ج18 - شرائط العوضين
قد عرفت ان أحد أركان البيع العوضان. والكلام في ذلك
وتحقيق البحث فيه يقتضي بسطه في مسائل : ـ
الأولى : المشهور بين
الأصحاب انه يشترط في العوضين : ان يكونا عينا ، فلا يصح بيع المنفعة ، خلافا
للشيخ في المبسوط ، حيث جوز بيع خدمة العبد على ما نقل عنه ، وهو شاذ لا اعلم عليه
دليلا.
وان يكونا ذوي نفع محلل مقصود لأرباب العقول ، فلا يصح
بيع مالا منفعة تترتب عليه من الأعيان النجسة والمتنجسة مما لا يقبل التطهير ، وقد
تقدم البحث في جملة من هذه الأشياء ، كالعذرات والأبوال والسباع والميتة والكلاب
وآلات اللهو وهياكل العبادة ونحو ذلك. والاخبار المتعلقة بها ، وتحقيق القول فيها
، في المقدمة الثالثة من مقدمات هذا الكتاب.
وملخص الكلام فيها : ان كل ما كان له نفع محلل مقصود
للعقلاء فإنه يجوز بيعه والتجارة فيه ، الا ما قام الدليل على خلافه.
قالوا : لا يصح بيع ما لا منفعة فيه من الخنافس والعقارب
ونحوهما ، وفضلات الإنسان كشعره وأظفاره ورطوباته ، لعدم عد شيء من ذلك مالا عرفا
وشرعا ، وعدم
المنفعة المقابلة للمال الذي يجعل
قيمة لها ، ولا اعتبار بما ورد في الخواص من منافع بعض هذه الأشياء ، فإنه مع ذلك
لا يعد مالا.
نعم صرحوا باستثناء اللبن من فضلات الإنسان ، حيث انه
طاهر ينتفع به ، فيجوز بيعه وأخذ الأجرة عليه ، مقدرا بالقدر المعين أو المدة
المعلومة ، كما في إجارة الظئر. خلافا لبعض العامة.
وقد عدوا من هذا الباب ما لم تجر العادة بملكه ، كحبة
حنطة ، وان يجز غصبها من مالكها ، فيضمن المثل ان تلفت ، وردها ان بقيت. كذا صرح
به في الدروس.
وظاهر المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ المناقشة في
هذا المقام ، حيث قال ـ بعد قول المصنف «ولا ما لا ينتفع به لقلته كالحبة من
الحنطة» ـ ما صورته :
كأنه أشار الى ان المراد بالملك الذي يحصل به النفع ،
فهو عطف على الحر ، فلا يصح ولا يجوز المعاملة بما لا ينتفع به لقلته ، وان كان
ملكا كحبة من الحنطة ، ولهذا لا يجوز أخذه من غير اذن صاحبه ، وان لم يجب الرد
والعوض ، بناء على ما قيل ، ولعل دليله يظهر مما مر ، من ان بذل المال في مقابلة
مثله سفه عقلا وشرعا ، فلا يجوز وانه ليس معاملة مثله متعارفا ، والمتعاملة
المجوزة تصرف إليها.
وفيه تأمل ، لأنه قد ينتفع به وذلك يكفى ، ولهذا قيل :
لا يجوز سرقة حبة من الحنطة ، وينبغي الضمان والرد ايضا ، كما في سائر المعاملات.
وان قيل بعدمها ومجرد كونه ليس بمتعارف لا يوجب المنع ،
نعم لا بد من بذل مالا يزيد عليه لئلا يكون سفها وتبذيرا كما في سائر المعاملات ،
فإنه قد يشتري حبة حبة ويجتمع عنده ما يحصل فيه نفع كثير ، وقد يحصل النفع
بالانضمام الى غيره ايضا.
وبالجملة مالا نفع فيه أصلا وبوجه من الوجوه لا يجوز
معاملتها للسرف ، واما ماله نفع في الجملة كالحبة ليس بظاهر عدم جواز المعاملة
بأمثالها. انتهى.
وهو بناء على ظاهره جيد ، الا ان الظاهر ان بناء كلام
الأصحاب هنا في الحكم
بكون الحبة من الحنطة لا يجوز
المعاملة عليها لعدم الانتفاع بها ، انما جرى على الغالب ، لا على هذا الفرض
النادر الذي ذكره ، والأحكام الشرعية ـ كما تقدم في غير مقام ، ولا سيما في كتب
العبادات ـ انما يبنى الإطلاق فيها على الافراد المتكررة الوقوع المتعارفة الدوران
لا على الفروض النادرة التي ربما لا تقع بالكلية ، وان جاز فرضها ، وان ما ذكره من
الفرض المذكور معارض بما هو معلوم قطعا من أحوال الناس ، فإنه قد ينتشر من الإنسان
الحنطة والأرز ونحوهما فيجمع منه ما يعتد به وينتفع به ويبقى في الأرض منه حبات
كثيرة ويعرض عنها ويتركها لعدم ما يترتب عليها من النفع لقلتها بل لو تعرض لجمع
تلك الحبات ولقطها من الأرض لنسب إلى الجهالة والحماقة وقلة العقل ، لما ارتسم في
قلوب العقلاء إن الأليق بذوي المروات هو الاعراض عن مثل ذلك ، وان خلافه عيب عندهم
، وهذا أمر معلوم مجزوم به عادة.
المسألة الثانية
من الشرائط : ان يكون العوضان مملوكين لمن له البيع
والشراء ، وهو ظاهر عقلا ونقلا ، إذ لا معنى لبيعه ما ليس له ، ولا الشراء بما ليس
له ، بان يتوجه العقد الى تلك الأعيان.
وانما قيدناه بما ذكرنا ، احترازا عما لو وقع البيع
والشراء في الذمة ، ودفع ذلك عوضا عما في الذمة ، فإن البيع والشراء صحيح ، حيث
انه لم يقع على تلك العين غير المملوكة ولا بها ، وانما وقع على شيء في الذمة ،
فغاية ما يلزم هو حصول الإثم بدفع المال غير المملوك ثمنا أو مثمنا ، والا فالبيع
صحيح كما هو ظاهر ، الا ان الشيخ قال في النهاية : من غصب غيره مالا واشترى به
جارية ، كان الفرج له حلالا وعليه وزر المال ، ولا يجوز ان يحج به فان حج به لم
يجزه عن حجة الإسلام. انتهى.
وهو على إطلاقه ـ مشكل. ولهذا اعترضه ابن إدريس هنا ،
فقال : ان كان الشراء بالعين بطل ولم يجز الوطي ، وان كان قد وقع في الذمة صح
البيع وحل الوطي.
أقول : ما ذكره ابن إدريس هو المشهور في كلام المتأخرين
، وبه صرح الشيخ في أجوبة المسائل الحائرية.
والوجه في ذلك ـ زيادة على ما ذكرنا ـ : أولا ، الجمع
بين ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى ، قال : كتب محمد بن الحسن الى ابى محمد ـ عليهالسلام رجل اشترى من
رجل ضيعة أو خادما بمال أخذه من قطع الطريق أو من سرقة. هل يحل له ما يدخل عليه من
ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له ان يطأ هذا الفرج الذي اشتراه من سرقة أو من قطع
الطريق؟ فوقع عليهالسلام : لا خير في
شيء أصله حرام ، ولا يحل له استعماله (1). ورواه الشيخ ـ ايضا ـ بسنده الى
الصفار.
وبين ما رواه الشيخ عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه
ـ عليهمالسلام ـ قال : لو ان
رجلا سرق الف درهم فاشترى بها جارية ، أو أصدقها امرأة ، فإن الفرج له حلال ،
وعليه تبعة المال (2).
بحمل الأول على الشراء بعين المال ، والثاني على الشراء
في الذمة.
وبالجملة فإنه لا خلاف ولا إشكال في شرطية الملك ، فلا
يجوز بيع الحر اتفاقا ، ولا بيع ما اشترك فيه المسلمون ، كالماء والكلاء ، إذا
كانا في أرض مباحة. كذا وقع في عبائر جمع من الأصحاب.
واعترض بأنه يدل على ملكية المسلمين له على جهة الشركة ،
كالأرض المفتوحة عنوة ، مع انه ليس كذلك ، انما هما قابلان لملك كل انسان بعد
الحيازة.
وفيه : ان الظاهر ان التعبير هنا خرج مخرج التجوز ، وان
المراد انما هو ما اشترك
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 58 حديث : 1 باب : 3 من أبواب ما يكتسب به.
(2) الوسائل ج 14 ص 578 حديث : 1 باب : 81 من أبواب نكاح
العبيد والإماء.
المسلمون في جواز حيازته الموجبة
للملك بعد ذلك ، وانما قيد بكونه في أرض مباحة ، لأنه إذا كان في أرض مملوكة كان
تابعا للأرض في الملك ، فيصح بيعه وشراؤه ، ويحرم على غير المالك أخذه بغير اذن منه
، فعلى هذا لو باع الأرض لم يدخل فيها الماء والكلاء الا ان ينص عليهما في البيع ،
أو يذكر لفظا يعمهما.
وقد صرحوا هنا بأنه لا يجوز بيع الأرض المفتوحة عنوة ،
لأنها للمسلمين قاطبة ، وقيل بالجواز تبعا لآثار التصرف. وقد تقدم البحث في هذه
المسألة منقحا في المسألة السادسة من المقدمة الرابعة ، وينافيها ما هو المختار ،
الظاهر عندنا من الاخبار.
ومنع الشيخ من بيع بيوت مكة وإجارتها ، ومنع المسلمين من
سكناها إذا كانت خالية ، محتجا بالخبر وآية الإسراء من المسجد الحرام ، مع انه كان
من دار أم هاني. ونقل في الخلاف الإجماع على ذلك وجملة ممن تأخر عنه تبعه في هذه
الدعوى ، وبعض تردد لذلك.
والظاهر ان المشهور قالوا بالجواز. ولله در شيخنا الشهيد
الثاني في الروضة ، حيث قال : وربما علل المنع بالرواية عن النبي صلىاللهعليهوآله بالنهي عنه ،
وبكونها في حكم المسجد لاية الإسراء ، مع انه كان من بيت أم هاني ، ولكن الخبر لم
يثبت ، وحقيقة المسجدية منتفية ، ومجاز المجاورة والشرف والحرمة ممكن ، والإجماع
غير متحقق ، فالجواز متجه. انتهى. وهو جيد.
أقول : وقد مر في الموضع المشار اليه آنفا ما يؤيد ما
اختاره هنا ايضا.
والظاهر ان الخبر الذي احتج به الشيخ في هذه المسألة ،
هو ما نقله عنه في المختلف ، وهو ما رواه عبد الله بن عمرو بن عاص عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : مكة
حرام ، وحرام أرباعها ، وحرام أجر بيوتها (1).
أقول : انظر الى هذا التساهل في الأحكام من كل من هؤلاء
الاعلام ، في الاعتماد
__________________
(1) سنن البيهقي ج 5 ص 34.
على هذه الرواية العامية ، التي هي من
أضعف رواياتهم ، حتى ان منهم من وافق الشيخ في المسألة ، ومنهم من تردد في الحكم ،
وهذا مستنده ، مع تصلبهم في هذا الاصطلاح ، برد جملة من الروايات المروية في
الأصول التي عليها المدار ، بزعم انها ضعيفة أو غير موثقة ، لا سيما مثل المحقق
والعلامة ونحوهما الذين قد وافقوه في هذه المسألة فبين من تردد في ذلك كالمحقق في
الشرائع ، حيث قال «وفي بيع بيوت مكة تردد ، والمروي المنع» ، وبين من وافقه
والحال كما ترى.
المسألة الثالثة
وقد صرحوا بان من الشرائط ان يكون المبيع مقدورا على
تسليمه ، أو يضم اليه ما يصح بيعه منفردا ، فلو باع الحمام الطائر أو غيره من
الطيور المملوكة لم يصح الا ان تقضى العادة بعوده فيصح ، لانه يكون كالعبد المنفذ
في الحوائج والدابة المرسلة.
وتردد العلامة في النهاية في الصحة بسبب انتفاء القدرة
في الحال على التسليم ، وان عوده غير موثوق به ، إذ ليس له عقل باعث.
قال في المسالك : وهو احتمال موجه ، وان كان الأول أقوى.
أقول : لم أقف في هذا المقام على نص يقتضي صحة البيع في
الصورة المذكورة ، فتردد العلامة في محله ، وان كان الأول قريبا ، تنزيلا للعادة
منزلة الواقع ، الا ان الفتوى بذلك بمجرد هذا التعليل مشكل ، على قاعدتنا في
الفتاوى.
* * *
ولو باع المملوك الآبق لم يصح الا على من هو في يده أو
مع الضميمة الى ما يصح بيعه منفردا ، فان وجده المشترى وقدر على إثبات اليد عليه ،
والا كان الثمن بإزاء
الضميمة ، ونزل الآبق بالنسبة إلى
الثمن بمنزلة المعدوم. ولكن لا يخرج بالتعذر عن ملك المشترى ، فيصح عتقه عن
الكفارة وبيعه على آخر مع الضميمة أيضا.
والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ، ما
رواه في الكافي في الصحيح عن رفاعة النخاس ، قال : سألت أبا الحسن موسى عليهالسلام قلت له : يصلح
لي ان اشترى من القوم الجارية الآبقة وأعطيهم الثمن فاطلبها أنا؟ قال : لا يصلح
شراؤها الا ان تشترى معها ثوبا أو متاعا ، فنقول لهم : اشترى منكم جاريتكم فلانة
وهذا المتاع بكذا وكذا درهما ، فان ذلك جائز (1).
وما رواه الشيخ عن سماعة في الموثق عن الصادق عليهالسلام في الرجل
يشترى العبد وهو آبق عن اهله ، قال : لا يصلح الا ان يشترى معه شيئا آخر ، ويقول :
اشترى منك هذا الشيء وعبدك بكذا وكذا ، فان لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما
اشترى معه (2). ورواه الصدوق
بإسناده عن سماعة مثله ، ورواه الكليني عن محمد بن يحيى عن احمد بن محمد مثله.
وفي الرواية الأولى إشارة إلى كون الضميمة شيئا له قيمة
كالثوب والمتاع ونحو ذلك ، وينبغي ان يحمل عليها إطلاق الشيء في الرواية الثانية.
وفي الثانية دلالة على ما قدمنا ذكره من أنه مع تعذر
المبيع يكون الثمن ـ وان كثر ـ في مقابلة الضميمة ـ وان قلت ـ وفيه ، وكذا في
أمثاله ، من مواضع الضمائم الاتية إنشاء الله تعالى في مواضعها ، رد على بعض
الفضلاء المعاصرين فيما تفرد به ، من ان ذلك غير جائز ، لأنه غير مقصود وان
المشترى لا ينقد هذا الثمن الكثير في مثل هذا المبيع اليسير في سائر الأوقات وما
جرت به العادة. وهو اجتهاد في مقابلة النصوص وجرأة على أهل الخصوص.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 262 حديث : 1 باب : 11.
(2) الوسائل ج 12 ص 263 حديث : 2 باب : 11.
وفي الخبرين المذكورين تأييد لما قدمنا ذكره في المقام
الأول من هذا الفصل. من الاكتفاء في صيغة البيع بالألفاظ الدالة على الرضا كيف
اتفقت ، فان ما ذكره في الخبرين من قوله «تقول : اشترى» هو عقد البيع وصيغته
الجارية بين المتبايعين ، وهو ظاهر في عدم وجوب تقديم الإيجاب على القبول كما
ادعوه ، ولا كونه بلفظ الماضي كما زعموه ، ولا وجوب المقارنة كما ذكروه.
تنبيهات
الأول : لا خيار
للمشتري مع العلم بالإباق ، لقدومه على النقض ورضاه به. اما لو جهل الإباق جاز له
الفسخ ان قلنا بصحة البيع.
الثاني : ينبغي ان يعلم
انه يشترط في بيعه ما يشترط في غيره من كونه معلوما وموجودا وقت العقد وغير ذلك
سوى القدرة على تسليمه. فلو ظهر تلفه حين العقد أو استحقاق الغير له بطل البيع
فيما قابله من الثمن. ولو ظهر كونه مخالفا للوصف تخير المشترى.
الثالث : قال في الدروس
عن المرتضى : انه جوز بيع الآبق منفردا لمن يقدر على تحصيله ، ثم قال : وهو حسن.
واختار ذلك أيضا في اللمعة ، واليه جنح جمع من المتأخرين ، منهم العلامة والمحقق
الشيخ على في شرح القواعد. ولا يخلو عن قوة ، لحصول الشرط وهو القدرة على تسليمه.
ووجه الاشتراط : صدق الإباق معه ، الموجب للضميمة بالنص
، وكون الشرط التسليم وهو أمر آخر غير التسليم. ويضعف بأن الغاية المقصودة من
التسليم حصوله بيد المشترى بغير مانع وهي موجودة ، والموجب للضميمة العجز عن
تحصيله وهي مفقودة ، فلا مانع من الصحة. والخبران المتقدمان محمولان على عدم قدرة
المشترى
وقت العقد ، وفي الثاني منهما ما يشير
الى ذلك ، من قوله «فان لم يقدر على العبد كان الذي نقده فيما اشترى معه» فإنه
ظاهر في كون البيع وقع في حالة لا يتحقق فيها قدرة المشترى على تحصيله ، بل هي
تحتمل للأمرين ، وبه يظهر قوة القول المذكور.
الرابع : قد صرح جملة من
الأصحاب ، منهم صاحب التذكرة والروضة وغيرهما ، بأنه لا يلحق بالآبق في هذا الحكم ما
في معناه ، كالبعير الشارد ، والفرس الغائر ، والضالة من البقر والغنم ونحوهما ،
بل المملوك المتعذر تسليمه بغير الإباق ، كالجحود مثلا ، فان الظاهر جواز بيعها من
غير ضميمة شيء ، للأصل وعموم أدلة العقود ، وحصول الرضا ، واقتصارا فيما خالف
الأصل على موضع النص ، وحينئذ فيصح البيع ويراعى بإمكان التسليم ، فان أمكن في وقت
قريب لا يفوت به شيء من المنافع يعتد به ، أو رضى المشترى بالصبر الى ان يسلم ،
لزم العقد. وان تعذر فسخ المشترى ان شاء ، وان شاء التزم بالعقد وبقي على ملكه ،
فينتفع بالعبد بالعتق ونحوه.
الخامس : قيل : وكما
يجوز جعل الآبق مثمنا يجوز جعله ثمنا ، سواء كان في مقابله آبق آخر أم غيره ،
لحصول معنى البيع في الثمن والمثمن ، وفي احتياج جعل العبد الآبق المجعول ثمنا إلى
الضميمة احتمال ، لصدق الإباق المقتضي لها ، ولعله الأقرب لاشتراكهما في العلة
المقتضية لها.
وحينئذ يجوز ان يكون أحدهما ثمنا والأخر مثمنا مع
الضميمتين ، كذا قيل. وللتوقف فيه مجال ، فان الحكم وقع خلاف الأصل كما اعترفوا به
، فالواجب الاقتصار فيه على مورد النص المتقدم ، ومورده انما هو المثمن لا الثمن.
السادس : ان الآبق يخالف
غيره من المبيعات في أشياء : منها : اشتراط الضميمة في صحة بيعه.
ومنها : انه ليس له قسط من الثمن.
ومنها : ان تلفه قبل القبض من المشترى.
ومنها : انه لا تخيير للمشتري مع فقده ، وكل ما شرط أو
ذكر في العقد يتخير المشترى مع فواته.
السابع : لو وجد المشترى
في الآبق عيبا سابقا ، اما بعد القدرة عليه أو قبلها كان له الرجوع بأرشه ، بأن
يقوم العبد صحيحا مع الضميمة بعشرة مثلا ، ويقومان معيبا بتسعة ، فالأرش هو العشر
، يرجع به المشترى من القيمة التي وقع عليها العقد ، وهكذا لو ظهر العيب في
الضميمة وكان سابقا على البيع ، فان الحكم فيه كذلك.
الثامن : لا يكفي في
الضميمة ، إلى الثمن أو المثمن ، ضم آبق آخر ، لان الغرض من الضميمة أن تكون ثمنا
أو مثمنا إذا تعذر تحصيل ما ضمت اليه ، فلا بد ان تكون جامعة لشرائطه التي من
جملتها إمكان التسليم ، والآبق المجعول ضميمة ليس كذلك.
المسألة
الرابعة
قد صرحوا بأن من الشرائط : ان يكون المبيع طلقا فلا يصح
بيع الوقف العام مطلقا. بضميمة كان أو بغير ضميمة.
والمشهور : استثناء موضع خاص ، الا انهم قد اختلفوا في
شروطه اختلافا شديدا فاحشا ، حتى من الواحد في الكتاب الواحد في باب البيع وباب
الوقف ، فقلما يتفق فتوى واحد منهم. فضلا عن المتعددين ، وان أردت الاطلاع على صحة
ما قلناه فارجع الى شرح الشهيد على الإرشاد ، فإنه قد بلغ الغاية في ذلك ، في بيان
المراد
بنقل جملة من فتاويهم ، وبين الاختلاف
فيها باعتبار الشروط المجوزة للبيع.
ونحن ننقل لك ذلك في هذا المقام ، إزاحة لثقل المراجعة
عمن اراده من الاعلام ، وتقريبا لمسافة وصوله إلى الأفهام ، فنقول :
قال في الكتاب المذكور : قال الصدوق بجواز بيع «الوقف
على قوم دون عقبهم» ومنع من بيع «الوقف المؤبد». وقال المفيد : انه يجوز بيع الوقف
إذا خرب ولم يوجد له عامر ، أو يكون غير مجد نفعا ، أو اضطر الموقوف عليه الى ثمنه
، أو كان بيعه أعود عليه ، أو يحدث ما يمنع الشرع من معونتهم والتقرب الى الله
بصلتهم. قال : فهذه خمسة مجوزة للبيع ، ليس بعضها مشروطا ببعض.
وقال الشيخ في المبسوط ، بجوازه إذا خيف خرابه أو خيف
خلف بين أربابه ، فجوزه في أحد الأمرين. وفي الخلاف ظاهر كلامه جوازه عند خرابه
بحيث لا يرجى عوده. فقد خالف عبارة المبسوط في شيئين : أحدهما : انه ذكر هناك خوف
الخراب ، وهنا تحققه. وثانيهما : انه لم يذكر الخلف بين أربابه في الخلاف. وقال في
النهاية : لا يباع الا عند خوف هلاكه أو فساده ، أو كان بالموقوف عليهم حاجة
ضرورية يكون بيعه أصلح ، أو يخاف خلف يؤدى الى فساد بينهم. فهذه أربعة بعضها غير
مشروط ببعض. ومخالفتها لعبارتي الكتابين ظاهرة. وتبعه صاحب الجامع ، الا انه لم
يذكر هلاكه أو فساده ، بل قال ـ عند خرابه ـ وقيد الفساد بينهم بأن تستباح فيه
الأنفس.
وقال المرتضى : يجوز إذا كان لخرابه بحيث لا يجدى نفعا ،
أو تدعو الموقوف عليهم ضرورة شديدة ، فقد وافق المفيد خمسي الموافقة.
وقال ابن البراج وأبو الصلاح : لا يجوز بيع المؤبد ،
واما المنقطع فيجوز بقيود النهاية ، وتجويز بيع المنقطع أشد اشكالا من الكل.
وقال سلار : فان تغير الحال في الوقف حتى لا ينتفع به
على اى وجه كان ، أو يلحق الموقوف عليه حاجة شديدة ، جاز بيعه.
وابن حمزة في كتابيه جوزه عند الخوف من خرابه أو الحاجة
الشديدة التي لا يمكنه معها القيام به.
والشيخ نجم الدين ـ في التجارة من الشرائع ـ جواز إذا
أدى بقاؤه إلى خرابه لخلف بين أربابه ، ويكون البيع أعود. وفي كتاب الوقف جوز بيعه
إذا خشي خرابه لخلف بين أربابه ، ولم يقيد بكون البيع أعود. ثم استشكل فيما لم يقع
خلف ولا خشي خرابه ، بل كان البيع أعود ، واختار المنع.
ففي ظاهر كلامه الأخير رجوع عن الأول ، وفي تقييده بقوله
«إذا لم يقع خلف ولا خشي خرابه» افهام جواز بيعه عند أحدهما أيا ما كان ، وهو
مخالف لما ذكر في الموضعين. وعبارته في هذه المواضع الثلاثة اختارها المصنف في
القواعد في هذه المواضع ايضا ، فيلزمه ما لزمه ، وفي النافع أطلق المنع من البيع ،
الا ان يقع خلف يؤدى الى فساد ، فإنه تردد فيه.
وقال المصنف في متاجر التحرير : يجوز بيعه إذا أدى بقاؤه
إلى خرابه ، وكذا إذا خشي وقوع فتنة بين أربابه على خلاف. وفي مقصد الوقف منه : لو
وقع خلف بين أرباب الوقف بحيث يخشى خرابه جاز بيعه على ما رواه أصحابنا. ثم قال :
ولو قيل بجواز البيع إذا ذهبت منافعه بالكلية ، كدار انهدمت وعادت مواتا ولم يتمكن
من عمارتها ، ويشترى بثمنها وقفا ، كان وجها. وفي التلخيص جوز عند وقوع الخلف
الموجب للخراب ، وبدونه لم يجوز. وجوز في القواعد بيع حصير المسجد إذا خلق وخرج عن
الانتفاع به فيه ، وبيع الجذع غير المنتفع به الا في الإحراق.
هذه عبارات معظم المجوزين.
وابن الجنيد أطلق المنع ، ونص ابن إدريس على إطلاق المنع
، وزعم الإجماع
على تحريم بيع المؤبد. والمصنف في هذا
الموضع من الإرشاد قيد البيع بالخراب وأدائه إلى الخلف بين أربابه ، فخالف عبارات
الأصحاب في الخراب ، وخالف المحقق المقيد بأدائه إلى الخلف بين الأرباب. وفي الوقف
من هذا الكتاب ، وبيع الوقف من الشرائع والقواعد جوز فيه شرط البيع عند ضرورة
الخراج والمؤن وشراء غيره بثمنه. وفي المختلف جوز بيعه مع خرابه وعدم التمكن من
عمارته أو مع خوف فتنة بين أربابه يحصل منها فساد ولا يستدرك مع بقائه. انتهى
كلامه.
ومنه يعلم ان في المسألة أقوالا :
أحدها : المنع مطلقا. وهو المنقول عن ابن الجنيد وابن
إدريس.
وثانيها : المنع في المؤبد خاصة. وهو مذهب الصدوق. واما
غيره فيجوز.
وثالثها : قول الصدوق المذكور الا انهم قيدوا البيع في
غير المؤبد بالقيود المذكورة في النهاية ، وهو قول ابى الصلاح وابن البراج.
ورابعها ـ وهو المشهور ـ : الجواز مطلقا ، بالشروط التي
ذكروها على اختلافها كما عرفت.
* * *
أقول : والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الافهام فيما رواه
على بن مهزيار في الصحيح ، قال : كتبت الى ابى جعفر عليهالسلام ان فلانا
ابتاع ضيعة فوقفها وجعل لك في الوقف الخمس ، ويسأل عن رأيك في بيع حصتك من الأرض
أو تقويمها على نفسه بما اشتراها به ، أو يدعها موقوفة. فكتب عليهالسلام الى : اعلم
فلانا أنى آمره ان يبيع حقي من الضيعة ، وإيصال ثمن ذلك الى ، وان ذلك رأيي إنشاء
الله. أو يقومها على نفسه ان كان ذلك أوفق له.
قال : وكتبت اليه : ان الرجل ذكر ان بين من وقف عليهم
هذه الضيعة اختلافا شديدا ، وانه ليس يأمن أن يتفاقم ذلك بينهم بعده ، فان كان ترى
ان يبيع هذا الوقف
ويدفع الى كل انسان منهم ما كان وقف
له من ذلك امرته. فكتب عليهالسلام بخطه الى : وأعلمه
أن رأيي له ، ان كان قد علم الاختلاف ما بين أصحاب الوقف ان بيع الوقف أمثل فإنه
ربما جاء في الاختلاف ما فيه تلف الأموال والنفوس (1).
قال شيخنا الشهيد في الكتاب المذكور المتقدم ذكره ـ بعد
نقل هذه الرواية ـ ما صورته : والذي جوز في غير المؤبد نظر الى صدر الرواية ،
والأخر نظر الى عجزها. قلت : لو سلمت المكاتبة فلا دلالة في الصدر ، إذ الوقف
مشروط بالقبول إذا كان على غير الجهات العامة ، ولم ينقل ان الامام قبل الوقف ،
وانما قبل الجعل وامره ببيعه. وحملها على هذا اولى لموافقته الظاهر واما العجز فدل
على جواز البيع لخوف الفساد بالاختلاف من غير تقييد بخوف خرابه ، فيبقى باقي ما
ذكروه من القيود غير مدلول عليها منها. انتهى.
وظاهره هنا : اشتراط جواز البيع لخوف الفساد بالاختلاف
خاصة. وفي الدروس اكتفى في جواز بيعه بخوف خرابه أو خلف أربابه المؤدي إلى فساده. وفي
اللمعة نسب الجواز ـ بما لو أدى بقاؤه إلى خرابه لخلف أربابه ـ إلى المشهور ، ولم
يجزم بشيء. وقد لزمه ما سجل به على غيره من اختلاف الواحد منهم في فتواه في هذه
المسألة.
وقال الصدوق ـ بعد ذكر الخبر المذكور ـ : هذا وقف كان
عليهم دون من بعدهم ، ولو كان عليهم وعلى أولادهم ما تناسلوا ومن بعدهم على فقراء
المسلمين الى ان يرث الله الأرض ومن عليها ، لم يجز بيعه أبدا.
أقول : والمعتمد عندي في معنى هذه الرواية ما وقفت عليه
في كلام شيخنا المجلسي في حواشيه على بعض كتب الاخبار ، حيث قال : والذي يخطر
بالبال انه يمكن حمل هذا الخبر على ما إذا لم يقبضهم الضيعة الموقوفة عليهم ولم
يدفع إليهم. وحاصل
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 304 ـ 305 حديث : 5 و 6.
السؤال ان الواقف يعلم انه إذا دفعها
إليهم يحصل منهم الاختلاف ويشتد ، لحصول الاختلاف قبل الدفع بينهم في تلك الضيعة ،
أو في أمر آخر. أيدعها موقوفة ويدفعها إليهم أو يرجع عن الوقف ، لعدم لزومه بعد ،
ويدفع إليهم ثمنها. أيهما أفضل؟ فكتب عليهالسلام : البيع أفضل
لمكان الاختلاف المؤدي إلى تلف النفوس والأموال. فظهر ان هذا الخبر ليس بصريح في
جواز بيع الوقف ، كما فهمه القوم ، واضطروا الى العمل به مع مخالفته لأصولهم.
والقرينة : ان أول الخبر محمول عليه كما عرفت ، وان لم ندع أظهرية هذا الاحتمال أو
مساواته للآخر ، فليس ببعيد ، بحيث تأبى عنه الفطرة السليمة في مقام التأويل.
والله الهادي إلى سواء السبيل. انتهى كلامه ، علت في الخلد أقدامه.
وما يشعر به آخر كلامه ، ان كان على سبيل التنزل
والمجاراة مع القوم فجيد ، والا فإنه لا معنى للخبر غير ما ذكره ، فإنه هو الذي
ينطبق عليه سياقه. ويؤيده ـ زيادة على ما ذكره ـ ان البيع في الخبر انما وقع من
الواقف ، وهو ظاهر في بقاء الوقف في يده ، والمدعى في كلام الأصحاب : ان البيع من
الموقوف عليهم ، لحصول الاختلاف في الوقف ، والخبر لا صراحة فيه على حصول الاختلاف
في الوقف. ويعضده ـ ايضا ـ ان هؤلاء الموقوف عليهم من أهل هذه الطبقة لا اختصاص
لهم بالوقف ، بل نسبتهم إليه كنسبة سائر الطبقات المتأخرة ، فهو من قبيل المال المشترك
الذي لا يجوز لأحد الشركاء بيعه كلا ، وانما يبيع حصته المختصة به ، والموقوف عليه
هنا ليس له حصة في العين وانما له الانتفاع بالنماء مدة حياته ، ثم ينتقل الى غيره
، لان الوقف ـ كما عرفوه ـ عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
ويؤكده قوله عليهالسلام في صحيحة
الصفار الاتية إنشاء الله تعالى «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». وكذا جملة من
الاخبار الاتية في المقام إنشاء الله تعالى. ويزيده تأكيدا ـ ايضا ـ الأدلة العامة
من آية أو رواية ، الدالة على المنع من التصرف فيما لا يملكه
الإنسان ، ويتأكد ذلك بما إذا اشترط
الواقف في أصل الوقف بان لا يباع ولا يوهب.
ولو قيل بأنه متى ادى الاختلاف الى ذهابه وانعدامه
فالبيع أولى ، فإنه مع كونه غير مسموع في مقابلة النصوص ، مدفوع بأنه يمكن استدراك
ذلك يأن يرجع الأمر إلى ولي الحسبة ، فيقيم له ناظرا لإصلاحه وصرفه في مصارفه.
وبالجملة فإن الظاهر عندي من الرواية المذكورة انها ليست في شيء مما نحن فيه ،
فجميع ما أطالوا به من الكلام في المقام نفخ في غير ضرام.
* * *
ومن الأقوال في المسألة ـ أيضا ـ زيادة على الأربعة
المتقدمة ـ خروج الموقوف عن الانتفاع به فيما وقف عليه ، كجذع منكسر وحصير خلق
ونحوهما. قيل : فلا يبعد للمتولي الخاص بيعه ، ومع عدمه فالحاكم أو سائر عدول
المؤمنين. وشراء ما ينتفع فيه ، لأنه إحسان وتحصيل غرض الواقف مهما أمكن.
* * *
ومنها ـ ايضا ـ جواز البيع إذا حصل للموقوف عليهم حاجة
شديدة وضرورة تامة لا تندفع بعلة الوقف ، وتندفع ببيعه. وعليه يدل ظاهر خبر جعفر
بن حسان الاتى إنشاء الله.
والواجب ـ أولا ـ نقل ما وصل إلينا من اخبار المسألة ثم
الكلام فيها بما رزق الله فهمه منها. فمنها : ما رواه الصدوق والشيخ في الصحيح عن
محمد بن الحسن الصفار : انه كتب بعض أصحابنا الى ابى محمد الحسن عليهالسلام في الوقف وما
روى فيه عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ فوقع : «الوقوف
تكون على حسب ما يوقفها أهلها» (1). ورواه الكليني عن محمد بن يحيى.
ومنها : ما رواه في الكافي في القوى عن على بن راشد ،
قال : سألت أبا الحسن
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 295 حديث : 1.
عليهالسلام قلت : جعلت
فداك اشتريت أرضا إلى جنب ضيعتي بألفي درهم ، فلما وفيت المال خبرت ان الأرض وقف.
فقال : لا يجوز شراؤ الوقف ولا تدخل الغلة في ملكك ، وادفعها الى من أوقفت عليه.
قلت لا اعرف لها ربا. فقال : تصدق بغلتها (1).
وما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن أيوب بن عطية
الحذاء ، قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : قسم
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الفيء فأصاب
عليا ارض فاحتفر فيها عينا فخرج ماء ينبع في السماء كهيأة عنق البعير ، فسماها «عين
ينبع» فجاء البشير يبشره. فقال عليهالسلام : بشر الوارث
، هي صدقة بتا بتلا. في حجيج بيت الله وعابر سبيل الله ، لاتباع ولا توهب ولا تورث
، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه
صرفا ولا عدلا (2).
وما رواه الصدوق في الفقيه عن ربعي بن عبد الله ، عن ابى
عبد الله عليهالسلام قال : تصدق
أمير المؤمنين عليهالسلام بدار له في
المدينة في بني زريق ، فكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تصدق به على بن أبي
طالب وهو حي سوى ، تصدق بداره التي في بني زريق ، لاتباع ولا توهب حتى يرثها الذي
يرث السموات والأرض ، واسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن ، فإذا انقرضوا
فهي لذوي الحاجة من المسلمين (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عجلان ابى صالح ، قال :
املى على أبو عبد الله عليهالسلام : بسم الله
الرحمن الرحيم ، هذا ما تصدق به فلان بن فلان وهو حي سوى ، بداره التي في بنى فلان
بحدودها ، صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث ، حتى يرثها وارث السموات والأرض ، وانه
قد اسكن صدقته هذه فلانا وعقبه ، فإذا انقرضوا فهي
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 271 حديث : 1 باب : 17.
(2) الوسائل ج 13 ص 303 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 14 ص 304 حديث : 4.
على ذوي الحاجة من المسلمين (1).
أقول : وهذه الاخبار كلها ـ ونحوها غيرها ـ ظاهرة
الدلالة واضحة المقالة في تحريم بيع الوقف.
وأجاب عنها شيخنا الشهيد بأنها عامة ، والرواية الأولى
خاصة ، فيبني العام على الخاص.
وفيه ما عرفت : ان تلك الروايات لا دلالة لها على ما
ادعوه منها ـ كما أوضحناه ـ
ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة. في الصحيح ، عن جعفر بن
حنان ، وهو غير موثق (2) ـ قال : سألت
الصادق عليهالسلام عن رجل أوقف
غلة له على قرابته من أبيه وقرابته من امه ، واوصى لرجل ولعقبه من تلك الغلة ليس
بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم كل سنة ، ويقسم الباقي على قرابته من أبيه
وقرابته من امه. فقال : جائز للذي اوصى له بذلك. قلت أرأيت ان لم تخرج من غلة
الأرض التي أوقفها إلا خمسمائة درهم. فقال : أليس في وصيته ان يعطى الذي اوصى له
من الغلة ثلاثمأة درهم ، ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من امه؟ قلت :
نعم. قال : ليس لقرابته ان يأخذوا من الغلة شيئا حتى يوفوا الموصى له ثلاثمأة درهم
، ثم لهم ما يبقى بعد ذلك ـ الى ان قال ـ قلت : فللورثة من قرابة الميت ان يبيعوا
الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة؟ قال. نعم إذا كانوا رضوا كلهم ،
وكان البيع خيرا لهم باعوا (3).
أقول : وبهذه الرواية استدل من قال بجواز بيع الوقف مع
الحاجة والضرورة إذا لم تف الغلة بذلك.
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 303 حديث : 3.
(2) اى لم يوثقوه صريحا وان كانت تظهر وثاقته من بعض القرائن
كما لا يخفى على من راجع ترجمة الرجل.
(3) الوسائل ج 13 ص 306 حديث : 8.
وظاهر شيخنا الشهيد في الكتاب المذكور : القول بها ،
فإنه بعد ان طعن فيها أولا ، قال في آخر البحث : والأجود العمل بما تضمنه الحديثان
السابقان. وأشار بهما إلى صحيحة على بن مهزيار والى هذه الرواية. وقد عرفت الجواب
عن الصحيحة المذكورة. واما هذه الرواية فهي غير ظاهرة في كون الوقف فيها مؤبدا ،
فحملها على غير المؤبد ـ كما هو ظاهرها ـ طريق الجمع بينها وبين ما ذكرنا من
الاخبار الصحيحة الصريحة في تحريم بيع الوقف المؤبد.
وأكثر الأصحاب ـ ممن قال بالقول المشهور ـ ردوا هذه
الرواية بضعف السند.
ثم ان جملة ممن صرح بجواز البيع ـ فيما دلت عليه صحيحة
على بن مهزيار ـ أوجب ان يشترى بالقيمة ما يكون عوضه وقفا.
قال في الروضة : وحيث يجوز بيعه يشترى بثمنه ما يكون
وقفا على ذلك الوجه ان أمكن ، مراعيا للأقرب الى صفته فالأقرب ، والمتولي لذلك
الناظر ان كان والا الموقوف عليهم إذا انحصروا ، والا الناظر العام. انتهى.
وأنت خبير بأنه مع قطع النظر عن الرواية التي استندوا
إليها في المقام ـ لما عرفت من النقض والإبرام والرجوع الى أقوالهم المتقدمة وان
كانت مختلفة مضطربة ـ فإنه لا يطرد هذا الحكم كليا على تقدير القول بالجواز ،
وانما يتم على البعض ، ولعله الأقل من تلك الأقوال ، وذلك فان من المجوزين من جعل
السبب المجوز في جواز البيع هو شدة احتياج الموقوف عليهم لعدم وفاء الغلة بذلك ،
ومقتضى ذلك انما هو أكل ثمنه والتصرف فيه بالملك لا بالشراء ، وهو ظاهر. ومنهم من
جعل السبب المجوز خوف خرابه أو خوف الخلف بين أربابه. وعلى هذا ايضا لا معنى
للشراء بثمنه ما يجعل وقفا ، لجريان العلتين المذكورتين فيه ، لانه كما يخاف على
الأول من أحد الأمرين ، كذلك يخاف على الثاني بعد البيع والشراء ، إذ العلة واحدة.
نعم يمكن ذلك بناء على من يجعل علة الجواز خرابه بالفعل
وعدم الانتفاع به بالكلية ، مع ما عرفت من انه لا دليل عليه. وبالجملة فإني لا
اعرف لهم دليلا على الحكم المذكور ، مع ما عرفت في الانطباق على أقوالهم من
القصور.
المسألة الخامسة
لا خلاف بين الأصحاب بل وغيرهم ـ تفريعا على ما تقدم في
سابق هذه المسألة ـ في عدم جواز بيع أم الولد ، مع حياة ولدها ودفع قيمتها أو
القدرة على دفعها.
والمراد بها امة حملت في ملك سيدها منه. ويتحقق
الاستيلاد بعلوقها به في ملكه ، وان لم تلجه الروح. والتقييد بحياة ولدها ـ كما
ذكرنا ووقع في كثير من عبارات الأصحاب ـ مبنى على الغالب أو التجوز ، لانه قبل
ولوج الروح لا يوصف بالحياة.
والحق بالبيع هنا سائر ما يخرجها عن الملك أيضا كالهبة
والصلح وغيرهما ، للاشتراك في العلة ، ولانه لو جوز غيره لانتفى فائدة منعه
وتحريمه وهي بقاؤها على الملك لتعتق على ولدها.
وقد ذكر الأصحاب جملة من المواضع التي يجوز بيعها فيها :
منها : ما إذا مات ولدها ، فإنها تكون كغيرها من الإماء.
وهذا مما لا خلاف فيه عندنا.
ويدل عليه جملة من الاخبار الاتية في المقام إنشاء الله
تعالى.
ومنها : ما إذا كان ثمنها دينا على مولاها. مع إعساره.
والمراد بإعساره : ان لا يكون له مال زائدا على المستثنيات في وفاء الدين.
وهل يشترط موت المالك؟ قال في الشرائع : فيه تردد. وقال
في المسالك :
الأقوى عدم اشتراط موته ، لإطلاق النص
، ثم قال : وهذان الفردان المستثنيان مورد النص وقد الحق بهما بعض الأصحاب مواضع
أخر ، انتهى.
والواجب ـ أولا ـ نقل الأخبار المتعلقة بهذا المقام ، ثم
الكلام فيها بما دلت عليه من الأحكام.
فمنها : ما في الكافي عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل اشترى
جارية يطأها فولدت له ولدا فمات ولدها فقال : ان شاؤا باعوها في الدين الذي يكون
على مولاها من ثمنها ، وان كان لها ولد قومت على ولدها من نصيبه (1).
وعن عمر بن يزيد عن ابى الحسن الأول عليهالسلام قال : سألته
عن أم الولد تباع في الدين؟ قال : نعم في ثمن رقبتها (2).
وعن عمر بن يزيد في الصحيح ، قال : قلت للصادق عليهالسلام كما في الكافي
، أو قلت لأبي إبراهيم عليهالسلام كما في الفقيه
: أسألك؟ فقال : سل. قلت : لم باع أمير المؤمنين عليهالسلام أمهات الأولاد؟
قال في فكاك رقابهن. قلت : وكيف ذلك؟ قال : أيما رجل اشترى جارية فأولدها ثم لم
يؤد ثمنها ولم يدع من المال ما يؤدى عنه ، أخذ ولدها منها فبيعت وادى ثمنها. قلت :
فبيعهن فيما سوى ذلك من دين؟ قال : لا (3).
وفي الكافي عن يونس في أم ولد ليس لها ولد ، مات ولدها
ومات عنها صاحبها ولم يعتقها ، هل يحل لأحد تزويجها؟ قال : لا هي أمة لا يحل لأحد
تزوجها الا بعتق من الورثة. فإن كان لها ولد وليس على الميت دين فهي للولد ، وإذا
ملكها الولد فقد عتقت بملك ولدها لها ، وان كانت بين شركاء فقد عتقت من نصيب ولدها
، وتستسعى في بقية ثمنها (4).
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 52 حديث : 4.
(2) الوسائل ج 13 ص 51 حديث : 2.
(3) المصدر حديث : 1.
(4) المصدر ج 16 ص 126 حديث : 3.
وفي التهذيب عن ابى بصير ، قال : سألت الصادق عليهالسلام عن رجل اشترى
جارية يطأها فولدت له ولدا فمات. فقال : ان شاء ان يبيعها باعها وان مات مولاها
وعليه دين قومت على ابنها ، فان كان ابنها صغيرا انتظر به حتى يكبر ثم يجبر على
قيمتها ، وان مات ابنها قبل امه بيعت في الميراث ان شاء الله الورثة (1).
وعن ابى بصير عن الصادق عليهالسلام في رجل اشترى
جارية يطأها فولدت له ولدا فمات ، قال ان شاء الورثة ان يبيعوها باعوها في الدين
الذي يكون على مولاها من ثمنها ، وان كان لها ولد قومت على ولدها من نصيبه ، وان
كان ولدها صغيرا انتظر به حتى يكبر. الحديث السابق (2).
وعن ابى بصير عن الصادق عليهالسلام في رجل اشترى
جارية فولدت منه ولدا فمات ، قال ان شاء ان يبيعها ، باعها في الدين الذي يكون على
مولاها من ثمنها. الحديث. كما تقدم (3).
أقول : مما يدل على الفرد الأول ـ أعني جواز البيع مع
موت الولد ـ الرواية الاولى. وذكر الدين الذي على مولاها انما خرج مخرج التمثيل. ورواية
يونس ورواية أبي بصير الاولى من التهذيب لقوله عليهالسلام في صدرها «ان
شاء ان يبيعها باعها» وفي عجزها «فان مات ابنها قبل امه بيعت في ميراث الورثة ان
شاء الورثة». ومثلها الرواية التي بعد هذه الرواية.
وبالجملة فإن الحكم المذكور متفق عليه رواية وفتوى.
اما الفرد الثاني ـ أعني بيعها مع وجود الولد في أداء
قيمتها ـ فيدل عليه رواية عمر بن يزيد الاولى ، وظاهرها جواز البيع في حال حياة
السيد أو بعد موته. ولعل قوله
__________________
(1) المصدر ج 13 ص 52 حديث : 4 و 5.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر نفسه.
في المسالك فيما قدمنا من كلامه «لإطلاق
النص» إشارة الى هذه الرواية.
وبه يظهر ان اعتراض المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ
على شيخنا المذكور في هذا المقام ، انما نشأ عن غفلة عن مراجعة الخبر المذكور ،
حيث قال : والظاهر عدم الخلاف إذا كان بعد موت المولى ، ويدل عليه رواية أبي بصير
عن ابى عبد الله عليهالسلام ، ثم نقل
الرواية الثانية من روايات ابى بصير الثلاث الأخيرة المنقولة من التهذيب.
ثم قال : وهذه غير صحيحة ، لوجود المجهول مثل القصري
وخداش ، ولوجود محمد بن عيسى المشترك. على ان في متنها ايضا تأملا ، وما رأيت
غيرها. ففي استثناء غير الصورتين ، بل في استثناء بيعها مع حياة المولى أيضا تأمل.
وما عرفت وجه تعليل هذا الفرد بقوله ـ في شرح الشرائع ـ «لإطلاق النص» وما رأيت
نصا آخر. وفي دلالة هذه على البيع بعد موت المولى فقط أيضا تأمل ظاهر ، فيمكن
الاقتصار على موضع الوفاق وهو البيع في الدين مع موت المولى وموت الولد. فلا
يستثني غيرهما من موضع الإجماع. ولكن لا يبعد ان يقال : ان الاستصحاب وأدلة العقل
والنقل دل على جواز التصرف في الاملاك مطلقا ، فيجوز مطلق التصرف في أم الولد ، بيعها
مطلقا وغيره الا ما خرج بدليل ، وما ثبت بالدليل وهو الإجماع هنا إلا في منع البيع
مع بقاء الولد وعدم إعسار المولى بثمنها ، فيجوز بمجرد موت الولد مطلقا ، لعدم
الإجماع ، وفي ثمن رقبتها كذلك لذلك ، فتأمل واحتط. انتهى.
أقول : ما ذهب اليه من تخصيص الجواز بموت المولى أحد
القولين في المسألة وهو منقول ايضا عن ابن حمزة فإنه شرط في بيعها في ثمن رقبتها
بعد موت مولاها. قال السيد السند في شرح الإرشاد ، ورده جدي بإطلاق النص ، فإنه
متناول لموت المولى وعدمه ، ويشكل بان ظاهر قوله عليهالسلام «ولم يدع من
المال ما يؤدى عنه». وقوع البيع بعد وفاة المولى ، فيشكل الاستدلال بها على الجواز
مطلقا. انتهى.
أقول : وكلام السيد السند هنا ـ ايضا ـ مبنى على عدم
الاطلاع على رواية عمر ابن يزيد المتقدمة ، وانما اطلع على صحيحته ، ولا ريب انها
ظاهرة فيما ذكره ، لكن الرواية المشار إليها ظاهرة فيما ذكرنا من الإطلاق كما لا
يخفى.
واما ما أطال به المحقق الأردبيلي ـ هنا مما قدمنا نقله
عنه ـ فلا يخفى ما فيه. ولكن عذره ظاهر ، حيث انه لم يشرح بريد نظره في روايات
المسألة ، ولم يقف منها الا على هذه الرواية المجملة ، والا فقد عرفت ان رواية أبي
بصير ، وهي الاولى من روايات التهذيب ، ظاهرة في بيعها بعد موت الولد وحياة الأب.
وان البائع هو الأب لأنه سأل عن رجل اشترى جارية فولدت منه ولدا فمات ـ يعنى الولد
ـ فقال : ان شاء ان يبيعها باعها. يعنى ان شاء ذلك الرجل الذي اشترى الجارية بعد
موت الولد ان يبيع الجارية باعها. ولا يجوز ان يكون الضمير في مات راجعا الى الرجل
، لانه لا معنى لقوله ان شاء ان يبيعها.
بقي قوله ـ بعد هذا الكلام ـ «وان مات مولاها وعليه دين»
فإنه يجب ارتكاب التأويل فيه والتقدير ، بان يكون المعنى «وان مات مولاها مع بقاء
الولد وعدم موته. الى آخر ما ذكر في الخبر».
ومثل رواية أبي بصير الاولى وروايته الثالثة ـ أيضا ـ من
روايات الشيخ ، بإرجاع الضمير في مات الى الولد كما ذكرنا في الاولى. ووجه الاشكال
عنده في الرواية التي نقلها : انه جعل الضمير في «فمات» راجعا الى الرجل الذي
اشترى الجارية. والظاهر انما هو رجوعه الى الولد ، لقوله بعد ذلك «وان كان لها ولد».
وهو قد اعتضد فيما ذهب اليه بقوله عليهالسلام «باعوها في
الدين الذي يكون على مولاها من ثمنها» وفيه : انه لا دلالة على الحصر في هذا
الفرد. فيجوز ان يكون انما خرج مخرج التمثيل ، لأنه أظهر الافراد. وكيف كان فإنه ينافر
هذا المعنى ما ذكرنا من قوله ـ بعد ذلك ـ «وان كان لها ولد».
وبالجملة فإن روايات ابى بصير الثلاثة الأخيرة. لا تخلو
من تشويش في معانيها واضطراب في ربط ألفاظها.
ثم ان ما يدل ـ ايضا ـ على بيعها في قيمتها مع وجود
الولد : صحيحة عمر بن يزيد ، وظاهرها : البيع بعد موت المالك ، كما جنح اليه. وبما
ذكرنا يظهر لك صحة استثناء هذين الموضعين من تحريم بيع أم الولد.
* * *
واما ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن زرارة عن
ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ قال سألته
عن أم الولد. قال : امة ، تباع وتوهب وتورث ، وحدها حد الأمة (1).
وفي الصحيح عن وهب ابن عبد ربه. عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ في رجل زوج
أم ولد له عبدا له ، ثم مات السيد ، قال : لا خيار لها على العبد ، هي مملوكة
للورثة (2).
وهذان الخبران لمخالفتهما لما عليه ظاهر اتفاق الأصحاب ،
من أن حكم أم الولد غير حكم من لم يكن لها ولد ، وانها تنعتق بموت السيد على ابنها
من حصته من الميراث ، تأولوهما بالحمل على من مات ولدها ، وإن التسمية بذلك وقع
تجوزا باعتبار ما كان.
ويدل على ذلك ما رواه في الفقيه عن زرارة في الصحيح عن
ابى جعفر عليهالسلام قال : أم
الولد حدها حد الأمة إذا لم يكن لها ولد (3).
واما خبر وهب بن عبد ربه ، فهو وان رواه الصدوق بما
قدمنا نقله عنه ، الا ان
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 52 حديث : 3.
(2) الفقيه ج 3 ص 82 حديث : 295.
(3) الفقيه ج 4 ص 32 حديث : 92 ـ 3.
الشيخ رواه بما يندفع به عنه الاشكال
ويزول به الاختلال ، حيث انه رواه هكذا :
عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل زوج
عبدا له من أم ولد له ولا ولد لها من السيد ثم مات السيد. الى آخر ما تقدم (1).
وظاهر الصدوق في الفقيه حيث اقتصر على نقل الخبرين
الأولين القول بمضمونهما بناء على ما ذكره في صدر كتابه.
وظاهره فيه ـ ايضا ـ ان أم الولد لا تنعتق على ولدها
بمجرد ملكه لها ، بل تحتاج الى ان يعتقها ، كما يدل عليه بعض الاخبار ، وهو خلاف
ما عليه كافة الأصحاب في هذا الباب ، وسيجيء تحقيق المسألة في محلها إنشاء الله
تعالى ، وفق الله لبلوغه.
* * *
أقول : ومن المواضع التي زادها جملة من الأصحاب وجوزوا
بيع أم الولد فيها : ما ذكره شيخنا في اللمعة وهي ثمانية ، وزاد عليه غيره ما تبلغ
الى عشرين موضعا ، ونحن نذكرها واحدا واحدا لتحصيل الإحاطة بالاطلاع عليها :
(أحدها) : في ثمن رقبتها مع إعسار مولاها ، سواء كان حيا
أو ميتا. قاله الشارح. اما مع الموت فموضع وفاق ، واما مع الحياة فعلى أصح القولين
، لإطلاق النص.
و (ثانيها) : إذا جنت على غير مولاها. قال الشارح :
فيدفع ثمنها في الجناية أو رقبتها ان رضى المجني عليه ، ولو كانت الجناية على
مولاها لم يجز ، لانه لم يثبت له مال على ماله.
و (ثالثها) : إذا عجز مولاها عن نفقتها. قال الشارح :
ولو أمكن تأديها ببيع بعضها وجب الاقتصار عليه ، وقوفا فيما خالف الأصل على موضع
الضرورة.
و (رابعها) : إذا مات قريبها ولا وارث له سواها. قال
الشارح : لتنعتق وترثه ،
__________________
(1) التهذيب ج 8 ص 206 حديث : 728 ـ 34.
وهو تعجيل عتق اولى بالحكم من بقائها
لتعتق بعد وفاة مولاها.
و (خامسها) : إذا كان علوقها بعد الارتهان. قال الشارح :
فيقدم حق المرتهن لسبقه. وقيل : يقدم حق الاستيلاد لبناء العتق على التغليب.
ولعموم النهى عن بيعها.
و (سادسها) : إذا كان علوقها بعد الإفلاس. قال الشارح اى
بعد الحجر على المفلس ، فان مجرد ظهور الإفلاس على المفلس لا يوجب تعلق حق الديان
بالمال. والخلاف هنا كالرهن.
و (سابعها) : إذا مات مولاها ولم يخلف سواها وعليه دين
مستغرق ، وان لم يكن ثمنا لها. قال الشارح : لأنها انما تنعتق بموت مولاها من نصيب
ولدها ، ولا نصيب له مع استغراق الدين ، فلا تعتق فتصرف في الدين.
و (ثامنها) : بيعها على من تنعتق عليه ، فإنه في قوة
العتق. قال الشارح : فيكون تعجيل خير يستفاد من مفهوم الموافقة ، حيث ان المنع من
البيع لأجل العتق.
و (تاسعها) : بيعها بشرط العتق.
قال المصنف : وفي جواز بيعها بشرط العتق نظر. أقربه
الجواز. قال الشارح : لما ذكر ، فان لم يف المشترى بالشرط فسخ البيع وجوبا ، فان
لم يفسخه المولى احتمل انفساخه بنفسه ، وفسخ الحاكم ان اتفق.
وهذا موضع تاسع.
وما عدا الموضع الأول من هذه المواضع غير منصوص بخصوصه ،
وللنظر فيه مجال ، وقد حكاها في الدروس بلفظ قيل ، وبعضها جعله احتمالا من غير
ترجيح لشيء.
ثم قال الشارح : وزاد بعضهم مواضع أخر :
و (عاشرها) : في كفن سيدها إذا لم يخلف سواها ولم يمكن
بيع بعضها فيه
والا اقتصر عليه.
و (حادي عشرها) : إذا أسلمت قبل مولاها إذ لا نصيب
لولدها.
و (ثالث عشرها) : إذا جنت على مولاها جناية تستغرق
قيمتها.
و (رابع عشرها) : إذا قتلته خطأ.
و (خامس عشرها) : إذا حملت في زمن خيار البائع أو
المشترى ثم فسخ البائع بخياره.
و (سادس عشرها) : إذا خرج مولاها عن الذمة وملكت أمواله
التي هي منها.
و (سابع عشرها) : إذا لحقت هي بدار الحرب ثم استرقت.
و (ثامن عشرها) : إذا كانت لمكاتب مشروط ثم فسخ كتابته.
و (تاسع عشرها) : إذا شرط أداء الضمان منها قبل
الاستيلاد ثم أولدها ، فإن حق المضمون له أسبق من حق الاستيلاد كالرهن والفلس
السابقين.
و (العشرون) : إذا أسلم أبوها أو جدها وهي مجنونة أو
صغيرة ثم استولدها الكافر بعد البلوغ قبل ان تخرج من ملكه. وهذه في حكم إسلامها
عنده.
وفي كثير من هذه المواضع نظر. انتهى.
أقول : قد تقدم في صحيحة عمر بن يزيد : انها لاتباع فيما
سوى تلك الصورة المتفق عليها.
وأنت خبير بان الظاهر ان مبنى من ذكر هذه الصور الزائدة
على محل النص هو ان أم الولد حكمها حكم غيرها من أموال السيد إلا في تلك الصورة
الخاصة.
ولا يخفى ما فيه ، فإنه قياس مع الفارق ، لان هذه قد
تشبثت بالحرية بسبب الولد ، ومن الجائز ان الاستيلاد قد صار مانعا من التصرف فيها
بهذه الوجوه التي ذكروها ، ومقدما عليها ، وحينئذ فتكون موروثة بعد موت السيد وان
كان عليه دين مستغرق أو نحو ذلك من الأمور التي ادعوا أنها مقدمة على الاستيلاد ،
وابنها من جملة الورثة فتعتق
عليه بالحصة التي له.
وهو جيد من حيث الاعتبار المذكور ، وان كانت الفتوى به
محل توقف ، لعدم النص الصريح بذلك ، ثم يسرى العتق وتستسعى ، أو يفكها الولد ، كما
تضمنته الاخبار ، وتخرج الصحيحة المذكورة شاهدا على ذلك ، وكذا مفهوم صحيحة زرارة
، وقوله فيها «أم الولد حدها حد الأمة إذا لم يكن لها ولد». فان مفهومها : انه إذا
كان لها ولد فإنها ليست على حد الأمة التي يباح التصرف فيها بتلك الأنواع المذكورة
ونحوها.
واما حمل الحد في الرواية المذكورة على الحد الذي يوجبه
الجناية ، بمعنى انها إذا فعلت ما يوجب الحد فان حدها حد الأمة التي ليست أم ولد
إذا لم يكن لها ولد ، فالظاهر بعده ، وان كان الصدوق قد ذكر الخبر المذكور ، في باب
الحدود حملا له على ذلك ، بناء على مذهبه الذي قدمنا الإشارة إليه ، من ان أم
الولد عنده كغيرها ممن لا ولد لها ، الا ان يعتقها ابنها.
وهو مذهب غريب مخالف لظاهر اتفاق الأصحاب من انها تنعتق
على ابنها من نصيبه كلا أو بعضها بمجرد الملك من غير توقف على عتق. ويدل عليه جملة
من الاخبار ، وان كان ما ذكره الصدوق هنا ايضا قد دلت عليه صحيحة محمد بن قيس ،
ولتحقيق المسألة المذكورة محل آخر يأتي إنشاء الله تعالى.
* * *
بقي هنا شيء آخر يجب التنبيه عليه ، وهو انه لو مات ولد
الأمة ولكن له ولد (1) فهل يصدق
عليها بذلك أنها أم ولد أم لا؟ فقل بالأول لأنه ولد ، وقيل بالثاني لعموم ما دل
على ان أم ولد إذا مات ابنها ترجع الى محض الرق ، فإنه يتناول موضع النزاع ، وقيل
: ان كان ولد ولدها وارثا ، بان لا يكون للمولى ولد لصلبه كان حكمه حكم الولد ،
لأنها تنعتق عليه ، وان لم يكن وارثا لم يكن حكمه حكم الولد ، لانتفاء الملك
المقتضى للعتق.
__________________
(1) اى لولد الأمة ولد.
واختار هذا التفصيل السيد السند السيد محمد ـ قدسسره ـ في شرح
النافع.
المسألة السادسة
من فروع ما تقدم من اشتراط كون المبيع طلقا : عدم جواز
بيع الرهن أيضا إلا مع الاذن ، وبيع العبد الجاني على التفصيل الاتى إنشاء الله
تعالى.
اما الأول ، فظاهر بالنسبة إلى الراهن ، لانه بالرهن صار
ممنوعا من بيعه ، بل مطلق التصرف فيه الا بإذن المرتهن. واما المرتهن فأظهر لأنه
غير مالك الا ان يكون وكيلا من قبل الراهن في البيع ، فيتوقف بيعه على الاذن من
المالك ، وان امتنع استأذن الحاكم الشرعي ، وان تعذر جاز له البيع بنفسه على
الأظهر. وكيف كان فإنه لا يجوز له بيع الرهن مطلقا ، بل على بعض الوجوه. وتحقيق
المقام كما هو حقه يأتي إنشاء الله تعالى في بابه.
واما الثاني ، فالمشهور بين الأصحاب انه لا تمنع جناية
السيد عن بيعه ، عمدا كانت الجناية أو خطاء ، ونقل عن الشيخ في المبسوط الخلاف هنا
في جناية العبد فأبطل البيع ، لتخيير المجني عليه بين استرقاقه وقتله ، ورد بأنه
غير مانع من صحة البيع ، لعدم اقتضائه خروجه عن ملك مالكه. نعم لو جنى العبد خطاء
لم تمنع جنايته عن بيعه لانه لا يخرج بالجناية عن ملك مولاه ، والمولى مخير في فكه
، فان شاء فكه بأقل الأمرين من أرش الجناية ، إذ هو اللازم بمقتضى الجناية ،
وقيمته إذ الجاني لا يجني أكثر من نفسه ، وان شاء دفعه الى المجني عليه أو وليه
ليستوفي من رقبته ذلك ، فلو باع بعد الجناية كان التزاما بالفداء على أحد القولين
، ثم ان فداه والا جاز للمجنى عليه استرقاقه ، فينفسخ البيع وان استوعب الجناية
قيمته ، لان حقه أسبق ، وان لم يستوعب
رجع بقدر أرشه على المشترى فلم ينفسخ
البيع في نفسه.
نعم لو كان المشترى جاهلا بعيبه تخير ايضا بين الفسخ
والرجوع بالثمن وبين الإمضاء. وله الرجوع حينئذ بالثمن فيما لو كانت الجناية
مستوعبة لرقبته وأخذ بها ، وان كانت غير مستوعبة لرقبته رجع بقدر أرشه ، ولو كان
المشترى عالما بعيبه راضيا بتعلق الحق به لم يرجع بشيء ، لانه اشترى معيبا عالما
بعيبه.
ثم ان فداه السيد أو المشتري فالبيع بحاله ، والا بطل مع
الاستيعاب وعدم فداء المشترى له ، كقضاء دين غيره يعتبر في رجوعه عليه اذنه فيه.
هذا كله في الجناية خطاء ، ولو جنى عمدا فالمشهور ان
البيع موقوف على رضي المجني عليه أو وليه ، لان التخيير في جناية العبد إليهما.
وان لم يخرج عن ملك سيده ، وبالنظر الى الثاني يقع البيع ، وبالنظر الى الأول يثبت
التخيير. وذهب الشيخ هنا الى بطلان البيع كما تقدم ، وقد تقدم بيان ما فيه ، وانه
لا يقصر عن بيع الفضولي.
ثم على القول المشهور ، ان أجاز البيع ورضى بفدائه
بالمال وفكه المولى لزم البيع ، وان قتله أو استرقه بطل. كذا يستفاد من تصاريف
كلامهم الدائر في المقام على رؤوس أقلامهم.
وفي استفادة كثير من هذه التفاصيل من الاخبار إشكال.
وتحقيق المسألة ـ كما هو حقه ـ يأتي إنشاء الله تعالى في محله اللائق بها.
المسألة السابعة
من الشروط المعتبرة : معلومية الثمن والمثمن ، حذرا من
الغرر المنهي عنه وقطعا للنزاع. ولكن المعلومية لكل شيء بحسبه ، كما يأتي إنشاء
الله تعالى.
والكلام هنا يقع في مواضع :
الأول : قد صرحوا
بأنه يشترط العلم بالثمن قدرا ووصفا وجنسا ، قبل إيقاع عقد البيع ، فلا يصح البيع
بحكم أحد المتبايعين أو أجنبي إجماعا. ولا بالثمن المجهول القدر ، وان كان مشاهدا
، لبقاء الجهالة ، وثبوت الغرر المنفي معها ، خلافا للشيخ في الموزون. وللمرتضى في
مال السلم. ولابن الجنيد في المجهول مطلقا ، إذا كان المبيع صبرة ، مع اختلافهما
جنسا. ولا مجهول الصفة ، كمائة درهم ، وان كانت مشاهدة لا يعلم وصفها ، مع تعدد
النقد الموجود يومئذ. ومجهول الجنس ، وان علم قدره ، لتحقق الجهالة في الجميع.
أقول : ما ذكروه من عدم صحة البيع بحكم أحد المتبايعين ،
فهو وان ادعى عليه الإجماع في التذكرة ، الا انه قد روى الصدوق في الفقيه ، والشيخ
في التهذيب ، عن الحسن بن محبوب ، عن رفاعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام فقلت : ساومت
رجلا بجارية له فباعنيها بحكمي فقبضتها منه على ذلك ، ثم بعثت إليه بألف درهم ،
فقلت له : هذه الف درهم حكمي عليك ان تقبلها فأبى أن يقبضها منى ، وقد كنت مسستها
قبل ان ابعث اليه بالثمن فقال : ارى ان تقوم الجارية قيمة عادلة ، فإن كان قيمتها
أكثر مما بعثت اليه كان عليك ان ترد عليه ما نقص من القيمة ، وان كان ثمنها أقل
مما بعثت اليه فهو له. قلت : أرأيت ان أصبت بها عيبا بعد ما مستها ، قال : ليس لك
ان تردها اليه ، ولك ان تأخذ قيمة ما بين الصحة والعيب منه (1).
ورواه الكليني عن العدة عن سهل واحمد بن محمد عن الحسن
بن محبوب مثله. وطريق الصدوق في المشيخة الى الحسن بن محبوب صحيح كما في الخلاصة.
وطريق الكليني ظاهر الصحة ، وطريق الشيخ الى الحسن بن محبوب حسن بإبراهيم بن هاشم
الذي هو في حكم الصحيح عندهم ، بل هو من الصحيح على الاصطلاح الجديد ،
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 271 حديث : 1 باب : 18.
فالرواية من جهة السند لا يتطرق إليها
طعن.
وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في خلاف ما ذكروه ، وقد اضطرب في
التفصي عنها كلام جملة من المتأخرين.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد ذكر الرواية
وبيان صحة سندها ـ ما صورته : وهي تدل على جواز الجهل في الثمن ، وانه يقع البيع
صحيحا ، وينصرف إلى القيمة السوقية إذا بيع بحكم المشترى. ولكن نقل العلامة في
التذكرة الإجماع على اشتراط العلم مع عدم ظهور خلافه ، يمنع القول بها ، ولكن
تأويلها مشكل ، وكذا ردها ، فيمكن ان يكون حكما في قضية ، ولا تتعدى. انتهى.
وقال الفاضل السيد حسين المشهور بخليفة سلطان ، في
حواشيه على كتاب الفقيه على هذا الخبر ما صورته : لا يخفى ان البيع بحكم المشتري
أو غيره في الثمن باطل إجماعا ، كما نقله الفاضل في التذكرة وغيره ، لجهالة الثمن
وقت البيع ، فعلى هذا يكون بيع الجارية المذكورة باطلا ، وكان وطي المشترى محمولا
على الشبهة ، واما جواب الامام عليهالسلام للسائل فلا
يخلو من اشكال ، لأن الظاهر ان الحكم حينئذ رد الجارية مع عشر القيمة أو نصف العشر
، أو شراؤها مجددا بثمن يرضى به البائع مع أحد المذكورين ، سواء كان بقدر ثمن
المثل أم لا ، فيحتمل حمله على ما إذا لم يرض البائع بأقل من ثمن المثل ، ويكون
حاصل الجواب حينئذ : انه تقوم بثمن المثل ان أراد ، ويشترى به مجددا ، وان كان
المثل أكثر مما وقع ، ندبا أو استحبابا ، بناء على انه أعطاه سابقا. وهذا الحمل
وان كان بعيدا عن العبارة ، مشتملا على التكلف لكن لا بد منه لئلا يلزم طرح الحديث
الصحيح بالكلية. انتهى.
أقول : لا يخفى ان مدار كلامهم في رد الخبر المذكور على
الإجماع الذي ادعى في التذكرة في هذه المسألة ، فإنه لا معارض له سواه. وأنت خبير
بان من لا يعتمد على مثل هذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم ، والمتكرر دورانها
على رؤوس أقلامهم ،
تبقى الرواية المذكورة سالمة عنده من
المعارض ، فيتعين العمل بها ، خصوصا مع صحة السند واعتضاد ذلك برواية صاحب الفقيه
، المشعر بقوله بمضمونها والعمل بها ، بناء على قاعدته المذكورة في أول الكتاب ،
كما تكرر في كلامهم من عد مضامين اخباره مذاهب له ، بناء على القاعدة المذكورة.
وليس هنا بعد الإجماع المذكور الا العمومات التي أشاروا
إليها ، من حصول الغرر ، وتطرق النزاع ونحو ذلك. وهذه العمومات ـ مع ثبوت سندها
وصحته ـ يمكن تخصيصها بالخبر المذكور ، بل من الجائز ـ أيضا ـ تخصيص الإجماع
المذكور ، مع تسليم ثبوته ، بهذا الخبر الصحيح ، كما يخصص عمومات الأدلة من الآيات
والروايات ، وهو ليس بأقوى منها ، ان لم يكن أضعف ، بناء على تسليم صحته.
وحينئذ فيقال باستثناء صورة حكم المشترى ، وقوفا على
ظاهر الخبر. وما المانع من ذلك؟ وقد صاروا إلى أمثاله في مواضع لا تحصى ، على انه
سيأتيك ما يؤيد ما ذكرناه ويشيد ما اخترناه.
واما ما ذكروه من عدم الصحة مع كون المبيع مجهول القدر ،
وان كان مشاهدا فقد تقدم ذكر خلاف الجماعة المتقدم ذكرهم في ذلك.
قال في الدروس : ولا تكفي المشاهدة في الوزن ، خلافا
للمبسوط ، وان كان مال السلم ، خلافا للمرتضى ، ولا القول بسعر ما بيعت مع جهالة
المشتري ، خلافا لابن الجنيد ، حيث جوزه ، وجعل للمشتري الخيار ، وجوز ابن الجنيد
بيع الصبرة مع المشاهدة جزافا بثمن جزاف مع تغاير الجنس. ومال في المبسوط الى بيع
الجزاف وفي صحيحة الحلبي كراهية بيع الجزاف. انتهى.
أقول : صحيحة الحلبي المذكورة هي : ما رواه المشايخ
الثلاثة في الصحيح ، عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام في رجل اشترى
من رجل طعاما ، عدلا بكيل معلوم ، ثم ان صاحبه قال للمشتري : ابتع هذا العدل الأخر
بغير كيل ، فان فيه مثل ما في الأخر
الذي ابتعته. قال : لا يصلح الا ان
يكيل وقال : وما كان من طعام سميت فيه كيلا فإنه لا يصلح مجازفة ، هذا مما يكره من
بيع الطعام (1). وروى في
الفقيه في الصحيح عن الحلبي ، والشيخ في الصحيح أو الحسن عن الحلبي ، عن الصادق عليهالسلام قال : ما كان
من طعام. الحديث. كما تقدم.
قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ـ بعد قول المصنف «ولو
باع المكيل والموزون والعدد جزافا ، كالصرة بطل وان شوهد» ـ ما لفظه : اعتبارهما
فيهما هو المشهور بينهم ، ولكن ما رأيت له دليلا صالحا ، وأدل ما رأيته حسنة
الحلبي في الكافي ـ ثم ساق الرواية الاولى ـ وناقش في السند بما لا طائل في نقله ،
الى ان قال : وبقي في المتن شيء ، لأنها تدل بظاهرها على عدم الاعتبار بخبر
البائع بالكيل ، وهو خلاف ما هو المشهور بينهم وفي الدلالة على المطلب أيضا تأمل
للإجمال ، وللاختصاص بالكيل والطعام في قوله «ما كان من طعام سميت فيه كيلا»
ولقوله «هذا مما يكره من بيع الطعام» وكأنه لذلك قال البعض بجواز بيع المكيل
والموزون بدونها مع المشاهدة ، ويمكن القول به مع الكراهة ، ويؤيد الجواز الأصل ،
وعموم أدلة العقود ، ويدل عليه بعض الاخبار ، مثل ما ذكر في جواز بيع الطعام من
غير قبض. انتهى.
وظاهره الميل الى الجواز في الصورة المذكورة ، وفاقا
للجماعة المتقدمين. وفيه ـ كما ترى ـ تأييد ظاهر لما قدمنا ذكره من البيع بحكم
المشترى ، وان ذلك مستثنى من عدم جواز البيع مع جهل الثمن ، ان صح الدليل عليه
للخبر الصحيح الصريح ، وإذا جاز البيع في هذه الصورة مع اختلال الشرط الذي ذكروه ،
استنادا الى عدم الدليل على ما ادعوه من الشرط المذكور ، سوى هذه الرواية التي
طعنوا فيها بما عرفت في كلام المحقق المذكور ، ونحوه صاحب الكفاية ، فلم لا يجوز فيما
ذكرناه مع دلالة الصحيحة الصريحة على ذلك ، وما ذكره المحقق المذكور
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 254 حديث : 2 باب : 4.
من تأييد الجواز هنا بالأصل وعموم
أدلة العقود ، صالح للتأييد لما ذكرنا ايضا وبذلك يظهر لك ما في كلامه الذي قدمنا
ذكره في تلك المسألة واستشكاله فيها فإنه لا وجه له بعد ما عرفت من كلامه في هذه
المسألة ، والشرطان من باب واحد.
ومما يؤيد جواز بيع المكيل والموزون بغير وزن ولا كيل ـ كما
ذهب إليه أولئك المتقدم ذكرهم ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن ابى
عبد الله البصري ، قال : سألت الصادق عليهالسلام عن الرجل
يشترى بيعا فيه كيل أو وزن بغيره (1) ثم يأخذه على نحو ما فيه : فقال : لا
بأس به (2).
قال في الوافي ـ بعد نقل هذا الخبر ـ اى بغير ما يكال
ويوزن على نحو ما فيه ، اى بغير كيل ولا وزن. ويشبه ان يكون يعيره بالمثناة
التحتانية والعين المهملة من التعيير ، فصحف. انتهى.
ومما يؤيد ذلك أيضا الأخبار الدالة على جواز الاعتماد
على اخبار البائع بكيله أو وزنه ، والاخبار الدالة على وزن بعض الأحمال وأخذ
الباقي على نحو ذلك الموزون.
روى الكليني في الكافي عن عبد الملك بن عمرو ، قال : قلت
للصادق عليهالسلام اشترى مأة
رواية من زيت ، فاعترض رواية أو اثنتين وازنها ، ثم آخذ سائره على قدر ذلك. قال :
لا بأس (3). ورواه الصدوق
عن عبد الملك بن عمرو ، والشيخ عن ابى سعيد المكاري مثله
وروى الشيخ عن محمد بن حمران ، قال : قلت للصادق عليهالسلام : اشترينا
طعاما فزعم صاحبه انه كاله فصدقناه وأخذنا بكيله ، فقال : لا بأس. فقلت : فيجوز أن
أبيعه
__________________
(1) في نسخة «يعيره».
(2) الوسائل ج 12 ص 255 حديث : 4.
(3) الوسائل ج 12 ص 255 حديث : 1 باب : 5.
كما اشتريته منه بغير كيل؟ قال : اما
أنت فلا تبعه حتى تكيله (1).
وفي الفقيه عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، انه سأل أبا
عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن الرجل
يشترى الطعام ، أشتريه منه بكيله وأصدقه؟ فقال : لا بأس ، ولكن لاتبعه حتى تكيله (2).
وروى في الكافي والتهذيب عن سماعة في الموثق ، قال :
سألته عن شراء الطعام مما يكال أو يوزن ، هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال :
اما ان يأتي رجلا في طعام قد كيل أو وزن فيشترى منه مرابحة فلا بأس ان أنت اشتريته
ولم تكله ولم تزنه ، إذا كان المشتري الأول قد أخذه بكيل أو وزن ، فقلت له عند
البيع : إني أربحك كذا وكذا وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس به (3).
أقول : ومن هذه الاخبار ونحوها يعلم ان ما ذكروه من
الشرط المذكور ليس كليا ، بل يجب الوقوف فيه على موارد النصوص ، مما دل على الجواز
في بعض الموارد والعدم في آخر ، ومنه يعلم صحة ما قدمناه في الشرط الأول من الصحة
بحكم المشترى في صورة الجهل بالثمن ، لدلالة الصحيحة المتقدمة عليه فان الطعن فيها
وردها بمجرد ما ادعوه من الإجماع غير الحقيق بالاتباع ، مجازفة محضة.
فإن قيل : ان العلم بالقدر هنا حاصل بإخبار البائع
والتفاوت اليسير مغتفر ، كما في تفاوت المكائيل والموازين.
قلنا : دعوى حصول العلم بإخبار البائع ، لا سيما على
قواعدهم المعلومة البطلان حيث يمنعونه في اخبار العدل بل العدلين ، وغاية ما يفيده
اخبار العدلين عندهم مجرد الظن ، كما صرحوا به في غير موضع ، فكيف يمكن ان يدعى
هنا حصول العلم باخبار
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 256 حديث : 3.
(2) المصدر ص 257 حديث : 8.
(3) المصدر حديث : 7.
البائع ، كائنا من كان. وهذه الدعوى
انما وقعت هنا لضيق الخناق في المقام بسبب هذه الاخبار الظاهرة الدلالة على خلاف
قواعدهم في هذه الأحكام. فالأخبار ظاهرة في تأييد ما ذكرناه كما لا يخفى على ذوي
الأفهام.
ومن هذه الاخبار ايضا يظهر ان ما اشتملت عليه صحيحة
الحلبي المتقدمة ، من عدم صحة بيع العدل الثاني بعد وزن الأول ، وعدم تصديق البائع
في ذلك ، مما يحتاج الى ارتكاب التأويل فيه ، والإخراج عن ظاهره.
الموضع الثاني : لا يخفى انه
متى قلنا بعدم الصحة في بعض الموارد لاختلال أحد هذه الشرائط المذكورة ، وقد قبض
المشترى المبيع ، مع ما عرفت من بطلان البيع ، فإنهم قد صرحوا بأنه يكون مضمونا
عليه ، لما تقرر عندهم من ان «كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده». ويؤيد الخبر
المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» وكذا كل مأخوذ بالبيع الفاسد ، عالما بالفساد
كان أو جاهلا.
ويظهر من المحقق الأردبيلي ـ في شرح الإرشاد ـ المناقشة
هنا في عموم الحكم. قال ـ بعد قول المصنف «والمقبوض بالسوم أو البيع الفاسد مضمون
على المشترى» ـ ما لفظه :
ثم الذي يظهر من كلامهم : عدم الخلاف في ان المقبوض
بالسوم اى المال الذي أخذ للبيع أو الشراء مضمون مثل الغصب ، ولو تلف مطلقا
فالقابض ضامن. ووجهه غير ظاهر مع الأصل ، والذي يقتضيه النظر كونه امانة ، ولعل
لهم نصا أو إجماعا ، كما هو الظاهر من تشبيه البيع الفاسد به في الضمان ، فتأمل.
وكذا المأخوذ بالبيع الفاسد كان القابض عالما بالفساد أو
جاهلا ، ودليلهم الخبر المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» والقاعدة المشهورة «كل
عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» و «مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده» وصحتها غير
ظاهرة. والأصل يقتضي العدم ، وهو مع الجهل بالفساد قوى ، ومع علم الأخر أقوى.
ومع ذلك قال في شرح الشرائع : لا إشكال في الضمان مع
الجهل بالفساد ، فتأمل ومع علمه بالفساد ، وبعدم جواز التصرف وحفظه ووجوب رده الى
مالكه معجلا كالمغصوب. وذلك قد يكون بعلمه بطلب من المالك على تقدير الفساد وعدم
رضاه بكونه عنده ، وفتوى العلماء له بذلك ، فهو ضامن للأصل. وما يتفرع عليه كما
قيل في الغصب ، حتى انه يضمن العين والمنفعة ، وان لم ينتفع بها ، مثل اجرة الدابة
في المدة التي كانت عنده ، واما مع الجهل بالفساد لا سيما في أمر غير ظاهر الفساد
، وكذا بعد العلم به ، ولكن مع عدم العلم بوجوب الرد في الحال ، والضمان غير ظاهر.
ولو ظن ان المالك رضى لهذا المال بالبدل المعلوم ، فهو
راض بأن يتصرف فيه عوضا عما في يده ، فالأكل حينئذ ليس بالباطل ، بل بالرضا ، فإنه
رضى بالتصرف فيه بان يجوز له التصرف في بدله ، وقد جوز صاحبه ذلك ، وعرف كل واحد
من صاحبه ذلك. فحينئذ يجوز تصرف كل واحد في بدل ماله وان لم يكن بسبب البيع ، بل
بسبب الاذن المفهوم مع البدل ، وكأنه يرجع الى المعاطاة والإباحة مع العوض من غير
بيع ، ولا تجد منه مانعا ، غاية الأمر انه يكون لكل واحد الرجوع عن قصده الأول
وأخذ ماله عينا وزيادة.
نعم إذا علم عدم الرضا الا بوجه البيع ، أو اشتبه ذلك ،
يتوجه عدم جواز التصرف والضمان على تقدير فهم عدم الرضا بالمكث عنده ، وكونه امانة
على تقدير غيره ويحتمل جواز التصرف على تقدير التقابض أيضا في بعض المحال ، بان
غاب وامتنع الاطلاع عليه وإيصاله اليه وأخذ ماله منه. كما في غير هذه الصورة.
وبالجملة دليل حكم المشهور بينهم ، وهو جعل حكم المقبوض
بالسوم والعقد الفاسد مثل الغصب في أكثر الأحكام ، حتى في إلزامه بالإيصال الى
صاحبه فورا ، فلا يصح عباداته في أول وقتها ، على تقدير القول بمنافاة حقوق الآدمي
، كما هو ظاهر كلامه غير ظاهر ، فالحكم مشكل ، ولا شك انه ينبغي ملاحظة ذلك مهما أمكن.
فتأمل. انتهى.
وانما أوردناه بطوله لقوته وجودة محصوله. واما ما استظهر
في آخر كلامه من عدم صحة العبادة في أول وقتها ، مع منافاة حق الأدمي ، فهو مبنى
على مذهبه في المسألة الأصولية ، من ان الأمر بالشيء يستلزم النهى عن ضده الخاص.
والذي حققناه فيما تقدم من كتب العبادات من هذا الكتاب عدم ثبوت هذه القاعدة وما
يترتب عليها من الفائدة.
الموضع الثالث: لو تلف المبيع
في يد المشترى في صورة يكون مضمونا عليه ، فان كان قيميا فقيمته ، الا انه قد وقع
الخلاف هنا في القيمة.
فقيل : قيمة يوم التلف لانه وقت الانتقال إلى القيمة ،
واما قبل التلف فهو مخاطب برد العين وأدائها لا بالقيمة. وجعله شيخنا الشهيد
الثاني في الروضة هو الأقوى.
وقيل : يوم القبض ، لانه مضمون عليه من ذلك الوقت بسبب
فساد البيع ، وهو اختيار الشرائع.
وقيل : الا على من يوم القبض الى يوم التلف ، وهو منقول
عن ابن إدريس ، واستحسنه شيخنا الشهيد الثاني ، ان كان التفاوت بسبب نقص في العين
أو زيادة ، لأن زيادة العين مضمونة مع بقائها ، وكذا مع تلفها فيرجع عليه بأعلى
القيمتين. اما لو كان التفاوت باختلاف السوق فان الواجب القيمة يوم التلف ، كما هو
القول الأول. فالأقوال في المسألة : أربعة.
أقول : لا يخفى ان الاعتماد على هذه التعليلات
الاعتبارية ، لا سيما مع تضادها ، لا يخلو من الاشكال ، مع انه قد روى ثقة الإسلام
في الكافي ، والشيخ في التهذيب. عن ابى ولاد الحناط في الصحيح ، قال : اكتريت بغلا
الى قصر ابن هبيرة ذاهبا وجائيا بكذا وكذا ، وخرجت في طلب غريم لي ، فلما صرت قرب
قنطرة الكوفة خبرت ان صاحبي توجه الى النيل ، فلما أتيت النيل خبرت انه قد توجه
الى بغداد ، فاتبعته
فلما ظفرت به وفرغت عما بيني وبينه
رجعت الى الكوفة ، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوما ، فأخبرت صاحب البغل بعذري
وأردت أن أتحلل منه بما صنعت وأرضيه ، فبذلت له خمسة عشر درهما ، فأبى أن يقبل ،
فتراضينا بأبي حنيفة فأخبرته بالقضية وأخبره الرجل.
فقال لي : ما صنعت بالبغل؟ قلت قد دفعته اليه سليما. قال
: نعم بعد خمسة عشر يوما. قال : فما تريد من الرجل؟ قال : أريد كرى بغلي ، وقد
حبسه على خمسة عشر يوما. قال : ما ارى لك حقا ، لانه اكتراه الى قصر ابن هبيرة
فخالف وركبه الى النيل والى بغداد ، فضمن قيمة البغل وسقط الكرى ، فلما رد الرجل
البغل سليما وقبضته لم يلزمه الكرى.
قال : فخرجنا من عنده ، وجعل صاحب البغل يسترجع. فرحمته
مما افتى به أبو حنيفة فأعطيته شيئا وتحللت منه ، وحججت في تلك السنة فأخبرت أبا
عبد الله عليهالسلام بما افتى به
أبو حنيفة. فقال لي : في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها وتمنع الأرض
بركتها. قال : فقلت لأبي عبد الله عليهالسلام : فما ترى أنت؟
قال : ان له عليك مثل كرى البغل ذاهبا من الكوفة إلى النيل ، ومثل كرى البغل راكبا
من النيل الى بغداد ، ومثل كرى البغل من بغداد إلى الكوفة ، توفيه إياه.
قال : فقلت ـ جعلت فداك ـ : قد علفته بدراهم ، فلي عليه
علفه؟ قال : لا ، لأنك غاصب. فقلت : أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟
قال : نعم ، قيمة البغل يوم خالفته. فقلت : فإن أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟
فقال : عليك قيمة ما بين الصحة والعيب يوم ترد عليه. قلت : فمن يعرف ذلك؟ قال :
أنت وهو اما ان يحلف هو على القيمة وتلزمك ، وان رد اليمين عليك فحلفت على القيمة
فيلزمك ذلك ، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون ان قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا ،
فيلزمك. فقلت : كنت أعطيته دراهم ورضى بها وحللني.
فقال : إنما رضي بذلك وحللك حين قضى عليه أبو حنيفة
بالجور والظلم. ولكن ارجع اليه فأخبره بما أفتيتك به ، فان جعلك في حل بعد معرفته
فلا شيء عليك بعد هذا. قال أبو ولاد : فلما انصرفت من وجهي ذلك ، لقيت المكاري
فأخبرته بما أفتاني أبو عبد الله عليهالسلام ، وقلت له :
قل ما شئت حتى أعطيك. فقال : قد حببت الى جعفر بن محمد ، ووقع في قلبي له التفضيل
، وأنت في حل. وان أحببت أن أرد عليك الذي أخذت منك فعلت (1).
وأنت خبير بان ما نحن فيه ـ أحد جزئيات مسألة الغصب ،
كما عرفته آنفا من كلام المحقق الأردبيلي ، ونقل ذلك عن الأصحاب.
ومن هذه الرواية يظهر قوة القول الثاني ، وهو قيمة يوم
القبض ، لان ظاهره : انه عليهالسلام أوجب عليه
قيمة البغل يوم المخالفة ، التي بها صار مغصوبا وصار في ذلك اليوم مضمونا عليه ،
الا ان في الخبر المذكور احتمالا آخر ، وهو ان يكون قوله عليهالسلام «يوم خالفته»
ظرفا للزوم القيمة ، بمعنى انه يلزم القيمة في ذلك اليوم ، واما قدر القيمة فهو
غير معلوم من الخبر ، فيحتاج في تعيينه الى دليل آخر. والاستدلال بالخبر ـ كما
ذكرنا ـ أو لا مبنى على كون الظرف المذكور ظرفا للقيمة ، يعني قيمة ذلك اليوم.
وتغاير الوجهين واضح. وبذلك بقيت المسألة في قالب الاشكال.
* * *
هذا ان كان قيميا ، وان كان مثليا فالمعروف من مذهب
الأصحاب : انه يضمنه بمثله ، الا انه قد اضطرب عباراتهم في ضبط المثلي. فالمشهور
بينهم : انه ما يتساوى قيمة اجزائه. وضبطه بعضهم بالمقدر بالكيل أو الوزن. وبعض
بأنه ما يتساوى اجزاؤه في الحقيقة النوعية ، وزاد آخرون : اشتراط جواز السلم فيه.
وعرفه في الدروس بأنه المتساوي الأجزاء المتقاربة الصفات. قيل : وهو أقرب
التعريفات إلى السلامة.
فلو كان المثل موجودا ولم يسلمه حتى فقد ـ والمراد
بفقدانه ان لا يوجد في
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 255 ـ 257 حديث : 1 باب : 17 أبواب أحكام
الإجارة.
تلك البلاد وما حولها مما يتعارف نقله
عادة من الأماكن بعضها الى بعض ـ فاللازم القيمة. وفيها أوجه :
أولها ـ وهو أشهرها عندهم ـ اعتبار قيمته حين تسليم
البدل.
وثانيها : اعتبارها وقت الإعواز. قال في المسالك : وهو
الأقوى.
وثالثها : اعتبار أقصى القيم من حين الغصب الى حين دفع
العوض ، وهو المعبر عنه بيوم الإقباض.
ورابعها : اعتبار الأقصى من حينه الى حين الإعواز.
وخامسها : اعتبار الأقصى من حين الإعواز إلى حين دفع
القيمة ، ولم نجد لهم دليلا شرعيا على شيء من هذه الأقوال ، إلا مجرد اعتبارات
ترجع بها الى ما ذكروه كما تقدم نقله عنهم في القيمي.
الرابع : قد صرح الأصحاب بأن المراد بالمكيل والموزون هو
ما ثبت في زمنه صلىاللهعليهوآله وحكم الباقي
في البلدان ما هو المتعارف فيها ، فكل ما كان مكيلا أو موزونا في بلد يباع كذلك
والا فلا. وظاهر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في ذلك ، حيث قال ـ بعد
نقل ذلك عنهم ـ : وفيه تأمل ، لاحتمال ارادة الكيل أو الوزن المتعارف عرفا عاما في
أكثر البلدان أو في الجملة مطلقا أو بالنسبة الى كل بلد بلد كما قيل في المأكول
والملبوس في السجدة ، من الأمر الوارد بها لو سلم ، والظاهر هو الأخير. انتهى.
أقول : لا ريب ان الواجب في معاني الألفاظ الواردة في
الاخبار هو الحمل على عرفهم ـ عليهمالسلام ـ فكلما علم
كونه مكيلا أو موزونا في زمنهم ـ عليهمالسلام ـ وجب اجراء
الحكم بذلك عليه في الأزمنة المتأخرة ، وما لم يعلم فهو ـ بناء على قواعدهم ـ يرجع
الى العرف العام ، الى آخر ما ذكروه من التفصيل.
ويمكن ان يستدل على الرجوع الى العرف بما تقدم في صحيحة
الحلبي من قوله
عليهالسلام «وما كان من
طعام سميت فيه كيلا ، فإنه لا يصلح مجازفة ، هذا مما يكره من بيع الطعام» فان
ظاهره : ان الرجوع في كونه مكيلا الى تسميته كيلا عرفا ، فكلما وقع التسمية عليه
بأنه مكيل فلا يجوز بيعه مجازفة.
ويمكن ان يقيد بما إذا لم يعلم حاله في زمنهم ـ عليهمالسلام ـ والا لوجب
الأخذ به كما ذكرناه. وكيف كان فالخبر لا يخلو عن إجمال يمنع الاستناد إليه في
الاستدلال.
واما ما يفهم من كلامه من الرجوع الى العرف مطلقا وان
علم كونه مكيلا أو موزونا أو علم عدمه في زمانهم ـ عليهمالسلام ـ فالظاهر انه
بعيد ومخالف لما صرح به الأصحاب في غير موضع ، من تقديم العرف الخاص : اعنى عرفهم
ـ عليهمالسلام ـ على العرف
العام ، أو عرف كل بلد بلد.
وبالجملة فمحل الاشكال فيما يجهل حاله في زمنهم ـ عليهمالسلام ـ من كونه
مكيلا أم لا ، وموزونا أم لا ، فهل يكون المرجع فيه الى العرف العام ، أو الى ما
ذكره من الافراد ، ووجه الاشكال ما تقدم التنبيه عليه في غير موضع ، من ان العرف
مع تسليم إمكان الوقوف عليه في كل بلد بلد وقطر وناحية ، لا انضباط له ، فان لكل
قطر عرفا وعادة بخلاف ما عليه غيرها من النواحي والأقطار ، ومن الظاهر ان الأحكام
الشرعية متحدة لا اختلاف فيها ، فلا تناط بالأمور غير المنضبطة.
الخامس : انه متى ثبت
الكيل أو الوزن في بعض الأشياء ، فهل يجوز بيع المكيل وزنا وبالعكس أم لا؟ أو يختص
الجواز ببيع المكيل وزنا دون العكس؟ احتمالات ، بل أقوال.
للأول : حصول الانضباط بهما. ورجحه في سلم الدروس ،
لرواية وهب.
وللثاني : عدم الدليل على ذلك.
وللثالث : ان الوزن أصل الكيل وأضبط منه ، وانما عدل الى
الكيل تسهيلا.
أقول : قال في الدروس : ولو أسلم في الكيل وزنا أو
بالعكس فالوجه الصحة لرواية وهب ، عن الصادق عليهالسلام. وأشار
بالرواية المذكورة الى ما رواه الشيخ عن احمد بن ابى عبد الله عن وهب عن جعفر عن
أبيه عن على عليهالسلام قال : لا بأس
بالسلف ما يوزن فيما يكال وما يكال فيما يوزن (1). ورواه في الفقيه عن وهب.
وأنت خبير بان الظاهر من قوله «لا بأس يسلف المكيل في
الموزون وبالعكس» ان يكون أحدهما ثمنا والآخر مثمنا ، لا ما ذكره من كيل الموزون
ووزن المكيل ، كما هو المدعى.
ويعضد ما ذكرناه ذكر الشيخ الرواية المذكورة في باب
إسلاف السمن بالزيت واحتمال انه أشار بالرواية إلى رواية أخرى غير هذه الرواية
بعيد ، إذ لم نقف في الباب على غيرها. ويحتمل في عبارة الدروس ان يقال : ان وزنا
بمعنى الموزون ، فيوافق ظاهر الرواية ، الا ان سياق كلامه يأبى الحمل على ذلك.
وبذلك يظهر لك قوة القول الثاني.
وبالجملة فإن مقتضى القاعدة المتقدمة هو الوقوف في كل شيء
على ما ورد ، فالمكيل لا يباع الا كيلا وكذا الموزون والمعدود ، الا مع ورود دليل
شرعي على جواز الاكتفاء بأحدها عن الأخر ، ومجرد هذه التعليلات التي يتداولونها في
مثل هذه المقامات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.
نعم قد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح عن ابن مسكان
والحلبي ، عن ابى عبد الله عليهالسلام انه سئل عن
الجوز لا نستطيع ان نعده فيكال بمكيال ثم يعد ما فيه ، ثم يكال ما بقي على حساب
ذلك العدد ، فقال : لا بأس به (2).
وهذا في الحقيقة لا يخرج عن بيعه عددا وان دل على اغتفار
التفاوت اليسير
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 63 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 14 ص 259 حديث : 1 باب : 7.
الحاصل بذلك ، كما ورد مثله في رواية
عبد الملك بن عمرو المتقدمة ، في اشتراء مأة راوية من الزيت ووزن واحدة منها وأخذ
الباقي بذلك الوزن.
وقيد بعض الأصحاب جواز بيع كيل المعدود بتعذر عده ، وبعض
بتعسره ، قال شيخنا الشهيد الثاني : ولو قيل بجوازه مطلقا ، لزوال الغرر ، وحصول
العلم ، واغتفار التفاوت ، لكان حسنا. وفي بعض الاخبار دلالة عليه.
أقول : الظاهر ان من شرط أحد الأمرين المذكورين في
المعدود نظر الى قوله في الرواية «لا نستطيع ان نعده» وان الجواب انما بنى على ذلك
، لكن ينافي ذلك رواية الزيت المذكورة ، وهي التي أشار إليها شيخنا المتقدم ذكره ،
بقوله : وفي بعض الاخبار دلالة عليه. والى الجواز مطلقا ـ كما اختاره شيخنا
المتقدم ذكره ـ مال في المفاتيح ، قال : لو رد مثله في الزيت من غير تقييد ولا
قائل بالفرق بين المعدود والموزون مع ان الأول أدخل في الجهالة وأقل ضبطا ، ولانتفاء
الغرر ، وحصول العلم ، واغتفار التفاوت اليسير ، كما في اختلاف المكائيل والموازين
، كما يستفاد من المعتبرة ، وتجويزهم إندار ما يحتمل الزيادة والنقيصة للظروف من
الموزونات ، وجواز بيعها مع الظروف من غير وضع ، بناء على ان معرفة الجملة كافية ،
وللأخبار في الإندار ، وفي بعضها «إذا كان عن تراض منكم فلا بأس» (1). «وان كان
يزيد ولا ينقص فلا تقربه» (2). وكذا تجويزهم
ـ بلا خلاف ـ الجمع بين شيئين مختلفين في عقد واحد بثمن واحد كبيع واجارة ونكاح ،
وان كان عوض كل منهما بخصوصه غير معلوم حال العقد. انتهى.
وهو جيد الا انه يبقى الكلام في محمل تحمل عليه رواية
الجوز المذكورة.
السادس : قد صرحوا بأنه
إذا كان العوضان من المكيل والموزون أو المعدود فلا بد من اعتبارهما بما هو
المعتاد من الكيل والوزن والعدد ، فلا يكفى المكيال المجهول
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 273 حديث : 1 باب : 20.
(2) المصدر حديث : 4.
كقصعة حاضرة وان تراضيا بها ، ولا
الوزن المجهول كالاعتماد على صخرة معينة وان عرفا قدرها تخمينا ، ولا العدد
المجهول بان عولا عليه ثم اعتبر العدد به ، للغرر المنهي عنه في ذلك كله.
أقول : ومما يدل على ما ذكروه : ما رواه الصدوق في الحسن
عن الحلبي ، عن الصادق عليهالسلام قال : لا يصلح
للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر (1). ورواه الكليني في الحسن مثله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال : لا يحل
للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر. قلت : فان الرجل يستأجر الحمال في المكيل
الكيال فيكيل له بمد بيته ، لعله يكون أصغر من مد السوق ، ولو قال هذا أصغر من مد
السوق لم يأخذ به ، ولكنه يحمله ذلك ويجعله في أمانته. فقال : لا يصلح الأمد واحد
والأمناء بهذه المنزلة (2). قوله :
الأمناء جمع منا مقصورا ، وهو المن في اللغة المشهورة في ألسن الناس ، وما ذكر في
الخبر هو الأفصح مما هو المشهور الان في الألسن. وتثنيته منوان.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن سعد بن سعد عن ابى الحسن عليهالسلام ، قال : سئل
عن قوم يصغرون القفزان يبيعون بها. قال : أولئك الذين يبخسون الناس أشياءهم (3).
وظاهر المحقق الأردبيلي : المناقشة في المقام ، بحمل
حسنة الحلبي ـ وهي الأولى ـ على المنع من البيع بغير صاع البلد بسعر البلد لاحتمال
كونه ناقصا أو زائدا ، ثم أيد ذلك برواية محمد الحلبي المذكورة بعدها ، واستند
فيما عدا ذلك الى الأدلة العامة الكثيرة ، الدالة على الوفاء بالعقود ، وعلى هذا
فلو حصل التراضي من البائع
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 258 حديث : 4.
(2) الوسائل ج 12 ص 280 حديث : 2.
(3) المصدر ص 258 حديث : 1 باب : 6.
والمشترى على مكيال مجهول كقصعة
ونحوها وحجر مخصوص مجهول ، وقرر القيمة بناء على ذلك صح البيع بمقتضى ما اختاره.
وفيه : ان إطلاق قوله عليهالسلام في الخبرين «لا
يصلح» كما في الأول ، و «لا يحل» كما في الثاني «للرجل ان يبيع بصاع غير صاع المصر»
أعم من ان يكون البيع بسعر صاع المصر ، وتقدير القيمة والسعر على ذلك المكيال
المجهول. وورود ما ذكره في تتمة الرواية الثانية حكم آخر ، فلا منافاة فيه ، مع ان
الجواب الصادر منه عليهالسلام في الرواية
الثانية بإطلاقه شامل للمنع من الصورة التي ادعى جوازها ، وخصوص السؤال لا يخصصه
كما تقرر في كلامهم.
وبالجملة فإن عبارات هذه الاخبار شاملة بإطلاقها لما
ذكرنا ، وتخصيصها يحتاج الى دليل ، ومع ورود المنع في الصورة التي وافق عليها كما
في صحيحة سعد بن سعد ، فإنها ظاهرة فيما ذكره ، لا يوجب تخصيص ذلك الإطلاق. فإن
هذا أحد فردي المطلق الذي دلت عليه تلك الاخبار.
واما الاستناد الى عموم أدلة الوفاء بالعقد ، فإنه لا
يخفى ان العقود ، منها : ما هو صحيح ومنها : ما هو باطل ، ومن الظاهر ان وجوب
الوفاء انما يترتب على العقد الصحيح ، فلا بد ـ أولا ـ من النظر في العقد صحة
وبطلانا ، ليمكن ترتب وجوب الوفاء به عليه. فالاستناد الى الاستدلال بهذا العموم
قبل النظر في العقد ـ كما ذكرنا ـ مجازفة ظاهرة.
ثم ان المحقق المشار اليه قال ـ في المقام ـ : ومنه يعلم
البحث في المعدود. والظاهر عدم الدليل على عدم جواز بيعه الا عدا ، وعموم أدلة
جواز العقود ، والوفاء بها ، يدل على الجواز ، وعدم اشتراط العد ، والأصل
والعمومات ، وحصول التراضي الذي هو العمدة في الدليل ، دليل قوي. فإثبات خلافه
مشكل ، وان كان المشهور عدم الجواز ، والاحتياط معه قبل وقوع العقد ، نعم الاولى
عدم ارتكابه ، والترك لبائعه على
تقدير رضاه. فتأمل انتهى.
أقول : لا ريب انه لم يرد هنا دليل واضح في الدلالة على
ما ذكره الأصحاب ، من عدم الجواز ، الا ان صحيحة الحلبي وابن مسكان المتقدمة :
الواردة في الجوز مؤيدة لما ذكروه ، وان لم تكن الدلالة صريحة في ذلك ، فان الظاهر
من السؤال : ان الحكم في بيع الجوز هو العد ، والسائل رتب سؤاله على ذلك ، فقال :
انه إذا كان مما لا يجوز بيعه الا عدا ، والحال انه لا يستطيع عده لكثرته ، فلو
كيل على هذا النحو ، فهل يجزي أم لا؟ والامام عليهالسلام قد قرره على
ذلك ، والا لكان يجيبه بأنه لا يحتاج الى ذلك بل يبيعه مجازفة ، كما يدعيه المحقق
المذكور. وقد تقرر ان تقريره عليهالسلام حجة كقوله
وفعله.
وحينئذ فيكون الخبر ظاهرا في تأييد ما ذكره الأصحاب ، بل
دالا عليه. وإذا ثبت هذا الحكم في الجوز يثبت في غيره مما يباع عددا ، ويتعدى الى
ما سواه بتنقيح المناط القطعي ، كما في جل الأحكام ، إذ لا خصوصية لذكر الجوز هنا
الا من حيث وقوع السؤال عنه.
واما استناده الى ما ذكره من عموم أدلة الوفاء بالعقود ،
فقد عرفت ما فيه ، واما الأصل فإنه معارض بأن الأصل بقاء كل ملك لمالكه حتى يقوم
دليل شرعي على انتقاله عنه الى غيره.
واما حصول التراضي الذي جعله العمدة ، ففيه ـ أولا ـ :
انه لا يطرد كليا ، والا لجرى في الصرف والربا ونحوهما بمجرد التراضي ، وسقط ما
اشترط فيهما من الشروط.
و ـ ثانيا ـ ان غاية ما يفيده التراضي مجرد الإباحة ،
والمدعى هو البيع الناقل عن الملك والمخرج له عن صاحبه.
و ـ ثالثا ـ ما يتضمنه من الغرر المنهي عنه ، كما علله
به بعض الأصحاب ، مع اعتضاد ذلك بالاحتياط كما اعترف به. وبالجملة فالأظهر ما ذكره
الأصحاب.
السابع : قد صرحوا بأنه
يجوز ابتياع جزء معلوم بالنسبة كالنصف والثلث ـ مثلا ـ مشاعا ، تساوت اجزاؤه
كالحبوب والأدهان أو اختلفت كالجواهر والحيوان ، إذا كان الأصل الذي بيع جزؤه
معلوما بما يعتبر فيه من كيل أو وزن أو عد أو مشاهدة ، فيصح بيع نصف الصبرة المعلومة
المقدار والوصف ، ونصف الشاة المعلومة بالمشاهدة أو الوصف.
أقول : ودليل الجواز فيما ذكروه هنا ظاهر ، وهو عموم
أدلة البيع بشروطه المعتبرة فيه ، فلو باع شاة غير معلومة من قطيع غنم معلوم العد
مشاهد ، وان تساوت أثمان ما اشتمل عليه من الشاة ، لم يصح لمجهولية المبيع.
ولو باع قفيزا من جرة مجهولة ، فهل يعتبر العلم
باشتمالها على المبيع ، أو اخبار البائع بذلك ، والا لم يصح ، أو انه يصح البيع ،
فان نقصت تخير المشترى بين أخذ الموجود منها بحصته من الثمن ، وبين الفسخ ، لتبعض
الصفقة قولان.
والظاهر : ان المشهور الأول. والثاني اختيار الشهيد في
اللمعة.
ثم انه مع العلم باشتمالها على المبيع وصحة البيع ـ كما
هو قول المشهور فهل يتنزل على الإشاعة ، أو يكون المبيع قفيزا في الجملة ، وجهان.
قرب في المسالك الثاني. وتظهر الفائدة فيما لو تلف بعضها ، فعلى الأول فيتلف من
المبيع بالنسبة ، وعلى الثاني يبقى المبيع ما بقي قدر المبتاع.
أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار ، مما يتعلق بهذه
المسألة : ما رواه الشيخ في الصحيح عن بريد بن معاوية ، عن ابى عبد الله عليهالسلام في رجل اشترى
من رجل عشرة آلاف طن في أنبار بعضه على بعض من أجمة واحدة ، والأنبار فيه ثلاثون
الف طن ، فقال البائع : قد بعتك من هذا القصب عشرة آلاف طن ، فقال المشترى. قد
قبلت واشتريت ورضيت. فأعطاه من ثمنه الف درهم ، ووكل المشترى من يقبضه ، فأصبحوا
وقد وقع النار في القصب فاحترق منه عشرون الف طن ، وبقي عشرة آلاف طن ،
فقال : عشرة آلاف طن التي بقيت هي
للمشتري. والعشرون التي احترقت من مال البائع (1).
وهي ظاهرة في ان الجزء المباع من الجملة ليس على سبيل
الإشاعة بحيث يلحقه جزء من النقص الواقع على المجهول ، كما هو أحد الوجهين
المتقدمين ، بل يعتبر ذلك القدر المبيع بعينه ، كما قربه في المسالك.
والطن ـ بالضم ـ الحزمة من حطب أو قصب. والجمع أطنان ،
مثل قفل وأقفال.
قالوا : ولو قال : بعتك كل قفيز منها بدرهم لم يصح ، ولو
قال : بعتكها كل قفيز منها بدرهم فالمشهور انه لا يصح ايضا مطلقا ، خلافا للشيخ ،
ونفى عنه البعد في الكفاية فقال : وقول الشيخ غير بعيد.
وظاهر هذا الكلام هو صحة هذه الأحكام ، أعم من ان تكون
الجملة مجهولة أو معلومة ، وخص في الدروس البطلان في الصورة الثانية بما إذا كان
المجموع مجهولا.
قال : ولو كان قال «بعتكها كل قفيز بدرهم» بطل مع
الجهالة. وظاهر الشيخ الصحة مطلقا. انتهى.
قال في الروضة : واعلم ان أقسام بيع الصبرة عشرة ، ذكر
المصنف بعضها منطوقا وبعضها مفهوما وجملتها : أنها اما ان تكون معلومة أو مجهولة ،
فإن كانت معلومة صح بيعها اجمع ، وبيع جزء منها معلوم مشاع ، وبيع مقدار كقفيز
تشتمل عليه ، وبيعها كل قفيز منها بكذا لا بيع كل قفيز منها بكذا والمجهولة. تبطل
في جميع الأقسام الخمسة إلا الثالث. انتهى.
ومنه يعلم : ان بيعها كل قفيز بكذا يصح مع المعلومية ،
ويبطل مع المجهولية الا على قول الشيخ ، حيث نقل عنه الصحة مطلقا.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 272 حديث : 1 باب : 19.
واما بيع كل قفيز منها بكذا فهو باطل مطلقا ، وبه يتبين
ما في الكلام الأول من الإجمال.
وقد صرحوا ـ أيضا ـ بأنه لا يجوز ابتياع شيء مقدر غير
معين منه ، إذا لم يكن متساوي الأجزاء ، كالذراع من الثوب ، والجريب من الأرض ،
وعبد من عبيد ، وشاة من قطيع. ولو عينه من جهة ، كما لو قال : من هذا الطرف الى
حيث ينتهي ، ففي صحته قولان ، أشهرهما : الصحة. ويجوز ذلك في المتساوي الأجزاء ،
كالقفيز من الكر.
أقول : لا يبعد التفصيل في هذا المقام ، بان يقال بعدم
الصحة في نحو عبد من عبدين أو عبيد ، وشاة من قطيع. والصحة في نحو ذراع من الثوب
وجريب من الأرض. لحصول المجهولية في الأول فيبطل البيع لذلك ، لتفاوت افراد العبيد
وافراد الشاة تفاوتا فاحشا ، بخلاف اجزاء الثوب واجزاء الأرض ، إذ الغالب في الثوب
المصنوع ان تكون صنعته من أوله الى آخره على نهج واحد. وكذلك الأرض. وحينئذ فلا
فرق بين ان يبيعه ذراعا معينا مشارا اليه ـ كما اعترفوا بالصحة فيه ـ ولا بين ان
يبيعه ذراعا من اى طرف أراد المشترى. وهكذا في الأرض
ويؤيده ما تقدم من الاكتفاء بالمعلومية في الجملة من
المواضع. والى ما ذكرنا يشير كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال ـ بعد
ان نقل عنهم المنع من عدم تعيين الموضع ، والجواز مع تعيينه ، كأن يقول ـ ابتداء ـ
: الذرع من هذا الرأس وابتداء الجريب من هذا الجانب من الأرض ـ ما لفظه : وفيه
تأمل ، إذ لم يقم دليل على اعتبار هذا المقدار من العلم فإنهما إذا تراضيا على ذرع
من هذا الكرباس ، من أي رأس أراد المشتري ، أو من اى جانب كان من الأرض ، فما
المانع بعد العلم بذلك ، مع ان الغالب هو التساوي في طول ثوب الكرباس ـ مثلا ـ وارض
متصلة الاجزاء بمعنى عدم تفاوت بين اجزائها المستلزم لتفاوت في قيمته. فتأمل فيه.
انتهى.
وهو جيد.
وبالجملة فإن ما ذكروه من القاعدة المذكورة بالنسبة الى
غير متساوي الاجزاء ليس على إطلاقه ، بل ينبغي التفصيل فيه بما ذكرنا. والله
العالم.
الثامن : قالوا : تكفي
في بيع الثوب والأرض المشاهدة وان لم يمسحا. ونقل في التذكرة الإجماع على ذلك ، مع
انه نقل في الدروس عن ظاهر الخلاف المنع.
وينبغي ان يعلم : ان المراد بمشاهدة الثوب الكافية في
صحة بيعه : مشاهدته منشورا ، فلو كان مطويا لم يكف الا مع تقليبه على وجه يوجب
معرفته. هذا بالنسبة الى غير المكيل والموزون والمعدود ، والا فإنه يجب مع ذلك
الاستعلام بأحد الثلاثة المذكورة ولا تكفي المشاهدة وحدها.
ومن هنا ينقدح إشكال في هذا المقام ، فإنه متى اعتبر أحد
هذه الثلاثة فيما كان كذلك ، زيادة على المشاهدة ، فكيف يقال بأنه تكفي المشاهدة
خاصة في الثوب ، مع انه مذروع. وكما يشير اليه كلامهم فيما تقدم من قولهم : ذراع
من هذا الثوب ، ولان المتعارف في الثوب هو الذرع. الا ان يقال : المراد به هنا
المخيط فقط. أو يقال : ان الذرع غير مشروط في المذروع. كما في الثلاثة المتقدمة ،
فإن ذلك شرط فيها.
ويؤيده إضافة الأرض. فإنها قد تكون مذروعة أيضا ، مع انه
يجوز بيعها مشاهدة وموصوفة بلا ذرع من غير خلاف.
وتكفي مشاهدة المبيع عن وصفه ، ولو غاب وقت الابتياع ،
بشرط ان لا يكون مما يتغير عادة ، كالأرض والأواني والحديد والنحاس ونحوها ، أو لا
تمضى مدة تتغير فيها عادة ، ويختلف باختلافه زيادة ونقصانا ، كالفاكهة والطعام
والحيوان. فلو مضت مدة كذلك لم يصح البيع ، لتحقق الجهالة المترتبة على تغيره عن
تلك الحالة. وان
احتمل التغير كفى البناء على الأول ،
أعني المشاهدة السابقة ، وصح البيع.
فان ظهر التغير زيادة أو نقصانا فان كان مما يتسامح
بمثله عادة فلا خيار ، والا تخير المغبون منهما ، وهو البائع ان ظهر زائدا
والمشترى ان ظهر ناقصا.
ولو اختلفا في التغير الموجب للخيار ، وهو الذي يتسامح
بمثله ـ كما عرفت ـ فقيل : ان القول قول المشترى ، بيمينه ان كان هو المدعى للتغير
والبائع ينكره ، لأن البائع يدعي علمه بهذه الصفة ، ويقول : انى بعتكه بهذه الصفة
التي هو عليها الآن ، وهو ينكره. ولأن الأصل عدم وصول حقه اليه ، فيكون في معنى
المنكر ، ولأصالة بقاء يده على الثمن.
وقيل بتقديم قول البائع لتحقق الاطلاع المجوز للبيع ،
وأصالة عدم التغير.
والمشهور الأول. والمسألة عارية من النص. والركون الى
أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية قد عرفت ما فيه في غير مقام.
ولو باعه أرضا على انها جربان معينة فظهرت أقل من ذلك ،
فقيل بأن للمشتري الخيار بين فسخ البيع وبين أخذها بحصتها من الثمن. وقيل : بل بكل
الثمن.
وللشيخ قول ثالث ، بأن البائع ان كان له ارض بجنب تلك
الأرض تفي بالناقص فعليه الإكمال منها والا تخير المشترى بين الأخذ بحصتها من
الثمن وبين الفسخ. ويدل على هذا القول ما رواه الصدوق والشيخ عن عمر بن حنظلة عن
الصادق عليهالسلام في رجل باع
أرضا على انها عشرة أجربة ، فاشترى المشترى ذلك منه بحدوده ، ونقد الثمن ووقع صفقة
البيع وافترقا ، فلما مسح الأرض إذا هي خمسة أجربة ، قال : ان شاء استرجع فضل ماله
وأخذ الأرض ، وان شاء رد البيع وأخذ ماله كله ، الا ان يكون له الى جنب تلك الأرض
ـ أيضا ـ أرضون فلتؤخذ ويكون البيع لازما له ، وعليه الوفاء بتمام البيع ، فان لم
يكن له في ذلك المكان غير الذي باع ، فان شاء المشتري أخذ الأرض واسترجع فضل ماله
وان شاء رد الأرض وأخذ المال كله (1).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 361 حديث : 1 باب : 14.
وربما طعن في الخبر بضعف السند. وهو غير مرضى عندنا ولا
معتمد ، والرواية لا معارض لها ، وهي دالة على صحة القول الأول ، مع عدم وجود
الأرض للبائع ثمة ، فالعمل بها متعين.
وفي الكفاية نقل عن الشيخ ـ هنا ـ مع عدم وجود الأرض :
انه يتخير المشترى بين الأخذ بجميع الثمن والفسخ. قال : ومستنده رواية عمر بن
حنظلة عن الصادق عليهالسلام لكنها غير
نقية السند. وفيه : ان الرواية انما تدل على الأخذ بحصته من الثمن ، وهو ما يخص
المبيع كما هو القول الأول ، لا بجميع الثمن كما هو القول الثاني. والظاهر ان ما
ذكره سهو من قلمه.
التاسع : يختبر ما يراد
طعمه كالدبس ، أو ريحه كالمسك أو يوصف.
ويدل على ذلك : ما رواه الشيخ عن محمد بن العيص قال :
سألت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن رجل
اشترى ما يذاق ، يذوقه قبل ان يشترى؟ قال : نعم ، فليذقه ، ولا يذوقن ما لا يشترى (1). ورواه البرقي
في المحاسن مثله.
فلو اشتراه من غير اختيار أو وصف بناء على الأصل ـ وهو
الصحة ـ فالمشهور بين المتأخرين : الجواز مع العلم به من غير هذه الجهة ، كالقوام
واللون وغيرهما مما يختلف قيمته باختلافه.
وقيل : لا يجوز بيعه الا بالاختيار أو الوصف للغرر
المنهي عنه. وهو منقول عن الشيخين وسلار والتقى والقاضي وابن حمزة.
والأول مذهب المحقق والعلامة ومن تأخر عنهما.
ويرجح الأول : جواز البناء على الأصل احالة على مقتضى
الطبع ، فإنه أمر مضبوط عرفا لا يتغير غالبا الا لعيب ، فيجوز الاعتماد عليه ،
لارتفاع الغرر به كالاكتفاء برؤية ما يدل بعضه على باقيه غالبا كظاهر الصبرة ،
وينجبر النقص بالخيار ،
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 279 حديث : 1.
فان خرج معيبا تخير المشترى بين الرد
والأرش ان لم يتصرف فيه تصرفا زائدا على اختباره ، والا تعين الأرش لو تصرف كذلك ،
كما في غيره من أنواع المبيع. وان كان المشترى المتصرف أعمى ، لتناول الأدلة.
خلافا لسلار حيث خير الأعمى بين الرد والأرش وان تصرف.
واولى بالجواز من غير اختبار ما يؤدى اختباره الى فساده
كالجوز والبطيخ والبيض ، فان شراءه جائز مع جهالة ما في بطونه ، ويثبت للمشتري
الأرش بالاختبار مع العيب دون الرد. وفي بعض عبارات الأصحاب : جاز شراؤه بشرط
الصحة. وفي عبارة الشيخ وجماعة : بشرط الصحة أو البراءة من العيوب. والأول أجود.
ثم ان أطلق اقتضى الإطلاق الصحة ورجع بأرش العيب مع
ظهوره بعد الكسر لا الرد كما عرفت ، للتصرف.
وان شرط البائع البراءة من العيوب صح ولا خيار لو ظهر
معيبا. كذا أطلقه الجماعة.
قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : ويشكل فيما لو
ظهر كله معيبا ولم يكن لمكسوره قيمة كالبيض ، فان مقتضى الشرط رجوعه بالثمن كله
لعدم وجود ما يقابله ، وهو مناف لمقتضى العقد ، إذ لا شيء في مقابلة الثمن فيكون
أكلا للمال بالباطل فيتجه بطلان الشرط ، وقد نبه على هذا في الدروس. انتهى. وهو
جيد.
قالوا : ولو لم يكن لمكسوره قيمة كالبيض الفاسد رجع
بالثمن اجمع ، لبطلان البيع حيث لا يقابل الثمن مال.
وهل يكون العقد مفسوخا من أصله؟ نظرا الى عدم المالية من
حين العقد فيقع باطلا ابتداء ، أو يطرأ عليه لفسخ بعد الكسر وظهور الفساد ،
التفاتا الى حصول شرط الصحة حين العقد وانما تبين الفساد بالكسر ، وجهان بل قولان.
جزم في الدروس بالثاني وجعل الأول احتمالا. قال : ولو لم
يكن له قيمة بطل البيع
من حينه ويحتمل من أصله.
قال شيخنا الشهيد الثاني ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : وهو ظاهر
الجماعة ، ورجح الأول. قال : ورجحان الأول واضح ، لان ظهور الفساد كشف عن ظهور عدم
المالية في نفس الأمر حين البيع لا احداث عدمها حينه ، والصحة مبنية على الظاهر. انتهى.
والمسألة محل توقف. وفرعوا على القولين الكلام في مؤنة
النقل من الموضع الذي اشتراه فيه الى موضع الاختبار ، فعلى الأول على البائع ،
وعلى الثاني على المشترى لوقوعه في ملكه.
العاشر : المشهور
بينهم ـ من غير خلاف يعرف ـ : انه يجوز بيع المسك في فأره وان لم يفتق ، بناء على
أصل السلامة ، فإن ظهر بعد الفتق معيبا تخير المشترى ، كما هو القاعدة في كل معيب.
والفأر بالهمزة : الجلدة التي فيها المسك. قالوا : وفتقه بأن يدخل فيه خيط بإبرة
ثم يخرج فيشم.
والفأر في عبائرهم ـ كما في العبارة المذكورة ـ : جمع
فأرة كتمر وتمرة ، فهو في العبارة مضاف الى ضمير المسك ، وقد نص جملة من الأصحاب
على انه بالهمزة في المفرد والجمع. وفي مجمع البحرين : انه يهمز ولا يهمز. وهكذا
في فارة البيوت.
ولم أقف لهم في هذا الحكم على نص ، قال المحقق الأردبيلي
: قواعدهم تقتضي عدم جواز بيعه في الفأرة للجهالة ، لأنهم ما يجوزون في ظاهر
كلامهم بيع المشموم بالمشاهدة بل يوجبون الشم معها ، وقد جوزوا بيعه مع مشاهدة
الفأرة في المسك من دون مشاهدته وشمه. ولعله لإجماع ونص فهم ذلك من فحواه ، ويؤيده
عموم الأدلة التي أشرنا إليها غير مرة مع الأصل وعدم مانع ظاهر يصلح لذلك ، ووجود
العلم الجملة ، وعدم وجوب الاستقصاء مع عدم تفويت حق ، إذ لو كان معيبا تخير ،
وايضا قد يعلمه أهل الخبرة في الفأرة
، وهذا مؤيد لعدم اشتراط العلم في كثير مما سبق فتذكر ، ومؤيد أيضا لعدم نجاسة ما
ينفصل من الحي ، فإنها طاهرة عندهم بالإجماع ، مع أنها جلدة رماها الغزال فتأمل.
انتهى.
ولا وجه لهذه التأييدات مع عدم نص على الحكم المذكور كما
اعترف به ، بل الجميع من قبيل الدعاوي العارية عن الدليل ، وقد عرفت ان مقتضى
القاعدة المذكورة المتقدمة هو المشاهدة أو الوصف الرافع للجهالة ، والكيل والوزن
والعدد فيما كان من هذه الأقسام ، واستثناء بعض الافراد عن مقتضى القاعدة يحتاج
الى دليل. بل لو ورد الدليل في بعض الموارد لردوه كما في مسألة البيع بحكم المشتري
أو البائع أو أجنبي ، فإنهم قد ردوا الرواية المتقدمة الصحيحة الصريحة في جواز
البيع بحكم المشترى ، وهذا المحقق المذكور ممن وافقهم على ذلك كما تقدم في كلامه
في تلك المسألة ، فكيف مع عدم الدليل كما في هذه المسألة. ومجرد شهرة الحكم بينهم
لا يوجب التخصيص لتلك القاعدة.
على انه قد روى في التهذيب عن عبد الأعلى بن أعين ، قال
نبئت عن ابى جعفر عليهالسلام انه كره شراء
ما لم تره (1).
وروى في الخصال عن محمد بن سنان مسندا إلى ابى جعفر عليهالسلام انه كره بيعين
: اطرح وخذ من غير تقليب ، وشراء ما لم تر (2).
واستعمال الكراهة بمعنى التحريم في الاخبار كثير كثير
كما نبهنا عليه في غير موضع والخبران المذكوران مؤيدان لما ذكروه من القاعدة في
هذا المقام ، فالخروج عنها بغير دليل غير معقول ، الا ان يقال ـ كما قدمنا الإشارة
إليه ـ : انه لا ضابطة ولا قاعدة في ذلك ، بل المرجع الى النصوص فيما دلت عليه
جوازا ومنعا ، والحال انه لا نص
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 279 حديث : 1.
(2) المصدر حديث : 3.
في هذا المقام ، فالاحتياط بعدم جواز
البيع الا مع المعلومية بالفتق ـ كما ذكروه ـ واجب ، لاشتباه الحكم ، وان وقع في
كلامهم على جهة الاستحباب. والله العالم.
الحادي عشر : المشهور انه لا
يجوز بيع سمك الآجام مع ضميمة القصب أو غيره للجهالة ، ولو في بعض المبيع. ولا
اللبن في الضرع ـ وهو الثدي لكل ذي خف أو ظلف ـ لذلك وان ضم إليه شيئا ولو لبنا
محلوبا. قالوا : لأن ضميمة اللبن المعلوم الى المجهول تجعل المعلوم مجهولا ، فاما
عدم الجواز بدون الضميمة فموضع وفاق عندهم ، وانما الخلاف معها. فالمشهور ـ كما
عرفت ـ هو المنع. وقيل بالجواز.
والظاهر : ان محل الخلاف هو السمك المملوك المقدور قبضه
، فان غير المملوك ولا المقدور لا يجوز بيعه اتفاقا ، وايضا المراد به غير المحصور
ولا المشاهد ، والا فلو كان كذلك فإنه لا خلاف في جواز البيع ، كما صرح به بعضهم
في الموضعين.
ومنه يعلم ان محل الخلاف انما هو السمك المملوك المقدور
غير معلوم العدد ولا المشاهد مع الضميمة المعلومة. وقد ذهب الشيخ هنا الى الجواز
ايضا. كما ذهب الى الجواز في بيع اللبن في الضرع إذا ضم اليه لبن محلوب ، بل مع
الضميمة الى ما يوجد في مدة معلومة.
وفصل آخرون ـ والظاهر : انه المشهور بين المتأخرين ـ بأنه
ان كان المقصود بالبيع هو الضميمة المعلومة وجعل ما عداها تابعا صح البيع ، وان
عكس أو كانا مقصودين لم يصح ، وكذا القول في كل مجهول ضم اليه معلوم.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام : ما رواه الصدوق
في الفقيه والشيخ في التهذيب ، عن سماعة في الموثق ، قال : سألته عن اللبن يشترى
وهو في الضرع؟ فقال : لا ، الا ان يحلب لك منه أسكرجة فيقول : اشتر منى هذا اللبن
الذي في الاسكرجة وما بقي في ضرعها بثمن مسمى ، فان لم يكن في الضرع شيء كان ما
في
الاسكرجة (1). اى كان
المبيع ما في سكرجة. وأسكرجة ـ بضم الهمزة وسكون السين ، وضم الكاف ، والراء
المشددة ـ : إناء صغير فارسي معرب.
وهذه الرواية ـ كما ترى ـ ظاهرة فيما ذهب اليه الشيخ.
والأصحاب ردوها بضعف السند ، وهو عندنا غير معتمد. وظاهر هذه الرواية عدم اشتراط
الكيل والوزن في اللبن.
وما رواه في الكافي في الصحيح عن عيص بن القاسم ، قال :
سألت أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن رجل له
غنم يبيع ألبانها بغير كيل ، قال : نعم ، حتى تنقطع أو شيء منها (2).
قال المحدث الأسترآبادي ـ عطر الله مرقده ـ في حواشيه
على الكافي : قوله «يبيع ألبانها بغير كيل» يعنى اللبن في الضرع كالثمرة على
الشجرة ليس مما يكال عادة ، فهل يجوز بيعها بغير كيل؟ قال : نعم. لكن لا بد من
تعيين ذلك ، بأن يقال : الى انقطاع الألبان أو الى انفصال اللبن من الضرع ، فيوافق
الخبر الثاني. والله يعلم. انتهى.
وقال المحدث الكاشاني في الوافي ـ ذيل الخبر المذكور ـ :
اى يشترط ان ينقطع الألبان من الثدي ، أي تحلب اما كلها أو بعضها ، واما إذا كان
كلها في الثدي ولم يحلب شيء منها بعد فلا يجوز بيعها ويشبه ان يكون «حتى» تصحيف «متى».
أقول : ويأتي ـ على احتمال المحدث الأول ـ جواز بيعها في
ضروعها كالثمرة على النخلة. وظاهره صحة ذلك من غير ضميمة ، لكن لا بد من التقييد
بانقطاع الألبان ، ونحوها مما ذكره. وعلى كلام المحدث الثاني : جواز بيع ما في
الضروع مع انفصال بعضه كما دل عليه موثق سماعة ، وان الممنوع منه انما هو البيع ما
دام في الضرع
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 259 حديث : 2 باب : 8.
(2) المصدر حديث : 1 باب 8.
ولم يحلب منه شيء بالكلية فعلى كل من
الاحتمالين فالخبر دال على خلاف ما هو المشهور من عدم الجواز كذلك.
وكيف كان فظاهر هذا الخبر ـ ايضا ـ جواز بيع اللبن بغير
كيل ولا وزن.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن البزنطي عن بعض أصحابنا
عن ابى عبد الله عليهالسلام قال إذا كانت
أجمة ليس فيها قصب ، أخرج شيء من السمك ، فيباع وما في الأجمة (1).
وظاهر الخبر : انه لو كان فيها قصب فإنه لا يحتاج إلى
ضميمة أخرى زائدة على القصب وسمك الأجمة ، لان القصب معلوم بالمشاهدة.
وما رواه الشيخ في الموثق عن معاوية بن عمار عن ابى عبد
الله عليهالسلام قال : لا بأس
ان يشتري الآجام إذا كان فيها قصب (2). وهي كسابقتها بل أصرح.
وعن ابى بصير عن ابى عبد الله في شراء الأجمة ليس فيها
قصب انما هي ماء. قال : يصيد كفا من سمك ، فتقول : اشترى منك هذا السمك وما في
الأجمة بكذا وكذا (3).
والأصحاب أيضا ردوا هذه الروايات بضعف السند. قال في
المسالك ـ في مسألة بيع الآجام ـ : والقول بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ استنادا
الى اخبار ضعيفة ، ثم رجح ما اختاره المتأخرون من التفصيل الذي قدمنا نقله عنهم.
وقال ـ في مسألة بيع اللبن في الضرع ـ : جوزه الشيخ مع الضميمة ولو الى ما يوجد في
مدة معلومة استنادا إلى رواية ضعيفة ، والوجه المنع الا على التفصيل السابق.
أقول : العجب منهم في مسألة بيع المسك في فأره يجوزونه
مع الجهالة المطلقة
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 263 حديث : 2 باب : 12.
(2) المصدر ص 264 حديث : 5.
(3) المصدر حديث : 6.
وعدم المعلومية بوجه ، ويخرجون عن
مقتضى قاعدتهم المتقدمة من غير دليل ، ويمنعونه في هذا الموضع مع ورود الاخبار
بجوازه وقوفا على تلك القاعدة وتمسكا بها ، وردا للأخبار المذكورة لمخالفتها لها ،
مع حصول المعلومية في الجملة ، وتأيد هذه الاخبار في موضع الحاجة إليها ، وغض
النظر عن ضعفها.
وبالجملة فان الحق هنا ما ذهب اليه الشيخ فيما دلت عليه
هذه الاخبار ، والى ذلك يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، والفاضل
الخراساني في الكفاية.
الثاني عشر : المشهور انه
لا يجوز بيع الجلود والأصواف والاشعار على الانعام وان ضم اليه غيره أيضا ، لجهالة
مقداره. مع كون غير الجلود موزونا ، فلا يصح بيعه جزافا.
قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عنهم ـ : والأقوى جواز بيع
ما عدا الجلد منفردا أو منضما مع مشاهدته وان جهل وزنه ، لانه غير موزون كالثمرة
على الشجرة ، وان كان موزونا لو قلع كالثمرة. وفي بعض الاخبار دلالة عليه. انتهى.
وهو جيد.
والظاهر ان الرواية التي أشار إليها هي : ما رواه الصدوق
في الفقيه والشيخ في التهذيب عن إبراهيم الكرخي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : ما تقول في
رجل اشترى من رجل أصواف مأة نعجة وما في بطونها من حمل ، بكذا وكذا درهما؟ فقال : لا
بأس ان لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف (1).
والرواية ـ كما ترى ـ دالة على جواز بيع الصوف ونحوه من
الأوبار والأشعار على ظهر الدابة وحدها. وكذا صريحها يدل على ما قدمنا نقله عن المسالك
من الجواز هنا. لكن قيده بما إذا كان المقصود بالذات هو ما على الظهور ، وقوفا على
القاعدة التي قدمناها عنهم ، في ضم المعلوم الى المجهول.
وبذلك صرح ـ أيضا ـ في الكتاب المذكور ، حيث قال ـ بعد
قول المصنف
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 261 حديث : 1.
في تعداد مالا يجوز بيعه «وكذا الجلود
والأصواف والأوبار والشعر على الانعام ، ولو ضم اليه غيره ، وكذا ما في بطونها ،
وكذا لو ضمهما» ـ ما صورته : ضمير المثنى يعود الى النوعين السابقين ، وهما ما في
بطونها وما على ظهورها من الصوف الشعر والوبر ، والمراد : انه لا يصلح بيع كل واحد
منهما منفردا ولا منضما الى غيره ، ولا أحدهما منضما الى الآخر. وحيث عرفت ان بيع
ما على الظهور من المذكورات صحيح ، فيجوز ضم ما في البطن إليه إذا كان المقصود
بالذات هو ما على الظهر ، ما تقدم في القاعدة. انتهى.
وفيه : ان روايات الضمائم ـ على تعددها ـ لا أشعار فيها
بهذا التقييد الذي كروه ، من ان المقصود بالذات هو الضميمة خاصة. وغاية ما تدل
عليه هو : انه مع عدم حصول ذلك المجهول يصير الثمن في مقابلة الضميمة المعلومة.
واما كونها هي المقصودة بالبيع فلا. بل ربما أشعر ظاهرها : ان المقصود بالبيع انما
هو ذلك المبيع المضموم اليه ، وانما جعلت هذه الضميمة من قبيل الحيل الشرعية ،
لئلا يلزم أخذ الثمن بغير عوض يقابله ليخرج من باب البيع المبنى على المعاوضة.
وقال في الدروس : والأقرب جواز بيع الصوف والوبر والشعر
على ظهور الانعام منفردا إذا أريد جزه في الحال ، أو بشرط بقائه الى أو ان جزه.
وأنت خبير ـ بناء على ما حققناه كما دلت عليه الرواية
المتقدمة واختاره في المسالك ـ انه لا ثمرة لهذا الشرط ، إذ المبيع حينئذ مشاهد ،
والوزن غير معتبر فيه في تلك الحال ، فيجوز بيعه. واشتراط جزه لا مدخل له في الصحة
بوجه. فالأظهر عدم اشتراطه. وغاية ما يلزم : أنه ببقائه يمتزج بمال البائع وهو لا
يقتضي بطلان البيع ، إذ المرجع حينئذ إلى الصلح كما سيأتي مثله إنشاء الله في لقطة
الخضر.
ثم ان ظاهر عبارة المسالك المتقدمة ـ أولا ـ : هو عدم
جواز بيع الجلد على ظهر الحيوان مطلقا. وكأنه اتفاقي بينهم ، والا فما المانع من
بيعه مع الضميمة كما
في الاشعار والأوبار مع مشاهدة
الحيوان الذي عليه الجلد ، فالمشاهدة مشتركة بين الجلد من الاشعار ونحوها ، وعموم
الأدلة والاكتفاء بالمعلومية الجملية كما في غير موضع مما عرفت وستعرف يقتضي الصحة
كما لا يخفى.
ثم ان رواية الكرخي (1) المتقدمة قد دلت على جواز بيع الحمل
مع ضميمة الصوف كما عرفت ، والأصحاب قد صرحوا بالعدم إلا إذا ضم الحمل إلى الأم ،
وكانت الأم هي المقصودة بالبيع ، عملا بالقاعدة التي تقدم نقلها منهم.
قال العلامة ـ في التذكرة ـ : لو باع الحمل مع امه جاز
إجماعا ، سواء كان في الآدمي أو غيره. ثم قال ـ بعد هذا ـ : لو قال : بعتك هذه
الدابة وحملها لم يصبح عندنا ، لما تقدم ان الحمل لا يصلح مبيعا ولا جزء منه.
أقول : والأقرب هو الجواز مع الضميمة مطلقا للخبر
المتقدم المعتضد بما صرحوا به في غير موضع من الاكتفاء بمعلومية المبيع في الجملة
، ومنع الأصحاب من بيع الملاقيح ـ وهو : ما يلقحه الفحل وتحمله الناقة ـ منفردا أو
منضما ، وجهه ظاهر ، لانه معدوم ، ومن شرط المبيع ان يكون موجودا حال البيع.
ويمكن ان يستدل عليه بما رواه الشيخ في الحسن ـ بإبراهيم
بن هاشم ـ عن محمد بن قيس عن ابى جعفر عليهالسلام قال : لا تبع
راحلة عاجلة بعشر ملاقيح من أولاد جمل في قابل (2).
والتقريب فيها : البناء على عدم الفرق بين الشراء
والبيع.
وروى الصدوق في معاني الاخبار عن محمد بن هارون الزنجاني
عن على بن عبد العزيز عن القاسم بن سلام بإسناد متصل إلى النبي صلىاللهعليهوآله انه نهى عن
المجر ، وهو ان يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة. ونهى صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الملاقيح
والمضامين.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 261 حديث :.
(2) المصدر ص 262 حديث : 3.
فالملاقيح : ما في البطون ، وهي
الأجنة. والمضامين : ما في أصلاب الفحول وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما
يضرب الفحل في عامه وفي أعوامه. ونهى صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع حبل
الحبلة. ومعناه : ولد ذلك الجنين الذي في بطن الناقة ، أو هو نتاج النتاج ، وذلك
غرر. انتهى (1).
الثالث عشر : قالوا : إذا
كان المبيع في ظرف جاز وزنه وبيعه معه ، وان يندر (2) للظرف ما جرت
به العادة مما يحتمل كونه بذلك القدر أو أزيد قليلا أو انقص كذلك ، فلو علم يقينا
زيادة المسقط على وزنه لم يصح الا بتراضي المتبايعين ، لأن في ذلك تضييعا لمال
أحدهما ، بخلاف ما إذا كان برضاهما.
قيل : وكما لا يجوز وضع ما يزيد كذا ما ينقص لاشتراكهما
في المعنى.
قالوا : ويجوز بيعه مع الظرف بغير وضع ، بمعنى جعل
الموزون المجموع من الظرف والمظروف بسعر واحد ، ولا يضر جهل وزن كل واحد ، لأن
معرفة الجملة كافية كنظائره مما يباع منضما.
وقيل : لا يصح حتى يعلم مقدار كل واحد منهما منفردا ،
لأنهما في قوة مبيعين. ورد بأنه ضعيف.
أقول : والذي وقفت عليه هنا من الاخبار المتعلقة بهذا
الحكم : ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن حنان في الموثق ، قال : كنت جالسا
عند ابى عبد الله عليهالسلام فقال له معمر
الزيات : انا نشتري الزيت في زقاقه فيحسب لنا النقصان فيه لمكان الزقاق. فقال له :
ان كان يزيد وينقص فلا بأس ، وان كان يزيد ولا ينقص فلا تقربه (3).
وروى في التهذيب عن على بن أبي حمزة قال : سمعت معمر
الزيات يسأل أبا عبد الله عليهالسلام فقال : جعلت
فداك ، انى رجل أبيع الزيت ـ الى ان قال ـ : فإنه
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 262 حديث : 2.
(2) الإندار ـ بالدال المهملة ـ : الاسقاط.
(3) الوسائل ج 12 ص 273 حديث : 4.
يطرح لظروف السمن والزيت لكل ظرف كذا
وكذا رطلا ، فربما زاد وربما نقص. قال : إذا كان عن تراض منكم فلا بأس (1).
وروى محمد بن جعفر الحميري في قرب الاسناد عن عبد الله
بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام عن الرجل
يشترى المتاع وزنا في الناسية والجو التي ، فيقول : ادفع للناسية رطلا أو أكثر من
ذلك. أيحل ذلك البيع؟ قال : إذا لم يعلم وزن الناسية والجوالق فلا بأس إذا تراضيا (2).
ويستفاد من الخبر الأول : انه مع احتمال الزيادة
والنقصان في الظروف فإنه لا بأس لوقوع أحدهما موقع الآخر ، الا ان الخبر الثاني
قيده بالتراضي. وكذا ظاهر الخبر الثالث ، وهو أحوط. ودل الخبر الأول على انه ـ مع
معلومية الزيادة ـ فلا يجوز. وظاهر الخبر : المنع وان حصل التراضي. والأصحاب ـ كما
عرفت ـ جوزوه مع التراضي ، الا ان يحمل الخبر على ذلك ، لان المدار في البيع على
التراضي ، الا ان يمنع عنه مانع من خارج في مواضع مخصوصة منصوصة.
ثم ان ما قيل من قياس النقيصة على الزيادة في عدم الجواز
الا مع التراضي ـ كما تقدم نقله ـ يمكن الخدشة فيه بان المراد من كلامهم المنقول ـ
أولا ـ ان إندار المحتمل لا يحتاج إلى المراضاة ، وانما المحتاج إليها ما يزيد.
ولعل الوجه : انه يجوز ذلك للمشتري لقلة التفاوت لو كان التسامح بمثله بين الناس
غالبا ، مع انه غير معلوم فيحمل على الغالب مع عدم اليقين. ولا يجوز له إندار
الزيادة إلا مع رضاء البائع ، وحينئذ فلا يرد اشتراط ذلك في النقصان.
وبالجملة فإن الإندار انما هو حق المشترى ، لأنه قد
اشترى ـ مثلا ـ مأة من من السمن في هذه الظروف ، فالواجب دفع قيمة المأة المذكورة
، وله إسقاط ما يقابل
__________________
(1) المصدر ص 272 حديث : 1 باب : 20.
(2) المصدر ص 273 حديث : 3.
الظروف من هذا الوزن المذكور ، فمتى
كانت الظروف فيها ما يزيد وينقص حمل زيادتها على نقيصتها ـ كما تقدم في الاخبار ـ وأسقط
ذلك ، إذ فيها ما يحتمل الزيادة والنقيصة قليلا بحيث جرت العادة بالتسامح في مثله
، فان له إسقاطه. اما لو كان معلوم الزيادة فليس له الإسقاط إلا برضاء البائع
لدخول النقص عليه بذلك ، واما معلوم النقيصة فإن البائع لا يندره ويدخل على نفسه
الضرر بالنقصان. وبذلك يظهر لك ان قياس أحدهما على الآخر ليس في محله. والله
العالم.
وأما ما ذكروه من أنه يجوز بيعه مع الظروف من غير وضع ،
فإنه وان جاز من حيث عدم ضرر الجهل بكل منهما على حدة ، لأن معرفة الجملة كافية
كما ذكروه الا أنه يستلزم كون قيمة الظرف قيمة المظروف ، والغالب التفاوت ، وربما
يكون فاحشا ، فيلزم الضرر بالمشتري. فالواجب تقييده برضاء المشترى ، كما قيدوا به
في صورة زيادة الظرف يقينا. والحكم المذكور غير منصوص ليتبع فيه إطلاق النص ، الا
ان يقال : ان إطلاق كلامهم يحمل على ذلك.
* * *
الى هنا تم الجزء الثامن عشر حسب تجزئتنا. وبه يكتمل أحكام المكاسب والبيوع. ويبتدئ الجزء التالي (19) بأحكام الخيارات.
ونسأل الله التوفيق في إكمال هذه الموسوعة الجليلة التي يفخر بها فقه الإمامية على طول الزمان. والله ولى التوفيق
17 ربيع الأخر - 1397 هج