيع وسجل به من القول الفظيع.

(الثاني) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في قدر واجب المسح من الرأس :

فالمشهور ـ كما نقله جمع : منهم ـ السيد السند في المدارك ـ الاكتفاء بالمسمى ، ولو بجزء من إصبع ممرا له على الممسوح ، ولا يجزئ مجرد الوضع ، لعدم صدق المسح بذلك.

ونقل الشهيد في الذكرى عن القطب الراوندي في أحكام القرآن انه لا يجزئ أقل من إصبع.

وظاهر المفيد في المقنعة ذلك ، قال : «ويجزئ الإنسان في مسح رأسه أن يمسح من مقدمه مقدار إصبع يضعها عليه عرضا من الشعر إلى قصاصه ، وان مسح منه مقدار ثلاث أصابع مضمومة بالعرض كان قد أسبغ» انتهى. فان المتبادر من لفظ الاجزاء ان يراد به أقل الواجب.


وهو الظاهر أيضا من كلام الشيخ في التهذيب حيث قال بعد نقل العبارة المذكورة : «يدل على ذلك قوله تعالى : «... وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ ...» (1) ومن مسح رأسه ورجليه بإصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويسمى ماسحا ، ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع ، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بجواز ذلك لكن السنة منعت منه» انتهى.

ويظهر من العلامة في المختلف اختيار ذلك أيضا ، بل نسبه فيه إلى المشهور ولم ينقل القول بالمسمى فيه أصلا ، حيث قال : «المشهور بين علمائنا الاكتفاء في مسح الرأس والرجلين بإصبع واحدة» ثم نقله عن الشيخ في أكثر كتبه وابن أبي عقيل وابن الجنيد وسلار وأبي الصلاح وابن البراج وابن إدريس ، ثم نقل جملة من عبائر الأصحاب المشتملة على المسح بثلاث أصابع.

وبذلك أيضا صرح الشهيد في الدروس حيث قال : «ثم مسح مقدم الرأس بمسماه ولا يحصل بأقل من إصبع» وقال بعد ذلك : «والزائد عن إصبع من الثلاث مستحب»

وهو ظاهره في البيان ، حيث قال : «والواجب مسماه ولو بإصبع» ثم نقل الثلاث عن النهاية وحمله على الاستحباب.

بل هو ظاهره في الذكرى حيث قال : «الثانية ـ الواجب في المقدم مسمى المسح ، لإطلاق الأمر بالمسح الكلي ، فلا يتقيد بجزئي بعينه. ثم قال : الثالثة ـ لا يجزئ أقل من إصبع ، قاله الراوندي في أحكام القرآن» ثم نقل عن المختلف ان المشهور الاكتفاء به ، ثم نقل العبارات المتعلقة بالثلاث.

فان ظاهر هذا الكلام بمعونة صريح الدروس وظاهر البيان هو القول بالمسمى وحمله على الإصبع ، ولا ينافي ذلك نقله له عن الراوندي.

وهو ظاهره أيضا في الرسالة ، حيث قال : «الرابع ـ مسح مقدم الرأس

__________________

(1) سورة المائدة. الآية 6.


حقيقة أو حكما ببقية البلل ولو بإصبع» نظرا إلى جعله الإصبع المرتبة الدنيا للاجزاء مبالغة.

وشيخنا الشهيد الثاني في شرحها تمحل في صرفها عن ظاهرها ، فقال بعد ذكر العبارة : «يعني الاكتفاء بكون الإصبع آلة للمسح بحيث يحصل بها مسماه لا كونه بقدر الإصبع عرضا» انتهى. بل تمحل ذلك في شرح الإرشاد بإجراء هذا التأويل في جملة العبارات المشتملة على التحديد بالإصبع.

وأنت خبير بعدم انطباق هذا التأويل على عبارة الدروس ، فإنها صريحة في ان المراد وجوب مقدار الإصبع. وأصرح منها كلام الشيخ في التهذيب. وتكلفه فيما عداهما على غاية من البعد.

وقال الصدوق في الفقيه : «وحد مسح الرأس أن تمسح بثلاث أصابع مضمومة من مقدم الرأس».

وبه صرح الشيخ في النهاية لكن خصه بحال الاختيار ، فقال : «لا يجوز أقل من ثلاث أصابع مضمومة مع الاختيار ، فان خاف البرد من كشف الرأس أجزأه مقدار إصبع واحدة».

ونسب ذلك أيضا إلى المرتضى في مسائل الخلاف ، وإلى هذا القول يميل كلام المحدث الأمين الأسترآبادي ، وهو ظاهر المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتاب الوسائل ، حيث قال : «باب أقل ما يجزئ من المسح» (1) ثم أورد روايات الإصبع وروايات الثلاث أصابع.

ويدل على الأول ظاهر الآية (2) لإطلاق الأمر فيها بالمسح فلا يتقيد بجزئي بعينه ، والباء فيها للتبعيض بدلالة النص الصحيح (3).

__________________

(1) وهو الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.

(2) سورة المائدة. الآية 6.

(3) وهو صحيح زرارة المروي في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.


وقوله (عليه‌السلام) في صحيحة الأخوين (1) : «... وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ...».

وفي صحيحة أخرى لهما أيضا (2) «... فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من رجليه ...».

ويدل على الثاني صحيحة حماد عن بعض أصحابه عن أحدهما (عليهما‌السلام) (3) «في الرجل يتوضأ وعليه العمامة؟ قال : يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه. فيمسح على مقدم رأسه».

ورواية الحسين بن عبد الله (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يمسح رأسه من خلفه ـ وعليه عمامة ـ بإصبعه ، أيجزيه ذلك؟ فقال : نعم».

ويدل على القول الثالث صحيحة زرارة (5) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها».

فان لفظ الاجزاء إنما يستعمل في أقل الواجب.

وما رواه الكشي في رجاله عن محمد بن نصير عن محمد بن عيسى عن يونس (6) قال : «قلت لحريز يوما : يا أبا عبد الله كم يجزيك ان تمسح من شعر رأسك في وضوئك للصلاة؟ قال : بقدر ثلاث أصابع ، وأومأ بالسبابة والوسطى والثالثة ، وكان يونس يذكر عنه فقها كثيرا». وظاهره ان حريز كان يرى المسح بقدر ثلاث.

ورواية معمر بن عمر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (7) قال : «يجزئ من المسح

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 22 ـ من أبواب الوضوء.

(5 و 7) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.

(6) في الصحيفة 244 وفي مستدرك الوسائل في الباب ـ 22 ـ من أبواب الوضوء.


على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل».

ونقل في الذكرى عن ابن الجنيد تخصيص اعتبار الثلاث بالمرأة دون الرجل ، وتخصيص الرجل بالإصبع الواحدة ، حيث قال : «يجزئ الرجل في المقدم إصبع والمرأة ثلاث أصابع» ولعله استند إلى صحيحة زرارة المتقدمة ، ولعل من استند إليها مطلقا بنى على عدم وجود القائل بالفرق ولم يعتبر بخلاف ابن الجنيد ، مؤيدا ذلك برواية معمر بن عمر.

ثم انه لا يخفى عليك ان أقصى ما يستفاد من أدلة القول الأول وجوب مسح بعض من الرأس بمقتضى الآية وشي‌ء منه بمقتضى الأخبار ، ومن الظاهر المتفق عليه انه ليس المراد بعضا ما من الأبعاض ولا شيئا ما من الأشياء ، بل بعضا معينا من أبعاض الرأس وشيئا معينا من اجزائه. فلا بد من الرجوع إلى دليل معين لذلك البعض المراد ، وليس إلا هذه الأخبار الدالة على الإصبع أو الثلاث ، فكما انه بالنسبة إلى تعيين محل المسح من إطلاق الآية والأخبار المطلقة ، أوجبوا الرجوع إلى أخبار المقدم فخصوا إطلاقها به ، ولم يجوزوا المسح على غير المقدم من اجزاء الرأس ، فكذلك يجب ان يكون بالنسبة إلى مقدار المسح ، فيجب الرجوع إلى ما دل عليه من الأخبار ، وتخصيص الآية وجملة الأخبار الموافقة لها في الإطلاق به.

وبالجملة فالروايات في هذه المسألة ما بين مطلق ومقيد أو مجمل ومفصل ، والمقيد يحكم على المطلق والمفصل على المجمل ، فالعمل بالمفصل والمقيد متعين ما لم يظهر خلافه.

ورجح السيد السند في المدارك حمل الأخبار المقيدة على الاستحباب كما هو المشهور ، بعد ان احتمل ما ذكرناه من تقييد مطلق أخبار المسألة بمقيدها.

وأنت خبير بما فيه بعد ما ذكرناه ، فإنها عند التحقيق غير دالة على ما ذكروه من المسمى كما عرفت.


نعم يبقى الكلام في التوفيق بين روايات الإصبع والثلاث ، ويمكن ذلك بأحد وجوه :

(منها) ـ حمل روايات الإصبع ـ حيث انها قد اتفقت على المسح بها تحت العمامة ـ على الضرورة ، لما في رواية حماد عن الحسين (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : رجل توضأ وهو معتم فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد؟ فقال ليدخل إصبعه». وهذا هو ظاهر الشيخ في النهاية كما سلف في عبارته.

و (منها) ـ حمل الإصبع على أقل الواجب والثلاث على الاستحباب ، كما هو ظاهر المقنعة ، وصريح الدروس ، وظاهر غيره أيضا كما مر.

و (منها) ـ حمل روايات الثلاث على مسح هذا المقدار في عرض الرأس والإصبع الواحدة على كونه في الطول ، فان ظاهر روايات الثلاث اعتبار مسح هذا المقدار لا وجوب كونه بثلاث أصابع ، وان كان ظاهر عبارة الصدوق تعين كونه بثلاث أصابع ، الا انه خلاف ظاهر الأخبار ، فيجب تأويله ورده إليها.

وأكثر الأصحاب حملوا روايات الإصبع والثلاث على هذا الوجه ، لكن القائلين منهم بالاكتفاء بالمسمى ولو بجزء من إصبع يجعلون ذلك على جهة الاستحباب ، قال شيخنا المحقق الثاني في شرح القواعد : «اعلم ان المراد بمقدار ثلاث أصابع في عرض الرأس ، اما في طوله فمقداره ما يسمى ماسحا ، ويتأدى الفضل بمسح المقدار المذكور ولو بإصبع» انتهى.

واما ما احتمله بعض متأخري المتأخرين من جواز ان يكون الأمر بإدخال الإصبع في تلك الأخبار لأن يكون آلة للمسح ـ بناء على ما قدمناه من كلام شيخنا الشهيد الثاني ـ فبعيد جدا.

وما ذكره بعض مشايخنا المحققين ـ من ان استناد الشيخ في وجوب مسح

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.


مقدار الثلاث إلى صحيحة زرارة ورواية معمر المتقدمتين (1) ضعيف ، إذ لا يلزم من اجزاء قدر عدم اجزاء ما دونه إلا بالمفهوم الضعيف ، ولو سلم دلالته عرفا فلا يعارض ظاهر الكتاب ومنطوق الخبر الصحيح ـ

ففيه ان الاستدلال بهما ليس باعتبار دلالة مفهوم اللقب الضعيف ، وانما هو باعتبار الدلالة العرفية المسلمة بينهم في غير موضع كما ذكره هو وغيره ، واما ما ذكره من معارضة الكتاب والنص الصحيح فليس بشي‌ء بعد ما عرفت ، لعدم المعارضة بين المطلق والمقيد والمجمل والمبين ، إذ يجب بمقتضى القاعدة المسلمة فيما بينهم في غير موضع حمل الأول منهما على الثاني.

ثم اعلم ان الروايات بمسح قدر الثلاث والمسح بإصبع ليس في شي‌ء منها تقييد بكونه في جهة العرض أو الطول. لكن جملة من الأصحاب ـ كما عرفت ـ قيدوا روايات الثلاث بكون ذلك المقدار في جهة العرض كما تقدم في كلام ثاني المحققين ، ومثله أيضا كلام ثاني الشهيدين في شرح الشرائع ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : «والمندوب مقدار ثلاث أصابع عرضا» ـ ما لفظه : «عرضا حال من الأصابع أو بنزع الخافض ، والمراد مرور الماسح على الرأس بهذا المقدار وان كان بإصبع لا كون آلة المسح ثلاث أصابع» انتهى.

والمفهوم من عبارة الشيخ المفيد المتقدمة ان أقل الواجب مقدار إصبع يضعها عليه عرضا. فان كان مستنده (رحمه‌الله) حمل روايات الإصبع على مقدارها عرضا وإلا فهو خال من المستند مع كون حمل تلك الروايات على ذلك في غاية البعد من حاق لفظها فإنها ظاهرة الصراحة في كون المسح بالإصبع ، فهو في التحقيق خال عن المستند. اللهم الا ان تحمل اخبار قدر الثلاث على كونه طولا ، وهي تقرب من الواحدة عرضا ، وإلى هذا الحمل مال المحقق المحدث الأسترآبادي (قدس‌سره) حيث قال ـ بعد نقل كلام ثاني

__________________

(1) في الصحيفة 266.


المحققين وثاني الشهيدين المتقدم الدال على حمل روايات قدر الثلاث على كونه في جهة العرض ـ ما هذا لفظه : «الظاهر من الروايات ان يكون الممسوح من عرض الرأس بقدر طول إصبع ومن طوله بقدر ثلاث أصابع مضمومة. ومن الروايات المشار إليها صحيحة زرارة (1) المشتملة على قوله (عليه‌السلام): «وتمسح ببلة يمناك ناصيتك». لان المتبادر منها مسح كلها ، وصحيحته الأخرى (2) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) : المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها». ورواية معمر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (3) قال : «يجزئ من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل». والناصية في غالب الناس عرضها قدر طول إصبع وطولها قدر ثلاث أصابع مضمومة» انتهى.

وقال صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل بعد كلام في المقام : «والحاصل انا لم نظفر بما تضمن المسح بالثلاث ، بل المسح بالإصبع ، أو مسح موضع الثلاث ومقدارها ، من غير تقييد المسح بكونه في طول الرأس أو عرضه ، ولا لموضع الثلاث بكونه مأخوذا من أحدهما أو كليهما حالة وضع الثلاث على الرأس ، منطبقا كل من خطيها الطولي والعرضي على مثله من خطئه أو على مقابله ، فالإعراض عنه ـ من باب «اسكتوا عما سكت الله عنه» (4). اولى» انتهى.

وفيه ان الظاهر من الأخبار ـ بعد ضم بعضها إلى بعض ـ هو ما ذكره المحدث الأمين (قدس‌سره).

(الثالث) ـ المفهوم من كلام القائلين بالمسمى أو الإصبع ان غاية ما يستحب الزيادة عليه بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة ، واما ما زاد على ذلك المقدار ، فهل يكون

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 و 31 ـ من أبواب الوضوء.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.

(4) تقدم الكلام فيه في الصحيفة 156 من الجزء الأول.


محرما أو جائزا ، أو يفرق فيه بين استيعاب الرأس وعدمه؟ أقوال :

قال شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة : «وغاية المؤكد ثلاث أصابع ، ويجوز الزيادة عليها ما لم يستوعب جميع الرأس ، فيكره على الأصح ، الا ان يعتقد شرعيته فيأثم خاصة. وقيل يبطل المسح. وقد أغرب الشارح المحقق (رحمة الله) حيث جعل الزائد على الثلاث أصابع غير مشروع» انتهى.

