ج18 - العلم والرزق والتجارة

بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

كتاب التجارة

وفيه مقدمات وفصول:

المقدمة الأولى

اعلم انه قد استفاضت الاخبار بالحث على طلب الرزق والكسب الحلال ، ولا سيما بطريق التجارة مع الإجمال في الطلب والاقتصار على الحلال. وعلى هذا كان جملة فضلاء أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، كزرارة بن أعين ، وهشام بن الحكم ، ومحمد ابن النعمان مؤمن الطاق ، ومحمد بن عمير وأضرابهم ، كما لا يخفى على من لاحظ السير والاخبار.

قال الله تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا



مِنْ رِزْقِهِ» (1). وقال سبحانه «فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ» (2). وقال تعالى «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ» (3).

وروى ثقة الإسلام ، عن ابى خالد الكوفي ، رفعه الى ابى جعفر عليه‌السلام ، قال : قال رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العبادة سبعون جزء فضلها طلب الحلال» (4).

وعن عمر بن يزيد ـ في الموثق ـ قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل ، قال : لأقعدن في بيتي ولأصلين ولأصومن ولأعبدن ربي ، فأما رزقي فسيأتيني ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم» (5).

وعن عمر بن يزيد قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أرأيت لو ان رجلا دخل بيته وأغلق بابه كان يسقط عليه شي‌ء من السماء؟» (6).

وعن أيوب أخي أديم بياع الهروي قال : كنا جلوسا عند ابى عبد الله عليه‌السلام إذا قبل العلاء بن كامل فجلس قدام ابى عبد الله عليه‌السلام فقال : ادع الله ان يرزقني في دعة ، فقال : لا أدعو لك ، اطلب كما أمرك الله». (7).

وعن سليمان بن معلى بن خنيس عن أبيه قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل وانا عنده ، فقيل له : أصابته الحاجة ، فقال : فما يصنع اليوم؟ قيل : في البيت يعبد ربه! قال : من اين قوته؟ قيل : من عند بعض إخوانه! فقال أبو عبد الله : والله

__________________

(1) سورة الملك : 15.

(2) سورة الجمعة : 10.

(3) سورة المزمل : 20.

(4) الكافي ج 5 ص 78 رقم : 6.

(5) الكافي ج 5 ص 77 رقم : 1.

(6) «««رقم : 2.

(7) الكافي ج 5 ص 78 رقم : 3.


الذي يقوته أشد عبادة منه» (1).

وعن أبي حمزة عن ابى جعفر عليه‌السلام : قال : «من طلب الرزق في الدنيا استعفافا عن الناس ، وتوسيعا على اهله ، وتعطفا على جاره ، لقي الله عزوجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر» (2).

وعن على بن الغراب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ملعون من القى كله عن الناس» (3).

وروى المشايخ عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «اوحى الله عزوجل الى داود عليه‌السلام : انك نعم العبد لولا انك تأكل من بيت المال ، ولا تعمل بيدك شيئا ، قال : فبكى داود عليه‌السلام : أربعين صباحا ، فأوحى الله عزوجل الى الحديدان لن لعبدي داود عليه‌السلام فألان الله تعالى له الحديد ، وكان يعمل كل يوم درعا ، فيبيعها بألف درهم ، فعمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألفا ، واستغنى عن بيت المال» (4).

وروى الصدوق عن المعلى بن خنيس قال : رآني أبو عبد الله عليه‌السلام وقد تأخرت عن السوق ، فقال : «اغد الى عزك» (5).

وبإسناده عن روح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «تسعة أعشار الرزق في التجارة» (6).

وروى في كتاب الخصال عن عبد المؤمن الأنصاري عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «البركة عشرة أجزاء تسعة أعشارها في التجارة ، والعشر الباقي

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 78 رقم : 4.

(2) الكافي ج 5 ص 78 رقم : 5.

(3) الكافي ج 5 ص 77 رقم : 7.

(4) الكافي ج 5 ص 74 رقم : 5.

(5) الوسائل ج 12 ص 3 رقم : 2.

(6) الوسائل ج 12 ص 3 رقم : 3.


في الجلود» (1).

قال الصدوق ـ قدس‌سره ـ يعنى بالجلود : الغنم ، واستدل بما يأتي.

وروى فيه عن الحسين بن زيد بن على عن أبيه زيد بن على عن آبائه عليهم‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي في السابياء ، يعنى الغنم» (2).

وروى في الكافي عن محمد الزعفراني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من طلب التجارة استغنى عن الناس ، قلت : وان كان معيلا؟ قال : وان كان معيلا ، ان تسعة أعشار الرزق في التجارة» (3).

وعن هشام الأحمر قال : كان أبو الحسن عليه‌السلام يقول لمصادف : اغد الى عزك» ـ يعنى السوق ـ (4).

وعن على بن عقبة قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لمولى له : «يا عبد الله ، احفظ عزك قال : وما عزى جعلت فداك؟ قال : غدوك الى سوقك ، وإكرامك نفسك». وقال لاخر مولى له : «مالي أراك تركت غدوك الى عزك؟ قال : جنازة أردت ان أحضرها ، قال : فلا تدع الرواح الى عزك» (5).

وروى المشايخ الثلاثة عن سدير ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اى شي‌ء على الرجل في طلب الرزق؟ قال : إذا فتحت بابك وبسطت بساطك ، فقد قضيت ما عليك» (6).

وروى في الكافي عن الطيار ، قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : اى شي‌ء تعالج؟

__________________

(1) الخصال ج 2 ص 445 ، الوسائل ج 12 ص 3 رقم : 4.

(2) الخصال ج 2 ص 446 ، الوسائل ج 12 ص 3 رقم : 5.

(3) الكافي ج 5 ص 148 ص 3 رقم : 3.

(4) الكافي ج 5 ص 149 رقم : 7.

(5) الوسائل ج 12 ص 5 رقم : 13.

(6) الوسائل ج 12 ص 34 رقم : 1.


ـ أي شي‌ء تصنع؟ ـ فقلت ما انا في شي‌ء ، فقال فخذ بيتا واكنس فنائه ، ورشه ، وابسط فيه بساطك فإذا فعلت ذلك فقد قضيت ما يجب عليك ، قال : فقدمت الكوفة ففعلت فرزقت» (1).

وروى في الكافي والتهذيب عن أبي عمارة الطيار قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انى قد ذهب مالي ، وتفرق ما كان في يدي ، وعيالي كثير! فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : إذا قدمت الكوفة ، فافتح باب حانوتك وابسط بساطك ، وضع ميزانك وتعرض للرزق ربك.

قال : فلما ان قدم الكوفة ، فتح باب حانوتة وبسط بساطه ، ووضع ميزانه ، فتعجب من حوله من جيرانه انه ليس في بيته قليل ولا كثير من المتاع ، ولا عنده شي‌ء! فجاءه رجل فقال : اشتر لي ثوبا ، قال : فاشترى له ثوبا ، وأخذ ثمنه وصار الثمن اليه ، قال ثم جاءه آخر فقال له : يا أبا عمارة اشتر لي ثوبا ، فطلب له في السوق واشترى له ثوبا وأخذ ثمنه ، فصار في يده ، وكذلك يصنع التجار ، يأخذ بعضهم من بعض ، ثم جائه رجل آخر فقال له يا أبا عمارة ان عندي عدلا من كتان ، فهل تشتريه منى وأؤخرك بثمنه سنة؟ قال : نعم ، أحمله وجئني به

قال : فحمله اليه ، فاشتراه منه بتأخير سنة ، قال : فقام الرجل فذهب ثم أتاه آت من أهل السوق ، فقال له : يا أبا عمارة ما هذا العدل؟ قال هذا عدل اشتريته ، قال يعنى نصفه واعجل لك ثمنه ، قال : نعم ، فاشتراه منه وأعطاه نصف المتاع وأخذ نصف الثمن.

قال : فصار في يده الباقي الى سنة ، قال : فجعل يشترى بثمنه الثوب والثوبين ، ويعرض ويشترى ويبيع ، حتى أثرى وعز وجهه (2) وصار معروفا». (3).

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 34 رقم : 2.

(2) في نسخة الكافي : وعرض وجهه.

(3) الكافي ج 5 ص 304 حديث : 3.


وعن أبي حمزة الثمالي ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع : الا ان الروح الأمين نفث في روعي (1) انه لا يموت نفس حتى يستكمل رزقها ، فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شي‌ء من الرزق ان تطلبوه بشي‌ء من معصية الله ، فان الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ، ولم يقسمها حراما فمن اتقى الله عزوجل وصبر آتاه الله برزقه من حله. ومن هتك حجاب الستر وعجل فأخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال وحوسب عليه يوم القيامة» (2).

وبهذا المضمون أخبار عديدة ، وروى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن آبائه (ع) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ورواه في الفقيه مرسلا قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم العون على تقوى الله الغنى» (3).

وروى في الكافي عن عمرو بن جميع قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «لا خير فيمن لا يحب جمع المال من حلال يكف به وجهه ويقضى به دينه ، ويصل به رحمه» (4).

وعن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «نعم العون على الآخرة الدنيا» (5).

وعن على الأحمسي ، عن رجل عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : «نعم العون الدنيا ، على طلب الآخرة» (6).

وروى في الفقيه مرسلا قال : قال الصادق عليه‌السلام : «ليس منا من ترك دنياه لاخرته ،

__________________

(1) الروع ـ بضم الراء ـ : سواد القلب ، والمراد : روحه الكريمة كناية عن الباطن.

(2) الوسائل ج 12 ص 27 حديث : 1.

(3) الكافي ج 5 ص 71 حديث : 1.

(4) الكافي ج 5 ص 72 حديث : 5.

(5) الكافي ج 5 ص 72 حديث : 9.

(6) الكافي ج 5 ص 73 حديث : 14.


ولا آخرته لدنياه» (1).

قال : روى عن العالم عليه‌السلام انه قال : «اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لاخرتك كأنك تموت غدا» (2).

إذا عرفت ذلك ففي هذا المقام فوائد لطيفة ، وفرائد منيفة ، تهش إليها الطباع القويمة ، وتلتذ بها الإسماع السليمة :

الفائدة الأولى

اعلم انه كما استفاضت الأخبار بالأمر بطلب الرزق وذم تاركه ، حتى ورد لعن من القى كله على الناس ، كما تقدم (3) وورد الترغيب فيه كما تقدم ، حتى ورد ايضا ان العبادة سبعون جزأ ، أفضلها طلب الحلال ، كما قد استفاضت الاخبار بطلب العلم ووجوب التفقه في الدين وانه فريضة على كل مسلم كما في الكافي (4) والتهذيب وغيره من الاخبار المتكاثرة بذلك.

وجملة من عاصرناه من علمائنا الاعلام ومشايخنا الكرام ومن سمعنا به قبل هذه الأيام كلهم كانوا على العمل بهذه الأخبار ، فإنهم كانوا مشغولين بالدرس والتدريس ونشر أحكام الشريعة والتصنيف والتأليف من غير اشتغال بطلب المعاش وغير ذلك مع ما عرفت من تلك الاخبار من مزيد الذم لتارك الطلب حتى ورد لعنه ، الدال على مزيد الغضب.

وحينئذ فلا بد من الجمع بين اخبار الطرفين على وجه يندفع به التنافي من البين ، وذلك بأحد وجهين :

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 49 حديث : 1.

(2) الوسائل ج 12 ص 49 حديث : 2.

(3) راجع : الكافي ج 5 ص 72.

(4) راجع : الكافي ـ الأصول ـ ج 1 ص 30 فما بعد.


الأول ـ ولعله الأظهر ، كما هو بين علمائنا أشهر ـ تخصيص الاخبار الدالة على وجوب طلب الرزق بهذه الأخبار الدالة على وجوب طلب العلم ، بان يقال بوجوب ذلك على غير طالب العلم المشتغل بتحصيله واستفادته أو تعليمه وافادته.

وبهذا الوجه صرح شيخنا الشهيد الثاني في كتاب «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» حيث قال في جملة شرائط تحصيل العلم ما لفظه :

«وان يتوكل على الله ويفوض أمره اليه ولا يعتمد على الأسباب فيوكل إليها وتكون وبالا عليه ، ولا على أحد من خلق الله تعالى ، بل يلقى مقاليد امره الى الله تعالى في امره ورزقه وغيرهما يظهر له من نفحات قدسه ولحظات أنسه ما يقوم به أوده ، ويحصل مطلوبه ، ويحصل به مراده. وقد ورد في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ان الله تعالى قد تكفل لطالب العلم برزقه خاصة عما ضمنه لغيره» بمعنى ان غيره يحتاج إلى السعي على الرزق حتى يحصل غالبا ، وطالب العلم لا يكلف بذلك بل بالطلب ، وكفاه مؤنة الرزق ان أحسن النية وأخلص العزيمة ، وعندي في ذلك من الوقائع والدقائق ما لو جمعته بلغ ما يعلمه الله تعالى من حسن صنيع الله بي وجميل معونته ، منذ اشتغلت بالعلم وهو مبادي عشر الثلاثين وتسعمائة ، إلى يومي هذا ، وهو منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة وبالجملة ليس الخبر كالعيان.

وروى شيخنا المقدم محمد بن يعقوب الكليني ـ بإسناده إلى الحسين بن علوان ، قال : كنا في مجلس نطلب فيه العلم وقد نفدت نفقتي في بعض الاسفار ، فقال لي بعض أصحابنا : من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت : فلانا : فقال : إذا والله لا تسعف حاجتك (1) ولا يبلغك أملك ، ولا تنجح طلبتك! قلت : وما علمك رحمك الله؟ قال ان أبا عبد الله عليه‌السلام : حدثني أنه قرأ في بعض الكتب : ان الله تبارك وتعالى يقول وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي ، لأقطعن أمل كل مؤمل (من الناس) غيري باليأس ، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ولأنحينه من قربى ، ولأبعدنه من فضلي ، أيؤمل

__________________

(1) اى لا تقضى.


غيري في الشدائد ، والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري؟ وبيدي مفاتيح الأبواب ، وهي مغلقة.

وبابي مفتوح لمن دعاني فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها ، ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجائه مني؟! جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي وأمرتهم ان لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي فلم يثقوا بقولي! ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي انه لا يملك كشفها أحد غيري الا من بعد إذني فما لي اراده لاهيا عني ، أعطيته بجودي ما لم يسألني ، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده ، وسأل غيري. أفيرانى ابدأ بالعطاء قبل المسألة ثم اسأل فلا أجيب سائلي! أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟! أو ليس الجود والكرام لي؟! أو ليس العفو والرحمة بيدي؟! أو ليس انا محل الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟! أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟!.

فلو ان أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة ، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟! ،

فيا بؤسا للقانطين من رحمتي ويا بؤسا لمن عصاني ، ولم يراقبني (1).

ورواه الشيخ المبرور بسند آخر عن سعيد بن عبد الرحمن ، وفي آخره : «فقلت : يا ابن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أمل على ، فأملأه على ، فقلت : لا والله ما اسأله حاجة بعدها.

أقول : ناهيك بهذا الكلام الجليل الساطع نوره من مطالع النبوة على أفق الولاية من الجانب القدسي ، حاثا على التوكل على الله وتفويض الأمر اليه ، والاعتماد في جميع المهمات عليه ، فما عليه مزيد من جوامع الكلام في هذا المقام» (2).

__________________

(1) الكافي ـ الأصول ـ ج 2 ص 66 ـ 67.

(2) منية المريد ص 46 ـ 47 طبعة النجف.


انتهى كلام شيخنا المشار إليه ، أفاض الله شئابيب قدسه عليه.

أقول : ويدل على ذلك أيضا بأصرح دلالة ما رواه شيخنا ثقة الإسلام في الكافي أيضا بإسناده ، الى ابى إسحاق السبيعي عمن حدثه قال سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «ايها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم والعمل به ، الا وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، ان المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه ، وسيفي لكم والعلم مخزون عند أهله ، وقد أمرتم بطلبه من اهله فاطلبوه (1).

ولا يخفى ما في هذا الخبر من الصراحة في المدعى. اما الأمر بطلب العلم دون طلب المال ، لان الرزق كما ذكره عليه‌السلام مقسوم مضمون وهو إشارة إلى قوله تعالى : «نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا» (2) وقوله تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلّا عَلَى اللهِ رِزْقُها» (3).

ويؤكده ما رواه شيخنا المذكور في كتابه المشار اليه ، بسنده عن ابى جعفر ـ عليه‌السلام ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله ـ عزوجل ـ وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت امره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أوته منها الا ما قدرت له. وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني ، لا يؤثر عبد هواي على هواه الا استحفظته ملائكتي وكفلت السموات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر وآتته الدنيا وهي راغمة (4).

وقد حكى لي والدي العلامة عن جمع من فضلاء بلادنا (البحرين) الذين بلغوا من الفضل علما وعملا وتقوى ونبلا ما هو أشهر من ان ينقل :

__________________

(1) الكافي ـ الأصول ـ ج 1 ص 30 حديث : 4.

(2) سورة الزخرف : 32.

(3) سورة هود : 6.

(4) الكافي ـ الأصول ـ ج 2 ص 335 حديث : 2.


منهم العلامة الفقيه الشيخ سليمان بن على الشاخورى وهو استاد شيخنا الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني ، ومنهم العلامة المحقق المدقق الشيخ محمد بن يوسف المعابى البحراني ، ومنهم الشيخ الفقيه الذي رجعت إليه رئاسة البلاد في زمانه امرا ونهيا وفتوى ، الشيخ محمد بن سليمان البحراني ، فإنهم كانوا في مبدء الاشتغال على غاية من الفقر والحاجة ، حتى ان الشيخ سليمان بن على المذكور ، كان يحضر الدرس في حلقة الشيخ العلامة الشيخ على بن سليمان البحراني ، وهو أحد تلامذة شيخنا البهائي وهو أول من نشر علم الحديث بالبحرين وكان الشيخ سليمان المذكور يحضر حلقة درسه حتى إذا صار قريب الظهر ودخل الشيخ على البيت لأجل الغذاء ، وتفرق المجلس ، مضى الشيخ المزبور للصحراء في وقت الربيع وأكل من حشائش التراب ما يسد جوعه ، ثم بعد خروج الشيخ يعود للحضور.

ومن هذا القبيل حكايات الباقين مما يطول بنقله الكلام. وحيث انهم رضوان الله عليهم طلقوا الدنيا وقصروا على الرغبة في الأخرى ، ارتقوا من الدنيا أعلى مراتبها وانقادت لهم بأزمتها وتراقيها حتى صار كل منهم نابغة زمانه ونادرة أو انه ، وهو وفق الحديث القدسي المتقدم.

لكن ينبغي ان يعلم ان هذه المرتبة ليست سهلة التناول لكل طالب ، ولا ميسرة الا بإخلاص النية له في طلب العلم ، فان مدار الأعمال على النيات ، وبسببها يكون العلم تارة خزفة لا قيمة لها ، وتارة جوهرة فأخره لا يعلم قيمتها ، لعظم قدرها ، وتارة يكون وبالا على صاحبه مكتوبا في ديوان السيئات ، وان كان ما اتى به بصورة الواجبات.

فيجب على الطالب ان يقصد بطلبه الإخلاص لوجه الله تعالى وامتثال امره ، وإصلاح نفسه وإرشاد عبادة إلى معالم دينه ، ولا يقصد بذلك شيئا من الأعمال الدنيوية من تحصيل مال ، وجاه ، ورفعة وشهرة بين الناس ، أو المباهاة والمفاخرة للاقران ، والترفع على الاخوان ونحو ذلك مما يوجب البعد منه سبحانه وتعالى ، والخذلان ، مضافا الى


ذلك التوكل عليه سبحانه في جميع الأمور ، والقيام بأوامره ونواهيه في الورود والصدور كما تقدم في كلام شيخنا المذكور.

الثاني : التفصيل في ذلك ويتوقف على بيان كلام في المقام :

وهو انه ينبغي ان يعلم أولا : ان العلم منه ما هو واجب وما هو مستحب ، والأول منه ما هو واجب عينا ومنه ما هو واجب كفاية. فأما الواجب عينا فهو العلم بالله سبحانه وصفاته وما يجوز عليه ويمتنع ، حسبما ورد في الكتاب العزيز والسنة النبوية على الصادع بها وآله أشرف صلاة وتحية ، وما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أحوال المبدء والمعاد مما علم تواتره من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو تقليدا تسكن اليه النفس ويطمئن به القلب وما يحصل به الإذعان والتصديق ، وفاقا لجمع من متأخري أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وما زاد على ذلك من الأدلة التي قررها المتكلمون والخوض في دقائق علم الكلام فهو فرض كفاية على المشهور صيانة للدين عن شبه المعاندين والملحدين.

ومن الواجب العيني أيضا تحصيل العلم بواجبات الصلاة حيث يكلف بها ولو تقليدا وواجبات الصيام كذلك ، والزكاة ممن يخاطب بها ، والحج كذلك ايضا وهكذا من كل ما يجب على المكلف بوجود أسبابه ، وما زاد من تحصيل العلوم في هذه الحال على ما ذكرناه فهو مستحب.

ومن الواجب العيني أيضا ما يحصل به تطهر القلب من الملكات الردية المهلكة ، كالرياء والحسد والعجب والكبر ونحوها كما حقق في محل مفرد ، وهو من أجل العلوم قدرا وأعلاها ذكرا بل هو الأصل الأصيل للعلوم الرسمية ، وان كان الان قد اندرست معالمه بالكلية وانطمست مراسمه العلية ، فلا يرى له اثر ولا يسمع له خبر.

واما الواجب كفاية فهو ما فوق هذه المرتبة فيما تقدم ذكره حتى يبلغ درجة العلم بالأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية ، وهو المعبر عنه في ألسنة الفقهاء بالاجتهاد.

هذا إذا لم يوجد من يتصف به ويقوم به في ذلك القطر ، والا كان ذلك مستحبا


لان الواجب الكفائي مع وجود من يقوم به يسقط وجوبه عن الباقين ، فيكون مستحبا ويكون هذا من القسم الثاني في التقسيم الأول. وما يتوقف عليه الوصول إلى مرتبة الاجتهاد من المعلوم الاتية وغيرها تابع له في الوجوب والاستحباب.

ثم اعلم ايضا ان تحصيل الرزق منه ما يكون واجبا وهو ما يحصل به البلغة والكفاف لنفسه وعياله الواجبي النفقة عليه بحيث يخرج عن ان يكون مضيقا. ومنه ما يكون مستحبا ، وهو طلب ما زاد على ذلك للتوسعة على نفسه وعياله ، وهو الصرف في وجوه البر والخيرات. ومنه ما يكون مكروها وهو ما يقصد به الزيادة في جمع المال وادخاره والمكاثرة والمباهاة به والحرص عليه. ومنه ما يكون محرما وهي ما يقصد بتحصيله الصرف في اللهو واللعب والمعاصي ونحو ذلك.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان وجه ما أشرنا إليه آنفا من التفصيل ، هو ان هيهنا صورا :

(احديها) تعارض الواجب العيني من طلب العلم مع الواجب من طلب الرزق ، والظاهر ان الواجب هنا تقديم طلب الرزق ان انسدت عليه وجوه التحصيل مما سواه لأن في تركه حينئذ إلقاء باليد إلى التهلكة. والمعلوم من الشارع في جملة من الأحكام تقديم مراعاة الأبدان على الأديان ، ولهذا أوجب الإفطار على المريض المتضرر بالصوم وان أطاقه. والتيمم على المتضرر بالماء وان لم يبلغ المشقة ، والقعود في الصلاة على المتضرر بالقيام. وأباح الميتة لمن اضطر إليها ، ونحو ذلك مما يقف عليه المتتبع. اما لو حصل له من وجه الزكاة أو نحوها مما يمونه وجب تقديم العلم البتة.

(وثانيها) تعارض الواجب العيني من العلم ، مع المستحب من طلب الرزق ولا ريب في تقديم طلب العلم.

(وثالثها) تعارض الواجب من طلب الرزق ، مع الواجب الكفائي من طلب العلم ، ولا ريب أيضا في تقديم طلب الرزق لما ذكر في الصورة الأولى.


هذا إذا لم يمكن الجمع بين الأمرين ، والأوجب الجمع بقدر الإمكان في الواجبين. وباقي الصور يعرف بالمقايسة.

ولا يخفى ان ما ذكرناه في هذا المقام وان كان خارجا عن موضوع الكتاب ، الا ان فيه فوائد جمة ، لا تخفى على ذوي الأفهام والألباب والله العالم.

الفائدة الثانية

قد عرفت مما قدمناه من الاخبار ومثلها غيرها مما لم نذكره ، الدلالة على وجوب طلب الرزق ، واستحباب جمع المال بتجارة كان أو زراعة أو صناعة ، مع انا نرى في هذه الأوقات ولا سيما في أرض العراق زيادة جور السلاطين وظلمهم على من اشتغل بشي‌ء من ذلك حتى آل الأمر إلى تركهم ذلك أو الفرار من ديارهم الى بعض الأقطار ومنه يحصل الإشكال في العمل بتلك الاخبار ، اللهم الا ان يقال : ان السبب التام في تعدى الحكام على أولئك الأنام ، انما هو تعديهم الحدود الشرعية والأحكام ، في أعمالهم أو غيرها ، وعدم القيام بما أوجبه الملك العلام.

ويدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال الله تعالى : «انا خلقت الملوك وقلوبهم بيدي ، فأيما قوم أطاعوني جعلت قلوب الملوك عليهم رحمة ، وأيما قوم عصوني ، جعلت قلوب الملوك عليهم سخطة. الا لا تشغلوا أنفسكم بسبب المملوك. توبوا الى ، أعطف قلوبهم عليكم» (1).

وهو كما ترى ظاهر الدلالة واضح المقالة ، في ان تسلط الملوك عليهم وظلمهم لهم انما نشأ من ظلمهم أنفسهم ، وتعديهم الحدود الشرعية ، ومن ثم منعهم من سب الملوك وتظلمهم من الحكام ، فإنه سبحانه هو الذي سلطهم عليهم ، وأمرهم بالتوبة والإنابة ، ليعطف قلوب الحكام عليهم.

ويؤيده ما ورد في بعض الاخبار التي لا يحضرني الان موضعها ، من قوله تعالى :

__________________

(1) أمالي الصدوق ص 220 ـ بحار الأنوار ج 75 ص 341.


«إذا عصاني من عرفني سلطت عليه من لا يعرفني» (1).

وما قيل أيضا : أعمالكم عمالكم. وبه يزول الاشكال من هذا المجال والله العالم.

الفائدة الثالثة

قد دلت جملة من الاخبار المتقدمة على ان الواجب هو التعرض للرزق ولو بالجلوس في السوق ، متعرضا لذلك والله سبحانه مسبب الأسباب ، يسوق اليه رزقه ، إذا كان جلوسه عن نية صادقة وتوكل على الله سبحانه وثيق ، فإنه تعالى هو الرزاق ، واما ما يفعله بعض أبناء هذا الزمان من شغل فكره وبدنه بالسعي في التحصيل والكدح والحيل ونحوها ليستغرق أوقاته ويشتغل بها عن اقامة الطاعات والمحافظة على السنن والواجبات ولا يبالي بتحصيله من وجوه الحلال كان أو من الشبهات أو المحرمات ، فهو من تسويلات الشيطان الرجيم ، وفعله الذميم.

ويعضد ما قلناه ما تقدم مما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع : «الا ان الروح الأمين نفث في روعي انه لا يموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله عزوجل وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شي‌ء من الرزق ان تطلبوه بشي‌ء من معصية الله ، فان الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالا ولم يقسمها حراما ، فمن اتقى الله عزوجل وصبر آتاه الله برزقه من حله ، ومن هتك حجاب الستر وعجل فأخذه من غير حله ، قص به من رزقه الحلال ، وحوسب عليه يوم القيامة» (2).

وبمضمونه أخبار عديدة وفي بعضها : «لو كان العبد في جحر لأتاه الله رزقه» (3).

__________________

(1) الكافي ج 2 ص 276 حديث : 31.

(2) الكافي ج 5 ص 80 حديث : 1.

(3) الكافي ج 5 ص 81 حديث : 4 والجحر : الغار البعيد الغور. وهو بتقديم الجيم المفتوحة.


وفي آخر عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «كم من متعب نفسه مقتر عليه. ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير» (1).

وبالجملة فإن الإنسان متى أيقن ان الرزق بيد الله سبحانه وانه قد قسمه من عالم الأزل ، وضمن إيصاله لصاحبه وانه انما أمره بالطلب والتعرض له من مظانه ، لكي يأتيه كما وعد به ، وقد روى : «الرزق رزقان ، رزق تطلبه ورزق يطلبك» (2).

وحينئذ فالعاقل العالم بذلك لا يهم بذلك ولا يشغل فكره ، ولا يتعب ليله ونهاره ، ولا يتجاوز الحدود الشرعية في طلبه. ولكن الشيطان الرجيم والنفس الامارة ، والجهل بالأحكام الشرعية والحدود المرعية ، هي السبب في وقوع الناس في شباك (3) الخناس وتضييعهم الدين في طلب هذه الدنيا الدنية ، فإنهم يرون ان ما يحصلونه انما حصل بجدهم واجتهادهم وحيلهم وافكارهم وسعيهم الليل والنهار في ذلك ، وهذا هو الداء الذي لا دواء له.

وقد روى في الكافي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام كثيرا ما يقول : اعلموا علما يقينا ، ان الله عزوجل لم يجعل للعبد وان اشتد جهده وعظمت حيلته وكثرت مكابدته ، ان يسبق ما سمى له في الذكر الحكيم ، ولم يحل بين العبد في ضعفه وقلة حيلته ، ان يبلغ ما سمى له في الذكر الحكيم.

ايها الناس انه لن يزداد امرء نقيرا بحذقه ولم ينتقص امرء نقيرا لحمقه ، فالعالم لهذا العامل به أعظم الناس راحة في منفعته. والعالم لهذا التارك له أعظم الناس شغلا في مضرته. ورب منعم عليه مستدرج بالإحسان اليه ، ورب مغرور من الناس مصنوع له. فأفق أيها الساعي من سعيك وقصر من عجلتك ، وانتبه من سنة غفلتك» الحديث. (4).

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 81 حديث : 6.

(2) الوسائل ج 12 ص 31 حديث : 5.

(3) الشباك : جمع شبكة وهي المصيدة.

(4) الكافي ج 5 ص 82 حديث : 9.


الفائدة الرابعة

قد تقدم في الفائدة الأولى الإشارة الى ان الواجب العيني بالنسبة إلى العلم بالأحكام الشرعية ما يتوقف عليه صحة العمل ، الذي يشتغل به المكلف من حج أو زراعة أو تجارة فإنه لا بد من التفقه في ذلك العمل. ومعرفة أحكامه وما لا يجوز وما يصح به ويفسد ، فينبغي لمريد التجارة ان يبدأ بالتفقه فيما يتولاه منها ، ليتمكن بذلك من الاحتراز عما حرم الله تعالى عليه في ذلك ، ويعرف ما أحله وحرمه ، لا سيما الربا وبيع المجهول وشرائه ، مما يشترط فيه الوزن والكيل ، وبيع غير البالغ العاقل وشرائه ونحو ذلك مما سيأتي إنشاء الله تعالى في محله مما يوجب صحة البيع وفساده ، وآداب التجارة من مستحباتها ومكروهاتها ، وان كان أهل هذا الزمان والأيام لمزيد جهلهم بأحكام الملك العلام ، لا يبالون بما وقعوا فيه من حلال وحرام. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : التاجر فاجر ، والفاجر في النار ، الا من أخذ الحق واعطى الحق» (1).

وروى الصدوق عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سمعت عليا عليه‌السلام يقول على المنبر : «يا معشر التجار ، الفقه ثم المتجر ، الفقه ثم المتجر ، والله للربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا ، شوبوا إيمانكم بالصدق ، التاجر فاجر والفاجر في النار الا من أخذ الحق واعطى الحق».

ورواه في الكافي عن الأصبغ بن نباتة مثله (2).

وعن طلحة بن زيد عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم» (3).

قال : وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «لا يقعدن في السوق الا من يعقل الشراء

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 285 حديث : 5.

(2) الكافي ج 5 ص 150 رقم : 1.

(3) الوسائل ج 12 ص 283 رقم : 2.


والبيع» (1).

وقال الصادق عليه‌السلام على ما رواه شيخنا المفيد في المقنعة : «من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه ، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات» (2).

وروى في الكافي بسنده عن عمرو بن ابى المقدام عن جابر عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام عند كونه بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر ، فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا ، ومعه الدرة على عاتقه ، وكان لها طرفان ، وكانت تسمى السبيبة فيقف على أهل كل سوق ، فينادي : يا معشر التجار اتقوا الله عزوجل ، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم وأرعوا إليه بقلوبهم ، وسمعوا بآذانهم فيقول عليه‌السلام : قدموا الاستخارة وتبركوا بالسهولة واقتربوا من المبتاعين وتزينوا بالحلم ، وتناهوا عن اليمين وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن الظلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا و (أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ...) فيطوف في أسواق الكوفة ، ثم يرجع فيقعد للناس» (3).

ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا. وفي المحاسن مسندا في الصحيح عن محمد ابن قيس عن ابى جعفر عليه‌السلام نحوه. وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من باع واشترى فليحفظ خمس خصال ، والا فلا يشترين ولا يبيعن : الربا والحلف ، وكتمان العيب ، والحمد إذا باع والذم إذا اشترى» (4).

وعن احمد بن محمد بن عيسى رفع الحديث قال كان أبو أمامة صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اربع من كن فيه طاب مكسبه :

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 283 رقم : 4.

(2) الوسائل ج 12 ص 283 رقم : 4.

(3) الكافي ج 5 ص 151 رقم : 3.

(4) الكافي ج 5 ص 150 رقم : 2.


إذا اشترى لم يعب ، وإذا باع لم يحمد ، ولا يدلس ، وفيما بين ذلك لا يحلف» (1).

وروى الصدوق مرسلا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا معشر التجار ارفعوا رؤوسكم ، فقد وضح لكم الطريق ، تبعثون يوم القيامة فجارا الا من صدق حديثه ، قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التاجر فاجر ، والفاجر في النار الا من أخذ الحق واعطى الحق».

قال : قال عليه‌السلام : «يا معشر التجار صونوا أموالكم بالصدقة تكفر عنكم ذنوبكم ، وأيمانكم التي تحلفون فيها ، وتطيب لكم تجارتكم» (2).

وروى السيد رضى الدين بن طاوس في كتاب الاستخارات عن احمد بن محمد ابن يحيى قال : أراد بعض أوليائنا الخروج للتجارة ، فقال : لا اخرج حتى اتى جعفر بن محمد عليه‌السلام فأسلم عليه وأستشيره في امرى هذا واسأله الدعاء لي. قال : فأتاه فقال له : يا ابن رسول الله ، انى عزمت على الخروج إلى التجارة ، وانى آليت على نفسي ان لا اخرج حتى ألقاك وأستشيرك وأسألك الدعاء لي. قال : فدعا له وقال عليه‌السلام : عليك بصدق اللسان في حديثك ولا تكتم عيبا يكون في تجارتك ولا تغبن المسترسل (3) فان غبنه لا يحل. ولا ترض للناس الا ما ترضى لنفسك. وأعط الحق وخذه ولا تخف ولا تخن. فان التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم القيامة ، واجتنب الحلف فان اليمين الفاجرة تورث صاحبها النار ، والتاجر فاجر الأمن أعطى الحق وأخذه.

وإذا عزمت على السفر أو حاجة مهمة فأكثر الدعاء والاستخارة ، فان ابى حدثني عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعلم أصحابه الاستخارة كما يعلمهم السورة

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 285 رقم : 3.

(2) الوسائل ج 12 ص 285 رقم : 4 و 5 و 6.

(3) قال في مجمع البحرين : الاسترسال : الاستيناس والطمأنينة إلى الإنسان والثقة به فيما يحدثه. وأصله الكون والثبات. ومنه الحديث : أيما مسلم استرسل الى مسلم فغبنه فهو كذا ، ومنه : غبن المسترسل سحت. ومنه : غبن المسترسل ربا. منه قدس‌سره.


من القرآن» (1). الحديث.

أقول : قد تقدم في كتاب الصلاة في باب صلاة الاستخارة ان أحد معانيها : طلب الخير منه سبحانه ، وهو المراد هنا اى طلب الخير في البيع والشراء.

وما اشتمل عليه حديث عمرو بن ابى المقدام (2) من انه عليه‌السلام كان يطوف أسواق الكوفة والدرة على عاتقه. والدرة بكسر الدال : السوط ، والجمع : درر ، مثل سدرة وسدر.

وفي هذا الخبر : لها طرفان. وفي خبر آخر : لها سبابتان.

وقال في كتاب مجمع البحرين : الدرة ـ بالكسر ـ التي كان يضرب بها. وهو يرجع الى ما ذكرناه من السوط. فإنه الذي يضرب به في الحدود الشرعية. واما لفظ السبيبة فضبطه بعض المحدثين بالمهملة والمثناة التحتانية بين الموحدتين.

وظاهر كلام بعض أصحابنا المحدثين من متأخري المتأخرين : انه ربما كان الموجود من هذا اللفظ في الخبر انما هو بمركزين بعد السين أولهما باء موحدة ، والثانية تاء مثناة فوفانية.

قال : السبتة بكسر السين وسكون الموحدة قبل المثناة الفوقانية : جلود البقر تحذى منها النعال السبتية. فعلى هذه النسخة يمكن ان تكون درته عليه‌السلام مأخوذة منها والله العالم.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 285 رقم : 7.

(2) الوسائل ج 12 ص 284 رقم : 1. وتقدم في ص 20.


المقدمة الثانية

في آداب التجارة

وأوجبها وأهمها التفقه في الدين. وقد تقدم الكلام في ذلك وتقدمت الأخبار الدالة عليه بأوضح دلالة. ليعرف كيفية الاكتساب ويميز بين صحيح العقود وفاسدها لان العقد الفاسد لا يوجب نقل الملك عن مالكه. بل هو باق على ملك الأول. فيلزم من ذلك تصرفه في غير ملكه ويركب المآثم من حيث لا يعلم ، الى غير ذلك من المفاسد والمآثم المترتبة على الجهل.

ومن ثم استفاضت الاخبار ـ كما عرفت ـ بالحث على التفقه وتعلم أحكام التجارة.

ومنها انه يستحب ان يساوي بين المبتاعين والبائعين ، فالصغير عنده بمنزلة الكبير ، والغنى كالفقير ، والمجادل كغيره ، والمراد ان لا يفاوت بينهما في الإنصاف بالمماكسة وعدمها.

والظاهر انه لو فاوت بينهما بسبب الدين والفضل فلا بأس. قيل : ولكن يكره للأخذ قبول ذلك ، حتى نقل ان السلف كانوا يوكلون في الشراء من لا يعرف ، هربا من ذلك.


والذي وقفت عليه في هذا المقام من الاخبار : ما رواه في الكافي عن عامر بن جذاعة ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام «انه قال في رجل عنده بيع فسعره سعرا معلوما فمن سكت عنه ممن يشترى منه باعه بذلك السعر ، ومن ماكسه وابى ان يبتاع منه زاده ،

قال : لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس فاما ان يفعله بمن ابى عليه وكايسه ويمنعه ممن لم يفعل ذلك فلا يعجبني الا ان يبيعه بيعا واحدا» (1).

أقول : قوله : عنده بيع اى متاع يبيعه ، والمراد بالزيادة يعنى من المتاع لا السعر ، كما ربما يتوهم من ظاهر السياق : والمراد ان من لم يماكسه يبيعه بسعره المعلوم ومن ماكسه نقص له السعر وزاده من المتاع. والظاهر ان تجويز الرجلين والثلاثة لما قدمناه من رعاية حالهم للفقر أو العلم والصلاح.

قيل : ويحتمل ان المعنى انه إذا كان التفاوت في السعر ، لأن المشترى منه يشترى جميع المتاع أو أكثره بيعا واحدا فيبيعه أرخص ممن يشترى منه شيئا قليلا كما هو الشائع فلا بأس. ولعله أظهر انتهى.

أقول : لا يخفى حسن هذا المعنى في حد ذاته ، اما فهمه من سياق الخبر فالظاهر انه لا يخلو من بعد.

وكيف كان فظاهر هذه الرواية ، كما ترى ، كراهة المفاوتة بسبب المماكسة وعدمها.

وما رواه في الكافي ـ أيضا ـ عن ميسر قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ان عامة من يأتيني من إخواني ، فحد لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلى غيره ، فقال : ان وليت أخاك فحسن ، والا فبع بيع البصير المداق» (2).

أقول : الظاهر ان قوله : «ان وليت أخاك» من التولية بمعنى البيع بالثمن الذي اشتريت من غير زيادة ولا نقصان ، وهو الربح والمواضعة. واما ما قيل من ان المراد

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 152 حديث : 10.

(2) الكافي ـ الفروع ـ ج 5 ص 153 حديث : 19 والتهذيب ج 7 ص 7 حديث 24.


بالتولية : الوعد بالإحسان ، أو هو بالتخفيف بمعنى المعاشرة واختبار الايمان فلا يخفى ما فيه من البعد الظاهر.

وظاهر الخبر انه البيع برأس المال ، وتجوز المداقة ، وهي المناقشة في الأمور ومنه الحديث «انما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا» (1).

وفي القاموس : المداقة ان تداق صاحبك في الحساب ، وظاهر الخبر : جواز كل من الأمرين ، وان كان الأول أفضل.

وقيل : ان المعنى : ان كان المشتري أخاك المؤمن فلا تربح عليه والا فبع بيع البصير المداق ، والأول ألصق بسياق الخبر ، والثاني أحسن وأظهر في حد ذاته وان أمكن حمل الخبر عليه.

(ومنها) كراهة الربح على المؤمن ، وعلى الموعود بالإحسان. اما الثاني فلما رواه في الكافي والتهذيب عن على بن عبد الرحيم عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : «إذا قال الرجل للرجل : هلم أحسن بيعك. يحرم عليه الربح» (2).

وهو مبالغة في الكراهة ، كما صرح به الأصحاب.

واما الأول فقد صرح الأصحاب بكراهة الربح على المؤمن إلا مع الضرورة ، فيربح قوت يومه له ولعياله إذا كان شراؤه للقوت ونحوه ، اما لو كان للتجارة فلا بأس بالربح عليه مطلقا ، لكن يستحب الرفق به.

والظاهر ان المستند فيه هو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن سليمان بن صالح وابى شبل عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «ربح المؤمن على المؤمن ربا ، الا ان يشترى بأكثر من مأة درهم فاربح عليه قوت يومك ، أو يشتريه للتجارة. فاربحوا عليهم وارفقوا بهم» (3).

__________________

(1) أصول الكافي ـ ج 1 ص 11 حديث : 7.

(2) التهذيب ج 7 ص 7 حديث : 21. والكافي ج 5 ص 152 حديث : 9.

(3) الكافي ج 5 ص 154 حديث : 21.


وظاهر الخبر : كراهة الربح عليه مطلقا إذا كان الشراء لغير التجارة ، الا ان يشترى بأكثر من مأة درهم ، فيجوز ان يربح عليه قوت يومه. (1)

ولا يخفى ما فيه من المخالفة لكلامهم ، مع انه قد روى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن على بن سالم عن أبيه قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخبر الذي روى «ان ربح المؤمن على المؤمن ربا» ما هو؟ فقال : «ذلك إذا ظهر الحق وقام قائمنا ـ أهل البيت عليهم‌السلام ـ فاما اليوم فلا بأس ان تبيع من الأخ المؤمن وتربح عليه (2).

وروى الشيخان المذكوران عن عمر بن يزيد بياع السابري قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ان الناس يزعمون ان الربح على المضطر حرام وهو من الربا ، فقال : وهل رأيت أحدا اشترى غنيا أو فقيرا الا من ضرورة ، يا عمر قد أحل الله البيع وحرم الربا ، فاربح ولا ترب. قلت : وما الربا؟ فقال : درهم بدراهم ، مثلين بمثل ، وحنطة بحنطة ، مثلين بمثل (3).

أقول : ظاهر هذين الخبرين يؤذن بأن الخبر الأول انما خرج مخرج التقية ، لأن الأول منهما ـ وان دل على مضمون الخبر الأول ـ لكن خصه بما بعد خروج القائم عليه‌السلام دون هذه الأوقات ، الا ان الخبر الثاني دل على نسبة الخبر المذكور للناس الذي هو كناية عن المخالفين ، وهو عليه‌السلام قد كذبهم في ذلك ، ورد عليهم في ان المشترى مطلقا لا يشترى الا من حيث الحاجة والضرورة الى ذلك الذي يشتريه.

فان قيل : انه لا منافاة ، لجواز حمل الخبر الأول على كراهة الربح على المؤمن ،

__________________

(1) أقول : هذه الرواية نقله في كتاب الفقه الرضوي ، فقال ـ ع ـ : وروى ربح المؤمن على أخيه ربا الا ان يشترى منه بأكثر من مأة درهم فيربح فيه قوت يومه أو يشترى متاعا للتجارة فيربح عليه خفيفا. انتهى منه قدس‌سره.

(2) الوسائل ج 12 ص 294 حديث : 4.

(3) التهذيب ج 7 ص 18 حديث : 78. الفقيه ج 3 ص 176 حديث : 13.


كما تقدم ، وان بالغ في الكراهة بجعله من قبيل الربا ، والخبرين المذكورين على الجواز.

قلنا : لو كان المعنى كما ذكرت لكان الأنسب في جواب السائلين المذكورين في هذين الخبرين ، بان الخبر المذكور انما أريد به الكراهة دون ما يدل عليه ظاهره من التحريم ، لا انه عليه‌السلام يقر السائل على ظاهر الخبر من التحريم وبحمله في أول الخبرين على زمان القائم عليه‌السلام وفي ثانيها يكذبه ويرده ، ثم يأمر في الخبرين بالربح على المؤمن بخصوصه كما في الأول ، ومطلقا كما في الثاني.

ومما ذكرناه يظهر ان ما ذكره الأصحاب من الحكم المذكور لا مستند له في الباب ، ولم يحضرني كلام لأحد منهم في المقام زيادة على ما قدمنا نقله عنهم من الكلام.

ومما يؤكد الخبرين المذكورين ـ مما يدل على جواز الربح بل استحبابه ـ أولا ـ : وان المقصود الذاتي من التجارة والأمر بها والحث عليها لأجل الاستغناء عن الناس وكف الوجه عن السؤال والاستعانة بالدنيا على الدين ونحو ذلك ، كما تقدم جميع ذلك في الاخبار المتقدمة ، ومتى كان مكروها في البيع على المؤمنين مع ان جل المشترين بل كلهم في بلاد المؤمنين إنما هم المؤمنون ، فمن اين يحصل ما دلت عليه هذه الاخبار؟!.

وثانيا ـ الأخبار الدالة على ذلك :

منها : ما رواه في الكافي عن محمد بن عذافر عن أبيه ، قال : اعطى أبو عبد الله عليه‌السلام أبي ألفا وسبعمائة دينار ، فقال له : اتجر بها. ثم قال : اما انه ليس لي رغبة في ربحها ، وان كان الربح مرغوبا فيه ، ولكني أحببت أن يراني الله جل وعز متعرضا لفوائده ، قال : فربحت له فيها مأة دينار. ثم لقيته فقلت له : قد ربحت لك فيها مأة دينار.

قال : ففرح أبو عبد الله عليه‌السلام بذلك فرحا شديدا ، قال لي : أثبتها في رأس مالي ـ الحديث (1).

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 76 حديث : 12.


وروى الصدوق في الفقيه عن محمد بن عذافر عن أبيه قال : دفع الى أبو عبد الله عليه‌السلام سبعمائة دينار ، وقال : يا عذافر اصرفها في شي‌ء ما. وقال : ما افعل هذا على شره منى ، ولكن أحببت أن يراني الله تبارك وتعالى متعرضا لفوائده. قال عذافر : فربحت فيها مأة دينار ، فقلت له في الطواف : جعلت فداك قد رزق الله عزوجل فيها مأة دينار. قال : أثبتها في رأس مالي» (1).

وفي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام عن آبائه عن موسى بن جعفر عليه‌السلام «ان رجلا سأله مأتي درهم يجعلها في بضاعة يتعيش بها ـ الى ان قال ـ فقال : أعطوه ألفي درهم. وقال : اصرفها في العفص (2) فإنه متاع يابس ويستقبل بعد ما أدبر ، فانتظر به سنة واختلف به الى دارنا وخذ الأجر في كل يوم ، فلما تمت له سنة ، وإذا قد زاد في ثمن العفص للواحد خمسة عشر ، فباع ما كان اشترى بألفي درهم ، بثلاثين الف درهم».

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة الدالة على جواز الربح بل استحبابه.

نعم لا بأس بالمسامحة ولا منافاة فيها. ويحمل عليه ما رواه في الكافي عن أبي أيوب الخزاز عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : يأتي على الناس زمان عضوض ، يعض كل امرء على ما في يده وينسى الفضل وقد قال الله «وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ» ثم ينبري في ذلك الزمان أقوام يعاملون المضطرين ، أولئك هم شرار الناس (3).

ومما يدل على استحباب المسامحة : ما رواه في الفقيه عن إسماعيل بن مسلم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : «انزل الله على بعض أنبيائه عليهم‌السلام للكريم فكارم. وللسمح فسامح. وعند الشكس فالتو».

قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «السماح وجه من الرباح» (4).

__________________

(1) من لا يحضره الفقيه ج 3 ص 96 حديث : 16.

(2) نوع من البلوط ، الوسائل ج 12 ص 312 حديث 3.

(3) الوسائل ج 12 ص 330 حديث : 2.

(4) من لا يحضره الفقيه ج 3 ـ ص 122.


(ومنها) انه يستحب ان يقيل من استقاله ، فروى في الكافي عن عبد الله بن القاسم الجعفري ، عن بعض أهل المدينة قال : ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يأذن لحكيم بن حزام بالتجارة حتى ضمن له اقالة النادم وانظار المعسر وأخذ الحق وافيا وغير واف» (1).

وعن هارون بن حمزة عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : أيما عبد أقال مسلما في بيع أقال الله تعالى عثرته يوم القيامة».

ورواه الصدوق مرسلا الا انه قال : «أيما مسلم أقال مسلما ندامة في البيع» (2).

وروى الصدوق في الخصال في الموثق عن سماعة بن مهران عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : أربعة ينظر الله إليهم يوم القيامة : من أقال نادما أو أغاث لهفانا أو أعتق نسمة أو زوج عزبا (3).

ومما يؤكد ان ذلك على جهة الاستحباب : ما رواه في الكافي عن هذيل بن صدقة الطحان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يشترى المتاع أو الثوب ، فينطلق به الى منزله ، ولم ينفذ شيئا فيبدو له ، فيرده ، هل ينبغي ذلك؟ قال : «لا ، الا ان تطيب نفس صاحبه» (4).

(ومنها) استحباب الدعاء بالمأثور ، والشهادتين عند دخول السوق. فروى ثقة الإسلام والصدوق في كتابيهما عن سدير ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «يا أبا الفضل اما لك مكان تقعد فيه ، فتعامل الناس؟ قال : قلت : بلى ، قال : ما من رجل مؤمن يروح أو يغدو الى مجلسه أو سوقه ، فيقول حين يضع رجله في السوق :

«اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها (وأعوذ بك من شرها وشر أهلها) (5) إلا

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 151 حديث : 4.

(2) الوسائل ج 12 ص 286 حديث : 2.

(3) الخصال ص 224 حديث : 55.

(4) الوسائل ج 12 ص 286 حديث : 3.

(5) ما بين المعقوفتين ليس في نسخة الكافي المعروفة.


وكل الله عزوجل به من يحفظه ويحفظ عليه حتى يرجع الى منزله ، فيقول له : قد أجرت من شرها وشر أهلها يومك هذا باذن الله عزوجل وقد رزقت خيرها وخير أهلها في يومك هذا ، فإذا جلس مجلسه قال حين يجلس : اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله. اللهم إني أسألك من فضلك حلالا طيبا وأعوذ بك من ان أظلم أو أظلم وأعوذ بك من صفقة خاسرة ويمين كاذبة. فإذا قال ذلك ، قال له الملك الموكل به : أبشر فما في سوقك اليوم أحدا وفر منك حظا قد تعجلت الحسنات ومحيت عنك السيئات. وسيأتيك ما قسم الله لك موفرا حلالا طيبا مباركا فيه» (1).

وروى في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا دخلت سوقك فقل : «اللهم إني أسألك من خيرها وخير أهلها وأعوذ بك من شرها وشر أهلها اللهم إني أعوذ بك من ان أظلم أو أظلم أو أبغي أو يبغى على أو اعتدى أو يعتدى على ، اللهم إني أعوذ بك من شر إبليس وجنوده وشر فسقة العرب والعجم. وحسبي الله لا إله الا هو عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم» (2).

وروى في الفقيه عن عاصم بن حميد عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «من دخل سوقا أو مسجد جماعة ، فقال مرة واحدة : اشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، والله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا. وسبحان الله بكرة وأصيلا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، وصلى الله على محمد وآله. عدلت له حجة مبرورة» (3).

قال في الفقيه : وروى انه من ذكر الله عزوجل في الأسواق غفر له بعدد ما فيها من فصيح وأعجم». والفصيح : ما يتكلم. والأعجم : مالا يتكلم.

قال : وقال الصادق عليه‌السلام : «من ذكر الله عزوجل في الأسواق غفر له بعدد

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 155 رقم : 1.

(2) الكافي ج 5 ص 156 رقم : 2.

(3) الوسائل ج 12 ص 301 رقم : 3.


أهلها» (1).

(ومنها) استحباب الدعاء عند الشراء ، فروى في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن حريز عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا اشتريت شيئا من متاع أو غيره فكبر ثم قال : اللهم انى اشتريته التمس فيه من فضلك ، فصل على محمد وآل محمد. اللهم فاجعل لي فيه فضلا اللهم انى اشتريته التمس فيه من رزقك ، فاجعل لي فيه رزقا. ثم أعد كل واحدة ثلاث مرات» (2).

أقول : قوله عليه‌السلام : ثم أعد كل واحدة ثلاث مرات ، ربما يتوهم منه الترديد اربع مرات.

والظاهر انه ليس كذلك ، بل المراد انما هو أعد كلا من هاتين الجملتين الى ان يبلغ ثلاث مرات.

وروى الصدوق عن العلاء عن محمد بن مسلم قال : قال أحدهما عليهم‌السلام : «إذا اشتريت متاعا فكبر الله ثلاثا ، ثم قال : اللهم انى اشتريته التمس فيه من خيرك فاجعل لي فيه خيرا. اللهم انى اشتريته. (3) الحديث. كما تقدم.

وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : «إذا أردت أن تشترى شيئا فقل : يا حي يا قيوم يا دائم يا رؤوف يا رحيم أسألك بعزتك وقدرتك وما أحاط به علمك ان تقسم لي من التجارة اليوم أعظمها رزقا وأوسعها فضلا وخيرها عاقبة فإنه لا خير فيما لا عاقبة له» (4) قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا اشتريت دابة أو رأسا فقل : اللهم قدر لي أطولها حياة وأكثرها منفعة وخيرها عاقبة» (5).

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 303 رقم : 2.

(2) الوسائل ج 12 ص 304 رقم : 1.

(3) الوسائل ج 12 ص 404 ـ رقم : 2.

(4) الكافي ـ الفروع ـ ج 5 ص 157 حديث : 3.

(5) الكافي ـ الفروع ـ ج 5 ص 157 حديث : 3.


وروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا اشتريت دابة فقل : اللهم ان كانت عظيمة البركة فاضلة المنفعة ميمونة الناصية فيسر لي شراءها ، وان كان غير ذلك فاصرفني عنها إلى الذي هو خير لي منها ، فإنك تعلم ولا اعلم وتقدر ولا اقدر وأنت علام الغيوب. تقول ذلك ثلاث مرات» (1).

وروى في الفقيه عن عمر بن إبراهيم عن ابى الحسن عليه‌السلام قال : «من اشترى دابة فليقم من جانبها الأيسر ويأخذ من ناصيتها بيده اليمنى ويقرأ على رأسها فاتحة الكتاب ، وقل هو الله أحد ، والمعوذتين ، وآخر الحشر وآخر بني إسرائيل : قل أدعو الله أو أدعو الرحمن ، وآية الكرسي. فإن ذلك أمان تلك الدابة من الآفات» (2).

وروى في الكافي عن هذيل عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال إذا اشتريت جارية فقل : اللهم إني أستشيرك وأستخيرك» (3). وفي الفقيه عن ثعلبة عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا اشتريت جارية فقل : اللهم إني أستشيرك وأستخيرك ، وإذا اشتريت دابة أو رأسا فقل : اللهم قدر لي أطولهن حياة وأكثرهن منفعة وخيرهن عاقبة» (4).

(ومنها) انه إذا قال انسان للتاجر : اشتر لي متاعا ، فالمشهور انه لا يجوز له ان يعطيه من عنده وان كان ما عنده أحسن مما في السوق.

ويدل عليه ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن ، عن هشام بن الحكم عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا قال لك الرجل : اشتر لي ، فلا تعطه من عندك ، وان كان الذي عندك خيرا منه (5). وما رواه في التهذيب في الموثق عن إسحاق بن عمار

__________________

(1) الكافي ـ الفروع ـ ج 5 ص 157 حديث : 4.

(2) الفقيه ج 3 ص 125 حديث : 547.

(3) الكافي ج 5 ص 157 حديث : 2.

(4) الفقيه ج 3 ص 126 حديث : 548.

(5) الوسائل ج 12 ص 288 حديث : 1.


قال : سألت أبا عبد الله عن الرجل يبعث الى الرجل يقول له : ابتع لي ثوبا فيطلب له في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق ، فيعطيه من عنده ، قال : لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه ، ان الله عزوجل يقول «إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً» وان كان عنده خير مما يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده» (1).

وقال في كتاب الفقه الرضوي : إذا سألك رجل شراء ثوب فلا تعطه من عندك ، فإنه خيانة ، ولو كان الذي عندك أجود مما عند غيرك (2).

ونقل عن ابن إدريس انه علل المنع هنا ، بان التاجر صار وكيلا في الشراء ، ولا يجوز للوكيل ان يشترى لموكله من نفسه ، لان العقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، وهو لا يصلح ان يكون موجبا قابلا ، فلأجل ذلك لم يصلح ان يشترى له من عنده.

وفيه : انه لم يقم دليل لنا على ما ذكره من منع كونه موجبا قابلا ، كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله تعالى. بل الظاهر ان العلة هنا : انما هي خوف التهمة ، كما يدل عليه : ما رواه في الفقيه عن ميسر ، قال : قلت له : يجيئني الرجل فيقول : اشتر لي ، فيكون ما عندي خيرا من متاع السوق؟ قال : ان أمنت ان لا يتهمك فأعطه من عندك ، فان خفت ان يتهمك فاشتر له من السوق (3).

أقول : وهذه المسألة ترجع إلى مسألة الوكالة ، فيما لو وكله على بيع أو شراء ، أو أطلق ولم يفهم منه الاذن ولا عدمه بالنسبة إلى الوكيل ، فهل يكفى هذا الإطلاق في جواز بيعه عن نفسه أو شرائه لنفسه؟ قولان.

ظاهر أكثر المتأخرين المنع ، ويدل عليه بالنسبة إلى الشراء : ما اذكرناه من صحيحة هشام أو حسنته ، أو موثقة إسحاق ، وعبارة كتاب الفقه الرضوي.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 289 حديث : 2.

(2) مستدرك الوسائل ج 2 ص 464 حديث : 1.

(3) الوسائل ج 12 ص 289 حديث : 4.


ويدل عليه بالنسبة إلى البيع : ما رواه في التهذيب عن على بن أبي حمزة قال : سمعت معمر الزيات يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : جعلت فداك انى رجل أبيع الزيت يأتيني من الشام فآخذ لنفسي شيئا مما أبيع؟ قال : ما أحب لك ذلك! فقال : انى لست انقص لنفسي شيئا مما أبيع ، قال : بعه من غيرك ، ولا تأخذ منه شيئا ، أرأيت لو أن الرجل قال لك : لا أنقصك رطلا من دينار ، كيف كنت تصنع؟ لا تقربه» (1).

أقول : ظاهر قوله «أرأيت لو ان الرجل. إلخ» : ان شراء الوكيل لنفسه أو بيعه من نفسه لا يدخل تحت ذلك الإطلاق ، الذي اقتضته الوكالة ، والا فإن مقتضى الوكالة صحة البيع والشراء بما رآه الوكيل وفعله ، فلا معنى لقوله ـ بالنسبة إليه ـ : «لا أنقصك رطلا من دينار» لو كان داخلا في إطلاق الوكالة. ويؤكد ذلك : ما قدمناه من كلام الرضا عليه‌السلام في الفقه الرضوي وموثقة إسحاق. (2)

ومما يدل على ما دل عليه خبر على بن حمزة بالنسبة إلى البيع ايضا : ما رواه في التهذيب عن خالد القلانسي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يجيئني بالثوب فأعرضه ، فإذا أعطيت به الشي‌ء زدت فيه وأخذته. قال : لا تزده. فقلت : فلم؟ قال : أليس أنت إذا عرضته أحببت ان تعطى به أوكس من ثمنه؟ قلت : نعم ، قال : لا تزده» (3).

أقول : ومعنى الخبر المذكور ـ على ما يظهر لي ـ : هو ان الرجل يجيئه بالثوب ليبيعه له فيعرضه على المشترى ، مع كونه مضمرا إرادة شرائه ، فإذا أعطاه المشتري قيمة في ذلك الثوب زاد هو على تلك القيمة شيئا ، وأخذ الثوب لنفسه ، فنهاه الامام عليه‌السلام عن ذلك ، وبين له ان العلة في النهي : هو انه لما كان قصده أخذ الثوب لنفسه ، وانما يعرضه على المشترى لأجل أن يبرئ نفسه عن التهمة بأخذه بأقل من قيمته. ولكن الظاهر ان العادة المطردة فيمن أراد ان يشتري شيئا : انه ينقص عن ثمنه الواقعي لأجل

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 290 حديث : 2.

(2) فان نسبة ما يعطيه من عنده إلى الخيانة يؤذن بأنه غير داخل في ذلك الإطلاق كما لا يخفى. منه قدس‌سره.

(3) الوسائل ج 12 ص 290 حديث : 1.


ان يأخذه رخيصا ، وهذا الوكيل يحب ان يكون الأمر كذلك ، مع علمه بما هنا لك ، فهو في الواقع لا يخرج عن الخيانة ، وان زاد شيئا على ما ذكره المشترى ، فمن أجل ذلك منعه عليه‌السلام.

واما ما ذكره في الوافي ـ في معنى الخبر المذكور ـ حيث قال : ولعل المراد ان الرجل يجيئني بالثوب فيقومه على فأعرضه على المشترى ، فإذا اشتراه مني بزيادة بعته منه ، وأخذت ثمنه ، فقال عليه‌السلام : الست إذا أنت عرضته على المشترى أحببت ان تعطى صاحبه انقص مما أخذت منه؟ قلت : نعم. قال : لا ترده ، وذلك لأنه خيانة بالنسبة إلى المشتري بل البائع أيضا انتهى. فظني : بعده ، لما فيه من التكلف والبعد من سياق الخبر ، بل الظاهر هو ما ذكرناه. وبالجملة فإن ظاهر الاخبار المذكورة التحريم ، نعم لو أمن التهمة أو أخبره بذلك فرضي ، فالظاهر انه لا اشكال.

(القول الثاني) في المسألة ، الجواز على كراهة ، ذهب اليه جمع من الأصحاب ، منهم أبو الصلاح ، والعلامة في التذكرة والمختلف ، والشهيد في الدروس (1).

قال في المختلف : للوكيل ان يبيع مال الموكل على نفسه ، وكذا كل من له الولاية ، كالأب والجد والوصي والحاكم وأمينه.

وقال في الخلاف : لا يجوز لغير الأب والجد. نعم لو وكل في ذلك صح.

وقال أبو الصلاح بما اخترناه ، قال : ويكره لمن سأله غيره ان يبتاع متاعا ان يبيعه من عنده أو يبتاع منه ما سأله ان يبيعه له ، وليس بمحرم ، مع انه يحتمل ان يكون قصد مع الاعلام. لنا : انه بيع مأذون فيه فكان سائغا ، اما المقدمة الأولى فلأنه مأمور ببيعه على المالك الدافع للثمن والوكيل كذلك ، ويدخل تحت الاذن ، واما الثانية فظاهرة ، كما لو نص له على البيع من نفسه.

احتج الشيخ بأنه لا دليل على الصحة. والجواب : الدليل على ما تقدم. وعموم

__________________

(1) قال في الدروس في تعداد المكروهات : وشراء الوكيل من نفسه وبيعه على نفسه. وروى هشام وإسحاق المنع عن الشراء. انتهى منه قدس‌سره.


قوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا» (1) قال الشيخ : وكذلك لا يجوز له ان يشترى مال الموكل لابنه الصغير ، لانه يكون في ذلك البيع قابلا موجبا ، فتلحقه التهمة ويتضاد الفرضان ، وكذلك لا يجوز ان يبيعه من عبده المأذون له في التجارة لأنه وان كان القابل غيره ، فالملك يقع له ، وتلحقه التهمة فيه ، ويبطل الفرضان. والحق عندي : الجواز في ذلك كله ، فكونه موجبا قابلا لا استحالة فيه ، لانه موجب باعتبار كونه بايعا ، وقابل باعتبار كونه مشتريا ، وإذا اختلف الاعتبار ان لم يلزم المحال ، وينتقض ببيع الأب والجد مال الصبي من نفسه ، ولحوق التهمة متطرق في حقهما» انتهى كلامه.

وليت شعري كأنه لم يقف على شي‌ء مما قدمناه من الاخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام والظاهر انه كذلك ، والا لذكرها في المقام ، فإنها واضحة الدلالة في المنع وبه يظهر ما في قوله «انه مأذون فيه» كيف يكون مأذونا فيه ، والاخبار المتقدمة كلها متفقة على النهى ، على أبلغ وجه؟! وان ذلك خيانة كما صرح به حديث كتاب الفقه الرضوي ، وأشار إليه موثقة إسحاق بن عمار ، من الاستدلال بالآية المذكورة المؤذن بكون الشراء من نفسه خيانة ، وكذا خبر على بن أبي حمزة بالتقريب الذي ذكرناه في ذيله.

وبالجملة فإن الناظر فيما قدمناه من الاخبار وما ذيلناها به من التحقيق الواضح لذوي الأفكار لا يخفى عليه ما في كلامه من الضعف الظاهر لكل ناظر من ذوي الاعتبار والله العالم.

(ومنها) انه يكره مدح البائع لما يبيعه وذم المشترى لما يشتريه ، واليمين على البيع. ويدل عليه : ما تقدم من الاخبار في الفائدة الرابعة ، من المقدمة الاولى. ومنها زيادة على ما تقدم : ما رواه في الكافي عن أبي حمزة رفعه ، قال : قام أمير المؤمنين عليه‌السلام على دار ابن معيط «وكان مقام فيها الإبل ، فقال : يا معشر السماسرة ،

__________________

(1) سورة البقرة : 275.


أقلوا الأيمان ، فإنها منفقة للسلعة ممحقة للبركة» (1).

قال في الوافي : المنفقة بكسر الميم ـ : آلة النفاق وهو الرواج.

أقول : الظاهر بعد ما ذكره ، وان المراد بالمنفقة ـ في الخبر ـ : انما هو من «نفق» بمعنى نفد ، وفنى.

قال في القاموس : نفق ـ كفرح ونصر ـ : نفد وفنى ـ وقال : «أنفق : افتقر. وماله أنفده».

وقال في الصحاح : أنفق الرجل : افتقر ، وذهب ماله. ومنه قوله عزوجل «إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ» (2) اى الفقر والفاقة.

ويعضده : ما رواه في الكافي ـ أيضا ـ عن أبي إسماعيل رفعه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : انه كان يقول : «إياكم والحلف فإنه ينفق السلعة ويمحق البركة» (3). فإنه ظاهر في ان المراد انما هو ان الحلف موجب لبيع السلعة ورغبة المشتري فيها لمكان الحلف ، الا انه مذهب لبركة الثمن وممحق له.

وروى في الكافي والتهذيب ، عن إبراهيم بن عبد الحميد عن ابى الحسن موسى ـ عليه‌السلام ـ قال : «ثلاثة لا ينظر الله عزوجل إليهم يوم القيامة ، أحدهم : رجل اتخذ الله بضاعة لا يشترى إلا بيمين ولا يبيع الا بيمين». (4).

(ومنها) كراهة السوم ؛ ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ، قال في المسالك اى الاشتغال بالتجارة في ذلك الوقت.

أقول : ويدل عليه ما رواه في الكافي بسنده عن على بن أسباط رفعه قال : «نهى

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 309 حديث : 1.

(2) سورة الإسراء : 100.

(3) الكافي ج 5 ص 162 حديث : 4.

(4) المصدر حديث : 3.


رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السوم ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس» (1). ورواه الصدوق مرسلا. ويعضده ايضا ما ورد في جملة من الاخبار (2) ان هذا الوقت موظف للتعقيب ، والدعاء ، وان الدعاء فيه أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض.

(ومنها) كراهة مبايعة الأدنين ، وذوي العاهات والمحارف ، ومن لم ينشأ في الخير ، والأكراد.

قال في المسالك : وفسر الأدنون بمن لا يبالي بما قال ولا ما قيل فيه. وبالذي لا يسره الإحسان ولا تسؤه الإساءة. وبالذي يحاسب على الدون. وذوو العاهات اى ذوو النقص في أبدانهم انتهى.

أقول : والذي يدل على الأول : ما رواه في الكافي والتهذيب مسندا عن ابى عبد الله عليه‌السلام والصدوق مرسلا ، قال عليه‌السلام : «لا تستعن بمجوسي ولو على أخذ قوائم شاتك وأنت تريد ان تذبحها. وقال : إياك ومخالطة السفلة ، فإن السفلة لا يؤل الى خير» (3).

قال الصدوق ـ رحمه‌الله ـ جائت الاخبار في معنى السفلة على وجوه :

منها : ان السفلة : الذي لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه.

ومنها : ان السفلة : من يضرب بالطنبور.

ومنها : ان السفلة : من لم يسره الإحسان ولم تسؤه الإساءة.

والسفلة : من ادعى الإمامة وليس لها بأهل. وهذه كلها أوصاف السفلة. من اجتمع فيه بعضها أو جميعها وجب اجتناب مخالطته.

أقول : وكان الاولى في العبارة هو التعبير بهذا اللفظ ، إلا أنا جرينا على ما جرى

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 152 حديث : 12.

(2) الوسائل ج 4 ص 1013 ، الباب الأول من أبواب التعقيب وما يناسبه.

(3) الوسائل ج 12 ص 308 حديث : 1 و 2.


عليه تعبير الأصحاب.

واما ما يدل على الثاني ، فهو ما رواه في الكافي والتهذيب عن ميسر بن عبد العزيز قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تعامل ذا عاهة فإنهم أظلم شي‌ء» (1). وما رواه في الكافي والفقيه ، مسندا في الأول ، عن احمد بن محمد رفعه قال : قال أبو عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ومرسلا في الثاني ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «احذروا معاملة أصحاب العاهات ، فإنهم أظلم شي‌ء» (2).

قال بعض متأخري المتأخرين : لعل نسبة الظلم إليهم ، لسراية امراضهم ، أو لأنهم مع علمهم بالسراية لا يجتنبون من المخالطة انتهى.

ولا يخفى بعده ، بل الظاهر انما هو كون الظلم امرا ذاتيا فيمن كان كذلك.

واما ما يدل على الثالث ، فهو ما رواه المشايخ الثلاثة في أصولهم ، مسندا في الكافي والتهذيب عن العباس بن الوليد بن صبيح عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، ومرسلا في الثالث ، قال : قال الصادق عليه‌السلام : «يا وليد لا تشتر من محارف ، فأن صفقته لا بركة فيها» (3) وفي الفقيه : لا تشتر لي ـ الى ان قال ـ فان خلطته. وفي التهذيب : فان حرفته.

أقول : المحارف هو المحروم الذي أدبرت عنه الدنيا فلا بخت له ، ويقابله من أقبلت عليه الدنيا واتسع له مجالها ، وانفتحت عليه أبواب أرزاقها.

واما ما يدل على الرابع ، فهو ما رواه المشايخ الثلاثة مسندا في الكافي والتهذيب ، في الموثق عن ظريف بن ناصح ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، ومرسلا في الثالث ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تخالطوا ولا تعاملوا الا من نشأ في

__________________

(1) المصدر ص 307 حديث : 3.

(2) المصدر حديث : 2.

(3) المصدر ص 305 حديث : 10.


الخير» (1). وفي نهج البلاغة : قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «شاركوا الذي قد اقبل عليه الرزق ، فإنه أخلق للغنى وأجدر بإقبال الحظ» (2).

ويعضده : ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن حفص بن البختري ، قال : استقرض قهرمان لأبي عبد الله عليه‌السلام من رجل طعاما لأبي عبد الله عليه‌السلام ، فألح في التقاضي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ألم أنهك أن تستقرض لي ممن لم يكن فكان (3). وما رواه في التهذيب عن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : انما مثل الحاجة الى من أصاب ماله حديثا كمثل الدرهم في فم الأفعى ، أنت إليه محوج ، وأنت منها على خطر (4). وعن داود الرقى ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال لي : يا داود ، تدخل يدك في فم التنين الى المرافق ، خير لك من طلب الحوائج الى من لم يكن فكان (5).

أقول التنين كسكين : الحية العظيمة.

واما ما يدل على الخامس ، فهو ما رواه في الكافي عن ابى الربيع الشامي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت : ان عندنا قوما من الأكراد ، وانهم لا يزالون يجيئون بالبيع ، فنخالطهم ونبايعهم؟ قال : يا أبا الربيع لا تخالطوهم ، فإن الأكراد حي من أحياء الجن ، كشف الله تعالى عنهم الغطاء فلا تخالطوهم (6). وروى الصدوق عن

__________________

(1) المصدر ص 306 حديث : 6.

(2) المصدر حديث : 7.

(3) الكافي ج 5 ص 158 والقهرمان : القائم بالأمور. قوله : لم يكن فكان ، اى كان معدما لا مال له ثم استغنى.

(4) الوسائل ج 12 ص 48 حديث : 1.

(5) المصدر حديث : 2.

(6) المصدر ص 307 حديث : 1 باب 23 من أبواب آداب التجارة.


أبي الربيع عنه عليه‌السلام انه قال لا تخالط الأكراد فإن الأكراد حي من الجن كشف الله عنهم الغطاء (1).

قال بعض مشايخنا من متأخري المتأخرين : ربما يؤول بأنهم لسوء أخلاقهم وجبلتهم أشباه الجن ، فكأنهم منهم كشف الغطاء عنهم انتهى.

(ومنها) كراهة الاستحطاط من الثمن بعد العقد

. والذي وقفت عليه من الاخبار في ذلك ، ما رواه المشايخ الثلاثة رحمهم‌الله عن إبراهيم بن ابى زياد قال : اشتريت لأبي عبد الله عليه‌السلام جارية ، فلما ذهبت أنقدهم الدراهم ، قلت أستحطهم؟ قال : لا ، ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة (2).

وفي التهذيب بأحد أسانيده (3) «الضمنة» بالنون اى لزوم البيع وضمان كل منهما ما صار اليه.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زيد الشحام قال : أتيت أبا عبد الله عليه‌السلام بجارية أعرضها ، فجعل يساومني وأساومه ثم بعتها إياه فضم على يدي. قلت : جعلت فداك ، انما ساومتك لأنظر المساومة تنبغي أو لا تنبغي ، وقلت : قد حططت عنك عشرة دنانير. فقال : هيهات الا كان هذا قبل الضمة ، أما بلغك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الوضيعة

__________________

هذا حديث مشتبه يجب رد علمه إلى اهله ، ولا يصلح مستندا لحكم شرعي. أو لعل المراد : انهم كانوا قوما مغمورين لا عهد لهم بالحضارة فكانت فيهم شي‌ء من غلظة البداوة. ولا شك انهم بعد طول الزمان وقربهم الى معالم المدنية أصبحوا كسائر الناس المتمدنين ، ولا يشملهم الحكم المذكور. م ه. معرفة.

(1) الوسائل ج 12 ص 308 حديث : 2.

(2) الكافي ج 5 ص 286 ، حديث : 1.

(3) الوسائل ج 12 ص 334 ، حديث : 6.


بعد الضمة حرام. (1).

ورواه في الفقيه عن زيد الشحام ، قال : أتيت أبا جعفر عليه‌السلام مثله (2). وفي الفقيه والتهذيب «ضمن على يدي» عوض «وقبض» وفيها «الضمنة» عوض «الصفقة» وقد تقدم معناه.

وروى في الفقيه عن يونس بن يعقوب ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يشترى من الرجل البيع ، فيستوهبه بعد الشراء من غير ان يحمله على الكره؟ قال : لا بأس به (3). وروى في التهذيب عن معلى بن خنيس عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يشترى المتاع ثم يستوضع؟ قال : لا بأس. وأمرني فكلمت له رجلا في ذلك (4). وعن يونس بن يعقوب عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يستوهب من الرجل الشي‌ء بعد ما يشترى ، فيهب له أيصلح له؟ قال : نعم (5). وروى في الكافي والتهذيب عن ابى العطارد ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترى الطعام ، فأضع في اوله ، وأربح في آخره ، فأسأل صاحبي أن يحط عنى في كل كر كذا وكذا؟ فقال : هذا لا خير فيه ، ولكن يحط عنك جملة. قلت : فان حط عني أكثر مما وضعت؟ قال : لا بأس (6).

أقول : وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة في جواز الاستحطاط وعدم حرمته والشيخ ـ رحمه‌الله ـ قد جمع بينها بحمل الخبرين الأولين على الكراهة ، وتبعه الجماعة كما هي عادتهم غالبا. وأنت خبير بان صريح الخبر الثاني التحريم ، وقد فسر فيه نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي تضمنه الخبر الأول بالتحريم. وهو ظاهر الخبر

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 286.

(2) الوسائل ج 12 ص 334 ، حديث : 6.

(3) المصدر ص 334 حديث : 7.

(4) الوسائل ج 12 ص 334.

(5) المصدر حديث : 4.

(6) المصدر حديث : 5.


الأول ومن ثم جمع في الوافي بين الاخبار المذكورة ، بحمل اخبار الجواز على ما إذا كان الاستحطاط على جهة الهبة ، كما تضمنه بعضها ، حملا لمطلقها على مقيدها ، وإبقاء الخبرين الأولين على ظاهرهما ، من التحريم ، وهو جيد.

(ومنها) كراهة الزيادة في السلعة وقت النداء ، بل يصبر عليه حتى يسكت ، ثم يزيد إذا أراد.

والدخول في سوم المسلم.

والنجش ـ بالنون ثم الجيم ثم الشين المعجمة ـ وهو زيادة الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ، ليسمعه غيره فيزيد بزيادته.

والذي يدل على الأول ، ما رواه في الكافي عن أمية بن عمرو الشعيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : إذا نادى المنادي فليس لك ان تزيد ، وانما يحرم الزيادة النداء ، ويحلها السكوت (1). ورواه الشيخ بإسناده عن أمية بن عمرو مثله ورواه الصدوق ايضا عن أمية بن عمرو ، وزاد بعد قوله «تزيد» «وإذا سكت ان تزيد».

واما ما يدل على الثاني فهو ما رواه الصدوق في حديث المناهي المذكور في آخر الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال : ونهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم (2).

أقول : والمراد بدخول الرجل في سوم أخيه : هو ان يزيد في الثمن الذي يريد ان يشتريه الأول ليقدمه البائع ، لأجل الزيادة. هذا بالنسبة إلى الدخول في السوم في صورة الشراء.

واما بالنسبة إلى الدخول في السوم في صورة البيع ، فهو ان يبذل الداخل للمشتري متاعا من عنده ، غير ما اتفق عليه البائع الأول مع المشترى ، وقد اختلف الأصحاب

__________________

(1) المصدر ص 337 حديث : 1.

(2) المصدر ص 338 حديث : 3.


في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ وجماعة إلى التحريم والمشهور بين المتأخرين : الكراهة. قال في المسالك ـ بعد ان نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، انه قال : لا يسوم الرجل على سوم أخيه ـ : وهو خبر معناه النهى ، والأصل في النهي التحريم. فمن ثم ذهب الشيخ وجماعة إلى تحريمه ، واستظهر المصنف الكراهة ، للأصل ، والجهل بسند الحديث. ولو صح تعين القول بالتحريم انتهى.

أقول : والظاهر ان الخبر المنقول في كلامه ـ عليه الرحمة ـ انما هو من الاخبار المتناقلة في كتب الفروع ، غير مسند إلى أصل من الأصول ، ولا الى أحد من الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ بخلاف الخبر الذي نقلناه عن الفقيه ، فإنه مسند في الكتاب المذكور بجميع ما اشتمل عليه من المناهي. وان ضعف سنده باصطلاحهم ، الا انه من مرويات الفقيه ، التي لها مزية وزيادة على غيرها ، بما ضمنه في صدر كتابه. وكيف كان فإنهم قد صرحوا ـ رضى الله عنهم ـ بأن النهي تحريما أو كراهة ، انما يثبت بعد تراضى الأولين ، صريحا أو ظاهرا ، فلو ظهر ما يدل على عدم الرضا ، وطلب الزيادة ، أو جهل حاله ، لم يتعلق به الحكم المذكور. وهو كذلك ، لأصالة الصحة ، وقوفا في النهى على القدر المتيقن.

إذا عرفت ذلك فاعلم : ان ابن إدريس قال في سرائره ـ ما صورته ـ : قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا نادى المنادي على المتاع فلا يزيد في المتاع ، فإذا سكت المنادي زاد حينئذ ان شاء ، وقال في مبسوطه : واما السوم على سوم أخيه فهو حرام ، لقوله عليه‌السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه. هذا إذا لم يكن المبيع في المزايدة ، فإن كان كذلك فلا تحرم المزايدة. وهذا هو الصحيح ، دون ما ذكره في نهايته. لان ذلك على ظاهره غير مستقيم ، لأن الزيادة في حال النداء غير محرمة ، ولا مكروهة. فاما الزيادة المنهي عنها فهي عند الانتهاء وسكون نفس كل واحد من البيعين على البيع ، بعد استقرار الثمن ، والأخذ والشروع في الإيجاب والقبول ، وقطع المزايدة فعند هذه الحال لا يجوز السوم على سوم أخيه انتهى.


والعلامة في المنتهى ـ بعد ان نقل كلام ابن إدريس المذكور ـ ذكر ان الشيخ عول هنا على رواية الشعيري ثم قال ـ بعد نقلها ـ : وهذه الرواية ان صح سندها حملت على ما إذا وقع السكوت عن الزيادة لا للشراء.

ثم قال : والتحقيق هنا ان نقول : لا تخلو الحال عن أربعة أقسام.

أحدها : ان يوجد من البائع التصريح بالرضا بالبيع. فهنا يحرم السوم.

الثاني : ان يظهر منه ما يدل على عدم الرضا. فهذا لا تحرم فيه الزيادة.

الثالث : ان لا يوجد ما يدل على الرضا ولا على عدمه. فهنا ايضا يجوز السوم.

الرابع : ان يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح ، والوجه هنا التحريم ايضا. انتهى ملخصا.

أقول : والذي يقرب في فكري الكليل ، وذهني العليل : ان ما ذكره هذان العمدتان في المقام لا يخلو من النظر الظاهر لذوي الأفهام. فإنه لا يخفى ان كلا من الحكمين المذكورين ، لا تعلق له بالاخر ولا ارتباط بينهما ، ليتوهم حصول المنافاة بينهما ، ويحتاج الى الجمع كما ذكره في المنتهى ، أو إطراح أحدهما ، كما توهمه ابن إدريس ، فإنه لا يخفى ان النداء على السلعة التي تضمنه خبر الشعيري انما هو ان يعطى بعض المشترين ثمنا ، فينادي به الدلال قبل ان يقع بينهما تراض عليه ، فان حصل من اعطى أزيد من الأول فربما باعه وتراضي مع ذلك المعطى عليه ، وربما نادى به ايضا طلبا للزيادة. والامام عليه‌السلام قد نهى من الزيادة في حال النداء ، وجوزها في حال السكوت ، والوجه فيما قاله عليه‌السلام هنا غير ظاهر لدينا ، ولا معلوم عندنا ، وينبغي ان يحمل ذلك على مجرد التعبد الشرعي ، تحريما أو كراهة.

واما السوم على السوم فهو شي‌ء آخر ، وهو ان يقع بين البائع والمشترى المساومة ، التي هي عبارة عن المجاذبة بينهما في فصل الثمن ، وتعيينه ، وليس هنا نداء بالكلية» لأنه مع حصول التراضي المانع من الدخول في السوم ، لا معنى للنداء على السلعة وطلب الزيادة ، كما لا يخفى. ومع عدم حصول التراضي فلا معنى للنداء


بالكلية. فالداخل في السوم يفصل فيه بما ذكره في المنتهى من الصور الأربع المذكورة كما قدمنا إليه الإشارة أيضا.

ورد ابن إدريس على الشيخ في النهاية انما نشأ من عدم وقوفه على الخبر المذكور ، وتوهم منافاة ذلك لما ذكره في المبسوط ، وهو في غير محله. لان ما ذكره في كل من الكتابين حكم على حده غير الأخر كما لا يخفى

واما ما يدل على الثالث فهو ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله : النواشمة والمتوشمة ، والناجش والمنجوش ملعونون على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (1). وروى في كتاب معاني الأخبار ، بإسناده عن القاسم بن سلام ، بإسناد متصل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا تناجشوا ولا تدابروا (2). قال : ومعناه : ان يزيد الرجل في ثمن السلعة وهو لا يريد شرائها ليسمعه غيره فيزيد بزيادته. والناجش خائن. والتدابر الهجران.

أقول : وما اشتمل عليه الخبر الأول ، من ذكر الناجش والمنجوش ، وانهما ملعونان ، فالظاهر ان المراد به : هو ان يواطى‌ء البائع رجلا ، إذا أراد بيعا ، ان يساومه بثمن كثير ، ليقع فيه غيره.

والمشهور في كلام الأصحاب : تحريمه. بل قال في المنتهى : انه محرم إجماعا ، لأنه خديعة. وقد صرحوا بأنه لا يبطل البيع به ، بل العقد صحيح.

ونقل في الدروس عن ابن الجنيد : انه إذا كان من البائع أبطل ، وعن القاضي : انه يتخير المشتري ، لأنه تدليس.

وقطع في المبسوط بأنه لا خيار إذا لم يكن بمواطاة البائع. وقوى عدم الخيار ايضا بمواطاته.

وقيد الفاضلان الخيار بالغبن كغيره من العقود.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 337 حديث : 2.

(2) المصدر ص 338 حديث : 4.


أقول : ولا ريب ان ظاهر النهى هو التحريم ، ولا يبعد القول بذلك في الفردين الآخرين ايضا ، لظاهر الخبرين المتقدمين ، مع عدم المعارض.

(ومنها) استحباب المماكسة ، إلا في مواضع مخصوصة.

ويدل على ذلك ما رواه في الكافي عن الحسن بن على عن رجل يسمى سوادة ، قال : كنا جماعة بمنى فعزت علينا الأضاحي ، فنظرنا فإذا أبو عبد الله عليه‌السلام واقف على قطيع ، يساوم بغنم ويماكسهم مكاسا شديدا ، فوقفنا ننظر ، فلما فرغ اقبل علينا ، فقال : أظنكم قد تعجبتم من مكاسي! فقلنا : نعم. فقال : ان المغبون لا محمود ولا مأجور. الحديث (1).

وعن الحسين بن يزيد قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول ـ وقد قال له أبو حنيفة : عجب الناس منك أمس ، وأنت بعرفة تماكس ببدنك أشد مكاس يكون ـ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فما لله من الرضا ان أغبن في مالي قال : فقال أبو حنيفة : لا والله ما لله في هذا من الرضا ، قليل ولا كثير ، ما نجيئك بشي‌ء إلا جئتنا بما لا مخرج لنا منه (2).

وروى الصدوق ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ماكس المشتري ، فإنه أطيب للنفس ، وان اعطى الجزيل ، فان المغبون في بيعه وشرائه غير محمود ولا مأجور (3).

وفي عيون الاخبار بسنده عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ قال : المغبون لا محمود ولا مأجور (4).

اما ما استثنى من ذلك فيدل عليه ما رواه في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان على بن الحسين يقول لقهرمانة : إذا أردت أن تشترى لي من

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 496 حديث : 3.

(2) الوسائل ج 10 ص 118 حديث : 2.

(3) المصدر ج 12 ص 335 حديث : 2.

(4) المصدر حديث : 3.


حوائج الحج شيئا فاشتر ولا تماكس (1).

وبإسناده عن حماد بن عمرو ، وانس بن محمد ، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ـ عليهم‌السلام ـ في وصية النبي لعلي عليه‌السلام قال : يا على ، لا تماكس في أربعة أشياء : شراء الأضحية ، والكفن ، والنسمة ، والكراء إلى مكة (2).

وفي الخصال بسند مرفوع ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : لا تماكس في أربعة أشياء : في الأضحية ، والكفن ، وثمن النسمة ، والكراء إلى مكة (3).

قال في الوافي : ينبغي تخصيص هذه الاخبار ببعض المواضع ، كما إذا كان البائع مؤمنا. وحمل الأولين على مواضع أخر ، كما إذا كان البائع مخالفا أو غير ذلك انتهى. وهو جيد.

(ومنها) ان يكون سهل البيع والشراء ، والقضاء والاقتضاء ، لما رواه الشيخ في الموثق عن حنان ، عن أبيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : بارك الله تعالى على سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء (4). وروى الصدوق مرسلا ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان الله تبارك وتعالى يحب العبد في ان يكون سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء سهل الاقتضاء (5).

وروى في الخصال بسنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : غفر الله تعالى لرجل كان قبلكم ، كان سهلا إذا باع ، سهلا إذا قضى ، سهلا إذا اقتضى (6).

__________________

(1) المصدر. أبواب آداب التجارة باب : 46. حديث : 1.

(2) الوسائل ج 12 ص 336 حديث : 2.

(3) المصدر حديث : 3.

(4) المصدر ص 332 باب : 42 أبواب آداب التجارة حديث : 1.

(5) المصدر حديث : 2.

(6) المصدر حديث : 3.


وروى في الكافي عن حماد بن عثمان ، قال : دخل رجل على ابى عبد الله عليه‌السلام فشكى اليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث ان جاء المشكو ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام مغضبا : ما لفلان يشكوك؟ فقال له : يشكوني أني استقضيت منه حقي! قال : فجلس أبو عبد الله عليه‌السلام مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقضيت حقك لم تسئ؟! أرأيت ما حكى الله عزوجل في كتابه فقال «يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ» أترى انهم خافوا الله ان يجور عليهم! لا والله ، ما خافوا الا الاستقضاء. فسماه الله ـ عزوجل ـ سوء الحساب. فمن استقضى فقد أساء (1).

(ومنها) استحباب البيع عند حصول الربح ، وكراهة تركه.

ويدل عليه : ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سعيد الدغشي ، قال : كنت على باب شهاب بن عبد ربه ، فخرج غلام شاب ، فقال : انى أريد أن أسأل هاشم الصيدناني عن حديث السلعة والبضاعة. قال : فأتيت هاشما ، فسألته عن الحديث ، فقال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البضاعة والسلعة ، فقال : نعم ، ما من أحد يكون عنده سلعة أو بضاعة. إلا قيض الله ـ عزوجل ـ له من يربحه ، فان قبل والا صرفه الله تعالى الى غيره. وذلك لانه رد بذلك على الله ـ عزوجل ـ (2) وروى في الفقيه مرسلا ، قال : قال على عليه‌السلام : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رجل معه سلعة يريد بيعها. فقال : عليك بأول السوق (3).

أقول : يعنى أول من يربحك في سلعتك في السوق ، كما يدل عليه الخبر الأول.

أقول : وهذا من المشهورات ، بل المجربات. ومن الأمثال المتعارفة بين الناس ، قولهم : عليك بثاني زينة! قال : والاولى؟ قال : لست من رجالها. والمعنى : انك لا توفق للأولى لمزيد الطمع ، مع أنها أوفر مما تعطى بعدها ، فان فاتتك

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 100 ـ 101.

(2) الكافي ج 5 ص 153 حديث : 17.

(3) الوسائل ج 12 ص 296 حديث : 3.


فلا تفوتك الثانية.

ويؤيد الأخبار المذكورة : ما ورد من كراهة استقلال قليل الرزق ، (1) وانه يؤدى الى حرمان الكثير.

روى في الكافي عن إسحاق بن عمار قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من طلب قليل الرزق كان ذلك داعية الى اجتلاب كثير من الرزق (2).

وعن الحسن بن بسام الجمال ، قال : كنت عند إسحاق بن عمار الصيرفي ، فجاءه رجل يطلب غلة بدينار ، وقد كان أغلق باب الحانوت وختم الكيس ، فأعطاه غلة بدينار ، فقلت : ويحك يا إسحاق ، ربما حملت لك من السفينة ألف ألف درهم! فقال : ترى كان بي هذا ، لكني سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : من استقل قليل الرزق حرم كثيره ، ثم التفت الى ، فقال : يا إسحاق لا تستقل قليل الرزق فتحرم كثيره (3).

«ومنها» استحباب المبادرة إلى الصلاة وترك ما بيده من التجارة والاشتغال بها.

ويدل عليه : ما رواه في الكافي عن الحسين بن يسار ، عن رجل رفعه ، في قول الله تعالى «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» قال : هم التجار الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى ، إذا دخل مواقيت الصلاة ، أدوا الى الله تعالى حقه منها (4).

وعن أسباط بن سالم قال : دخلت على ابى عبد الله عليه‌السلام وساق الخبر عنه عليه‌السلام الى ان قال : يقول الله عزوجل «رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ» يقول

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 338 باب : 50 أبواب آداب التجارة. والاستقلال : عد الشي‌ء قليلا.

(2) المصدر حديث : 1.

(3) المصدر حديث : 2.

(4) الكافي ج 5 ص 154 حديث 21.


القصاص : ان القوم لم يكونوا يتجرون ، كذبوا ولكنهم لم يكونوا يدعون الصلاة في ميقاتها ، وهو أفضل ممن حضر الصلاة ولم يتجر (1).

وعن ابى بصير في الصحيح أو الموثق ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤمن فقير شديد الحاجة من أهل الصفة وكان لازما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند مواقيت الصلاة كلها ، لا يفقده في شي‌ء منها ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرق له وينظر الى حاجته وغربته. ثم يقول : يا سعد ، لو قد جائني شي‌ء لأغنيتك ، قال فأبطأ ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاشتد غم رسول الله ، فعلم الله ـ عزوجل ـ ما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غمه بسعد ، فأهبط جبرئيل عليه‌السلام ومعه درهمان. فقال له : يا محمد ، ان الله ـ عزوجل ـ قد علم ما دخل عليك من الغم بسعد ، أفتحب ان تغنيه؟ قال : نعم. فقال له : فهاك هذين الدرهمين ، فأعطه إياهما ، ومره ان يتجر بهما ، فأخذهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جبرئيل عليه‌السلام.

ثم خرج الى صلاة الظهر ، وسعد قائم على باب حجرات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ينتظره. فلما رآه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قال : يا سعد أتحسن التجارة؟ فقال له سعد : والله ما أصبحت أملك مالا اتجر به ، فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدرهمين ، فقال له : اتجر بهما ، وتصرف لرزق الله عزوجل ، فأخذهما سعد ومضى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صلى معه الظهر والعصر ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم واطلب الرزق ، فقد كنت بحالك مغتما يا سعد.

قال : فاقبل سعد لا يشترى بدرهم شيئا إلا باعه بدرهمين ، ولا يشترى بدرهمين الا باعه بأربعة دراهم ، وأقبلت الدنيا عليه ، حتى كثر متاعه وماله ، وعظمت تجارته واتخذ على باب المسجد موضعا وجلس فيه ، وجمع تجاراته اليه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أقام بلال للصلاة يخرج وسعد مشغول بالدنيا ، لا يتطهر ولا يتهيأ كما كان يفعل قبل ان يتشاغل بالدنيا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يا سعد ، شغلتك الدنيا

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 75 حديث : 8.


عن الصلاة! وكان يقول : ما أصنع ، أضيع مالي؟ هذا رجل قد بعته وأريد ان استوفى منه ، وهذا رجل قد اشتريت منه وأريد ان أو فيه ، فدخل رسول الله من أمر سعد غم شديد أشد من غمه بفقره فهبط جبرئيل عليه‌السلام فقال : يا محمد ، ان الله تعالى قد علم غمك بسعد ، فأيما أحب إليك : حاله الأولى أو حاله هذه؟ فقال : يا جبرئيل ، بل حاله الاولى ، فقد ذهبت دنياه بدينه وآخرته. فقال له جبرئيل عليه‌السلام : ان حب الأموال والدنيا فتنة ومشغلة عن الآخرة ، قل لسعد ، يرد عليك الدرهمين الذين دفعتهما إليه ، فإن أمره يصير الى الحال التي كان عليها أولا ، قال : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمر بسعد ، فقال له : اما تريد ان ترد علينا الدرهمين الذين أعطيتكهما؟ فقال له سعد : ومأتين. فقال له : لست أريد منك الا الدرهمين ، فأعطاه سعد درهمين. قال : فأدبرت الدنيا عن سعد ، حتى ذهب ما كان معه وما جمع ، وعاد الى حالته التي كان عليها (1).

«ومنها» ان لا يتوكل حاضر لباد. والمراد بالبادي : الغريب الجالب للبلد ، أعم من ان يكون من البادية أو قرويا. ومعناه : ان يحمل البدوي أو القروي متاعه الى بلد فيأتيه البلدي ، ويقول له : انا أبيعه لك بأعلى ما تبيعه ، قبل ان يعرفه السعر ، ويقول : انا أبيع لك. وأكون سمسارا. كذا ذكره في المسالك.

وقد اختلف الأصحاب في ذلك تحريما وكراهة. فذهب الشيخ في النهاية الى الثاني. وهو قول العلامة في المختلف ، واختيار المحقق في الشرائع ، والشهيد في الدروس.

وفي المبسوط والخلاف إلى الأول ، الا انه قيده في المبسوط بما يضطر اليه الناس ، بان يكون في فقده إضرار بهم.

وقال ابن البراج في المهذب كقول الشيخ في المبسوط. وبه قال ابن إدريس ، والعلامة في المنتهى.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 297 باب : 14 أبواب آداب التجارة حديث : 2 والكافي ج 5 ص 312 حديث : 38.


أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ، ما رواه في الكافي عن عروة بن عبد الله ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يتلقى أحدكم تجارة ، خارجا من المصر ، ولا يبيع حاضر لباد ، والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض (1). وروى الشيخ الطوسي في مجالسه بسنده عن جابر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يبيع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض (2).

ولا يبعد ان يكون الخبر المذكور من طريق العامة ، لأن أكثر رجاله منهم.

وعن يونس بن يعقوب قال : تفسير قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يبيعن حاضر لباد» : أن الفاكهة وجميع أصناف الغلات ، إذا حملت من القرى الى السوق ، فلا يجوز ان يبيع أهل السوق لهم من الناس ، بل ينبغي ان يبيعه حاملوه من القرى والسواد. فاما من يحمل من مدينة إلى مدينة فإنه يجوز ، ويجرى مجرى التجارة.

وأنت خبير بان ظاهر هذا الخبر تخصيص ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديثين الأولين بالفاكهة وجميع أصناف الغلات. إذا حملت من القرى ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب من العموم في هذا الحكم ، الا ان ظاهر الخبر المذكور انما هو من كلام يونس ، فيهون الاشكال.

ومن ذهب من أصحابنا إلى التحريم أخذ بظاهر النهي في الحديثين الأولين.

ومن ذهب الى الكراهة ، اعتمد على الأصل ، ورد الخبرين بضعف السند ، وحملهما على الكراهة تفاديا من طرحهما.

وقد ذكر الأصحاب في تحريمه أو كراهته شروطا :

أحدها : ان يكون الحاضر عالما بورود النهى. وهذا شرط يعم جميع المناهي. الثاني : ان يظهر من ذلك المتاع سعر في البلد ، فلو لم يظهر ، اما لكبر البلاد ، أو لعموم وجوده ، ورخص السعر ، فلا تحريم ولا كراهة. لأن المقتضي للنهي تفويت الربح

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 168 باب التلقي حديث : 2.

(2) الوسائل ج 12 ص 327 باب 37 أبواب آداب التجارة حديث : 3.


وفقد الرفق على الناس ، ولم يوجد هنا.

الثالث : ان يكون المتاع المجلوب بما تعم الحاجة إليه ، فما لا يحتاج اليه الا نادرا ، لا يدخل تحت النهى.

الرابع : ان يعرض الحضري ذلك على البدوي ويدعوه اليه ، فلو التمس الغريب ذلك لم يكن به بأس.

الخامس : ان يكون الغريب جاهلا بسعر البلد ، فلو كان عالما به لم يكره ، بل يكون مساعدته محض الخير.

أقول : أنت خبير بان الظاهر ، ان ما عدا الأول والأخير من هذه الشروط ، تقييد للنص من غير دليل ، الا مجرد هذه التخرصات.

والظاهر : ان أكثر هذه الشروط مأخوذة من كلام العامة.

اما استثناء الأول والأخير فظاهر ، لان الخطاب تحريما أو كراهة انما يتوجه الى العالم. والتعليل بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يرزق الله تعالى الناس بعضهم من بعض ، انما يترتب على الجهل بسعر البلد لا مع العلم. فلا بأس باشتراطهما.

ثم انه على القول بالتحريم فالظاهر هو صحة البيع. وان أثم ، لأصالة الصحة ، وبه صرح جملة من الأصحاب.

واما شراء البلدي للبادي ، فلا إشكال في جوازه ، لعدم دخوله تحت النص المذكور وللعامة فيه قولان.

«ومنها» تلقى الركبان.

وهل التلقي مكروه أو محرم؟ قولان للشيخ ـ عليه الرحمة.

وقد صرح في النهاية بالكراهة ، ونقله في الخلاف عن المفيد ايضا ، وقال في المبسوط والخلاف : لا يجوز.

وحمل العلامة في المختلف كلامه في المبسوط والخلاف على الكراهة المؤكدة ، قال : لانه كثيرا ما يستعمل لفظ «لا يجوز» في المكروه وهو غير بعيد.


وبالتحريم صرح ابن البراج ، وتبعه ابن إدريس ، وهو قول ابى الصلاح ايضا ، واختاره في المنتهى.

واما الاخبار الواردة في هذا المقام فمنها : ما تقدم في سابق هذه المسألة ، من حديث عروة بن عبد الله.

ومنها : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : لا تلق ، ولا تشتر ما تلقى ولا تأكل منه (1).

وما رواه في الفقيه عن منهال القصاب قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن تلقى الغنم ، فقال : لا تلق ولا تشتر ما تلقى ولا تأكل من لحم ما تلقى (2).

وما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب. قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام لا تلق ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن التلقي. قلت : وما حد التلقي؟ قال : ما دون غدوة أو روحة. قلت وكم الغدوة والروحة؟ قال : أربعة فراسخ (3) قال ابن ابى عمير : وما فوق ذلك فليس بتلق.

وأنت خبير بأن الأخبار المذكورة متفقة على النهى عن ذلك ، وهو حقيقة في التحريم عندهم ، والخروج عنه من غير دليل صارف غير معقول.

وغاية ما أجاب به العلامة في المختلف ـ بعد اختياره القول بالكراهة ونقله خبر منهال الأول ، وكذا خبر عروة ، الى ان قال ـ : والجواب : ان النهى كما يدل على التحريم ، فكذا يدل على الكراهة.

ولا يخفى ما في هذا الجواب من النظر الظاهر لكل ناظر! وكيف لا وهو وغيره قد صرحوا بأن الأصل في النهي التحريم ، وهو المعنى الحقيقي له ، والحمل على الكراهة مجاز لا يصار اليه الا مع القرينة ، ولو تم ما ذكره هنا من هذا الكلام لزم ان

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 326 حديث : 2.

(2) الوسائل ج 12 ص 326 حديث : 3.

(3) الوسائل ج 12 ص 326 حديث : 1.


لا يقوم النهى دليلا على التحريم ، في حكم من الأحكام بالكلية.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : ان الوجه في الكراهة هو التمسك بالأصل. وضعف الأخبار المذكورة. فلا تنهض حجة في الخروج عن مقتضى الأصل. فتحمل على الكراهة ، تفاديا من طرحها.

وفيه ما قد أوضحناه في غير موضع مما تقدم.

وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور :

«الأول» : الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ في ان حد التلقي المنهي عنه أربعة فراسخ.

قال في المنتهى : حد علماؤنا التلقي بأربعة فراسخ ، فكرهوا التلقي الى ذلك الحد ، فان زاد على ذلك كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقيا. وهو ظاهر ، لانه بمضيه ، ورجوعه يكون مسافرا ، ويجب عليه التقصير ، فيكون سفرا حقيقيا. الى ان قال : ولا نعرف بين علمائنا خلافا فيه. انتهى.

أقول : ويدل على التحديد بالأربعة كما ذكروه ما تقدم في رواية منهال القصاب وظاهره ان التلقي المنهي عنه ، هو ما يكون فيما دون مسافة الأربعة ، بمعنى انه إذا بلغ الأربعة خرج عن محل النهى ، فيحمل اسم الإشارة في كلام ابن ابى عمير على الرجوع الى ما دون الأربعة.

وأظهر منه في هذا المعنى ما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : وروى ان حد التلقي روحة ، فإذا صار الى أربعة فراسخ فهو جلب. بمعنى انه متى قطع الأربعة ووصل على رأسها فهو جلب ، لأنه حينئذ يصير سفرا برجوعه كما تقدم في كتاب الصلاة ، وبذلك يظهر ما في كلام الأصحاب من المسامحة ، كما في عبارة العلامة المتقدمة ، حيث انه جعل كراهة التلقي إلى حد تمام الأربعة ، وخص التجارة والجلب بما زاد عن الأربعة ، وعلله بأنه يكون حينئذ مسافرا. وأنت خبير بأنه يكون مسافرا بالحصول على رأس الأربعة ، وان لم يزد عليها.


والظاهر ان منشأ التسامح هو ان الحصول على رأس الأربعة بلا زيادة ولا نقصان نادر.

ومن الاخبار في ذلك : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منهال القصاب ، قال : قلت له : ما حد التلقي؟ قال : روحة (1).

وإجماله يعرف من خبره المتقدم. وتفسير الروحة والغدوة بأربعة فراسخ ، لأن الغدوة من أول النهار الى الزوال ، والروحة من الزوال الى الغروب وبياض اليوم ـ كما تقدم في كتاب الصلاة ـ عبارة من ثمانية فراسخ فيكون كل نصف من النهار أربعة فراسخ.

«الثاني» : قد صرح بعض الأصحاب بتقييد التحريم أو الكراهة هنا بقيود :

(منها) : ما تقدم من تحديد التلقي ، وان ما زاد عليه ليس بتلق.

(ومنها) : كون الخروج بقصد ذلك فلو خرج لا لذلك فاتفق الركب لم يحرم ولم يكره.

(ومنها) : تحقق مسمى الخروج من البلد ، فلو تلقى الركب في أول وصوله البلد ، لم يثبت الحكم.

(ومنها) : جهل الركب بسعر البلد فيما يبيعه ويشتريه ، فلو علم بهما أو بأحدهما لم يثبت الحكم فيه.

أقول : واليه يشير التعليل في رواية عروة بن عبد الله المتقدمة ، بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والمسلمون يرزق الله تعالى بعضهم من بعض.

(ومنها) : ان يكون التلقي للبيع عليه أو الشراء منه ، فلو خرج لغيرهما من المقاصد ، ولو في بعض المعاملات كالإجارة ، لم يثبت الحكم. وفي إلحاق الصلح ونحوه من عقود المغابنات اشكال ، فيحتمل ذلك للعلة المذكورة ، والعدم اقتصارا فيما خالف الأصل على القدر المتيقن.

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 326 حديث : 4.


أقول : والظاهر ان الأقرب الأول.

«الثالث» : لو خالف وتلقى ، ثم اشترى منهم أو باع عليهم ، انعقد البيع ، وان قلنا بالتحريم. اما لان النهي في المعاملات لا يقتضي البطلان ، وانما ذلك في العبادات على الوجه المقرر فيها ، أو ان النهى وان اقتضى ذلك في المعاملات ، الا انه مخصوص بما إذا تعلق بحقيقة البيع ، ويرجع الى البيع من حيث هو ، لا إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة. وقد تقدم (1) منا تحقيق نفيس في ذلك.

وظاهر المنتهى : اتفاق العلماء على الصحة. ونقل في ذلك من ابن الجنيد الخلاف في ذلك.

ثم انه مع الحكم بصحة البيع ، فالمشهور انه لا خيار الا مع الغبن الفاحش. ونقل في المختلف عن ابن إدريس انه قال : التلقي محرم ، والبيع صحيح ، ويتخير البائع.

والأقرب هو القول المشهور ، لأن الأصل لزوم البيع ، قام الدليل على الخيار في الغبن الفاحش ، وبقي ما عداه على الأصل.

ولعل ابن إدريس استند هنا الى ما روى من طريق العامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال : لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا اتى سيده السوق فهو بالخيار (2).

وأجاب عنه في المنتهى بان المفهوم من جعل الخيار إذا اتى السوق ، انما هو لأجل معرفة الغبن بالسوق ، ولولا ذلك لكان له الخيار من حين البيع.

(ومنها) الاحتكار وهو افتعال من الحكرة ـ بالضم ـ وهو جمع الطعام وحبسه يتربص به الغلاء.

وقد اختلف الأصحاب أيضا في كراهته وتحريمه ، فنقل في المختلف عن

__________________

(1) وهو في الباب الثالث في بقية الصلوات ، في فضل صلاة الجمعة ، في المسألة الثانية من المطلب الرابع في اللواحق (منه قدس‌سره) ج 10 ص 172 فما بعد.

(2) صحيح مسلم ج 5 ص 5.


الصدوق في الهداية القول بالتحريم. قال : وبه قال ابن البراج. والظاهر من كلام ابن إدريس. واختاره في المسالك.

وقال العلامة في المنتهى ، والشيخ في المبسوط ، والمفيد في المقنعة : انه مكروه. وبه قال أبو الصلاح في المكاسب من كتاب التلقي. وقال في فصل البيع : انه حرام. ثم استقرب في المختلف الكراهة ، وهو اختيار المحقق في الشرائع أيضا.

واما الاخبار الواردة في المقام ، فمنها : ما رواه في التهذيب عن السكوني عن ابى عبد الله عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ورواه في الفقيه مرسلا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحتكر الطعام الا خاطئ (1).

وما رواه في الكافي عن حذيفة بن منصور عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : نفد الطعام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاه المسلمون. فقالوا : يا رسول الله ، قد نفد الطعام ولم يبق الشي‌ء إلا عند فلان ، فمره ببيعه ، قال فحمد الله واثنى عليه ثم قال : يا فلان ، ان المسلمين ذكروا ان الطعام قد نفد ، إلا شيئا عندك فأخرجه فبعه كيف شئت ولا تحبسه (2).

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن ، عن الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يحتكر الطعام ، يتربص به هل يجوز ذلك؟ فقال : ان كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس ، وان كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره ان يحتكر الطعام ، ويترك الناس ليس لهم طعام! (3).

وعن ابن القداح عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الجالب مرزوق والمحتكر ملعون. ورواه الصدوق مرسلا (4).

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 315 حديث : 12.

(2) المصدر ص 317 حديث : 1.

(3) المصدر ص 313 حديث : 2.

(4) المصدر حديث : 3.


وعن السكوني عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : الحكرة في الخصب أربعون يوما ، وفي البلاء والشدة ثلاثة أيام ، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب فصاحبه ملعون ، وما زاد في العسرة على ثلاثة أيام فصاحبه ملعون (1). ورواه في الفقيه بإسناده عن السكوني وايضا روى في الفقيه مرسلا ، قال : نهى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الحكرة في الأمصار (2). وما رواه في التهذيب عن الحسين بن عبيد الله بن ضمرة عن جده عن على بن أبي طالب عليه‌السلام انه قال : رفع الحديث الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، انه مر بالمحتكرين ، فأمر بحكرتهم الى ان تخرج الى بطون الأسواق ، وحيث ينظر الأبصار إليها فقيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قومت عليهم؟ فغضب حتى عرف الغضب في وجهه ، فقال : انا أقوم عليهم! انما السعر الى الله تعالى يرفعه إذا شاء ، ويضعه إذا شاء (3).

وما رواه الشيخ في كتاب المجالس بسنده فيه عن ابى مريم ، عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيما رجل اشترى طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ، ثم باعه فتصدق بثمنه ، لم يكن كفارة لما صنع (4).

وما رواه في كتاب قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر بن محمد (ع) عن أبيه عليه‌السلام ان عليا عليه‌السلام ، كان ينهى عن الحكرة في الأمصار. وقال : ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن (5). وما رواه في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتابه إلى مالك الأشتر ، قال فيه : فامنع من الاحتكار ، فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منع منه. وليكن البيع بيعا سمحا ، بموازين عدل ، واسعا لا يجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه ، فنكل وعاقب في غير

__________________

(1) المصدر ص 312 حديث : 1.

(2) المصدر ص 314 حديث : 9.

(3) المصدر ص 317 حديث : 1.

(4) المصدر ص 314 حديث : 6.

(5) المصدر حديث : 7.


إسراف (1).

وفي كتاب ورام ابن أبي فراس ـ وهو جد السيد رضى الدين بن طاوس لامه ، وكان يثنى عليه ثناء زائدا ، ويعتمد كتابه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبرئيل ، قال : اطلعت في النار فرأيت واديا في جهنم يغلى ، فقلت : يا مالك ، لمن هذا؟ فقال : لثلاثة : المحتكرين ، والمدمنين الخمر ، والقوادين (2).

أقول : هذا ما وقفت عليه من الاخبار في ذلك ، وكلها كما ترى ما بين صريح أو ظاهر في التحريم. وليس فيها ما يمكن التعلق به للقول الأخر. إلا لفظ الكراهة في صحيحة الحلبي أو حسنته. واستعماله في التحريم في الاخبار أكثر كثير ، كما تقدم في غير موضع من كتاب الطهارة والصلاة. فالواجب : حمله على ذلك ، بقرينة جملة أخبار المسألة. ومنه يظهر قوة القول بالتحريم.

ولا يخفى ان من ذهب الى هذا القول ، فإنه لم يمعن نظره في الاخبار ، ولم يتتبعها حق التتبع الرافع عن وجه الحكم المذكور غبار الاستتار ، كما هي عادتهم غالبا في سائر الأحكام ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار.

فروع : الأول : المفهوم من الاخبار ان الاحتكار انما هو في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والزيت والسمن ومنها : ما تقدم في حديث أبي البختري المنقول عن قرب الاسناد ، وقد اشتمل على ما عدا الزيت. وما رواه في الخصال بسنده عن السكوني عن جعفر بن محمد عليهما‌السلام عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحكرة في ستة أشياء : في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت. (3).

وروى المشايخ الثلاثة عن غياث بن إبراهيم ، عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال

__________________

(1) المصدر ص 315 حديث : 13.

(2) الوسائل ج 12 ص 314 حديث : 11.

(3) المصدر حديث : 10.


ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب (1). وزاد في الفقيه ، والزيت.

ومما يدل على دخول الزيت ايضا : ما في صحيحة الحلبي أو حسنته عن ابى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ ، وفيها : قال : وسألته عن الزيت؟ فقال : ان كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه.

والمشهور بين الأصحاب : تخصيص الاحتكار بما عدا الزيت من الأشياء المذكورة في هذه الاخبار ، حتى قال الشيخ في النهاية ـ بعد عدها ـ : ولا يكون الاحتكار في سوى هذه الأجناس. وتبعه ابن إدريس وابن البراج والفاضلان وغيرهم.

وقال المفيد : الحكرة احتباس الأطعمة. وأبو الصلاح : الغلات ، والصدوق في المقنع : الأشياء الستة المذكورة في الخصال. وفي المبسوط : زاد على الخمسة المشهورة الملح. وتبعه ابن حمزة.

قال في المختلف : بعد نقل هذه الأقوال : وأجود ما وصل إلينا في هذا الباب ما رواه غياث بن إبراهيم في الموثق ، وساق الرواية المتقدمة. ثم قال : وحينئذ يبقى ما عداه على الأصل.

وأنت خبير بما فيه ، حيث انه ناش عن قصور التتبع في الاخبار كما عرفت.

واما الملح فنقله في النهاية والشرائع قولا في المسألة. وقد عرفت انه قول الشيخ في المبسوط. قال في المسالك : هذا القول قوي.

أقول : والظاهر ان وجه قوته عنده من حيث شدة الاحتياج اليه ، وتوقف أغلب المآكل عليه ، مع انه لم يذكر في الاخبار الواردة في المسألة. ولعل السر في عدم ذكره ، ان الله تعالى لعلمه بما فيه من مزيد الحاجة والاضطرار اليه جعله في كثرة الوجود والرخص قريبا من الماء الذي لا قوام للأبدان والأديان إلا به ، فمن ثم لم يتعرضوا له في الاخبار.

الثاني : حد الشيخ الحكرة في الرخص بأربعين يوما ، وفي الغلاء والشدة

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 312 حديث : 7.


بثلاثة أيام ، عملا برواية السكوني المتقدمة (1). ويؤيدها ظاهر رواية كتاب المجالس (2).

والأشهر العدم ، لإطلاق الأخبار المتقدمة ، ومنها : صحيحة الحلبي (3) أو حسنته. ورواية الحسين بن عبد الله بن ضمرة (4). وتقييد هذه الاخبار بالخبر المذكور ، كما هو القاعدة ، وان أمكن ، الا ان الظاهر بعده من ظواهرها ، كما لا يخفى على المتأمل.

الثالث : هل يشترط في الاحتكار شراء الغلة؟ بمعنى ان يشتريها ويحسبها لذلك ، أو يشمل ما كان من غلته؟ نقل في ذلك عن العلامة الأول. قال : وفي حسنة الحلبي دلالة عليه.

أقول : الظاهر انه أشار بها الى ما رواه المشايخ الثلاثة ، عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : الحكرة ان يشترى طعاما ليس في المصر غيره فيحتكره ، فان كان في المصر طعام أو يباع غيره فلا بأس ان يلتمس بسلعته الفضل ،. قال : وسألته عن الزيت؟ فقال : إذا كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه (5).

ويؤيده أيضا رواية مجالس الشيخ المتقدمة (6).

ثم انه قال في ذلك : والأقوى عموم التحريم مع استغنائه وحاجة الناس. أقول : أنت خبير بان القول بالعموم ، مع اعترافه بدلالة الحسنة المذكورة على التخصيص بالمشتري لأجل ذلك ، لا يخلو من الإشكال ، لأن القاعدة تقتضي تقييد

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 312 حديث : 1. باب 27. أبواب آداب التجارة.

(2) المصدر ص 314 حديث : 6.

(3) المصدر ص 313 حديث : 2.

(4) المصدر ص 317 حديث : 1. باب 30. أبواب آداب التجارة.

(5) المصدر ص 315 حديث : 2. باب 28. أبواب آداب التجارة.

(6) المصدر ص 314 حديث : 6.


إطلاق ما عدا هذه الحسنة بها ، فيبقى القول بالعموم خاليا من الدليل ، والقول بالعموم لا مستند له ، الا إطلاق سائر الاخبار ، ومتى قيد بهذه الرواية ، عملا بالقاعدة المذكورة ، لم يبق للقول بالعموم مستند كما لا يخفى.

(الرابع) : لا خلاف بين الأصحاب في ان الامام يجبر المحتكرين على البيع. وعليه تدل جملة من الاخبار المتقدمة. واما انه هل يسعر عليهم أم لا؟ الظاهر : ان المشهور : هو الثاني.

ونقل في المنتهى عن المفيد وسلار. ان للإمام عليه‌السلام ان يسعر عليهم. قال المفيد ـ على ما نقله في المختلف ـ : وللسلطان ان يسعرها على ما يراه من المصلحة ، ولا يسعرها بما يخسر به أربابها فيها.

وقال الشيخ : لا يجوز للسلطان ان يجبر على سعر بعينه ، بل يبيعه بما يرزقه الله تعالى. وبه قال ابن البراج وابن إدريس. والظاهر انه هو المشهور بين المتأخرين.

وقال ابن حمزة : لا يسعر إلا إذا شدد. وان خالف وأخذ في السعر بزيادة أو نقصان لم يتعرض عليه. واختار هذا القول في المختلف. واليه يميل كلام المسالك. وهو جيد.

لنا على عدم التسعير عليه. ما تقدم في حديث الحسين بن عبد الله بن ضمرة. وما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو سعرت لنا سعرا. فإن الأسعار تزيد وتنقص! فقال : ما كنت لا لقي الله تعالى ببدعة لم يحدث الى فيها شيئا. فدعوا عباد الله تعالى يأكل بعضهم من بعض ، فإذا استنصحتم فانصحوا (1).

ويؤيده ما ورد في جملة من الاخبار : ان الله عزوجل وكل بالأسعار ملكا يدبرها (2). وفي بعضها : فلن يغلو من قلة ولن يرخص من كثرة (3). وفي آخر : علامة

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 318 حديث : 2.

(2) الكافي ج 5 ص 163 حديث : 4.

(3) المصدر ص 162.


رضا الله تعالى في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم ، وعلامة غضب الله تعالى على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم (1).

ولنا على التسعير عليه إذا شدد حديث «لا ضرر ولا ضرار» (2).

قال في المسالك ـ بعد اختيار القول المشهور ، وهو انه لا يسعر عليه ـ : وهو أظهر إلا مع الإجحاف ، فيؤمر بالنزول عنه الى حد ينتفي الإجحاف. والا لانتفت فائدة الإجبار ، إذ لا يجوز ان يطلب في ماله مالا يقدر على بذله ، أو يضر بحال الناس ، والغرض دفع الضرر انتهى. وهو جيد ، ومرجعه الى ما ذكرنا من الخبر ، وبه يخصص إطلاق الاخبار المتقدمة.

ويحتمل العمل بإطلاق تلك الأخبار ، مؤيدا ب خبر «الناس مسلطون على أموالهم» (3). وما رواه في التهذيب والفقيه في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، انه قال في تجار قدموا أرضا اشتركوا في البيع ، على ان لا يبيعوا بيعهم الا بما أحبوا. قال : لا بأس بذلك (4).

وأظهر من ذلك تأييدا : قوله عليه‌السلام في حديث حذيفة بن منصور المتقدم : وبعه كيف شئت (5).

(الخامس) : لا يخفى ان جملة من الاخبار المتقدمة ، وان كانت مطلقة في النهي عن الاحتكار ، الا ان جملة منها قد قيدت ذلك بما إذا لم يكن في البلد طعام غيره ، فلو كان كذلك لم يدخل تحت النهى ، وان سمى احتكارا ، كما تقدم.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 162 حديث : 1.

(2) الوسائل ج 12 ص 364 حديث : 4.

(3) بحار الأنوار ج 2 ص 272 الطبقة الحديثة.

(4) الوسائل ج 12 ص 312 حديث : 2.

(5) المصدر ص 317 حديث : 1. باب 29 أبواب آداب التجارة.


ومن الاخبار المقيدة ما تقدم في صحيحة الحلبي أو حسنة الاولى. وكذا ما في الثانية (1) المذكورة في الفرع الثالث.

ونحوهما ما رواه المشايخ الثلاثة عن ابى الفضل سالم الحناط في الصحيح ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما عملك؟ قلت : حناط ، وربما قدمت على نفاق ، وربما قدمت على كساد ، فحبست. قال : فما يقول من قبلك فيه؟ قلت : يقولون : محتكر! قال : يبيعه أحد غيرك؟ قلت ما أبيع انا من ألف ألف جزء جزء. قال : لا بأس ، انما كان ذلك رجل من قريش ، يقال له : حكيم بن حزام ، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله ، فمر عليه النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فقال : يا حكيم بن حزام ، إياك ان تحتكر (2).

__________________

(1) الوسائل ج 12 ص 313 حديث : 2 وص 315 حديث : 1.

(2) المصدر ص 316 حديث : 3.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *