ج5 - حكم نجاسة الميتة
الفصل الخامس
قد أجمع الأصحاب على نجاسة الميتة من ذي النفس السائلة نقله جمع : منهم ـ المحقق في المعتبر حيث قال الميتات مما له نفس سائلة نجس وهو إجماع الناس. وقال في المنتهى : الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة نجسة سواء كان آدميا أو غير آدمي وهو مذهب علمائنا اجمع. ونحو ذلك في كلام الشهيد وابن زهرة وغيرهم ، قال في المعالم : وقد تكرر في كلام الأصحاب ادعاء الإجماع على هذا الحكم وهو الحجة فيه إذ النصوص لا تنهض بإثباته وجملة ما وقفنا عليه من الروايات في هذا الباب حسنة الحلبي ، ثم ساق الرواية الآتية وأردفها برواية إبراهيم بن ميمون الآتية أيضا ثم قال وقصور هذين الحديثين عن افادة هذا الحكم بكماله ظاهر مع ان الصحة منتفية عن سنديهما ، وورد في عدة روايات معتبرة الإسناد المنع من أكل السمن والزيت إذا ماتت فيه الفأرة وظاهره الحكم بنجاسته ، وهذا الحكم خاص ايضا كما لا يخفى فلا يمكن جعله دليلا على العموم ، وحينئذ فالعمدة في إثبات التعميم هو الإجماع المدعى في كلام الجماعة. انتهى ملخصا ، وفيه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في المقام.
وكيف كان فالميتة اما ان تكون من ذي النفس أو غيره
والأول اما آدمي أو غيره فههنا أقسام ثلاثة ، وبيان الكلام فيها يقتضي بسطه في
مواضع ثلاثة :
(الأول) ـ ميتة غير الآدمي من ذي النفس السائلة ، وقد
عرفت فيما تقدم دعوى الإجماع على النجاسة فيما يشمل هذه المسألة.
ولصاحب المدارك في هذه المسألة مناقشتان : (الاولى) في
وجود الدليل الدال على النجاسة في هذه المسألة كما سبق ذكره في كلام المحقق الشيخ
حسن وان كان الكلام هنا فيما هو أخص مما ذكره المحقق المشار اليه. و (الثانية) ـ في
نجاسة جلد الميتة وهي في الحقيقة راجعة إلى الاولى ، وها أنا أسوق كلامه بطوله
وأبين ما يكشف عن فساد محصوله وبه يظهر تحقيق الحال وينجلي عنه غياهب الإشكال ،
فأقول :
قال السيد المذكور : «واحتج عليه في المنتهى بان تحريم
ما ليس بمحرم بالأصل ولا فيه ضرر كالسم يدل على نجاسته. وفيه منع ظاهر. نعم يمكن
الاستدلال عليه بالروايات المتضمنة للنهي عن أكل الزيت ونحوه إذا ماتت فيه الفأرة
لكنه غير صريح في النجاسة وبما رواه الشيخ في الصحيح عن حريز (1) قال : «قال أبو
عبد الله (عليهالسلام) لزرارة
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الأطعمة المحرمة.
ومحمد بن مسلم «اللبن واللبأ والبيضة
والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وان
أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه». وجه الدلالة ان الظاهر ان الأمر بغسل ما
يؤخذ من الدابة بعد الموت انما هو لنجاسة الأجزاء المصاحبة له من الجلد. ويتوجه
عليه ان الأمر بالغسل لا يتعين كونه للنجاسة بل يحتمل ان يكون لإزالة الأجزاء
المتعلقة به من الجلد المانعة من الصلاة فيه كما يشعر به قوله «وصل فيه» وبالجملة
فالروايات متظافرة بتحريم الصلاة في جلد الميتة بل الانتفاع به مطلقا واما نجاسته
فلم أقف فيها على نص يعتد به ، مع ان ابن بابويه روى في أوائل الفقيه مرسلا عن
الصادق (عليهالسلام) «انه سئل عن
جلود الميتة يجعل فيها اللبن والسمن والماء ما ترى فيه؟ فقال لا بأس بأن تجعل فيها
ما شئت من ماء أو لبن أو سمن وتوضأ منه واشرب ولكن لا تصل فيها». وذكر قبل ذلك من
غير فصل يعتد به انه لم يقصد فيه قصد المصنفين في إيراد جميع ما رووه ، قال بل
انما قصدت إلى إيراد ما افتي به واحكم بصحته واعتقد انه حجة فيما بيني وبين ربي
تقدس ذكره وتعالت قدرته ، والمسألة قوية الإشكال» انتهى كلامه.
أقول : والكلام هنا يقع في مقامين (الأول) ـ فيما ذكره
من المناقشة الاولى في عدم الدليل على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الإنسان ، وها
أنا أورد ما وقفت عليه من الروايات المتعلقة بذلك وان طال به زمام الكلام فإنه من
أهم المهام.
وأقول : من ذلك روايات ما يقع في البئر والأمر بالنزح
لها مع التغير وعدمه وقد اشتملت تلك الروايات على ميتة الإنسان والدابة والفأرة
والطير والحمار والبقرة والجمل والسنور والحمام والدجاجة ونحو ذلك ، ولا ينافي ذلك
القول بطهارة البئر فإن ذلك ليس من حيث كون هذه الأشياء غير نجسة بل انما هو من
حيث عدم انفعالها بالنجاسة ولهذا لو تغير الماء بها فلا خلاف في النجاسة.
ومنها ـ اخبار الدهن والزيت ونحوهما وهي كثيرة ، ومنها ـ
صحيحة زرارة
أو حسنته بإبراهيم بن هاشم على
المشهور عن الباقر (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه فان كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي وان
كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك». ومنها ـ صحيحة الحلبي (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفأرة
والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه؟ فقال ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا ـ فإنه
ربما يكون بعض هذا ـ فان كان الشتاء فانزع ما حوله وكله وان كان الصيف فارفعه حتى
تسرج به ، وان كان بردا فاطرح الذي كان عليه ولا تترك طعامك من أجل دابة ماتت عليه».
ومنها ـ صحيحة سعيد الأعرج (3) قال «سألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن الفأرة
تقع في السمن والزيت ثم تخرج منه حيا؟ فقال لا بأس بأكله. وعن الفأرة تموت في
السمن والعسل؟ فقال قال علي (عليهالسلام) خذ ما حولها
وكل بقيته. وعن الفأرة تموت في الزيت؟ فقال لا تأكله ولكن أسرج به». ومنها ـ رواية
معاوية بن وهب عن الصادق (عليهالسلام) (4) قال «قلت له
جرذ مات في سمن أو زيت أو عسل؟ فقال اما السمن والعسل فيؤخذ الجرذ وما حوله ، واما
الزيت فيستصبح به. وقال في بيع ذلك تبيعه وتبينه لمن اشتراه ليستصبح به». ومنها ـ رواية
السكوني عن الصادق (عليهالسلام) (5) «ان أمير المؤمنين
(عليهالسلام) سئل عن قدر
طبخت وإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل». ومنها ـ رواية
سماعة (6) قال «سألته عن
السمن تقع فيه الميتة؟ فقال ان كان جامدا فالق ما حوله وكل الباقي. فقلت الزيت؟
فقال أسرج به». ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (7) «سألته عن آنية
أهل الذمة؟ فقال
__________________
(1 و 2 و 4 و 6) المروية في الوسائل في الباب 43 من الأطعمة
المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 43 و 45 من الأطعمة المحرمة.
(5) المروية في الوسائل في الباب 44 من الأطعمة المحرمة.
(7) المروية في الوسائل في الباب 54 من الأطعمة المحرمة.
لا تأكلوا في آنيتهم إذا كانوا يأكلون
فيها الميتة والدم ولحم الخنزير». ومنها ـ رواية جابر عن الباقر (عليهالسلام) (1) قال «أتاه رجل
فقال له وقعت فأرة في خابية فيها سمن أو زيت فما ترى في أكله؟ قال فقال له أبو
جعفر (عليهالسلام) لا تأكله
فقال له الرجل الفأرة أهون علي من ان اترك طعامي من أجلها. قال فقال له أبو جعفر (عليهالسلام) انك لم تستخف
بالفأرة وانما استخففت بدينك ، ان الله تعالى حرم الميتة من كل شيء».
أقول : المراد بلفظ التحريم هنا النجاسة ليصح التعليل
المذكور وإلا فالحرمة بمجردها بمعناها المتعارف لا توجب عدم أكل الزيت الذي ماتت
فيه الفأرة ، ومما يؤيد ورود هذا اللفظ بمعنى النجاسة لا بالمعنى المتبادر ما رواه
في التهذيب والكافي عن الحسن ابن علي (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليهالسلام) فقلت جعلت
فداك ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال هي حرام. قلت جعلت فداك
فتصطبح بها؟ فقال أما تعلم انه يصيب اليد والثوب وهو حرام؟». إذ لا ريب بمقتضى
سياق الخبر ان الحرام هنا انما هو بمعنى النجس.
أقول : ظاهر رواية الحسن بن علي المذكورة عدم جواز
الانتفاع بأليات الميتة أو المبانة من حي مطلقا حتى ولو بالإسراج ، وهو المشهور
بين الأصحاب وبه صرح جملة : منهم ـ الشهيد الثاني في المسالك ، قال بعد قول المصنف
: «ويجوز بيع الادهان النجسة ويحل ثمنها. إلخ» : المراد بها الادهان النجسة بالعرض
كما هو المفروض اما النجسة بالذات كأليات الميتة يقطعها من حي أو ميت فلا يجوز
بيعها ولا الانتفاع بها مطلقا إجماعا لإطلاق النهي عنه ، وانما جاز بيع الدهن
النجس لبقاء منفعته بالاستصباح. انتهى. ونقل الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به
تحت السماء ثم قال : وهو ضعيف.
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب الماء المضاف.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 من الذبائح و 32 من الأطعمة
المحرمة.
أقول : قد روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي عن
الرضا (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الرجل تكون له الغنم يقطع من ألياتها وهي أحياء أيصلح له ان ينتفع بما قطع؟ قال
نعم يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها». قال ابن إدريس بعد نقله : لا يلتفت
الى هذا الحديث لانه من نوادر الأخبار والإجماع منعقد على تحريم الميتة والتصرف
فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر غير الباغي ولا العادي. وهو جار على ما قدمنا ذكره
عنهم ، وروى هذه الرواية أيضا في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن
جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) مثله (2).
وظاهر شيخنا المجلسي في البحار الميل الى العمل بهذه
الرواية حيث قال بعد نقل الخلاف في المسألة : والجواز عندي أقوى لدلالة الخبر
الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز وضعف حجة المنع إذ المتبادر من تحريم الميتة
تحريم أكلها كما حقق في موضعه والإجماع ممنوع. انتهى.
أقول : ما ذكره بالنسبة الى الآية من ان التحريم انما
يتبادر إلى الأكل دون سائر الوجوه جيد إلا ان جملة من الأخبار صرحت بأن الميتة لا
ينتفع بشيء منها ، ومنه ما رواه في الكافي والفقيه بطريقه إلى الكاهلي في حديث عن
الصادق (عليهالسلام) (3) «سئل عن أليات
الغنم قال ان في كتاب علي (عليهالسلام) ان ما قطع
منها ميتة لا ينتفع به». ونحوه غيره كما سيأتي في المقام ان شاء الله تعالى ، وليس
حجة المانع منحصرة فيما ذكره مع إمكان حمل الرواية التي اعتمدها على التقية ،
ولتحقيق المسألة موضع آخر ولكن الحديث ذو شجون فلنعد الى ما نحن فيه :
ومنها ـ صحيحة زرارة (4) قال : «إذا كان الماء أكثر من راوية
لم ينجسه
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب ما يكتسب به.
(3) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الذبائح.
(4) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء المطلق.
شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ إلا ان يجيء
له ريح يغلب على ريح الماء». ومنها ـ موثقة عمار الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) (1) «في الفأرة
التي يجدها في إنائه وقد توضأ من ذلك الإناء مرارا وغسل ثيابه واغتسل وقد كانت
الفأرة متسلخة؟ فقال ان كان رآها في الإناء قبل ان يغتسل أو يتوضأ أو يغسل ثيابه
ثم فعل ذلك بعد ما رآها في الإناء فعليه ان يغسل ثيابه ويغسل كل ما اصابه ذلك
الماء ويعيد الوضوء والصلاة. الحديث».
ومنها ـ صحيحة حريز عن الصادق (عليهالسلام) (2) انه قال : «كلما
غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا
تتوضأ منه ولا تشرب». ورواية عبد الله بن سنان (3) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غدير أتوه
وفيه جيفة؟ فقال إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ». وموثقة سماعة عن
الصادق (عليهالسلام) (4) قال : «سألته
عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت؟ قال ان كان النتن الغالب على الماء
فلا تتوضأ ولا تشرب». ورواية أبي خالد القماط عن الصادق (عليهالسلام) (5) «في الماء يمر
به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) ان كان الماء
قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه. الحديث». وفي الفقه الرضوي (6) «وان مسست ميتة
فاغسل يديك وليس عليك غسل انما يجب عليك ذلك في الإنسان وحده». ومنها ـ موثقة عمار
عن الصادق (عليهالسلام) (7) قال : «سئل عن
الخنفساء والذباب والجراد والنملة وما أشبه ذلك يموت في البئر والزيت والسمن وشبهه؟
قال كل ما ليس له دم فلا بأس به». ورواية حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليهالسلام) (8) قال : «لا يفسد
الماء إلا ما كان له
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 4 أبواب الماء المطلق.
(2 و 3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب الماء
المطلق.
(6) ص 18.
(7 و 8) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات.
نفس سائلة». وموثقة عمار عن الصادق (عليهالسلام) (1) في حديث طويل
قال فيه : «اغسل الإناء الذي تصيب فيه الجرذ ميتا سبع مرات». الى غير ذلك من
الاخبار التي يقف عليها المتتبع وهذا ما حضرني منها.
وأنت خبير بأنه لا مجال للتوقف في الحكم المذكور بعد
الوقوف على هذه الاخبار مع تعليق الحكم في كثير منها على مطلق الميتة والجيفة
والشيء والدابة ـ والمراد بها ما يدب على وجه الأرض لا ذات القوائم الأربع ـ من
غير مخصص ولا مقيد ، ولا يخفى على من اعطى النظر حقه ان أكثر الأحكام الشرعية التي
صارت بين الأصحاب قواعد كلية إنما حصلت من تتبع جزئيات الأحكام وضم بعضها الى بعض
كالقواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب وإلا فوجود الأحكام بقواعد مسورة
بسور الكلية لا تكاد يوجد إلا نادرا. وما ذكره في المدارك مما قدمنا نقله عنه ـ بعد
إشارته إلى روايات الزيت الذي ماتت فيه الفأرة انه غير صريح في النجاسة ـ مردود بأنهم
إنما حكموا بالنجاسة في جل المواضع بل كلها من حيث النهي عن الصلاة فيها أو الأمر
بغسلها أو النهي عن أكل ما وقعت فيه أو النهي عن شربه ونحو ذلك مما هو أعم من
المراد حتى انه لو ورد لفظ النجاسة لتأولوه بالحمل على المعنى اللغوي لعدم الحقيقة
الشرعية فيه كذلك ، وهو ممن صرح بما ذكرناه أيضا في نجاسة البول فقال بعد كلام في
المقام والاحتجاج على النجاسة بالأمر بالغسل : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب
غسل الملاقي له بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل
الثوب والبدن من ملاقاتها» انتهى. والحكم في الغسل والأكل واحد باعتبار النجاسة
العارضة للمأكول فكما ان النهي عن الأكل أعم من النجاسة كذلك الأمر بالغسل أعم من
ذلك. وبالجملة فإن ما ذكره المحققان المذكوران انما نشأ من الغفلة عن تتبع
الروايات في هذا المقام وقصر النظر على ما خطر ببالهما من الاخبار المشار إليها في
كلامهما ومن اعطى النظر حقه في هذه الأخبار
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 53 من أبواب النجاسات.
التي سردناها لا يخفى عليه انطباقها
على ما ذكرناه من عموم الحكم.
(المقام الثاني) ـ فيما ذكره من المناقشة الثانية في حكم
جلد الميتة وانه لم يقم على نجاسته عنده دليل معتضدا بما نقله عن الفقيه ، ففيه
انه لا ريب ان الروايات هنا مختلفة في جلد الميتة طهارة ونجاسة والقول بطهارته
منقول عن ابن الجنيد لكن بشرط الدباغ وانها تطهر بذلك.
فمما يدل على الطهارة ما نقله عن الفقيه ومثله ما رواه
الشيخ في الصحيح الى الحسين ابن زرارة ـ وهو وان كان في كتب الرجال مهملا إلا انه
يمكن استفادة مدحه من دعاء الصادق (عليهالسلام) له ولأخيه
الحسن ـ عن الصادق (عليهالسلام) (1) «في جلد شاة
ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فاشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم ، وقال يدبغ فينتفع به
ولا يصلى فيه». وظاهر الرواية التي نقلها عن الفقيه وان كان أعم إلا ان الظاهر انه
يجب تقييدها بالدباغ ، ولعله إنما أطلق الحكم فيها بناء على ما هو المتعارف من
الدباغ وانه لا يستعملونه إلا بعد ذلك ، وحينئذ يكون الجميع مستندا لما ذهب اليه
ابن الجنيد في المسألة وأظهر من هذين الخبرين في ذلك ما صرح به (عليهالسلام) في كتاب
الفقه (2) حيث قال : «وان
كان الصوف والوبر والشعر والريش من الميتة وغير الميتة بعد ان يكون مما أحل الله
تعالى اكله فلا بأس به ، وكذلك الجلد فان دباغته طهارته» وقال بعد هذا الكلام
بأسطر قليلة : «وذكاة الحيوان ذبحه وذكاة الجلود الميتة الدباغ»
ومما يدل على المشهور ـ وهو المؤيد المنصور ـ من النجاسة
ما رواه في الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي الحسن (عليهالسلام) (3) قال : «كتبت
إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب
ولا عصب. الحديث». أقول : «ان ذكي» يحتمل ان يكون قيدا لأكل اللحم بمعنى ان مأكول
اللحم مع التذكية ما حكم جلده
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 34 من الأطعمة المحرمة.
(2) ص 41.
(3) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
بعد الموت؟ ويحتمل ان يكون راجعا الى
الجلود بالنظر الى ان دباغته تذكيته كما دل عليه خبر كتاب الفقه.
وما رواه في الكافي في الصحيح عن علي بن أبي المغيرة (1) وهو ثقة قال :
«قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) جعلت فداك
الميتة ينتفع منها بشيء؟ قال لا. قلت بلغنا ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) مر بشاة ميتة
فقال ما كان على أهل هذه الشاة إذ لم ينتفعوا بلحمها ان ينتفعوا بإهابها؟ قال تلك
شاة كانت لسودة بنت زمعة زوجة النبي (صلىاللهعليهوآله) وكانت شاة
مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتى ماتت فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما كان على
أهلها إذ لم ينتفعوا بلحمها ان ينتفعوا بإهابها أي تذكى». وجه الدلالة (أولا) ـ انه
(عليهالسلام) ذكر ان
الميتة لا ينتفع منها بشيء وهو ظاهر الدلالة فيما نحن فيه. و (ثانيا) ـ انه لما
سأله عن حديث الشاة الذي هو أحد مستندات العامة فيما ذهبوا اليه من طهارة جلد
الميتة حيث انهم رووا الحديث وحملوا كلامه (صلىاللهعليهوآله) على انه
ينبغي ان يسلخوا جلدها بعد الموت وينتفعوا به وان لم ينتفعوا بلحمها لكونها ميتة (2) فأجاب (عليهالسلام) بان الوجه في
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب النجاسات و 34 من
الأطعمة المحرمة.
(2) في المغني ج 1 ص 66 «المشهور في المذهب نجاسة الجلد بعد
الدبغ وهو احدى الروايتين عن مالك ، وعن أحمد برواية اخرى انه يطهر جلد ما كان
طاهرا حال الحياة. ومذهب الشافعي طهارة الحيوانات كلها الا الكلب والخنزير فيطهر عنده
كل جلد الا جلدهما ، وقال أبو حنيفة يطهر كل جلد بالدبغ الا جلد الخنزير ، وحكى عن
ابى يوسف انه يطهر كل جلد وهو رواية عن مالك. ومذهب من حكم بطهارة الحيوانات كلها قوله
(ص) «إذا دبغ الإهاب فقد طهر». ولانه (ص) وجد شاة لميمونة فقال : هلا انتفعتم
بجلدها؟ فقالوا انها ميتة قال انما حرم أكلها». وفي صحيح مسلم ج 1 ص 145 عن ابن
عباس قال : «تصدق لمولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله (ص) فقال هلا أخذتم
إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ قالوا انها ميتة قال انما حرم أكلها». وفيه عن ابن
عباس قال «سمعت رسول الله (ص) يقول إذا دبغ الإهاب فقد طهر» ..
الخبر ليس ما توهموه وظنه السائل بناء
على شهرة الخبر بينهم بل المعنى فيه والذي أراده (صلىاللهعليهوآله) انما هو ان
تذكى قبل الموت وينتفعوا بإهابها وان لم ينتفعوا بلحمها لهزالها ، وهو صريح في عدم
الانتفاع بجلود الميتة المؤذن بنجاستها ، وينبغي تقييد قوله (عليهالسلام): «الميتة لا
ينتفع منها بشيء». بما كان تحله الحياة ثم عرض له الموت جمعا بين الخبر المذكور
والاخبار الدالة على طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة.
ومنها ـ ما رواه الشيخ في الموثق عن ابي مريم (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) السخلة التي
مر بها رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وهي ميتة
فقال : ما ضر أهلها لو انتفعوا بإهابها؟ قال : فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) لم تكن ميتة
يا أبا مريم ولكنها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما كان على
أهلها لو انتفعوا بإهابها». أقول : الظاهر ان مورد هذا الخبر غير سابقه. والتقريب
في سؤال السائل هو ما ذكرناه من التقريب في الخبر الأول ولكن الجواب وقع عنها بأن
السخلة انما رماها أهلها بعد الذبح فهي مذكاة فمن أجل ذلك قال (صلىاللهعليهوآله) انها بعد
التذكية وان لم ينتفعوا بلحمها لهزاله إلا ان جلدها مما ينتفع به فكيف لم يأخذوه؟
ومنها ـ ما رواه في التهذيب في الموثق عن سماعة (2) قال : «سألته
عن جلود السباع ينتفع بها؟ قال إذا رميت وسميت فانتفع بجلده واما الميتة فلا».
ومنها ـ ما رواه في الكافي وكذا في التهذيب عن قاسم
الصيقل (3) قال : «كتبت
الى الرضا (عليهالسلام) اني اعمل
أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي أفأصلي فيها؟ فكتب الي اتخذ ثوبا
لصلاتك. فكتبت الى ابي جعفر (عليهالسلام) كنت كتبت الى
أبيك بكذا وكذا فصعب ذلك علي فصرت أعملها من جلود الحمر
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 34 من الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات.
الوحشية الذكية؟ فكتب الي كل اعمال
البر بالصبر يرحمك الله فان كان ما تعمل وحشيا ذكيا فلا بأس».
ومنها ـ ما رواه في التهذيب عن ابي القاسم الصيقل وولده (1) قال : «كتبوا
الى الرجل (عليهالسلام) جعلنا الله
فداك انا قوم نعمل أغماد السيوف وليس لنا معيشة ولا تجارة غيرها ونحن مضطرون إليها
وانما علاجنا من جلود الميتة من البغال والحمر الأهلية لا يجوز في أعمالنا غيرها
فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ونحن نصلي في ثيابنا؟ ونحن
محتاجون الى جوابك في المسألة يا سيدنا لضرورتنا إليها ، فكتب (عليهالسلام) اجعلوا ثوبا
للصلاة. الحديث».
هذا ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول المشهور ،
ووجه الجمع بينها وبين ما عارضها هو حمل المعارض على التقية لموافقته لمذهب بعض
العامة كما أشرنا إليه في ذيل حديث الشاة ، ويدل على ذلك ما رواه في التهذيب عن
عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني ادخل سوق
المسلمين اعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام فاشترى منهم الفراء للتجارة فأقول
لصاحبها أليست هي ذكية فيقول بلى فهل يصلح لي ان أبيعها على انها ذكية؟ فقال لا
ولكن لا بأس ان تبيعها وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه انها ذكية. قلت وما أفسد
ذلك؟ قال استحلال أهل العراق الميتة وزعموا ان دباغ جلد الميتة ذكاته ثم لم يرضوا
ان يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلىاللهعليهوآله)». وفي
التهذيب بسنده الى ابي بصير (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الصلاة في
الفراء؟ فقال كان علي بن الحسين (عليهالسلام) رجلا صردا
فلا تدفئه فراء الحجاز لان دباغها بالقرظ فكان يبعث الى العراق
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب ما يكتسب به.
(2) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 61 من أبواب لباس المصلي.
فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه فإذا
حضرت الصلاة ألقاه والقى القميص الذي يليه فكان يسأل عن ذلك فيقول ان أهل العراق
يستحلون لباس جلود الميتة ويزعمون ان دباغها ذكاتها». وبما أوضحناه وشرحناه يظهر
لك انه لا إشكال في صحة القول المشهور كما وقع فيه لعدم التدبر في اخبار المسألة
سيدنا المحقق المذكور. ثم ان ما ذكره (قدسسره) في تأييد
مرسلة الفقيه من قول مصنفه في صدر كتابه ما قاله ـ مع الإغماض عن الطعن في ذلك
بمخالفة مصنفه لهذه القاعدة في مواضع عديدة من كتابه كما لا يخفى على من تتبعه ـ ففيه
انه في شرحه قد اضطرب كلامه في هذا المقام ايضا كاضطرابه في غيره فتراه تارة يعمل
بمرويات الفقيه الضعيفة ويعتذر بهذا الكلام وتراه يرد رواياته اخرى من غير التفات
الى ما ذكره في هذا المقام كما لا يخفى على من تتبع شرحه المشار اليه ، وهي طريقة
غير جيدة ناشئة من ضيق الخناق في هذا الاصطلاح الذي تمسك به وبالغ في نصرته كما
أوضحناه في مواضع من شرحنا على الكتاب.
(الموضع الثاني) ـ ميتة الآدمي ، وقد أجمع الأصحاب (رضوان
الله عليهم) على ما نقله غير واحد منهم على نجاستها بعد برده وقبل تطهيره بالغسل ،
قال في المعتبر : وعلماؤنا مطبقون على نجاسته نجاسة عينية كغيره من ذوات الأنفس
السائلة.
ويدل على ذلك مضافا الى الإجماع المذكور ما رواه الشيخ
في الصحيح عن محمد ابن الحسن الصفار (1) قال : «كتبت اليه : رجل أصاب يديه أو
بدنه ثوب الميت الذي يلي جسده قبل ان يغسل هل يجب عليه غسل يديه أو بدنه؟ فوقع (عليهالسلام) : إذا أصاب
يدك جسد الميت قبل ان يغسل فقد يجب عليك الغسل». وحسنة الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الرجل يصيب ثوبه جسد الميت؟ فقال يغسل ما أصاب الثوب». ورواية إبراهيم بن ميمون
(3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليه
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من غسل مس الميت.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب النجاسات.
السلام) عن الرجل يقع ثوبه على جسد
الميت؟ فقال ان كان غسل الميت فلا تغسل ما أصاب ثوبك منه وان كان لم يغسل الميت
فاغسل ما أصاب ثوبك منه». وروى الطبرسي في الاحتجاج والشيخ في كتاب الغيبة التوقيع
الخارج عن الناحية المقدسة في أجوبة مسائل محمد بن عبد الله الحميري (1) فإنه كتب «روي
لنا عن العالم انه سئل عن امام صلى بقوم بعض صلاتهم وحدثت عليه حادثة كيف يعمل من
خلفه؟ قال يؤخر ويتقدم بعضهم ويتم صلاتهم ويغتسل من مسه؟ التوقيع ليس على من مسه
إلا غسل اليد». وعنه (2) قال : «كتبت
اليه وروي عن العالم (عليهالسلام) ان من مس
ميتا بحرارته غسل يده ومن مسه وقد برد فعليه الغسل وهذا الميت في هذه الحالة لا
يكون إلا بحرارته والعمل في ذلك على ما هو ولعله ينحيه بثيابه ولا يمسه فكيف يجب
عليه؟ التوقيع : إذا مسه في هذه الحال لم يكن عليه إلا غسل يده». وفي الفقه الرضوي
(3) «وان مس ثوبك ميتا
فاغسل ما أصاب».
بقي الكلام في أنها هل هي عينية محضة مطلقا فعلى هذا
ينجس ما يلاقي الميت برطوبة كان أو بيبوسة وتتعدى نجاسة ذلك الملاقي الى ما لاقاه
برطوبة ، أو مع الرطوبة خاصة وإلا فحكمية بمعنى انها مع اليبوسة انما ينجس بها ذلك
الملاقي خاصة دون ما لاقاه ولو برطوبة. أو عدم تعديها مطلقا وان وجب غسل الملاقي
تعبدا ، أو انها عينية محضة مع الرطوبة خاصة واما مع اليبوسة فلا اثر لها كغيرها
من النجاسات ، أقوال أربعة : الأول ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروض وقواه شيخنا
المحقق الشيخ حسن على تقدير القول بالتعدي مع اليبوسة ، والثاني للعلامة في
المنتهى ، والثالث ظاهر كلام ابن إدريس حيث قال على ما نقل عنه في المدارك : إذا
لاقى جسد الميت إناء وجب غسله ولو لاقى ذلك الإناء مائعا لم ينجس المائع لأنه لم
يلاق جسد الميت ، وحمله على ذلك قياس ، والأصل في الأشياء الطهارة الى ان يقوم
دليل. والرابع مختار المحقق الشيخ علي.
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 3 من غسل مس الميت.
(3) ص 18.
وأنت خبير بان ظاهر إطلاق الأخبار المذكورة الدلالة على
القول الأول. وهذا القول ايضا ظاهر الصدوق في الفقيه حيث انه عبر فيه بمضمون حسنة الحلبي
فقال : ومن أصاب ثوبه جسد الميت فليغسل ما أصاب الثوب منه. وبذلك يظهر قوة القول
المذكور إلا ان قوله (عليهالسلام) في موثقة عبد
الله بن بكير (1) «كل شيء يابس
ذكى». المعتضد بجملة من الأخبار الدالة في جملة من المواضع على عدم تعدي النجاسة
مع اليبوسة مما يدافع العمل بإطلاق هذه الأخبار ، وايضا ان تقييد المطلق أقرب من
تخصيص العام وحينئذ فالأظهر حمل الملاقاة الموجبة للغسل على الملاقاة برطوبة من
أحدهما ، ومما يستأنس له بذلك قوله في رواية إبراهيم بن ميمون؟ «ما أصاب ثوبك منه».
في الموضعين فإنه ظاهر في ان اصابة الثوب انما هو لرطوبة أو قذر على الميت ، إلا
ان هذا الحمل بعيد في التوقيع المذكور. ويمكن حمله على الاستحباب سيما مع اشتماله
على ما لا يقول به جمهور الأصحاب من النجاسة قبل البرد ، ومن ذلك يعلم قوة القول
الرابع ، ويؤيده أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (2) «عن الرجل يقع
ثوبه على حمار ميت هل تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال ليس عليه غسله وليصل فيه
ولا بأس».
واما ما ذهب اليه المحدث الكاشاني ـ من حمل أخبار
النجاسة في الميت والكافر ونحوهما مما ذكره على مجرد الخبث الباطني دون المعنى
الشرعي الموجب لغسل الملاقي له برطوبة ـ فهو من متفرداته الواهية التي هي لبيت
العنكبوت ـ وانه لا وهن البيوت ـ مضاهية وكيف لا والأخبار المتقدمة ظاهرة في وجوب
غسل الملاقي له الذي هو مظهر النجاسة ، والظاهر ان منشأ الشبهة عنده هو انه لو كان
نجسا كالأعيان النجسة لم يقبل التطهير بالغسل كما يدل عليه كلامه في المفاتيح ،
وهذا دليل الشافعي على ما ذهب اليه من عدم نجاسة
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أحكام الخلوة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب النجاسات.
الإنسان بالموت (1) قال : إذ لو
كان نجسا لما قبل التطهير كسائر النجاسات. وعارضه جماعة من الأصحاب : منهم ـ العلامة
في المنتهى والشهيدان في الذكرى والروض بأنه لو لم يكن نجسا لما أمر بالغسل. وفيه
انه يمكن ان يكون الغسل انما هو للنجاسة الحكمية كنجاسة بدن الجنب بالجنابة
والحائض بالحيض لا العينية ، بل هذا هو الظاهر من الأخبار المتقدمة في باب غسل
الجنابة الدالة على ان العلة في غسل الميت انما هو خروج النطفة التي خلق منها حال
الموت فهو جنب ولذلك أمر بتغسيله غسل الجنابة. والجواب الحق انما هو المنع من كون
النجاسات والمطهرات منحصرة في قاعدة كلية بل هي تابعة للدليل الشرعي وليس للعقل
فيها مسرح ، فلا منافاة بين كون نجاسة الميت بعد البرد وقبل الغسل كسائر النجاسات
العينية وان كان تطهيرها يقع بالغسل وغيرها لا يقبل التطهير إلا بالمطهرات الآتية
، ألا ترى ان العصير يطهر بالنقص دون غيره وآلات النزح وجوانب البئر تطهر عندهم بتمام
النزح وآلات الخمر بعد انقلابه ونحو ذلك فالاستبعاد مدفوع بما ذكرناه ، وبالجملة
فالظاهر من الأخبار ان نجاسة الميت بعد البرد وقبل التطهير بالغسل حكمية من جهة
عينية من اخرى ، فمن الجهة الأولى يجب الغسل على كل من مس الميت في تلك الحال ومن
الجهة الثانية يجب غسله وغسل ما لاقاه على الخلاف المتقدم ، ولا منافاة في كون
الغسل رافعا للنجاسة العينية والحدثية التي في الجنب ايضا كما دلت عليه الاخبار
المشار إليها إذا اقتضته الأدلة الشرعية.
__________________
(1) في المغني ج 1 ص 45 «الآدمي في صحيح المذهب طاهر حيا وميتا
لقوله (ص) «المؤمن لا ينجس». متفق عليه ، وعن أحمد في بئر مات فيها انسان ينزح
ماؤها حتى يغلبهم ، وهو مذهب أبي حنيفة قال انه ينجس بالموت ويطهر بالغسل ،
وللشافعي قولان كالروايتين» واخرج الشافعية ـ كالشيرازي في المهذب ج 1 ص 46
والغزالي في الوجيز ج 1 ص 4 والنووي في المنهاج ص 5 ـ الميت الآدمي من عداد
النجاسات ، ويظهر ذلك من الام ج 1 ص 235 قال : أحب لمن غسل ميتا ان يغتسل وليس
بالواجب عندي وجاءت أحاديث في ترك الغسل : منها ـ «لا تنجسوا موتاكم».
(الموضع الثالث) ـ ميتة ما لا نفس له سائلة ، وقد نقل
الإجماع في المعتبر والمنتهى على طهارتها ، قال في المنتهى اتفق علماؤنا على ان ما
لا نفس سائلة له من الحيوانات لا ينجس بالموت ولا يؤثر في نجاسة ما يلاقيه. وذكر
في المعتبر ان عدم نجاسة ما هذا شأنه وانتفاء التنجيس به مذهب علمائنا اجمع. وقال
الشيخ في النهاية : كل ما ليس له نفس سائلة من الأموات فإنه لا ينجس الثوب ولا
البدن ولا الشراب إذا وقع فيه سوى الوزغ والعقرب. وفي المختلف عن ابن البراج انه
قال إذا أصاب شيئا وزغ أو عقرب فهو نجس وأوجب أبو الصلاح النزح لها من البئر ثلاث
دلاء. وما ذكره الشيخ (قدسسره) هنا من
استثناء الوزغ الظاهر انه مبني على ما سيأتي ان شاء الله تعالى من حكمه بنجاسة
الوزغ عينا وانه عنده كالكلب ، واما العقرب فلا نعلم لاستثنائه وجها. ونقل في
المختلف عنه الاستدلال عليه برواية أبي بصير عن الباقر (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الخنفساء تقع في الماء أيتوضأ منه؟ قال نعم لا بأس به. قلت فالعقرب؟ قال ارقه».
وأجاب عنها بأنها غير دالة على ذلك لجواز استناد الإراقة إلى وجود السم في الماء
لا إلى نجاسة العقرب. وهو جيد ، وبمثل ذلك ايضا يجاب عما رواه سماعة في الموثق (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن جرة وجد
فيها خنفساء قد ماتت؟ قال ألقه وتوضأ منه وان كان عقربا فارق الماء وتوضأ من غيره».
وكيف كان فالمعتمد هو القول المشهور للأصل والاخبار
الكثيرة ، ومنها موثقة عمار ورواية حفص المتقدمتان في الموضع الأول وموثقة أبي
بصير أو صحيحته عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن الذباب يقع في الدهن والسمن والطعام؟
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الأسئار.
(2) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 46 من الأطعمة المحرمة.
فقال لا بأس». ورواية ابن مسكان (1) قال : «قال أبو
عبد الله (عليهالسلام) كل شيء يسقط
في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس وأشباه ذلك فلا بأس». ومرفوعة محمد بن
يحيى عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «لا
يفسد الماء إلا ما كان له نفس سائلة». وفي قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن
جده علي بن جعفر (3) «انه سأل أخاه
موسى (عليهالسلام) عن العقرب
والخنفساء وأشباه ذلك يموت في الجرة والدن يتوضأ منه للصلاة؟ قال لا بأس».
وتنقيح البحث في المقام يتوقف على رسم مسائل (الأولى) قد
تقدم نقل المحقق والعلامة الإجماع على نجاسة ميتة ذي النفس السائلة مطلقا من غير
استثناء فرد وظاهره أعم من ان يكون الحيوان بريا أو بحريا ، وقال في الخلاف ان مات
في الماء القليل ضفدع أو ما لا يؤكل لحمه مما يعيش في الماء لا ينجس الماء وبه قال
أبو حنيفة ، وقال الشافعي ان قلنا انه لا يؤكل فإنه ينجسه (4) دليلنا ان
الماء على أصل الطهارة والحكم بنجاسته يحتاج الى دليل ، وروي عنهم (عليهمالسلام) انهم قالوا :
«إذا مات فيما فيه حياته لا ينجسه». وهو يتناول هذا الموضع. وقد حكى المحقق في
المعتبر صدر هذه العبارة عن الخلاف ولم يتعرض لما فيه الاحتجاج منها واختار
التنجيس بما له نفس من الحيوان المائي كالتمساح ، واحتج له بأنه حيوان له نفس
سائلة فكان موته منجسا ثم قال : ولا حجة لهم في قوله (صلىاللهعليهوآله) (5) في البحر «هو
الطهور ماؤه الحل ميتته». لان التحليل مختص بالسموك.
قال في المعالم بعد نقل ما ذكرناه عن المحقق : وكأنه
أشار بقوله ولا حجة لهم إلى القائلين بالطهارة هنا من العامة وفاقا للشيخ وهم
الحنفية. وقد نبه على ذلك الشيخ
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 35 من أبواب
النجاسات.
(4) كما في بدائع الصنائع ج 1 ص 79 والام ج 1 ص 4 والمغني ج 1
ص 45.
(5) رواه في الوسائل في الباب 2 من أبواب الماء المطلق.
في الكلام الذي حكيناه عنه وعزاه
إليهم العلامة في المنتهى وحكى عنهم الاحتجاج بقوله (صلىاللهعليهوآله) «هو الطهور
ماؤه. الحديث» وفساد هذه الحجة عندنا أظهر من ان يبين ، والعجب من المحقق في عدوله
عن حكاية الحجة التي تمسك بها الشيخ الى حجة المخالف الواهية مع كونه في مقام
البحث مع الشيخ إذ لم يذكر خلاف غيره ، ولولا جمع الضمير في نسبة الاحتجاج لم
يختلج في خاطر غير الواقف على كلام الشيخ شك في ان الحجة له ولا يخفى ما فيه ، على
ان احتمال مشاركة الشيخ لغيره في الاحتجاج بها ليس بمندفع عن غير العارف بالحال ،
ولعل العذر عدم الوقوف على عين كلام الشيخ في نفس الكتاب ، هذا وفي تمسك الشيخ هنا
بالأصل قوة إلا ان يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب من الإجماع في أصل المسألة لموضع
النزاع. انتهى.
أقول : والكلام هنا يقع في مواضع : (الأول) ـ لا يخفى ما
في نقل المحقق والعلامة الإجماع في أصل المسألة على النجاسة ثم نقلهما خلاف الشيخ
في المقام من التدافع ، إلا ان يحمل ذلك على عدم الاعتداد بخلاف معلوم النسب كما
هو أحد قواعدهم ، أو لشهرة القول بالخلاف في الحيوان المائي فيكون الإجماع المدعى
انما هو على غير الحيوان المائي ، ولعله الأقرب.
(الثاني) ـ ان ما استند اليه الشيخ من التمسك بالأصل
فالجواب عنه ان الأصل يجب الخروج عنه بالدليل وهو ما قدمناه من الأخبار المتقدمة
في المقام الأول من الموضع الأول الدالة على نجاسة الميتة من ذي النفس غير الإنسان
مطلقا ، وحيث ان صاحب المعالم في ما قدمنا نقله عنه لم يقم عنده دليل على ذلك إلا
الإجماع قوى تمسك الشيخ بالأصل هنا إلا ان يثبت تناول ما يدعيه الأصحاب من الإجماع
لموضع النزاع. وأنت خبير بعد الإحاطة بما قدمناه من الأخبار انه لا حاجة الى
التمسك بهذا الإجماع هنا ، إلا انه يبقى الكلام في دخول الحيوان المائي تحت إطلاق
تلك الاخبار أو عمومها حيث ان الذي ينصرف إليه الإطلاق انما هو الأفراد الكثيرة
الوقوع مثل تلك الأشياء
المعدودة في الروايات ، وشمولها لمثل
الضفدع والتمساح ونحوهما الظاهر بعده ، وكذلك شمول الإجماع خصوصا على الوجه الثاني
مما أجبنا به عن التدافع الواقع في كلامهم ، وحينئذ يقوى تمسك الشيخ بالأصل.
(الثالث) ـ ما نقله الشيخ عنهم (عليهمالسلام) من الرواية
لم نقف عليها في شيء من كتب الاخبار ولا نقلها غيره فيما اعلم ، وقد اعترضه بذلك
ايضا بعض أفاضل المحققين من متأخري المتأخرين فقال : واما الرواية فلم نجدها في
موضع مسندة حتى ننظر في صحتها وضعفها.
وبالجملة فإن قول الشيخ بالنظر الى ما ذكرنا من عدم شمول
الأخبار المتقدمة لمثل هذه الأفراد النادرة لا يخلو من قوة ، والاحتياط لا يخفى.
(المسألة الثانية) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في ان كل ما ينجس بالموت مما له نفس سائلة فما قطع من جسده حيا كان أو
ميتا فهو نجس قال في المدارك انه مقطوع به في كلام الأصحاب. وقال في المعالم لا
يعرف فيه خلاف بين الأصحاب. قال في المدارك : «واحتج عليه في المنتهى بأن المقتضي
لنجاسة الجملة الموت وهذا المقتضى موجود في الاجزاء فيتعلق بها الحكم. وضعفه ظاهر
إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت وهو لا يصدق على الاجزاء قطعا. نعم
يمكن القول بنجاسة القطعة المبانة من الميت استصحابا لحكمها حال الاتصال. ولا يخفى
ما فيه» انتهى.
أقول : الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسألة
عدة روايات فيها الصحيح وغيره. ومنها ـ ما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابان عن
عبد الرحمن بن ابى عبد الله (1) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) ما أخذت
الحبالة فقطعت منه
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد.
فهو ميتة وما أدركت من سائر جسده حيا
فذكه ثم كل منه». ورواه الشيخ في التهذيب والكليني في الكافي لكن بطريق غير صحيح.
ومنها ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن محمد
بن قيس عن الباقر (عليهالسلام) (1) قال : «قال
أمير المؤمنين (عليهالسلام) ما أخذت
الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه فإنه ميت وكلوا ما أدركتم حيا وذكرتم
اسم الله عليه». ومنها ـ ما رواه ايضا عن الوشاء عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن
الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «ما
أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما أدركت من سائر جسده حيا فذكه ثم كل منه».
وليس في التهذيب «ثم كل منه» ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن
الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «ما
أخذت الحبالة فانقطع منه شيء أو مات فهو ميتة». ومنها ـ ما رواه عن زرارة عن
الباقر (عليهالسلام) (4) قال : «ما
أخذت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت وما أدركت من سائر جسده فذكه ثم كل منه». ومنها
ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن أيوب بن نوح رفعه الى الصادق (عليهالسلام) (5) قال : «إذا
قطع من الرجل قطعة فهي ميتة». ومنها ـ ما رواه في الكافي عن الحسن ابن علي الوشاء (6) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) فقلت جعلت
فداك ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها؟ فقال حرام وهي ميتة. فقلت
جعلت فداك فنصطبح بها؟ فقال اما علمت انه يصيب اليد والثوب وهو حرام». وعن الكاهلي
(7) قال : «سأل
رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن
قطع أليات الغنم فقال لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال ان في كتاب
علي (عليهالسلام) ان ما قطع
منها ميت لا ينتفع به». وعن ابي بصير عن الصادق (عليهالسلام) (8) قال :
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 24 من أبواب الصيد.
(5) رواه في الوسائل في الباب 1 من غسل المس و 62 من أبواب
النجاسات.
(6 و 7 و 8) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الذبائح.
«في أليات الضأن تقطع وهي أحياء؟ إنها
ميتة».
إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما ذكره في المدارك من اعتراضه
على كلام المنتهى بان ضعفه ظاهر منظور فيه من وجوه :
(الأول) ـ انه لا يخفى ان ما نقلناه من الأخبار المذكورة
صريحة الدلالة واضحة المقالة في نجاسة الاجزاء المقطوعة من الحي وانها ميتة فقوله
: «إذ غاية ما يستفاد من الأخبار نجاسة جسد الميت» ليس في محله بل كما يستفاد منها
نجاسة جسد الميت بالموت كذلك يستفاد منها نجاسة ما تحله الحياة بالإبانة منه حيا.
وبذلك يظهر ما في كلام صاحب المعالم ايضا حيث انه أورد في المقام روايات الاليات
الثلاث خاصة وقال : في الأولى اشعار بالنجاسة لكن في طريقها ضعف ، وقال في
الأخيرتين انه لو تم سنداهما لاحتاجا في الدلالة على النجاسة إلى وجود دليل عام في
نجاسة الميتة ليكون إثبات كون المنقطع ميتة مقتضيا لدخوله في عموم الدليل على
نجاسة الميتة ، وقد علم ان العمدة في التعميم الإجماع المدعى في كلام الأصحاب ،
وحينئذ فالتمسك به موقوف على كونه متناولا لهذا المنقطع ومعه لا حاجة الى توسيط الاحتجاج
بما دل على انه ميتة ، وعلى كل حال فالحكم هنا ليس بموضع خلاف. انتهى فان فيه ان
الروايات الدالة على ما ذكرنا هنا ليست منحصرة في الثلاث التي ذكرها بل فيها
الصحيح باصطلاحه والحسن الذي لا يقصر عن الصحيح عندهم ولكنه معذور حيث لم يقف على
ذلك ، واما المستند في أصل نجاسة الميتة فهو الأخبار التي قدمناها لا الإجماع الذي
زعمه حسبما تقدم إيضاحه ، ولكنهم حيث لم يعطوا النظر حقه في التتبع لأدلة المسألة
واخبارها خصوصا مع تفرقها في أبواب شتى ووقعوا فيما وقعوا فيه من هذه المناقشات
كما لا يخفى.
(الثاني) ـ ان تنظره في القطعة المبانة من الميت ـ وقوله
: لا يخفى ما فيه ـ مردود بأن النجاسة إذا تعلقت بجملة تعلقت باجزائها وليس تعلقها
بالمجموع من حيث كونه مجموعا وكيف لا وهو (قدسسره) قد استدل على
نجاسة ما لا تحله الحياة من الكلب والخنزير
بأنه داخل في مسماه ولا شك ان الكلب
والخنزير اسم للجملة.
(الثالث) ـ لا يخفى ان المستفاد من الاخبار ان الطهارة
والنجاسة دائرة مدار حلول الحياة وعدمه ولهذا كما وردت الأخبار المتقدمة بنجاسة
القطعة المبانة من الحي وانها ميتة قد وردت الأخبار ايضا باستثناء تلك العشرة التي
لا تحلها الحياة وحكم بطهارتها من الميتة من حيث انها لا تحلها الحياة ، وقد صرح
بذلك في صحيحة الحلبي الآتية ان شاء الله تعالى (1) فقال : «ان
الصوف ليس فيه روح». وقد أومأ هو (قدسسره) في تلك
المسألة الى ما ذكرناه حيث قال بعد ذكره هذا الكلام من الصحيحة المذكورة : «ومقتضى
التعليل طهارة كل ما لا روح فيه» وبما أوضحناه يظهر لك قوة ما ذكره العلامة وضعف
ما أورده عليه.
تذنيب
قال العلامة في المنتهى : الأقرب طهارة ما ينفصل من بدن
الإنسان من الاجزاء الصغيرة مثل البثور والثالول وغيرهما لعدم إمكان التحرز عنها
فكان عفوا دفعا للمشقة. واعترضه في المعالم فقال : «ويظهر من تمسكه بعدم إمكان
التحرز انه يرى تناول دليل نجاسة المبان من الحي لها وان المقتضى لاستثنائها من
الحكم بالتنجيس والقول بطهارتها هو لزوم الحرج والمشقة من التكليف بالتحرز عنها ،
وهذا عجيب فان الدليل على نجاسة المبان من الحي كما علمت اما الإجماع أو الاخبار
التي ذكرناها أو الاعتباران اللذان حكيناهما عن بعض الأصحاب اعني مساواة الجزء
للكل ووجود معنى الموت فيه والإجماع لو كان متناولا لما نحن فيه لم يعقل الاستثناء
منه ، والأخبار على تقدير صحتها ودلالتها وعمومها انما تقتضي نجاسة ما انفصل في
حال وجود الحياة فيه لا ما زالت عنه الحياة قبل الانفصال كما في موضع البحث ،
والنظر الى ذينك الاعتبارين يقتضي ثبوت
__________________
(1) ص 77.
التنجيس وان لم تنفصل تلك الاجزاء
لتحقق معنى الموت فيها قبله ولا ريب في بطلانه. والتحقيق انه ليس لما يعتمد عليه
من أدلة نجاسة الميتة وأبعاضها وما في معناها من الاجزاء المبانة من الحي دلالة
على نجاسة نحو هذه الأجزاء التي يزول عنها اثر الحياة في حال اتصالها بالبدن فهي
على أصل الطهارة ، وإذا كان للتمسك بالأصل مجال فلا حاجة الى تكلف دعوى لزوم الحرج»
انتهى كلامه (قدسسره) وهو جيد
رشيق.
واستدل في المدارك على الطهارة أيضا مضافا الى أصالة
الطهارة السالمة من المعارض بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الرجل يكون به الثالول أو الجرح هل يصلح له ان يقطع الثالول وهو في صلاته أو
ينتف بعض لحمه من ذلك الجرح ويطرحه؟ قال ان لم يتخوف ان يسيل الدم فلا بأس وان
تخوف ان يسيل الدم فلا يفعل». قال : وترك الاستفصال عقيب السؤال يفيد العموم.
وأورد على ذلك ان الظاهر من صحيحة علي بن جعفر ان السؤال فيها ليس عن طهارة ما
يقطع من الثالول أو نجاسته بل عن كون هذا الفعل في الصلاة من المنافيات لها أم لا فإنه
سأله أيضا قبل هذا السؤال فقال : «وسألته عن الرجل يتحرك بعض أسنانه وهو في الصلاة
هل يصلح له ان ينزعه ويطرحه؟ قال ان كان لا يجد دما فلينزعه وليرم به وان كان دمي
فلينصرف». ثم قال : «وسألته عن الرجل يكون به الثالول. إلخ» وحينئذ فالغرض من
السؤال انما هو استعلام كون هذا الفعل في الصلاة مما ينافيها أم لا؟ فأجاب (عليهالسلام) بأنه لا
ينافيها لانه ليس بفعل كثير تنمحي به الصلاة ، نعم ان استلزم خروج الدم كالضرس في
السؤال الأول أبطل من حيث الدم. انتهى.
والجواب ان الأمر وان كان كما ذكره من ان السؤال انما هو
عن كون الفعل المذكور قاطعا للصلاة أم لا إلا ان ظاهر إطلاق نفي البأس عن مس هذه
الاجزاء في الصلاة ونتفها أعم من كون المس برطوبة أو يبوسة مما يشهد بالطهارة ، إذ
المقام مقام
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 27 من قواطع الصلاة.
تفصيل كما يدل عليه اشتراط نفي البأس
بانتفاء تخوف سيلان الدم ، فلو كان مس تلك الاجزاء مقتضيا للتنجيس ولو على بعض
الوجوه لم يحسن هذا الإطلاق بل كان اللائق البيان كما وقع في خوف السيلان ، وحينئذ
فظاهر الإطلاق الطهارة في الحالين وبه يتم الاستدلال وبالجملة فالظاهر انه لا خلاف
في القول بالطهارة وان اختلفوا في الدليل على ذلك ، والتمسك بأصالة الطهارة ـ سيما
مع الاعتضاد بظاهر الصحيحة المذكورة بالتقريب المذكور ـ أقوى متمسك في المقام ،
والاحتياط لا يخفى. والله العالم.
(المسألة الثالثة) ـ اتفق الأصحاب من غير خلاف يعرف على
طهارة ما لا تحله الحياة من الميتة ، وهي عشرة : العظم والظفر والظلف والقرن
والحافر والشعر والوبر والصوف والريش والبيض إذا اكتسى القشر الأعلى ، كذا نقله في
المدارك بعد ان ذكر انه حصر ذلك في عشرة أشياء ثم عد العشرة المذكورة ، وفي
المعالم وكذا في المنتهى ذكر العشرة ولكن ذكر الانفحة مكان الظفر ، وفي المدارك
بعد ان عد العشرة المذكورة ونقل بعض أخبار المسألة قال ويستفاد من صحيحة زرارة
استثناء الإنفحة أيضا ، وهو مقطوع به في كلام الأصحاب ، وظاهر المنتهى انه مجمع
عليه بين الأصحاب. وفيه انه كان الواجب بمقتضى هذا الكلام جعل الانفحة من جملة
الأفراد التي عدها أولا وان زادت على العشرة مع انه ادعى في صدر كلامه الحصر في
العشرة التي ذكرها وهل هذا إلا تدافع ظاهر؟ وكيف كان فالواجب ذكر أخبار المسألة
كملا مما وصل إلينا نقله ثم تذييلها بما تضمنته من الأحكام المتعلقة بذلك :
فأقول : من الأخبار المذكورة ما رواه الشيخ في الصحيح عن
الحلبي عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «لا بأس
بالصلاة فيما كان من صوف الميتة ، ان الصوف ليس فيه روح». وفي هذا الخبر ما يدل
على طهارة ما لا روح فيه مطلقا إذ الظاهر ان قوله (عليهالسلام) : «ان الصوف
ليس فيه روح» وقع تعليلا لنفي البأس عن الصلاة فيه
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 68 من أبواب النجاسات.
وما رواه الشيخ ومثله الصدوق في الفقيه في الصحيح عن
زرارة عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن الانفحة تخرج من الجدي الميت؟ قال لا بأس به. قلت اللبن يكون في ضرع الشاة وقد
ماتت؟ قال لا بأس به. قلت والصوف والشعر وعظام الفيل والجلد والبيضة تخرج من
الدجاجة؟ قال كل هذا لا بأس به». والجلد في الخبر ليس في الفقيه وهو الأصح ،
والظاهر انه من سهو قلم الشيخ (قدسسره) كما لا يخفى.
وما رواه الشيخ في الحسن عن حريز (2) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) لزرارة ومحمد
بن مسلم : اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شيء
ينفصل من الشاة والدابة فهو ذكي ، وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه».
وعن إسماعيل بن مرار عن يونس عنهم (عليهمالسلام) (3) قال : «خمسة
أشياء ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر ، ولا بأس
بأكل الجبن كله مما عمله مسلم أو غيره وانما يكره ان يؤكل سوى الانفحة مما في آنية
المجوس وأهل الكتاب لأنهم لا يتوقون الميتة والخمر».
وعن الحسين بن زرارة في الموثق أو الحسن (4) قال : «كنت
عند ابي عبد الله (عليهالسلام) وابي يسأله
عن السن من الميتة واللبن من الميتة (5) والبيضة من الميتة وإنفحة الميتة؟
فقال كل هذا ذكي». قال في الكافي : وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط
قال : «والشعر والصوف كله ذكي». وقال في الكافي أيضا : وفي رواية صفوان عن الحسين
بن زرارة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (6) قال : «الشعر
والصوف والوبر والريش وكل نابت لا يكون ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن
الدجاجة الميتة؟ فقال تأكلها».
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 6) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة
المحرمة.
(5) جاء في رواية الكال (اللبن) وفي رواية التهذيب (السن) وجمع
بينهما في الوافي.
وما رواه في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن الباقر (عليهالسلام) (1) في حديث طويل
قال فيه : «قال قتادة فأخبرني عن الجبن فتبسم أبو جعفر (عليهالسلام) ثم قال رجعت
مسائلك الى هذا؟ قال ضلت عني. فقال لا بأس به. فقال انه ربما جعلت فيه إنفحة الميت؟
قال ليس بها بأس ان الإنفحة ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم انما تخرج من
بين فرث ودم ، ثم قال وان الإنفحة بمنزلة دجاجة ميتة خرجت منها بيضة فهل تأكل
البيضة؟ قال لا ولا آمر بأكلها. فقال أبو جعفر (عليهالسلام) ولم؟ قال
لأنها من الميتة. قال له فان حضنت تلك البيضة فخرجت منها دجاجة أتأكلها؟ قال نعم.
قال فما حرم عليك البيضة وأحل لك الدجاجة؟ ثم قال (عليهالسلام) فكذلك
الانفحة مثل البيضة فاشتر الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه
الا ان يأتيك من يخبرك عنه».
وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (2) قال قال
الصادق (عليهالسلام): «عشرة أشياء
من الميتة ذكية : القرن والحافر والعظم والسن والانفحة واللبن والشعر والصوف
والريش والبيض».
ورواه في الخصال مسندا عن محمد بن ابي عمير رفعه الى
الصادق (عليهالسلام) مثله (3) مع مخالفة في
الترتيب. وما رواه الشيخ عن غياث بن إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) (4) «في بيضة خرجت
من است دجاجة ميتة؟ قال ان كانت البيضة اكتست الجلد الغليظ فلا بأس بها».
وما رواه في الكافي عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن ابي
الحسن (عليهالسلام) (5) قال «كتبت
إليه أسأله عن جلود الميتة التي يؤكل لحمها إن ذكي؟ فكتب لا ينتفع من الميتة بإهاب
ولا عصب وكل ما كان من السخال من الصوف ان جز والشعر والوبر والانفحة والقرن ولا
يتعدى الى غيرها ان شاء الله تعالى». قال بعض المحدثين من المحققين «هكذا وجد هذا
الحديث في نسخ الكافي والتهذيبين وكأنه سقط منه شيء» انتهى. وهو كذلك
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة
المحرمة.
وما رواه في التهذيب في باب الذبائح والأطعمة في الحسن
عن صفوان عن الحسين بن زرارة عن الصادق (عليهالسلام) (1) «في جلد شاة
ميتة يدبغ فيصب فيه اللبن أو الماء فاشرب منه وأتوضأ؟ قال نعم ، وقال يدبغ فينتفع
به ولا يصلى فيه. قال الحسين : وسأله ابي عن الانفحة تكون في بطن العناق أو الجدي
وهو ميت؟ فقال لا بأس به. قال الحسين : وسأله ابي وانا حاضر عن الرجل يسقط سنه
فيأخذ سن انسان ميت فيجعله مكانه؟ فقال لا بأس. وقال عظام الفيل تجعل شطرنجا؟ فقال
لا بأس بمسها. وقال أبو عبد الله (عليهالسلام) العظم والشعر
والصوف والريش وكل نابت لا يكون ميتا. قال وسألته عن البيضة تخرج من بطن الدجاجة
الميتة؟ فقال لا بأس بأكلها». أقول عجز هذه الرواية هو الذي تقدم نقل صاحب الكافي
له بقوله : وفي رواية صفوان عن الحسين بن زرارة. إلخ
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام هنا يقع في مواضع (الأول) ـ
انه لا يخفى على من لاحظ الأخبار التي قدمناها في نجاسة الميتة دلالتها على الحكم
المذكور الشامل لجميع أجزاء الميتة من هذه العشرة وغيرها ، وان هذه العشرة إنما
استثنيت وخرجت عن الحكم المذكور بهذه الأخبار المذكورة هنا الصريحة في طهارتها
المعبر عنها في جملة من هذه بأنها ذكية اي طاهرة وفي بعض بأنها لا تحلها الروح كما
أشير إليه في صحيحة الحلبي وفي حديث أبي حمزة الثمالي من قوله (عليهالسلام) في الانفحة «انها
ليس لها عروق ولا فيها دم ولا لها عظم» فان الظاهر من سياق هذا الكلام الاستدلال
على نفي البأس عن الإنفحة انما هو من حيث ما ذكرناه الموجب لطهارتها ، والوجه فيه
ان العرق مما تحله الحياة واما الدم فهو مادة الحياة ولذا يطلق عليه النفس كما صرح
به أهل اللغة ووقع التعبير به في كلام الفقهاء من قولهم ذي النفس السائلة أي الدم
الجاري من العرق بعد قطعه بقوة ودفع ، واما العظم فإنه وان لم تحله الحياة في حد
ذاته لكنه مستلزم لكون ما وقع فيه مما
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 34 و 33 من الأطعمة المحرمة.
تحله الحياة البتة ومتعلقا للروح ،
ألا ترى انه يجب في القطعة المشتملة على العظم غسلها وتكفينها وان لم يجب ذلك في
العظم وحده فوجوده مؤكد لتعلق الروح فيما نحن فيه.
وبما ذكرنا يظهر لك ما في كلام المحقق الخوانساري في شرح
الدروس من المناقشة هنا في دلالة الأخبار المذكورة على الاستثناء والاستناد في
طهارة هذه الأشياء الى الأصل والاتفاق على الحكم المذكور ، حيث قال في بيان الدليل
على طهارة هذه الأشياء : «واما الثاني فالدليل على طهارتها أصالة الطهارة إذ عموم
دلالة نجاسة الميتة بحيث يشمل هذه الاجزاء غير ظاهر كما عرفت ، والاتفاق ظاهرا ،
وعدم صدق اسم الميتة عليها لان الموت فرع الحياة. ولا يخفى انه لو كان نص يدل على
ان الميتة نجسة فلا يبعد ان يقال ان الظاهر ان جميع أجزائها نجسة كما يقولون ان
جميع اجزاء الكلب مثلا نجس باعتبار انه وجد النص بنجاسة الكلب وهو ظاهر في نجاسة
جميع اجزائه ، وكون بعض اجزائها مما لا تحله الحياة لا يقدح فيه. فالعمدة عدم وجود
النص الدال على تعليق الحكم بالنجاسة على الميتة كما يقولون لا عدم حلول الحياة ،
وكيف وظاهر ان زوال الحياة ليس سببا للنجاسة وإلا لزم ان يكون الحيوان الذكي ايضا
نجسا بل عدم التذكية يصير سببا لنجاسة الحيوان ، ولا استبعاد في ان يصير سببا
لنجاسة جميع اجزائه سواء حلته الحياة أولا» انتهى.
أقول : فيه ما عرفت من وجود الدليل على نجاسة الميتة
وانه عام لجميع اجزائها بالتقريب الذي ذكره في الكلب ، وانما خرجت هذه العشرة
المذكورة هنا بهذه الأخبار فهي مخصصة لعموم تلك الأخبار ومقيدة لإطلاقها كما هي
القاعدة المطردة في مقام اجتماع العام والخاص والمطلق والمقيد. واما قوله ـ انه مع
عموم تلك الأخبار فكون بعض اجزائها مما لا تحله الحياة لا يقدح في العموم ـ فمردود
بان القادح في العموم انما هو اشتمال جملة من هذه الأخبار على كون هذه الأشياء
ذكية وجملة منها على نفي البأس الظاهر كل منهما في الطهارة وان كان الأول أشد
ظهورا وان وقع التعبير في بعضها
بكونه مما لا تحله الحياة إلا أن
المنافاة الموجبة لتقييد إطلاق تلك الأخبار انما هو من حيث دلالة هذه الأخبار على
الطهارة بهذه الألفاظ الدالة على ذلك ومقتضى القاعدة كما عرفت تقييد إطلاق تلك
الاخبار بهذه ، وحينئذ فما ادعاه ـ من انه مع وجود النص الدال على نجاسة الميتة
فإنه يشمل جميع هذه الأشياء المذكورة وان هذه الأخبار لا تفيد تخصيصا ولا تقييدا
لها لعدم ظهور الدلالة على الطهارة حتى انه انما التجأ إلى أصالة الطهارة والاتفاق
ظاهرا وعدم صدق الميتة عليها ـ غلط محض حيث انه غفل عما اشتملت عليه هذه الأخبار
من الألفاظ الظاهرة وانما تعلق باشتمال بعضها على عدم حلول الحياة ورتب عليه ما
ذكره من المناقشة ، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) عدم
الفرق في الحكم بطهارة الصوف والشعر والريش والوبر بين كونها مأخوذة من الميتة
بطريق الجز أو القلع إلا انه يحتاج في صورة القلع الى غسل موضع الاتصال من حيث
ملاقاة الميتة بالرطوبة. ويدل على ذلك (أولا) ـ إطلاق الأخبار المتقدمة إذ لا
تصريح فيها بالجز ولا غيره. و (ثانيا) حسنة حريز المتقدمة في صدر المسألة حيث
اشتملت على الأمر بغسل هذه الأشياء بعد أخذها من الميتة ، ومن الظاهر انه لا وجه
للأمر بالغسل مع الجز بل الظاهر ان المراد انما هو قلعها والخبر المذكور قد صرح
بأنه ذكي في الصورة المذكورة اي طاهر فالخبر ظاهر الدلالة على الطهارة في صورة
القلع.
وذهب الشيخ في النهاية إلى اشتراط الجز وخص الطهارة بذلك
، ونقل عنه انه علل ذلك بان أصولها المتصلة باللحم من جملة اجزائه وانما يستكمل
استحالتها الى أحد المذكورات بعد تجاوزها عنه. ورد (أولا) بالمنع لانه يصدق على
المجموع من المتصل باللحم والمتجاوز عنه اسم هذه الأشياء وهو لا يجامع كون شيء
منها جزء من اللحم. و (ثانيا) ـ ما قدمنا من إطلاق الأخبار والتقييد يحتاج الى دليل
وليس فليس ، مضافا الى ما عرفت مما دلت عليه حسنة حريز المشار إليها.
قال المحقق الخوانساري في شرح الدروس : «ثم ان حكم
الأصحاب بالغسل في صورة القلع فبناء على عموم نجاسة الملاقي للنجس بالرطوبة
والميتة نجسة وأصول هذه الأشياء ملاقية لها بالرطوبة فيجب غسلها ، ويدل عليه أيضا
حسنة حريز المذكورة مع معاضدة الاحتياط. ولا يذهب عليك ان الأحوط عدم الاكتفاء
بغسل موضع الاتصال بل غسل جميعها بل على تقدير الجز أيضا لأن الرواية المذكورة
المتضمنة للأمر بالغسل مطلقة لا تقييد فيها بموضع الاتصال وحالة القلع» انتهى.
ولا يخلو من غرابة أما (أولا) ـ فلتصريح الأخبار
المذكورة بطهارة هذه الأشياء وانها ذكية ، مضافا الى اتفاق الأصحاب وأصالة الطهارة
وعدم صدق الميتة عليها كما تقدم في كلامه الذي قدمنا ذكره في سابق هذا الموضع. و (اما
ثانيا) ـ فان غسل موضع الملاقاة للميتة وجهه ظاهر واما ما عدا موضع الملاقاة وكذا
ما أخذ جزا فما وجه الاحتياط في غسله مع الوجوه المذكورة؟ والرواية التي أشار
إليها وان كانت مطلقة لكنها معارضة فيما عدا موضع الملاقاة بالأدلة المذكورة
الدالة على الطهارة فلا بد من تخصيصها بموضع الملاقاة كما ذكرناه جميعا بينها وبين
تلك الأدلة ، ولو قام مثل هذا الاحتياط في المقام لجرى في جميع الأشياء المحكوم
بطهارتها ، وبالجملة فإن ما ذكره (قدسسره) لا اعرف له
وجها بالكلية.
هذا ، وظاهر حسنة حريز المشار إليها ان حكم القرن والناب
والحافر ومثلها الظلف والظفر حكم ما ذكر في الصوف والشعر والريش والوبر من انها
متى أخذت بالقلع من الميتة فإنه يغسل موضع الملاقاة منها بالتقريب المتقدم في
الشعر وأشباهه وانها لو أخذت بالكسر أو البري بسكين ونحوها فإنه يكون كالجز
بالنسبة إلى تلك الأشياء وخلاف الشيخ يجري هنا في القلع ايضا بالتقريب الذي قدمنا
نقله عنه إلا اني لم أقف على من ذكر ذلك من الأصحاب ومقتضى ظاهر الحسنة المشار
إليها وكذا تعليل الشيخ المتقدم هو ما ذكرناه.
(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه
لا فرق في الحكم بطهارة هذه الأشياء من الميتة بين كون الميتة مما يؤكل لحمه لو
ذكى ولا غيره ، وقال العلامة في النهاية : أما بيض الجلال وما لا يؤكل لحمه مما له
نفس سائلة فالأقوى فيه النجاسة ، ونحوه ذكر في المنتهى ايضا ، نقل ذلك في المعالم
وقال بعد نقل الحكم المذكور لا نعرف فيه خلافا إلا من العلامة ثم نقل كلامه في
الكتابين المذكورين.
وقال : ولا نرى لكلامه وجها ولا عرفنا له عليه موافقا
وقد نص الشهيد في الذكرى على عدم الفرق واما الإنفحة من غير المحلل كالموطوء ففي
طهارتها احتمالان منشأهما من كون أكثر الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل أو
مسوقة لبيانه ومنه استفيدت الطهارة وذلك مفقود في غير المحلل ، ومن عدم الدليل
العام على نجاسة الميتة بحيث يتناول أمثال هذه الاجزاء كما أشرنا اليه ومقتضى
الأصل هو الطهارة الى ان يقوم الدليل على خلافها ولا دليل ، ولم أقف لأحد من
الأصحاب في ذلك على كلام وربما يكون إطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم التفرقة
، ولا يخفى ان فرق العلامة في حكم البيض يقتضي الفرق هنا ايضا. انتهى.
أقول : فيه ان ما ذكره بالنسبة إلى الانفحة في الاحتمال
الثاني من عدم الدليل العام على نجاسة الميتة مردود بما قدمنا ذكره من الاخبار
الدالة على ذلك وما ذيلناها به من التقريب الدال على النجاسة ، ومتى ثبت ذلك استلزم
القول بنجاسة جميع اجزائها بالتقريب المتقدم في الكلب ونحوه من نجس العين كما سيجيء
تحقيقه ايضا ان شاء الله تعالى في المقام والاعتراف بذلك من جملة من علمائنا
الاعلام. واما قوله : «وربما يكون إطلاقهم الحكم بالطهارة قرينة على عدم الحكم
بالتفرقة» فهو معارض بان اتفاقهم على الحكم بنجاسة الميتة ـ كما اعترف به سابقا من
انه لا مستند لهذا الحكم إلا اتفاقهم المستلزم كما عرفت للحكم بنجاسة كل جزء جزء
من اجزاء الميتة ـ موجب للحكم بالنجاسة في الانفحة فيبقى الوجه الأول من
الاحتمالين المذكورين في كلامه سالما عن
المعارض وينتفي ما ادعاه من التمسك
بمقتضى الأصل فإنه يجب الخروج عنه بالدليل ، وقد دل على نجاسة الميتة الشامل ذلك
للانفحة وغيرها خرج من ذلك ما دلت عليه الاخبار الدالة على طهارتها من حيث الحل
كما ذكره وبقي ما كان من غير المحلل على النجاسة ، على ان ما ذكره من كون أكثر
الأخبار الدالة على طهارتها واردة بالحل أو مسوقة لبيانه محل نظر. فان ظاهر سياقها
انما هو بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة لا الحل والحرمة كما ادعاه ، والذي قدمناه
من الروايات المشتملة على الإنفحة صحيحة زرارة وفيها نفي البأس إلا ان موردها
الجدي الذي هو مأكول اللحم ، ورواية يونس وهي مطلقة بالنسبة إلى الحيوان المأكول
وغيره وذكر الانفحة فيها في سياق الصوف والشعر والوبر والحكم فيها بأنها ذكية أظهر
ظاهر في ان المراد انما هو الطهارة لا الحل فان ما ذكره معها من الصوف وما بعده
ليس من المأكولات ، ونحوها موثقة الحسين بن زرارة حيث ذكر فيها انها ذكية اي طاهرة
، سيما بإضافة الزيادة المنقولة من الكافي عن علي بن عقبة وعلي بن رباط بإضافة
الشعر والصوف ، ومرسلة الصدوق في الفقيه المسندة في الخصال المشتملة على عد العشرة
كملا بالحكم بكونها من الميتة ذكية فإنه ظاهر في الطهارة لا في الحل ، وكذلك رواية
الجرجاني ، فأين أكثر الأخبار الواردة بالحل أو المسوقة لبيانه؟ نعم ذكر الحل وقع
في حديث الثمالي إلا ان ظاهر سياقه ان الكلام في الحل والحرمة انما وقع تفريعا على
الطهارة والنجاسة ، حيث انه (عليهالسلام) لما نفى
البأس عن الجبن وأحل أكله عارضه السائل بأنه تجعل فيه الانفحة وهي نجسة لأخذها من
الميتة فأجاب (عليهالسلام) بأن الانفحة
طاهرة لأنها ليست مما تحله الحياة بالتقريب الذي قدمنا ذكره في الموضع الأول ثم
نظر له بالبيضة المأخوذة من الميتة ، فذكر الحل في الخبر انما وقع بطريق العرض
والا فاصل الكلام انما هو في الطهارة والنجاسة ، ومثلها تتمة حديث يونس بالتقريب
المذكور ، على ان لفظ الحل في الاخبار ربما استعمل في حل الاستعمال وهو شائع سيما
في هذا المقام في كلام الفقهاء فإنهم يعبرون في هذا المقام عن
طهارة الصوف والشعر ونحوهما من القرن
والظلف وغيرهما بالحل وانها تحل من الميتة وليس المراد إلا حل استعمالها كما لا
يخفى على من راجع عباراتهم. والعجب ايضا من متابعة الفاضل الخراساني في الذخيرة له
على ذلك حيث انه جرى على ما جرى عليه وذكر ذلك وان لم يسنده اليه.
(الرابع) ـ قد اختلف كلام أهل اللغة في معنى الانفحة
والظاهر انه بسبب ذلك اختلف كلام أصحابنا (رضوان الله عليهم) في ذلك ، فعن الصحاح
ان الإنفحة بكسر الهمزة وفتح الفاء مخففة كرش الحمل والجدي ما لم يأكل. وقال في
القاموس : «الانفحة بكسر الهمزة وتشديد الحاء وقد تكسر الفاء والمنفحة والتنفحة :
شيء يستخرج من بطن الجدي الراضع اصفر فيعصر في صوفة فيغلظ كالجبن فإذا أكل الجدي
فهو كرش ، وتفسير الجوهري الإنفحة بالكرش سهو» وقال الفيومي في المصباح المنير : «والانفحة
بكسر الهمزة وفتح الفاء وتثقيل الحاء أكثر من تخفيفها قال ابن السكيت وحضرني
أعرابيان فصيحان من بني كلاب فسألتهما عن الانفحة فقال أحدهما لا أقول إلا إنفحة
يعني إلا بالهمزة وقال الآخر لا أقول إلا منفحة يعني إلا بميم مكسورة ثم افترقا
واتفقا على ان يسألا جماعة من بني كلاب فاتفقت جماعة على قول هذا وجماعة على قول
هذا فهما لغتان ، والجمع انافح ومنافح ، قال الجوهري الإنفحة هي الكرش ، وفي
التهذيب لا تكون الانفحة إلا لكل ذي كرش ، وهو شيء يستخرج من بطنه اصفر يعصر في
صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا يسمى إنفحة إلا وهو رضيع فإذا رعى قيل
استكرش اي صارت انفحته كرشا. ونقل ابن الصلاح ما يوافقه فقال الانفحة ما يؤخذ من
الجدي قبل ان يطعم غير اللبن فان طعم غيره قبل مجبنة. وقال بعض الفقهاء ويشترط في
طهارة الإنفحة ان لا تطعم السخلة غير اللبن وإلا فهي نجسة وأهل الخبرة بذلك يقولون
إذا رعت السخلة وان كان قبل الفطام استحالت الى البعر» انتهى كلام صاحب المصباح.
وقال في مجمع البحرين : والانفحة بكسر
الهمزة وفتح الفاء مخففة وهي كرش
الحمل والجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش حكاه الجوهري عن ابي زيد ، وفي المغرب
إنفحة الجدي بكسر الهمزة وفتح الفاء وتخفيف الحاء وتشديدها وقد يقال منفحة أيضا
وهو شيء يخرج من بطن الجدي اصفر يعصر في صوفة مبتلة في اللبن فيغلظ كالجبن ولا
يكون إلا لكل ذي كرش ، ويقال انها كرشه إلا انه ما دام رضيعا سمي ذلك الشيء إنفحة
فإذا فطم ورعى العشب قيل استكرش انتهى. وقال ابن إدريس في السرائر : والانفحة بكسر
الهمزة وفتح الفاء كرش الحمل والجدي ما لم يأكل فإذا أكل فهو كرش وفسرها العلامة على
ما نقله في المعالم في جملة من كتبه بما يوافق كلام القاموس فقال انها لبن مستحيل
في جوف السخلة.
وأنت خبير بأنه قد علم من ذلك الاختلاف في الانفحة بين
كونها عبارة عن الكرش أو عن ذلك الشيء الأصفر الذي يعصر في صوفة مبتلة فيغلظ ،
ويمكن ترجيح الثاني بقوله (عليهالسلام) في رواية
الثمالي «إنما تخرج من بين فرث ودم». فان الظاهر انه اشارة إلى قوله عزوجل : «وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا
فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشّارِبِينَ» (1) قال في مجمع
البيان نقلا عن ابن عباس قال : «إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا وأعلاه
دما وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق واللبن في الضرع ويبقي الفرث كما هو» انتهى.
ومقتضى ذلك ان اللبن الذي تشربه السخلة يصير بعد وصوله الى الكرش الى هذه الأقسام
الثلاثة ثالثها هو هذا الشيء الأصفر الذي ذكره أهل اللغة وان كان بعد رعيه العلف
يضمحل ذلك ولا يصير كذلك وانما يبقى الفرث وهو التفل والدم خاصة. ويمكن ايضا ان
يقال ـ وهو الأنسب بكلام أهل اللغة القائلين بأن الانفحة عبارة عن ذلك الشيء
الأصفر ما دام يغتذي باللبن وإذا اغتذى بالعلف صار كرشا ـ انه في حال الاغتذاء
باللبن ليس له كرش وانما الذي يتحول إليه لبنه الذي يشربه هذا الشيء الأصفر مع
التفل والدم وبعد رعيه يصير هذا الشيء الأصفر
__________________
(1) سورة النحل ، الآية 68.
كرشا ، وبه ينطبق الخبر المذكور على
كلام أهل اللغة انطباقا ظاهرا.
هذا ، وقد اضطرب كلام جملة من أفاضل المتأخرين في هذا
المقام في الحمل على اي المعنيين المذكورين ، من جهة انهم حكموا في الصوف والشعر
ونحوهما مما يؤخذ قلعا من الميتة بوجوب الغسل كما تقدم من حيث ملاقاة الميتة
برطوبة بناء على القاعدة المقررة بينهم من ان ملاقي النجس مع الرطوبة ينجس ،
وحينئذ فبعضهم رجح تفسير الانفحة بالكرش دون ذلك الشيء الأصفر لأن ذلك الشيء
الأصفر وان كان طاهرا بمقتضى ظاهر الاخبار على تقدير تفسير الانفحة به إلا انه
ينجس بملاقاة الجلد الذي يحويه فيمنع من الانتفاع به ويحكم بنجاسته ، واما الكرش فإنه
مع تفسير الانفحة به يكون طاهرا بمقتضى الأخبار المذكورة. وهل يحتاج ظاهره الى
تطهير من حيث الملاقاة لباطن الميتة وان كانت ذاته طاهرة؟ احتمالان نقل في المعالم
عن والده في بعض فوائده انه اختار الأول ثم نقل عنه انه توقف في الروضة. قال ولا
نعلم من الأصحاب مصرحا بالثاني وربما كان في إطلاقهم الحكم بالطهارة إشعار به.
وقال في الذكرى الاولى تطهير ظاهرها من الميتة للملاقاة. انتهى. وقال في المدارك :
في وجوب غسل الظاهر من الانفحة والبيضة وجهان أظهرهما العدم للأصل وإطلاق النص ،
وظاهر كلام المنتهى يعطي الوجوب وهو أحوط. انتهى. وقال الفاضل الخوانساري في شرح
الدروس بعد نقل الخلاف في المسألة : «والظاهر تفسير العلامة لأنه يظهر من الروايات
المذكورة ان الإنفحة شيء يصنع به الجبن ، والظاهر ان الجبن انما يعمل من الشيء
الذي في جوف السخلة مثل اللبن لا من كرشها الذي هو للحيوان بمنزلة المعدة للإنسان
، وما في رواية الثمالي من انها تخرج من بين فرث ودم يشعر أيضا بأنه مثل اللبن ،
وعلى هذا فالظاهر ان الكرش محلها» انتهى. وفيه انه متى فسر الانفحة بذلك الشيء
الأصفر فهب أنها طاهرة للنصوص إلا ان هذا الكرش الذي جعله محلها نجس البتة فيعود
الاشكال كما تقدم ذكره وبالجملة فإنه لا يخفى ان مقتضى تصريحهم بتعدي النجاسة
للصوف المقلوع ونحوه
مضافا الى القاعدة المتقدمة هو
النجاسة ووجوب التطهير من حيث الملاقاة وان كانت طاهرة في حد ذاتها بأي المعنيين
اعتبرت ، إلا ان يقال بان مقتضى الوقوف على ظواهر النصوص المذكورة هو التطهير
بالنسبة إلى الصوف ونحوه حيث دلت على ذلك حسنة حريز المتقدمة ، ولا منافاة في
الحكم بطهارة الانفحة بأي المعنيين المذكورين اعتبرت واستثناء ذلك من حكم ملاقاة
النجاسة كما سيأتي مثله في اللبن في ضرع الميتة ، ولعل وجه الاستثناء هو حكم
الضرورة بالحاجة إلى الانفحة كما يشعر به خبر يونس (1) من قوله (عليهالسلام): «خمسة أشياء
ذكية مما فيها منافع الخلق : الانفحة والبيض والصوف والشعر والوبر». وحينئذ فيزول
الاشكال من هذا المجال.
بقي الكلام هنا في بعض ما يتعلق بالمقام وهو أمران : (الأول)
ـ ان ظاهر كلام أهل اللغة الذي قدمناه هو ان الإنفحة مخصوصة بما إذا لم يرع وإلا
فلو رعى لم يسم إنفحة وانما يقال كرش مع ان شيخنا الشهيد في الذكرى قال : والانفحة
طاهرة من الميتة والمذبوحة وان أكلت السخلة غير اللبن. ولا ريب في ضعفه حيث ان
كلامهم متفق على تخصيص ذلك بما إذا كان اعتياده على اللبن ومع أكل غيره انما يقال
كرش لا إنفحة
(الثاني) ـ قال في المدارك بعد ذكر الانفحة : «واختلف
كلام أهل اللغة في معناها فقيل انها كرش السخلة قبل ان تأكل ، وقيل انها شيء اصفر
يستخرج من بطن الجدي ، ولعل الثاني أولى اقتصارا على موضع الوفاق وان كان استثناء
نفس الكرش ايضا غير بعيد تمسكا بمقتضى الأصل» انتهى.
وأنت خبير (أولا) ـ بان ما علل به أولوية الثاني من
الاقتصار على موضع الوفاق لا اعرف له وجها ظاهرا مع ما عرفت من الخلاف في المسألة
وتقابل القولين فيها نعم لو كان القائل بأن الانفحة عبارة عن الكرش يعنى الكرش وما
فيه ومن جملته ذلك الشيء الأصفر فيكون القول بالكرش أعم مطلقا فإنه يتم ما ذكره
لكن لم أقف
__________________
(1) ص 78.
على من صرح بذلك من الأصحاب ولا من
أهل اللغة بل ظاهر الجميع تباين القولين.
و (ثانيا) ـ ان ما ذكره من التمسك بالأصل مردود بما عرفت
من عموم نجاسة الميتة الموجب لتنجيس ما لاقاها برطوبة ، والكرش وان كان طاهرا
بالذات من حيث استثناء الروايات إلا انه نجس بالعرض ، إلا انه نجس بالعرض ، إلا ان
يجاب عن الاشكال المذكور بما ذكرناه
(الخامس) ـ ان جملة من الأخبار المتقدمة قد دلت على
استثناء البيضة كجملة ما ذكر من العشرة. وظاهر إطلاقها الحكم بالطهارة وان لاقت
الميتة بالرطوبة مع مخالفة ذلك لما عرفت في الصوف ونحوه من انه متى أخذ بالقلع
فإنه يجب تطهير موضع الملاقاة كما قال به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ودلت عليه
حسنة حريز ، ومن أجل ذلك اختلفت كلمة الأصحاب في البيضة أيضا ، فظاهر بعض الحكم
بالطهارة نظرا إلى إطلاق النصوص والظاهر انه قول الأكثر كما نقله في المعالم ، حيث
انهم أطلقوا الحكم بطهارة البيضة ولم يتعرضوا لحكم ظاهرها مع معلومية ملاقاتها
بالرطوبة للميتة النجسة ، والمفهوم من كلام العلامة النجاسة كما صرح به في النهاية
حيث قال : البيضة من الدجاجة الميتة طاهرة ان اكتست الجلد الفوقاني الصلب لأنها
صلبة القشر لاقت نجاسة فلم تكن نجسة في نفسها بل بالملاقاة ، ونحوه في المنتهى
ايضا.
ويمكن تأييد ما ذهب إليه العلامة بأن حسنة حريز التي
استدل بها على غسل موضع القلع من الصوف ونحوه قد تضمنت البيضة في جملة تلك الأفراد
المعدودة فيها والأمر بغسل تلك الأشياء المعدودة إذا أخذت بعد الموت فتدخل البيضة
في ذلك ، غاية الأمر انها قد اشتملت ايضا على اللبن واللبأ وهذان الفردان يجب
إخراجهما من حيث عدم إمكان الغسل فيهما فلا ينصرف الأمر المذكور إليهما ، واشتملت
بعد الأمر بالغسل على الأمر بالصلاة وهذا ربما يشعر بظاهره خروج البيضة أيضا حيث
انه لا يصلى فيها. ويمكن ان يقال ان الأمر بالغسل لا يستلزم الأمر بالصلاة فيحمل
الأمر بالصلاة على ما يصلى فيه من تلك الافراد كالصوف والشعر ، إذ لا يخفى ان
الرواية قد اشتملت في جملة
المعدودات ايضا على القرن والحافر
والناب ومن الظاهر ان هذه لا يصلى فيها ، وتمحل الحمل على بعض الأفراد النادرة
الشاذة إن اتفق إلا انه لا يعمل عليه ولا ينبغي ان يصغى إليه إذ إطلاق الأخبار
انما ينصرف الى الافراد المتكثرة كما سمعته غير مرة ، وبالجملة فإن الرواية
المذكورة صرحت بعد تعداد تلك الأفراد المذكورة فيها بان كل شيء يفصل من الشاة
والدابة فهو ذكي وان أخذته منه بعد ان يموت فاغسله وصل فيه ، وحينئذ فكما استثني
اللبن واللبأ من حيث عدم صلاحيتهما للغسل ينبغي ان يستثني من الصلاة ما لا تقع
الصلاة فيه ولا يكون مما يصلى فيه ويبقى الغسل عاما للجميع عدا اللبن واللبأ ،
فكأنه قيل : وكل شيء من هذه الأشياء متى أخذ من الميتة فاغسله من حيث ملاقاة
الميتة وصل فيه ان كان مما يصلى فيه. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.
وعلى هذا فيحمل إطلاق باقي الروايات على هذه الرواية فيجب حينئذ غسل البيضة ،
ويؤيد ذلك بموافقة القاعدة الكلية في ملاقاة النجاسة برطوبة وغسل أصل الصوف ونحوه
وأوفقيته بالاحتياط في الدين.
بقي الكلام أيضا في موضعين آخرين : (أحدهما) ـ ان أكثر
الأخبار التي قدمناها خالية من التعرض لاشتراط اكتساء البيضة القشر الأعلى نعم ذلك
في رواية غياث خاصة ، وظاهر الأصحاب الاتفاق على هذا الشرط وكأنهم حملوا إطلاق
الاخبار المذكورة على هذه الرواية وطعن فيها في المدارك بضعف السند وظاهره العمل
بإطلاق الأخبار المذكورة حيث ان فيها الصحيح مثل صحيحة زرارة ، وظاهر صاحب المعالم
ايضا العمل بالإطلاق المذكور لضعف الخبر مع طعنه في الأخبار الأخر أيضا بناء على
اصطلاحه الذي تفرد به من توقف الوصف بالصحة على اخبار اثنين من علماء الرجال ، إلا
انه عضدها بموافقة الأصل وكثرتها وان الصدوق في المقنع لم يتعرض لهذا الشرط بل أطلق
القول كما في أكثر الاخبار ، وجمهور الأصحاب على خلاف ما ذهب اليه وضعف الخبر
المذكور مجبور عندهم بالشهرة وعمل الأصحاب على ما تضمنه ، وهو الظاهر الذي عليه
العمل حيث انا لا نرى العمل بهذا
الاصطلاح المحدث.
و (ثانيهما) ـ ان كلام الأصحاب قد اختلف في التعبير عن هذا
الشرط الذي ذكر لطهارة البيضة ، فبعض المتقدمين اقتصر على نقل الحديث فعبر بالجلد
الغليظ واقتفاه الشيخ في النهاية كما هي عادته غالبا من التعبير بمتون الاخبار ،
وبعض عبر بالجلد ولكن بدلوا لفظ الغليظ بالفوقاني ، وعبر جماعة : منهم ـ المحقق
والشهيد بالقشر الأعلى وفي كلام العلامة في جملة من كتبه الصلب كما تقدم في عبارة
النهاية ومثله في المنتهى ، وتبعه على التقييد بالصلابة بعض المتأخرين ، والظاهر
ان مرجع الجميع إلى أمر واحد والاختلاف انما هو بحسب اللفظ ، اما فيما عدا عبارة
العلامة بالصلب فظاهر ، واما في التعبير بالصلب فيمكن ان يكون خرج مخرج الغالب ،
وبيان ذلك ان هذا القشر الذي يجمع البياض والصفرة أول ما يكون رقيقا ثم يغلظ حتى
يصير صلبا ، والمراد بالقشر الأعلى والجلد الغليظ والقوقاني في عباراتهم هو هذا
الغشاء الرقيق الذي يصلب بعد ذلك إذا آن رمي الدجاجة للبيضة وإخراجها ، فالاعتبار
في طهارة البيضة بحصوله وان لم يصلب على الوجه الذي تخرج عليه البيضة عادة ،
وتقييد العلامة بالصلابة ربما ينافي ذلك الا ان يحمل على الخروج مخرج الغالب كما
ذكرنا ، نعم حكى العلامة في بعض كتبه عن بعض الجمهور انه ذهب الى طهارة البيضة وان
لم تكتس القشر الأعلى محتجا بان عليها غاشية رقيقة تحول بينها وبين النجاسة ، ثم
قال : والأقرب عندي انها ان كانت قد اكتست الجلد الأعلى وان لم يكن صلبا فهي طاهرة
لعدم الملاقاة والا فلا ، وربما أشعر هذا الكلام بمنافاة ما ذكرناه الا انه يمكن
إرجاعه إليه بأن يحمل كلامه على ان المراد انه ان كانت هذه الغاشية الرقيقة هي
الجلد الأعلى الذي يجمع البياض والصفرة وهو الذي يصلب بعد ذلك فإنه يصلب عليه
الجلد الأعلى الذي هو المناط في الطهارة وان لم يكن صلبا والا فلا ، وهذا يرجع الى
ما قدمنا ذكره.
(السادس) ـ اختلف أصحابنا في طهارة اللبن في ضرع الشاة
الميتة ونجاسته ،
فعن الصدوق في المقنع والشيخ في
الخلاف والنهاية وكتابي الحديث وكثير من الأصحاب الطهارة حتى نقل عن الشيخ في
الخلاف وابن زهرة في الغنية دعوى الإجماع على ذلك ، وقال ابن إدريس في السرائر :
اللبن نجس بغير خلاف عند المحصلين من أصحابنا لأنه مائع في ميتة ملامس لها ، وما
أورده شيخنا في نهايته رواية شاذة مخالفة لأصول المذهب لا يعضدها كتاب الله ولا
سنة مقطوع بها ولا إجماع وتبعه على القول بذلك جماعة من الأصحاب : منهم ـ الفاضلان
، قال في المنتهى المشهور عند علمائنا ان اللبن من الميتة المأكولة للحم بالذكاة
نجس وقال بعضهم هو طاهر ، ثم قال في الاستدلال على النجاسة : لنا على التنجيس ـ أنه
مائع في وعاء نجس فكان نجسا كما لو احتلب في وعاء نجس ، ولانه لو أصاب الميتة بعد
حلبه تنجس فكذا لو انفصل قبله لأن الملاقاة ثابتة في البابين.
والى القول بالطهارة مال من المتأخرين ومتأخريهم الشهيد
في الذكرى والسيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المعالم والفاضل
الخوانساري في شرح الدروس والفاضل الخراساني في الذخيرة ، وهو المختار لما تقدم من
الاخبار وهي صحيحة زرارة وحسنة حريز وموثقة الحسين بن زرارة أو حسنته ومرسلة
الفقيه المسندة في الخصال.
ولا يخفى ان ما استندوا إليه في الحكم بالنجاسة ـ من حيث
كونه مائعا ملامسا للميتة وكل ما كان كذلك فهو نجس ـ فهو لا يخلو من مصادرة ،
والعموم الدال على نجاسة الملاقي للنجاسة برطوبة ـ وهو دليل الكبرى ـ مخصوص
بالأخبار المذكورة فإنها صالحة للتخصيص فلا مانع من القول بها واستثناء هذا الفرد
من العموم المذكور. واما ما احتجوا به زيادة على الدليل المتقدم من رواية وهب بن
وهب عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (1) «ان عليا (عليهالسلام) سئل عن شاة
ماتت فحلب منها لبن فقال علي (عليهالسلام) ذلك الحرام
محضا». فهي لا تقوم بمعارضة الأخبار المذكورة ، وقد أجاب عنها الشيخ في التهذيب
بأنها رواية شاذة لم يروها غير وهب بن وهب وهو ضعيف جدا
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 33 من الأطعمة المحرمة.
عند أصحاب الحديث (1) ولو كان صحيحا
لجاز ان يكون الوجه فيه ضربا من التقية لأنها موافقة لمذهب العامة لأنهم يحرمون كل
شيء من الميتة ولا يجيزون استعماله على حال (2) انتهى.
واما ما أجاب به في المختلف عن صحيحة زرارة وحسنة حريز ـ
بأنهما محمولان على ما إذا قاربت الشاة الموت ـ فلا يخفى ما فيه من التمحل البعيد
ولو كان كذلك لم تصلح الروايتان دليلا على طهارة الأشياء المعدودة مع اللبن من
الميتة مع انه وغيره يستدلون بهما على ذلك ، وتخصيص هذا القيد باللبن مع عده في
قرن تلك الأشياء باطل على ان ارتكاب التأويل ولا سيما مثل هذا التكلف السحيق
بالنظر الى قواعدهم انما يسوغ مع حصول التعارض بين الدليلين ، واي منصف يدعى
صلاحية معارضة هذه الرواية الضعيفة لتلك الأخبار الصحيحة الكثيرة؟ قال في المعالم
ـ ونعم ما قال ـ والعجب من العلامة بعد تفسيره الانفحة باللبن المستحيل وحكمه
بطهارتها للأخبار الدالة على ذلك مع تحقق وصف المائعية فيها كيف يجعل اعتبار
الملاقاة مع المائعية هنا معارضا للخبر. انتهى. واما ما أجاب به الفاضل الخوانساري
في شرح الدروس ـ حيث قال بعد نقل هذا الكلام : «وكأنه لا عجب على ما ذكرناه سابقا
من ان الإنفحة كأنها ليست مائعة على الإطلاق بل هي لبن منجمد» ـ ففيه ان ما قدمنا
نقله عن أهل اللغة من ان الإنفحة شيء يستخرج من بطنه اصفر يعصر في صوفة مبتلة في
اللبن فيغلظ كالجبن ظاهر في كونه في بطن السخلة مائعا وانه بعد أخذه من بطن السخلة
يعصر على الوجه المذكور فيعرض له الجمود بعد ذلك فلا يتم ما ذكره على كلام المحقق
المشار إليه.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان عبارة العلامة التي قدمناها عن
المنتهى تدل على ان محل النزاع لبن الميتة المأكولة اللحم بالذكاة ولم يتعرض لغير
المأكولة ، وظاهر كلام غيره وكذا ظاهر الأخبار هو العموم وعدم الفرق ، وصاحب
المعالم مع تعرضه في الانفحة لكونها من المأكول وغيره وتردده في غير المأكول كما
تقدم الكلام فيه لم يتعرض هنا
__________________
(1) راجع التعليقة 1 ج 2 ص 81.
(2) تأتى تعليقة المورد في الاستدراكات.
للفرق ولا لعدمه ، وبالجملة فالاحتياط
في أمثال ذلك مما ينبغي المحافظة عليه.
(السابع) ـ قال في المنتهى : فأرة المسك إذا انفصلت من
الظبية في حياتها أو بعد التذكية طاهرة وان انفصلت بعد موتها فالأقرب النجاسة.
وقال في الذكرى المسك طاهر إجماعا وفأرته وان أخذت من غير المذكى. وبهذا القول صرح
العلامة في النهاية أيضا فقال : فأرة المسك ان انفصلت من الظبية في حياتها أو بعد
التذكية طاهرة وان انفصلت بعد موتها فالأقرب ذلك أيضا للأصل. وفي التذكرة أيضا حكم
بالطهارة مطلقا سواء انفصلت من الظبي حال حياته أو بعد موته وهو خلاف ما ذكره في
المنتهى.
قال في المدارك : والأصح طهارتها مطلقا كما اختاره في
التذكرة للأصل وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن فأرة المسك تكون مع الرجل وهو يصلي وهي معه في جيبه أو ثيابه؟ فقال لا بأس بذلك».
ثم قال : ولا ينافي ذلك ما رواه عبد الله بن جعفر في الصحيح (2) قال : «كتبت
إليه ـ يعني أبا محمد (عليهالسلام) ـ هل يجوز
للرجل ان يصلي ومعه فأرة مسك؟ قال لا بأس بذلك إذا كان ذكيا». لجواز ان يكون
المراد بالذكي الطاهر مع ان المنع من استصحابها في الصلاة لا ينحصر وجهه في
النجاسة. انتهى.
أقول : فيه ان ما ذكره من اختيار القول بالطهارة عملا
بصحيحة علي بن جعفر وحمل الصحيحة الأخرى على ما ذكره فلقائل أن يقول بما ذهب إليه
في المنتهى من القول بالنجاسة عملا بصحيحة عبد الله بن جعفر المذكورة ، بأن يقال
ان المراد من قوله : «إذا كان ذكيا» اما الحمل على رجوع ضمير «كان» الى الظبي
المدلول عليه بالفأرة بمعنى ان يكون مذكى لا ميتة والمراد بالمذكى ما هو أعم من
حال الحياة أو التذكية بالذبح ، وربما يستأنس لذلك بتذكير الضمير ، واما الرجوع
الى الفأرة باعتبار ما ذكرناه أيضا أي إذا كانت ذكية بالأخذ من أحد هذين الفردين ،
والظاهر قرب ما ذكرناه على ما ذكره من ان المراد كونها
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 41 من أبواب لباس المصلى.
طاهرة لم تعرض لها نجاسة من الخارج
كما احتمله في الذكرى ايضا وأجاب به عن الحديث المذكور إذ لا خصوصية لذلك بالفأرة.
واما صحيحة علي بن جعفر فلعل منشأ السؤال فيها عن فأرة المسك انما هو من حيث توهم
نجاسة المسك باعتبار أن أصله الدم كما قيل «ان المسك بعض دم الغزال» وحينئذ فنفى
البأس يرجع الى طهارته بالاستحالة التي هي من جملة المطهرات الشرعية ، واما من حيث
فأرة المسك واحتمال كونها ميتة المستلزم لنجاستها كما هو ظاهر صحيحة عبد الله بن
جعفر المذكورة التي قد عرفت انها مستند العلامة فيما ذهب إليه في المنتهى ، وحينئذ
فنفي البأس من حيث وجوب البناء على أصالة الطهارة لقولهم (عليهمالسلام) (1) «كل شيء طاهر
حتى تعلم انه قذر». وفأرة المسك لما كان منها ما هو طاهر ونجس كما عرفت دخلت تحت
الكلية المذكورة ، ويمكن بناء على الثاني حمل نفي البأس من حيث انها لا تتم فيها
الصلاة وقد عفي عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه فهي وان كانت نجسة بالموت إلا انها
مما لا تتم الصلاة فيه. لكن يدفع هذا الوجه ظاهر صحيحة عبد الله بن جعفر فإنها قد
دلت على النهي عن الصلاة فيها من حيث كونها غير ذكية يعني ميتة وهي ظاهرة في عدم
جواز الصلاة في الميتة وان كانت مما لا تتم الصلاة فيه ، وعلى ذلك ايضا تدل جملة
من الأخبار فتكون الصلاة فيما لا تتم الصلاة فيه من الميتة الموجب لبطلانها مستثنى
من جواز الصلاة في النجس الذي لا تتم الصلاة فيه. وبالجملة فالاحتمالان المذكوران
متعارضان ، وربما يرجح الاحتمال الذي صار إليه في المدارك وبه صرح أكثر الأصحاب
بمطابقة الأصل ، الا أن المسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال والاحتياط فيها مطلوب
على كل حال.
بقي هنا شيء وهو انه قد تقدم في المسألة الثانية تصريح
الأصحاب بان ما تحله
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 37 من أبواب النجاسات ، واللفظ في
موثقة عمار هكذا «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر». وسيأتي منه (قدسسره) التصريح بذلك في التنبيه الثاني من
تنبيهات المسألة الثانية من البحث الأول من أحكام النجاسات.
الحياة من الحيوان ذي النفس السائلة
نجس متى انفصل عنه في حال الحياة أو الموت ، والأكثر كما عرفت على ما صرح به
العلامة في التذكرة والنهاية من القول هنا بطهارة الفأرة مطلقا وان انفصلت من
الحية أو الميتة ، وهو مدافع لما ذكروه ثمة ، والجواب عن ذلك هو تخصيص الحكم في
تلك المسألة بروايات هذه المسألة الدالة على الطهارة واستثناء هذا الفرد بهذين
الخبرين من الحكم المتقدم. والله العالم.
(الثامن) ـ ان ما اشتملت عليه رواية أبي حمزة الثمالي ـ من
قوله (عليهالسلام): «فاشتر
الجبن من أسواق المسلمين من أيدي المصلين ولا تسأل عنه إلا ان يأتيك من يخبرك عنه».
بعد قوله (عليهالسلام) : ان الإنفحة
ليس بها بأس. إلى آخر الكلام المؤذن بأن توهم التحريم في الجبن انما هو من حيث
الانفحة لأنها ميتة كما هو اعتقاد السائل المذكور ونفيه (عليهالسلام) ذلك المقتضى
لحل الجبن ـ لا يخلو من اشكال ، والظاهر ان الوجه فيه أحد أمرين : اما حمل الكلام
الأخير على ما إذا حصل سبب آخر يوجب التحريم فيكون حكما مستأنفا لا تعلق له بجواب
السائل ، واما حمل الكلام على الرجوع عن الجواب الأول حيث انه (عليهالسلام) فهم من
السائل عدم قبوله من حيث حكمه بأن الانفحة ميتة موجبة لتنجيس الجبن إذا لاقته فعدل
الى الجواب بالتي هي أحسن من انه مع تسليم ما يدعيه فإن الأصل في الأشياء الطهارة
فاشتر من سوق المسلمين وكل حتى تعلم انه خالطه الانفحة ، وبهذا الوجه صرح في
الوافي حيث قال : «ولما استفرس (عليهالسلام) من قتادة عدم
قبوله ولا قابليته لمر الحق عدل به عن الحق إلى الجدال بالتي هي أحسن وقال : اشتر
الجبن من أسواق المسلمين ولا تسأل عنه» انتهى.
أقول : واخبار الجبن جلها أو كلها قد اشتملت على تعليل
تحليل الجبن بهذه القاعدة المنصوصة ، والظاهر ان السر فيه هو ما ذكرناه في الوجه
الأول أو الثاني ، ومنها ـ ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن الصادق (عليهالسلام) (1) «في الجبن؟
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 64 من الأطعمة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 61 من الأطعمة المباحة.
(3) في المغني ج 1 ص 74 «لبن الميتة وانفحتها نجسة في ظاهر المذهب وهو قول مالك والشافعي ، وروي انها طاهرة وهو قول أبي حنيفة وداود».