وممن صرح بكراهة الاستيعاب الشهيد في الذكرى والدروس ، معللا له في الذكرى بأنه تكلف ما لا يحتاج اليه. وفيه ضعف.

ونقل عن ابن حمزة تحريمه. لانه مخالف للمشروع. وظاهره عدم الفرق بين اعتقاد المشروعية وعدمه.

وفي الخلاف ادعى الإجماع على بدعيته فيجب نفيه.

وابن الجنيد حرمه مع اعتقاد المشروعية ، وأبطل به الوضوء. ورده جملة من المحققين باشتمال مسح الرأس على الواجب فلا يؤثر الاعتقاد في الزائد. نعم يأثم بذلك.

وأبو الصلاح أبطل الوضوء لو تدين بالزيادة في الغسل أو المسح. ورد بما رد به سابقه.

أقول : والذي يقرب عندي انه متى مسح أو غسل ما زاد على القدر الموظف شرعا ، فان كان مع عدم اعتقاد المشروعية فالظاهر انه لا تحريم ولا كراهة ، لعدم الدليل على ذلك ، وان كان مع اعتقاد المشروعية فالظاهر بطلان الوضوء لوجوه :

(أما أولا) ـ فلان العبادات تابعة للقصود والنيات صحة وإبطالا ، بل وجودا وعدما كما تقدم تحقيقه ، ومجرد حصول المأمور به شرعا ـ مع عدم كونه مقصودا بخصوصه كما أمر به الشارع ـ لا يعتد به ، لأنه في الحقيقة واقع بغير نية ، وإلا لصحت صلاة من أتم عالما عامدا في السفر بناء على استحباب التسليم ، فإنها قد اشتملت على الواجب واقعا ، مع ان الإجماع نصا وفتوى على خلافه. واولى منه صحة صلاة التمام


في مواضع التخيير ثم أحدث عمدا أو قطع الصلاة بأحد القواطع في أثناء الركعتين الأخيرتين ، بناء على استحباب التسليم ، وعدم قصد العدول إلى المقصورة ، فإنه لا يجب عليه الإعادة ، لاشتمال صلاته هذه على الصلاة المقصورة التي هي أحد الفردين في هذا المقام

و (اما ثانيا) ـ فلانه تشريع وإدخال في العبادة ما ليس منها فيكون مبطلا.

و (اما ثالثا) ـ فلان جملة من المحققين صرحوا في مسألة الفرق بين الغسل والمسح بأن النسبة بينهما العموم من وجه وجوزوا المسح بما اشتمل على الجريان بشرط قصد المسح به ، وهو دال ـ كما هو الواقع ـ على ان القصد مما له مدخل في الصحة والابطال ، وإلا فلو اجرى المكلف الماء بيده على رجله كلها ورأسه كملا مع اعتقاده الغسل به ، لزم صحة وضوئه ، لاشتماله على المسح شرعا بناء على ذلك القول وان كان غير مقصود له ، وعدم الضرر باعتقاده كون ذلك غسلا ، وزيادته على ما هو الواجب واقعا. والآية والنصوص ترده.

و (اما رابعا) ـ فلأنهم صرحوا ـ الا الشاذ منهم ـ بتحريم الغسلة الثالثة في الوضوء. واما الإبطال بها فهو مذهب أبي الصلاح وظاهر الكليني والصدوق ، وهو أحد الأقوال في المسألة ، وهو أظهرها دليلا :

لقول الصادق (عليه‌السلام) في حديث داود الرقي المروي في كتاب رجال الكشي (1) «... ومن توضأ ثلاثا ثلاثا فلا صلاة له».

وقوله (عليه‌السلام) في الحديث المذكور (2) لداود بن زربي : «توضأ مثنى مثنى ولا تزدن عليه ، فإنك ان زدت عليه ، فلا صلاة لك».

وما رواه في الفقيه (3) مرسلا في باب صفة وضوء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «قال (عليه‌السلام) : من تعدى في وضوئه كان كناقضه». وسيأتي تحقيق ذلك في محله.

__________________

(1 و 2) في الصحيفة 200 وفي الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب الوضوء.

(3) ج 1 ص 25. وفي الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.


(الرابع) ـ المفهوم من ظاهر كلام الصدوق في الفقيه ، والشيخين في المقنعة والمبسوط والنهاية ، انه يجب على المرأة وضع القناع في الصبح والمغرب لأجل المسح.

وصرح في المقنعة بأنها تمسح هنا بثلاث أصابع من رأسها حتى تكون مسبغة ، وانه يرخص لها في باقي الصلوات المسح تحت الخمار ، بان تكتفي بإدخال إصبع تحت خمارها ، قال في المقنعة : «وتدخل إصبعها تحت قناعها فتمسح على شعرها ولو كان ذلك مقدار أنملة».

وصرح المحقق والعلامة وجملة من المحققين باستحباب وضع الخمار مطلقا ، وتأكده في صلاة الغداة والمغرب.

وبعضهم اقتصر على الغداة خاصة ، لعدم وقوفه على نص يتضمن اضافة المغرب إليها في ذلك.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة رواية الحسين بن زيد بن علي ابن الحسين (عليهما‌السلام) عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال ، إنما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها وتضع الخمار عنها ، فإذا كان الظهر والعصر والمغرب والعشاء تمسح بناصيتها».

وما رواه الصدوق في الخصال (2) بسنده فيه عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه‌السلام) قال : «المرأة لا تمسح كما يمسح الرجال ، بل عليها ان تلقي الخمار عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة والمغرب وتمسح عليه ، وفي سائر الصلوات تدخل إصبعها فتمسح على رأسها من غير ان تلقي عنها خمارها».

وطعن بعض متأخري المتأخرين بعد ذكر الرواية الأولى فيها بضعف السند والدلالة.

وفيه ان ضعف سندها باصطلاح متأخري أصحابنا لا يقوم حجة على من لم يقل

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.

(2) ج 2 ص 142 وفي مستدرك الوسائل في الباب ـ 22 ـ من أبواب الوضوء.


بذلك الاصطلاح سيما المتقدمين. والاولى من الروايتين دالة على وجوب وضع الخمار بالجملة الخبرية الظاهرة في الوجوب كالأمر ، وان كان جملة من متأخري متأخرينا يمنعونه في الأمر فضلا عنها. والرواية الثانية دالة على ذلك بقوله : «عليها ان تلقي» الدال بظاهره على وجوب الإلقاء وتحتمه.

والرواية الثانية قد تضمنت اضافة المغرب إلى الصبح في وضع الخمار ، فما اعترض به جملة من متأخري المتأخرين على المشايخ المتقدمين في إضافة المغرب في عبائرهم ناشى‌ء عن قصور التتبع. وكم وقع لهم مثله في غير موضع.

ثم ان ظاهر هذه الرخصة للمرأة في المسح تحت القناع ـ بإدخال الإصبع ومسح ما نالته من رأسها ولو بقدر الأنملة ، كما في كلام الشيخ المفيد ، وانها ليست كالرجال في ذلك ـ اختصاص هذا الحكم بها في ذلك الوقت المخصوص ، وعدم اجزائه لها في غيره وعدم اجزائه للرجال أيضا ، وهو مما يبطل القول بالمسمى كما هو المشهور ، ويؤيد ما ذهب اليه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مضاجعهم) من وجوب المقدار الذي تقدم تحقيقه في هذا البحث. لكن قد تقدم في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (1) انه قال : «المرأة يجزيها من مسح الرأس ان تمسح مقدمه قدر ثلاث أصابع ولا تلقى عنها خمارها». وهو مناف لما دلت عليه هاتان الروايتان ، من تخصيص المسح بقدر ثلاث أصابع ببعض الصلوات والأوقات ، ومن وجوب إلقاء الخمار أو استحبابه في موضع المسح لان ظاهر قوله : «ولا تلقى عنها خمارها» اما نهى على بعض اللغات ، أو خبر في معنى النهي. ويمكن الجواب عن الأول بأن إطلاقها مخصوص بذينك الخبرين. وعن الثاني بأن قوله : «ولا تلقى» بالنصب عطف على «تمسح» وحاصل المعنى حينئذ انه يجزيها المسح بمقدار ثلاث أصابع ، وعدم إلقاء الخمار في ذلك الوقت الذي يجب أو يستحب فيه الإلقاء ، وهو رخصة لها ، إذ الظاهر ان حكمة إلقاء الخمار في موضع الأمر به في تلك

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.


الأخبار إنما هو لأجل الاستظهار في المسح بذلك المقدار ، فهي مكلفة في ذلك الوقت بشيئين : المسح بقدر الثلاث ، والإلقاء ، وهذه الرواية دلت على اجزاء أحدهما ، وهو الأهم والمقصود بالذات الذي هو المسح بالثلاث دون الإلقاء. ويمكن أن يستنبط منه بمعونة ما ذكرنا ان ما يستحب أو يجب مسحه من موضع المسح ثلاث أصابع ليس في عرض الرأس بعرض الأصابع ، لعدم توقف ذلك على إلقاء الخمار.

(الخامس) ـ لا ريب انه إذا اقتصر المكلف على الفرد الأنقص من المسح فقد تأدى الواجب به ، ولو اتى بالفرد الأكمل فقد صرحوا بان ما زاد منه على القدر المجزئ مستحب عينا اتفاقا ، لكن هل يوصف مع ذلك بالوجوب أم لا؟ قولان :

اختار أولهما المحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، قال : «ولا يضر ترك الزائد ، لأن الواجب هو الكلي ، وأفراده مختلفة بالشدة والضعف ، فأي فرد اتى به تحقق الامتثال به ، لان الواجب يتحقق به» انتهى.

واختار ثانيهما العلامة ، نظرا إلى انه يجوز تركه لا إلى بدل ولا شي‌ء من الواجب كذلك ، فلا شي‌ء من الزائد واجب. وبان الكلي قد وجد فخرج به المكلف عن العهدة ولم يبق شي‌ء مطلوب منه حتى يوصف بالوجوب.

وفيه ان جواز تركه هنا انما هو إلى بدل ، وهو الفرد الناقص الذي اتى به في ضمن هذا المسح ، وحينئذ فيكون من قبيل افراد الواجبات الكلية كأفراد الواجب المخير ، بمعنى ان مقولية الواجب هنا على هذا الفرد الزائد والناقص كمقولية الكلي على أفراده المختلفة قوة وضعفا ، وحصول البراءة بالفرد الناقص لا من حيث هو جزء الزائد ، بل من حيث انه أحد أفراد الكلي وان كان ناقصا.

هذا كله مع وقوع المسح دفعة واحدة ، اما إذا وقع تدريجا فقد صرح الشهيدان في الذكرى والروض بأن الزائد مستحب قطعا ، قال في الروض بعد نقل كلام


الذكرى المتضمن للتفصيل بين الدفعة والتدريج : «وهذا التفصيل حسن ، لانه مع التدريج يتأدى الواجب بمسح جزء فيحتاج إيجاب الباقي إلى دليل ، والأصل يقتضي عدم الوجوب ، بخلاف ما لو مسحه دفعة ، إذ لم يتحقق فعل الفرد الواجب إلا بالجميع» انتهى والسيد السند في المدارك جعل مطرح الخلاف في المسألة هو المسح تدريجا.

ولا يخفى ـ على المتأمل بعين التحقيق والناظر بالفكر الصائب الدقيق ـ ان كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة ونظائرها على غاية من الإجمال.

وتحقيق المقام ـ بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم‌السلام) ـ ان يقال : لا ريب ان منشأ التخيير في هذا المقام هو إطلاق الأمر بالمسح الصادق بجزء من إصبع ـ مثلا ـ الى بلوغ قدر ثلاث أصابع مضمومة التي هي أعلى المراتب ، فالواجب الكلي هو المسح المطلق وأفراده هي كل مسحة قصدها المكلف وأوقعها ، قليلة كانت أو كثيرة ، فكل فرد منها اتى به تأدى به الواجب ، وكل فرد ناقص منها فهو مفضول بالنسبة إلى ما هو أزيد منه ، وكل واحد من الافراد المشتملة على الزيادة يوصف في حد ذاته بالوجوب لكونه أحد أفراد الواجب الكلي ، وبالاستحباب لكونه أكمل مما دونه ، وهذا معنى قولهم في الفرد الأكمل من افراد الواجب التخييري : انه مستحب ذاتي واجب تخييري ، وحينئذ فمتى مسح المكلف القدر الأكمل دفعة أو تدريجا ، بمعنى انه قطع على جزء في أثناء مسحه ثم تجاوزه ، فان كان قصده ونيته الامتثال بذلك القدر الأكمل ، فمن الظاهر ان الزائد على القدر المجزئ ـ وهو المسمى ، أو القدر الذي قطع عليه أولا ـ واجب. إذ الواجب هو مجموع ما قصده ، وما اتى به من القدر المجزئ ضمن هذا المسح أو قطع عليه لا يخرج به عن العهدة ، لعدم قصد الامتثال به خاصة بل به وما زاد ، إلا ان يعدل إلى قصده ، ولو أجزأ من غير قصد يتعلق به للزم إجزاء عبادة من غير نية ، وقد عرفت غير مرة ان الأفعال عبادة وغيرها لا تميز لها وجودا وعدما ـ ولا اثر يترتب عليها صحة وبطلانا وثوابا وعقابا ـ إلا بالقصود والنيات ،


فكما ان الركعتين في صورة التخيير غير مجزئة ما دام القصد متعلقا بالإتمام فيجب ضم الأخيرتين ، كذلك هنا لا يجزئ ذلك القدر الأقل ما لم يقصد الامتثال به. وان كان قصده الامتثال بالقدر الذي قطع عليه في صورة التدريج أو أقل ما يحصل به المسمى ، فالظاهر ان الزائد عليه لا يتصف بوجوب ولا باستحباب ، اما عدم الوجوب فلان الواجب الكلي قد حصل في ضمن هذا الفرد الذي تعلق به القصد ، واما عدم الاستحباب فلعدم الدليل عليه ، ولأن الاستحباب الملحوظ في هذا المقام انما هو باعتبار أفضلية أحد أفراد الواجب التخييري على غيره من سائر الافراد ، وهو غير حاصل هنا. وأيضا فهو ملازم لوصف الوجوب كما عرفت ، فبانتفاء الوجوب عنه ينتفي الاستحباب ، ولا دليل على الاستحباب بغير هذا المعنى ، بل الظاهر دخوله حينئذ في التكرار المنهي عنه في المسح نعم لو أريد بالزائد في كلامهم يعنى فردا أكمل من هذا الفرد الذي تعلق به قصد المكلف لا بمعنى الباقي الذي هو ظاهر مطرح الكلام ، فإنه يتصف بالوجوب والاستحباب في حد ذاته كما قدمنا بيانه ، فان اختيار المكلف فردا ناقصا من افراد الواجب التخييري لا ينفي وصف الوجوب والاستحباب عن الفرد الأكمل منها في حد ذاته. واما ان الباقي من المسافة الممسوحة بعد قصد الامتثال بجزء منها خاصة يتصف مسحه بالاستحباب ويترتب ثواب المستحب عليه كما هو أحد القولين ، أو الوجوب كما هو القول الآخر كما هو ظاهر كلامهم ، فلا اعرف له وجها. فإنه كما ان المكلف لو قصد الصلاة المقصورة في موضع التخيير ثم صلى والحال كذلك أربعا. فإن الركعتين الأخيرتين ان لم تكن مبطلة للصلاة لا أقل ان تكون باطلة ، ولا يصح وصفها بالاستحباب فضلا عن الوجوب وقاصد التسبيح بأربع تسبيحات في الركعتين الأخيرتين ثم تجاوزها إلى بعض الصور الزائدة من غير عدول إليها. فإنه لا يتصف بالاستحباب من حيث التوظيف في هذا المقام وان احتمل الاستحباب من حيث كونه ذكرا. فكذلك فيما نحن فيه ، على انه يلزم هنا خلو ذلك الزائد من النية والقصد ، فكيف يتصف بوجوب أو استحباب مع كونه خاليا


من النية والقصد بالكلية؟ فإن المكلف إنما قصد أداء الواجب بذلك الجزء الذي ذكرناه وبالجملة فالاستحباب الذاتي

اللازم للوجوب التخييري في هذا المقام انما يتعلق بمجموع الصورة الكاملة لا بهذا الجزء الزائد ، وكلام الأصحاب في جميع صور هذه المسألة في غاية الإجمال كما ذكرنا ، وذلك فإنهم في جميع صور هذه المسألة يجعلون محل الخلاف ما زاد على الفرد الناقص بعد تأدى الواجب بذلك الفرد الناقص ، وانه هل يصف بالوجوب أو الاستحباب؟ وهو ظاهر في كون المراد به ما بين الفرد الذي قصده وتأدى به الواجب إلى نهاية ما اقتصر عليه من الفرد الكامل ، ثم انهم في مقام الاستدلال على وجوبه ودفع القول بالاستحباب يقولون انه أحد أفراد الواجب الكلي وانها قابلة للشدة والضعف ، فهذا الزائد مستحب لكونه أكمل الافراد ، وهو واجب لكونه أحد أفراد الواجب الكلى. وجواز تركه انما جاز إلى بدل وهو الفرد الأنقص وأنت خبير بان هذه التعليلات انما تنطبق على نفس الفرد الأكمل لا على ذلك البعض الذي عرفته. وأيضا فإنهم ـ على تقدير القول بالوجوب في ذلك الزائد الذي جعلوه مطرح النزاع ـ أوردوا إشكالا في انه يلزم اتصاف شي‌ء واحد بالوجوب والاستحباب ، ثم أجابوا عنه بأن إطلاق الاستحباب على الفرد الزائد محمول على استحبابه عينا ، بمعنى انه أفضل الفردين الواجبين ، وذلك لا ينافي وجوبه تخييرا من جهة تأدي الواجب به وحصول الامتثال ، كذا قرره في الروض في مسألة التسبيح في الأخيرتين. وهذا الجواب ـ كما ترى ـ لا ينطبق الأعلى نفس الفرد الأكمل ، كما هو صريح العبارة حيث أطلق عليه الفرد الزائد ، لا على نفس الزيادة خاصة كما هو مورد الاشكال. وربما كان مبنى كلام القوم على اعتبار الأمر الكلي من حيث هو من غير ملاحظة شي‌ء من الخصوصيتين فيكون من قبيل الماهية لا بشرط شي‌ء ، فإنه يتجه حينئذ صدق أداء الواجب بالمسمى ويصح وصف الزائد ـ من حيث كونه جزء من هذا المجموع ـ بكل من وصفي الوجوب والاستحباب ، لاتصاف المجموع بهما حسبما قررنا آنفا ، لكن يبقى الإشكال في صورة


القطع ، لصدق أداء الواجب بما قطع عليه وانتفاء المجموعية الموجبة للوصف بالوجوب والاستحباب للزائد. والاستحباب بغير المعنى المذكور آنفا لا مجال له في هذا المقام. والله العالم.

(السادس) ـ الظاهر ـ كما هو المشهور ـ جواز النكس هنا ، لإطلاق الآية وخصوص صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا».

خلافا للمرتضى والشيخ في النهاية والخلاف وظاهر ابن بابويه ، محتجا عليه في الخلاف ـ ومثله في الانتصار ـ بان مسح الرأس من غير استقبال رافع للحدث إجماعا بخلاف مسح الرأس مستقبلا ، فيجب فعل المتيقن. ونقل أيضا عن الشيخ في كتابي الأخبار ذلك ، نظرا إلى تخصيص الصحيحة المشار إليها بفحوى قول أبي الحسن (عليه‌السلام) في رواية يونس (2) : «الأمر في مسح الرجلين موسع ...». ولا يخفى ما في هذه الأدلة من الوهن.

والعجب من السيد (رحمه‌الله) في تجويزه النكس في الوجه واليدين لإطلاق الآية ، ومنعه هنا ، مع جريان دليله فيه ، واعتضاده بالرواية.

وذكر جماعة من الأصحاب كراهية النكس هنا ، وعلله في المعتبر بالتفصي من الخلاف.

ورد بأن المقتضي للكراهة ينبغي أن يكون دليل المخالف لا نفس الخلاف وهو كذلك.

(السابع) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (نور الله تعالى مضاجعهم) في وجوب المسح بنداوة الوضوء ما وجد بللها في اليد ، والمشهور انه مع جفاف اليد يأخذ من شعر لحيته أو حاجبيه ، ومع جفاف الجميع ، فان كان لضرورة إفراط الحر

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب الوضوء.


أو قلة الماء جاز الاستئناف وإلا أعاد الوضوء.

وظاهر الشيخ في الخلاف ـ حيث نسب وجوب المسح بنداوة الوضوء إلى الأكثر ـ وجود المخالف في المسألة ، ولعله ابن الجنيد على ما نقله عنه العلامة في المختلف ، فإنه قال : «إذا كان بيد المتطهر نداوة يستبقيها من غسل يديه ، مسح بيمينه رأسه ورجله اليمنى وبنداوة اليسرى رجله اليسرى ، وان لم يستبق ذلك أخذ ماء جديدا لرأسه ورجليه» وهو بإطلاقه شامل لما لو كان عدم الاستبقاء لعدم إمكانه أو لتفريط من المكلف ، ولما لو فقد النداوة من الوجه وعدمه (1) وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض الأصحاب ، حيث خص خلافه بجفاف جميع الأعضاء وقال : ان لفظ اليد في كلامه انما هو على سبيل التمثيل ، فيكون موافقا للمشهور ويرتفع الخلاف. فإنه على غاية من البعد عن سوق العبارة المذكورة.

ومما يدل على المشهور روايات الوضوء البياني ، فإنها قد اشتملت جميعا على المسح بالبلة. وما ذكره جملة من متأخري المتأخرين ـ من المناقشة فيها مما تقدم ذكره في وجوب الابتداء بأعلى الوجه والابتداء بالمرفقين ـ فقد مر ما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافية ، سيما حسنة الأخوين (2) المتضمنة انه «مسح رأسه وقدميه ببل كفه لم يحدث لهما ماء جديدا». وصحيحة زرارة (3) «... ثم مسح بما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء».

ويدل عليه أيضا الأخبار المستفيضة بأنه من ذكر انه لم يمسح حتى انصرف

__________________

(1) الذي يظهر من كلام جملة من أصحابنا ان خلاف ابن الجنيد في هذه المسألة شامل لما لو كان في يد المتوضئ بلة من ماء الوضوء ، فإنه يجوز الاستئناف أيضا ، وعبارة ابن الجنيد المنقولة ـ كما ترى ـ بخلافه ، فإنه جوز الاستئناف مع فقد البلة وان كان بتفريط (منه قدس‌سره).

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.


من وضوئه يأخذ من بلل وجهه ، وفي بعضها انه مع تعذر البلل في وجهه يعيد وضوءه.

فمن ذلك رواية مالك بن أعين عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «من نسي مسح رأسه ثم ذكر انه لم يمسح رأسه ، فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه وليمسح رأسه ، وان لم يكن في لحيته بلل فلينصرف وليعد الوضوء».

ورواية خلف بن حماد عمن أخبره عنه (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له الرجل ينسى مسح رأسه وهو في الصلاة؟ قال : ان كان في لحيته بلل فليمسح به. قلت : فان لم يكن له لحية؟ قال : يمسح من حاجبيه أو من أشفار عينيه».

وما رواه ابن بابويه في الفقيه (3) عن أبي بصير عنه (عليه‌السلام) «في رجل نسي مسح رأسه؟ قال : فليمسح. قال : لم يذكره حتى دخل في الصلاة؟ قال فليمسح رأسه من بلل لحيته».

وروى فيه (4) أيضا مرسلا عنه (عليه‌السلام) قال : «ان نسيت مسح رأسك فامسح عليه وعلى رجليك من بلة وضوئك ، فان لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي‌ء فخذ ما بقي منه في لحيتك وامسح به رأسك ورجليك ، وان لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك وأشفار عينيك وامسح به رأسك ورجليك ، وان لم يبق من بلة وضوئك شي‌ء أعدت الوضوء». ومثلها رواية زرارة (5).

وهذه الروايات وان اشتركت في ضعف السند بناء على هذا الاصطلاح المحدث بين متأخري أصحابنا ، إلا انها معتضدة بالشهرة بينهم ، وهي من المرجحات عندهم ، مع ان فيها ما هو من مرويات الفقيه المضمون صحة ما تضمنه من مصنفه ، كما اعتمدوا عليها لذلك في غير موضع من كلامهم ، بل ورد مثل ذلك في حسنة الحلبي عن أبي عبد الله

__________________

(1 و 2 و 5) المروية في الوسائل في الباب ـ 21 ـ من أبواب الوضوء.

(3 و 4) ج 1 ص 36. وفي الوسائل في الباب ـ 21 ـ من أبواب الوضوء.


(عليه‌السلام) (1) قال : «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض عليك ، فانصرف وأتم الذي نسيته من وضوئك وأعد صلاتك ، ويكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدم رأسك».

ومورد الأسئلة في هذه الأخبار وان كان النسيان ، إلا انه لا قائل بالفرق ، مع ان خصوص السؤال لا يخصص الجواب كما هو مقرر عندهم.

وكيف كان فلا يخفى على المتأمل المصنف انه إذا كان جملة الأخبار البيانية الواردة في مقام التعليم على تعددها انما اشتملت على المسح بالبلة ، واخبار النسيان كذلك وزيادة انه مع فقدها يعيد الوضوء ، فكيف يبقى مع هذا قوة للتمسك بإطلاق الآية؟ على انه لو ورد خبر بلفظ الأمر بالمسح بالبلة أو بلفظ النهي عن التجديد ، لسارعوا إلى حمله على الاستحباب والكراهة ، محتجين بعدم الجزم بدلالة الأمر على الوجوب والنهي على التحريم ، لشيوعهما في خلاف ذلك ، وهو اجتهاد محض وتخريج صرف.

والعجب من جملة من مشايخنا المحققين وعلمائنا المدققين من متأخري المتأخرين ، حيث انهم جعلوا مذهب ابن الجنيد بمجرد دلالة إطلاق الآية عليه في غاية القوة والجزالة وأخذوا في المناقشات فيما ذكرنا من الروايات ، وارتكاب جادة التأويلات البعيدة والتمحلات الغير السديدة ، مما لا يصح النظر اليه ولا العروج عليه ، فبعض منهم إنما اعتمد على انعقاد الإجماع بعد ابن الجنيد ، وبعض منهم بعد الاستشكال إنما التجأ إلى الاحتياط. على انه لو تم إبطال الاستدلال بمجرد الاحتمال في المقام. لانسد هذا الباب في جملة الأحكام ، إذ لا دليل إلا وهو قابل للاحتمال ، ولا قول إلا وللقائل فيه مجال. هذا.

ومما استدل به على المشهور أيضا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة (2) :

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 21 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 و 31 ـ من أبواب الوضوء.


«... فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات : واحدة للوجه واثنتان للذراعين ، وتمسح ببلة يمناك ناصيتك ، وما بقي من بلة يمناك تمسح به ظهر قدمك اليمنى ، وتمسح ببلة يسراك ظهر قدمك اليسرى». فإن الجملة الخبرية بمعنى الأمر الذي هو حقيقة في الوجوب.

ورد بأنه يجوز ان يكون قوله (عليه‌السلام) : و «تمسح» معطوفا على قوله : «ثلاث غرفات» بتقدير «ان» فيكون داخلا في حيز الاجزاء لا جملة مستقلة مرادا بها الأمر.

وقد يناقش في ذلك بان المرتضى قد نقل في كتاب (الغرر والدرر) عن ابن الأنباري انه يشترط في إضمار «أن» كذلك كون المعطوف عليه مصدرا لا اسما جامدا والجواب ان المعطوف عليه في الحقيقة مصدر للمرات ، مع إمكان المناقشة فيما ذكره ابن الأنباري ، لعدم الدليل عليه.

واستدل في المختلف لابن الجنيد بموثقة أبي بصير (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن مسح الرأس ، قلت : امسح بما في يدي من الندى رأسي؟ قال : لا بل تضع يدك في الماء ثم تمسح».

وصحيحة معمر بن خلاد (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) أيجزئ الرجل ان يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه؟ : لا. فقلت أبماء جديد؟ فقال برأسه : نعم».

أقول : ومثلهما أيضا رواية أبي عمارة الحارثي (3) قال : «سألت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) امسح رأسي ببلل يدي؟ قال : خذ لرأسك ماء جديدا».

وأنت خبير بان مدلول هذه الروايات هو وجوب الاستئناف مع وجود البلة ، وهذا لا ينطبق على مذهب ابن الجنيد ، لتخصيصه ذلك بفقد البلة من اليد كما عرفت من عبارته.

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 21 ـ من أبواب الوضوء.


وكيف كان فهذه الأخبار محمولة على التقية (1) كما صرح به جملة من أصحابنا.

واستشكل السيد في المدارك هذا الحمل في صحيحة معمر بأنها لا تنطبق عليه ، لأنها متضمنة لمسح الرجلين وهم لا يقولون به.

ثم أجاب بأنهم يعترفون بصحة إطلاق اسم المسح على الغسل بزعمهم الفاسد ، وهو كاف في تأدي التقية.

واعترض هذا الجواب شيخنا البهائي (قدس‌سره) في الحبل المتين بان ما تضمنه الحديث من المسح بفضل الرأس يأبى عنه هذا التنزيل ، ثم قال (قدس‌سره) : «فلو نزل على مسح الخفين كان اولى» ثم رجح (قدس‌سره) ان إيماءه (عليه‌السلام) برأسه نهى لمعمر عن السؤال لئلا يسمعه المخالفون ، فظن معمر انه (عليه‌السلام) انما نهاه عن المسح ببقية البلل ، فقال : «أبماء جديد؟» فسمعه الحاضرون ، فقال (عليه‌السلام) : «نعم».

أقول : ويمكن الجواب ـ عما اعترض به من إباء المسح بفضل الرأس هذا

__________________

(1) في المغني لابن قدامة ج 1 ص 130 «ويمسح رأسه بماء جديد غير ما فصل عن ذراعيه ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ، قاله الترمذي ، وجوزه الحسن وعروة والأوزاعي ، ثم قال : ولنا ما روى عبد الله بن زيد قال : «مسح النبي (ص) رأسه بماء غير فضل يديه». ولأن البلل الباقي في يده مستعمل فلا يجزئ المسح به كما لو فصله في إناء ثم استعمله» وفي بداية المجتهد لابن رشد ج 1 ص 11 «أكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء» وفي جامع الترمذي ج 1 ص 53 من شرحه لابن العربي بعد ان ذكر رواية عبد الله بن زيد وغيره ان النبي (ص) أخذ لرأسه ماء جديدا قال : «والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديدا». وفي أحكام القرآن للشافعي ج 1 ص 50 «أخذ رسول الله (ص) لكل عضو ماء جديدا». وقال في الأم ج 1 ص 22 : «والاختيار له ان يأخذ الماء بيديه فيمسح بهما رأسه معا : يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه ويردهما إلى المكان الذي بدا منه».


التنزيل ـ بأنه من المحتمل انه بعد ان سأله عن المسح بفضل رأسه فقال : «لا» سأله ثانيا أيمسح بماء جديد؟ كناية عن الغسل وانه يقدر الغسل دون المسح ، بمعنى «أيغسل بماء جديد؟» فاجازه (عليه‌السلام) تقية.

هذا. والظاهر انه لا ورود لأصل الإشكال فلا يحتاج إلى ما تمحله كل من هذين العلمين من الاحتمال ، وذلك فان المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى نقلا القول بجواز المسح عن الحسن البصري وابن جرير الطبري وأبي علي الجبائي ، وتعين المسح فقط عن الشعبي وأبي العالية وعكرمة وانس بن مالك ، ونقله الشيخ في الاستبصار عن بعض الفقهاء من غير تعيين. ونقل والدي (قدس‌سره) في بعض حواشيه الجواز أيضا عن احمد والأوزاعي والثوري ، وان الإنسان عندهم مخير بين الغسل والمسح ، وحينئذ فيتم الحمل على التقية من غير اشكال ، وعلى تقديره فالمراد مسح الرجل كلها بطنا وظهرا كما هو المنقول عنهم.

ومما يمكن ان يستدل به لابن الجنيد حسنة منصور (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عمن نسي أن يمسح رأسه حتى قام في الصلاة قال : ينصرف ويمسح رأسه ورجليه».

ورواية الكناني (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل توضأ فنسي أن يمسح على رأسه حتى قام في الصلاة؟ قال : فلينصرف فليمسح على رأسه وليعد الصلاة».

ورواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (3) «في رجل نسي أن يمسح رأسه فذكر وهو في الصلاة؟ فقال : ان كان استيقن ذلك انصرف فمسح على رأسه وعلى رجليه واستقبل الصلاة ، وان شك فلم يدر مسح أو لم يمسح فليتناول من لحيته ان كانت مبتلة وليمسح على رأسه ، وان كان امامه ماء فليتناول منه فليمسح به رأسه».

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 35 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 42 ـ من أبواب الوضوء.


وهذه الأخبار قد اشتركت بحسب ظاهرها في الدلالة على الأمر بالاستيناف متى ذكر نسيان المسح في صلاته.

والجواب عنها (أولا) ـ انها أخص من المدعى فلا تنهض حجة.

و (ثانيا) ـ انه يحتمل حمل الأمر بالمسح بعد الانصراف ـ بمعنى قطع الصلاة ـ على المسح من بلة شعره بناء على ان ثمة بلة حسبما تضمنته الروايات المتقدمة ، وهذا الاحتمال في رواية أبي بصير أقرب منه في غيرها. واما الأمر بالمسح فيها من بلل لحيته مع الشك فمحمول على الاستحباب استظهارا. واما الأمر بتناول الماء ان كان امامه في صورة الشك فلعله مخصوص بهذه الصورة.

و (ثالثا) ـ بحمل قوله (عليه‌السلام) : «يمسح رأسه ورجليه» على انه كناية عن اعادة الوضوء بسبب فوات الموالاة ، فإن التعبير بمثله مجاز شائع في الأخبار ، ومنه ما تقدم في حسنة الحلبي (1) حيث قال : «إذا ذكرت وأنت في صلاتك انك قد تركت شيئا من وضوئك المفروض ، فانصرف وأتم الذي نسيته ...». فإنه لا يستقيم على إطلاقه إلا بحمل الإتمام على اعادة الوضوء ، إذ لو جف السابق على العضو المنسي المقتضي لفوات الموالاة ، لم يكف الإتمام البتة بل تجب الإعادة.

و (رابعا) ـ بأن بإزائها من الأخبار المتقدمة ما هو صريح في ان الحكم في هذه الصورة هو الأخذ من بلة ما في الوجه وإلا فإعادة الوضوء ، ويدل أيضا على الإعادة ـ زيادة على ما تقدم ـ موثقة سماعة عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «من نسي مسح رأسه أو قدميه أو شيئا من الوضوء الذي ذكره الله في القرآن ، كان عليه اعادة الوضوء والصلاة». وحينئذ فلا بد من النظر في الترجيح ، ولا ريب انه في الروايات المتقدمة لموافقتها للمجمع عليه كما هو أحد المرجحات المنصوصة ، ولمخالفة ما عليه العامة الذي هو

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 و 42 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 و 35 ـ من أبواب الوضوء.


كذلك ، والاحتياط الذي هو معدود منها أيضا ، واعتضادها باخبار الوضوء البياني ، فيتعين حمل هذه الأخبار على أحد المحامل المذكورة آنفا ، أو الحمل على التقية (1).

فائدة

اعلم ان جملة من محققي متأخري المتأخرين صرحوا بأن الأخذ من بلة الوجه لا يتقيد بفقد البلة من اليد ، بل يجوز وان كان فيها بلة تجزئ للمسح ، قالوا : والتعليق في عبارات الأصحاب انما خرج مخرج الغالب ، وانه لا يختص الأخذ من هذه المواضع بل يجوز من جميع محال الوضوء ، وتخصيص الشعر لكونه مظنة البلل.

ولا يخفى ان الحكم الأول لا يخلو من شوب الاشكال ، لعدم الدليل على ذلك إذ المستفاد من اخبار الأخذ من بلة الوجه تقييد ذلك بحال النسيان والدخول في الصلاة التي هي مظنة جفاف اليد كما لا يخفى ، واخبار الوضوء البياني ـ على تعددها وكثرتها ـ انما اشتملت على المسح بنداوة اليد ولم يتضمن شي‌ء منها الأخذ من بلة الوجه ، فمن المحتمل قريبا ان يكون الأخذ من بلة الوجه انما هو لضرورة جفاف اليد حينئذ وبدونه فلا يجوز ، والاحتياط تركه إلا مع الجفاف.

(الثامن) ـ قد ذكر جملة من أصحابنا انه لا يجوز المسح بغير اليد اتفاقا ، وان الظاهر تعينه بالباطن لانه المتيقن ، الا ان يتعذر فيجوز بالظاهر ، وان الاولى كونه في الناصية باليد اليمنى ، وانه يمسح الرجل اليمنى باليد اليمنى والرجل اليسرى باليسرى.

ولا يخفى عليك ان المسح باليمنى في الموضعين الأولين واليسرى في الأخير وان كان مما ظاهرهم الاتفاق على استحبابه. الا انه لا يخلو من شوب الاشكال ، لما عرفت في مسألة الابتداء بالأعلى ، الا ان يحمل «وتمسح» على الدخول في حيز الاجزاء بعطف «وتمسح» على «ثلاث غرفات» كما عرفت ، فيضعف الاشكال على ما ذكرنا

__________________

(1) راجع التعليقة 1 في الصحيفة 284.


وكذلك الاستحباب على ما ذكروا.

وذكروا أيضا ان الواجب كونه بالأصابع. ولو تعذر المسح بالكف فقد صرح في الذكرى بالمسح بالذراع. وفيه اشكال.

وهل يشترط تأثير المسح في الممسوح؟ قولان ، أظهرهما وأحوطهما الأول وفاقا للعلامة في التذكرة والسيد السند في المدارك.

الركن الخامس ـ مسح الرجلين

والكلام فيه يقع في موارد :

(الأول) ـ وجوب مسح الرجلين دون غسلهما مما انعقد عليه إجماع الإمامية (أنار الله برهانهم) فتوى ودليلا كتابا وسنة ، ووافقنا عليه بعض متقدمي العامة ، وآخرون خيروا بينه وبين الغسل ، وبعض جمعوا بينهما ، واستقر فتوى الفقهاء الأربعة على وجوب الغسل خاصة (1).

__________________

(1) في عمدة القارئ ج 1 ص 657 «المذاهب في وظيفة الرجلين أربعة : (الأول) ـ مذهب الأئمة الأربعة من أهل السنة ان وظيفتها الغسل. (الثاني) ـ مذهب الإمامية من الشيعة الفرض مسحهما. (الثالث) ـ مذهب الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري وأبي على الجبائي التخيير بين الغسل والمسح. (الرابع) ـ مذهب أهل الظاهر وهو رواية عن الحسن الجمع بين الغسل والمسح» ثم ذكر الأخبار المصرحة بغسل النبي (ص) رجليه وبعدها ذكر الأحاديث المصرحة بمسح النبي (ص) رجليه كحديث جابر الأنصاري وعمر وأوس ابن أوس وابن عباس وعثمان ورجل من قيس. ثم ذكر حديث رفاعة بن رافع قال : «غسل النبي (ص) وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه ورجليه إلى الكعبين». قال : «وحديث رفاعة حسنه أبو على الطوسي والترمذي وأبو بكر البزاز وصححه الحافظ ابن حبان وابن حزم» وفي اختلاف الحديث على هامش الام ج 7 ص 60 وأحكام القرآن ج 1 ص 50 كلاهما للشافعي «غسل الرجلين كمال والمسح رخصة وكمال وأيهما شاء فعل» وفي تفسير الطبري ج 10 ص 59 من الطبعة تحقيق محمود محمد شاكر واحمد محمد شاكر «عن جابر


والكلام في دلالة الآية (1) على وجوب المسح ونفى الغسل مما تكفل به مطولات أصحابنا (جزاهم الله تعالى عنا خير الجزاء).

لكن روى الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب (2) عن غالب بن الهذيل قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قول الله عزوجل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (3) على الخفض هي أم على النصب؟ قال : بل هي على الخفض». ولا يخفى انه على تقدير النصب يدل على المسح أيضا بالعطف على محل الرؤوس ، كما تقول : مررت بزيد وعمرا. الا انه ربما يفهم من هذه الرواية ان قراءة أهل البيت (عليهم‌السلام) انما هي على الخفض وان كان النصب مما يقرأون به في ذلك الوقت ، كما هو أحد القراءات السبع المشهورة الآن ، فانا قد حققنا في كتاب المسائل ـ وسيأتي ان شاء الله تعالى في هذا الكتاب التنبيه عليه في محله ـ ان هذه القراءات السبع فضلا عن العشر وان ادعى بعض علمائنا (رضوان الله عليهم) تواترها عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلا ان الثابت في أخبارنا ـ وعليه جملة من أصحابنا ـ خلافه وان صرحت أخبارنا بالرخصة لنا في القراءة بها حتى صاحب الأمر (عجل الله تعالى فرجه).

وليس بالبعيد ان هذه القراءة كغيرها من المحدثات في القرآن العزيز ، لثبوت

__________________

عن أبي جعفر قال : امسح على رأسك وقدميك. وعن الشعبي نزل جبريل بالمسح ، ألا ترى التيمم يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا. وعن عامر نزل جبريل بالمسح. ثم قال ابن جرير : الصواب عندنا ان الله تعالى أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم ، وإذا فعل ذلك المتوضئ فهو ماسح غاسل لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو أصابتهما بالماء ومسحهما إمرار اليد أو ما قام مقامها عليهما» وبذلك كله يظهر لك ان قول ابن كثير في تفسيره ج 2 ص 26 : «ومن أوجب من الشيعة مسحهما فقد ضل وأضل» جرأة لا تغفر وعثرة لا تقال.

(1 و 3) سورة المائدة. الآية 2.

(2) ج 1 ص 20 ، وفي الوسائل في الباب ـ 25 ـ من أبواب الوضوء.


التغيير والتبديل فيه عندنا زيادة ونقصانا. وان كان بعض أصحابنا ادعى الإجماع على نفي الأول ، إلا ان في أخبارنا ما يرده ، كما انهم تصرفوا في قوله تعالى في آية الغار لدفع العار عن شيخ الفجار ، حيث ان الوارد في أخبارنا أنها نزلت : «... فانزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها ...» (1) فخذفوا لفظ «رسوله» وجعلوا محله الضمير. ويقرب بالبال ـ كما ذكره أيضا بعض علمائنا الأبدال ـ إن توسيط آية «... إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ... الآية» (2) في خطاب الأزواج من ذلك القبيل.

هذا ، وما يدل على وجوب المسح ونفى الغسل من أخبارنا فمستفيض ، بل الظاهر انه من ضروريات مذهبنا.

واما ما في موثقة عمار ـ عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «في الرجل يتوضأ الوضوء كله إلا رجليه ثم يخوض بهما الماء خوضا؟ قال : أجزأه ذلك». ـ فمحمول على التقية

وصحيحة أيوب بن نوح ـ (4) قال : «كتبت إلى ابي الحسن (عليه‌السلام) اسأله عن المسح على القدمين. فقال : الوضوء بالمسح ولا يجب فيه إلا ذلك ، ومن غسل فلا بأس». ـ فيحتمل الحمل على التقية أيضا ، فإن منهم من قال بالتخيير كما تقدم (5) والحمل على التنظيف كما احتمله الشيخ في التهذيب مستدلا عليه بصحيحة أبي همام عن أبي الحسن (عليه‌السلام) (6) «في وضوء الفريضة في كتاب الله المسح ، والغسل في الوضوء للتنظيف».

وروى زرارة مضمرا في الصحيح (7) قال قال لي : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ، ثم قال : ابدأ بالمسح على الرجلين ، فان بدا لك غسل فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفترض».

__________________

(1) سورة التوبة. الآية 40.

(2) سورة الأحزاب. الآية 33.

(3 و 4 و 6 و 7) المروية في الوسائل في الباب ـ 25 ـ من أبواب الوضوء.

(5) راجع التعليقة 1 في الصحيفة 288.


قال المحدث الكاشاني في الوافي (1) بعد ذكر هذه الرواية : «لعل المراد بالحديث انه ان كنت في موضع تقية فابدأ أولا بالمسح ليتم وضوؤك ثم اغسل رجليك ، فان بدا لك أولا في الغسل فغسلت ولم يتيسر لك المسح ، فامسح بعد الغسل حتى تكون قد أتيت بالفرض في آخر أمرك» انتهى.

وقال شيخنا الشهيد في الذكرى : «ولو أراد التنظيف قدم غسل الرجلين على الوضوء ، ولو غسلهما بعد الوضوء لنجاسة مسح بعد ذلك ، وكذا لو غسلهما للتنظيف ، وفي خبر زرارة قال : ان بدا لك فغسلت فامسح بعده ليكون آخر ذلك المفترض» انتهى.

(الثاني) ـ المشهور ـ بل ادعى عليه في الانتصار الإجماع ، وهو ظاهر العلامة في المنتهى حيث نسبه إلى علمائنا اجمع ، وفي التذكرة حيث قال : انه إجماع فقهاء أهل البيت (عليهم‌السلام) ـ وجوب الاستيعاب في مسح الرجلين طولا ولو بمسماه عرضا ، استنادا إلى ظاهر الكتاب بجعل «إلى» غاية للمسح ، وجملة من الأخبار البيانية المشتملة على كون مسحهم (عليهم‌السلام) الى الكعبين.

ويدل عليه أيضا صحيحة البزنطي عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم. الحديث».

وتردد المحقق في المعتبر ثم رجح وجوب الاستيعاب لظاهر الآية. واحتمل في الذكرى عدم الوجوب ، وبه جزم المحدث الكاشاني في المفاتيح ، ونفى عنه البعد صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل.

ولا يخفى انه لو ثبت جعل «الى» هنا غاية للمسح كما ذكروه ، لقوي الاعتماد على المشهور ، لكن ثبوت جواز النكس ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ مما يمنع ذلك

__________________

(1) ج 4 ص 46.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.


فالأظهر جعلها غاية للممسوح ، ويؤيد ذلك أيضا قرينة السياق ، فإنها في المرفقين غاية للمغسول اتفاقا.

واما الاستناد إلى بعض اخبار الوضوء البياني في الوجوب فمحل اشكال ، لعدم الصراحة في ذلك ، لاشتمال بعضها على مسح الرجلين وبعض على ظهر القدمين الصادق عرفا بمسح البعض ، كاشتمالها على مسح الرأس في بعض والمقدم في آخر مع الاتفاق على عدم الاستيعاب فيه ، فكذا فيهما.

ومما يدل على هذا القول أيضا الأخبار الدالة على عدم استبطان الشراكين حال المسح كما في حسنة الأخوين عن الباقر (عليه‌السلام) (1) حيث قال (عليه‌السلام): «... ولا يدخل أصابعه تحت الشراك ...».

وحسنة زرارة عنه (عليه‌السلام) (2) : «ان عليا (عليه‌السلام) مسح على النعلين ولم يستبطن الشراكين».

وضعيفته أيضا (3) : «ان عليا (عليه‌السلام) توضأ ثم مسح على نعليه ولم يدخل يده تحت الشراك».

ورواية جعفر بن سليمان (4) قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) فقلت : جعلت فداك يكون خف الرجل مخرقا فيدخل يده فيمسح ظهر قدمه ، أيجزيه ذلك؟ قال : نعم».

ويؤيده أيضا قوله (عليه‌السلام) في صحيحة الأخوين (5) : «قال الله تعالى :

__________________

(1 و 5) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 و 38 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء. وسند الرواية في الكافي ج 1 ص 10 والوافي ج 4 ص 44 عنه هكذا : عن جعفر بن سليمان عن عمه قال. إلخ ، وفي التهذيب عن الكافي ج 1 ص 18 والوسائل وجامع الرواة ج 1 ص 152 عنه أيضا هكذا : عن جعفر بن سليمان عمه قال. إلخ.


(وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ). (1) فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من رجليه قدميه ما بين الكعبين إلى آخر أطراف الأصابع فقد أجزأه ...».

وقال في حسنتهما (2) أيضا : «ثم قال (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ). فإذا مسح بشي‌ء من رأسه أو بشي‌ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه ...».

وفي صحيحتهما الأخرى (3) «انه قال في المسح : تمسح على النعلين ولا تدخل يدك تحت الشراك ، وإذا مسحت بشي‌ء من رأسك أو بشي‌ء من قدميك ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع فقد أجزأك».

وهي ظاهرة ـ كما ترى ـ في كون التحديد في الآية للممسوح لا للمسح ، حيث ان «إلى» في كلامه (عليه‌السلام) قرنت بالأصابع دون الكعبين عقيب الاستدلال بالآية في الروايتين الأولتين ، فهو كالتفريع عليها والتفسير لها ، قال شيخنا صاحب رياض المسائل (رحمه‌الله) : و «ما» في «ما بين الكعبين» كما تحتمل الموصولية المفيدة للعموم والأبدال من «شي‌ء» فيفيد بمفهوم الشرط توقف الاجزاء على مسح مجموع المسافة الكائنة بينهما وهو يستلزم الوجوب ، فكذا تحتمل الموصوفية مع الأبدال منه ، وكلاهما مع كون «ما» واقعة على المكان منتصبة انتصاب الظرف ، والعامل فيه ما عمل في الجار والمجرور الواقع صفة ل «شي‌ء» من الكون ، أو بدلا من قدميه أو من رجليه المبدل منه قدميه بدلا بعد بدل أو بدلا من البدل ، فيفيد بالمنطوق دون المفهوم الاجتزاء بمسح جزء من المسافة المذكورة. والاحتمالات الأخيرة ـ مع تعددها وانحصار مخالفها في فرد

__________________

(1) سورة المائدة. الآية 6.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء. ولا يخفى ان الفرق بين الصحيحة والحسنة انما هو في الطريق ، فإن الأولى هي رواية الشيخ والثانية رواية الكليني وقد رواها في الوسائل عن الكليني ثم قال : ورواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد. إلخ.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.


وأظهريتها أقل تخصيصا وأوفق بالأصل ، فوجب المصير إلى ما اشتركت في الدلالة عليه إلا أن يثبت الإجماع على خلافه. انتهى. وهو جيد وجيه.

وبالجملة فإنه لا ظهور في شي‌ء من الآية والروايات المتعلقة بالمسألة في الدلالة على القول المشهور سوى صحيحة البزنطي المتقدمة (1) مع معارضتها بما ذكرنا من الأخبار المذكورة ، الا ان الاحتياط في الوقوف على المشهور ، وحينئذ فتحمل صحيحة البزنطي المتقدمة على الاستحباب.

هذا بالنسبة إلى الاستيعاب الطولى. واما العرضي فقد نقلوا الإجماع على عدمه ومنهم العلامة في التذكرة والمنتهى ، الا انه في التذكرة ـ بعد ان ذكر ما قدمنا نقله عنه آنفا بأسطر يسيرة ـ قال : «ويستحب أن يكون بثلاث أصابع مضمومة ، وقال بعض علمائنا يجب» انتهى. وفي المختلف نسبه إلى المشهور مؤذنا بالخلاف فيه.

ويدل على المشهور ما تقدم (2) من صحيحتي الأخوين وحسنتهما وروايات عدم استبطان الشراكين في المسح مع اعتضادها بالأصل.

وعلى الثاني ظاهر الآية وصحيحة البزنطي المتقدمة (3) حيث قال الراوي بعد نقل ما تقدم منها : «قلت : جعلت فداك لو ان رجلا قال بإصبعين من أصابعه هكذا؟ فقال : لا إلا بكفه كلها». ولا يخفى ما فيها من المبالغة في الاستيعاب ، حيث انه مفهوم أولا من قوله : «فمسحها» ثم من النهي الصريح.

ويؤيده قوية عبد الأعلى (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ فقال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). امسح عليه».

__________________

(1 و 3) في الصحيفة 291.

(2) في الصحيفة 292 و 293.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 39 ـ من أبواب الوضوء.


ورواية معمر بن عمر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «يجزئ من المسح على الرأس ثلاث أصابع ، وكذلك الرجل».

والمسألة لا تخلو من اشكال ، ولو لا اخبار المسح وعدم استبطان الشراكين ، لكان القول بمضمون هذه الروايات في غاية القوة ، فإن ما عداها قابل للتأويل والتقييد بهذه الأخبار. وحمل هذه الأخبار على الاستحباب ـ كما هو المشهور ـ ليس اولى مما قلناه ، فإن صراحة صحيحة البزنطي فيما دلت عليه ـ كما قدمنا الإشارة اليه ، مع الاعتضاد بظاهر الآية والروايتين المذكورتين. وإجمال الشي‌ء في روايات الأخوين ـ مما يرشد اليه ويحمل عليه. واعتضاد تلك بدعوى الإجماع ـ كما قيل ـ ممنوع بعد وجود الخلاف كما عرفت ، مع ما في الإجماع المدعى في أمثال هذه المقامات من المناقشة الظاهرة ، ولهذا قال السيد السند في المدارك ـ بعد نقل الإجماع على الاكتفاء بالمسمى ولو بإصبع واحدة عن المعتبر والتذكرة ، والاستدلال بصحيحة زرارة (2) ـ ما لفظه : «ولولا ذلك لأمكن القول بوجوب المسح بالكف كلها. لصحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر (3)» ثم ساق الرواية وقال : «فان المقيد يحكم على المطلق. ومع ذلك فالاحتياط هنا مما لا ينبغي تركه ، لصحة الخبر وصراحته وإجمال ما ينافيه» انتهى وهو جيد

ثم انه على تقدير وجوب الاستيعاب طولا فهل يجب إدخال الكعبين في المسح أم لا؟ وجهان بل قولان مبنيان على ما سبق في المرفقين. الا ان ظاهر صحيحتي الأخوين واخبار عدم استبطان الشراكين (4) العدم هنا. والاحتياط في أمثال هذه المقامات مما ينبغي المحافظة عليه.

(الثالث) ـ هل الكعبان هما قبتا القدمين ما بين المفصل والمشط ، كما هو

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المتقدمة في الصحيفة 292.

(3) المتقدمة في الصحيفة 294.

(4) المتقدمة في الصحيفة 292 و 293.


المشهور بين الأصحاب بل ادعى عليه جمع منهم الإجماع. أو ملتقى الساق والقدم المعبر عنه بالمفصل بين الساق والقدم ، كما عليه العلامة وجمع ممن تأخر عنه ، كالشهيد الأول في الرسالة وان بالغ في التشنيع عليه في الذكرى ، وصاحب الكنز ، وشيخنا البهائي ، والمحدث الكاشاني ، والمحدث الحر العاملي ، وجمع من متأخري المتأخرين؟ إشكال ينشأ من تعارض كلام أهل اللغة في هذا المقام ، وتدافع اخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) مع دخول التأويل في اخبار كل من الطرفين وقبول الانطباق على كل من الجانبين

وتفصيل هذه الجملة على وجه الاختصار انه قد نقل أول الشهيدين في الذكرى وثاني المحققين في شرح القواعد ، ان لغوية العامة مختلفون في ذلك ، واما لغوية الخاصة فهم متفقون على انه بمعنى المشهور.

ونقل شيخنا البهائي في كتاب الحبل المتين ان الكعب يطلق على معان أربعة : (الأول) ـ العظم المرتفع في ظهر القدم الواقع بين المفصل والمشط. (الثاني) ـ المفصل بين الساق والقدم (الثالث) ـ عظم مائل إلى الاستدارة واقع في ملتقى الساق والقدم له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق وزائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب ، وهو نأت في وسط ظهر القدم اعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر لحس البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق ، وقد يعبر عنه بالمفصل ، لمجاورته له أو من قبيل تسمية الحال باسم المحل. (الرابع) ـ أحد الناتيين عن يمين القدم وشماله.

وأقول : المعنى الأول هو الذي عليه جمهور الأصحاب ، والثالث هو الذي نسبه (قدس‌سره) للعلامة وان عبر عنه بالمفصل مجازا كما ذكره ، وعلى هذا فالثاني يرجع إلى الثالث ، والرابع هو الذي عليه العامة.

ثم نقل (قدس‌سره) جملة من كلام العامة كالفخر الرازي في تفسيره الكبير ، فإنه قال : «قالت الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب المسح : ان الكعب عبارة عن عظم مستدير مثل كعب الغنم والبقر موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل


الساق والقدم ، وهو قول محمد بن الحسن ، وكان الأصمعي يختار هذا القول ، ثم قال : حجة الإمامية ان اسم الكعب يطلق على العظم المخصوص الموجود في ارجل جميع الحيوانات ، فوجب ان يكون في حق الإنسان كذلك» ومثله كلام صاحب الكشف وكلام النيشابوري ، ثم نقل جملة من كلام علماء التشريح.

وعورض بان ابن الأثير قال ـ بعد ذكر الكعب بالمعنى الذي عليه العامة ـ ما لفظه : «وذهب قوم إلى أنهما العظمان اللذان في ظهر القدم ، وهو مذهب الشيعة ، ومنه قول يحيى بن الحرث : رأيت القتلى يوم زيد بن علي فرأيت الكعاب في وسط القدم» ومثل ذلك نقل عن صاحب لباب التأويل ، ونقل الشهيد في الذكرى عن العلامة اللغوي عميد الرؤساء انه صنف كتابا في تحقيق معنى الكعب وأكثر فيه من الشواهد على ان الكعب هو الناشز في ظهر القدم امام الساق حيث يقع معقد الشراك من النعل ، ويظهر من الصحاح ان ذلك قول أكثر الناس ، حيث قال : «وأنكر الأصمعي قول الناس انه في ظهر القدم» وقال في الذكرى أيضا : «ومن أحسن ما ورد في ذلك ما ذكره أبو عمرو الزاهد في كتاب فائت الجمهرة ، قال : اختلف الناس في الكعب ، فأخبرني أبو نصر عن الأصمعي انه الناتي في أسفل الساق عن يمين وشمال ، وأخبرني سلمة عن الفراء قال هو في مشط الرجل وقال هكذا برجله ، قال أبو العباس فهذا الذي يسميه الأصمعي الكعب هو عند العرب المنجم ، قال : وأخبرني سلمة عن الفراء عن الكسائي قال قعد محمد بن علي بن الحسين (عليهم‌السلام) في مجلس كان له وقال : ههنا الكعبان قال فقالوا هكذا فقال : ليس هو هكذا ولكنه هكذا وأشار إلى مشط رجله ، فقالوا له : ان الناس يقولون هكذا فقال : لا ، هذا قول الخاصة وذاك قول العامة». انتهى.

وأنت خبير بان المعنى الثالث ـ من المعاني التي ذكرها شيخنا البهائي وهو الذي ادعى انه مراد العلامة ـ لم يذكر في كلام أحد من أهل اللغة وان ذكره جملة من علماء العامة ونسبوه إلى الشيعة كما نقله ، وذكره علماء التشريح أيضا. وما توهمه من عبارة


القاموس ـ حيث قال ـ بعد تفسيره بالمفصل والعظم الناشز فوق القدم والناشزين من جانبي القدم ـ ما لفظه : «والذي يلعب به كالكعبة» ـ فغير صريح في المعنى الذي أراده ، لاحتمال حمله على كعب النرد كما ذكره في النهاية ، حيث قال : «الكعاب فصوص النرد واحدها كعب وكعبة ، واللعب بها حرام» انتهى ، بل هذا المعنى أظهر. هذا ما يتعلق بذلك من كلام أهل اللغة.

واما كلام علمائنا (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فأكثر عباراتهم ـ تصريحا في بعض وتلويحا في آخر ـ انما ينصب على القول المشهور سيما عبارة الشيخ المفيد ، فإنها في ذلك على غاية من الظهور حيث قال : «الكعبان هما قبتا القدمين امام الساقين ما بين المفصل والمشط» وظاهر الشيخ في التهذيب ـ بعد نقل العبارة المذكورة ـ القول بذلك بل دعوى الإجماع على ان الكعب هو ذلك ، حيث قال : «ويدل عليه إجماع الأمة ، فإنهم بين قائل بوجوب المسح دون غيره ويقطع على ان المراد بالكعبين ما ذكرنا ، وقائل بوجوب الغسل عينا أو تخييرا بينه وبين المسح ويقول الكعبان هما العظمان الناتيان خلف الساق ، ولا قول ثالث ، فإذا ثبت بالدليل الذي قدمنا ذكره وجوب مسح الرجلين وانه لا يجوز غيره ثبت ما قلناه من ماهية الكعبين» انتهى. ولا يخفى عليك ما فيه من الصراحة في المعنى المشهور.

وجملة من عبارات الأصحاب ـ كابن أبي عقيل والسيد المرتضى وأبي الصلاح والشيخ في أكثر كتبه وابن إدريس والمحقق ـ قد اشتركت في وصف الكعبين بأوصاف متلازمة ، من وصفه بالنتو في ظهر القدم عند معقد الشراك في بعض ، وكونه في ظهر القدم في أخرى ، وكونه معقد الشراك في ثالثة. والنتو في وسط القدم في رابعة ، وكونهما في ظهر القدم عند معقد الشراك في خامسة ، وانهما معقدا الشراك في سادسة ، وكونهما قبتي القدم في سابعة.


والعلامة (رحمه‌الله) قد ادعى انصباب هذه العبارات على ما ذهب اليه وادعى اشتباهها على غير المحصل ، وشيخنا البهائي (طاب ثراه) أوضح هذه الدعوى بان هذه العبارات لا تأبى الانطباق على ما ذهب إليه العلامة من المعنى الثالث من معاني الكعب المتقدمة ، لأن غاية ما يتوهم منه المنافاة وصفه بالنتو في وسط القدم ، والعلامة قد فسره في التذكرة والمنتهى بذلك لكنه يقول ليس هو العظم الواقع امام الساق بين المفصل والمشط بل هو العظم الواقع في ملتقى الساق والقدم ، وهو الذي ذكره المشرحون ، وهو ـ كما تقدم ـ نأت في وسط ظهر القدم اعني وسطه العرضي ولكن نتوه غير ظاهر لحس البصر لارتكاز أعلاه في حفرتي الساق ، وربما عبر عنه في بعض كتبه بحد المفصل وفي بعضها بمجمع الساق والقدم وفي بعضها بالناتي في وسط القدم وفي بعضها بالمفصل. انتهى

أقول : وأنت إذا أعطيت التأمل حقه من الإنصاف وجدت ان تنزيل عبائر الأصحاب على ما ذكره (رحمه‌الله) في غاية الاعتساف ، فان المتبادر من الوسط هو ما كان في الطول والعرض ومن الارتفاع والنتو هو ما كان محسوسا مشاهدا ، ولو كان المراد بالكعب هذا المعنى الذي لا يفهمه إلا علماء التشريح دون سائر العلماء فضلا عن المتعلمين لا وضحوه بعبارات جلية وبينوه بكلمات واضحة غير خفية ، ولما اقتصروا في وصفه على مجرد النتو والارتفاع الغير المحسوس الذي هو من قبيل تعريف المجهول بما هو أخفى نعم في عبارة ابن الجنيد ما يوهم ذلك ، حيث قال : «الكعب في ظهر القدم دون عظم الساق ، وهو المفصل الذي هو قدام العرقوب» ويحتمل رجوع ضمير «هو» الى عظم الساق ويكون المراد انه عند عظم الساق ، بقرينة سابق كلامه من قوله : «الكعب في ظهر القدم» هذا خلاصة ما يتعلق بكلام الأصحاب.

واما الأخبار الواردة في هذا المضمار (فمنها) ـ صحيحة الأخوين (1) حيث قال فيها : «فقلنا اين الكعبان؟ قال : ههنا يعني المفصل دون عظم الساق. فقلنا : هذا

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.


ما هو؟ قال : هذا عظم الساق والكعب أسفل من ذلك» وقوله : «والكعب أسفل من ذلك».

في رواية الكافي دون التهذيب. وهذا الحديث هو عمدة أدلة العلامة ومن تابعه ، وهو ظاهر فيما ادعوه ، إلا ان للمجيب ان يقول ـ بناء على ظهور غيره من الأخبار في المعنى المشهور وظهور عبارات الأصحاب في خلافه ـ كما عرفت ـ غاية الظهور ـ :

(أولا) ـ بأنه وان ظهر ذلك بالنسبة إلى رواية التهذيب إلا انه بالنظر إلى الزيادة التي في الكافي من قوله : «والكعب أسفل من ذلك» لا يخلو من اشكال ، فإنه اما أن يكون المشار إليه ـ في قوله : «هذا من عظم الساق» على ما في الكافي أو «هذا عظم الساق» على ما في التهذيب ـ المنجم أو منتهى عظم الساق ، فان كان الأول فهو عند المفصل كما قال في النهاية : «الكعبان : العظمان الناتيان عند مفصل الساق والقدم من الجنبين» وحينئذ فحكمه (عليه‌السلام) بان الكعب أسفل من ذلك ظاهر في انه المعنى المعروف عند القوم ، وان كان الثاني فالأمر أوضح ، فعلى هذا يجب حمل قوله : «ههنا يعنى المفصل» على انه قريب إلى المفصل لئلا يلزم التناقض.

فان قيل : انه يمكن حمل قوله : «أسفل من ذلك» على التحتية كما يدعيه شيخنا البهائي (قدس‌سره) فلا يلزم التناقض.

قلنا : ان لم يكن ما ذكرنا من حمل الاسفلية على الكعب المشهور أظهر لظهور ذلك لكل ناظر وتبادره لكل سامع ، فلا أقل من المساواة ، وبه ينتفي ظهور الرواية في المدعى فضلا عن أظهريتها.

و (ثانيا) ـ بأنها معارضة بما سيأتي من الأخبار فيجب ارتكاب التجوز فيها جمعا

ومن تلك الأخبار صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع كفه على الأصابع

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.


فمسحها إلى الكعبين إلى ظاهر القدم ...».

وهذا مما استدل به العلامة أيضا على ما ذهب اليه ، وجملة من الأصحاب نقلوا الخبر بلفظ «ظهر» بدل «ظاهر» وعلى أيهما كان فقوله «الى ظاهر» أو «ظهر» بدل من قوله : «الى الكعبين» وهو محتمل للمعنى المشهور بناء على ان الظاهر يقال لغة لما ارتفع ، قال في القاموس : «والظواهر أشراف الأرض» وقال في مادة شرف : «الشرف محركة : العلو ، والمكان العالي» انتهى والظهر أيضا يقال لما ارتفع وغلظ من الأرض كما في القاموس أيضا ، وعلى كل من النسختين فانطباقه على المشهور ظاهر ويحتمل حمل الظهر والظاهر على ما قابل البطن والباطن كما استدل به للقول الآخر ، ولكن لا بد من تتميمه بحمل الظهر أو الظاهر على الاستيعاب طولا لعدم قرينة البعضية ، فيكون المراد به نهايته المتصلة بالساق. ويمكن الجواب بالحمل على الاستحباب بقرينة ان ما اشتملت عليه الرواية سوى أصل المسح ـ من الاستيعاب الطولي بناء على ما أسلفنا تحقيقه ، والعرضي كما أوضحناه أيضا ، والابتداء بالأصابع ـ كله مستحب.

و (منها) ـ حسنة ميسر عن أبي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «الوضوء واحد ، ووصف الكعب في ظهر القدم». وأورد في التهذيب هذه الرواية في موضع بهذه الكيفية وفي موضع آخر بهذا السند والمتن لكن بلفظ «واحدة» بدل «واحد» ولفظ «ميسرة» بدل «ميسر» كما هو في الكافي كذلك.

وروايته الأخرى أيضا عنه (عليه‌السلام) (2) في حكاية الوضوء البياني ، قال فيها : «ثم مسح رأسه وقدميه ثم وضع يده على ظهر القدم ثم قال : هذا هو الكعب ، قال وأومأ بيده إلى أسفل العرقوب ثم قال : ان هذا هو الظنبوب».

وهاتان الروايتان مما استدل به القائلون بالقول المشهور من حيث تضمنهما ان

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.


الكعب في ظهر القدم ، والمتبادر من ذلك ـ كما عرفت ـ هو ما ظهر في وسطه الطولى المعبر عنه فيما تقدم من كلامهم بالناتي في وسط القدم والناتي في ظهر القدم أي ما كان نتوه ظاهرا محسوسا.

واما القائلون بالقول الآخر فتأولوا كونه في الظهر بمعنى كونه واقعا فيه وان كان في منتهاه وخفي على الحس.

قال في الوافي ـ بعد نقل أول هذين الخبرين ـ ما لفظه : «ووصف الكعب في ظهر القدم لا ينافي كونه المفصل ، لأنه في ظهرها ومنتهاها. وانما قال ذلك ردا على المخالفين حيث جعلوهما في طرفي القدم وجانبيها» انتهى.

وقال شيخنا البهائي : «على ان قول ميسر ـ في الحديث الثالث : ان الباقر وصف الكعب في ظهر القدم ـ يعطي ان الامام (عليه‌السلام) ذكر للكعب أوصافا ليعرفه الراوي بها ، ولو كان الكعب هذا الارتفاع المحسوس المشاهد لم يحتج إلى الوصف بل كان ينبغي أن يقول : هو ذا ، وقس عليه قوله (عليه‌السلام) في الحديث الأول : «ههنا» بالإشارة إلى مكانه دون الإشارة إليه» انتهى.

أقول : قد قال في رواية ميسر الثانية «هو هذا» فان كان ذلك يكفي في الدلالة على المعنى المشهور فينبغي ان يوافق عليه شيخنا المذكور.

وبالجملة فإنه لما كان الكعب يطلق على كل من المعنيين المذكورين فحمل الروايات جملة على أحدهما دون الآخر يحتاج إلى دلالة بينة واضحة وقرينة مفصحة راجحة ، وقد عرفت ان الاحتمالات قائمة من الطرفين ومتصادمة من الجانبين وان ادعى كل من القائلين رجحان ما ذهب اليه وقوة ما اعتمد عليه ، إلا ان الحق ان ذلك مما يدخل تلك الأخبار في حيز المشتبهات ويوجب العمل بالاحتياط في المسألة.

ويقوى عندي ما ذهب اليه بعض الفضلاء من متأخري المتأخرين في هذا المقام وان كان خلاف ما عليه جملة من متأخري علمائنا الاعلام ، حيث قال بعد نقل جملة من كلام القوم


على العلامة وما أوقعوه به من الشناعة والملامة : «هذا ملخص ما شنعوا به عليه ، وعند إمعان النظر في كلام العلامة وملاحظة ما أورده في غير المختلف يعلم انه لمن يخرج بقوله عن المشهور بل هو عينه إلا انه بسبب قصده لتطبيق النص عليه خرج في بعض عباراته عن المعهود من كلامهم ، وبيان ذلك انه (رحمه‌الله) قال في التذكرة : «ومحل المسح ظهر القدمين من رؤوس الأصابع إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتيان في وسط القدم ، وهما معقد الشراك اعني مجمع الساق والقدم ، ذهب إليه علماؤنا اجمع ، وبه قال محمد بن الحسن الشيباني لأنه مأخوذ من «كعب ثدي المرأة إذا ارتفع» «ولقول الباقر (عليه‌السلام) وقد سئل فأين الكعبان؟ : ههنا يعني المفصل دون عظم الساق». وقال في المنتهى : «ذهب علماؤنا إلى ان الكعبين هما العظمان الناتيان في وسط القدم ، وهما معقدا الشراك ، وبه قال محمد بن الحسن من الجمهور ، وخالف الباقون فيه وقالوا ان الكعبين هما الناتيان في جانبي الساق ، وهما المسميان بالظنابيب» ثم أخذ في الاستدلال وأورد صحيحة زرارة وبكير ابني أعين المذكورة (1) وروايتي ميسر المتقدمتين (2) إلى أن قال : فروع (الأول) ـ قد تشتبه عبارة علمائنا على بعض من لا مزيد تحصيل له في معنى الكعب. والضابط فيه ما رواه زرارة ، وأورد الرواية ، في القواعد عرف الكعبين بأنهما حد المفصل بين الساق والقدم ، وفي الإرشاد أنهما مجمع القدم وأصل الساق. والمفهوم من خلال هذه العبارات انه أطلق المفصل على العظمين الناتيين تارة وأطلق عليهما الحد والمجمع تارة أخرى ، وكلامه في التذكرة صريح في ذلك ، حيث فسر العظمين الناتيين بأنهما معقدا الشراك وفسر معقد الشراك بأنه مجمع الساق والقدم ، وفي المنتهى قريب منه ولما كان مدلول رواية زرارة وأخيه يقتضي ان الكعبين هما المفصل حيث فسر الامام (عليه‌السلام) فيهما الكعبين بأنهما المفصل دون عظم الساق ورأى علماءنا أطبقوا على انهما العظمان الناتيان ، أراد الجمع بين الكلامين فحمل المفصل على ذلك باعتبار كون

__________________

(1) في الصحيفة 299.

(2) في الصحيفة 301.


طرفي ذينك العظمين مما يلي الساق حد المفصل والساق لأن عظم الساق متصل بهما ، فأطلق عليهما المفصل من جهة كونهما حدا له وبداية لحصوله ، فيكون تعريفهما بالمفصل باعتبار نهايتهما ، وغاية الأمر ان ذلك على طريق التجوز لعلاقة المجاورة ، وليس في كلامه ما ينفي إرادة المعنى المشهور بوجه من الوجوه ، بل مقتضى نقله اتفاق علمائنا اجمع عليه انه لا يحتمل ارادة غيره ، وبسبب انه مخالف لظاهر الرواية كما ذكرنا نبه عليه بأنه اشتباه على غير المحصل وان المحصل يعرف ان المراد بالكعبين هو المفصل باعتبار كونه حدا ونهاية لهما ولذلك أطلق عليهما ، وربما كانت الحكمة في هذا الإطلاق من الامام (عليه‌السلام) ارادة إيصال المسح إلى نهاية الكعب ، ولا يليق حمل كلام العلامة على ما فهموه منه ، لانه يلزم من ذلك مناقضة أول كلامه لآخره والخروج عن نقل الإجماع عليه وعدم فهمه المعنى الظاهر من عبارات الأصحاب ، وذلك لا ينسب لا دون الناس وابلدهم فضلا عن مثل جلالة قدر العلامة (رحمه‌الله) ومما يؤكد ذلك ان المحقق في المعتبر استدل على كون الكعبين هما العظمان الناتيان بهذه الرواية ، فلو لا ان المراد بالمفصل ما أشرنا اليه لم يتجه له الاستدلال بها على ذلك» انتهى كلامه زيد مقامه. وانما نقلناه بطوله ليظهر لك حسنه وجودة محصوله.

وأقول : ربما يتسارع الناظر ـ لالفة ذهنه بما زعمه القوم في هذه المسألة من التحقيق ـ إلى إنكار ما ذكره هذا الفاضل من التلفيق ، وعند التأمل الصادق يجده أقرب مما ذكره شيخنا البهائي (قدس‌سره) فإنه (طاب ثراه) وان دقق النظر في المقام وأيده بكلام أولئك الأقوام ، كما هو مقتضى فهمه الثاقب ونظره الصائب في استجلاء أبكار الأحكام ، الا ان حمل هذه العبارات من العلامة وغيره من الأصحاب على ما ذكره من هذا المعنى الخفي ـ كحمل النتو على النتو في بطن الظهر وان لم يظهر للحس ، والتوسط على التوسط العرضي في آخر القدم. وحمل معقد الشراك على كونه في المفصل مع ان كل أحد يعلم انه قدام المفصل ، مع عدم الإشارة إلى شي‌ء من ذلك في تلك


العبارات سيما عبارات العلامة (عطر الله مرقده) الذي هو مخترع هذا القول على تعددها فإن غاية ما يخرج به عن كلام القوم التعبير بالمفصل دون هذا العظم الخفي الذي ذكره ـ يكاد يقطع العقل ببعده.

وعمدة ما يدور عليه كلامه (قدس‌سره) ـ في الاستدلال على هذا القول ويشجعه على انه مراد العلامة ـ شيئان :

(أحدهما) ـ نسبة الفخر الرازي ومن تبعه ذلك إلى الشيعة وفيه ان الفخر الرازي قد نقل ذلك أيضا عن الأصمعي كما قدمنا نقله عنه ، مع انك قد عرفت ـ مما نقله شيخنا الشهيد في الذكرى عن أبي عمرو الزاهد ـ ان مذهب الأصمعي في الكعب انما هو مذهب العامة ، وبذلك أيضا صرح احمد بن محمد الفيومي في المصباح المنير ، وحينئذ فإذا احتمل تطرق الاختلال إلى نقله عن علماء مذهبه فبالطريق الاولى إلى مذهب الشيعة ، ويؤيده ما قدمنا نقله عن ابن الأثير من ان مذهب الشيعة انهما العظمان اللذان في ظهر القدم ، وما صرح به في المصباح المنير أيضا ، حيث قال : «وذهبت الشيعة إلى ان الكعب في ظهر القدم وأنكره أئمة اللغة كالاصمعي وغيره».

و (ثانيهما) ـ صحيح زرارة وأخيه المتقدم ذكره (1) وهو ـ بعد ما عرفت من ظهور هذا المعنى من كلام الأصحاب سيما كلام الشيخين في المقنعة والتهذيب وظهوره أيضا من تلك الأخبار المتقدمة ـ يجب إرجاعه إلى ما عليه الأصحاب سيما مع عدم الصراحة لما عرفت من تطرق الاحتمال إلى المعنى الذي اعتمدوه منه ، وجملة المتقدمين من الأصحاب لم يفهموا منه المخالفة لما قرروه في عبائرهم من معنى الكعب المشهور ، ولهذا ان الشيخ في التهذيب ـ بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه مما هو صريح في المعنى المشهور ـ نظم هذه الرواية في سلك الأدلة على ذلك ولم يجعلها في قالب المخالف ، والمحقق في المعتبر كذلك بعد ما عرف الكعب بأنه قبة القدم ، وما ذاك كله إلا لفهمهم منها الانطباق على المعنى

__________________

(1) في الصحيفة 299.


المشهور وان احتيج إلى ارتكاب نوع من المجاز.

وبالجملة فتأويل كلام العلامة (رضوان الله عليه) بما يرجع إلى المشهور ـ وان اعتراه في بعض عبائره نوع من القصور ـ أهون وأقرب مما تكلفه (قدس‌سره) وحينئذ فينحصر الخلاف في شيخنا البهائي (رحمه‌الله) ومن تبعه على تلك المقالة. والاحتياط بإيصال المسح إلى المفصل بل إلى عظم الساق مما ينبغي المحافظة عليه. والله الهادي.

(الرابع) ـ الظاهر جواز النكس هنا كالرأس. وفاقا للمشهور وخلافا لظاهري المرتضى وابن بابويه وابن إدريس فيما قطع به ، بل نقل عنه في المختلف كراهية الاستقبال لما تقدم من الأدلة.

ويزيده تأكيدا هنا رواية يونس (1) قال : «أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه‌السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسع : من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا ، فإنه من الأمر الموسع ان شاء الله».

وصحيحة حماد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا».

واستدل للقول الآخر بالآية بناء على أن «الى» فيها لانتهاء المسح. وفيه انها محتملة لكل من غاية المسح والممسوح فالحمل على أحدهما دون الآخر ترجيح بغير مرجح بل ظاهر الأخبار المتقدمة في المورد الأول من هذا البحث كونها غاية للممسوح كما تقدمت الإشارة إليه ثمة.

وبالوضوء البياني. وفيه انه محمول على الاستحباب جمعا بين الأخبار.

وبصحيحة البزنطي (3) حيث قال فيها : «... فوضع كفه على الأصابع فمسحها

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 24 ـ من أبواب الوضوء.


إلى الكعبين ...». وفيه أيضا ما في سابقه.

وبيقين البراءة. وفيه انه يرجع إلى الاحتياط ، وهو هنا مستحب لا واجب كما تقدمت الإشارة إليه.

(الخامس) ـ قد تقدم في سابق هذا البحث الكلام في وجوب المسح بالبلة وعدم جواز استئناف ماء جديد للمسح. لكن بقي الكلام هنا في موضعين :

(أحدهما) ـ انه لو كانت البلة الباقية مشتملة على ما يتحقق به الجريان لو مسح فهل يمسح بها والحال كذلك ، أو يجب التجفيف حذرا من وقوع الغسل المقابل للمسح المنهي عنه في الأخبار فلا يحصل الامتثال؟ وجهان بل قولان يلتفتان إلى ان النسبة بين الغسل والمسح التباين أو العموم من وجه ، فيجتمعان في إمرار اليد مع الجريان وينفرد الأول بالثاني خاصة والثاني بالأول ، والأول ظاهر المشهور ، وإلى الثاني مال جملة من محققي متأخري المتأخرين ، ولعله الأظهر ، وسيأتي مزيد تحقيق للمسألة.

و (ثانيهما) ـ انه مع وجود بلة على الممسوح خارجة عن ماء الوضوء ، فهل يجوز المسح والحال كذلك ، أم يجب التجفيف حذرا من لزوم المسح بماء جديد؟ قولان وبالثاني صرح العلامة في المختلف ونقله فيه وفي المنتهى عن والده أيضا.

وعلى الأول فهل يجوز مع وجود الرطوبة مطلقا ، أو يشترط غلبة ماء الوضوء عليها؟ قولان ، وبالثاني صرح الشهيد في الدروس ، وبالأول صرح المحقق وابن إدريس وابن الجنيد ، قال ابن الجنيد : «من تطهر إلا رجليه فدهمه أمر يحتاج معه إلى ان يخوض بهما نهرا مسح عليهما يده وهو في النهر ان تطاول خوضه وخاف جفاف ما وضأ من أعضائه ، وان لم يخف كان مسحه بعد خروجه أحب الي وأحوط» وقال ابن إدريس : «إذا كان قائما في الماء وتوضأ ثم اخرج رجليه من الماء ومسح عليهما من غير ان يدخل يده في الماء فلا حرج عليه ، لانه ماسح إجماعا ، والظاهر من الآيات والأخبار متناول له» وقال في المعتبر : «لو كان في ماء وغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ورجليه جاز ، لان


يديه لا تنفك من ماء الوضوء ولم يضره ما كان على القدمين من الماء» وظاهره جواز المسح في الماء كما في كلام ابن الجنيد ، مع احتمال الحمل على خروج الرجل كما في كلام ابن إدريس.

احتج العلامة في المختلف على ما ذهب اليه والده ورجحه هو فيه ـ بان المسح يجب بنداوة الوضوء ويحرم التجديد. ومع رطوبة الرجلين يحصل المسح بماء جديد.

والأظهر ـ كما استظهره جملة من المحققين ـ القول بالجواز مطلقا ، لأصالة الجواز وصدق الامتثال ، وتناول إطلاق الآية والأخبار لذلك ، وعدم الدليل على المنع ، ومنع صدق التجديد لو حصل الجريان باجتماع البلتين بل ولو ببلة الممسوح منفردة عند عدم القصد إلى الغسل وان صدق اسم الغسل ، ويؤيده صحيحة زرارة (1) : «لو أنك توضأت فجعلت مسح الرجلين غسلا ثم أضمرت ان ذلك هو المفترض لم يكن ذلك بوضوء ...». الدالة على جواز غسل الممسوح لا بذلك القصد ، وبذلك يظهر أظهرية ما استظهرناه في المسألة السابقة.

إلا انه يمكن ان يقال ان ظاهر عبارات المجوزين ان البلة الباقية في اليد من ماء الوضوء وان قلت لا تزول بملاقاتها للماء الذي على الرجل الممسوحة وان كثر ، فالمسح يحصل بها وان شاركها غيرها ، والاستناد إلى ظواهر الأدلة انما هو من هذه الجهة ، بمعنى انه يصدق المسح المأمور به شرعا والحال كذلك ، وهو عندي محل اشكال وخفاء ولا سيما في المسح داخل الماء كما ذكره ابن الجنيد ، فإنه لا ريب ان غلبة الماء الذي على الممسوح على البلة الباقية في اليد على وجه تضمحل به في جنبه توجب حصول التجديد في المسح ، كما انه لو كان على هذه اليد الماسحة ـ مثلا ـ بول فإنه بوضعها في الماء يجب الحكم بطهارتها ، لزوال نجاسة البول منها بغلبة الماء ، فبالطريق الاولى هنا ، أو كان عليها ماء مضاف فإنه يجب الحكم بزواله عنها في الصورة المذكورة ، وهكذا يجري بالنسبة إلى ما لو لم يكن

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 25 ـ من أبواب الوضوء.


في الماء ولكن أخرجها من الماء ـ كما ذكره ابن إدريس ـ وعليها ماء كثير والبلة التي على اليد قليلة جدا ، فإنها تضمحل في جانب ذلك الماء ويحكم عرفا بل شرعا بزوالها بملاقاة ذلك الماء لاضمحلالها في جنبه ، ومن الظاهر ان بناء قاعدة التطهير من نحو البول باستنجاء أو غيره على غلبة المطهر انما هو من حيث ان النجاسة تزول وتضمحل في جنبه ، ولو كانت باقية لما حصل التطهير ، فكذا ما نحن فيه ، وحينئذ فمتى كانت الرطوبة التي على ظهر الرجل مما تغلب على البلة وتضمحل البلة في جنبها فإنه يحصل المسح بالماء الجديد.

وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف لعدم النص ، وما ادعوه من الدخول تحت العمومات ليس بمطرد في جميع ما ذكروه ، فالواجب عندي هو الوقوف على جادة الاحتياط ، وان يراعى عدم غلبة الماء الذي على ظاهر العضو الممسوح على البلة الباقية والاحتياط ـ بتجفيف الرجل ونفض اليدين من البلة المستلزمة للجريان ـ مما ينبغي المحافظة عليه.

(السادس) ـ لا يجوز المسح في كل من الرأس والرجلين على حائل اختيارا إجماعا منا فتوى ورواية ، ومن الحائل الشعر في الرجل على المعروف من مذهب الأصحاب فمن الأخبار الواردة بذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) «انه سئل عن المسح على الخفين وعلى العمامة. فقال : لا تمسح عليهما».

ومرفوعة محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «في الذي يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال : لا يجوز حتى يصيب بشرة رأسه بالماء».

وما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن المرأة هل يصلح لها ان تمسح على الخمار؟ قال : لا يصلح حتى تمسح على رأسها». إلى غير ذلك من الأخبار.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 38 ـ من أبواب الوضوء.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 37 ـ من أبواب الوضوء.


اما مع الضرورة كالتقية والبرد الشديد ونحوهما فظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على الجواز.

ويدل عليه بالنسبة إلى الرجلين رواية أبي الورد (1) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ان أبا ظبيان حدثني انه رأى عليا (عليه‌السلام) أراق الماء ثم مسح على الخفين؟ فقال : كذب أبو ظبيان ، أما بلغكم قول علي (عليه‌السلام) فيكم : سبق الكتاب الخفين؟ قلت : فهل فيهما رخصة؟ فقال : لا ، إلا من عدو تتقيه أو ثلج تخاف على رجليك».

والرواية وان كانت ضعيفة السند باصطلاح متأخري أصحابنا إلا انها مجبورة بعمل الأصحاب واتفاقهم على الحكم المذكور ، على ان أبا الورد وان كان غير مذكور في كتب الرجال بمدح ولا قدح إلا انه قد روى في الكافي ما يشعر بمدحه ، ولهذا عده شيخنا المجلسي في وجيزته في الممدوحين ، وشيخنا أبو الحسن في بلغته قال روى مدحه مع ان الراوي عنه هنا بواسطة حماد بن عثمان ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، والرواية بناء على ظاهر هذه العبارة صحيحة ، وكيف كان فهي ـ باعتبار مجموع ما ذكرنا من المرجحات مضافا إلى الاتفاق على الحكم ـ مما يقوى الاعتماد عليها واما

ما رواه في الكافي (2) عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عمر الأعجمي قال : «قال لي أبو عبد الله (عليه‌السلام) : يا أبا عمر ان تسعة أعشار الدين في التقية ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية في كل شي‌ء إلا في النبيذ والمسح على الخفين». فالظاهر حمله عليهم (صلوات الله عليهم) دون غيرهم ، كما يشير اليه ما رواه حريز عن زرارة في الصحيح (3) قال : «قلت له : هل في مسح الخفين تقية؟ فقال : ثلاثة

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 38 ـ من أبواب الوضوء.

(2) الأصول ج 2 ص 217 وفي الوسائل بالتقطيع في الباب ـ 24 و 25 ـ من الأمر بالمعروف.

(3) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 38 ـ من أبواب الوضوء ، وفي الباب ـ 25 ـ من الأمر بالمعروف وفي الباب ـ 22 ـ من الأشربة المحرمة.


لا اتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج. قال زرارة : ولم يقل الواجب عليكم ان لا تتقوا فيهن أحدا». وقد حمله الشيخ في التهذيبين على اختصاص نفي التقية بنفسه كما اوله زرارة. وبالجملة فإن أخبار وجوب التقية عامه ومنها الخبر المذكور المتضمن لهذا الإطلاق الظاهر في المنافاة ، فالواجب حمله على ما ذكرناه جمعا بين الأخبار. ومثل خبر زرارة المذكور أيضا ما رواه في الكافي أيضا في الصحيح (1) عن زرارة عن غير واحد قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) : في المسح على الخفين تقية؟ قال : لا يتقى في ثلاث. قلت : وما هن؟ قال شرب الخمر أو قال شرب المسكر والمسح على الخفين ومتعة الحج». والتقريب فيه ما تقدم.

ورواية عبد الأعلى مولى آل سام (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام):

عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف اصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى : قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ... امسح عليه».

ويدل عليه بالنسبة إلى الرأس صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «في الرجل يحلق رأسه ثم يطليه بالحناء ثم يتوضأ للصلاة؟ فقال : لا بأس بأن يمسح رأسه والحناء عليه». فان الظاهر حملها على ضرورة التداوي كما ذكره في المنتقى نعم ربما احتمل على بعد الحمل على عدم استيعاب الحناء لموضع المسح. واما حمله على المسح على لون الحناء فلا ينطبق عليه لفظ الطلاء كما لا يخفى.

وصحيحة عمر بن يزيد عنه (عليه‌السلام) (4) «عن الرجل يخضب رأسه بالحناء ثم يبدو له في الوضوء؟ قال : يمسح فوق الحناء». والتقريب ما تقدم. ويمكن حمل هذه

__________________

(1) الفروع ج 2 ص 195.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 39 ـ من أبواب الوضوء.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 37 ـ من أبواب الوضوء.


الرواية على بعد على الخضاب بماء الحناء فيكون المسح على لونه ،

ويؤيد ذلك أيضا إطلاق جملة من اخبار الجبائر ، لدلالتها على المسح على الجبيرة متى تضرر بنزعها أعم من ان يكون في موضع الغسل أو المسح ، مثل حسنة كليب الأسدي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل إذا كان كسيرا كيف يصنع بالصلاة؟ قال : ان كان يتخوف على نفسه فليمسح على جبائره وليصل». وقوله (عليه‌السلام) في حسنة الحلبي (2) بعد ان سأله عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه أو نحو ذلك من موضع الوضوء فيعصبها بخرقة ويتوضأ : «ان كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة ...». ويؤيده أيضا أدلة نفي الحرج في الدين.

وبذلك يظهر لك ما في مناقشة جمع من متأخري أصحابنا : منهم ـ السيد السند في المدارك في هذا الحكم حيث اقتصروا في الاستدلال عليه على رواية أبي الورد وردوها بضعف السند ، واحتملوا الانتقال إلى التيمم لتعذر الوضوء بتعذر جزئه. وأنت خبير بعد الإحاطة بجميع ما ذكرنا ان الظاهر انه لا مجال للتردد في الحكم المذكور ، وأيضا فإن التيمم معلوم الاشتراط بشرط غير معلوم التحقق هنا ، والشك في وجود الشرط يستلزم الشك في وجود المشروط ، فلا يتم الانتقال إلى التيمم.

ثم ان ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على ان من الحائل الذي لا يجوز المسح عليه اختيارا الشعر على الرجل ، حيث صرحوا في الرأس بالمسح على البشرة أو الشعر المختص وفي الرجل بالبشرة.

قال بعض المحققين من متأخري المتأخرين بعد نقل ذلك عنهم : «وهذا الحكم مما لم أقف فيه على تصريح في كلام القوم غير انهم اقحموا لفظ البشرة في هذا الموضع ويمكن أن يكون مرادهم الاحتراز عن الخف ونحوه لا الشعر كما هو الظاهر بحسب النظر لان المسح على الرجلين انما يصدق عرفا على المسح على شعرها» انتهى.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 39 ـ من أبواب الوضوء.


أقول : بل الظاهر ان الوجه في ذلك عندهم ما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في شرح الرسالة ، حيث قال ـ بعد نقل عبارة المصنف المتضمنة للمسح على بشرة الرجلين ـ ما لفظه : «ويستفاد ـ من حصره المسح في بشرة الرجلين مع تخييره في الرأس بين مسح مقدم شعره وبشرته ـ انه لا يجزئ المسح على الشعر في الرجلين وان اختص بالظهر بل يتحتم البشرة. والأمر فيه كذلك ، والفارق النص الدال بإطلاقه على وجوب مسح الرجلين ، إذ الشعر لا يسمى رجلا ولا جزء منها ، مع التصريح في بعض الأخبار بجواز المسح على شعر الرأس ، وانما لم يصرح الأصحاب بالمنع من المسح على الشعر في الرجلين لندور الشعر الحائل فيهما القاطع لخط المسح ، فاكتفوا باستفادته من لفظ البشرة ، فإنها كالصريح ان لم تكنه» انتهى.

ويرد عليه (أولا) ـ انه قد صرح هو (قدس‌سره) وجملة من الأصحاب بوجوب غسل الشعر النابت على اليد كما تقدم ، معللين له تارة بأنه في محل الفرض واخرى بأنه من توابع اليد. والفرق بينه وبين ما هنا غير ظاهر ، بل تلك التعليلات ان صحت فهي جارية هنا وإلا فلا في الموضعين.

و (ثانيا) ـ ان الظاهر من خلو الأخبار عن ذكره مع عدم انفكاك الرجل عنه غالبا جواز المسح عليه.

(السابع) ـ اختلف الأصحاب في استمرار رفع الوضوء الضروري ـ بمسح على الخفين أو الجبائر أو غسل أو نحو ذلك ـ بعد زوال الضرورة وعدم النقض بأحد الأسباب المعدودة ، فظاهر المشهور بقاء الإباحة وجواز الدخول به في العبادة. ونقل عن الشيخ في المبسوط ـ وبه صرح المحقق في المعتبر ـ تقدير الإباحة بحال الضرورة ، وقربه العلامة في التذكرة ، وعللوه بأنها طهارة مشروطة بالضرورة فتزول بزوالها وتتقدر بقدرها. واعترض عليه بأنه ان أريد بتقدير الطهارة بقدر الضرورة عدم جواز الطهارة كذلك بعد زوال الضرورة فحق ولكنه غير ما نحن فيه ، وان أريد عدم إباحتها فهو محل النزاع.


وأنت خبير بأن المسألة خالية من النص الدال على ذلك نفيا وإثباتا ، إلا انه يمكن الاستدلال على القول المشهور بأنه لا ريب ان الوضوء المذكور رافع للحدث. ومن حكم الوضوء الرافع أن لا يزول رفعه إلا بأحد النواقض ، وزوال الضرورة ليس من جملتها ، فيجب استصحاب الحكم إلى ان يحصل أحد النواقض المقررة. وفيه ان الاستصحاب المقطوع بحجيته ـ كما تقدم تحقيقه ـ هو ما إذا دل الدليل على ثبوت الحكم مطلقا ، بمعنى عدم الاختصاص بوقت مخصوص أو حالة مخصوصة ، فإنه يجب البقاء على مقتضى ما دل عليه حتى يثبت الرافع ، كالحكم باستمرار الطهارة والنجاسة فيما علما فيه وصحة البيوع والأنكحة ونحو ذلك بعد وقوع العقد الصحيح حتى يثبت الرافع ، اما إذا كانت دلالته مخصوصة بحالة معينة أو زمان مخصوص فاجراؤها في الحالة الثانية والزمان الآخر يتوقف على الدليل. وأنت خبير بان ما نحن فيه انما هو من قبيل الثاني ، فإن الدليل الدال على صحة هذا الوضوء ورفعه انما دل باعتبار حال الضرورة وعدم التمكن من المسح الواجب أو الغسل الواجب مثلا كما هو المفروض ، فعند زوال تلك الحال وتجدد حال أخرى مغايرة لها يحتاج في إجراء الحكم في الحالة الأخرى إلى دليل وليس فليس. ولعل في تشبيه الشيخ له بالتيمم ـ حيث نقل عنه انه علل ذلك بأنها طهارة ضرورية فتتقدر بقدر الضرورة كالتيمم ـ إشارة إلى ذلك ، فان وجه المشابهة ظاهر ، فان الماسح على حائل من خف أو جبيرة والمتيمم شريكان في ترك العضو الممسوح وكون الترك فيهما لعذر شرعي ، فتزول الرخصة فيهما بزواله ، وحينئذ فكما ان المتيمم ينتقض تيممه ولو في الصلاة بزوال الحالة الموجبة له لعدم اقتضاء دليله الاستمرار في جميع الأحوال على الأصح ، كذلك هذا المتوضئ ينتقض وضوؤه بزوال الحالة الموجبة له لعين ما ذكر.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : «ويتفرع على ذلك انه لو زال العذر في المسح على الحائل قبل كمال الوضوء أو بعده وقبل الجفاف والدخول في


الصلاة ، فهل يجب عليه نزع الحائل والمسح بالبلة قبل الدخول فيها أم يباح له الدخول فيها به؟ لم أقف لأحد من أصحابنا فيه على صريح كلام ، ولعل الأول أقرب ، لبقاء وقت الخطاب بالطهارة المأمور فيها بغسل المغسول ومسح الممسوح ـ وهو وقت ارادة القيام إلى الصلاة ـ الى وقت زوال العذر وهو متمكن من إيقاعها فيه فيجب ، والعدول عن المأمور به لوجود مانع لا يمنع العود اليه بعد زواله ، بل يجب العود اليه لوجود السبب ومنشأ الخطأ عدم الفرق بين انتفاء الحكم لفقد السبب أو لوجود المانع» انتهى. وبذلك يظهر قوة القول بالنقض.

(الثامن) ـ صرح جملة من الأصحاب بأنه لو تأدت التقية بالغسل عوضا عن المسح على الخفين تعين ولم يجز غيره ، وكذا لو تأدت بغسل موضع المسح في الرجل لم يجب الاستيعاب ، وانه لو مسح في موضع الغسل تقية بطل وضوؤه للنهي المقتضي للفساد في العبادة ، وعلل الأول بأن الغسل أقرب إلى المفروض بالأصل ، للإلصاق بالبشرة وكونه مشتملا على المسح مع زيادة ، بخلاف المسح على الخفين ، لعدم الإلصاق. وهو لا يخلو من شوب النظر. وفي التذكرة جعله اولى ولم يجزم بتعينه ، ولعله الاولى. واحتمل بعضهم في الثاني الصحة لأن النهي لوصف خارج عن العبادة.

(التاسع) ـ هل يشترط في العمل بالتقية في هذا الموضع وغيره عدم المندوحة أم لا؟ قولان ، اختار ثانيهما ثاني الشهيدين في روض الجنان ، وبه صرح أولهما أيضا في مسألة مسح الرجلين من البيان وثاني المحققين من شرح القواعد. واختار الأول السيد في المدارك معللا له بانتفاء الضرر مع وجود المندوحة فيزول المقتضي.

أقول : ويؤيده أيضا ان المكلف لا يخرج عن عهدة التكليف يقينا إلا بالإتيان بما كلف به شرعا ، خرج ما إذا استلزم فعله ضرر التقية ونحوها ، فيجوز له الخروج عن الأول إلى ما يندفع به الضرر ، وإلى هذا مال بعض أفاضل متأخري المتأخرين.

الا ان المفهوم من الأخبار الواردة في استحباب الجماعة مع المخالفين ـ والحث


العظيم عليها ، والثواب الموعود عليها ، حتى ان من صلى معهم كان كمن صلى مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مع استلزام ذلك ترك بعض الواجبات أحيانا ـ مما يؤيد القول بالجواز مع المندوحة كما هو خيرة الشهيدين.

وقد صرح المحقق الشيخ علي (رحمه‌الله) في بعض فوائده بالتفصيل بين ما إذا كان المأمور به في التقية بطريق الخصوص فيصح وان كان ثمة مندوحة ، أو بطريق العموم فلا يجزى إلا مع عدم المندوحة ، وظاهر كلامه (قدس‌سره) يعطي ان وجه الفرق حيث ان الشارع في الأول بسبب نصه على ذلك الحكم بخصوصه اقامه مقام المأمور به حين التقية بخلاف الثاني.

(العاشر) مجز بلا خلاف ، لكن الخلاف في انه لو تمكن في العبادة قبل خروج وقتها من الإتيان بها على وجهها هل تجب الإعادة أم لا؟

صرح المحقق الشيخ علي (رحمه‌الله) بتفريع ذلك على ما قدمنا نقله عنه من التفصيل بأنه ان كان متعلق التقية مأذونا فيه بخصوصه كغسل الرجلين في الوضوء والتكتف في الصلاة ، فإنه إذا فعل على الوجه المأذون فيه كان صحيحا مجزئا وان كان للمكلف مندوحة من فعله ، التفاتا إلى ان الشارع اقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقية كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان الإتيان به امتثالا فيقتضي الإجزاء ، قال : «وعلى هذا فلا تجب الإعادة ولو تمكن منها على غير وجه التقية قبل خروج الوقت ، ولا أعلم في ذلك خلافا من الأصحاب» وبملخص هذا الكلام صرح في شرح القواعد ثم قال : «واما إذا كان متعلقها لم يرد فيه نص على الخصوص كفعل الصلاة إلى غير القبلة ، والوضوء بالنبيذ ، ومع الإخلال بالموالاة فيجف أعضاء الوضوء كما يراه بعض العامة فإن المكلف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه إظهار الموافقة لهم ثم ان أمكن الإعادة في الوقت بعد الإتيان به لوفق التقية وجبت ، ولو خرج الوقت نظر


في دليل يدل على وجوب القضاء ، فان حصل الظفر به أوجبناه وإلا فلا ، لان القضاء انما يجب بأمر جديد. ونقل عن بعض أصحابنا القول بعدم الإعادة مطلقا ، نظرا إلى كون المأتي به شرعيا فيكون مجزئا على كل تقدير. ورد بأن الاذن في التقية من جهة الإطلاق لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة» انتهى. وأنت خبير بأنه ان اشترط في جواز العمل بالتقية عدم المندوحة ، يلزم على قوله انه مع المندوحة تجب الإعادة وقتا وخارجا.

ثم لا يخفى عليك ان المسألة لخلوها عن النص الصريح لا تخلو عن الاشكال وما ذكره من التعليل في المقام عليل. إلا ان الذي يقرب إلى الفهم العليل والذهن الكليل ـ من اخبار حفظة التنزيل الدالة على الأمر بمخالطة العامة ومعاشرتهم وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم. حتى ورد «ان استطعتم ان تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا» (1). والتأكيد على الصلاة معهم ونحو ذلك مع استلزام ذلك المخالفة في بعض الأفعال البتة ـ هو صحة ما أوجبته التقية مطلقا ، سواء كان مأمورا به بطريق الخصوص أو العموم ، له مندوحة عن الإتيان به تقية أم لا ، فان المفهوم من تلك الأخبار ان الغرض من ذلك هو تأليف القلوب واجتماعها لدفع الضرر والطعن على المذهب واهله كما يشعر به قول الصادق (عليه‌السلام) (2) بعد الأمر بما قدمنا ذكره : «فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية رحم الله جعفرا ما كان أحسن ما يؤدب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا فعل الله بجعفر ما كان اسوأ ما يؤدب أصحابه». لا ان الغرض إظهار الموافقة لهم في ذلك الجزئي الخاص لدفع الضرر المترتب عليه خاصة ، على انه في صورة ما إذا كان مستند التقية الأخبار المطلقة ، فمتى اقتضت ضرورة التقية الموافقة لهم وكان ذلك هو الواجب عليه شرعا فاتى به ـ وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ـ فالإعادة وقتا وخارجا يحتاج إلى دليل من غير فرق بين المقامين ، لان هذه المسألة في التحقيق فرد من افراد مسألة

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب ـ 75 ـ من أبواب الجماعة.


ذوي الأعذار ، الأظهر والأشهر فيها عدم الإعادة. وتعليل وجوب الإعادة في الوقت دون الخارج ـ بأن إطلاق الإذن في التقية لا يقتضي أزيد من إظهار الموافقة مع الحاجة ـ فيه انه ان كان ما فعله إظهارا للموافقة هو فرضه في تلك الحال شرعا فقد مضى بعد فعله على الصحة فاعادته مع عدم الدليل لا وجه لها ، وإلا فالواجب الإعادة في المقامين وقتا وخارجا وهو لا يقول به.

(الحادي عشر) ـ المشهور بين الأصحاب كراهة التكرار في المسح ، وعن ظاهر الخلاف والمبسوط التحريم ، وهو ظاهر المقنعة ، وعن ابن حمزة انه عده من التروك المحرمة ، وعن ابن إدريس انه جعله بدعة ، واحتمل في الذكرى ان يكون مرادهم التكرار مع اعتقاد شرعيته.

ويدل على الوحدة في المسح اخبار الوضوء البياني (1) ومرفوعة أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «مسح الرأس واحدة ...». وعدم الدليل على الزائد لأنه حكم شرعي وإثباته يحتاج إلى دليل ، وربما ظهر من الانتصار دعوى الإجماع على ذلك.

لكن نقل شيخنا الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد انه قال في بيان كيفية الوضوء : «وفي مسح الرجلين يبسط كفه اليمنى على قدمه الأيمن ويجذبها من أصابع رجله إلى الكعب ومن الكعب إلى أطراف أصابعه ، فمهما اصابه المسح من ذلك أجزأه وان لم يقع على جميعه ، ثم يفعل ذلك بيده اليسرى على رجله اليسرى» انتهى.

وما ربما يتوهم ـ من تناول ظواهر أخبار التثنية (3) كقولهم : «الوضوء مثنى مثنى». لذلك ـ مردود بما سيجي‌ء تحقيقه ان شاء الله تعالى ، ورواية يونس (4) قال :

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 15 ـ من أبواب الوضوء.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 23 ـ من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 31 ـ من أبواب الوضوء.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 20 ـ من أبواب الوضوء.


«أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه‌السلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ومن الكعب إلى أعلى القدم». ـ مردود بما في تتمتها من قول الراوي : «ويقول : الأمر في مسح الرجلين موسع : من شاء مسح مقبلا ومن شاء مسح مدبرا فإنه من الأمر الموسع ان شاء الله» لان الظاهر ان قوله (عليه‌السلام) ذلك تعليل لما فعله من الإقبال تارة والأدبار اخرى. وربما كان مستند ابن الجنيد فيما قدمنا نقله عنه إلى صدر هذه الرواية اما بقطعها عن عجزها أو بحمل العجز على عدم الارتباط بالصدر.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *