ج6 - أحكام القبلة

المقدمة الرابعة

في القبلة

وفيها بحوث (الأول) في الماهية وما يتبعها ، قيل : القبلة لغة الحالة التي عليها الإنسان حال استقباله الشي‌ء ثم نقلت في العرف الى ما يجب استقبال عينه أو جهته في الصلاة.

والمراد هنا بالقبلة الكعبة المعظمة بالضرورة من الدين وان وقع الخلاف ـ كما سيأتي ـ بالنسبة إلى البعيد عنها في الجهة والمسجد والحرم الا ان ذلك راجع إليها بطريق الآخرة ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة ، فروى في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته هل كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي الى بيت المقدس؟ قال نعم. فقلت أكان يجعل الكعبة خلف ظهره؟ فقال اما إذا كان بمكة فلا واما إذا هاجر الى المدينة فنعم حتى حول الى الكعبة».

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي بإسناده إلى الصادق (عليه‌السلام) (2) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى بمكة إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة وبعد هجرته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى بالمدينة سبعة أشهر ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة ، وذلك ان اليهود كانوا يعيرون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ويقولون له أنت

__________________

(1) الوسائل الباب 2 من القبلة.

(2) مستدرك الوسائل الباب 2 من القبلة.


تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من ذلك غما شديدا وخرج في جوف الليل ينظر إلى أفاق السماء ينتظر من الله تعالى في ذلك امرا فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرئيل فأخذ بعضديه وحوله إلى الكعبة وانزل عليه «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (1) فصلى ركعتين الى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة».

وقال الصدوق في الفقيه (2) : صلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة وتسعة عشر شهرا بالمدينة ثم عيرته اليهود فقالوا له انك تابع قبلتنا فاغتم لذلك غما شديدا فلما كان في بعض الليل خرج (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقلب وجهه في آفاق السماء فلما أصبح صلى الغداة فلما صلى من الظهر ركعتين جاءه جبرئيل فقال له «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ... الآية» (3) ثم أخذ بيد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فحول وجهه إلى الكعبة وحول من خلفه وجوههم حتى قام الرجال مقام النساء والنساء مقام الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة وبلغ الخبر مسجدا بالمدينة وقد صلى اهله من العصر ركعتين فحولوا نحو القبلة فكانت أول صلاتهم الى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين ، فقال المسلمون صلاتنا الى بيت المقدس تضييع يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فانزل الله عزوجل «وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ» (4) يعني صلاتكم الى بيت المقدس. قال في الفقيه قد أخرجت الخبر في ذلك على وجهه في كتاب النبوة.

أقول : وربما يتسارع الى الناظر المنافاة بين هذه الأخبار بالنسبة إلى صلاة النبي

__________________

(1 و 3) سورة البقرة ، الآية 139.

(2) الوسائل الباب 2 من القبلة.

(4) سورة البقرة ، الآية 138.


(صلى‌الله‌عليه‌وآله) في مكة فإن الخبر الأول دال انه يستقبل الكعبة والخبران الأخيران على انه يستقبل بيت المقدس (1) ووجه الجمع بينهما ممكن بجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس فيصلي إليهما معا فلا منافاة.

وروى الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال «سألته عن قول الله تعالى «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ» (3) امره به؟ قال نعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يقلب وجهه في السماء فعلم الله عزوجل ما في نفسه فقال قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» (4).

وروى الشيخ في التهذيب عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) قال : «قلت له متى صرف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إلى الكعبة؟ قال بعد رجوعه من بدر».

وعن ابي بصير عن أحدهما (عليهما‌السلام) (6) في حديث قال : «قلت له الله أمره ان يصلي الى بيت المقدس؟ قال نعم ألا ترى ان الله تعالى يقول «وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ... الآية» (7) ثم قال ان بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا ركعتين الى بيت المقدس فقيل لهم ان نبيكم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قد صرف إلى الكعبة فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء

__________________

(1) فيه انه غفلة واضحة إذ ليس في الخبر الأول انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يستقبل الكعبة بل هو صريح في انه ما كان يستقبلها بل انما يدل على انه ما كان يجعل الكعبة خلفه في مكة وهو غير الصلاة إليها كما لا يخفى فلا تعارض بين الاخبار أصلا. مير سيد على (قدس‌سره).

(2) الوسائل الباب 1 من القبلة.

(3 و 7) سورة البقرة ، الآية 138.

(4) سورة البقرة ، الآية 139.

(5 و 6) الوسائل الباب 2 من القبلة.


وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة فصلوا صلاة واحدة إلى قبلتين فلذلك سمى مسجدهم مسجد القبلتين». الى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عنها المقام.

واما ما يدل على وجوب التوجه نحوها زيادة على اتفاق المسلمين بل الضرورة من الدين ، فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الفرض في الصلاة؟ فقال الوقت والطهور والقبلة والتوجه والركوع والسجود والدعاء. قلت ما سوى ذلك؟ فقال سنة في فريضة».

وروى في الفقيه مرسلا (2) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) لزرارة : لا تعاد الصلاة إلا من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود».

وروى الشيخ في التهذيب عن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن قول الله تعالى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» (4) قال أمره أن يقيم وجهه للقبلة ليس فيه شي‌ء من عبادة الأوثان خالصا مخلصا».

وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح في الكافي والتهذيب عن زرارة عن ابي جعفر ومرسلا في الفقيه عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (5) قال : «إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك فان الله تعالى قال لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في الفريضة «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (6) واخشع ببصرك ولا ترفعه الى السماء وليكن حذاء وجهك في موضع سجودك».

وروى الصدوق في الفقيه في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (7) قال : «لا صلاة إلا الى القبلة. قال قلت اين حد القبلة؟ قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله. قال قلت فمن صلى لغير القبلة أو في يوم غيم في غير الوقت؟ قال يعيد».

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما يجب

__________________

(1 و 3) الوسائل الباب 1 من القبلة.

(2 و 5 و 7) الوسائل الباب 9 من القبلة.

(4) سورة الروم ، الآية 29.

(6) سورة البقرة ، الآية 139.


استقباله فذهب المرتضى وابن الجنيد وأبو الصلاح وابن إدريس والمحقق في المعتبر والنافع والعلامة وأكثر المتأخرين إلى انه عين الكعبة لمن تمكن من العلم بها من غير مشقة شديدة عادة كالمصلي في بيوت مكة وجهتها لغيره من البعيد ونحوه ، واختاره في المدارك. وذهب الشيخان وجمع من الأصحاب : منهم ـ سلار وابن البراج وابن حمزة والمحقق في الشرائع إلى ان الكعبة قبلة لمن كان في المسجد والمسجد قبلة لمن كان في الحرم والحرم قبلة لأهل الدنيا ممن بعد ، ورواه الصدوق في الفقيه (1) ونسبه في الذكرى الى أكثر الأصحاب ، ونسبه في المختلف الى ابن زهرة أيضا ولعله في غير كتابه الغنية فإن بعض الأصحاب نقل عنه في الكتاب المذكور انه قال : القبلة هي الكعبة فمن كان مشاهدا لها وجب عليه التوجه إليها ومن شاهد المسجد الحرام ولم يشاهد الكعبة وجب عليه التوجه اليه ومن لم يشاهده توجه نحوه بلا خلاف. انتهى. وهذه العبارة كما ترى عارية عن ذكر الحرم وانه قبلة لمن نأى عنه كما صرح به أصحاب القول الثاني.

قيل : والظاهر انه لا خلاف بين الفريقين في وجوب التوجه إلى الكعبة للمشاهد ومن هو بحكمه وان كان خارج المسجد فقد صرح به من أصحاب القول الثاني الشيخ في المبسوط وابن حمزة في الوسيلة وابن زهرة في الغنية ونقل المحقق الإجماع عليه لكن ظاهر كلام الشيخ في النهاية والخلاف يخالف ذلك.

أقول : غاية ما يمكن القطع به هنا في اجتماع القولين بالنسبة إلى المشاهد خاصة وإلا فمن بحكمه كالمصلي في بيوت مكة وفي الحرم مع عدم المشاهدة فإن ظاهر أصحاب القول الأول ان القبلة في حقه هي الكعبة وظاهر أصحاب القول الثاني انما هو المسجد.

واستدل في المعتبر على وجوب استقبال العين للقريب بإجماع العلماء كافة على ذلك. وقال في المدارك بعد نقل ذلك : فان تم فهو الحجة وإلا أمكن المناقشة في ذلك إذ الآية الشريفة انما تدل على استقبال شطر المسجد الحرام والروايات خالية من هذا

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 3 من القبلة.


التفصيل. انتهى. وهو جيد إذ لم نقف في شي‌ء من الاخبار المستدل بها على القول الأول كما سيأتيك ان شاء الله تعالى على التفصيل بين القريب والبعيد بالعين والجهة كما ذكروا ، بل ظاهر الآية هو استقبال شطر المسجد الحرام يعني جهته مطلقا. وهذا أحد الوجوه التي يمكن تطرق الضعف بها الى القول الأول.

واستدل في المدارك للقول الأول بالنسبة إلى البعيد بما رواه زرارة في الصحيح عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) انه قال : «لا صلاة إلا الى القبلة. قلت له اين حد القبلة؟ قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله».

أقول : ويقرب من هذه الرواية ما رواه معاوية بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «في الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟ قال قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة».

أقول : لا يخفى ما في الاستدلال بهاتين الروايتين من الإشكال فإن القول باتساع الجهة بهذا المقدار مما لم يذهب إليه أحد في ما اعلم. نعم صرحوا بذلك بالنسبة الى من أخطأ ظنه في القبلة أو جهل القبلة فظهرت صلاته بعد الفراغ في ما بين المشرق والمغرب فإنه لا اعادة عليه.

واستدل في الذخيرة لذلك أيضا بالأخبار المتقدمة في صدر المبحث كخبر علي ابن إبراهيم وما ذكره في الفقيه وصحيحة الحلبي أو حسنته ونحوها مما دل على انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى إلى الكعبة وليس المراد العين البتة فيحمل على جهتها كما هو المدعى وفيه ان الآية التي أوردوها دليلا على الحكم المذكور في أكثر هذه الاخبار انما تضمنت الأمر بالصلاة شطر المسجد الحرام اي جهته وناحيته ووجه الجمع يقتضي حمل الكعبة على جهة المسجد الحرام تجوزا لأن الآية إنما دلت على جهة المسجد لا جهة الكعبة وأحدهما غير الآخر ، وحينئذ فلا دلالة في الاخبار المذكورة على ما ادعوه.

__________________

(1) الوسائل الباب 9 من القبلة.

(2) الوسائل الباب 10 من القبلة.


اللهم الا ان يقال ان هذه الإطلاقات إنما خرجت بناء على اتساع جهة القبلة كما سيظهر ان شاء الله تعالى. واحتمل بعض الأصحاب حمل المسجد على الكعبة التي هي أشرف اجزائه. واحتمل بعض آخر خروج هذه الاخبار مخرج المسامحة في التأدية من حيث كون الكعبة قبلة عند جمهور العامة (1) قال فلعله (عليه‌السلام) سامح في التأدية لئلا يخالف ظاهر الكلام مذهب جمهور العامة فإنه أقرب الى الاحتياط والتقية. والظاهر ـ كما ذكره بعض محققي متأخري المتأخرين ـ ان الآية لا دلالة لها على شي‌ء من القولين المذكورين.

والذي يدل على ما ذهب اليه الشيخان وأتباعهما جملة من الاخبار :

منها ـ ما رواه الشيخ عن عبد الله بن محمد الحجال عن بعض رجاله عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) والصدوق في الفقيه مرسلا عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «ان الله تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا». ورواه الصدوق في كتاب العلل عن أبيه عن محمد بن يحيى عن محمد بن احمد بن يحيى عن الحسن بن الحسين عن الحجال. الى آخره (3).

وعن بشر بن جعفر الجعفي أبي الوليد (4) قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) يقول البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة للناس جميعا». ورواه الصدوق أيضا في كتاب العلل بالسند المتقدم.

وما رواه الصدوق في كتاب العلل عن محمد بن الحسين عن الصفار عن العباس ابن معروف عن علي بن مهزيار عن الحسين بن سعيد عن إبراهيم بن ابي البلاد عن ابي غرة (5) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) البيت قبلة المسجد والمسجد قبلة مكة ومكة قبلة الحرم والحرم قبلة الدنيا».

__________________

(1) المغني ج 1 ص 439.

(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 3 من القبلة.


ومما يؤيد هذه الاخبار بأوضح تأييد الأخبار الدالة على الأمر بالتياسر فان ذلك مبني على التوجه الى الحرم وستأتي ان شاء الله تعالى في موضعها.

واما ما أوردوه على هذا القول ـ من ان التكليف بإصابة الحرم يستلزم بطلان صلاة أهل البلاد المتسعة بعلامة واحدة للقطع بخروج بعضهم عن الحرم واللازم باطل فالملزوم مثله والملازمة ظاهرة ، مع ان المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى صرحا بان قبلة أهل العراق وخراسان واحدة ومعلوم زيادة التفاوت ـ فالجواب عنه ما افاده شيخنا الشهيد في هذا المقام وتلقاه بالقبول جملة من الاعلام من ان ذكر المسجد والحرم إشارة إلى الجهة ، قال وذكره على سبيل التقريب الى افهام المكلفين وإظهارا لسعة الجهة وان لم يكن ملتزما. انتهى. وهو جيد وجيه ، كما ان ذكر الكعبة في تلك الأخبار التي قدمنا نقلها عنهم في وجوب الاستقبال إلى الكعبة لا بد من حملها على الجهة كما قدمنا ذكره وإلا لبطلت صلاة الصف الطويل الذي يخرج عن سمت الكعبة.

واما ما طعن به في المعتبر والمدارك من ضعف الاخبار فقد رده شيخنا الشهيد في الذكرى بناء على اصطلاحهم المعمول عندهم بأنه إذا اشتهرت بين الأصحاب لا سبيل الى ردها. هذا على تقدير صحة اصطلاحهم وإلا فالأمر مفروغ منه عندنا كما عرفت. في غير موضع.

وكيف كان فإنه ينبغي ان يعلم ان النزاع بالنسبة إلى البعيد ـ بان يكون قبلته جهة الكعبة كما هو أحد القولين أو الحرم أو جهته بناء على التأويل المذكور ـ قليل الجدوى لاتفاقهم جميعا على رجوع البعيد إلى الأمارات الآتي ذكرها ووجوب عمله عليها ، وحينئذ فلا ثمرة في هذا الاختلاف كما لا يخفى.

ثم انهم اختلفوا في تعريف الجهة على أقوال عديدة قد أطال فيها الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام شيخنا الشهيد الثاني في روض الجنان وجعل أقربها ما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى حيث عرفها بأنها السمت التي يظن كون الكعبة فيه لا مطلق


الجهة كما قال بعض العامة ان الجنوب قبلة لأهل الشمال وبالعكس والمغرب قبلة لأهل المشرق وبالعكس لأنا نتيقن الخروج هنا عن القبلة وهو ممتنع. أقول وهذا الاختلاف ايضا هنا قليل الجدوى لما عرفت من انهم قد أوجبوا على البعيد الرجوع الى العلامات التي ذكرها علماء أهل الهيئة والتوجه الى السمت الذي تدل عليه فكان الاولى تعريف الجهة بها.

وينبغي التنبيه هنا على أمور بها يتم البحث عن تحقيق المسألة كما هو حقها :

(الأول) قد صرح غير واحد من الأصحاب بل ظاهر كلام المعتبر المتقدم الإجماع على ذلك بأنه يجب على المكي لتمكنه من مشاهدة عين الكعبة الصلاة إليها ولو بالصعود على سطح لقدرته على العلم فلا يجوز له البناء على الظن ، ولو نصب محرابا بعد المعاينة جازت صلاته إليه دائما لتيقنه الصواب ، وكذا الذي نشأ بمكة وتيقن الإصابة ، ولا يكفى الاجتهاد بالعلامات هنا لانه رجوع الى الظن مع إمكان العلم وهو غير جائز. نعم لو كان محبوسا لا قدرة له على استعلام العين جاز له التعويل على الاجتهاد وكذا من هو في نواحي الحرم ، وهل يكلف الصعود الى الجبل لاستعلام العين؟ قولان نقل عن الشيخ والعلامة في بعض كتبهما ذلك. قال في المدارك بعد اختيار القول الآخر : وهو بعيد.

أقول : لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما تقدم انه لا دليل في أصل هذه المسألة إلا ما يدعونه من الإجماع وإلا فالآية إنما دلت على شطر المسجد مطلقا كما تقدم ، والاخبار لا تعرض فيها لذلك بوجه وان كان الاحتياط في ما ذكروه (رضوان الله عليهم) إلا ان في سقوط صعود الجبل كما هو أحد القولين في المسألة كما عرفت نظرا واستبعاد صاحب المدارك لا يخلو من بعد لما اتفقوا عليه من عدم جواز البناء على الظن إلا مع تعذر العلم والعلم بذلك ممكن بصعود الجبل ، فكيف يجوز له ان يصير الى الظن والحال ما ذكرنا؟ الا ان يدعى استلزام المشقة بذلك لكن إطلاق كلامهم يقتضي العموم ، وهو غير جيد.


(الثاني) ـ ينبغي ان يعلم ان القبلة ليس نفس البنية الشريفة بل محلها من تخوم الأرض إلى عنان السماء ، فلو زالت البنية ـ والعياذ بالله ـ صلى الى جهتها التي تشتمل على العين كما يصلي من هو أعلى من الكعبة إلى الجهة المسامتة للبنية وكذا من هو اخفض من موضعها بان يكون في سراداب ، والظاهر انه لا خلاف فيه ، ويدل عليه مضافا الى الاتفاق ما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سأله رجل قال صليت فوق جبل ابي قبيس العصر فهل يجزئ ذلك والكعبة تحتي؟ قال نعم انها قبلة من موضعها الى السماء». وعن خالد بن أبي إسماعيل أو ابن إسماعيل (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل يصلي على ابي قبيس مستقبل القبلة؟ قال لا بأس».

(الثالث) ـ لو صلى على سطح الكعبة فهل يصلي قائما ويبرز بين يديه منها شيئا يصلي اليه أو يستلقي على قفاه ويصلي؟ قولان المشهور الأول وبه قال الشيخ في المبسوط وقال في الخلاف والنهاية وابن بابويه وابن البراج بالثاني لكن قيده ابن البراج بعدم التمكن من النزول. واستند الأولون في وجوب الصلاة قياما إلى الأدلة الدالة على وجوب القيام والقعود والركوع والسجود في الصلاة كما يصلى داخلها. واحتج الشيخ في الخلاف على ما ذهب إليه بالإجماع وبما رواه عن علي بن محمد عن إسحاق بن محمد عن عبد السلام عن الرضا (عليه‌السلام) (3) قال : «في الذي تدركه الصلاة وهو فوق الكعبة؟ قال ان قام لم يكن له قبلة ولكن يستلقي على قفاه ويفتح عينيه الى السماء ويعقد بقلبه القبلة التي في السماء البيت المعمور ويقرأ فإذا أراد ان يركع غمض عينيه وإذا أراد ان يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه والسجود على نحو ذلك».

أقول : لا ريب ان من يعمل على هذا الاصطلاح المحدث فإنه يتحتم عنده القول بالأول لضعف الخبر المذكور واما من لا يعمل عليه فيبقى عنده التعارض بين تلك الأخبار

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 18 من القبلة.

(3) الوسائل الباب 19 من القبلة.


المشار إليها في الإتيان بواجبات الصلاة كما هي وبين هذا الخبر والترجيح لتلك الاخبار لكثرتها وشهرتها ، والظاهر انه لما ذكرنا ذهب الأكثر حتى من المتقدمين الى القول الأول. إلا انه يمكن ان يقال ان تلك مطلقة عامة وهذا الخبر خاص ومن القاعدة تقديم العمل به وتخصيص عموم تلك الاخبار به. وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال إلا أن الأمر في ذلك هين لعدم اتفاق هذا الحكم وحصوله.

(الرابع) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز صلاة النافلة في جوف الكعبة وكذا الفريضة حال الاضطرار وادعى عليه في المعتبر والمنتهى اتفاق أهل العلم.

وانما الخلاف في الفريضة مع الاختيار فذهب الأكثر ومنهم الشيخ في النهاية والاستبصار إلى الجواز على كراهة ، وذهب في الخلاف الى التحريم وتبعه ابن البراج.

احتج المجوزون بأن القبلة ليس مجموع البنية بل نفس العرصة وكل جزء من أجزائها إذ لا يمكن محاذاة المصلي بإزائها منه إلا قدر بدنة والباقي خارج عن مقابلته ، وهذا المعنى يتحقق مع الصلاة فيها كما يتحقق مع الصلاة في خارجها.

وما رواه يونس بن يعقوب في الموثق (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) إذا حضرت الصلاة المكتوبة وانا في الكعبة أفأصلي فيها؟ قال صل».

ويعضده قوله سبحانه «وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» (2) فان الظاهر منها تعميم الاذن والترخيص في اجزاء البيت بأسرها.

أقول : ويمكن ان يجاب عن ذلك (اما عن الأول) فبما ذكره في الذخيرة من انه يجوز ان يكون المعتبر التوجه إلى جهة القبلة بأن تكون الكعبة في جهة مقابلة للمصلي وان لم تحصل المحاذاة لكل جزء منها لا بد لنفي ذلك من دليل. و (اما عن الموثقة المذكورة)

__________________

(1) الوسائل الباب 17 من القبلة.

(2) سورة البقرة ، الآية 116.


فبالمعارضة بما هو أصح منها كما سيأتي. و (اما عن الآية) فبتخصيصها بالخبرين الصحيحين الصريحين في المنع.

احتج الشيخ (قدس‌سره) على ما ذهب اليه من التحريم بإجماع الفرقة ، وبان القبلة هي الكعبة لمن شاهدها فتكون القبلة جملتها والمصلي في وسطها غير مستقبل للجملة ، وبما رواه في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا تصل المكتوبة في جوف الكعبة فإن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لم يدخلها في حج ولا عمرة ولكن دخلها في فتح مكة فصلى فيها ركعتين بين العمودين ومعه أسامة». وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) قال : «لا تصل المكتوبة في الكعبة». ورواه في الكافي في الصحيح ايضا (3) ثم قال : وقد روى في حديث آخر «يصلى الى أربع جوانبها إذا اضطر الى ذلك». وروى الشيخ هذه الصحيحة في موضع آخر في الموثق عن محمد عن أحدهما (عليهما‌السلام) (4) قال : «لا تصلح صلاة المكتوبة جوف الكعبة». وفي موضع ثالث في الصحيح ايضا مثله (5) وزاد «واما إذا خاف فوت الصلاة فلا بأس ان يصليها في جوف الكعبة».

قال في المدارك بعد نقل هذه الأدلة : وأجيب عن الأول بمنع الإجماع على التحريم كيف وهو في أكثر كتبه قائل بالكراهة. وعن الثاني بعدم تسليم كون القبلة هي الجملة لاستحالة استقبالهما بأجمعها بل المعتبر التوجه الى جزء من اجزاء الكعبة بحيث يكون مستقبلا ببدنه ذلك الجزء. وعن الروايتين بالحمل على الكراهة. ثم قال ويمكن المناقشة في هذا الحمل بقصور الرواية الأولى عن مقاومة هذين الخبرين من حيث السند ، ويشكل الخروج بها عن ظاهرهما وان كان الأقرب ذلك لاعتبار سند الرواية وشيوع استعمال النهي في الكراهة بل ظهور لفظ «لا يصلح» فيه كما لا يخفى. انتهى.

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 17 من القبلة.

(5) التهذيب ج 1 ص 516 باب دخول الكعبة.


أقول : فيه (أولا) ان ما أجاب به عن الوجه الثاني ـ من ان المعتبر التوجه الى جزء من اجزاء الكعبة. الى آخره ـ مما لا دليل عليه وانما المعتبر ما دلت عليه ظواهر الأدلة من التوجه إلى جهة الكعبة ، نعم اللازم من ذلك محاذاة البدن لجزء من اجزاء تلك الجملة وأحدهما غير الآخر. وبالجملة فهو يرجع الى ما تقدم ذكره في كلام صاحب الذخيرة.

و (ثانيا) ـ انه من العجب العجاب عدوله هنا عن طريقته التي جرى عليها في هذا الكتاب كما لا يخفى على من له انس بكلامه في جميع الأبواب ، فإن من قاعدته دورانه مدار الأسانيد الصحيحة كما صرحنا به في غير موضع عنه وان كانت متون تلك الأخبار مشتملة على علل عديدة ، ومن قاعدته رد الأخبار الموثقة وعدها في سلك الأخبار الضعيفة ، فكيف خرج عن ذلك هنا متعللا بهذه التعليلات الضعيفة والحجج السخيفة؟

واما قوله في الرجوع عما ذكره من المناقشة «أن سند الرواية المذكورة معتبر» ان أريد بخصوص هذه الرواية فلا وجه له فان في سندها الحسن بن علي بن فضال ويونس ابن يعقوب وهما من ثقات الفطحية ولا خصوصية للعمل برواية هذين دون غيرهما من ثقات الفطحية ، فإن عمل بالأخبار الموثقة فليكن في كل مقام وإلا فلا وجه لهذا الكلام المنحل الزمام.

واما تعلله بشيوع النهي في الكراهة فهو وارد عليه في جميع المقامات التي استدل فيها على الوجوب بلفظ الأمر فلا معنى للطعن به في هذا المقام خاصة ، ومقتضى التحقيق الذي صرح به هو وغيره في الأصول والفروع ان الأمر حقيقة في الوجوب ولا يخرج عنه إلا بقرينة ، على ان شيوع النهي في الكراهة ان كان مع القرائن الحالية أو المقالية الدالة على ذلك فهو لا ينفعه وإلا فهو محل المنع ايضا.

واما ما اعتضد به من ظهور لفظ «لا يصلح» في الكراهة فهو مبني على نقله الرواية بذلك في كتابه كما هو في أحد طرق الخبر المذكور ، ونحن قدمنا لك الخبر بجميع


طرقه ، والطريق الأول بنقل الشيخين المتقدمين مع صحة الخبر قد اشتمل على النهي الذي هو حقيقة في التحريم مثل الخبر الأول فلا وجه لما ذكره.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه وهو ان ظاهر كلمة الأصحاب هنا الاتفاق على ان الصلاة في جوف الكعبة انما هو باستقبال اي جدرانها شاء مع انه قد روى الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن عبد الله بن مروان (1) قال : «رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل إذا حضرته صلاة الفريضة وهو في الكعبة فلم يمكنه الخروج من الكعبة استلقى على قفاه وصلى إيماء وذكر قول الله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (2). وأنت خبير بأن موثقة يونس الدالة على الجواز مطلقة وتقييدها بهذه الرواية ممكن إلا اني لم أقف على قائل بذلك هنا وان قيل به في الصلاة مستلقيا على ظهر الكعبة كما تقدم. والصدوق (قدس‌سره) في الفقيه مع تصريحه بالصلاة مستلقيا على ظهر الكعبة صرح في الصلاة في جوفها بما ذكره الأصحاب من استقبال اي جدرانها شاء واستحباب استقبال الركن الذي فيه الحجر. ولعله لنص وصل اليه ولم يصل إلينا. والله العالم.

(الخامس) ـ قد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ شيخنا في الذكرى بأنه لو استطال صف المأمومين مع المشاهدة حتى خرج عن الكعبة بطلت صلاة الخارج لعدم اجزاء الجهة هنا ، ولو استداروا صح للإجماع عليه عملا في كل الأعصار السالفة ، نعم يشترط ان لا يكون المأموم أقرب الى الكعبة من الامام. انتهى. ولا بأس به.

(السادس) ـ قال في الذكرى : ظاهر كلام الأصحاب ان الحجر من الكعبة بأسره وقد دل عليه النقل انه كان منها في زمن إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام) الى ان بنت قريش الكعبة فأعوزتهم الآلات فاختصروها بحذفه وكان كذلك في عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ونقل عنه الاهتمام بإدخاله في بناء الكعبة وبذلك احتج ابن

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 17 من القبلة.

(2) سورة البقرة ، الآية 109.


الزبير حيث ادخله فيها ثم أخرجه الحجاج بعده ورده الى ما كان ، ولان الطواف يجب خارجه. وللعامة خلاف في كونه من الكعبة بأجمعه أو بعضه أو ليس منها وفي الطواف خارجه (1) وبعض الأصحاب له فيه كلام ايضا مع إجماعنا على وجوب إدخاله في الطواف وانما تظهر الفائدة في جواز استقباله في الصلاة بمجرده فعلى القطع بأنه من الكعبة يصح وإلا امتنع لانه عدول من اليقين الى الظن. انتهى. وقال في الدروس : ان المشهور كونه من البيت ولا يخلو من غرابة.

ونقل في المدارك عن العلامة في النهاية انه جزم بجواز استقباله. وهو أغرب لما ورد في النصوص من انه ليس من البيت حتى ان في بعضها «ولا قلامة ظفر» فمنها ما رواه في الكافي في الصحيح عن معاوية بن عمار (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحجر أمن البيت هو أو فيه شي‌ء من البيت؟ فقال لا ولا قلامة ظفر ولكن إسماعيل دفن فيه امه فكره أن يوطأ فحجر عليه حجرا وفيه قبور أنبياء». وعن زرارة في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الحجر هل فيه شي‌ء من البيت؟ قال لا ولا قلامة ظفر». وروى في كتاب من لا يحضره الفقيه مرسلا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) (4) قال : «صار الناس يطوفون حول الحجر ولا يطوفون به لأن أم إسماعيل دفنت في الحجر ففيه قبرها فطيف كذلك لئلا يوطأ قبرها». قال : وروى ان فيه قبور الأنبياء (عليهم‌السلام) وما في الحجر شي‌ء من البيت ولا قلامة ظفر.

واما ما ذكره في الذكرى من النقل الذي دل على ان الحجر كان من البيت في زمن إبراهيم وإسماعيل (عليهما‌السلام). الى آخره فلم نقف عليه في أخبارنا وبه اعترف جملة من علمائنا ، إلا أن العلامة في التذكرة نقل ان البيت كان

__________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 634 الى 639 وبدائع الصنائع ج 2 ص 132.

(2 و 4) رواه في الوسائل في الباب 30 من الطواف.

(3) رواه في الوسائل في الباب 54 من أحكام المساجد.


لاصقا بالأرض وله بابان شرقي وغربي فهدمه السيل قبل مبعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بعشر سنين وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم وقصرت الأموال الطيبة والهدايا والنذور عن عمارته فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وقطعوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم (عليه‌السلام) وضيقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعا وهو الذي يسمى الشاذروان. انتهى. وهو مع مخالفته للنصوص المتقدمة انما يدل على جزء من الحجر لا مجموعه كما يستفاد من كلامه. والظاهر ان هذه الرواية انما هي من طرق المخالفين فإنهم رووا عن عائشة انها قالت : «نذرت أن أصلي ركعتين في البيت فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى في الحجر فان فيه ستة أذرع من البيت» (1). وسيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الحج ما فيه زيادة تحقيق للمقام بنقل الأخبار الواردة في بناء البيت والطواف. والله العالم.

(السابع) ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) استحباب تياسر العراقي الى يسار القبلة قليلا وربما ظهر من عبارات الشيخ في النهاية والمبسوط والخلاف الوجوب.

والأصل في ذلك الأخبار الواردة عنهم (عليهم‌السلام) بذلك : منها ـ ما رواه في الكافي عن علي بن محمد رفعه (2) قال : «قيل لأبي عبد الله (عليه‌السلام) لم صار الرجل ينحرف في الصلاة الى اليسار؟ فقال لأن للكعبة ستة حدود أربعة منها على يسارك واثنان منها على يمينك فمن أجل ذلك وقع التحريف الى اليسار».

وروى الصدوق بإسناده عن المفضل بن عمر (3) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(1) تذكرة العلامة ج 1 المسألة 6 من كيفية الطواف وفي المغني ج 3 ص 382 «قالت عائشة لرسول الله (ص) انى نذرت أن أصلي في البيت فقال صلى في الحجر فان الحجر من البيت».

(2 و 3) الوسائل الباب 4 من القبلة.


عن التحريف لأصحابنا ذات اليسار عن القبلة وعن السبب فيه؟ فقال ان الحجر الأسود لما انزل به من الجنة ووضع في موضعه جعل أنصاب الحرم من حيث يلحقه النور نور الحجر فهي عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال كله اثنا عشر ميلا فإذا انحرف الإنسان ذات اليمين خرج عن حد القبلة لقلة أنصاب الحرم وإذا انحرف ذات اليسار لم يكن خارجا من حد القبلة». ورواه الشيخ بإسناده عن المفضل والصدوق في العلل بإسناده عن المفضل (1).

وقال في كتاب الفقه الرضوي (2) «إذا أردت توجه القبلة فتياسر مثل ما تيامن فان الحرم عن يمين الكعبة أربعة أميال وعن يسارها ثمانية أميال».

وقال الشيخ في النهاية من توجه إلى القبلة من أهل العراق والمشرق قاطبة فعليه ان يتياسر قليلا ليكون متوجها الى الحرم ، وبذلك جاء الأثر عنهم (عليهم‌السلام). انتهى

وظاهر هذه العبارة الوجوب كما قدمنا ذكره وانه المستفاد عنده من الاخبار وهذه الروايات انما خرجت بناء على كون القبلة في حق البعيد هو الحرم فهي مؤيدة للأخبار المتقدمة الدالة على قول الشيخين وأتباعهما في تلك المسألة ، واحتمل في المختلف اطراد الحكم على القولين. ورده في المدارك بان العلامات المنصوبة للجهة لا تقتضي وقوع الصلاة على نفس الحرم. وهو كذلك.

وقال في المدارك بعد نقل المرفوعة المتقدمة وخبر المفضل : والروايتان ضعيفتا السند جدا والعمل بهما لا يؤمن معه الانحراف الفاحش عن حد القبلة ، وان كان في ابتدائه يسيرا. انتهى.

أقول : لا ريب انه وان كانت الروايتان كما ذكره إلا أنهما مجبورتان بعمل الأصحاب إذ لا مخالف في الحكم المذكور بل قيل في المسألة بالوجوب كما عرفت من عبارة الشيخ (قدس‌سره) وهو ايضا ظاهر كلام الشيخ الجليل شاذان بن جبرئيل القمي

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من القبلة.

(2) ص 6.


في رسالته التي في القبلة حيث قال : وعلى أهل العراق ومن يصلي الى قبلته من أهل المشرق التياسر قليلا ، ثم نقل عن الصادق (عليه‌السلام) مضمون حديث المفضل. وقد صرح في غير موضع بقبول الخبر الضعيف المجبور بعمل الأصحاب ومنه ما تقدم قريبا في مسألة من أدرك من الغداة ركعة قبل طلوع الشمس حيث قال : وهذه الروايات وان ضعف سندها إلا ان عمل الطائفة عليها ولا معارض لها فينبغي العمل عليها. انتهى. والحال في المقامين واحد ، ولكنه (قدس‌سره) كما صرحنا به في غير مقام لضيق الخناق في هذا الاصطلاح ليس له قاعدة يعتمد عليها ولا ضابطة يرجع إليها. واما ما ذكره ـ من انه لا يؤمن من العمل بهما الانحراف الفاحش ـ فهو اجتهاد في مقابلة النصوص وقد ردته الاخبار بالعموم والخصوص.

نعم قد احتمل شيخنا العلامة المجلسي (قدس‌سره) هنا وجها وجيها في الجواب عن هذه الأخبار وما يلزم فيها من الإشكال الذي عرضه المحقق الخواجة نصير الملة والدين على المحقق جعفر بن سعيد وقت الدرس فأجاب بجواب اقناعي ثم كتب في المسألة رسالة في تحقيق الجواب واستحسنه المحقق المذكور ، والرسالة المذكورة ذكرها ابن فهد في كتابه المهذب فمن أحب الوقوف على ذلك فليرجع الى الكتاب المذكور.

واما ما ذكره شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في المقام فحاصله انه لا يبعد ان يكون الأمر بالتياسر لأهل العراق لكون المحاريب المشهورة المبنية فيها في زمان خلفاء الجور ولا سيما المسجد الأعظم كانت مبنية على التيامن عن القبلة ولم يمكنهم (عليهم‌السلام) إظهار خطأ هؤلاء الفساق فأمروا شيعتهم بالتياسر عن تلك المحاريب وعللوا ذلك بما عللوه لئلا يشتهر بينهم الحكم بخطإ من مضى من خلفاء الجور ، قال ويؤيده ما ورد في وصف مسجد غنى وان قبلته لقاسطة فهو يومئ الى ان سائر المساجد في قبلتها شي‌ء ، ومسجد غنى اليوم غير موجود. ويؤيده أيضا ما رواه محمد بن إبراهيم النعماني في كتاب الغيبة عن ابن عقدة عن علي بن الحسن عن الحسن ومحمد بني يوسف عن سعدان بن مسلم عن


صباح المزني عن الحارث بن حصيرة عن حبة العرني (1) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كأني انظر الى شيعتنا بمسجد الكوفة وقد ضربوا الفساطيط يعلمون الناس القرآن كما أنزل اما إن قائمنا إذا قام كسره وسوى قبلته». على انه لا يعلم بقاء البناء الذي كان على عهد أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بل يدل بعض الاخبار على هدمه وتغييره كما رواه الشيخ (قدس‌سره) في كتاب الغيبة عن الفضل بن شاذان عن علي ابن الحكم عن الربيع بن محمد المسلي عن ابن طريف عن ابن نباتة (2) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في حديث له حتى انتهى الى مسجد الكوفة وكان مبنيا بخزف ودنان وطين فقال ويل لمن هدمك وويل لمن سهل هدمك وويل لبانيك بالمطبوخ المغير قبلة نوح طوبى لمن شهد هدمك مع قائم أهل بيتي أولئك خيار الأمة مع أبرار العترة». هذا كلامه (قدس‌سره) في مجلد المزار من كتاب بحار الأنوار.

وقال في مجلد الصلاة من الكتاب المذكور ـ بعد ذكر الاشكال المتقدم ونقل حاصل كلام المحقق في رسالته والإشارة إلى انه غير حاسم لمادة الإشكال ـ ما صورته والذي يخطر في ذلك بالبال انه يمكن ان يكون الأمر بالانحراف لان محاريب الكوفة وسائر بلاد العراق أكثرها كانت منحرفة عن خط نصف النهار كثيرا مع ان الانحراف في أكثرها يسير بحسب القواعد الرياضية كمسجد الكوفة فإن انحراف قبلته الى اليمين أزيد مما تقتضيه القواعد بعشرين درجة تقريبا وكذا مسجد السهلة ومسجد يونس ، ولما كان أكثر تلك المساجد مبنية في زمان عمر وسائر خلفاء الجور لم يمكنهم القدح فيها تقية فأمروا بالتياسر وعللوه بتلك الوجوه الخطابية لإسكاتهم وعدم التصريح بخطإ خلفاء الجور وأمرائهم. وما ذكره أصحابنا من ان محراب المعصوم (عليه‌السلام) لا يجوز الانحراف عنه انما يثبت إذا علم ان الامام (عليه‌السلام) بناه ـ ومعلوم انه لم يبنه ـ أو صلى فيه من غير انحراف ، وهو ايضا غير ثابت بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند

__________________

(1) البحار ج 13 ص 194.

(2) البحار ج 13 ص 186.


تعمير المسجد في زماننا ما يدل على خلافه كما سيأتي ذكره ، مع ان الظاهر من بعض الاخبار ان هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) انتهى.

(الثامن) ـ قد صرح غير واحد من فضلاء متأخري المتأخرين بسهولة الأمر في القبلة واتساع الدائرة فيها وانه لا ضرورة الى ما ذكره المنجمون. وهو كذلك ، وتوضيحه انه لا يخفى ان الصلاة عمود الدين الذي لا ثبوت له ولا قيام إلا بها ولذا ورد ان قبول الأعمال يتوقف على قبولها وورد ان تاركها كافر كما تقدم ذكر ذلك في المقدمة الاولى ، ولا ريب ان صحتها منوطة بالاستقبال بالضرورة من الدين ومع هذا فلم يرد عنهم (عليهم‌السلام) في معرفتها مع البعد الا خبران مجملان بالنسبة الى أهل العراق خاصة من قوله (عليه‌السلام) (1) في أحدهما بعد سؤاله عن القبلة «ضع الجدي في قفاك وصل». وقوله (عليه‌السلام) (2) في الآخر بعد قول السائل : إني أكون في السفر ولا اهتدى الى القبلة بالليل فقال : «أتعرف الكوكب الذي يقال له الجدي؟ قال : نعم قال اجعله على يمينك وإذا كنت في طريق الحج فاجعله بين كتفيك». ومع غفلة أصحابهم عن السؤال عن ذلك وتحقيقه كيف رضوا لهم بذلك ولم يحققوا لهم تلك المسالك مع ضروريته وتوقف صحة الصلاة عليه لو كان ذلك على ما يقوله أهل الهيئة من التدقيقات والتحقيقات والعلامات لكل قطر وناحية؟ مع ان الذي ورد عنهم (عليهم‌السلام) انما هو عكس ذلك وهو قولهم في الحديثين المتقدمين (3) «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ما عليه قبور الأئمة (عليهم‌السلام) في العراق من الاختلاف مع قرب المسافة بينها على وجه يقطع بعدم انحراف القبلة فيه مع استمرار الأعصار والأدوار من العلماء الأبرار على الصلاة عندها ودفن الأموات ونحو ذلك ، وهو أظهر ظاهر في التوسعة كما لا يخفى. وكيف كان فما ذكره علماء الهيئة مما سيأتي الإشارة إلى بعضه اولى وأحوط إلا ان في وجوبه كما يفهم من كلام أكثر أصحابنا إشكالا لما عرفت

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 5 من القبلة.

(3) ص 373.


قال السيد السند في المدارك : ثم ان المستفاد من الأدلة الشرعية سهولة الخطب في أمر القبلة والاكتفاء في التوجه الى ما يصدق عليه عرفا انه جهة المسجد وناحيته كما يدل عليه قوله تعالى «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (1) وقولهم (عليهم‌السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» (2) و «ضع الجدي في قفاك وصل» (3) وخلو الاخبار مما زاد على ذلك مع شدة الحاجة الى معرفة هذه العلامات لو كانت واجبة. وإحالتها على علم الهيئة مستبعد جدا لانه علم دقيق كثير المقدمات ، والتكليف به لعامة الناس بعيد من قوانين الشرع ، وتقليد اهله غير جائز لأنه لا يعلم إسلامهم فضلا عن عدالتهم ، وبالجملة التكليف بذلك مما علم انتفاؤه ضرورة. والله العالم بحقائق أحكامه.

(التاسع) ـ اعلم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) ذكروا لأكثر البلدان علامات تعرف بها قبلتها ، والظاهر ان ذلك كله أو أكثره مأخوذ من كلام علماء الهيئة الآخذين ذلك من الارصاد ومعرفة البلاد طولا وعرضا ، وقد عرفت ما في ذلك من الاشكال وانه لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) في معرفة القبلة إلا ما قدمنا ذكره.

ثم انهم (رضوان الله عليهم) قد ذكروا لأهل العراق علامات ثلاثا :

(الاولى) ـ جعل المشرق على المنكب الأيسر والمغرب على الأيمن وقيد ذلك أكثر الأصحاب بالاعتداليين لعدم انضباط ما عداهما ، والظاهر ـ كما صرح به بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ـ انه لا حاجة الى هذا التقييد حيث قال إطلاق القوم المشرق والمغرب لا قصور فيه وتقييد بعض مشايخنا غير محتاج اليه بل هو مقلل للفائدة ، وما ظنوه من ان الإطلاق مقتض للاختلاف الفاحش في الجهة ليس كذلك لان مراد القدماء أن العراقي يجعل مغرب اي يوم شاء على يمينه ومشرق ذلك اليوم بعينه على يساره ، وهذا لا يقتضي الاختلاف الذي زعموه وهو عام في كل الأوقات لكل المكلفين ، بخلاف القيد الذي ذكروه فإنه يقتضي ان لا تكون العلامة موضوعة

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 139.

(2) ص 373.

(3) ص 387.


إلا لآحاد الناس القادرين على استخراج خط الاعتدال ومع ذلك فليس بأضبط مما ذكرناه كما لا يخفى ، فأي داع الى تقييد عبارات المتقدمين بما تقل معه الفائدة ويعسر ضبطه على أكثر المكلفين؟ انتهى. وهو جيد متين.

(الثانية) ـ جعل الجدي بحذاء المنكب الأيمن ، والجدي مكبر وربما يصغر ليتميز عن البرج وهو نجم مضي‌ء يدور مع الفرقدين حول قطب العالم الشمالي ، والقطب نقطة مخصوصة يقابلها مثلها من الجنوب ، قال شيخنا الشهيد الثاني : وأقرب الكواكب إليها نجم خفي لا يكاد يدركه إلا حديد البصر يدور حولها كل يوم وليلة دورة لطيفة لا تكاد تدرك ، ويطلق على هذا النجم القطب لحال المجاورة للقطب الحقيقي وهو علامة لقبلة العراقي إذا جعله المصلي خلف منكبه الأيمن ويخلفه الجدي في العلامة إذا كان في غاية الارتفاع والانخفاض ، وانما اشترط ذلك لكونه في تلك الحال على دائرة نصف النهار وهي مارة بالقطبين وبنقطة الجنوب والشمال ، فإذا كان القطب مسامتا لعضو من المصلي كان الجدي مسامتا له لكونهما على دائرة واحدة بخلاف ما لو كان منحرفا نحو المشرق أو المغرب. قال في المدارك بعد نقل ذلك عن جده (قدس‌سره) قلت ما ذكره مشهور بين الأصحاب وممن صرح به المصنف في المعتبر والعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى ونقل شيخنا المحقق المدقق مولانا احمد المجاور بالمشهد المقدس الغروي على ساكنه السلام عن بعض محققي أهل ذلك الفن ان هذا الشرط غير جيد لأن الجدي في جميع أحواله أقرب الى القطب الحقيقي من ذلك النجم الخفي ولهذا كان أقل حركة منه كما يظهر بالامتحان ، وهذه الحركة الظاهرة انما هي للفرقدين لا للجدي فإن حركته يسيرة جدا وقد اعتبرنا ذلك فوجدناه كما أفاد. انتهى.

(الثالثة) ـ جعل الشمس على الحاجب الأيمن مما يلي الأنف عند الزوال لان الشمس قبل الزوال تكون على دائرة نصف النهار المتصلة بنقطتي الجنوب والشمال فيكون حينئذ مستقبلا نقطة الجنوب بين العينين فإذا زالت مالت الى طرف الحاجب الأيمن


وأنت خبير بما بين هذه العلامات من الاختلاف فإن العلامة الاولى والثالثة تقتضيان كون قبلة العراقي في نقطة الجنوب والعلامة الثانية تقتضي انحرافا بينا عنها نحو المغرب ، ولا يخفى ما فيه من التدافع.

إلا ان بعض متأخري أصحابنا المحققين قسم العراق إلى ثلاثة أقسام فجعل العلامة الاولى والثالثة لأطراف العراق الغربية كالموصل وسنجار وما والاها ، وحمل العلامة الثانية على أوساط العراق كالكوفة وبغداد والحلة والمشاهد المقدسة ، واما أطرافها الشرقية كالبصرة وما والاها فتحتاج إلى زيادة انحراف نحو المغرب ولذا حكموا بان علامتها جعل الجدي على الخد الأيمن.

وقال بعض فضلاء متأخري المتأخرين وهذا التقسيم هو الموافق لقواعد الهيئة فإن طول بغداد على ما ذكره المحقق نصير الملة والدين يزيد على طول مكة بثلاث درجات فقبلتها منحرفة يسيرا عن نقطة الجنوب الى المغرب والموصل يساوي طولها طول مكة فقبلتها نقطة الجنوب لاتحاد نصف نهاريهما ، واما البصرة فيزيد طولها على طول مكة بسبع درجات ففي قبلتها زيادة انحراف الى المغرب عن قبلة بغداد فجعلوا علامتها وضع الجدي على الخد الأيمن. انتهى.

أقول : قد صرح أرباب هذا الفن بان الأقاليم السبعة المسكونة وما فيها من البلدان كلها في النصف الشمالي من الأرض من بعد خط الاستواء القاسم للأفق نصفين شمالي وجنوبي ، والنصف الجنوبي غير مسكون لاستيلاء الحرارة والماء عليه ، والنصف الشمالي المعمور فيه أيضا انما هو نصفه المتصل بخط الاستواء وهو الذي فيه الأقاليم السبعة والنصف الآخر خراب لشدة البرد. وقد اثبتوا لهذه الأقاليم طولا وعرضا ، فالطول عبارة عن طرف العمارة من جانب المغرب وهو ساحل البحر الى منتهاها من الجانب الشرقي وهي كنك وجملة ذلك من الجزائر مائة وثمانون جزء نصف دائرة عظمي من دوائر الفلك لأن كل دائرة منها مقسومة ثلاثمائة وستين جزء وتسمى هذه الاجزاء درجات ، والعرض من خط الاستواء في جهة الجنوب الى منتهى الربع المعمور


في جهة الشمال وذلك تسعون جزء ربع دائرة عظمي ، وحينئذ فطول البلد عبارة عن بعدها عن منتهى العمارة من الجانب الغربي وعرض البلد عبارة عن بعدها عن خط الاستواء ، فإذا ساوى طول البلد طول مكة وعرض تلك البلد أكثر فسمت قبلة تلك البلد نقطة الجنوب وان كان أقل فقبلتها نقطة الشمال وان تساوى العرضان وطول البلد أكثر فسمت القبلة نقطة المغرب وان كان أقل فهو نقطة المشرق. ومعرفة السمت في هذه الأربعة سهل يتوقف على إخراج الجهات الأربع على وجه الأرض ، وان زادت مكة على البلد طولا وعرضا فسمت القبلة بين نقطتي المشرق والشمال وان نقصت فيهما فهو بين نقطتي الجنوب والمغرب وان زادت عن البلد طولا ونقصت عرضا فسمت قبلة البلد بين نقطتي الجنوب والمشرق وان انعكس فبين نقطتي المغرب والشمال ، وأكثر البلدان على الانحراف.

ولنذكر جملة ما ذكروه من البلدان المنحرفة وبيان قدر انحرافها ، فاما البلدان المنحرفة عن نقطة الجنوب الى المغرب فبلادنا (البحرين) بسبع وخمسين درجة وثلاث وعشرين دقيقة ، و (الحساء) بتسع درجات وثلاثين دقيقة ، و (البصرة) بثمان وثلاثين درجة ، و (واسط) بعشرين درجة واربع وخمسين دقيقة ، و (الأهواز) بأربعين درجة وثلاثين دقيقة ، و (الحلة) باثنتي عشرة درجة ، و (المدائن) بثمان درجات وثلاثين دقيقة ، و (بغداد) باثنتي عشرة درجة وخمس وأربعين دقيقة ، و (الكوفة) باثنتي عشرة درجة واحدى وثلاثين دقيقة ، و (سر من رأى) بسبع درجات وست وخمسين دقيقة و (كاشان) بأربع وثلاثين درجة واحدى وثلاثين دقيقة ، و (قم) بإحدى وثلاثين درجة واربع وخمسين دقيقة ، و (ساوة) بتسع وعشرين درجة وست عشرة دقيقة ، و (أصبهان) بأربعين درجة وتسع وعشرين دقيقة ، و (قزوين) بتسع وعشرين درجة واربع وثلاثين دقيقة ، و (تبريز) بخمس عشرة درجة وأربعين دقيقة ، و (مراغة) بست عشرة درجة وسبع عشرة دقيقة ، و (أسترآباد) بثمان وثلاثين درجة وثمان وأربعين دقيقة


و (طوس والمشهد الرضوي) بخمس وأربعين درجة وست دقائق ، و (نيسابور) بست وأربعين درجة وخمس وعشرين دقيقة ، و (سبزوار) بأربع وأربعين درجة واثنتين وخمسين دقيقة ، و (شيراز) بثلاث وخمسين درجة وثمان وعشرين دقيقة ، و (همدان) باثنتين وعشرين درجة وست وعشرين دقيقة ، و (تون) بخمسين درجة وعشرين دقيقة و (طبس) باثنتين وخمسين درجة وخمس وخمسين دقيقة. و (أردبيل) بسبع عشرة درجة وثلاث عشرة دقيقة ، و (هرات) بأربع وخمسين درجة وثمان دقائق. و (قاين) بأربع وخمسين درجة ، و (سمنان) بست وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة ، و (دامغان) بثمان وثلاثين درجة ، و (بسطام) بتسع وثلاثين درجة وثلاث عشرة دقيقة ، و (لاهجان) بثلاث وعشرين درجة ، و (آمل) بثلاثين درجة وست وثلاثين دقيقة ، و (قندهار) بخمس وسبعين درجة ، و (الري) بسبع وثلاثين درجة وست وعشرين دقيقة ، و (كرمان) باثنتين وستين درجة واحدى وخمسين دقيقة ، و (تفليس) بأربع عشرة درجة واحدى وأربعين دقيقة ، و (شيروان) بعشرين درجة وتسع دقائق ، وكذا الشماخي ، و (سجستان) بثلاث وستين درجة وثماني عشرة دقيقة ، و (طالقان) بتسع وعشرين درجة وثلاث وثلاثين دقيقة ، و (بلخ) بستين درجة وست وثلاثين دقيقة ، و (بخارى) بتسع وأربعين درجة وثمان وثلاثين دقيقة ، و (بدخشان) بأربع وستين درجة وتسع دقائق ، و (سمرقند) باثنتين وخمسين درجة واربع وخمسين دقيقة ، و (كاشغر) بثمان وخمسين درجة وست وثلاثين دقيقة ، و (تبت) بست وثلاثين درجة وست وعشرين دقيقة ، و (هرموز) بأربع وسبعين درجة ، و (أبهر) بأربع وعشرين درجة ، و (كازران) بإحدى وخمسين درجة وست وخمسين دقيقة ، و (جرباذقان) بثمان وثلاثين درجة ، و (خوارزم) بأربعين درج

واما الانحراف من الجنوب الى المشرق (فالمدينة المشرفة) منحرفة قبلتها عن نقطة الجنوب الى المشرق بسبع وثلاثين درجة وعشرين دقيقة ، و (مصر) بثمان وخمسين درجة وتسع وعشرين دقيقة ، و (قسطنطنية) بثمان وثلاثين درجة وسبع عشرة دقيقة.


و (الموصل) بأربع درجات واثنتين وخمسين دقيقة ، و (بيت المقدس) بخمس وأربعين درجة وست وخمسين دقيقة.

واما الانحراف من الشمال الى المغرب (فأكره) بتسع وثمانين درجة ، و (سرنديب) بسبعين درجة واثنتي عشرة دقيقة ، و (چين) بخمس وسبعين درجة ، و (سومنات) بخمس وسبعين درجة واربع وثلاثين دقيقة.

واما ما كان من الشمال الى المشرق (فصنعاء) بدرجة وخمس عشرة دقيقة ، و (عدن) بخمس درجات وخمس وخمسين دقيقة ، و (جرمي) دار ملك الحبشة بسبع وأربعين درجة وخمس وعشرين دقيقة. وسائر البلاد القريبة من تلك البلاد والمتوسطة بينها يعرف انحرافها بالمقايسة.

أقول : لا يخفى على من عرف ما عليه هذه البلدان من القبلة في جميع الأزمان فإنه لا يوافق شيئا مما ذكر في هذا المكان مع استمرار السلف والخلف عليها من العلماء والأعيان ، ومن ذلك قبلة البحرين والقطيف والأحساء فإنها نقطة المغرب وهكذا جميع ما ذكر من البلدان. ولقد اتفق في هذه السنين التي مضت لنا مجي‌ء رجل من الفضلاء يسمى الشيخ حسين ممن يصلي الجمعة والجماعة الى بلدة بهبهان فانحرف عن قبلة مساجدها بناء على الضابطة التي ذكرها علماء الهيئة وصلى الى تلك الجهة التي هي موافقة لكلام علماء الهيئة وحمل الناس على الصلاة إليها فتناولته الألسن من كل مكان وكثر الطعن عليه في جميع البلدان حتى كأنه ممن أبدع في الدين وافترى على الملك الديان.

(البحث الثاني) ـ في المستقبل ، الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب العلم بالقبلة مع إمكانه فلا يجوز التعويل على الظن ، قالوا ويتحقق العلم بالمعاينة والشياع والخبر المحفوف بالقرائن ومحراب المعصوم (عليه‌السلام).

أقول : ان أريد بالعلم هنا العلم بالعين مع إمكان المشاهدة فهذا مخصوص بالقريب كما تقدم ولا ريب ان هذا لا يسوغ له الاجتهاد ولكن المدعى أعم من ذلك ، وان


أريد العلم بالعين بالنسبة إلى البعيد فظاهر ان هذا مما يتعذر ، وان أريد العلم بالجهة بالنسبة إلى البعيد ـ والظاهر انه هو المراد من كلامهم ـ فمن الظاهر انه انما يحصل بالاجتهاد الذي غايته الظن فلا معنى لتقديمه وجعل الظن في المرتبة الثانية بعد تعذره. واما ما مثلوا به لصور تحصيل العلم من المعاينة فقد عرفت انه مخصوص بالقريب المتمكن من المشاهدة لا على وجه يستلزم المشقة والعسر. واما الخبر المحفوف بالقرائن والشياع فهو وان مثلوا بهما لإفادة العلم لكن ذلك بالنسبة الى الخبر وهو قبول قول الغير الذي غاية ما يفيده هو الظن فإنه قد يفيد العلم إذا انضمت اليه أمارات من خارج أو كان شائعا بحيث يفيد العلم ، وهذا لا معنى له بالنسبة إلى القبلة والعلم بجهتها للبعيد ، فإنه اما ان يرجع الى الأمارات المتقدمة التي ذكرها أهل الهيئة للبلدان وغاية ما تفيده الظن بالجهة ، أو قبلة البلد أو المحاريب والقبور ونحو ذلك وغاية الجميع الظن ، إلا ان يقال بحصول العلم بالجهة بالأمارات التي ذكرها علماء الهيئة وليس ببعيد فيخص العلم به ويجعل الظن في ما عداه مما ذكرناه ونحوه ، نعم ربما يتم ما ذكر في محراب المعصوم (عليه‌السلام) ان ثبت صلاته فيه على الهيئة التي هو عليها الآن ودون ثبوته شوك القتاد وان ادعى بعض الأصحاب ذلك.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : لا اجتهاد في محراب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في جهة القبلة ولا في التيامن والتياسر فإنه منزل منزلة الكعبة ، وروى انه لما أراد نصبه زويت له الأرض فجعله بإزاء الميزاب (1) ولأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) معصوم لا يتصور منه الخطأ وعند من جوزه من العامة لا يقر عليه فهو صواب قطعا فيستقبله معاينة وتنصب المحاريب هناك عليه وفي معنى المدينة كل موضع تواتر ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى فيه الى جهة معينة مضبوطة الآن ، وكذا لا اجتهاد في المسجد الأعظم بالكوفة في التيامن ولا التياسر مثل ما قلناه في مسجد النبي (صلى الله عليه

__________________

(1) تاريخ المدينة للسمهودي ج 1 ص 261 والدرة الثمينة ص 357.


وآله) لوجوب عصمة الإمام كالنبي وقد نصبه أمير المؤمنين وصلى اليه هو والحسن والحسين (عليهم‌السلام) واما محراب مسجد البصرة فنصبه عقبة بن غزوان فهو كسائر محاريب الإسلام ، وربما قيل بمساواته مسجد الكوفة لأن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) صلى فيه وجمع من الصحابة فكما لا اجتهاد في مسجد الكوفة فكذا في مسجد البصرة. واما مسجد المدائن فصلى فيه الحسن (عليه‌السلام) فان كان المحراب مضبوطا فكذلك وبمشهد سر من رأى (صلوات الله على مشرفيه) مسجد منسوب إلى الهادي (عليه‌السلام) فلا اجتهاد في قبلته ايضا ان كانت مضبوطة. ولو تخيل الماهر في أدلة القبلة تيامنا وتياسرا في محراب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومحراب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فخياله باطل لا يجوز له ولا لغيره العمل به. انتهى كلامه زيد مقامه.

وفيه ما افاده شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) في كتاب البحار حيث قال في تتمة الكلام الذي قدمنا نقله عنه آنفا : وما ذكره أصحابنا من ان محراب مسجد الكوفة محراب المعصوم لا يجوز الانحراف عنه انما يثبت إذا علم ان الامام بناه ـ ومعلوم انه لم يبنه ـ أو صلى فيه من غير انحراف عنه وهو ايضا غير ثابت ، بل ظهر من بعض ما سنح لنا من الآثار القديمة عند تعمير المسجد في زماننا ما يدل على خلافه كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، مع ان الظاهر من بعض الاخبار ان هذا البناء غير البناء الذي كان في زمن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) بل ظهر لي من بعض الأدلة والقرائن ان محراب مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالمدينة أيضا قد غير عما كان في زمانه لانه على ما شاهدنا في هذا الزمان موافق لخط نصف النهار وهو مخالف للقواعد الرياضية من انحراف قبلة المدينة إلى اليسار قريبا من ثلاثين درجة ومخالف لما رواه الخاصة والعامة من انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) زويت له الأرض ورأى الكعبة فجعله بإزاء الميزاب (1) فان من وقف بحذاء الميزاب يصير القطب الشمالي محاذيا لمنكبه الأيسر ، ومخالف لبناء

__________________

(1) تاريخ المدينة للسمهودي ج 1 ص 261 والدرة الثمينة ص 357.


بيت الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي دفن فيه ، مع ان الظاهر ان بناء البيت كان موافقا لبناء المسجد وبناء البيت أوفق بالقواعد من المحراب ، وايضا مخالف لمسجد قبا ومسجد الشجرة وغيرهما من المساجد التي بناها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أو صلى فيها ولذا حمل بعض الأفاضل ممن كان في عصرنا حديث المفضل وأمثاله على مسجد المدينة وقال لما كانت الجهة وسيعة وكان الأفضل بناء المحراب على وسط الجهات إلا ان تعارضه مصلحة كمسجد المدينة حيث بنى محرابه على خط نصف النهار لسهولة استعلام الأوقات مع ان وسط الجهات فيه منحرف نحو اليسار فلذا حكموا باستحباب التياسر فيه ليحاذي المصلي وسط الجهة المتسعة ، وسيأتي مزيد توضيح لتلك المقاصد مع الاخبار والقرائن الدالة عليه في كتاب المزار. والله اعلم وحججه (عليهم‌السلام) بحقائق الاخبار والآثار. انتهى كلامه علت في الخلد اقدامه.

وما أشار إليه في كتاب المزار قد قدمنا ذكر جملة منه آنفا في مسألة استحباب التياسر ، وإذا ثبت ما ذكرنا في مسجد المدينة والكوفة ففي ما ذكره من المساجد بطريق أولى إذ ليس لهما من الشهرة وقوة الاعتماد ما لهما.

ثم ان جملة من المتأخرين ذكروا انه مع فقد العلم يعول على الأمارات المفيدة للظن وادعى عليه في المعتبر والمنتهى اتفاق أهل العلم.

ويدل عليه من الاخبار صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «يجزئ التحري أبدا إذا لم يعلم اين وجه القبلة».

وموثقة سماعة (2) قال : «سألته عن الصلاة بالليل والنهار إذا لم ير الشمس ولا القمر ولا النجوم؟ قال اجتهد رأيك وتعمد القبلة جهدك».

وروى المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه عن تفسير النعماني بإسناده عن الصادق عن آبائه (عليهم‌السلام) (3) «في قول الله عزوجل : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 6 من القبلة.


الْحَرامِ (1) قال معنى «شَطْرَهُ» نحوه ان كان مرئيا وبالدلائل والاعلام ان كان محجوبا ، فلو علمت القبلة لوجب استقبالها والتولي والتوجه إليها ولو لم يكن الدليل عليها موجودا حتى تستوي الجهات كلها فله حينئذ ان يصلي باجتهاده حيث أحب واختار حتى يكون على يقين من الدلالات المنصوبة والعلامات المثبوتة ، فان مال عن هذا التوجه مع ما ذكرناه حتى يجعل الشرق غربا والغرب شرقا زال معنى اجتهاده وفسد حال اعتقاده».

قال : وقد جاء عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) خبر منصوص مجمع عليه ان الأدلة المنصوبة على بيت الله الحرام لا يذهب بكليتها حادثة من الحوادث منا من الله تعالى على عباده في إقامة ما افترض عليهم أقول : الظاهر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ من قوله : «فان مال عن هذا التوجه» اي انه بعد توجهه بالاجتهاد إلى جهة أدى إليها اجتهاده فان ظهر له بعد ذلك الميل عن القبلة على وجه يكون مستدبر القبلة بأن جعل الشرق في موضع الغرب والغرب في موضع الشرق أو محض اليمين واليسار فإنه يصدق ايضا ذلك في الجملة فقد ظهر فساد اجتهاده وفساد اعتقاده فتجب الإعادة عليه وسيجي‌ء تحقيق الكلام في ذلك. واما ما نقله (عليه‌السلام) من الخبر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فلعل المراد بتلك الأدلة هي النجوم ، وقد روى العياشي في تفسيره عن إسماعيل بن ابي زياد عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي بن ابي طالب (عليهم‌السلام) (2) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» (3) هو الجدي لأنه نجم لا يزول وعليه بناء القبلة وبه يهتدى أهل البر والبحر». ويمكن ان يستفاد من هذا الخبر حصول العلم بالجهة بالدلائل التي ذكرها علماء الهيئة كما هو الظاهر من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) وليس بذلك البعيد كما قدمنا الإشارة اليه وان قلنا بعدم وجوب التكليف به ، لما عرفت مما قدمنا نقله عن جملة من أفاضل متأخري المتأخرين وان كان أفاضل المتأخرين على خلافه

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 139.

(2) الوسائل الباب 5 من القبلة.

(3) سورة الروم ، الآية 49.


تنبيهات

(الأول) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) الذي قدمنا ذكره هو ان الاجتهاد الذي هو عبارة عن بذلك الوسع في تحصيل الأمارات المفيدة للظن بالجهة بعد تعذر العلم بالجهة بالأمارات المذكورة في كلام علماء الهيئة ، فيجتهد مع فقدها في تحصيل امارة توجب ظنه بالجهة ويبنى عليها.

وقد تقدم من الأخبار ما يدل على جواز البناء على هذا الظن الناشئ عن التحري ويزيده بيانا ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) «في الأعمى يؤم القوم وهو على غير القبلة؟ قال يعيد ولا يعيدون فإنهم قد تحروا».

ويؤيده أيضا صحيحة سليمان بن خالد (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) «الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلي لغير القبلة ثم يضحى فيعلم انه صلى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال ان كان في وقت فليعد صلاته وان كان مضى الوقت فحسبه اجتهاده». ونحوها صحيحة يعقوب بن يقطين (3).

وربما ظهر من كلام الشيخين في المقنعة والمبسوط هنا عدم العمل على الظن والصلاة الى أربع جهات ، قال في المقنعة : إذا أطبقت السماء بالغيم فلم يجد الإنسان دليلا عليها بالشمس والنجوم فليصل إلى أربع جهات فان لم يقدر على ذلك بسبب من الأسباب المانعة من الصلاة أربع مرات فليصل الى اي جهة شاء وذلك مجزئ مع الاضطرار. وقال في المبسوط بعد ان ذكر اربع علامات نجومية لقبلة العراق : فان فقد هذه الأمارات يصلي الى أربع جهات الصلاة الواحدة مع الاختيار.

واستدل الشيخ لذلك برواية خراش عن بعض أصحابنا عن ابي عبد الله (عليه

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 11 من القبلة.


السلام) (1) قال : «قلت له جعلت فداك ان هؤلاء المخالفين علينا يقولون إذا أطبقت علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنا وأنتم سواء في الاجتهاد؟ فقال ليس كما يقولون إذا كان ذلك فليصل إلى أربع وجوه».

ولا يخفى ان هذا الخبر لضعف سنده لا يبلغ قوة في معارضة الأخبار المتقدمة وبذلك رده الأصحاب مع أنهم قائلون بمضمونه في وجوب الأربع مع فقد الظن كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى. والحق في الجواب عنه ما سنذكره ثمة ان شاء الله تعالى.

والشيخ (قدس‌سره) جمع بين هذا الخبر والاخبار السابقة بحمل الأخبار المتقدمة على صورة الاضطرار وعدم التمكن من الصلاة الى أربع جهات وهذا الخبر على صورة التمكن والاختيار. وبعض الأصحاب احتمل الجمع بحمل الأخبار الأولة على التقية كما يشعر به هذا الخبر لكنه استشكل ذلك بان المصير الى الحمل فرع حصول المعارضة وهذا الخبر قاصر عن معارضة تلك الاخبار. والحق في الخبر المذكور ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى.

(الثاني) ـ لو اجتهد واداه اجتهاده إلى جهة مخصوصة ثم أخبره من يوثق به بغيرها فهل يجب عليه العمل على اجتهاده أو يرجع الى قول الثقة؟ قولان ، فالشيخ واتباعه على الأول والظاهر انه المشهور ، وقيل بالثاني إذا أفاده ظنا زائدا على ما ادى اليه اجتهاده ، ذهب اليه المحقق والشهيد واختاره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ، وهو الأظهر لأن المسألة ظنية فيتبع فيها أقوى الظنين ، ولا ينافيه أخبار الأمر بالتحري فان الاستخبار ممن يفيد قوله الظن الراجح نوع من التحري. ولو تعذر الظن لفقد ما يدل عليه وأخبره من يوثق بقوله فهل يصلي الى أربع جهات أم يعمل بقول المخبر؟ قولان ولعل أظهرهما الثاني بالتقريب المتقدم. وهل يشترط عدالة المخبر فلو كان فاسقا أو كافرا لم يقبل قوله؟ اشكال ولعل الأقرب القبول ان أفاد الظن كما ذكرنا.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 8 من القبلة.


(الثالث) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه مع تعذر الظن بالقبلة يصلي كل فريضة إلى أربع جهات. وقال ابن ابي عقيل لو خفيت عليه القبلة لغيم أو ريح أو ظلمة فلم يقدر على القبلة صلى حيث شاء مستقبل القبلة وغير مستقبلها ولا اعادة عليه إذا علم بعد ذهاب وقتها انه صلى لغير القبلة. وهو الظاهر من ابن بابويه ونفى عنه البعد في المختلف ومال إليه في الذكرى واختاره جملة من محققي متأخري المتأخرين ، وهو المختار لما ستعرف من الاخبار.

احتج الشيخ ومن تبعه من أصحاب القول المشهور برواية خراش المتقدمة ، وردها القائلون بالقول الآخر بضعف السند وبأنها متروكة الظاهر من حيث تضمنها سقوط الاجتهاد بالكلية مع دلالة الأخبار المتقدمة عليه.

والحق في الجواب عن الرواية المذكورة ما افاده المحدث الأمين الأسترآبادي في كتاب الفوائد المدنية من ان قصده (عليه‌السلام) انما هو مجرد الرد على المخالفين في ما يدعونه من الالتجاء الى الاجتهاد الذي يبنون عليه الأحكام الشرعية وقد منعت منه النصوص المعصومية بان لنا مندوحة عن ذلك وهو المصير الى العمل بالاحتياط الذي يحصل بالصلاة إلى أربع جهات لا ان مراده (عليه‌السلام) نفى الاجتهاد في القبلة بالكلية مع دلالة أخبارهم (عليهم‌السلام) كما عرفت مما قدمناه وهو معنى صحيح لا غبار عليه.

وبه تبقى أدلة القول الثاني سالمة من المعارض ، ومنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) انه قال : «يجزئ المتحير أبدا أينما توجه إذا لم يعلم اين وجه القبلة».

وروى في الكافي في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابنا عن زرارة (2) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن قبلة المتحير فقال يصلي حيث شاء».

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 8 من القبلة.


وروى الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار (1) قال : «قلت الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟ فقال قد مضت صلاته فما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحير : وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (2). كذا استدل بها في المدارك ، واحتمل جملة من المحققين كون قوله في هذه الرواية «ونزلت هذه الآية» من كلام الصدوق لا من الرواية وعليه تنتفي دلالة الرواية.

والمستفاد من بعض الاخبار ان هذه الآية إنما نزلت في النافلة وجواز صلاتها الى غير القبلة ، فروى الطبرسي في كتاب مجمع البيان عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما‌السلام) (3) في قوله تعالى «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» انها ليست منسوخة وانها مخصوصة بالنوافل في حال السفر.

وروى الشيخ في النهاية عن الصادق (عليه‌السلام) (4) في قوله تعالى : «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» قال : «هذا في النوافل في حال السفر خاصة فأما الفرائض فلا بد فيها من استقبال القبلة».

وقال الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره (5) «وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (6) قال العالم (عليه‌السلام) : «فإنها نزلت في صلاة النافلة فصلها حيث توجهت إذا كنت في سفر فأما الفرائض فقوله «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (7) يعني الفرائض لا تصلها إلا الى القبلة».

وفي تفسير العياشي عن حريز عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (8) «انزل الله هذه الآية في التطوع خاصة «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ» (9) وصلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إيماء على راحلته أينما توجهت به حيث خرج الى خيبر

__________________

(1) الفقيه ج 1 ص 179 والوسائل الباب 10 من القبلة.

(2 و 6 و 9) سورة البقرة ، الآية 109.

(3 و 4 و 8) الوسائل الباب 15 من القبلة.

(5) ص 50.

(7) سورة البقرة ، الآية 139 و 145.


وحين خرج من مكة وجعل الكعبة خلف ظهره». قال زرارة (1) «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الصلاة في السفينة والمحمل سواء؟ قال النافلة كلها سواء ، ثم ساق الخبر في الكتاب المذكور الى ان قال كل ذلك قبلة للمتنفل انه قال : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ».

وروى فيه عن حماد بن عثمان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل يقرأ السجدة وهو على ظهر دابته؟ قال يسجد حيث توجهت فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كان يصلي على ناقته النافلة وهو مستقبل المدينة يقول : فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ».

ولا يخفى ما في دلالة هذه الاخبار على المنافاة لما تقدم من نزول الآية المذكورة في قبلة المتحير سواء جعلت من الخبر أو من كلام الصدوق والحمل على الثاني أوفق بانتظام الاخبار وسلامتها من الاختلاف في هذا المضمار وان كان الظاهر ان الصدوق ايضا لا يقوله إلا عن رواية وصلت اليه. وربما جمع بعضهم بين الاخبار المتقدمة بحمل روايات الصلاة الى اي جهة شاء على عدم التمكن من الصلاة الى أربع جهات وتبقى رواية خراش على ظاهرها. ولا يخفى بعده عن ظاهر سياق الأخبار المذكورة.

وبالجملة فالرواية المذكورة مع ضعف سندها معارضة بالأخبار المتقدمة وبهذه الاخبار والأظهر في معناها هو ما ذكرناه وبه تنتفي المناقضة بين الاخبار ويظهر اجتماعها على وجه واضح المنار.

وذهب السيد رضي الدين بن طاوس في هذه المسألة إلى الرجوع الى القرعة ، قال في المدارك : ولا بأس به. أقول : بل البأس فيه أظهر ظاهر إذ الظاهر من الاخبار ان مشروعية القرعة انما هو من حيث الاشكال وانها لكل أمر مشكل. والظاهر انه لا اشكال هنا مع وجود الأدلة الصحيحة الصريحة في الحكم ، اما على ما ذكرنا في معنى

__________________

(1) الوسائل الباب 13 من القبلة.

(2) البحار ج 18 الصلاة ص 370.


رواية خراش فظاهر ، واما على ما ذكره من طرحها لضعفها سندا ودلالة فقال انه لا تعويل عليها فأظهر ، وعلى كل من الوجهين تبقى الأخبار سالمة من المعارض فأي وجه هنا للقرعة وأي إشكال في الحكم يوجب الرجوع إليها؟

ثم انه على القول المشهور من الصلاة الى أربع جهات يعتبر في الجهات الأربع كونها على خطين مستقيمين وقع أحدهما على الآخر على وجه يحدث عنهما زوايا قوائم لأنه المتبادر من النص. أقول : ويمكن حصول ذلك بالخطوط الثلاثة المتقاطعة على زوايا قوائم بناء على ما دلت عليه صحيحة معاوية بن عمار (1) «في من صلى ثم نظر بعد ما فرغ فرأى انه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟ فقال قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة».

ثم انهم بناء على القول المذكور صرحوا بأنه لو ضاق الوقت عن الأربع اتى بما أمكن ولو واحدة الى اي جهة شاء ، وبالجملة بما يتسع له الوقت. قال في المعتبر وكذا لو منعت ضرورة من عدو أو سبع أو مرض.

(الرابع) ـ الظاهر من كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان من لا يتمكن من الاجتهاد كالأعمى والعامي مع ضيق الوقت عن التعلم والعالم بالعلامات مع خفائها لعارض من غيم ونحوه فإنه يجوز له التقليد. وظاهر كلام الشيخ (قدس‌سره) في الخلاف المنع من التقليد للأعمى وغيره ووجوب الصلاة الى أربع جهات مع السعة والتخيير مع الضيق.

احتج الأولون بأن قول العدل أحد الأمارات المفيدة للظن فكان العمل به لازما مع انتفاء العلم وعدم إمكان تحصيل ظن أقوى منه لقوله (عليه‌السلام) (2) «يجزى التحري أبدا إذا لم يعلم اين وجه القبلة».

واحتج في الخلاف على ما ذكره بأن الأعمى ومن لا يعرف أمارات القبلة إذا صليا إلى أربع جهات برئت ذمتهما بالإجماع وليس على براءة ذمتهما إذا صليا إلى واحدة

__________________

(1) الوسائل الباب 10 من القبلة.

(2) الوسائل الباب 6 من القبلة.


دليل. ثم استدل على التخيير مع الضيق والضرورة بأن وجوب القبول من الغير لم يقم عليه دليل والصلاة الى الجهات الأربع منفي لكون الحال حال الضرورة فيثبت التخيير وجوابه معلوم من حجة القول المشهور المتقدمة. إلا ان المسألة لعدم النص لا تخلو من شوب الاشكال وان كان القول المشهور لا يخلو من قوة لما علم من الاعتماد على الظن في مسألة القبلة مع ما عرفت من سعة الأمر فيها.

وربما يستدل هنا على وجوب التقليد للأعمى وعدم وجوب الصلاة الى أربع جهات بالأخبار الدالة على جواز إمامته في الصلاة كصحيحة عبيد الله الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا بأس ان يؤم الأعمى القوم وان كانوا هم الذين يوجهونه». وصحيحة زرارة أو حسنته عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) في حديث قال : «قلت له أصلي خلف الأعمى؟ قال نعم إذا كان له من يسدده وكان أفضلهم». ونحوهما رواية السكوني (3).

والظاهر انه ليس كذلك فان هنا مقامين : (الأول) ان تكون القبلة معلومة في حد ذاتها لا تحتاج الى اجتهاد لكنها بالنسبة إلى الأعمى غير معلومة على السمت الذي تجب الصلاة له فيحتاج الى من يسدده ويرشده وهذا هو مورد الأخبار المذكورة ، والظاهر ان الشيخ لا يخالف في هذه الصورة ويوجب عليه الصلاة الى أربع جهات ويطرح هذه الاخبار من غير معارض (الثاني) ان تكون القبلة مجهولة تحتاج الى اجتهاد وهذا هو موضوع المسألة ، فهل يجوز للأعمى الرجوع الى من حصل القبلة باجتهاده أو يجب عليه الصلاة الى أربع جهات؟ والاخبار المذكورة لا دلالة لها على هذه الصورة بل موردها الصورة الاولى. وبذلك يظهر ما في كلام جملة من الأصحاب هنا : منهم ـ السيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة من ان المراد بالتقليد هنا قبول قول الغير سواء كان مستندا الى الاجتهاد أو اليقين ، فإنه بظاهره شامل لما ذكرنا من المقام

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 7 من القبلة.


الأول مع انه ليس كذلك.

وبالجملة فإن الظاهر ان موضوع المسألة انما هو صورة جهل القبلة وحصول من يتمكن من الاجتهاد في معرفتها ومن لا يتمكن ، فهل يرجع من لا يتمكن من الاجتهاد للأعذار المتقدمة إلى المتمكن أم لا؟ واما في مقام العلم بالقبلة فليس من محل البحث في شي‌ء فان ما يحصل به اليقين عند المقلد بفتح اللام من رؤية أو مشاهدة أو تعيين الجهة من العلامات المذكورة بين علماء الهيئة يحصل به اليقين عند المقلد بكسرها إلا ان يكون أعمى مكفوف البصر ، وقد عرفت حكمه من الأخبار المتقدمة وان الشيخ لا يخالف في هذه الصورة. وينبغي ان يعلم انه لو تفاوتت الظنون بالنسبة إلى المخبرين من حيث العدالة والتعدد ونحو ذلك وعدمها عمل على أقواها ووجب دوران الحكم معه كما يجب تقديم العلم على الظن. والكلام بالنسبة إلى الكافر ونحوه كما تقدم من حصول الظن بقوله وعدمه.

(الخامس) ـ قد صرحوا (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز التعويل على قبلة البلد إذا لم يعلم انها بنيت على الغلط ، والمراد بقبلتها محاريبها المنصوبة وقبورها ونحوها ، ونقل في التذكرة الإجماع عليه. والظاهر من كلامهم التعليل ببعد اجتماع الخلق الكثير في المدد المتطاولة على الخطأ. وإطلاق كلامهم يقتضي انه لا فرق في ذلك بين ما يفيد العلم بالجهة أو الظن ولا بين ان يكون المصلي متمكنا من معرفة القبلة بالعلامات المفيدة للعلم أو الاجتهاد المفيد للظن أو ينتفي الأمران فإنه يعول على قبلة البلد على جميع هذه التقادير أقول : وفي بعض هذه الشقوق اشكال وهو انه لو كان قبلة البلد انما تفيد الظن بالجهة مع تمكنه من العلم فان الظاهر وجوب الرجوع الى العلامات المفيدة للعلم ، ولعل في تصريح بعضهم في هذا المقام بأنه إن جهلها عول على الأمارات المفيدة للظن ما يشير الى ما قلناه. وبالجملة فإنه لا يجوز الرجوع الى الظن إلا مع تعذر العلم كائنا ما كان.

وإطلاق كلامهم أعم من ان تكون البلدة من الأمصار العظيمة أو قرية من القرى


قال في الذكرى : لو كانت قرية صغيرة نشأ فيها قرون من المسلمين لم يجتهد في قبلتها.

وصرح جماعة منهم بعدم جواز التعويل على المحاريب المنصوبة في الطرق النادر مرور المسلمين عليها ونحو القبر والقبرين من المسلمين في الموضع المنقطع.

وصرح جملة منهم بعدم جواز الاجتهاد في الجهة التي عليها قبلة البلد ، والظاهر ان مرادهم الاجتهاد إلى إحدى الجهات الأربع كجهة المغرب مثلا بان يجتهد فيها إلى جهة الشمال ونحوها اما في التيامن والتياسر في تلك الجهة فإنه يجوز الاجتهاد فيه لعموم الأمر بالتحري. وربما قيل بالمنع لان احتمال اصابة الخلق الكثير أقرب من اصابة الواحد. واعترض عليه بأنه يجوز انهم تركوا الاجتهاد لعدم وجوبه عليهم فهذا التعليل انما يتم لو ثبت وجوب الاجتهاد عليهم ووقوعه منهم.

أقول : قد أشرنا سابقا إلى انه لا يخفى على من تأمل جميع البلدان ولا شاهد أبلغ من العيان فإنه ليس شي‌ء منها موافقا للعلامات الرياضية التي حكموا بإفادتها العلم فضلا عن الظن ، فاني من جملة من تتبع ذلك لأني لما سافرت الى حج بيت الله الحرام على طريق البحر رجعت على طريق البر فاتفق ان جماعة الحجاج اتفقوا مع الأمير ان يمضي بهم الى المدينة فخرجنا من مكة المعظمة سائرين إلى جهة الشمال خمسة أيام حتى وصلنا الى منزل يقال له مران فوقع بين الأمير والحاج اختلاف في ما وعدهم وطلب منهم مبلغا زائدا واتفق الأمر على عدم مغدى المدينة المشرفة والرجوع الى الأحساء ، فمشينا على الطريق المتوجهة إلى الأحساء وكان مسيرنا الى طرف المشرق وكنت إذا جن الليل ارى المسير على مطلع الثريا وهو مائل عن نقطة المشرق إلى جهة الشمال كما لا يخفى حتى وصلنا الى منزل يسمى سديرة فسافرنا منه قاصدين إلى جهة الشمال ثلاثة أيام ثم دخلنا الأحساء ، والأحساء كالبحرين والقطيف قبلتها الآن على نقطة المغرب ، وما ذكرناه من هذا الانحراف الذي شاهدناه موافق لما ذكره علماء الهيئة مما قدمنا نقله ومؤيد له مع ان قبلة هذه البلدان منذ وجدت ودخلت في الإسلام في زمن النبي (صلى الله عليه


وآله) وعين فيها ولاة من جهته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) انما كان على هذه الجهة التي هي نقطة المغرب واستمر عليها السلف والخلف ، وقد قدمنا لك ما وقع في مصرنا لبعض الفضلاء الأعيان في اجتهاده في مساجد بهبهان ، ومثل ذلك ما ذكره شيخنا الشهيد في الذكرى قال : وقد وقع في زماننا اجتهاد بعض علماء الهيئة في قبلة مسجد دمشق وان فيه تياسرا عن القبلة مع تواطؤ الأعصار الماضية على عدم ذلك. انتهى. وقد وقع مثله لشيخنا الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي في قبلة خراسان كما ذكره بعض الأعيان. ونقل في الذخيرة عن عبد الله بن المبارك انه أمر أهل مرو بالتياسر بعد رجوعه من الحج ، وقد تقدم في كلام شيخنا المجلسي ان محراب مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مخالف للقواعد الرياضية وكذا مسجد الكوفة ومسجد السهلة ومسجد يونس وتقدم بيان ذلك ، الى غير ذلك من البلدان التي يقع التأمل فيها والمطابقة بين قبلتها والقبلة التي ذكرها علماء الهيئة بالنسبة إليها ، واللازم من ذلك أحد أمرين اما بطلان صلوات أهل تلك البلدان في جميع الأزمان أو عدم اعتبار هذه العلامات وان أفادت اليقين كما ذكروه دون الظن والتخمين. والأول أظهر في البطلان من ان يحتاج الى البيان سيما وجملة منها مما صلى فيه الأئمة (عليهم‌السلام) كالمدينة وخراسان ومسجد الكوفة ودعوى التغيير في هذه البلدان عما كانت عليه في سابق الأزمان دعوى بغير دليل بل مخالفة لما جرت عليه كافة العلماء جيلا بعد جيل فيتعين الثاني ، ويتأيد بما قدمناه من الاخبار والمؤيدات الدالة على سعة أمر القبلة ، وبذلك يسقط هذا البحث من أصله وما ذكر فيه من التفريعات. والله العالم.

(السادس) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في عدم جواز الفريضة على الراحلة اختيارا بل قال في المعتبر انه مذهب العلماء كافة سواء في ذلك الحاضر والمسافر.

والأصل في ذلك الأخبار ، ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن


ابن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا يصلي على الدابة الفريضة إلا مريض يستقبل به القبلة وتجزئه فاتحة الكتاب ويضع بوجهه في الفريضة على ما امكنه من شي‌ء ويومئ في النافلة إيماء».

وعن عبد الله بن سنان (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) أيصلي الرجل شيئا من المفروض راكبا؟ قال لا إلا من ضرورة».

وعن عبد الله بن سنان في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «لا تصل شيئا من المفروض راكبا ، قال النضر في حديثه : إلا ان تكون مريضا».

وصاحب المدارك قد نقل الرواية الاولى من روايتي عبد الله بن سنان المذكورتين وجعلها من الموثق مع ان في سندها احمد بن هلال وهو ضعيف غال وروايته الموثقة انما هي الثانية بغير المتن الذي نقله.

واما ما يدل على الجواز مع الضرورة مضافا الى ما عرفت من هذه الروايات فمنه ما رواه الشيخ عن محمد بن عذافر (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل يكون في وقت الفريضة لا يمكنه الأرض من القيام عليها ولا السجود عليها من كثرة الثلج والماء والمطر والوحل أيجوز له ان يصلي الفريضة في المحل؟ قال نعم هو بمنزلة السفينة إن امكنه قائما وإلا قاعدا ، وكل ما كان من ذلك فالله اولى بالعذر يقول الله عزوجل : بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (5).

وعن جميل بن دراج في الصحيح (6) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول صلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الفريضة في المحمل في يوم وحل ومطر».

وعن مندل بن علي (7) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول صلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على راحلته الفريضة في يوم مطير». وقال في الفقيه (8)

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 6 و 7 و 8) رواه في الوسائل في الباب 14 من القبلة.

(5) سورة القيامة ، الآية 14.


«كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يصلي على راحلته الفريضة في يوم مطير».

وعن الحميري وهو عبد الله بن جعفر (1) قال : «كتبت الى ابي الحسن (عليه‌السلام) روى جعلني الله فداك مواليك عن آبائك ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) صلى الفريضة على راحلته في يوم مطير ويصيبنا المطر في محاملنا والأرض مبتلة والمطر يؤذي فهل يجوز لنا يا سيدي ان نصلي في هذه الحال في محاملنا أو على دوابنا الفريضة ان شاء الله تعالى؟ فوقع (عليه‌السلام) يجوز ذلك مع الضرورة الشديدة».

وروى أبو منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن محمد ابن عبد الله بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (صلوات الله عليه) (2) «انه كتب إليه يسأله عن رجل يكون في محمله والثلج كثير بقامة رجل فيتخوف ان نزل الغوص فيه وربما يسقط الثلج وهو على تلك الحال فلا يستوي له ان يلبد شيئا منه لكثرته وتهافته هل يجوز ان يصلي في المحمل الفريضة فقد فعلنا ذلك أياما فهل علينا في ذلك إعادة أم لا؟ فأجاب لا بأس به عند الضرورة والشدة».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (3) «ان صليت فريضة على ظهر دابتك استقبل القبلة بتكبيرة الإحرام ثم امض حيث توجهت بك دابتك تقرأ فإذا أردت الركوع والسجود استقبل القبلة واركع واسجد على شي‌ء يكون معك مما يجوز عليه السجود ولا تصلها إلا في حال الاضطرار جدا ، وتفعل فيها مثله إذا صليت ماشيا إلا انك إذا أردت السجود سجدت على الأرض».

واما ما رواه الشيخ عن منصور بن حازم ـ (4) قال : «سأله أحمد بن النعمان فقال أصلي في محملي وانا مريض؟ قال فقال اما النافلة فنعم واما الفريضة فلا. قال وذكر أحمد شدة وجعه فقال انا كنت مريضا شديد المرض فكنت آمرهم إذا حضرت الصلاة ينيخوا بي فاحتمل بفراشي فأوضع وأصلي ثم احتمل بفراشي فأوضع في محملي». ـ فحمله الشيخ على

__________________

(1 و 2 و 4) الوسائل الباب 14 من القبلة.

(3) ص 16.


الاستحباب. والأقرب حمله على مرض يحتمل فيه الوضع على الأرض كما حكاه الامام (عليه‌السلام) عن نفسه ، وقد عرفت من روايتي الحميري وابنه اناطة الصلاة في المحمل بالضرورة الشديدة.

وتحقيق البحث كما هو حقه في المقام يتوقف على رسم فوائد :

(الأولى) (1) ـ إطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي انه لا فرق في الصلاة المفروضة بين اليومية وغيرها ولا بين ما وجب بالأصل أو لعارض ، وبه صرح الشهيد (قدس‌سره) في الذكرى فقال : لا تصح الفريضة على الراحلة اختيارا إجماعا لاختلال الاستقبال وان كانت منذورة سواء نذرها راكبا أو مستقرا على الأرض لأنها بالنذر أعطيت حكم الواجب. قال في المدارك بعد نقل ملخص ذلك : ويمكن القول بالفرق واختصاص الحكم بما وجب بالأصل خصوصا مع وقوع النذر على تلك الكيفية عملا بمقتضى الأصل وعموم ما دل على وجوب الوفاء بالنذر. ويؤيده رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل جعل لله عليه ان يصلي كذا وكذا هل يجزئه ان يصلي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال نعم». ثم قال وفي الطريق محمد بن أحمد العلوي ولم يثبت توثيقه. وسيأتي تمام البحث في ذلك ان شاء الله تعالى. انتهى وما ذكره جيد للخبر المذكور مؤيدا بما ذكره قبله وان عكس الأمر بناء على ضعفه باصطلاحه كما نبه عليه.

أقول : يمكن ان يقال باختصاص إطلاق الاخبار هنا باليومية لأنها المتبادرة عند الإطلاق والفرد المتكثر المتكرر الشائع فينصرف إليه الإطلاق كما قرروه في أمثال هذا الموضع ، وبه يتأيد ما ذكر في حكم الصلاة المنذورة لعدم دخولها تحت الإطلاق المذكور بناء على ما ذكرناه.

__________________

(1) هذه الفائدة هي الثانية في النسخة المطبوعة القديمة مع انها الاولى في النسخ الخطية ولذا قدمناها ويساعده ترتيب الفوائد أيضا كما يظهر بالتأمل ، واما الاولى في النسخة المطبوعة فهي الثالثة في هذه الطبعة كما في النسخ الخطية.

(2) الوسائل الباب 14 من القبلة.


(الثانية) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه يجب الاستقبال بما أمكن من صلاته لقوله تعالى «فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ» (1) وعلى هذا فيجب عليه ان يحرف الدابة لو انحرفت عن القبلة مع المكنة إذا كان المشي إلى صوب القبلة. ولو حرفها عنها عمدا لغير ضرورة بطلت صلاته.

والذي وقفت عليه من الأخبار مما يتعلق بهذا الحكم صحيحة زرارة (2) قال : «قال أبو جعفر (عليه‌السلام) الذي يخاف اللصوص والسبع يصلي صلاة الموافقة إيماء على دابته. ثم قال ويجعل السجود اخفض من الركوع ولا يدور إلى القبلة ولكن أينما دارت دابته غير انه يستقبل القبلة بأول تكبيرة حين يتوجه».

وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (3) «إذا كنت راكبا وحضرت الصلاة وتخاف ان تنزل من سبع أو لص أو غير ذلك فلتكن صلاتك على ظهر دابتك وتستقبل القبلة وتومئ إيماء إن أمكنك الوقوف وإلا استقبل القبلة بالافتتاح ثم امض في طريقك التي تريد حيث توجهت بك راحلتك مشرقا ومغربا ، وتنحني للركوع والسجود ويكون السجود اخفض من الركوع ، وليس لك ان تفعل ذلك إلا آخر الوقت».

وظاهر الجميع بل صريحه الاستقبال بتكبيرة الافتتاح ، وقد دلت العبارة المتقدمة على الاستقبال ايضا بالركوع والسجود وعليه العمل وان كان المحافظة على ما ذكروه أحوط

ثم انه بناء على ما قدمنا ذكره عنهم قيل يجب عليه تحري الأقرب إلى جهة القبلة فالأقرب ، قال في المدارك : وكأن وجهه ان للقرب أثرا عند الشارع ولهذا افترقت الجهات في الاستدراك لو ظهر خطأ الاجتهاد. وقيل بالعدم للخروج عن القبلة فتتساوى الجهات. قال في المدارك : ولو قيل يجب تحري ما بين المشرق والمغرب دون باقي الجهات لتساويها في الاستدراك لو ظهر خطأ الاجتهاد لقولهم (عليهم‌السلام) (4) «ما بين المشرق

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 139 و 145.

(2) الوسائل الباب 3 من صلاة الخوف.

(3) ص 14.

(4) الوسائل الباب 9 و 10 من القبلة.


والمغرب قبلة». كان قويا. انتهى. أقول : قد عرفت انه بالنظر الى الخبرين المذكورين وما دلا عليه فلا اثر لهذه التخريجات.

(الثالثة) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) أيضا بالنسبة إلى الماشي المضطر إلى الصلاة مع ضيق الوقت انه يستقبل القبلة بما امكنه من صلاته ويسقط مع العجز

واستدل عليه في المدارك بقوله عزوجل «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً» (1) وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يخاف من سبع أو لص كيف يصلي؟ قال يكبر ويومئ برأسه».

وأنت خبير بما في الدليل المذكور من القصور عن الاستدلال فإنه لا دلالة فيه على المشي بوجه وغاية ما تدل عليه الرواية الصلاة في حال الخوف من السبع بالإيماء وان كان واقفا في محله.

وأظهر منها صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الرجل يلقى السبع وقد حضرت الصلاة ولا يستطيع المشي مخافة السبع فان قام يصلي خاف في ركوعه وسجوده السبع والسبع امامه على غير القبلة فإن توجه إلى القبلة خاف ان يثب عليه الأسد كيف يصنع؟ قال يستقبل الأسد ويصلي ويومئ برأسه إيماء وهو قائم وان كان الأسد على غير القبلة».

والآية والخبر ايضا على تقدير دلالتهما لا دلالة لهما على اعتبار ضيق الوقت كما ذكروه إلا ان يدعى ذلك في جميع أصحاب الأعذار كما تقدم.

والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه في الكافي في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي على راحلته؟ قال يومئ إيماء وليجعل السجود اخفض من الركوع. قلت يصلي وهو يمشي. قال نعم يومئ

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 240.

(2 و 3) الوسائل الباب 3 من صلاة الخوف.

(4) رواه في الوسائل في الباب 15 و 16 من القبلة.


إيماء وليجعل السجود اخفض من الركوع».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن يعقوب بن شعيب (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في السفر وانا أمشي؟ قال اومئ إيماء واجعل السجود اخفض من الركوع».

وما رواه الثلاثة في الصحيح عن حريز عن من ذكره عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) «انه لم يكن يرى بأسا ان يصلي الماشي وهو يمشي ولكن لا يسوق الإبل».

وإطلاق هذه الاخبار وان تبادر منه النافلة لكنه شامل للفريضة أيضا وان قيدت بحال الضرورة كما لا يخفى.

ويدل على ذلك صريحا قوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (3) بعد ذكر صلاة الراكب على ظهر الدابة وانه يستقبل القبلة بتكبيرة الافتتاح ثم يمضي حيث توجهت دابته وانه وقت الركوع والسجود يستقبل القبلة ويركع ويسجد على شي‌ء يكون معه مما يجوز عليه السجود ، الى ان قال : وتفعل فيها مثله إذا صليت ماشيا إلا انك إذا أردت السجود سجدت على الأرض. انتهى.

وروى في المقنعة (4) قال : «سئل (عليه‌السلام) عن الرجل يجد به السير أيصلي على راحلته؟ قال لا بأس بذلك يومئ إيماء وكذلك الماشي إذا اضطر إلى الصلاة». والتقييد بجد السير في الراكب والاضطرار في الماشي قرينة الحمل على الفريضة إذ لا يشترط شي‌ء من ذلك في النافلة كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ثم انهم ذكروا انه لو أمكن الركوب والمشي في الفريضة مع عدم إمكان الاستقرار احتمل التخيير لظاهر قوله تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً» (5) وترجيح المشي لحصول ركن القيام وترجيح الركوب لان الراكب مستقر بالذات وان تحرك بالعرض

__________________

(1 و 2 و 4) رواه في الوسائل في الباب 16 من القبلة.

(3) ارجع الى ص 409.

(5) سورة البقرة ، الآية 240.


بخلاف الماشي. والأجود تقديم أكثرهما استيفاء للافعال ومع التساوي فالتخيير.

(الرابعة) ـ لو كان الراكب يتمكن من الركوع والسجود وفرائض الصلاة كالراكب في الكنيسة أو على بعير معقول أو نحو ذلك فهل يجوز الصلاة أم لا؟ المشهور الثاني لظواهر الأخبار المتقدمة لإطلاقها في المنع من الصلاة راكبا ، قال شيخنا الشهيد الثاني وهي عامة ووجه عمومها الاستثناء المذكور فيها. وأورد عليه سبطه في المدارك ان هذا العموم انما هو في الفاعل خاصة اما الدابة فمطلقة ، ولا يبعد حملها على ما هو الغالب اعني من لا يتمكن من استيفاء الأفعال. انتهى. وهو جيد. ونقل عن فخر المحققين الاستدلال على ذلك بما لا يخلو من ضعف كما نبه عليه في المدارك.

ثم قال في المدارك : والأقرب الجواز كما اختاره العلامة في النهاية إذ المفروض التمكن من استيفاء الأفعال والأمن من زواله عادة في ثاني الحال. انتهى. وهو جيد ان تم ما ذكره من التمكن.

إلا ان ظاهر كلام الشهيد في الذكرى تعليل المنع في الكنيسة بعدم الاستقرار وعليه فلا يكون متمكنا من استيفاء الأفعال حيث انه علل المنع في الراكب في الكنيسة بعدم الاستقرار ، قال ولهذا لا يصح صلاة الماشي مستقبلا مستوفيا للأفعال لأن المشي أفعال كثيرة خارجة عن الصلاة فيبطلها وانما خرجت النافلة بدليل آخر مع المسامحة فيها. انتهى.

وعندي في حمل الصلاة في الكنيسة على صلاة الماشي وانها مثلها في عدم الاستقرار إشكال ، لأن الراكب في الكنيسة مستقر في مكانه وانما يتحرك به البعير والدابة بخلاف الماشي المتحرك بنفسه ، وبالجملة فإني لا اعرف له وجه استقامة. ومثله الكلام في الدابة المعقولة بحيث لا يأمن من الحركة والاضطراب فان استيفاء الأفعال على ظهرها غير ممكن مع ان إطلاق الأمر بالصلاة ينصرف الى الفرد المعهود وهو ما كان على الأرض وما في معناها فالأظهر العدم إلا مع الضرورة.


وأشكل من ذلك ما ذكروه في الأرجوحة المعلقة بالحبال فقال في المدارك على اثر عبارته المتقدمة ـ وهي قوله : والأقرب الجواز كما اختاره العلامة في النهاية ـ وقريب من ذلك الكلام في الأرجوحة المعلقة بالحبال ونحوها. فإنه ظاهر في جواز الصلاة عليها ، وظاهره باعتبار اتصاله بالكلام المتقدم انه يمكن استيفاء الأفعال عليها ، ونقل القول بالجواز عليها عن العلامة في التذكرة أيضا. ومنع من الصلاة عليها في الذكرى ونقله في الذخيرة عن المنتهى ايضا ونقل عن القواعد التوقف.

والأرجوحة على ما ذكره في القاموس حبل يعلق ويركبه الصبيان ، وهو معمول في زماننا أيضا بأن يعلق حبل بين جذعين رفيعين ويجلس عليه الصبي فيحرك به في الهواء صعودا ونزولا.

ولا يخفى ما في عده في هذا المقام والحكم بصحة الصلاة عليه من الاشكال لاضطرابه وعدم استقراره وعدم إمكان القيام عليه والركوع والسجود والجلوس كما هو بوجه من الوجوه ، ولعلهم أرادوا بما ذكروه معنى آخر غير ما ادى اليه فهمي القاصر إلا ان عبارة القاموس ظاهرة فيما قلناه.

وقد روى علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي على الرف المعلق بين نخلتين؟ قال ان كان مستويا يقدر على الصلاة عليه فلا بأس».

قال شيخنا المجلسي في كتاب البحار بعد نقل الخبر من كتاب قرب الاسناد : يدل على جواز الصلاة على الرف المعلق بين النخلتين وهو يحتمل وجهين (الأول) ان يكون المراد شد الرف بالنخلتين فالسؤال باعتبار احتمال حركتهما والجواب مبني على انه يكفي الاستقرار في الحال فلا يضر الاحتمال أو على عدم ضرر مثل تلك الحركة. و (الثاني) ان يكون المراد تعليق الرف بحبلين مشدودين بنخلتين ، وفيه اشكال لعدم

__________________

(1) الوسائل الباب 35 من مكان المصلى.


تحقق الاستقرار في الحال. والحمل على الأول أولى وأظهر ويؤيده ما ذكره الفيروزآبادي في تفسير الرف بالفتح انه شبه الطاق. انتهى.

أقول : الظاهر من تشبيهه بالطاق يعني في الانحناء وحينئذ فتكون حد بيته في جانب السفل ليحصل القيام على باطنها ، وينبغي ان يكون فيه عرض يحصل فيه السجود والركوع والجلوس مع طمأنينة واستقرار ، واليه يشير قوله : «إذا كان مستويا يقدر على الصلاة عليه» والظاهر ان منشأ السؤال انما هو من حيث كونه في الهواء ليس على الأرض وان أمكن الاستقرار فيه والإتيان بالصلاة فيه على وجهها.

وبالجملة فإن ذكر الأرجوحة في هذا المقام مع ما عرفت غريب لا اعرف له وجه استقامة على الظاهر. والله العالم.

(السابع) ـ قال شيخنا الشهيد في الذكرى : لو اختلف المجتهدون صلوا فرادى لا جماعة لأن المأموم ان كان محقا في الجهة فسدت صلاة امامه وإلا فصلاته فيقطع بفساد صلاة المأموم على التقديرين. ثم قال بعد ذلك بقليل : لو اختلف الامام والمأموم في التيامن والتياسر فالأقرب جواز الاقتداء لأن صلاة كل منهما صحيحة مغنية عن القضاء والاختلاف هنا يسير ، ولان الواجب مع البعد الجهة وهي حاصلة هنا والتكليف بالعين مع البعد ضعيف. انتهى.

أقول : الظاهر ان كلامه الأول مبني على ما هو المشهور بينهم من ان مناط الصحة مطابقة ما فعله المكلف للواقع وان كان بحسب ظاهر الشرع متعبدا بظنه ، وحينئذ فغاية ما تفيده عبادته مع المخالفة هو سقوط القضاء والمؤاخذة لا قبول العبادة وصحتها وترتب الثواب عليها من حيث كونها عبادة. وقد عرفت ما فيه في ما تقدم من كتاب الطهارة من النجاسات ، وإلا فكيف يحكم هنا ببطلان صلاة أحدهما والحال ان كلا منهما مكلف بما ادى اليه اجتهاده وامتثال الأمر يقتضي الإجزاء ، فتكون صلاة كل منهما صحيحة مغنية عن القضاء كما قال في المسألة الثانية ، وحينئذ فلا فرق بين المسألة الاولى


والثانية في صحة الاقتداء وصحة صلاة كل منهما.

ولهذه المسألة نظائر عديدة : منها ـ ما لو توضأ بماء قليل نجس بالملاقاة كما هو المشهور من نجاسة القليل بالملاقاة لأنه عنده غير نجس كما هو القول الآخر في المسألة ، فإنه ان قلنا ان الصحة عبارة عن مطابقة الطهارة للواقع امتنع الائتمام به لمن يعتقد النجاسة لعدم معلومية المطابقة ، وان قلنا ان صحتها لا تعلق لها بالواقع بل الظاهر في نظر المكلف فهي عند المأموم وان كان لا يعتقد ذلك صحيحة فيجوز له الاقتداء فيها وان خالف اعتقاده لان صحتها دائرة مدار ظن فاعلها ، وهكذا غير ذلك من الفروع فاحتفظ به فإنه فرع غريب.

ثم ان الظاهر ان المراد بالتياسر والتيامن في كلامه ما كان قليلا بحيث لا يخرج به عن الجهة التي يجب التوجه إليها وان كان مكروها كما سيأتي ان شاء الله تعالى ، والوجه فيه ان العلامات التي بنيت عليها الجهة للبلدان المتسعة تقتضي نوع اتساع في تلك الجهة فلا يضر التيامن والتياسر اليسير فيها.

(الثامن) ـ اختلف كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الصلاة في السفينة فذهب ابن بابويه وابن حمزة على ما نقل عنهما الى جواز الصلاة فيها فرضا ونفلا مختارا ، وهو ظاهر اختيار العلامة في أكثر كتبه واليه مال السيد السند في المدارك ، ونقل عن ابي الصلاح وابن إدريس أنهما منعا من الصلاة فيها إلا لضرورة ، واستقربه الشهيد في الذكرى ، وحكى عن كثير من الأصحاب انهم نصوا على الجواز إلا انهم لم يصرحوا بكونه على وجه الاختيار.

والواجب ذكر أخبار المسألة والنظر في ما تدل عليه ، ومنها ـ صحيحة جميل بن دراج عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) انه قال : «أكون في سفينة قريبة من الجد فاخرج وأصلي؟ قال صل فيها اما ترضى بصلاة نوح (عليه‌السلام)».

__________________

(1) الوسائل الباب 13 من القبلة. وفي كتب الحديث. تكون السفينة قريبة.».


وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن صلاة الفريضة في السفينة وهو يجد الأرض يخرج إليها غير انه يخاف السبع أو اللصوص ويكون معه قوم لا يجتمع رأيهم على الخروج ولا يطيعونه؟ وهل يضع وجهه إذا صلى أو يومئ إيماء أو قاعدا أو قائما؟ فقال ان استطاع ان يصلي قائما فهو أفضل وان لم يستطع صلى جالسا ، وقال لا عليه ان لا يخرج فان ابي سأله عن مثل هذه المسألة رجل فقال أترغب عن صلاة نوح؟».

وصحيحة معاوية بن عمار (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في السفينة؟ فقال تستقبل القبلة بوجهك ثم تصلي كيف دارت تصلي قائما فان لم تستطع فجالسا تجمع الصلاة فيها ان أرادوا ويصلى على القبر والقفر ويسجد عليه».

وحسنة حماد بن عثمان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «انه سئل عن الصلاة في السفينة قال يستقبل القبلة فإذا دارت واستطاع ان يتوجه إلى القبلة فليفعل وإلا فليصل حيث توجهت به ، قال فإن أمكنه القيام فليصل قائما وإلا فليقعد ثم يصلي».

وبهذه الاخبار استدل في المدارك على ما اختاره من القول بالجواز مطلقا ثم نقل عن المانعين انهم احتجوا بان القرار ركن في القيام وحركة السفينة تمنع من ذلك ، وبان الصلاة فيها مستلزمة للحركات الكثيرة الخارجة عن الصلاة فلا يصار إليها إلا مع الضرورة ، وبما رواه الشيخ عن حماد بن عيسى (4) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يسأل عن الصلاة في السفينة فيقول ان استطعتم ان تخرجوا الى الجدد فاخرجوا فان لم تقدروا فصلوا قياما فان لم تستطيعوا فصلوا قعودا وتحروا القبلة». وعن علي بن إبراهيم (5) قال : «سألته عن الصلاة في السفينة قال يصلي وهو جالس إذا لم يمكنه القيام في السفينة ولا يصلي في السفينة وهو يقدر على الشط ، وقال يصلي في السفينة يحول وجهه

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 14 من القيام.

(3 و 4 و 5) الوسائل الباب 13 من القبلة.


إلى القبلة ثم يصلي كيف ما دارت». ثم قال : وأجيب عن الأول بأن الحركة بالنسبة إلى المصلي عرضية لانه ساكن. ويمكن الجواب عنه أيضا بان ذلك مغتفر بالنص وهو الجواب عن الثاني. وعن الروايتين بعد سلامة السند بحمل الأمر في الأولى على الاستحباب والنهي في الثانية على الكراهة جمعا بين الأدلة. انتهى.

أقول : والتحقيق عندي في هذا المقام ان يقال لا ريب انه قد علم من الأدلة القطعية وجوب القيام في الصلاة والاستقبال والركوع والسجود والاستقرار والطمأنينة في تلك الأفعال وانه لا يجوز الإخلال بذلك اختيارا ، ويؤيده مراعاة ذلك في الصلاة في السفينة كما دلت عليه الروايات المذكورة في الباب وانه لا يخل بشي‌ء من ذلك إلا مع عدم التمكن منه ، ويعضده ايضا ما تقدم من الاخبار الدالة على عدم جواز الصلاة على الراحلة اختيارا ، وبما ذكرنا اعترف السيد المذكور في مسألة الصلاة على ظهر الكعبة حيث قال بعد نقل القول بأنه يصلي مستلقيا ما صورته : والأصح ما اختاره المصنف من وجوب الصلاة على سطحها كما يصلي داخلها عملا بمقتضى الأدلة القطعية الدالة على وجوب القيام والاستقبال والركوع والسجود. انتهى. وحينئذ فالواجب في هذا المقام تطبيق الأخبار الواردة في الصلاة في السفينة على هذه القواعد القطعية المتفق على العمل بها ، والأخبار المذكورة عند التأمل الصادق في معانيها منطبقة عليها بأوضح وجه من غير تكلف ولا خروج عن ظواهرها كما سنوضحه ان شاء الله تعالى في المقام ، وبموجب ذلك لا يتم ما ذهبوا اليه من القول بالجواز مطلقا على اي نحو كانت السفينة من استقرار واضطراب

وتفصيل ما أجملناه من الكلام المتقدم هو ان يقال انه ان لم يتمكن من الأرض والصلاة عليها على الوجه المتقدم من الإتيان بجميع الشرائط فلا ريب انه يصلي في السفينة على اي نحو كانت لمكان الضرورة ويتحرى الإتيان بتلك الواجبات حسب الإمكان ، وعلى هذا تحمل الأخبار الدالة على جواز الصلاة في السفينة وان دارت وتحركت واضطربت كصحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة معاوية بن عمار وحسنة حماد بن عثمان


ونحوها ، وان تمكن من الخروج من السفينة والصلاة على الأرض فلا يخلو اما ان يتمكن من الصلاة في السفينة والإتيان بها على وجهها أيضا أم لا ، فعلى الأول يتخير بين الصلاة في السفينة وخارجها وعلى هذا تحمل صحيحة جميل بن دراج ومثلها ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل هل يصلح له ان يصلي في السفينة الفريضة وهو يقدر على الجد؟ قال نعم لا بأس». وعلى الثاني يجب الخروج والصلاة على الأرض تحصيلا للإتيان بالواجبات المتقدمة على وجهها لإمكان الإتيان بها كما هو المفروض ولا يجوز الصلاة في السفينة هنا وهذه الصورة هي مظهر الخلاف في البين ، وعلى ما ذكرنا تدل صحيحة حماد بن عيسى أو حسنته بإبراهيم بن هاشم التي نقلها عارية عن الوصف بشي‌ء من الأمرين إيذانا بضعفها كما أشار إليه أخيرا ، ورواية علي بن إبراهيم ، ومثلهما ما رواه في كتاب قرب الاسناد عن محمد بن عيسى والحسن بن ظريف وعلي بن إسماعيل كلهم عن حماد بن عيسى (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول كان أهل العراق يسألون أبي (رضي‌الله‌عنه) عن صلاة السفينة فيقول ان استطعتم ان تخرجوا الى الجد فافعلوا فان لم تقدروا فصلوا قياما فان لم تقدروا فصلوا قعودا ونحروا القبلة». ومحمد بن عيسى وان كان مشتركا وعلي بن إسماعيل مهملا إلا ان الحسن بن ظريف ثقة فالحديث صحيح صريح في المراد.

وعلى ما ذكرناه قد اجتمعت الاخبار على وجه لا يعتريه الغبار إلا انه قد روى الصدوق في كتاب الهداية مرسلا (3) قال : «سئل الصادق (عليه‌السلام) عن الرجل يكون في السفينة وتحضر الصلاة أيخرج الى الشط؟ فقال لا أيرغب عن صلاة نوح؟ فقال صل في السفينة قائما فان لم يتهيأ لك من قيام فصلها قاعدا فان دارت السفينة فدر معها وتحر

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 14 من القيام.

(3) مستدرك الوسائل الباب 9 من القبلة.


القبلة جهدك فان عصفت الريح ولم يتهيأ لك ان تدور إلى القبلة فصل الى صدر السفينة. ولا تجامع مستقبل القبلة ولا مستدبرها».

وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي (1) «إذا كنت في السفينة وحضرت الصلاة فاستقبل القبلة وصل إن أمكنك قائما وإلا فاقعد إذا لم يتهيأ لك فصل قاعدا وان دارت السفينة فدر معها وتحر القبلة ، وان عصفت الريح فلم يتهيأ لك ان تدور إلى القبلة فصل الى صدر السفينة ولا تخرج منها الى الشط من أجل الصلاة ، وروى انه تخرج إذا أمكنك الخروج ولست تخاف عليها انها تذهب ان قدرت ان توجه نحو القبلة وان لم تقدر تثبت مكانك ، هذا في الفرض ويجزئك في النافلة ان تفتتح الصلاة تجاه القبلة ثم لا يضرك كيف دارت السفينة لقول الله تعالى «فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» (2) والعمل على ان تتوجه إلى القبلة وتصلي على أشد ما يمكنك في القيام والقعود ثم ان يكون الإنسان ثابتا في مكانه أشد لتمكنه في الصلاة من ان يدور لطلب القبلة». انتهى.

وهذان الخبران ظاهران في جواز الصلاة في السفينة حال الاضطراب وان امكنه الخروج إلى الأرض ، والجواب عنهما انهما لا يبلغان قوة في معارضة ما أشرنا إليه من الاخبار الدالة على تلك الأحكام عموما وخصوصا ولا يبعد حملهما على التقية وان لم يحضرني الآن مذهب العامة في ذلك ، ولعل في قوله (عليه‌السلام) في كتاب الفقه بعد إفتائه بذلك «وروى. الى آخره» إشارة الى ذلك فان مخالفته لما روى عن آبائه (عليهم‌السلام) انما يكون لذلك.

وبذلك يظهر لك ما في كلام السيد السند في المدارك من المجازفة في المقام (اما أولا) فلطعنه في رواية إبراهيم بن هاشم بعدم سلامة السند مع انه في الأغلب يعد حديثه في الحسن وربما عده في الصحيح في المقام الذي يحتاج الى العمل به كما أشرنا إليه في غير موضع.

__________________

(1) ص 14.

(2) سورة البقرة ، الآية 109.


و (ثانيا) ـ تعليله المنع بان القرار ركن في القيام وجوابه عن ذلك بما ذكره أخيرا ، ولا يخفى عليك ما فيه فان جواز الصلاة في السفينة ربما استلزم ترك القيام بالكلية وترك الركوع والسجود على ما يصح السجود عليه ونحو ذلك ، وكل هذه واجبات قطعية كما اعترف به آنفا لا يجوز الإخلال بها اختيارا ولهذا روعيت في الصلاة في السفينة مع الاضطرار ، فكيف تكون مغتفرة بالنص كما ادعاه والحال انه يمكن الإتيان بها على وجهها بالخروج عن السفينة؟ ما هذه إلا مجازفة ظاهرة ، نعم لو لم يمكن ذلك فلا شك في الجواز ولا خلاف لمكان الضرورة.

و (ثالثا) ـ ان ما جمع به بين الأخبار من حمل النهي في رواية علي بن إبراهيم على الكراهة والأمر في حسنة حماد على الاستحباب كما هي الطريق المتسع لهم في جميع الأبواب انما يتم على تقدير تسليم ذلك لو انحصر الجمع بين الاخبار بذلك ، وليس كذلك بل الأظهر في الجمع ـ وهو الطريق الواضح ـ هو ان يقال ان الروايات التي استدل بها ما عدا صحيحة جميل مطلقة وروايتنا مفصلة وطريق الجمع حمل المجمل على المفصل ، واما صحيحة جميل فقد عرفت الوجه فيها.

ثم ان ما تكرر من الاخبار ـ من قولهم (عليهم‌السلام) : «أترغب عن صلاة نوح» ونحو ذلك مما يدل على هذا المعنى ـ فالظاهر ان وجهه انهم كانوا يظنون عدم جواز الصلاة في السفينة أو نقصانها ولو مع الضرورة فأجيبوا بذلك كما يشعر به

صحيح أبي أيوب الخزاز (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) انا ابتلينا وكنا في سفينة وأمسينا ولم نقدر على مكان نخرج اليه فقال أصحاب السفينة ليس نصلي يومنا ما دمنا نطمع في الخروج؟ فقال ان ابي كان يقول تلك صلاة نوح أو ما ترضى ان تصلى صلاة نوح؟ فقلت بلى. الحديث». والله العالم.

(البحث الثالث) ـ في ما يستقبل له وفي أحكام الخلل ، فالكلام يقع في مقامين

__________________

(1) الوسائل الباب 14 من القيام.


(الأول) ـ ما يستقبل له ، ويجب الاستقبال في فرائض الصلاة مع الإمكان كما تقدم ، وبالميت عند احتضاره والصلاة عليه ودفنه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في فصل غسل الأموات ، وعند الذبح كما يأتي ان شاء الله تعالى في محله ، كل ذلك مع الإمكان فيسقط في كل موضع لا يتمكن منه كصلاة المطاردة وعند ذبح الدابة الصائلة أو المتردية بحيث لا يمكن صرفها إلى القبلة إجماعا نصا وفتوى كما سيأتي في مواضعها ان شاء الله تعالى وذكر بعض الأصحاب ان الاستقبال يتصف بالأحكام الأربعة فيجب في هذه المواضع ويحرم في حال التخلي على المشهور كما تقدم بيانه في محله ، ويكره في حال الجماع مستقبلا ومستدبرا كما رواه الصدوق في كتاب الهداية عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «لا تجامع مستقبل القبلة ومستدبرها». وقال في كتاب الفقيه (2) «ونهى عن الجماع مستقبل القبلة ومستدبرها». ويستحب للجلوس للقضاء والدعاء مؤكدا بل الجلوس مطلقا لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (3) «أفضل المجالس ما استقبل به القبلة». ولا يكاد الإباحة بالمعنى الأخص يتحقق هنا.

ويستحب الاستقبال بالنافلة لا بمعنى انه يجوز فعلها الى غير القبلة وان كان المصلي مستقرا على الأرض بل على حد استحباب الوضوء لها والقراءة فيها ونحو ذلك من حيث انها شروط في صحتها لكن لا يتصف بالوجوب مع ان أصل النافلة مستحبة. وربما ظهر من بعض العبارات جواز النافلة الى غير القبلة وان كان مستقرا على الأرض ، وهو

__________________

(1) مستدرك الوسائل الباب 52 من مقدمات النكاح.

(2) الوسائل الباب 12 من القبلة.

(3) في الوسائل الباب 76 من أحكام العشرة : روى الشيخ بهاء الدين في مفتاح الفلاح قال وروى عن أئمتنا (ع) «خير المجالس ما استقبل به القبلة» ورواه المحقق في الشرائع مرسلا وفي المستدرك الباب 64 من أحكام العشرة عن كتاب الغايات عن ابن عباس قال قال رسول الله (ص) «ان لكل شي‌ء شرفا وان أشرف المجالس ما استقبل به القبلة».


يعيد لان العبادات موقوفة على التشريع من صاحب الشرع ولم ينقل عنه ذلك فيكون إيقاعها كذلك تشريعا محرما. ويجوز صلاتها الى غير القبلة سفرا بلا خلاف وقال في المعتبر انه اتفاق علمائنا طويلا كان السفر أو قصيرا. واما في الحضر فقولان المشهور الجواز ونقل عن ابن ابي عقيل القول بالمنع.

والأقرب جواز النافلة الى غير القبلة راكبا وماشيا سفرا وحضرا ضرورة واختيارا. ويدل على ذلك الأخبار المتكاثرة ، ومنها ـ صحيحة الحلبي برواية الشيخين في الكافي والتهذيب (1) «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن صلاة النافلة على البعير والدابة فقال نعم حيث كان متوجها. قال فقلت استقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال لا ولكن تكبر حيثما تكون متوجها وكذلك فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله». وقوله : «قال فقلت الى قوله متوجها» في رواية الكافي دون التهذيب ، وأكثر الأصحاب في كتب الاستدلال ومنهم صاحب المدارك انما نقلوا الرواية من طريق الشيخ عارية من هذه الزيادة.

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (2) «في الرجل يصلي النوافل في الأمصار وهو على دابته حيث توجهت به؟ فقال نعم لا بأس».

ورواه الصدوق في الفقيه عن عبد الرحمن عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) مثله (3).

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن حماد بن عثمان عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (4) «في الرجل يصلي النافلة على دابته في الأمصار؟ قال لا بأس».

وعن صفوان الجمال (5) قال : «كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) يصلي صلاة الليل بالنهار على راحلته أينما توجهت به».

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 15 من القبلة.

(5) الوسائل الباب 26 من أعداد الفرائض.


وعن محمد بن مسلم في الصحيح (1) قال «قال لي أبو جعفر (عليه‌السلام) صل صلاة الليل والوتر والركعتين في المحمل».

وعن علي بن مهزيار في الصحيح (2) قال : «قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى ابي الحسن (عليه‌السلام) اختلف أصحابنا في رواياتهم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في ركعتي الفجر في السفر فروى بعضهم ان صلهما في المحمل وروى بعضهم ان لا تصلهما إلا على الأرض فأعلمني كيف تصنع أنت لأقتدي بك في ذلك ، فوقع (عليه‌السلام) موسع عليك بآية عملت».

وروى في التهذيب والفقيه عن إبراهيم الكرخي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «قلت له اني اقدر على ان أتوجه إلى القبلة في المحمل؟ قال ما هذا الضيق اما لك برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أسوة؟».

وروى في التهذيب عن إبراهيم بن ميمون عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «ان صليت وأنت تمشي كبرت ثم مشيت فقرأت وإذا أردت أن تركع أومأت بالركوع ثم أومأت بالسجود ، وليس في السفر تطوع».

وروى الشيخ في الصحيح عن سيف التمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) في حديث قال : «... انما فرض الله على المسافر ركعتين لا قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلا صلاة الليل على بعيرك حيث توجه بك».

وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه الرضوي : إذا أردت أن تصلي نافلة وأنت راكب فاستقبل رأس دابتك حيث توجه بك مستقبل القبلة أو مستدبرها يمينا أو شمالا فان صليت فريضة على ظهر دابتك. الى آخر عبارة كتاب الفقه الاولى من عبارتيه المتقدمتين في الموضع السادس (6) وهذه العبارة نقلها الصدوق بتمامها في النافلة والفريضة

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 15 من القبلة.

(4) الوسائل الباب 16 من القبلة.

(5) الوسائل الباب 22 من أعداد الفرائض.

(6) ص 409.


عن أبيه في رسالته اليه حذو عبارة كتاب الفقه كلمة كلمة وحرفا حرفا الى آخرها ، وهو دليل ما أشرنا إليه في غير موضع من الاعتماد على الكتاب المذكور.

وروى الصدوق في الفقيه (1) بسنده عن سعيد بن يسار «انه سأل أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي صلاة الليل وهو على دابته أله ان يغطي وجهه وهو يصلي؟ قال اما إذا قرأ فنعم واما إذا أومأ بوجهه للسجود فليكشفه حيث أومأت به الدابة». قال في الوافي : وذلك لان الإيماء بالوجه بدل من السجود الذي يشترط فيه كشف الجبهة بخلاف القراءة. وهو حسن.

وروى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي نجران (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الصلاة بالليل في السفر في المحمل؟ قال إذا كنت على غير القبلة فاستقبل القبلة ثم كبر وصل حيث ذهب بك بعيرك. قلت جعلت فداك في أول الليل؟ فقال إذا خفت الفوت في آخره».

أقول : في هذا الخبر دلالة على ان الرخصة بتقديم صلاة الليل في أول الليل مخصوصة بمن يخاف فواتها في آخر الليل ويجب تخصيصه ايضا بمن يخاف عدم التمكن من القضاء وإلا فالقضاء أفضل وقد تقدم الكلام في المسألة.

وفي الصحيح عن عبد الله بن المغيرة وصفوان بن يحيى ومحمد بن ابي عمير عن أصحابهم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) «في الصلاة في المحمل؟ فقال صل متربعا وممدود الرجلين وكيف أمكنك».

وروى في الكافي عن سماعة في الموثق (4) قال : «سألته عن الصلاة في السفر الى ان قال وليتطوع بالليل ما شاء ان كان نازلا وان كان راكبا فليصل على دابته وهو راكب ولتكن صلاته إيماء وليكن رأسه حيث يريد السجود اخفض من ركوعه».

وعن يعقوب بن شعيب في الصحيح (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 15 من القبلة.


السلام) عن الرجل يصلي على راحلته؟ قال يومئ إيماء (1) وليكن رأسه حيث يريد السجود اخفض من ركوعه».

وروى في قرب الاسناد في الصحيح عن حماد بن عيسى (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى تبوك فكان يصلي صلاة الليل على راحلته حيث توجهت به ويومئ إيماء».

وروى أمين الإسلام الطبرسي في كتاب مجمع البيان عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهما‌السلام) (3) «في قوله تعالى فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (4) قال هذا في النوافل في حال السفر خاصة واما الفرائض فلا بد فيها من استقبال القبلة». وقد تقدم جملة من الاخبار الدالة على تفسير الآية بذلك في التنبيه الثالث من التنبيهات المتقدمة في البحث الثاني

وروى الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (5) قال : «سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابة إذا خرجت قريبا من أبيات الكوفة أو كنت مستعجلا بالكوفة؟ فقال ان كنت مستعجلا لا تقدر على النزول وتخوفت فوت ذلك ان تركته وأنت راكب فنعم وإلا فإن صلاتك على الأرض أحب الي».

وعن معاوية بن عمار في الصحيح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (6) قال : «لا بأس ان يصلي الرجل صلاة الليل في السفر وهو يمشي ، ولا بأس ان فاتته صلاة الليل ان يقضيها بالنهار وهو يمشي يتوجه إلى القبلة ثم يمشي ويقرأ فإذا أراد ان يركع حول وجهه إلى القبلة وركع وسجد ثم مشى».

وقد تقدمت صحيحتا يعقوب بن شعيب وصحيحة حريز في صلاة الماشي وانه

__________________

(1) في كتب الحديث «وليجعل السجود اخفض من الركوع».

(2 و 5) رواه في الوسائل في الباب 15 من القبلة.

(3) الوسائل الباب 15 من القبلة. وما ذكره انما هو رواية الشيخ في النهاية راجع ص 401.

(4) سورة البقرة ، الآية 109.

(6) الوسائل الباب 16 من القبلة.


يومئ بالركوع والسجود في الفائدة الثالثة من التنبيه السادس من البحث المتقدم.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه يستفاد من هذه الاخبار جملة من الأحكام :

منها ـ جواز النافلة الى غير القبلة ماشيا أو راكبا في الحضر خلافا لابن ابي عقيل كما دلت عليه صحيحتا عبد الرحمن بن الحجاج وحماد بن عثمان مؤيدا بإطلاق جملة من روايات المسألة ، ولم نقف لابن ابي عقيل على دليل وهذه روايات المسألة كما رأيت خالية من ذلك.

ومنها ـ ان الأفضل ان يستقبل بتكبيرة الإحرام على الدابة ثم يتم صلاته حيث ذهبت راحلته كما تضمنته صحيحة عبد الرحمن بن ابي نجران وإطلاق جملة من الاخبار ، وصريح صحيحة الحلبي جوازها ايضا الى غير القبلة بناء على رواية الكافي ولذا حملنا الصحيحة المذكورة على الفضل والاستحباب. وقطع ابن إدريس بوجوب الاستقبال بالتكبير ونقله عن جماعة الأصحاب إلا من شذ. وهو محجوج بالصحيحة المذكورة. والسيد السند قد استدل في المدارك على الاستحباب بصحيحة عبد الرحمن المذكورة ، ثم نقل عن ابن إدريس القول بوجوب الاستقبال بالتكبيرة ورده بإطلاق الأخبار التي قدمها. وأنت خبير بما فيه فان لابن إدريس الجواب عن ذلك بتقييد الإطلاق بالصحيحة المذكورة كما هو القاعدة. والحق في دفع ما ذهب اليه انما هو الاحتجاج بصحيحة الحلبي المروية في الكافي إلا ان صاحب المدارك كما أشرنا إليه آنفا انما نقل الصحيحة المذكورة من التهذيب وهي عارية فيه عن موضع الاستدلال فلهذا حصل في جوابه الاشكال. والعجب من صاحب الذخيرة انه جمد على جواب صاحب المدارك في هذا المقام مع انه روى الصحيحة بالزيادة التي هي محل الاستدلال من الكافي وغفل عن الاستدلال بها مع صراحتها في الجواب ولزوم الإشكال في الجواب بدونها كما عرفت. واما في الفريضة فإنه يجب ان يستقبل بتكبيرة الإحرام فيها إلى القبلة كما تقدم.

ومنها ـ انه يومئ في حال الصلاة راكبا للركوع والسجود ويجعل الإيماء للسجود اخفض من الركوع ، وهذا بخلاف الفريضة فإنه يجب ان يضع جبهته على ما يصح السجود


عليه كما تقدم في صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله من قوله «ويضع بوجهه في الفريضة على ما امكنه من شي‌ء ويومئ في النافلة إيماء». ومثله في عبارة كتاب الفقه الرضوي المتقدمة في التنبيه السادس.

ومنها ـ ان الأفضل للماشي أن يحول وجهه إلى القبلة ويركع ويسجد على الوجه الحقيقي فيهما جمعا بين ما دلت عليه صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة من الأمر بذلك وبين صحيحتي يعقوب بن شعيب المتقدمتين في الموضع المشار اليه آنفا الدالتين على الإيماء بالركوع والسجود ، ونحوهما رواية إبراهيم بن ميمون المتقدمة هنا.

ومنها ـ ان الأفضل في صلاة النافلة في الحضر ان تكون على الأرض كما يدل عليه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج المتقدم ، واما في السفر فظاهر صحيح علي بن مهزيار المتقدم التخيير. واما ما رواه الشيخ عن عمار الساباطي في الموثق في حديث طويل أورده الشيخ (قدس‌سره) في الزيادات من باب المواقيت (1) «عن الرجل تكون عليه صلاة في الحضر هل يقضيها وهو مسافر؟ قال نعم يقضيها بالليل على الأرض فاما على الظهر فلا». فيمكن حمله على الفريضة وتخصيص الليل بالقضاء لانه وقت النزول والاستراحة غالبا ، ولو حمل على النافلة لأشكل الحكم فيه بمخالفة هذه الاخبار المستفيضة بجواز صلاة النافلة على الدابة مطلقا. وتخصيص القضاء بالمنع غير معقول إلا ان يحمل على متفردات عمار في اخباره بالأحكام المستغربة. والله العالم.

(المقام الثاني) ـ في أحكام الخلل ، قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو صلى إلى جهة ظانا أنها القبلة أو تضيق الوقت عن الجهات الأربع أو لاختيار المكلف بناء على القول بتخيير المتحير ثم ظهر الانحراف ، فلا يخلو اما ان يكون في أثناء الصلاة أو بعد الفراغ منها ، وعلى كل منهما فاما ان يكون الانحراف في ما بين اليمين واليسار أو الى محضهما أو الى دبر القبلة ، فههنا صور :

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من قضاء الصلوات.


(الاولى) ـ ان يكون ظهور الانحراف في أثناء الصلاة ويكون الى ما بين اليمين واليسار ، فالظاهر انه لا خلاف في انه يستدير إلى القبلة ويبني على ما مضى لقولهم (عليهم‌السلام) (1) «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ولما رواه عمار في الموثق عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «في رجل صلى على غير القبلة فيعلم وهو في الصلاة قبل أن يفرغ من صلاته؟ قال ان كان متوجها في ما بين المشرق والمغرب فليحول وجهه إلى القبلة حين يعلم وان كان متوجها الى دبر القبلة فليقطع الصلاة ثم يحول وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة». ورواية القاسم بن الوليد (3) قال : «سألته عن رجل تبين له وهو في الصلاة انه على غير القبلة؟ قال يستقبلها إذا أثبت ذلك وان كان قد فرغ منها فلا يعيدها». والمراد انه يستقبل القبلة إذا تبين الانحراف بإرجاع الضمير إلى القبلة لا إلى الصلاة كما ربما يتوهم ، وهي محمولة على ما إذا كان الانحراف بين اليمين واليسار كما تضمنته رواية عمار. وظاهر المحقق في المعتبر نقل الإجماع على الحكم المذكور.

(الثانية) ـ هي الأولى بعينها إلا ان الانحراف خارج عما بين اليمين واليسار أعم من ان يكون الى محضهما أو الى دبر القبلة ، وقد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الحكم فيهما الاستئناف في الوقت.

أقول : ويدل عليه بالنسبة إلى المستدبر موثقة عمار المذكورة ، واما بالنسبة إلى محض اليمين واليسار فقد استدلوا عليه بإخلاله بشرط الواجب مع بقاء وقته والإتيان به ممكن فيجب ، ولانه موجب للاستئناف بعد الفراغ كما سيأتي ان شاء الله تعالى فكذا في الأثناء لأن ما يفسد الكل يفسد الجزء. قال في المدارك ويؤيده رواية القاسم بن الوليد ، ثم ساق الرواية المتقدمة. واستدلاله بها هنا بناء على إرجاع الضمير في «يستقبلها» إلى الصلاة وحمل «غير القبلة» على ما خرج عما بين اليمين واليسار. والى ما ذكرنا من حملها على ما دلت عليه موثقة عمار في الصورة الأولى يشير كلام العلامة في المنتهى حيث

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 10 من القبلة.


أنه ذكرها مع موثقة عمار دليلا للصورة الاولى وكذلك الفاضل الخراساني في الذخيرة. وأنت خبير بان آخر الرواية المذكورة قد تضمن انه متى فرغ والحال هذه فإنه لا يعيدها وهذا المعنى لا ينطبق على جعلها من قبيل الصورة الثانية لوجوب الإعادة في الوقت فيها كما عرفت مع تصريح الرواية بالعدم وانما ينطبق على الصورة الأولى التي لا اعادة فيها بعد الفراغ كصحيح معاوية بن عمار كما سيأتي في الصورة الثالثة.

ويظهر من كلام الشيخ في المبسوط الخلاف في ما لو ظهر الانحراف الى محض اليمين واليسار فإنه ألحقه بما بين اليمين واليسار دون دبر القبلة كما هو المعروف من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) حيث قال (قدس‌سره) : وان كان في خلال الصلاة ثم ظن ان القبلة عن يمينه أو شماله بنى عليه واستقبل القبلة وأتمها وان كان مستدبرا القبلة أعاد من أولها بلا خلاف وقال فيه ايضا : وان دخل يعني الأعمى فيها ثم غلب على ظنه ان الجهة في غيرها مال إليها وبنى على صلاته ما لم يستدبر القبلة. انتهى. وهو ظاهر كما ترى في تخصيص الاستئناف بصورة الاستدبار ، ومن المعلوم ان محض اليمين واليسار لا يدخل في الاستدبار ولا يصدق عليه لفظه فيكون الواجب فيها الاستدارة والإتمام كما في ما بين اليمين واليسار. والظاهر ضعفه لما عرفت.

(تنبيه) ـ قال السيد السند (قدس‌سره) في المدارك بعد ذكر هذه الصورة : فرع ـ لو تبين في أثناء الصلاة الاستدبار وقد خرج الوقت فالأقرب أنه ينحرف ولا اعادة وهو اختيار الشهيدين ، لا لما ذكراه من استلزام القطع القضاء المنفي لانتفاء الدلالة على بطلان اللازم بل لانه دخل دخولا مشروعا والامتثال يقتضي الاجزاء ، والإعادة انما تثبت إذا تبين الخطأ في الوقت كما هو منطوق روايتي عبد الرحمن وسليمان بن خالد (1) انتهى. وعلى هذه المقالة تبعه من تأخر عنه كالفاضل الخراساني في الذخيرة وغيره.

وفي ما ذكره عندي نظر من وجهين (أحدهما) ان ما نقله عن الشهيدين لا يخلو من خلل في النقل :

__________________

(1) الوسائل الباب 11 من القبلة.


اما الشهيد الأول فإنه لم يصرح بهذه المسألة إلا في كتاب الذكرى وهذه صورة عبارته فيه : لو تبين في أثناء الصلاة الاستدبار أو أحد الجانبين وقد خرج الوقت أمكن القول بالاستقامة ولا إعادة لدلالة فحوى الأخبار عليه ، ويمكن الإعادة لأنه لم يأت بالصلاة في الوقت. انتهى. وظاهره كما ترى التردد والتوقف في المسألة حيث ذكر الاحتمالين ولم يرجح شيئا في البين ، والاحتمال الأول وهو الذي نسبه مذهبا اليه انما استدل عليه بفحوى الاخبار والظاهر ان مراده فحوى روايتي عبد الرحمن وسليمان بن خالد الآتيتين ان شاء الله تعالى ، وهو قوله (عليه‌السلام) (1) : «وان فاتك الوقت فلا تعد». فإنه يصدق في الصورة المذكورة انه فاته الوقت وهو راجع الى ما ذكره هو من الاستدلال بالروايتين المذكورتين ايضا ، واين هذا من الذي نقله عنهما؟

واما جده الشهيد الثاني فإنه لم يذكر هذه المسألة أيضا لا في المسالك ولا في الروضة وانما ذكرها في الروض بهذه العبارة : نعم لو فرض تبين التيامن أو التياسر بعد الوقت في من أدرك منه ركعة أو المستدبر على القول بالمساواة. أمكن القول بالاستقامة ولا إعادة لإطلاق الاخبار ، وعدمه لانه لم يأت بالصلاة في الوقت ولان ما بعد الوقت هنا بحكم الواقع فيه فيكون بحكم الذاكر فيه. ويضعف بأن الأول مصادرة ومساواة ما بعد الوقت لما قبله مطلقا ممنوعة بل في محل النص والوفاق لا في جميع الأحكام على الإطلاق. انتهى وكلامه وان كان مؤذنا باختياره ما نقله عنه إلا انه انما علله بما قدمنا نقله عن الذكرى لا ما ذكره من استلزام القطع القضاء المنفي حتى انه يعترض عليه بانتفاء الدلالة على بطلان اللازم. واحتمال كونهما ذكرا ذلك في غير هذه الكتب المشهورة بعيد غاية البعد.

و (ثانيهما) ـ انه لا يخفى ان هذا الفرع المذكور لا يدخل تحت شي‌ء من اخبار المسألة ، وما ذكروه من الوجوه الموجبة لصحة الصلاة مع الاستدارة إلى جهة القبلة لا يخلو من اشكال ، وذلك فان مورد أخبار المسألة كون الصلاة التي وقع الانحراف فيها

__________________

(1) الوسائل الباب 11 من القبلة.


كانت في الوقت وان الوقت متسع بعدها وقد اشتملت على التفصيل في تلك الصلاة بين كون الانحراف فيها الى ما بين اليمين واليسار مع العلم به في الأثناء والحكم فيه الاستدارة والإتمام أو خارجا عن ذلك والحكم فيه الابطال والإعادة أو انما يحصل العلم بعد الفراغ في الوقت والحكم الإعادة في الوقت خاصة على المشهور في أحد فرديه. واما لو وقع جزء من الصلاة خارج الوقت وعلم الانحراف الى دبر القبلة والحال هذه فكما يحتمل ما ذكره الشهيدان من الاستدارة والصحة بناء على إطلاق قوله (عليه‌السلام) في الروايتين المشار إليهما «وان فاتك الوقت فلا تعد» وان هذا قد فاته الوقت في الصورة المذكورة كذا يمكن إدخال هذه الصورة تحت موثقة عمار المتقدمة وقوله فيها «وان كان متوجها الى دبر القبلة فليقطع ثم يحول وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة» فإن إطلاق هذا الخبر شامل لما لو كانت الصلاة أداء في الوقت أو قضاء في خارجه أو وقع بعضها في الوقت كما في الصورة المفروضة ، ولا ريب ان دخول هذه الصورة في إطلاق الخبر المذكور أظهر مما ادعوه في ذينك الخبرين ، لان الظاهر ان المراد من ذينك الخبرين «وان فاتك الوقت فلا تعد» انما هو بعد ان صليت الفريضة في وقتها ومضت على الصحة فلا تعدها في خارجه من أجل ذلك الانحراف لا ان المراد فوت الوقت مع وقوع الصلاة كلا أو بعضا خارجه ، وإلا للزم ان من صلى قضاء وظهر الاستدبار في أثنائها انه يتمها بعد الاستدارة لأنه يصدق عليها انها داخلة تحت قوله : «وان فاتك الوقت» ولا أظن هذا القائل يلتزمه بل الواجب هو الإعادة من رأس البتة.

واما ما علل به الصحة في الصورة المذكورة ـ من انه دخل دخولا مشروعا والامتثال يقتضي الاجزاء ـ فهو ممنوع لانه وان دخل دخولا مشروعا إلا انه بعد تبين الاستدبار في الأثناء لا نسلم المشروعية. ومنه يظهر بطلان قوله : «والامتثال يقتضي الاجزاء» ويؤيد ذلك ما في كلامه في الفروع التي في المسألة المذكورة بعد هذه المسألة من حكمه بالإبطال بظهور الاستدبار في الأثناء في الفرع الأول والفرع الثالث مع جريان


تعليله المذكور هنا في تلك المقامات وليس إلا من حيث ان ظهور الاستدبار موجب للبطلان كما ذكرنا.

وبالجملة فإنه لا ريب ان الاستدبار من قواطع الصلاة الموجبة لبطلانها ووجوب إعادتها لو وقع فيها خرج منه ما لو لم يعلم إلا بعد ان صلاها في الوقت ثم خرج الوقت بناء على المشهور وظواهر الأخبار الآتية ، فيجب الاقتصار على موردها من الصلاة التي صليت في الوقت ووقع التفصيل فيها بما تقدم وبقي الباقي ومنه موضع البحث ، مع ظهور دخول هذه الصورة تحت إطلاق موثقة عمار المتقدمة كما عرفت. وكيف كان فحيث كانت المسألة غير خالية من شوب الاشكال ـ لما ذكر من تعدد الاحتمال وان كان ما ذكرنا هو الأقرب في هذا المجال ـ فالاحتياط فيها مطلوب على كل حال. والله العالم.

(الثالثة) ـ ان يتبين الانحراف بعد الفراغ من الصلاة وكان الانحراف في ما بين اليمين واليسار ، ولا خلاف في صحة الصلاة في الصورة المذكورة ونقل الفاضلان إجماع أهل العلم على ذلك.

ويدل عليه صحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «قلت الرجل يقوم في الصلاة ثم ينظر بعد ما فرغ فيرى انه انحرف عن القبلة يمينا وشمالا؟ فقال قد مضت صلاته وما بين المشرق والمغرب قبلة».

وروى في كتاب قرب الاسناد عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان عن الصادق عن أبيه (عليهما‌السلام) (2) «ان عليا (عليه‌السلام) كان يقول من صلى على غير القبلة وهو يرى انه على القبلة ثم عرف بعد ذلك فلا اعادة عليه إذا كان في ما بين المشرق والمغرب».

ويعضده ايضا ما تقدم من صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (3) قال : «لا صلاة إلا الى القبلة. قال قلت اين حد القبلة؟ قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله».

__________________

(1 و 2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 10 من القبلة.


وذكر المشرق والمغرب في هذه الاخبار بناء على قبلة العراقي فذكرهما انما جرى مجرى التمثيل.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان كثيرا من عبارات المتقدمين هنا مطلقة في وجوب الإعادة في الوقت إذا صلى لغير القبلة من غير تفصيل بين ظهور القبلة الى ما بين اليمين واليسار أو ما زاد على ذلك ، قال الشيخ المفيد (قدس‌سره) في المقنعة : ومن أخطأ القبلة أو سها عنها ثم عرف ذلك والوقت باق أعاد فإن عرفه بعد خروج الوقت لم يكن عليه اعادة في ما مضى اللهم إلا ان يكون قد صلى مستدبر القبلة. وقال الشيخ (قدس‌سره) في المبسوط : وإذا صلى البصير الى بعض الجهات ثم تبين انه صلى الى غير القبلة والوقت باق أعاد الصلاة. وقال في النهاية : فإن صلاها ناسيا أو شبهة ثم تبين انه صلى الى غير القبلة وكان الوقت باقيا وجب عليه إعادة الصلاة. وقريب منها كلامه في الخلاف وكذا كلام ابن زهرة وابن إدريس. ولعل مرادهم من الصلاة الى غير القبلة ما لم يكن في ما بين المشرق والمغرب كما ذكره بعض الأصحاب لما اشتهر في الاخبار وكلام الأصحاب من ان ما بين المشرق والمغرب قبلة ، وأيد بإيراد الشيخ الرواية المتضمنة لذلك في شرح كلام الشيخ المفيد المتقدم من غير تعرض للكلام عليه. وبالجملة فإن حمل كلامهم على ظاهره مع ما عرفت من هذه الاخبار بعيد غاية البعد فلا بد من ارتكاب التأويل فيه بما ذكرنا.

(الرابعة) ـ الصورة بحالها مع تبين الانحراف الى اليمين والشمال ، والمشهور في كلام الأصحاب ـ بل ادعى عليه الفاضلان في المعتبر والمنتهى الإجماع ـ الإعادة في الوقت لا في خارجه.

واستدلوا على الأول بأنه قد أخل بشرط الواجب وهو الاستقبال والوقت باق فيبقى تحت عهدة الخطاب كما لو أخل بطهارة الثوب ونحوها.

واما على الثاني فبان القضاء فرض جديد يتوقف على الدليل وحيث لا دليل فلا قضاء


وبصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا صليت وأنت على غير القبلة واستبان لك انك صليت على غير القبلة وأنت في وقت فأعد وان فاتك الوقت فلا تعد».

وصحيحة سليمان بن خالد (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الرجل يكون في قفر من الأرض في يوم غيم فيصلي لغير القبلة ثم يضحى فيعلم انه صلى لغير القبلة كيف يصنع؟ قال ان كان في وقت فليعد صلاته وان كان قد مضى الوقت فحسبه اجتهاده».

وصحيحة يعقوب بن يقطين (3) قال : «سألت عبدا صالحا (عليه‌السلام) عن رجل صلى في يوم سحاب على غير القبلة ثم طلعت الشمس وهو في وقت أيعيد الصلاة إذا كان قد صلى على غير القبلة؟ وان كان قد تحرى القبلة بجهده أتجزئه صلاته؟ فقال يعيد ما كان في وقت فإذا ذهب الوقت فلا اعادة عليه».

وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله (4) «انه سأل الصادق (عليه‌السلام) عن رجل أعمى صلى على غير القبلة فقال ان كان في وقت فليعد وان كان قد مضى الوقت فلا يعد. قال وسألته عن رجل صلى وهي متغيمة ثم تجلت فعلم انه صلى على غير القبلة فقال ان كان في وقت فليعد وان كان الوقت قد مضى فلا يعد».

ورواية محمد بن الحصين (5) قال : «كتبت الى عبد صالح (عليه‌السلام) الرجل يصلي في يوم غيم في فلاة من الأرض ولا يعرف القبلة فيصلي حتى إذا فرغ من صلاته بدت له الشمس فإذا هو قد صلى لغير القبلة أيعتد بصلاته أم يعيدها؟ فكتب يعيدها ما لم يفته الوقت أولم يعلم ان الله تعالى يقول وقوله الحق فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ؟» (6).

وصحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (7) قال : «إذا صليت على غير القبلة فاستبان لك قبل ان تصبح انك صليت على غير القبلة فأعد صلاتك».

__________________

(1 و 2 و 3 و 74 و 5 و 7) الوسائل الباب 11 من القبلة.

(6) سورة البقرة الآية 109.


وتقريب الاستدلال بها ان المراد انه صلى الصبح على غير القبلة واستبان له ذلك قبل الاسفار أو طلوع الشمس فقوله : «قبل ان تصبح» إشارة الى ذلك. واما حملها ـ على ان الفائت العشاءان وان الأمر بالإعادة قبل الصبح يعني الفجر الثاني لامتداد وقت العشاءين الى ذلك الوقت في المضطر كما تقدم القول به ـ فبعيد ، وقد تقدم تحقيق المسألة في غير مقام.

ثم انه لا يخفى ان هذه الاخبار ـ كما ترى ـ قد دلت على وجوب الإعادة في الوقت متى ظهر انه صلى على غير القبلة وإطلاقها شامل لما لو كانت صلاته في ما بين المشرق والمغرب لصدق أنه الى غير القبلة مع ان الحكم ثمة كما تقدم عدم وجوب الإعادة ، والأصحاب قد قيدوا إطلاق هذه الأخبار ولا سيما صحيحة معاوية بن عمار التي هي الأصل في الاستدلال فاخرجوا من هذا الإطلاق ما بين المشرق والمغرب بتلك الأخبار.

ولقائل أن يقول ان بين اخبار الطرفين عموما وخصوصا من وجه ، فكما ان هذه الاخبار عامة بالنسبة إلى الصلاة الى غير القبلة إلا انها مفصلة بالنسبة إلى الوقت وخارجه وتلك الأخبار مطلقة بالنسبة إلى الوقت وخارجه وخاصة بالنسبة إلى القبلة التي حصل فيها الانحراف وهي ما بين المشرق والمغرب ، فكما يمكن ارتكاب التخصيص المذكور الذي بنى عليه الاستدلال بالاخبار في الموضعين كذلك يمكن تخصيص تلك الأخبار بالصلاة في خارج الوقت كما فصلته هذه الاخبار وإبقاؤها على إطلاقها بالنسبة إلى القبلة فيقال بوجوب الإعادة في الوقت متى صلى الى غير القبلة بأي نحو كان وان كان في ما بين المشرق والمغرب ، ولا يتم الاستدلال بتلك الروايات على ما ذكروه فلا بد لترجيح الأول من دليل ، ولعل ما تقدم نقله عن كثير من عبارات المتقدمين من إطلاقهم وجوب الإعادة في الوقت مبني على ما ذكرناه هنا.

واستدل العلامة في المنتهى على ترجيح الأول بوجهين (أحدهما) ـ موافقة الأصل وهو براءة الذمة إذ لو حملنا حديث معاوية على ما ذكرتم لزمت الإعادة لمن صلى


بين المشرق والمغرب في الوقت والأصل عدمه. (الثاني) ـ انا نمنع تخصيص ما ذكرتم من الأحاديث أصلا لأن قوله (عليه‌السلام) «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ليس مخصصا للحديث الدال على وجوب الإعادة في الوقت دون خارجه لمن صلى الى غير القبلة إذ أقصى ما يدل عليه ان ما بين المشرق والمغرب قبلة ، بل لقائل أن يقول ان قوله : «إذا صليت وأنت على غير القبلة» يتناول لفظ القبلة فيه ما بين المشرق والمغرب ايضا. انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه ، اما الاستناد الى الأصل كما ذكره فمعارض بأن الأصل شغل الذمة بالعبادة وهذا أصل متيقن لا مناص عنه فلا يحكم ببراءة الذمة إلا بيقين مثله والاخبار هنا متعارضة كما عرفت والوقت باق والخطاب متوجه فلا يتيقن براءة الذمة إلا بالإعادة في الوقت. وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ولا يتطرق إليه الإيراد من خلفه ولا من بين يديه. واما منع التخصيص فلا يخفى ما فيه فاني لا اعرف لكلامه هنا وجه استقامة ولعل النسخة التي عندي لا تخلو من غلط ، ووجه الاشكال كما ذكرنا زيادة على ما قدمنا ان صحيحة معاوية المشار إليها قد دلت على ان من صلى بظن القبلة ثم تبين انحرافه الى ما بين اليمين والشمال فقد صحت صلاته لان ما بين المشرق والمغرب قبلة ، وتبين الانحراف عن القبلة أعم من ان يكون في الوقت أو خارجه فيمكن تقييد هذا العموم بما فصلته تلك الأخبار من ان من صلى الى غير القبلة ثم تبين ذلك فان كان في الوقت أعاد وان كان خارج الوقت فلا اعادة عليه بان يحمل على تبين الانحراف بعد خروج الوقت ، وحينئذ فتجب الإعادة في الوقت وان كان فيما بين اليمين واليسار. وهذا ايضا بحمد الله سبحانه ظاهر لا مرية فيه.

وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا على ما ذكروه زيادة على الإجماع المدعى في تلك المسألة. نعم قوله في صحيحة معاوية «ثم ينظر بعد ما فرغ» ربما أشعر بكون ظهور الانحراف في الوقت بالحمل على البعدية القريبة كما هو المتبادر. هذا أقصى ما يمكن ان


يقال في المقام والله سبحانه وأولياؤه العالمون بحقائق الأحكام.

(الخامسة) ـ الصورة المتقدمة مع تبين الانحراف الى دبر القبلة ، والمشهور بين المتأخرين ـ وبه قال السيد المرتضى والمحقق وأكثر من تأخر عنه ـ ان حكم هذه الصورة كسابقتها من الإعادة في الوقت خاصة دون خارجه ، وقال الشيخان بالإعادة في الوقت والقضاء في خارجه وتبعهما جمع من الأصحاب كابن البراج وابي الصلاح وسلار وابن زهرة.

واستدل الأولون بإطلاق صحاح الأخبار المتقدمة في سابق هذه الصورة فإنها كما دلت بإطلاقها على حكم اليمين واليسار دلت على حكم الاستدبار لصدق الصلاة الى غير القبلة في الموضعين فيجب العمل بها على إطلاقها الى ان يقوم المخصوص وليس فليس.

ونقل عن الشيخ انه احتج بموثقة عمار المتقدمة في الصورة الاولى ، ولا يخفى ما فيه فان مورد الرواية من علم في أثناء الصلاة بأنه صلى الى غير القبلة فإنه يقطع ثم يحول وجهه إلى القبلة ثم يفتتح الصلاة وهو صريح في كون ذلك في الوقت. نعم ربما يمكن الاستدلال على ما ذهبوا إليه

برواية معمر بن يحيى (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل صلى على غير القبلة ثم تبينت القبلة وقد دخل في وقت صلاة أخرى؟ قال يعيدها قبل ان يصلي هذه التي قد دخل وقتها».

وأجيب عنها بضعف السند وعدم المعارضة لما تقدم من الأخبار الصحاح المتكاثرة المتعاضدة الدالة على عدم الإعادة بعد خروج الوقت فيجب حملها اما على من صلى بغير اجتهاد مع التمكن منه واما يحمل قوله : «وقد دخل في وقت صلاة أخرى» على وقت الفضيلة فيحمل على وقت صلاتين مشتركتين كالظهرين والعشاءين بان يدخل وقت فضيلة الثانية ، على انه غير معمول به على إطلاقه لدلالته على الإعادة أيضا بالنسبة الى ما كان الى اليمين والشمال وقد عرفت ان لا قائل به.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من القبلة.


واما ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) انه قال : «لا صلاة إلا الى القبلة. قال قلت اين حد القبلة؟ قال ما بين المشرق والمغرب قبلة كله. قال قلت فمن صلى لغير القبلة في يوم غيم أو في غير الوقت؟ قال يعيد». فيجب حمله على الإعادة في الوقت جمعا بينه وبين الاخبار المتكاثرة المتقدمة المفصلة حمل المطلق على المقيد. والله العالم.

تنبيهات

(الأول) ـ هل المصلي إلى جهة ناسيا كالظان في الأحكام المتقدمة؟ قيل نعم وبه قطع الشيخ في بعض كتبه لعموم «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» (2). وقيل لا لأن خطأه مستند الى تقصيره بخلاف الظان.

قال في المدارك : وكذا الكلام في جاهل الحكم ، ثم قال والأقرب الإعادة في الوقت خاصة لإخلاله بشرط الواجب دون القضاء لأنه فرض مستأنف. انتهى.

وقال في الذكرى : هل المصلي إلى جهة ناسيا كالظان في الأحكام؟ قطع به الشيخان لعموم «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وضعفه الفاضلان لانه مستند الى تقصيره بخلاف الظان. والأقرب المساواة لشمول خبر عبد الرحمن للناسي. اما جاهل الحكم فالأقرب انه يعيد مطلقا إلا ما كان بين المشرق والمغرب لانه ضم جهلا الى تقصيره ووجه المساواة الناس في سعة ما لم يعلموا (3). انتهى.

أقول : لا يخفى ان إطلاق الاخبار المتقدمة في الصورة الرابعة من صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله وصحيحة سليمان بن خالد شامل للظان والناسي وبه يظهر قرب مساواة الناسي للظان كما اختاره في الذكرى إلا انه سيأتي ان شاء الله تعالى في

__________________

(1) الوسائل الباب 9 من القبلة.

(2) الوسائل الباب 30 من الخلل في الصلاة و 56 من جهاد النفس.

(3) راجع ج ص 43.


بحث قواطع الصلاة وان الالتفات من جملتها في اخبار تلك المسألة ما يظهر منه المنافاة وبه تصير المسألة في قالب الاشكال كما سنكشف لك ان شاء الله تعالى عن حقيقة الحال في البحث المشار اليه.

(الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا يتعدد الاجتهاد بتعدد الصلاة إلا إذا حصل شك في الاجتهاد الأول ، ونقل في المدارك عن الشيخ في المبسوط انه أوجب التجديد دائما لكل صلاة ما لم تحضره الأمارات ، للسعي في إصابة الحق ، ولان الاجتهاد الثاني ان خالف الأول وجب المصير إليه لأن تغير الاجتهاد لا يكون إلا لأمارة أقوى من الاولى وأقوى الظنين أقرب الى اليقين وان وافقه تأكد الظن. ثم قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو جيد ان احتمل تغير الأمارات.

أقول : لا يخفى ان ظاهر هذا النقل ان جميع ما اشتمل عليه من الدعوى والدليلين المذكورين عين كلام الشيخ في المبسوط مع انه ليس كذلك كما لا يخفى على من راجع الكتاب المذكور ، وهذه صورة عبارة الكتاب : يجب على الإنسان ان يتتبع أمارات القبلة كلما أراد الصلاة عند كل صلاة ، اللهم إلا ان يكون قد علم ان القبلة في جهة بعينها أو ظن ذلك بأمارات صحيحة ثم علم انها لم تتغير جاز حينئذ التوجه إليها من غير ان يجدد اجتهاده في طلب الأمارات. انتهى. وأنت خبير بما بين الكلامين من المباينة لفظا ومعنى ، اما لفظا فظاهر ، واما معنى فلان مرجع هذا الكلام الى ان التجديد مخصوص بصورة احتمال تغير الأمارات لا مطلقا كما هو ظاهر النقل المذكور ، فلو علم انها لم تتغير سقط الاجتهاد كما استجوده في المدارك وقيد به كلام الشيخ (قدس‌سره) وبذلك صرح في المنتهى نقلا عن الشيخ ، وظاهره الجمود عليه حيث قال : لو صلى عن اجتهاد إلى جهة ثم أراد ان يصلي اخرى قال الشيخ في المبسوط يعيد اجتهاده إلا إذا علم ان الأمارات لم تتغير وهو قول الشافعي واحمد (1) وظاهره ـ كما ترى ـ الموافقة لما نقله عن الشيخ وهو

__________________

(1) المهذب ج 1 ص 67 ، والمغني ج 1 ص 445.


خلاف النقل المتقدم ، فليتأمل في مثل هذه النقول وليراجع في تحقيق ذلك المنقول.

(الثالث) ـ قال في المدارك : لو تغير اجتهاد المجتهد في أثناء الصلاة انحرف وبنى ان كان لا يبلغ موضع الإعادة وإلا أعاد. ولو تغير اجتهاده بعد الصلاة لم يعد ما صلاة إلا مع تيقن الخطأ ، قال في المنتهى ولا نعلم فيه خلافا. انتهى.

أقول : الأنسب بقواعدهم في التفريع هو تفريع هذه المسألة على مسألة من صلى ظانا ثم تبين الخطأ في ظنه بالعلم بالقبلة بعد ذلك من التفصيل الذي تقدم بين ما إذا كان ظهور الخطأ في الأثناء فإنه ينحرف لو ظهرت صلاته بين اليمين واليسار ويعيد لو خرجت عن ذلك وان كان بعد الفراغ لكن في الوقت لا في خارجه تنزيلا لهذا الظن المتجدد منزلة العلم في تلك المسألة ، وإلا فالقول بوجوب الإعادة إذا ظهر الخطأ في الأثناء دون ما بعد الفراغ مما لا يظهر له وجه ، فان الموجب للإعادة في البعض موجب للإعادة في الكل ، وما مضى من الصلاة ان كان صحيحا بناء على الاجتهاد الأول لأنه دخل فيها دخولا مشروعا ـ كما ذكره سابقا في الفرع الذي ذكرناه في التنبيه المتقدم ـ فالواجب الاستدارة نحو القبلة دون الإبطال في الموضعين ، وان كان ما صلاه أولا صار باطلا بظهور الاستدبار أو محض اليمين والشمال فيجب الإعادة من رأس فهو آت أيضا في ما بعد الفراغ للعلة المذكورة والوقت باق فخطاب التكليف متوجه لأنه مأخوذ عليه ان يأتي في الوقت بصلاة صحيحة وهذه قد ظهر بطلانها بالاستدارة ، بل البطلان في صورة الفراغ أظهر منه في ما لو كان في الأثناء لإمكان التدارك في الباقي على الثاني بخلاف الأول فإن الجميع ظهر على غير القبلة. نعم لو خرج الوقت قبل تغير الاجتهاد اتجه عدم الإعادة لتوقفها على أمر جديد. (فان قيل) انهم قد صرحوا بأنه لو تغير اجتهاده لصلاة العصر مثلا بعد ان صلى الظهر بالاجتهاد الأول لم يجب عليه اعادة الظهر مع ان الوقت باق (قلنا) نعم قد صرحوا بذلك ولكن لم نقف له على دليل إلا ما ربما يدعى من الإجماع والبحث في الدليل الشرعي من النصوص.


ثم ان ظاهر قوله في المدارك في آخر العبارة : «قال العلامة في المنتهى : ولا نعلم فيه خلافا» راجع الى ما ذكره من التفصيل في المسألة ، وعبارة المنتهى لا تساعد على ذلك فان حكم تغير الاجتهاد بعد الفراغ غير مذكور فيها حيث قال : فلو تغير اجتهاده في الصلاة فإن كان منحرفا يسيرا استدار إلى القبلة وأتم ولا اعادة وان كان مشرقا أو مغربا أو مستدبرا أعاد ، ثم نقل عن بعض الجمهور الإعادة مطلقا (1) وقال انه ليس بجيد ثم نقل عن آخرين انه لا يرجع ويمضي على الاجتهاد الأول ، قال وهؤلاء عن التحقيق بمعزل ، ثم قال وكذا لو تجدد يقين بالجهة المخالفة في أثناء الصلاة استدار إليها كاهل قبا لما استداروا إلى القبلة ولا نعرف فيه خلافا. انتهى.

أقول : وفي عد استدارة أهل قبا في هذه المسألة نظر لا يخفى ، فإن الاستدارة يومئذ انما هو لنسخ القبلة الاولى الى قبلة ثانية فيكون ما مضى من الصلاة وقع على قبلة صحيحة أصلية وما بعد النسخ كذلك ، بخلاف ما نحن فيه فان تغاير القبلتين انما هو من حيث الاعتبار باجتهاد المصلي وظنه وتغير اجتهاده وحصول ظن آخر أو علم بعد ظن وانما هي قبلة واحدة يخطئها المخطئ ويصيبها المصيب والروايات قد فصلت الأحكام المتعلقة بهذا الخطأ وهذه الإصابة في الصور المتقدمة وليس الأمر في ما ذكره كذلك كما لا يخفى.

(الرابع) ـ قال في المدارك : لو خالف المجتهد اجتهاده وصلى فصادف القبلة لم تصح صلاته لعدم إتيانه بالمأمور به. وقال الشيخ في المبسوط بالإجزاء لأن المأمور به هو التوجه إلى القبلة وقد اتى به. وهو ممنوع إذ المعتبر البناء على اجتهاده ولم يفعل فيبقى في عهدة التكليف. انتهى.

أقول : قد تتبعت كتاب المبسوط في باب القبلة فلم أقف على هذا الفرع فيه ،

__________________

(1) في المهذب ج 1 ص 67 الاجزاء إذا بان ان القبلة في اليمين أو الشمال. وفي البدائع ج 1 ص 119 نفى الخلاف في ذلك ، ثم قال وان ظهر انه مستدبر الكعبة يجزئه عندنا وعند الشافعي لا يجزئه.


وكونه في غير الباب المذكور أو النقل عن المبسوط وقع سهوا وانما هو في غيره ممكن إلا ان الشهيد في الذكرى نقل ذلك عن المبسوط ايضا ولعله في غير الباب المذكور.

ثم ان ما ذكره السيد السند (قدس‌سره) من المناقشة فيما نقله عن الشيخ (قدس‌سره) جيد على أصول جمهور الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقواعدهم إلا انه خلاف ما اختاره في ما تقدم في مسألة من صلى قبل الوقت جاهلا أو ساهيا حيث قال ـ بعد ان صرح بان الوجه الموجب للبطلان في الجميع عدم صدق الامتثال الموجب لبقاء المكلف تحت العهدة ـ ما لفظه : ولو صادف الوقت صلاة الناسي أو الجاهل بدخول الوقت ففي الإجزاء نظر ، من حيث عدم الدخول الشرعي ، ومن مطابقة العبادة لما في نفس الأمر وصدق الامتثال. والأصح الثاني وبه قطع شيخنا المحقق سلمه الله تعالى ، قال وكذا البحث في كل من اتى بما هو الواجب في نفس الأمر وان لم يكن عالما بحكمه. الى آخره فإنه لا يخفى ان المسألتين من باب واحد لاشتراكهما في ان الدخول في كل منهما بحسب الظاهر ليس بشرعي ولكن قد اتفق مصادفة الصلاة في الواقع لما أمر به الشارع فان كانت المطابقة الواقعية مجزئة كما ذكره في تلك المسألة فههنا كذلك فلا معنى لرده على الشيخ وإلا فلا في الموضعين فلا وجه لما صار إليه في تلك المسألة.

(الخامس) ـ قال في الذكرى : لو اختلف المجتهدون صلوا فرادى لا جماعة لأن المأموم ان كان محقا في الجهة فسدت صلاة امامه وإلا فصلاته فيقطع بفساد صلاة المأموم على التقديرين. واحتمل الفاضل صحة الاقتداء كالمصلين حال شدة الخوف ولأنهم كالقائمين حول الكعبة يستقبل كل واحد منهم جهة غير جهة الآخر مع صحة الصلاة جماعة. ويمكن الجواب بمنع الاقتداء حالة الشدة مع اختلاف الجهة ، ولو سلم فالاستقبال هنا ساقط بالكلية بخلاف المجتهدين ، والفرق بين المصلين إلى نواحي الكعبة وبين المجتهدين ظاهر للقطع بان كل جهة قبلة هناك والقطع بخطإ واحد هنا ، وكذا نقول في صلاة الشدة ان كل جهة قبلة. انتهى.


وأجاب في المدارك عن الفرق المذكور بأنه يمكن دفعه بان الخطأ انما هو في مصادفة الصلاة لجهة الكعبة لا للجهة التي يجب استقبالها للقطع بان فرض كل منهم استقبال ما ادى اليه الاجتهاد وان كانت خلاف جهة الكعبة. انتهى.

أقول : الكلام في هذا المقام يقع في موضعين : (أحدهما) ـ ان الظاهر من كلامهم ان المراد بهذه الجهة التي متى اختلف المجتهدون فيها لم يأتم بعضهم ببعض هي ما بين اليمين واليسار كملا ، وهو ضعيف (1) لأن الذي يظهر من عباراتهم ويلوح من اشاراتهم ان التيامن والتياسر اليسير لا يخرج عن القبلة وفسروه بما بين المغرب والمشرق ، ولهذا حكموا بصحة صلاة من ظهرت صلاته الى تلك الجهة بعد الفراغ والاستدارة في الأثناء وما ذاك إلا من حيث كونها قبلة ، ويدل عليه بأوضح دلالة الأخبار الدالة على ان ما بين المشرق والمغرب قبلة كما تقدم ، قال شيخنا المشار إليه في الذكرى بعيد هذا الكلام المتقدم نقله : لو اختلف الامام والمأموم في التيامن والتياسر فالأقرب جواز الاقتداء ، لأن صلاة كل منهما صحيحة مغنية عن القضاء والاختلاف هنا يسير ، ولان الواجب مع البعد الجهة هنا. وقال في موضع آخر : لو صلى باجتهاد إلى جهة أو لضيق الوقت ثم تبين الانحراف يسيرا استقام بناء على ان القبلة هي الجهة ، ولقول الصادق (عليه‌السلام) (2) «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ولو تبين الانحراف الكثير استأنف ، وظاهر الأصحاب ان الكثير ما كان على سمت اليمين أو اليسار لرواية عمار ، ثم نقل موثقة عمار المتقدمة في الصورة الاولى. وهذه الكلمات إذا ضمت بعضها الى بعض ظهر لك منها ما قلنا وهو بظاهره مدافع لما ذكره (قدس‌سره) في تعريف الجهة حيث قال انها هي السمت الذي يظن كون الكعبة فيه لا مطلق الجهة كما قال بعض العامة ان الجنوب قبلة لأهل الشمال وبالعكس والمشرق قبلة لأهل المغرب وبالعكس ، لأنا نتيقن الخروج هنا عن القبلة وهو

__________________

(1) جملة «وهو ضعيف» ليست موجودة في ما وقفنا عليه من النسخ الخطية.

(2) الوسائل الباب 9 و 10 من القبلة.


ممتنع. وهذه عبارته ثمة ولا ريب في ظهور المدافعة بين الكلامين في المقامين.

وبالجملة فإن كلامهم في تحقيق الجهة لما كان مبنيا على الأمارات الرياضية وهي بظاهرها مخالفة لظواهر الأخبار المعصومية وقع هذا الاضطراب في كلامهم وجرى الاختلاف على رؤوس أقلامهم ، والمستفاد من النصوص كما عرفت هو الاتساع في أمر القبلة سيما اخبار «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وبعضها وان كان ورد في قبلة الظان إلا ان الآخر في تفسير القبلة مطلقا كما تقدم ولهذا مال بعض الأصحاب إلى القول بظاهره ، والمستفاد من البناء على العلامات الرياضية التي أوجبوا الرجوع إليها والبناء عليها هو الضيق فيها ، والانحراف يمينا وشمالا على الوجه الذي اعترفوا بكونه يسيرا وانه غير مضر بالصلاة ولا القدوة انما يتم على تقدير العمل بالأخبار لا العمل بالأمارات الرياضية ، فإنه متى كان الواجب مثلا في بعض المواضع جعل الجدي بين الكتفين الموجب لكون القبلة نقطة الجنوب فلو انحرف عنها يمينا أو شمالا كانت صلاته الى غير القبلة ووجبت الإعادة وقتا وخارجا مطلقا كما يقتضيه ثبوت ان القبلة مخصوصة بهذه الجهة المعينة مع انهم لا يقولون به على الإطلاق والأخبار لا تساعده بل ترده بالاتفاق ، فكيف يتم جعله قبلة مطلقا كما هو مقتضى تلك العلامات؟ وحكمه (قدس‌سره) بصحة الاقتداء مع اختلاف الامام والمأمومين في التيامن والتياسر لا يتم بناء على تعين الجهة بهذه العلامة المذكورة ونحوها نعم انما يتم بناء على ظواهر الأخبار المشار إليها. وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو من تدافع ظاهر لذوي الأفهام.

و (ثانيهما) ـ ان ما علل به في الذكرى بطلان الاقتداء في الصورة المذكورة الظاهر انه مبني على ما هو المشهور في كلامهم من ان الصحة والبطلان منوطان بمطابقة الواقع وعدمه وان كان بحسب الشرع متعبدا بظنه ، وحينئذ فغاية ما تفيده عبادته مع عدم ظهور فسادها هو سقوط القضاء وعدم المؤاخذة ، لأن حاصل دليله هنا ان المأموم ان كان محقا اي ان صلاته مطابقة للقبلة الواقعية فصلاة الامام فاسدة واقعا


لاختلاف الجهتين وان كانت صحيحة مسقطة للقضاء في اعتقاده وإلا فصلاته هي الباطلة لعدم المطابقة ، وبالجملة فإنه يقطع هنا بفساد واحدة لا بعينها لعدم المطابقة للقبلة الواقعية.

وبذلك يظهر لك ما في جواب صاحب المدارك عن الفرق الذي ذكره شيخنا المذكور ، وتوضيحه انه لا ريب ان قبلة البعيد عندهم انما هي جهة الكعبة والاجتهاد انما يقع في تحصيلها فكل من كان اجتهاده مؤديا لها فهو مصيب ومن لم يكن كذلك فهو مخطئ ، ومجرد كون فرض كل منهم العمل باجتهاده لا يستلزم صحة ما يأتي به مطلقا بل يجب تقييده بمطابقة الواقع بمقتضى تصريحاتهم في أمثال هذا المقام ، فإنه متى اجتهد واتفق مطابقة اجتهاده للقبلة الواقعية فالصلاة صحيحة مقبولة من هذه الجهة يثاب عليها كالصلاة المعلوم توجهها إلى القبلة وإلا كانت بحسب الظاهر صحيحة مسقطة للقضاء ما لم ينكشف الخطأ وان كانت عند غيره ممن يحكم بخطئه باطلة لتقصيره في الاجتهاد ، غاية الأمر ان كلا منهم يدعي الإصابة في اجتهاده وتخطئة من سواه لان المصيب حينئذ حقيقة واحد لا غير وان كان مجهولا والثاني يكون مخطئا ، وصحة الصلاة المترتبة على مطابقة الواقع انما تثبت للمصيب واقعا والثانية باطلة. ونظير هذه المسألة ما ذكروه في الاجتهاد في الأحكام الشرعية بالأدلة المقررة من ان حكم الله تعالى في المسألة واحد فمتى اختلف المجتهدون في الحكم في تلك المسألة لا يجوز ان يقال ان كلا منهم مصيب وان حكم الله في المسألة هو الذي ادى اليه اجتهاد المجتهد إلا على قول ضعيف مرغوب عنه بل يجب ان يقال حكم الله واحد يصيبه المصيب ويخطئه المخطئ. بقي الكلام في المؤاخذة على هذا الخطأ وعدمها وفيه تفصيل حققناه في كتاب الدرر النجفية في الدرة التي في شرح مقبولة عمر بن حنظلة.

ثم انه يأتي على تقدير ما أجاب به السيد المذكور انه لو كان الامام يعتقد استحباب السورة والقنوت مثلا والمأموم يعتقد وجوبهما فإنه يجوز له الاقتداء به وان ترك السورة والقنوت لاستحبابهما عنده بتقريب ما ذكره من انه مكلف بظنه واجتهاده


فصلاته صحيحة عند نفسه ، مع ان الظاهر ان الأمر ليس كذلك لأن المأموم يعتقد بطلان الصلاة بتركهما لوجوبهما عنده وينسب الإمام إلى الغلط في اجتهاده ويحكم بخطئه وبذلك يظهر قوة القول المشهور. الا انه يمكن تطرق الإشكال إلى أصل ما بنى عليه هذا الكلام من القاعدة المشهورة بينهم وهو ان الحكم بالصحة والبطلان دائر مدار مطابقة الواقع وعدمها بما قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة من ان الحكم بالطهارة والنجاسة والحل والحرمة والصحة والبطلان ليست منوطة بالواقع ونفس الأمر ، فإن الشارع لم ينط الأحكام بالواقع ونفس الأمر لأنه تكليف بما لا يطاق إذ لا يعلمه سواه سبحانه وانما جعلها منوطة بنظر المكلف وعلمه ، وعلى هذا فالظاهر ما علم المكلف بطهارته التي هي عبارة عن عدم العلم بالنجاسة لا العلم بالعدم ومثله الحلية ونحوهما. وكذا لو صلى في ثوب نجس أو صلى الى غير القبلة واقعا أو نحو ذلك من شرائط الصلاة مع كون الصلاة في اعتقاده مستكملة لشرائط الصحة فإنها صحيحة يثاب عليها كما يثاب على الصلاة المستكملة الشروط ولا يقال انها صحيحة بحسب الظاهر باطلة بحسب الواقع كما يدعونه لانه لا واقع لها هنا إلا باعتبار علم المكلف وعدمه لا باعتبار ما كان في علم الله تعالى فانا غير مكلفين به وهو غير متيسر لنا فكيف يجعل الله سبحانه صحة عباداتنا وبطلانها مرتبا عليه؟ وعلى هذا فينبغي ان يقال ان بطلان صلاة الجماعة في هذه الصورة ليس من حيث ما ذكره من ان المأموم ان كان محقا في الجهة. إلى آخر ما ذكره مما أوضحنا بيانه وبينا انه مبني على تلك القاعدة المشهورة في كلامهم فإنها غير مسلمة لما عرفت ، بل من حيث ان كلا منهما مكلف شرعا بما ادى اليه اجتهاده فاقتداء المأموم في هذه الصورة عمل بغير ما كلف به شرعا لا من حيث بطلان صلاة أحدهما واقعا.

والتحقيق في هذا المقام ان يفرق بين الأحكام الشرعية وموضوعاتها فيقال بان حكم الله تعالى في الأحكام الشرعية من وجوب وتحريم ونحوهما حكم واحد لا يتغير ولا يتبدل يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه وان الصحة والبطلان والثواب والعقاب منوطة


بمطابقته وعدم مطابقته وان المكلف غير معذور في خطأه وعدم اصابته إلا في صورة مخصوصة تقدمت الإشارة إلى ذكرها في الكتاب المشار اليه آنفا ، فعلى هذا لا يجوز لمن اداه اجتهاده واستنباطه من الأدلة الشرعية إلى وجوب السورة مثلا أو وجوب القنوت ان يقتدي بمن يتركهما لاعتقاده استحبابهما ، ولا لمن يعتقد نجاسة الماء القليل بالملاقاة ان يقتدي بمن تطهر بماء نجس بالملاقاة لاعتقاده عدم انفعاله بذلك ، ونحو ذلك لاعتقاده بطلان صلاته في جميع هذه المواضع وخطأه في اجتهاده وعدم مطابقة اجتهاده لما هو حكم الله تعالى في الواقع في اعتقاده وان كان الآخر ايضا يحكم بصحة اجتهاده في نفسه ومطابقته للواقع. واما حكم الله تعالى في موضوعات الأحكام كما في محل البحث ونظائره فإنه ليس له واقع سوى علم المكلف وعدمه فهو متعدد بتعدد العلم وعدمه فيقال ان هذا الشي‌ء طاهر بالنسبة الى من لا يعلم نجاسته ونجس بالنسبة الى من يعلم وحلال بالنسبة الى من لا يعلم بالحرمة وحرام بالنسبة إلى العالم وهذه الصلاة صحيحة بالنسبة الى من استكمل شرائطها ظاهرا وان كانت واقعا ليست كذلك وباطلة بالنسبة الى من لم يستكمل ظاهرا وان استكمل واقعا ، فالأقوى كما تقدم الصحة وان كان المشهور البطلان وحينئذ فلا يحكم ببطلان عبادة من اختل بعض شروط عبادته واقعا مع ظهور عدم الاختلال في اعتقاده لانه لا واقع هنا وراء ظنه واعتقاده ، إلا ان عدم جواز الاقتداء انما نشأ من شي‌ء آخر كما عرفت وهو وجوب العمل على المجتهد بما ادى اليه اجتهاده لا من حيث البطلان. والله العالم.

(السادس) ـ قال في المنتهى : لو صلى الأعمى من غير تقليد بل برأيه ولم يستند إلى أمارة يعلمها فإن أخطأ أعاد وان أصاب قال الشيخ لا يعيد وقال الشافعي يعيد (1) احتج الشيخ (قدس‌سره) بأنه امتثل ما أمر به من التوجه نحو المسجد الحرام

__________________

(1) المهذب ج 1 ص 67.


فيكون مجزئا ، ولان بطلان الصلاة حكم شرعي فيقف على الدلالة وهي مفقودة. احتج الشافعي بأنه لم يفعل ما أمر به وهو الرجوع الى قول الغير فجرى مجرى عدم الإصابة. وكلاهما قويان. انتهى.

أقول : ظاهر كلامه هنا هو التوقف في هذه المسألة لتعارض الدليلين المذكورين عنده حيث حكم بقوتهما جميعا ، وهو ظاهر المعتبر ايضا حيث قال بعد نقل قول الشيخ : وعندي في الإصابة تردد. وظاهر كلام الأصحاب هنا هو ما نقله عن الشافعي من ان دخوله في الصلاة غير مشروع لكونه مأمورا بالتقليد فلا فرق بين اصابته وعدم اصابته وقد تقدم في التنبيه الرابع تصريح صاحب المدارك بذلك وهو ظاهر المحقق في الشرائع وبذلك صرح أيضا في الذكرى. وبالجملة فهو المشهور في كلامهم وبذلك صرح في المدارك في هذه المسألة أيضا وذكر ان الإعادة في ما إذا عول على رأيه من دون أمارة ثابتة على كل حال وان ظهرت المطابقة لدخوله في الصلاة دخولا منهيا عنه. انتهى. وفيه ما عرفت في التنبيه الرابع.

وظاهرهم انه لا فرق في الصحة والبطلان بين سعة الوقت وضيقه إلا ان يكون من يقلده مفقودا ولم يصل الى حد الاستدبار فإنه تصح صلاته في حال الضيق وان كان مخطئا. ولو أصاب في صورة الضيق فالقولان المتقدمان إلا في صورة عدم وجود من يقلده فإنهم قالوا بالصحة هنا قطعا.

ولو صلى مقلدا ثم أبصر في أثناء الصلاة فإن كان عاميا استمر على تقليده لان حكم العامي والأعمى واحد في الرجوع الى التقليد ، وان كان مجتهدا اجتهد فان وافق ما استقبله فلا اشكال وان انحرف وظهر انحرافه بين المشرق والمغرب استدار وان كان الى محض اليمين واليسار أعاد واولى منه صورة الاستدبار ، ولو افتقر في الاجتهاد الى زمان طويل يخرج به عن الصلاة فهل يقطع الصلاة أو يبنى على ما فعل ويسقط الاجتهاد في هذا الحال؟ اشكال وبالثاني صرح في الذكرى ، قال لأنه في معنى العامي لتحريم قطع


الصلاة والظاهر اصابة المخبر ويقوى مع كونه مخبرا عن علم بل يمكن هنا عدم الاجتهاد. وبالأول صرح في المعتبر احتياطا وكذلك الشيخ في المبسوط إلا انه قال بعد ان صرح بالاستئناف : لان ذلك عمل كثير في الصلاة ولو قلنا انه يمضي فيها لانه لا دليل على انتقاله كان قويا غير ان الأحوط للعبادة الأول.

ولو دخل بصيرا في الصلاة ثم عمى أتم صلاته فان انحرف عمدا عن السمت الذي صلى اليه بطلت صلاته وان اتفق ذلك وامكنه الاستقامة استقام ما لم يكن قد خرج الى حد الابطال المتقدم ، وان لم يمكنه فان اتفق من يسدده عول عليه وينتظره ان لم يخرج عن كونه مصليا وإلا فالأقرب البطلان. والله العالم.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *