ج5 - حكم نجاسة الخمر
الفصل السادس
وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في نجاسته ، فالمشهور بين أكثر علمائنا بل أكثر أهل العلم هو القول بالنجاسة حتى انه حكي عن المرتضى (رضياللهعنه) انه قال لا خلاف بين المسلمين في نجاسة الخمر إلا ما يحكى عن شذاذ لا اعتبار بقولهم ، وعن الشيخ انه قال : الخمر نجسة بلا خلاف وكل مسكر عندنا حكمه حكم الخمر والحق أصحابنا الفقاع بذلك. وعن ابن زهرة الخمر نجسة بلا خلاف ممن يعتد به ، ونقل ابن إدريس إجماع المسلمين عليه ، وقال الصدوق في الفقيه والمقنع لا بأس بالصلاة في ثوب اصابه خمر لان الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب اصابته. وهو ظاهر كالصريح في القول بالطهارة مع انه حكم بنزح ماء البئر اجمع بانصباب الخمر فيها ، وأصرح منه ما نقل عن ابن ابي عقيل حيث قال : من أصاب ثوبه أو جسده خمر أو مسكر لم يكن عليه غسلهما لأن الله تعالى انما حرمهما تعبدا لا لأنهما نجسان. وعزى في الذكرى الى الجعفي وفاق الصدوق وابن ابي عقيل وكذا في الدروس ، قال في المعالم : بعد نقل القول بالطهارة عن هؤلاء الثلاثة ولا يعرف هذا القول لسواهم من الأصحاب.
احتج القائلون بالنجاسة بوجوه : (الأول) ـ الإجماع
المتقدم ذكره بناء على ما تقرر عندهم من ان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة.
(الثاني) ـ قوله عزوجل : «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ» (1) فان الرجس هو
النجس على ما ذكره بعض أهل اللغة والاجتناب عبارة عن عدم المباشرة ولا معنى للنجس
إلا ذلك.
(الثالث) ـ الروايات والذي وقفت عليه من ذلك ما رواه ثقة
الإسلام في الصحيح عن علي بن مهزيار (2) قال : «قرأت في كتاب عبد الله بن
محمد الى ابي الحسن (عليهالسلام) جعلت فداك
روى زرارة عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهماالسلام) في الخمر
يصيب ثوب الرجل انهما قالا لا بأس بان يصلي فيه انما حرم شربها. وروى غير زرارة عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) انه قال إذا
أصاب ثوبك خمر أو نبيذ يعني المسكر فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله
كله وان صليت فيه فأعد صلاتك.
__________________
(1) سورة المائدة ، الآية 90.
(2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
فأعلمني ما آخذ به؟ فوقع (عليهالسلام) وقرأته : خذ
بقول ابي عبد الله (عليهالسلام)».
وما رواه في الكافي عن يونس عن بعض من رواه عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
أصاب ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله ان عرفت موضعه وان لم تعرف موضعه فاغسله كله
فان صليت فيه فأعد صلاتك».
وعن خيران الخادم (2) قال : «كتبت الى الرجل اسأله عن
الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه فقال
بعضهم صل فيه فان الله تعالى انما حرم شربها وقال بعضهم لا تصل فيه. فكتب (عليهالسلام) لا تصل فيه
فإنه رجس».
ورواه في التهذيب ايضا مثله ، وقال في الكافي بعد نقل
خبر خيران قال (3) : «وسألت أبا
عبد الله (عليهالسلام) عن الذي يعير
ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري أو يشرب الخمر فيرده أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا
يصل فيه حتى يغسله». ولا يخفى ما في هذا السند من الاشتباه لان الظاهر ان ضمير «قال»
يرجع الى خيران وفي رؤيته أبا عبد الله (عليهالسلام) وسؤاله منه
بعد لانه من موالي الرضا (عليهالسلام) وأصحابه.
وعن أبي جميلة البصري (4) قال : «كنت مع
يونس ببغداد وانا أمشي في السوق ففتح صاحب الفقاع فقاعه فقفز فأصاب ثوب يونس
فرأيته قد اغتم لذلك حتى زالت الشمس فقلت له يا أبا محمد إلا تصلي؟ قال فقال لي
ليس أريد أن أصلي حتى ارجع الى البيت فاغسل هذا الخمر من ثوبي. فقلت له هذا رأي
رأيته أو شيء ترويه؟ فقال أخبرني هشام بن الحكم انه سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الفقاع
فقال لا تشربه فإنه خمر مجهول وإذا أصاب ثوبك فاغسله».
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
(4) رواه في الوافي ج 4 ص 33 وقطعة منه في الوسائل في الباب 37
من الأشربة المحرمة.
وما رواه الشيخ في التهذيب في الموثق عن عمار بن موسى
الساباطي عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «لا تصل
في بيت فيه خمر ولا مسكر لأن الملائكة لا تدخله ، ولا تصل في ثوب قد اصابه خمر أو
مسكر حتى تغسله».
وما رواه في الكافي عن زكريا بن آدم (2) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن قطرة خمر
أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيه لحم كثير ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو تطعمه أهل
الذمة أو الكلب واللحم اغسله وكله. قلت فإنه قطر فيه دم؟ قال الدم تأكله النار ان
شاء الله تعالى. قلت فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت أبيعه من
اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه. قلت والفقاع هو بتلك
المنزلة إذا قطر في شيء من ذلك؟ فقال أكره أن آكله إذا قطر في شيء من طعامي».
وعن عمار بن موسى الساباطي في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن الدن يكون فيه الخمر هل يصلح ان يكون فيه الخل أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال إذا
غسل فلا بأس. وعن الإبريق يكون فيه خمر أيصلح ان يكون فيه ماء؟ قال إذا غسل فلا
بأس. وقال في قدح أو إناء يشرب فيه الخمر؟ قال تغسله ثلاث مرات. سئل يجزيه ان يصب
فيه الماء؟ قال لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». ورواه الشيخ في
التهذيب مثله.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة عن عبد الله بن سنان (4) قال : «سأل
أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الذي يعير
ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري ويشرب الخمر فيرده أيصلي فيه قبل ان يغسله؟ قال لا
يصلي فيه حتى يغسله». أقول : قد حمله الشيخ
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
(3) رواه في الوسائل في الباب 51 من النجاسات و 30 من الأشربة
المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
على الاستحباب : قال لأن الأصل في
الأشياء الطهارة ولا يجب غسل شيء من الثياب إلا بعد العلم بان فيها نجاسة ، وقد
روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر ثم أورد الخبر الآني :
وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال : «سأل
أبي أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر
اني أعير الذمي ثوبي وانا اعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير فيرده علي فاغسله
قبل ان أصلي فيه؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) صل فيه ولا
تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه فلا بأس ان تصلي
فيه حتى تستيقن أنه نجسه».
وعن عمار في الموثق عن الصادق (عليهالسلام) (2) «في الإناء
يشرب فيه النبيذ؟ قبل تغسله سبع مرات».
وموثقة عمار ايضا عن الصادق (عليهالسلام) (3) قال : «لا تصل
في ثوب اصابه خمر أو مسكر واغسله ان عرفت موضعه فان لم تعرف موضعه فاغسل الثوب كله
فان صليت فيه فأعد صلاتك».
وصحيحة الحلبي (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن دواء عجن
بالخمر؟ فقال لا والله ما أحب ان انظر اليه فكيف أتداوى به انه بمنزلة شحم الخنزير
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 74 من أبواب النجاسات.
(2) رواه في الوسائل في الباب 30 و 35 من الأشربة المحرمة.
(3) لم نعثر في كتب الحديث على رواية لعمار بهذا اللفظ وانما
الوارد فيها هكذا «لا تصل في ثوب اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله» وقد رواه في
الوسائل في الباب 38 من النجاسات. نعم ورد هذا المضمون في رواية غير زرارة التي
يرويها علي بن مهزيار وفي رواية يونس المتقدمتين وسيأتي في التنبيه الأول التعرض
لموثقة عمار بالنص المتقدم.
(4) المروية في الوسائل في الباب 20 من الأشربة المحرمة.
أو لحم الخنزير». وفي بعض الروايات «انه
بمنزلة الميتة».
وفي رواية أبي بصير (1) وهي طويلة عن الصادق (عليهالسلام) في النبيذ
وسؤال أم خالد العبدية عن التداوي به قال : «ما يبل الميل ينجس حبا من ماء ،
يقولها ثلاثا».
وفي الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : «سألت
أبا جعفر (عليهالسلام) عن آنية أهل
الذمة والمجوس؟ قال لا تأكلوا في آنيتهم ولا من طعامهم الذي يطبخون ولا في آنيتهم
التي يشربون فيها الخمر».
وعن عمر بن حنظلة (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) ما ترى في
قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره ، فقال لا والله ولا قطرة
تقطر منه في حب إلا أهريق ذلك الحب».
وعن هارون بن حمزة الغنوي عن الصادق (عليهالسلام) (4) «في رجل اشتكى
عينيه فنعت له كحل يعجن بالخمر؟ فقال هو خبيث بمنزلة الميتة فإن كان مضطرا فليكتحل
به».
ومنها ـ الأخبار الواردة في نزح البئر من صب الخمر فيه (5) مع كثرتها
وصحة أسانيد كثير منها.
هذا ما حضرني مما يدل على القول بالنجاسة كما هو القول
المشهور والمؤيد المنصور
واما ما يدل على القول الآخر بعد الأصل فجملة من الاخبار
ايضا : منها ـ ما رواه الحسن بن أبي سارة في الصحيح (6) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 54 من الأطعمة المحرمة.
(3) رواه في الوسائل في الباب 18 من الأشربة المحرمة.
(4) رواه في الوسائل في الباب 21 من الأشربة المحرمة.
(5) رواها في الوسائل في الباب 15 من أبواب الماء المطلق.
(6) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب النجاسات.
أصاب ثوبي شيء من الخمر أصلي فيه قبل
ان اغسله؟ قال لا بأس ان الثوب لا يسكر».
وما رواه عبد الله بن بكير في الموثق (1) قال : «سأل
رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) وانا عنده عن
المسكر والنبيذ يصيب الثوب؟ فقال : لا بأس به».
وما رواه الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في قرب
الاسناد في الصحيح عن علي بن رئاب (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الخمر
والنبيذ المسكر يصيب ثوبي اغسله أو أصلي فيه؟ قال صل فيه إلا ان تقذره فتغسل منه
موضع الأثر ان الله تبارك وتعالى انما حرم شربها».
ورواية الحسين بن موسى الحناط (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يشرب الخمر ثم يمجه من فيه فيصيب ثوبي؟ فقال لا بأس».
ورواية أبي بكر الحضرمي (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) أصاب ثوبي
نبيذ أصلي فيه؟ قال نعم. قلت له قطرة من نبيذ قطرت في حب ماء اشرب منه؟ قال نعم ان
أصل النبيذ حلال وان أصل الخمر حرام». قال في الذخيرة : وجه الدلالة ان الظاهر عدم
القائل بالفصل وحمل الشيخ النبيذ في هذه الرواية على النبيذ الحلال. وهو جيد
ورواية الحسن ابن أبي سارة (5) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) انا نخالط
اليهود والنصارى والمجوس وندخل عليهم وهم يأكلون ويشربون فيمر ساقيهم فيصب على ثيابي
الخمر؟ قال : لا بأس به إلا ان تشتهي أن تغسله لأثره».
ورواية حفص الأعور (6) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) الدن يكون
فيه الخمر ثم يجفف يجعل فيه الخل؟ قال نعم».
وروى ابن بابويه مرسلا (7) قال : «سئل
أبو جعفر وأبو عبد الله (عليهما
__________________
(1 و 2 و 4 و 5 و 7) رواه في الوسائل في الباب 38 من أبواب
النجاسات.
(3) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب النجاسات.
(6) المروية في الوسائل في الباب 51 من النجاسات و 30 من
الأشربة المحرمة.
السلام) فقيل لهما انا نشتري ثيابا
يصيبها الخمر وودك الخنزير عند حاكتها أنصلي فيها قبل ان نغسلها؟ فقال نعم لا بأس
إنما حرم الله تعالى اكله وشربه ولم يحرم لبسه ومسه والصلاة فيه». ورواه الصدوق في
علل الشرائع بطريق صحيح عن بكير عن الباقر (عليهالسلام) وعن ابى
الصباح وابى سعيد والحسن النبال عن الصادق (عليهالسلام).
وروى الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (1) «انه سأله عن
الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه خمر فأصاب ثوبه هل يصلي فيه قبل ان يغسله؟ فقال
لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي فيه ولا بأس». ورواه في قرب الاسناد عن علي بن جعفر
عن أخيه موسى (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن رجل مر في ماء المطر قد صب فيه الخمر. الحديث».
ورواية علي الواسطي (3) قال : «دخلت الجويرية وكانت تحت عيسى
بن موسى على ابى عبد الله (عليهالسلام) وكانت صالحة
فقالت إني أتطيب لزوجي فيجعل في المشطة التي اتمشط بها الخمر واجعله في رأسي؟ قال
لا بأس».
وفي الفقه الرضوي (4) «لا بأس ان
تصلي في ثوب اصابه خمر لأن الله تعالى حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته».
إذا عرفت ذلك فاعلم ان جملة من أفاضل متأخري المتأخرين
كالسيد السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة والمحقق الخوانساري وغيرهم
قد اختاروا القول بالطهارة وأجابوا عن الإجماع بعدم ثبوته بعد تحقق الخلاف في
المسألة من هؤلاء الأجلاء ، واما الآية فأجابوا عنها أيضا بأجوبة واسعة نقضا
وإبراما ليس في التعرض لها مزيد فائدة. والحق هو الرجوع الى الاخبار في هذا المقام
خاصة ، اما الإجماع فلما عرفت في مقدمات
__________________
(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 6 من أبواب الماء المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب 37 من الأشربة المحرمة.
(4) ص 38.
الكتاب ، واما الآية فلا دلالة لها
ظاهرا إلا بارتكاب تكلفات بعيدة كما يظهر من بحثهم جوابا وسؤالا.
وهؤلاء الأفاضل المشار إليهم بعد بحثهم في المسألة حملوا
أخبار النجاسة على الاستحباب وجمعوا به بين الاخبار في هذا الباب كما هي قاعدتهم
المستمرة في جميع الأبواب حسبما نبهنا عليه في غير مقام مما تقدم في الكتاب ، قال
السيد السند في المدارك الذي هو الأصل في ذلك بعد ذكر القول بالنجاسة ونقل بعض
اخباره ثم القول بالطهارة ونقل بعض اخباره : وأجاب الأولون عن هذه الاخبار بالحمل
على التقية جمعا بينها وبين ما تضمن الأمر بغسل الثوب منه ، وهو مشكل لأن أكثر
العامة قائلون بالنجاسة (1) نعم يمكن
الجمع بينهما بحمل ما تضمن الأمر بالغسل على الاستحباب لان استعمال الأمر في الندب
مجاز شائع. انتهى. ونحوه في الذخيرة بزيادة تأييد لذلك بوجوه لفقها ، ملخصها بعد
الحمل على التقية وان حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على الاستحباب والكراهة
شائع ذائع كأنه الحقيقة كما أشرنا إليه مرارا.
أقول : لا يخفى ان الكلام في الجمع بين هذه الاخبار دائر
بين هذين الوجهين. وهؤلاء الأفاضل قد اختاروا الحمل على الاستحباب في الجمع بين
هذه الاخبار ، وها أنا أبين ما فيه من البعد بل الفساد وعدم انطباق أخبار المسألة
عليه ، وبه يتعين حمل أخبار الطهارة على التقية إذ لم يبق بعد بطلان حمل أخبار
النجاسة على الاستحباب إلا رميها بالكلية متى عملنا باخبار الطهارة ، وفيه من
البطلان ما هو غني عن البيان لكثرتها واستفاضتها وصحة جملة منها باصطلاحهم وعمل
الطائفة قديما وحديثا عليها إلا هؤلاء الثلاثة
__________________
(1) كما في بداية المجتهد لابن رشد المالكي ج 1 ص 70 ، وذكر
ابن قدامة في المغني ج 1 ص 72 والشيرازي في المهذب ج 1 ص 48 طهارة الخمر
بالاستحالة إلى الخل ، وفي بدائع الصنائع ج 1 ص 76 «ينزح ماء البئر كله إذا وقع
فيه من الأنجاس كالبول والدم والخمر».
المذكورين والثلاثة المتقدمين ، أو حمل
أخبار الطهارة على التقية وبه يتم المطلوب.
فاما ما يدل على بطلان الحمل على الاستحباب فوجوه : (الأول)
ـ انه وان اشتهر ذلك بينهم في جميع أبواب الفقه إلا انه لا مستند له من سنة ولا
كتاب ، وقد استفاضت الاخبار عنهم (عليهمالسلام) بوجوه الجمع
بين الاخبار والترجيح في مقام اختلاف الاخبار ، ولو كان لهذا الحمل والجمع بين
الأخبار أصل في الشريعة لما أهملوه (عليهمالسلام) سيما انهم (رضوان
الله عليهم) قد اتخذوه قاعدة كلية في مقام اختلاف الاخبار في جميع أبواب الفقه
وأحكامه.
(الثاني) ـ ان الحمل على الاستحباب مجاز باعترافهم
والمجاز لا يصار اليه إلا بالقرينة الصارفة عن الحقيقة واختلاف الاخبار ليس من
قرائن المجاز. واما قوله في الذخيرة : «ان حمل الأوامر والنواهي في أخبارنا على
الاستحباب والكراهة شائع ذائع كأنه الحقيقة» ففيه انه ان كان ذلك مع وجود القرينة
الصارفة عن المعنى الحقيقي فلا بحث فيه وإلا فهو أول المسألة ومحل المنع.
(الثالث) ـ ان الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم
فيتوقف الحكم به على دليل واضح وإلا كان قولا على الله تعالى من غير علم ، وقد
استفاضت الآيات القرآنية والسنة النبوية بالنهي عنه ، واختلاف الأخبار ليس من الأدلة
التي توجب الحكم بالاستحباب.
(الرابع) ـ ان صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران الخادم
قد دلتا على وقوع هذا الاختلاف بين أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) في وقتهم
وانهم رجعوا في ذلك الى امام ذلك العصر وسألوه عن الأخذ بأي القولين فأمرهم بالعمل
باخبار النجاسة ولو كانت الأخبار الواردة عنهم (عليهمالسلام) بالنجاسة
انما هي بمعنى استحباب الإزالة وليس المراد منها النجاسة كما زعمه هؤلاء الأفاضل
وانه طاهر والصلاة فيه صحيحة وان كان على كراهة ، لما خفي على أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) يومئذ حتى
انهم يسألون
عن ذلك ، ولكان الامام (عليهالسلام) يجيبهم بان
هذه الأخبار لا منافاة بينها فإن الأمر بغسل الثوب منه انما هو على جهة الاستحباب
وإلا فهو طاهر لا انه يقرهم على الاختلاف ويجيبهم بقوله «لا تصل فيه فإنه رجس». فيأمرهم
بالأخذ باخبار النجاسة كما في خبر خيران وبقول ابي عبد الله (عليهالسلام) كما في صحيحة
علي بن مهزيار. واما ما ذكره الفاضل الخوانساري ـ من انه يمكن ان يكون المراد بقول
ابي عبد الله (عليهالسلام) قوله الذي مع
ابي جعفر (عليهالسلام) ويكون
التعبير بهذه العبارة المشتبهة للتقية ـ فهو مما لا يروج إلا على الصبيان العادمي
الافهام والأذهان.
(الخامس) ـ ان جملة من الروايات الدالة على النجاسة لا
تلائم هذا الحمل مثل صحيحة علي بن مهزيار المتضمنة ان غير زرارة روى عن الصادق (عليهالسلام) في نجاسة
الخمر «انه يغسل الثوب كملا مع جهل موضعه ويعيد الصلاة لو صلى فيه». ومثلها مرسلة
يونس المتقدمة نقلا من الكافي ، فإنه لم يعهد في الأخبار التشديد في الأمور
المستحبة والمبالغة فيها الى هذا المقدار وانما وقع نظيره في الاخبار في النجاسات
المقطوع بها لا الأشياء الطاهرة ، ومثل ذلك في رواية أبي جميلة البصري وحكايته عن
يونس فإنه لو كان طاهرا كما يدعونه وان إزالته عن الثوب انما هو على طريق الأولوية
والاستحباب لما خفي ذلك على يونس وهو من أجلاء أصحاب الأئمة (عليهمالسلام) وسياق الخبر
كما عرفت ظاهر بل صريح في ان يونس انما فهم من خبر هشام النجاسة وصار اعتقاده
القول بالنجاسة ، فإن غمه بملاقاة الفقاع له وتوقفه عن المبادرة للصلاة في أول
وقتها وسؤال الراوي له ان هذا رأي رأيته أو شيء ترويه كلها ظاهرة الدلالة في حكمه
بالنجاسة ، ومثل حديث العبدية وقوله (عليهالسلام): «ما يبل
الميل ينجس حبا من ماء». كيف يحمل على الاستحباب؟ واي مجال لهذا الاستحباب الذي لا
دليل عليه من سنة ولا كتاب؟ وكأن هذا القائل ظن انحصار دليل النجاسة فيما دل على
غسل الثوب أو البدن كما هو ظاهر عبارة المدارك.
(السادس) ـ انه قد ورد عنهم (عليهمالسلام) من القواعد
انه إذا جاء خبر عن أولهم وخبر آخر عن آخرهم فإنه يجب الأخذ بالأخير (1) وهذه القاعدة
قد صرح بها الصدوق في الفقيه في باب «الرجل يوصي الى الرجلين» حيث قال : ولو صح
الخبران لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر الصادق (عليهالسلام). ولا ريب ان
صحيحة علي بن مهزيار ورواية خيران قد تضمنتا ذلك ، فالواجب بمقتضى هذه القاعدة
الرجوع الى قول الإمام الأخير وهو الحكم بالنجاسة.
(السابع) ـ ترجح أخبار النجاسة بعمل الطائفة قديما
وحديثا الموجب للظن المتاخم للعلم بكون ذلك هو مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) فان صاحب كل
مذهب انما يعلم مذهبه بعد موته بمذهب مقلديه وشيعته الآخذين بأقواله والمقتفين
لآثاره ولا سيما الشيعة المتهالكين على متابعة مذهب أئمتهم المانعين من الأخذ من
غيرهم ، مضافا ذلك الى الاحتياط في الدين الذي هو أحد المرجحات الشرعية في مقام
اختلاف الاخبار كما دلت عليه رواية زرارة الواردة في طرق الترجيح (2).
والشيخ قد استند في حمل أخبار الطهارة على التقية إلى
صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة حيث قال : وجه الاستدلال من هذا الخبر على ان تلك
الأخبار ـ يعني أخبار الطهارة ـ وردت على جهة التقية انه (عليهالسلام) أمر بالأخذ
بقول ابي عبد الله (عليهالسلام) على الانفراد
والعدول عن قوله مع قول ابي جعفر (عليهالسلام) فلو لا ان
قوله مع قول ابي جعفر (عليهماالسلام) خرج مخرج
التقية لكان الأخذ بقولهما معا اولى وأحرى. قال في المعالم : وهذا الكلام حسن لولا
ما أشرنا إليه من نقل الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف الموافقة على القول بالنجاسة ،
وكيف كان فلا ريب في ان
__________________
(1) وردت في ذلك روايات ثلاث رواها في الوسائل في الباب 9 من
صفات القاضي وما يقضي به وقد تقدمت في ج 1 ص 96.
(2) المروية في مستدرك الوسائل في الباب 9 من صفات القاضي وما
يقضى به.
ما تضمنه هذا الخبر من الأخذ بقول ابي
عبد الله (عليهالسلام) بعد ما تقرر
في السؤال دلالة على ان الحكم في ذلك هو النجاسة وان الطهارة لا تعويل عليها ،
وهذا القدر من الدلالة في الحديث الصحيح كاف في الاستدلال لاعتضاده بما تقدم من
الاخبار وباتفاق أكثر علماء الإسلام مع ما في التنزه عنه من الاحتياط للدين كما
ذكره المحقق (قدسسره) فإذا القول
بالنجاسة هو المعتمد. انتهى ، أقول : ما ذكره ـ من استشكاله في حسن ما ذكره الشيخ
بما نقله الأصحاب عن أكثر أهل الخلاف ـ سيأتي الجواب عنه في المقام ان شاء الله
تعالى
وبما ذكرناه من الوجوه الظاهرة البيان الغنية عن إقامة
الحجة والبرهان كما لا يخفى على أهل الإنصاف من ذوي الأذهان يظهر بطلان حمل أخبار
النجاسة على الاستحباب ويتعين العمل بها في هذا الباب فتبقى اخبار القول بالطهارة
ويتعين حملها على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية.
بقي الكلام فيما ذكروه من ان أكثر العامة قائلون
بالنجاسة ، وفيه ما ذكره بعض المحققين من أصحابنا المتأخرين من ان التقية لا تنحصر
في القول بما يوافق علماءهم بل قد يدعو لها إصرار جهلائهم من أصحاب الشوكة على أمر
وولوعهم به فلا يمكن إشاعة ما يتضمن تقبيحه والإزراء بهم على فعله ، وما نحن فيه
من هذا القبيل فإن أكثر أمراء بني أمية وبني العباس ووزرائهم وأرباب الدولة كانوا
مولعين بشرب الخمر ومزاولتها واستعمالها وعدم التحرز عن مباشرتها ، بل ربما نقل ان
بعضهم يأم الناس وهو سكران فضلا عن ان يكون ثوبه متلوثا بالخمر (فان قيل) انهم (عليهمالسلام) لو كانوا
يتقون في ذلك لكان تقيتهم في الحكم بالحرمة أوجب وأهم مع ان المعلوم من أخبارهم
انهم كانوا يبالغون في ذلك تمام المبالغة حتى ورد في أخبارهم (عليهمالسلام) «ان مدمن
الخمر كعابد الوثن» (1). ونحو ذلك من
التهديد والتشديد في تحريمها ولم يرو عنهم ما يتضمن إباحتها (قلت) يمكن الجواب عن
ذلك بأنه لما كان صريح القرآن تحريمها كان
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 16 ، 13 ، 12 من الأشربة
المحرمة.
التحريم من ضروريات الدين والحكم به
لا مجال لإنكاره ولا فساد فيه. وربما أجيب عما ذكرنا بان حرمتها وان كان بصريح
القرآن إلا ان التشديد الذي ورد عنهم (عليهمالسلام) ليس في القرآن
ولا من ضروريات الدين فكان ينبغي ان يتقوا فيه فترك التقية في ذلك والتقية في
النجاسة بعيد جدا. وفيه انه متى كان صريح القرآن التحريم فالتشديد لازم له إذ من
المعلوم عند كل عالم عاقل ان مخالف صريح القرآن راد لضروري الدين وكل من كان كذلك
فهو في زمرة المرتدين فافترق الأمران ، وبالجملة فالتحريم لما كان صريح الكتاب
العزيز الموجب لكونه من ضروريات الدين فهو معلوم لكافة المسلمين فلا تدخله التقية
سواء أخبروا بمجرد التحريم أو شددوا لقوله (عليهالسلام) في صحيحة
زرارة (1) : «ثلاثة لا
اتقي فيهن أحدا : شرب المسكر ومسح الخفين ومتعة الحج». بل لو أفتوا فيه بالتقية
لربما نسبوهم الى الجهل ومخالفة الكتاب العزيز ، واما الحكم بالنجاسة فلما لم يكن
بتلك المثابة حيث لم يدل عليه دليل من القرآن وانما استفيد من السنة فالتقية جائزة
فيه وغير مستنكرة. وبما حققناه في المقام ورفعنا عنه نقاب الإبهام ظهر لك ان الحق
في المسألة هو القول المشهور وان ما عداه ظاهر القصور. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم)
ان حكم جميع الأنبذة المسكرة حكم الخمر في التنجيس ، قال في المعالم : ولا نعرف في
ذلك خلافا بين الأصحاب. والظاهر ان مراده من قال من الأصحاب بنجاسة الخمر وإلا فقد
عرفت مذهب الصدوق وابن ابى عقيل والجعفي في قولهم بالطهارة.
واستدل في المعتبر على الحكم المذكور فقال : والأنبذة
المسكرة عندنا في التنجيس كالخمر لان المسكر خمر فيتناوله حكم الخمر ، اما انه خمر
فلان الخمر انما سمي بذلك لكونه
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 22 من الأشربة المحرمة.
يخمر العقل ويستره فما ساواه في
المسمى يساويه في الاسم ، ولما رواه علي بن يقطين عن ابى الحسن الماضي (عليهالسلام) (1) قال : «ان
الله سبحانه لم يحرم الخمر لاسمها ولكن حرمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر
فهو خمر». وروى عطاء بن يسار عن الباقر (عليهالسلام) (2) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام
وكل مسكر خمر». انتهى.
واعترضه جملة من محققي متأخري المتأخرين كالسيد في
المدارك والشيخ حسن في المعالم والسبزواري في الذخيرة وغيرهم ممن حذا حذوهم بان
هذا الاحتجاج منظور فيه ، قال في المعالم : لان الظاهر من كلام جماعة من أئمة
اللغة ان الخمر حقيقة في المسكر من عصير العنب والعرف يساعده ، وإذا ثبت كون اللفظ
حقيقة في معنى لم يدل استعماله بعد ذلك في غيره على كونه حقيقة في ذلك الغير ايضا
، وكون الأصل في الاستعمال الحقيقة انما هو مع عدم استلزام الاشتراك أو النقل
لكونهما على خلاف الأصل ، فتعارض أصالة عدمهما أصالة الحقيقة وأحدهما لازم بعد
ثبوت الحقيقة للفظ ، وحينئذ فمجرد إطلاق لفظ الخمر على مطلق المسكر لا يدل على
كونه حقيقة فيه والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشيء ، وإذا لم يثبت كون
اللفظ حقيقة في الجميع لم يتجه الاستدلال على تعميم الحكم في الكل بما دل على
نجاسة الخمر ، والاشتراك في التحريم لا دلالة فيه وانما هو وجه علاقة صح من اجله
استعمال لفظ الخمر في غير ما وضع له على جهة المجاز. انتهى. وعلى هذا النهج كلام
غيره ممن أشرنا اليه.
وعندي فيه نظر ، وتوجيهه انهم ان أرادوا بكونه حقيقة في
عصير العنب يعني الحقيقة الشرعية ففيه ان الحقيقة الشرعية عبارة عن استعمال اللفظ
في كلام الله تعالى أو رسوله مجردا عن قرينة المجاز ، وهذا اللفظ وان وقع في
القرآن العزيز مجملا الا ان
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 19 من الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 15 من الأشربة المحرمة.
الأخبار قد فسرته بالمعنى الأعم وكذلك
وقوعه في كلام الرسول (صلىاللهعليهوآله) انما وقع
بالمعنى الأعم كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى وحينئذ فيكون حقيقة شرعية في المعنى
الأعم ، وان أرادوا به الحقيقة اللغوية كما يفهم من كلام المحقق المذكور ومن تبعه
في ذلك ففيه (أولا) ـ انه لا يصار الى الحمل على الحقيقة اللغوية إلا مع تعذر
الحمل على الحقيقة الشرعية والعرفية الخاصة كما قرروه في غير موضع. و (ثانيا) ـ ان
كلام أهل اللغة أيضا ظاهر في المعنى الأعم كما سيظهر لك في المقام.
فاما ما يدل على كونه حقيقة شرعية في المعنى الأعم من
كلام الله عزوجل فقوله تعالى :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ ... الآية» (1) روى الثقة
الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير هذه الآية عن ابي الجارود عن الباقر (عليهالسلام) (2) في قوله تعالى
: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ
وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ.) «أما الخمر فكل
مسكر من الشراب إذا أخمر فهو خمر ، وما أسكر كثيره فقليله حرام. وذلك ان أبا بكر
شرب قبل ان تحرم الخمر فسكر فجعل يقول الشعر ويبكي على قتلي المشركين من أهل بدر
فسمع النبي (صلىاللهعليهوآله) فقال اللهم
أمسك على لسانه فأمسك على لسانه فلم يتكلم حتى ذهب عنه السكر فانزل الله تحريمها
بعد ذلك ، وانما كانت الخمر يوم حرمت بالمدينة فضيخ البسر والنمر فلما انزل الله
تعالى تحريمها خرج رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقعد في
المسجد ثم دعا بآنيتهم التي كانوا ينبذون فيها فأكفاها كلها وقال هذه كلها خمر وقد
حرمها الله تعالى ، وكان أكثر شيء اكفىء في ذلك اليوم من الأشربة الفضيخ ولا
اعلم انه اكفىء يومئذ من خمر العنب شيء إلا إناء واحد كان فيه زبيب وتمر جميعا ،
واما عصير العنب فلم يكن يومئذ بالمدينة منه شيء ، وحرم الله تعالى الخمر قليلها
وكثيرها وبيعها وشراءها والانتفاع بها. الحديث». وهو ـ كما ترى ـ صريح في المراد
عار عن وصمة الشبهة والإيراد. ونقل في مجمع البيان عن ابن عباس في تفسير
__________________
(1) سورة المائدة ، الآية 90.
(2) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
هذه الآية قال : «يريد بالخمر جميع
الأشربة التي تسكر وقد قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من تسع
: من البتع وهو العسل ومن العنب ومن الزبيب ومن التمر ومن الحنطة ومن الذرة ومن
الشعير والسلت».
واما ما يدل على ذلك من كلامه (صلىاللهعليهوآله) فمنه ـ ما
تقدم في رواية عطاء بن يسار المنقولة في كلام المحقق ، وما نقله في مجمع البيان عن
ابن عباس عنه (صلىاللهعليهوآله) ومن ذلك صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من
خمسة : العصير من الكرم والنقيع من الزبيب والبتع من العسل والمرز من الشعير
والنبيذ من التمر». ورواية علي بن إسحاق الهاشمي عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من
خمسة. الحديث المتقدم». وما رواه الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الطوسي في الأمالي
بسنده فيه عن النعمان بن بشير (3) قال : «سمعت رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يقول ايها
الناس ان من العنب خمرا وان من الزبيب خمرا وان من التمر خمرا وان من الشعير خمرا
الا أيها الناس انها كم عن كل مسكر». وروى الكليني في الصحيح الى الحسن الحضرمي عن
من أخبره عن علي بن الحسين (عليهالسلام) (4) قال : «الخمر
من خمسة أشياء : من التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل». وروى العياشي في
تفسيره عن عامر بن السمط عن علي بن الحسين (عليهالسلام) (5) قال : «الخمر
من ستة أشياء.». ثم ذكر الخمسة المذكورة في حديث الحضرمي وزاد الذرة ، فقد ظهر لك
بما نقلناه من الأخبار تطابق كلام الله تعالى ورسوله على ان الخمر أعم مما ذكروه
من التخصيص بالمتخذ من العنب فيكون حقيقة شرعية في ذلك بلا اشكال ويجب الحمل على
ذلك حيثما أطلق هذا اللفظ إلا مع القرينة الصارفة عنه كما هو المقرر بينهم في
الحقائق الشرعية وغيرها.
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 1 من الأشربة
المحرمة.
واما كلام أهل اللغة في هذا المقام فالذي يستفاد منه
تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى ان الخمر حقيقة فيما قلناه دون عصير العنب كما
زعموه ، قال في القاموس : الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام كالخمرة وقد يذكر ،
والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب وما كان شرابهم إلا البسر والتمر ،
سميت الخمر خمرا لأنها تخمر العقل وتستره أو لأنها تركت حتى أدركت واختمرت أو
لأنها تخامر العقل اي تخالطه. الى آخر كلامه. وفي الصحاح سميت الخمر خمرا لأنها
تركت واختمرت واختمارها تغير رائحتها ، ويقال وجدت خمرة الطيب أي رائحته. وفي كتاب
الغريبين للهروي قوله تعالى : «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ» الخمر ما خامر العقل اي خالطه وخمر
العقل ستره وهو المسكر من الشراب. وفي المصباح المنير للفيومي الخمر معروفة ، الى
ان قال ويقال هي اسم لكل مسكر خامر العقل اي غطاه. وفي مجمع البحرين بعد ذكر قوله
سبحانه «إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ» الخمر معروف
وعن ابن الأعرابي انما سمى الخمر خمرا لأنها تركت واختمرت واختمارها تغير رائحتها
، الى ان قال والخمر فيما اشتهر بينهم كل شراب مسكر ولا يختص بعصير العنب ، ثم نقل
كلام القاموس وقال بعده ويشهد له ما روي عن الصادق (عليهالسلام) وساق صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة.
وبذلك يظهر لك تطابق الأخبار المتقدمة وكلام أهل اللغة
على ما اخترناه في المقام ويظهر ضعف ما ذكره أولئك الاعلام ، وبذلك يظهر ما في
كلام المحقق صاحب المعالم من قوله : والاعتبار الذي ذكره من جهة التسمية ليس بشيء.
ونحوه قوله في المدارك والذخيرة ان اللغات لا تثبت بالاستدلال ، فان فيه ان كلام
أئمة اللغة كما سمعت كله متطابق على تعليل التسمية الموجب لدوران حكم التحريم
ونحوه مدار صدق الاسم وقد وقع نحوه في الاخبار ايضا كما رواه في الكافي عن علي بن
أبي حمزة عن إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «ان
الله تعالى لما اهبط آدم امره بالحرث والزرع
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
وطرح عليه غرسا من غرس الجنة فأعطاه
النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها لعقبه وذريته فأكل هو من ثمارها ، فقال
إبليس ائذن لي ان آكل منه شيئا فأبى أن يطعمه فجاء عند آخر عمر آدم ، وساق الحديث
الى ان قال : ثم ان إبليس بعد وفاة آدم ذهب فبال في أصل الكرم والنخلة فجرى الماء
في عودهما ببول عدو الله تعالى فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى على
ذرية آدم كل مسكر لان الماء جرى ببول عدو الله في النخلة والعنب وصار كل مختمر
خمرا لان الماء اختمر في النخلة والكرمة من رائحة بول عدو الله تعالى». فانظر الى
قوله (عليهالسلام) : «وصار كل
مختمر خمرا» من دلالته على دوران التسمية مدار حصول الاختمار كما هو الظاهر من
كلام أهل اللغة أيضا وهو الذي أراده المحقق في المعتبر ولكن أولئك الفضلاء لم
يعطوا التأمل حقه لا في الاخبار ولا في كلام أهل اللغة فوقعوا فيما وقعوا فيه.
(فان قيل) ان جملة من الاخبار ظاهرة في إطلاق الخمر على
المعنى الأخص لعطف المسكر أو النبيذ عليه ونحو ذلك من العبارات الظاهرة بل الصريحة
في الاختصاص وعدم صحة الحمل على المعنى الأعم ، وربما أشعر بكونه حقيقة في هذا
الفرد في عرفهم (عليهمالسلام) فيكون حقيقة
عرفية خاصة. مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة علي
ابن مهزيار (1) «إذا أصاب ثوبك
خمر أو نبيذ يعني المسكر.». وقوله (عليهالسلام) في رواية
عمار (2) : «لا تصل في
ثوب اصابه خمر أو مسكر حتى تغسله». وقوله (عليهالسلام) في رواية
يونس (3) : «إذا أصاب
ثوبك خمر أو نبيذ مسكر فاغسله». ونحو ذلك ، وعلى هذه الروايات اعتمد في المعالم في
الحكم بنجاسة كل مسكر بعد اعتراضه على كلام المحقق (قدسسره) بما قدمنا
نقله.
(قلت) : الذي يظهر لي من تتبع الاخبار في هذا المقام ان
الخمر قبل نزول التحريم انما كان يطلق عرفا على عصير العنب وإطلاقه على المعنى
الأعم انما وقع في كلام
__________________
(1) ص 99.
(2) راجع التعليقة 3 ص 102.
(3) ص 100.
الله تعالى وكلام رسوله (صلىاللهعليهوآله) باعتبار
الأحكام التي رتبوها عليه من حرمة أو نجاسة كما عرفت من الأحاديث المتقدمة فهي
حقيقة شرعية في المعنى الأعم وان كانت عرفا انما تطلق على العصير العنبي ، وهم (عليهمالسلام) ربما اطلقوها
على المعنى الشرعي كما تقدم في الحديثين المنقولين عن علي بن الحسين (عليهالسلام) وربما
اطلقوها على المعنى العرفي الدائر بين الناس كما في الاخبار المذكورة.
هذا ، والظاهر اتفاق كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم)
على تخصيص الحكم بالنجاسة في المسكر بما كان مائعا بالأصالة وان عرض له الجمود دون
الجامد بالأصالة كالحشيشة وان عرض له الميعان ، والظاهر ان المستند في ذلك هو ان
المتبادر من لفظة المسكر والنبيذ ونحوهما في الأخبار انما هو الأشربة المتخذة من
تلك الأشياء المعدودة في الأخبار المتقدمة فيبقى ما عداها على حكم الأصل ، واما
ثبوت النجاسة لها بعد الجمود فهو من حيث توقف الطهارة بعد ثبوت النجاسة على الدليل
ولم يثبت كون الجمود مطهرا فيبقى على حكم الأصل. والله العالم.
(الثاني) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) ممن قال بنجاسة الخمر في ان حكم الفقاع حكمه ، ونقل العلامة في النهاية
والمنتهى إجماع علمائنا على ذلك ، وذكر المحقق في المعتبر عن الشيخ انه قال وألحق
أصحابنا الفقاع بالخمر يعني في التنجيس وهذا انفراد الطائفة. ثم قال المحقق :
ويمكن ان يقال الفقاع خمر فيلحقه أحكامه اما انه خمر فلما ذكره على الهدى (رضياللهعنه) قال : قال
احمد حدثنا عبد الجبار بن محمد الخطابي عن ضمرة قال الغبيراء التي نهى النبي (صلىاللهعليهوآله) عنها هي
الفقاع قال وعن ابي هاشم الواسطي الفقاع نبيذ الشعير فإذا نش فهو خمر ، قال وعن
زيد بن أسلم الغبيراء التي نهى النبي عنها هي الاسكركة (1) وعن ابى موسى
انه قال الاسكركة خمر الحبشة ، ومن طريق الأصحاب ما رواه سليمان بن جعفر (2) قال : «قلت
للرضا
__________________
(1) في كتب اللغة (سكركة).
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من الأشربة المحرمة.
(عليهالسلام) ما تقول في
شرب الفقاع؟ فقال هو خمر مجهول.». وعن الوشاء (1) قال : «كتبت إليه ـ يعني الرضا (عليهالسلام) ـ اسأله عن
الفقاع؟ فقال حرام وهو خمر». وعنه (عليهالسلام) (2) قال : «هي
خمرة استصغرها الناس». وقال ابن الجنيد وتحريمه من جهة نشيشه ومن ضراوة إنائه إذا كرر
فيه العمل. (لا يقال) الخمر من الستر وهو ستر العقل ولا ستر في الفقاع (لأنا نقول)
التسمية ثابتة شرعا والتجوز على خلاف الأصل فيكون حقيقة في المشترك وهو مائع حرم
لنشيشه وغليانه ، وإذا ثبت ان الفقاع خمر وقد بينا حكم الخمر فاطلب حكم الفقاع
هناك. انتهى كلامه. قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : ويرد على احتجاجه بأخبارنا
لإدخاله في حقيقة الخمر نحو ما ذكرناه في احتجاجه السابق لإدخال المسكرات. واما ما
حكاه عن المرتضى فغير كاف في إثبات مثله ، فالعمدة إذا على الإجماع المدعي ،
ويؤيده ما رواه الكليني (قدسسره) عن محمد بن
يحيى ثم أورد رواية أبي جميلة البصري المتقدمة.
أقول : ما أورده عليه هنا في الاحتجاج بأخبارنا لإدخال
الفقاع في حقيقة الخمر بما ذكره سابقا قد بينا ضعفه وان هذا الإطلاق حقيقة شرعية ،
ومن الأخبار الدالة على ما دلت عليه هاتان الروايتان المذكورتان في كلام المحقق (قدسسره) قول ابي
الحسن (عليهالسلام) في جواب
مكاتبة ابن فضال (3) «هو الخمر وفيه
حد شارب الخمر». وقول الصادق (عليهالسلام) (4) في موثقة عمار
: «هو خمر». وقوله (عليهالسلام) في رواية
الحسين القلانسي (5) «لا تقربه فإنه
من الخمر». وفي رواية محمد بن سنان (6) «هو الخمر
بعينها». وفي رواية زرارة عن الصادق (عليهالسلام) (7) «لو ان لي
سلطانا على أسواق المسلمين لرفعت عنهم هذه الخمرة». وفي بعضها (8) «هو خمر مجهول
وفيه حد شارب الخمر». ومن أجل هذه الاخبار رجع صاحب الذخيرة في هذا المقام
__________________
(1 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8) رواه في الوسائل في الباب 27 من
الأشربة المحرمة.
(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من الأشربة المحرمة.
عما ذكره سابقا مما قدمنا نقله عنه ،
حيث قال بعد إيراد جملة من هذه الأخبار : لا يخفى انه وان أمكن إيراد النظر السابق
هنا لكن الإنصاف ان من هذه الاخبار يستفاد انه مثل الخمر في جميع الأحكام ويؤيده
رواية أبي جميلة البصري ، ثم ساق الرواية كما قدمناه. واما صاحب المدارك فإنه قال
: والحكم بنجاسته مشهور بين الأصحاب وبه رواية ضعيفة السند جدا نعم ان ثبت إطلاق
الخمر عليه حقيقة كما ادعاه المصنف في المعتبر كان حكمه حكم الخمر ، وقد تقدم
الكلام فيه. انتهى. وقوله : «وقد تقدم الكلام فيه» إشارة إلى مناقشته التي أشرنا
إليها آنفا في عموم إطلاق الخمر ، فظاهره هنا التوقف أو عدم القول بالنجاسة لعدم
صدق الإطلاق عنده وحكمه بضعف الخبر الدال على النجاسة ، والعجب منه (قدسسره) حيث لم يقف
على ضابطة ولم يرجع الى رابطة فإن الخبر الذي طعن عليه بالضعف وان كان كذلك لكن
اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور جابر لضعفه إذ لا مخالف في المسألة ، ولهذا ان
المحقق الشيخ حسن فيما قدمنا نقله عنه انما اعتمد على الإجماع وأيده بالرواية ،
وهو (قدسسره) في غير موضع
من كتابه قد جرى على هذه الطريقة وقد ذكر في مسألة الدم الأقل من حمصة بعد ان نقل
الروايات الدالة على نجاسته وطعن فيها بضعف السند مع كونها مطابقة لمقتضى الأصل
كما ذكره : «إلا انه لا خروج عما عليه معظم الأصحاب» انتهى. وعلى هذا فقس.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان المفهوم من كلام الأصحاب ان الحكم
بالتحريم والنجاسة تابع للاسم فحيث ما صدق الاسم تعلقت به الأحكام ، قال في
المسالك بعد ذكر المصنف الفقاع : «الأصل فيه ان يتخذ من ماء الشعير كما ذكره
المرتضى (رضياللهعنه) في الانتصار
لكن لما كان النهي عنه معلقا على التسمية ثبت له ذلك سواء عمل منه أم من غيره ،
فما يوجد في أسواق أهل الخلاف مما يسمى فقاعا يحكم بتحريمه تبعا للاسم إلا ان يعلم
انتفاؤه قطعا» ونحوه كلام سبطه في المدارك حيث قال بعد نقل كلام المرتضى في
الانتصار : وينبغي ان يكون المرجع فيه
الى العرف لانه المحكم فيما لم يثبت فيه وضع شرعي ولا لغوي.
أقول : المفهوم من الاخبار ان الفقاع على قسمين : منه ما
هو حلال طاهر وهو ما لم يحصل فيه الغليان والنشيش أيام نبذه ، ومنه ما هو حرام نجس
وهو ما يحصل فيه الغليان ، والى ذلك أشار ابن الجنيد فيما نقله عنه في المعتبر
فيما قدمناه من عبارته ، وجملة من الأصحاب قد عدوا كلام ابن الجنيد خلافا في
المسألة حيث ان ظاهرهم القول بالتحريم مطلقا ، والحق في المسألة هو مذهب ابن
الجنيد وعليه تدل صحيحة ابن ابي عمير عن مرازم (1) قال : «كان يعمل لأبي الحسن (عليهالسلام) الفقاع في
منزله ، قال ابن ابي عمير ولم يعمل فقاع يغلى». ورواية عثمان بن عيسى (2) قال : «كتب
عبد الله بن محمد الرازي الى ابي جعفر (عليهالسلام) ان رأيت ان
تفسر لي الفقاع فإنه قد اشتبه علينا أمكروه هو بعد غليانه أم قبله؟ فكتب (عليهالسلام) لا تقرب
الفقاع إلا ما لم تضر آنيته أو كان جديدا. فأعاد الكتاب اليه اني كتبت اسأل عن
الفقاع ما لم يغل فأتاني ان اشربه ما كان في إناء جديد أو غير ضار ولم اعرف حد
الضراوة والجديد وسأل أن يفسر ذلك له وهل يجوز شرب ما يعمل في الغضارة والزجاج
والخشب ونحوه من الأواني؟ فكتب يجعل الفقاع في الزجاج وفي الفخار الجديد الى قدر
ثلاث عملات ثم لا يعد منه بعد ثلاث عملات إلا في إناء جديد والخشب مثل ذلك». والمستفاد
منها ان الفقاع الذي يتعلق به التحريم وخرجت الاخبار بالمنع عنه وانه خمر هو الذي
يغلى وغليانه عبارة عن هيجانه واغتلامه وان من الفقاع ما لا يكون كذلك وهو حلال ،
وحينئذ فإطلاق أصحابنا القول بالتحريم وجعلهم التحريم دائرا مدار صدق اسم الفقاع
ليس في محله.
ثم ان ظاهرهم ـ كما تقدم في عبارة المحقق ـ انه لا يشترط
فيه بلوغ حد الإسكار وظاهر الاخبار ايضا ان المدار في الفرق بين الحلال والحرام من
قسميه انما هو الغليان
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 39 من الأشربة المحرمة.
وعدمه ، اللهم إلا ان يدعى انه
بالغليان يكون مسكرا كما في سائر الأشربة المسكرة ، ولم أقف هنا على دليل قاطع
يظهر منه حكم المسألة إلا الخبران المذكوران وهما غير خاليين من الإجمال كما عرفت
ولكن ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو ما ذكرناه كما لا يخفى على من لاحظ
كلامهم ، وأصرح من عبارة المحقق فيما قلنا ما ذكره في مجمع البحرين للشيخ التقي
الزاهد الشيخ فخر الدين بن طريح «والفقاع كرمان شيء يشرب يتخذ من ماء الشعير فقط
وليس بمسكر ولكن ورد النهي عنه ، قيل سمي فقاعا لما يرتفع في رأسه من الزبد».
هذا ، واما ما ذكره في المدارك ـ من انه ينبغي ان يكون
المرجع فيه الى العرف لانه المحكم فيما لم يثبت فيه وضع شرعي ولا عرفي ـ ففيه انه
وان اشتهر ذلك بينهم وجعلوه من جملة القواعد التي يبنون عليها الأحكام إلا ان فيه (أولا)
ـ ان المفهوم من الأخبار على وجه لا يعتريه الإنكار عند من رجع إليها وتأمل فيها
بعين الاعتبار ان الواجب في صورة عدم العلم بالمعنى المراد من الخطاب الشرعي هو
الفحص والبحث من اخبارهم (عليهمالسلام) عن تحصيل
المعنى المراد منه ومع عدم الوقوف عليه هو الرجوع والوقوف على جادة الاحتياط. و (ثانيا)
ـ ان الحوالة على العرف مع ما علم يقينا من ان العرف الذي عليه الناس مختلف
باختلاف البلدان والأقطار فكل قطر لهم عرف واصطلاح ليس لغيرهم من سائر الأقطار ،
ومن المعلوم ان الأحكام الشرعية مضبوطة معينة فكيف تناط بما هو مختلف متعدد؟ مضافا
ذلك الى ان تتبع جميع الأقطار في الاطلاع على ذلك العرف أمر عسر بل متعذر كما لا
يخفى ، واما فيما نحن فيه من هذه المسألة فقد عرفت الحكم فيها مما نقلناه من
الخبرين المذكورين حسبما ذكرنا. والله العالم
(الثالث) ـ الحق جمع من الأصحاب بالمسكرات في النجاسة
العصير العنبي إذا على واشتد ولم يذهب ثلثاه وبعض علق الحكم على مجرد الغليان
وبعضهم على الاشتداد ، قال المحقق في المعتبر : «وفي نجاسة العصير بغليانه قبل
اشتداده تردد اما التحريم
فعليه إجماع فقهائنا ، ثم منهم من
اتبع التحريم بالنجاسة والوجه ، الحكم بالتحريم مع الغليان حتى يذهب الثلثان ووقوف
النجاسة على الاشتداد» والمراد بالغليان انقلابه وصيرورة أسفله أعلاه وبالاشتداد
الغلظ والثخانة. ولا ريب ان التحريم يترتب على مجرد الغليان بلا خلاف نصا وفتوى
وانما الخلاف في النجاسة هل تترتب على ذلك أيضا أو تتوقف على الاشتداد؟ والظاهر من
كلام الشهيد في الذكرى وكذا المحقق الشيخ علي ان الاشتداد مسبب عن مجرد الغليان
فالتحريم والنجاسة متلازمان ، والذي عليه الأكثر هو ما صرح به المحقق هنا من تأخر
الاشتداد وان بينهما زمانا متحققا كما هو المشاهد بالوجدان خصوصا في الذي يغلي من
نفسه أو في الشمس.
ثم ان الظاهر من كلامهم ان القول بالنجاسة هو المشهور ،
فممن صرح بالنجاسة المحقق في المعتبر وقال في الشرائع بعد ان ذكر المسكرات وحكم
بنجاستها : وفي حكمها العصير العنبي إذا غلا واشتد والمراد بالغليان انقلابه
وصيرورة أعلاه أسفله وباشتداده حصول الغلظ والثخانة فيه ، وبذلك صرح العلامة في
المنتهى والإرشاد فعلق الحكم على الغليان والاشتداد ايضا ، وفي التذكرة : والعصير
إذا غلى حرم حتى يذهب ثلثاه ، وهل ينجس بالغليان أو يقف على الشدة؟ إشكال. وهو
صريح في جزمه بالنجاسة وانما توقف في حصولها بمجرد الغليان أو تتوقف على الاشتداد
، وفي المختلف «الخمر وكل مسكر والفقاع والعصير إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه بالنار أو
من نفسه نجس ، ذهب إليه أكثر علمائنا كالمفيد والشيخ ابي جعفر والمرتضى وابي
الصلاح وسلار وابن إدريس» ثم نقل خلاف ابن ابي عقيل والصدوق حسبما تقدم في الخمر ،
وظاهر كلامه نسبة القول بالنجاسة في جميع هذه الأشياء المعدودة في كلامه التي من
جملتها العصير إلى الأكثر ومنهم هؤلاء المذكورون ، وبالجملة فالظاهر ان القول
المذكور مشهور ولا سيما بين المتأخرين ، وبذلك صرح الشهيد الثاني في الروض ايضا ،
والذي يظهر من الذكرى ان القائل به قليل حيث قال : وفي حكمها العصير إذا غلى واشتد
في قول ابن حمزة وفي
المعتبر يحرم ، ثم نقل ملخص عبارة
المعتبر ثم قال وتوقف الفاضل في نهايته ، الى ان قال ولم نقف لغيرهم على قول
بالنجاسة. مع انه ممن قال بذلك أيضا في الرسالة الألفية. وبالجملة فإن من ذكر
العصير في هذا المقام فإنما صرح فيه بالنجاسة ولكن جملة من المتأخرين اعترضوهم
بعدم الدليل على ذلك ، ولهذا قال الشهيد الثاني (قدسسره) في شرح
الألفية ان تحقق القولين في المسألة مشكوك فيه بمعنى انه لا قائل إلا بالنجاسة ،
وفيه رد لما ذكره الشهيد في الذكرى من انه لم يقف لغير من ذكره على القول بالنجاسة
، نعم قال في المدارك انه نقل عن ابن ابي عقيل التصريح بطهارته ومال إليه جدي (قدسسره) في حواشي
القواعد وقواه شيخنا المعاصر سلمه الله تعالى وهو المعتمد تمسكا بمقتضى الأصل
السالم عن المعارض. انتهى. والظاهر ان النقل عن ابن ابي عقيل انما هو بسبب خلافه
في الخمر وقوله بطهارته المستلزم لطهارة ما حمل عليه ، نعم قول المتأخرين بالطهارة
لا ضير فيه ولا منافاة لما ذكرناه.
وكيف كان فانا لم نقف لهم فيما ذهبوا اليه من القول
بالنجاسة على دليل ولم ينقل أحد منهم دليلا في المقام ، قال في الذكرى على اثر
الكلام المتقدم : ولا نص على نجاسة غير المسكر وهو منتف هنا. وقال في البيان ايضا
انا لم نقف على نص يقتضي تنجيسه إلا ما دل على نجاسة المسكر لكنه لا يسكر بمجرد
غليانه واشتداده. ونقل في المعالم عن والده في المسالك ان نجاسته من المشاهير بغير
أصل.
أقول : قد صرح الأمين الأسترآبادي في تعليقاته على
المدارك باختياره القول بالنجاسة واستدل بصحيحة محمد بن عمار (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل من
أهل المعرفة يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وانا أعرف أنه يشربه على النصف؟
فقال خمر لا تشربه». قال وإطلاق الخمر عليه يقتضي لحوق حكمه به.
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 7 من الأشربة المحرمة ،
والراوي معاوية بن عمار كما في المتن.
أقول : هذه الرواية بهذا المتن رواها في الكافي وفي
التهذيب عن معاوية بن عمار واما ما ذكره عن محمد بن عمار فالظاهر انه من سهو قلمه
، وأيضا في سند الرواية يونس ابن يعقوب وحديثه عندهم معدود في الموثق لتصريح جملة
منهم بكونه فطحيا وان وثقه آخرون ، وهذا المتن الذي نقله هو الذي في التهذيب واما
المتن المنقول في الكافي فهو عار عن لفظ الخمر وهذه صورته : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل من
أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول قد طبخ على الثلث وانا اعلم انه يشربه على
النصف أفاشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟ فقال لا تشربه». وعلى هذه الرواية فلا
دلالة في الخبر ، والعجب من صاحبي الوافي والوسائل قد نقلا الرواية بالمتن الذي في
الكافي في الكتابين المذكورين ولم يتنبها لما في البين من الاشكال المذكور ، وكيف
كان فالاعتماد على ما ذكره الشيخ مع خلو الكافي عنه لا يخلو من اشكال لما عرفت من
أحوال الشيخ وما وقع له من التحريف والزيادة والنقصان في الأخبار ، ومع إغماض
النظر عن ذلك فإثبات النجاسة بذلك لا يخلو من توقف إذ لعل الغرض من التشبيه انما
هو بالنسبة إلى التحريم المتفق عليه ، وبالجملة فأصالة الطهارة أقوى متمسك حتى
يقوم الدليل على ما يوجب الخروج عنه ، ونحن انما خرجنا عنه في الفقاع لاستفاضة
الروايات بكونه خمرا كما عرفت ، وترتب هذا المعنى على مجرد هذه الرواية مع ما عرفت
من العلة محل توقف. والله العالم.
(تذنيب) ـ يشتمل على الكلام في حل عصير التمر والزبيب ،
وهذه المسألة وان كانت خارجة عن محل البحث وان الأنسب بها كتاب الأطعمة والأشربة
إلا انها لما كانت من الضروريات التي تلجئ الحاجة الى معرفة حكمها لابتلاء الناس
بها ووقوع الخلاف في هذه الأزمنة المتأخرة فيها ولهذا كثر السؤال عنها وربما صنف
فيها الرسائل وأكثر القائلون فيها بالتحريم من الدلائل التي لا تصل عند التأمل إلى
طائل سوى إيقاع الناس في المشاكل والمعاضل ، فرأيت إن اكشف عن وجه تحقيقها نقاب
الإبهام واحيط
فيها بأطراف النقض والإبرام على وجه
لم يسبق اليه سابق من الاعلام مذيلا باخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) وتحقيقات
تلذها الافهام وان طال بذلك زمام الكلام فإنه لما ذكرنا من أهم المهام ، فأقول ـ وبالله
التوفيق ـ ان الكلام هنا في الطهارة والنجاسة والحل والحرمة في كل من الفردين
المذكورين :
اما عصير الزبيب فالظاهر انه لا خلاف في طهارته وعدم
نجاسته بالغليان فاني لم أقف على قائل بالنجاسة هنا ، وبذلك صرح في الذخيرة أيضا
فقال بعد الكلام في نجاسة العصير العنبي : وهل يلحق به عصير الزبيب إذا غلى في
النجاسة؟ لا اعلم بذلك قائلا واما في التحريم فالأكثر على عدمه. انتهى. ويلوح من
كلام شيخنا الشهيد الثاني وقوع الخلاف هنا حيث قال بعد الكلام في نجاسة عصير العنب
: ولا يلحق به عصير التمر وغيره حتى الزبيب على الأصح ما لم يحصل فيه خاصية الفقاع
، للأصل وخروجه عن مسمى العنب وذهاب ثلثيه بالشمس. وقال في شرح الرسالة : ولا يلحق
به عصير التمر وغيره إجماعا ولا الزبيب على أصح القولين للأصل وضعف متمسك القائل
بالإلحاق. انتهى. وهو جيد. ومن ذلك علم ان الخلاف انما هو في الزبيب واما التمر
وغيره فقد عرفت نقل شيخنا المشار إليه الإجماع على عدم النجاسة فيه.
بقي البحث في التحريم في كل منهما وعدمه ، والبحث في ذلك
يتوقف على تقديم مقدمة تشتمل على فوائد يظهر الحق منها لكل طالب وقاصد ويتضح بها
ما في المسألة من المقاصد :
(الفائدة الأولى) ـ لا يخفى ان المستفاد من اخبار أهل
العصمة (عليهمالسلام) ان العصير في
عرفهم اسم لما يؤخذ من العنب خاصة وان ما يؤخذ من التمر إنما يسمى بالنبيذ وما
يؤخذ من الزبيب يسمى بالنقيع وربما أطلق النبيذ ايضا على ماء الزبيب ، وهذا هو
الذي يساعده العرف أيضا فإنه لا يخفى ان العصير انما يطلق على الأجسام التي فيها
مائية لاستخراج الماء منها كالعنب مثلا والرمان والبطيخ بنوعيه ونحو ذلك ، واما
الأجسام الصلبة التي فيها حلاوة أو حموضة ويراد استخراج حلاوتها أو حموضتها بالماء
مثل التمر والزبيب
والسماق والزرشك ونحوها فإنه إنما
يستخرج ما فيها من الحلاوة أو الحموضة اما بنبذها في الماء ونقعها فيه زمانا يخرج
حلاوتها أو حموضتها الى الماء أو انها تمرس في الماء من أول الأمر من غير نقع أو
انها تغلي بالنار لأجل ذلك ، والمعمول عليه في الصدر الأول انما هو النبذ في الماء
والنقع فيه كما ستطلع عليه ان شاء الله تعالى ، وهذا ظاهر يشهد به الوجدان في جميع
البلدان ، وبهذا ايضا صرح كلام أهل اللغة ، قال الفيومي في المصباح المنير في مادة
عصر : عصرت العنب ونحوه عصرا من باب ضرب : استخرجت ماءه وقال في مادة نقع انقعت
الدواء وغيره انقاعا : تركته في الماء حتى انتقع وهو نقيع فعيل بمعنى مفعول ، الى
ان قال ويطلق النقيع على الشراب المتخذ من ذلك فيقال نقيع التمر والزبيب وغيره إذا
ترك في الماء حتى ينتقع من غير طبخ. انتهى. فانظر الى وضوح هذا الكلام في المقصود
والمراد من الفرق بين القسمين والتغاير في الاسمين بجعل ما يتخذ من الأجسام
المائية عصيرا وما يتخذ من التمر والزبيب ونحوهما نقيعا ، وقال في باب مرس : مرست
التمر مرسا من باب قتل : دلكته في الماء حتى تتحلل اجزاؤه. انتهى. وقال ابن الأثير
في النهاية : وفي حديث الكرم يتخذونه زبيبا ينقعونه اى يخلطونه بالماء ليصير شرابا
، الى ان قال والنقيع شراب يتخذ من زبيب أو غيره ينقع في الماء من غير طبخ. وقال
في القاموس في مادة عصر : عصر العنب ونحوه يعصره فهو معصور وعصير : استخرج ما فيه
، الى ان قال وعصيرة ما يحلب منه. وقال في مادة نقع : والنقيع البئر الكثيرة الماء
الجمع انقعة ، وشراب من زبيب أو كل ما ينقع تمرا أو زبيبا أو غيرهما. انتهى. وهي
صريحة ايضا في المراد ، وقال في مجمع البحرين في مادة عصر : والعصير من العنب يقال
عصرت العنب عصرا من باب ضرب : استخرجت ماءه ، واسم الماء العصير فعيل بمعنى مفعول.
وقال في مادة نقع : والنقيع شراب يتخذ من زبيب ينقع في الماء من غير طبخ وقد جاء
في الحديث كذلك. وقال في مادة نبذ : والنبيذ ما يعمل من الأشربة من التمر والزبيب
والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك. انتهى. وهو ظاهر
في المطلوب على الوجه المحبوب ، وعلى
هذا فقد اتفق على صحة ما ذكرناه الشرع والعرف واللغة. وبذلك يظهر انه حيثما يذكر
العصير في الأخبار فإنما يراد به ماء العنب إلا مع قرينة تدل على العموم وان ماء
التمر والزبيب لا مدخل لهما في إطلاق هذا اللفظ (فان قيل) : ان التمر والزبيب بعد
نقعهما في الماء وخروج حلاوتهما يعصران فيصدق عليهما العصير بذلك (قلنا) نعم انهما
يعصران كما ذكرت ويطلق عليهما العصير لغة بمعنى المعصور إلا ان مبنى ما ذكرنا من
الفرق والتسمية انما هو بالنسبة إلى استخراج ما في تلك الأشياء من المياه أو غيرها
من أول الأمر فإن المعصورات يستخرج ماؤها من أول الأمر بالعصر ولا يحتاج إلى أمر
آخر غيره ، واما هذه ونحوها فإنها تحتاج أولا إلى إضافة الماء إليها ثم نقعها أو
غليها أو مرسها حتى يخرج ما فيها ثم تعصر بعد ذلك وتصفي
ومن الاخبار الصريحة فيما فصلناه الدالة على ما ادعيناه صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الخمر من
خمسة : العصير من الكرم والنقيع من الزبيب والبتع من العسل والمرز من الشعير
والنبيذ من التمر». ونحوها ما في الكافي عن علي بن إسحاق الهاشمي وقد تقدمت قريبا
، وحينئذ فما ورد في الاخبار بلفظ العصير مطلقا مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد
الله بن سنان (2) : «كل عصير اصابته
النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه». وقوله (عليهالسلام) في حسنة حماد
بن عثمان (3) : «لا يحرم
العصير حتى يغلى». وقوله (عليهالسلام) في رواية
حماد ايضا (4) لما سأله عن
شراب العصير فقال : «اشربه ما لم يغل فإذا غلى فلا تشربه». وفي رواية ذريح (5) «إذا نش العصير
أو غلا حرم». وفي رواية محمد بن الهيثم عن رجل عن الصادق (عليهالسلام) (6) قال : «سألته
عن العصير
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من الأشربة المحرمة.
(2 و 6) المروية في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 3 من الأشربة
المحرمة.
يطبخ في النار حتى يغلى من ساعته
فيشربه صاحبه؟ قال إذا تغير عن حاله فغلى فلا خير فيه حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه».
وأمثال ذلك فإنه يجب حمله على العصير العنبي حمل المطلق على المقيد كما هو القاعدة
المشهورة والمتكررة الغير المنكورة.
ومما يزيدك بيانا وإيضاحا لهذا الحمل المذكور ورود جملة
من الاخبار الدالة على العلة في تحريم العصير بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وحله بعد
ذلك فان موردها هو العنب خاصة دون غيره من الأشربة :
فمن ذلك ما رواه في الكافي عن ابي الربيع الشامي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن أصل الخمر
كيف كان بدء حلالها وحرامها ومتى اتخذ الخمر؟ فقال ان آدم (عليهالسلام) لما اهبط من
الجنة اشتهى من ثمارها فانزل الله سبحانه قضيبين من عنب فغرسهما آدم فلما أن أورقا
وأثمرا وبلغا جاء إبليس لعنه الله فحاط عليهما حائطا فقال آدم ما حالك يا ملعون؟
فقال له إبليس إنهما لي فقال كذبت فرضيا بروح القدس فلما انتهيا اليه قص عليه آدم
قصته فأخذ روح القدس ضغثا من نار ورمى به عليهما والعنب في أغصانهما حتى ظن آدم
انه لم يبق منهما شيء وظن إبليس مثل ذلك ، قال فدخلت النار حيث دخلت وقد ذهب منهما
ثلثاهما وبقي الثلث ، فقال الروح اما ما ذهب فحظ إبليس واما ما بقي فلك يا آدم». وعن
الحسن بن محبوب عن خالد بن نافع عن الصادق (عليهالسلام) مثله (2) ورواه الصدوق
في العلل نحوه (3).
وما رواه في الكافي أيضا في الحسن عن زرارة عن الباقر (عليهالسلام) (4) قال : «لما
هبط نوح (عليهالسلام) من السفينة
غرس غرسا فكان فيما غرس الحبلة ثم رجع الى أهله فجاء إبليس لعنه الله فقلعها ، ثم
ان نوحا عاد الى غرسه فوجده على حاله ووجد الحبلة قد قلعت ووجد إبليس عندها فأتاه
جبرئيل فأخبره ان إبليس لعنه الله قلعها ، فقال نوح لإبليس ما دعاك الى قلعها؟
فوالله ما غرست غرسا أحب الي منها
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة
المحرمة.
ووالله لا أدعها حتى أغرسها. فقال
إبليس وانا والله لا أدعها حتى أقلعها ، فقال له اجعل لي منها نصيبا ، فجعل له
الثلث فأبى أن يرضى فجعل له النصف فأبى أن يرضى فأبى نوح ان يزيده فقال جبرئيل
لنوح يا رسول الله أحسن فإن منك الإحسان فعلم نوح انه قد جعل له عليها سلطان فجعل
نوح له الثلثين ، فقال أبو جعفر (عليهالسلام) إذا أخذت
عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان وكل واشرب حينئذ فذاك نصيب الشيطان». أقول : الحبلة
بالضم الكرم أو أصل من أصوله على ما صرح به أهل اللغة.
وروى في الكتاب المذكور أيضا في الموثق عن سعيد بن يسار
عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «ان
إبليس لعنه الله نازع نوحا في الكرم فأتاه جبرئيل فقال ان له حقا فأعطه فأعطاه
الثلث فلم يرض إبليس لعنه الله فأعطاه النصف فلم يرض فطرح جبرئيل نارا فأحرقت
الثلثين وبقي الثلث فقال ما أحرقت النار فهو نصيبه وما بقي فهو لك يا نوح حلال».
وروى الصدوق في العلل بسنده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «كان
ابي يقول ان نوحا حين أمر بالغرس كان إبليس إلى جانبه فلما أراد ان يغرس العنب قال
هذه الشجرة لي فقال له نوح كذبت فقال إبليس فما لي منها؟ فقال نوح لك الثلثان. فمن
هنا طاب الطلاء على الثلث».
وروى فيه ايضا بسنده عن وهب بن منبه (3) قال : «لما
خرج نوح من السفينة غرس قضبانا كانت معه من النخل والأعناب وسائر الثمار فأطعمت من
ساعتها وكانت معه حبلة العنب وكان آخر شيء أخرج حبلة العنب فلم يجدها نوح وكان
إبليس قد أخذها فخبأها فنهض نوح ليدخل السفينة فيلتمسها ، الى ان قال فقال له
الملك ان لك فيها شريكا في عصيرها فأحسن مشاركته فقال نعم له السبع ولي ستة أسباع
فقال له الملك أحسن فأنت محسن فقال نوح له سدس ولي خمسة أسداس فقال له الملك أحسن
فأنت
__________________
(1 و 2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
محسن فقال له خمس ولي أربعة أخماس
فقال له الملك أحسن فإنك محسن فقال نوح له الربع ولي ثلاثة أرباع فقال له الملك
أحسن فإنك محسن فقال له النصف ولي النصف فقال أحسن فأنت محسن فقال لي الثلث وله
الثلثان فرضي فما كان فوق الثلث من طبخها فلإبليس وهو حظه وما كان من الثلث فما
دونه فهو لنوح وهو حظه فذلك هو الحلال الطيب فيشرب منه».
أقول : وقد دلت هذه الأخبار بأوضح دلالة لا يعتريها
الإنكار ان الشراب الذي يحرم بغليانه ولا يحل إلا بذهاب ثلثيه انما هو ماء العنب
لان النزاع من آدم ونوح ومن إبليس لعنه الله انما وقع في شجرة العنب خاصة دون سائر
الأشجار. وحينئذ فما ورد في الأخبار من ان العصير يحرم بالغليان ولا يحل إلا بذهاب
الثلثين إنما أريد به عصير العنب خاصة لأكل عصير كما توهمه غير واحد من قاصري
النظر وان ارتكب تخصيصه بأفراد أخر ، وبالجملة فاختصاص العلة الموجبة للحرمة بما
أخذ من الكرم يوجب بقاء ما أخذ من غيره على أصل الحلية والإباحة ، نعم يحرم المسكر
منها بالنصوص المستفيضة الدالة على ان ما أسكر كثيره فكثيرة وقليله حرام ويبقى ما
عداه غلى بالنار أو لم يغل على أصل الحلية ، ويؤيد ذلك ما ورد في جملة من اخبار
العصير الذي يحرم بالغلي ويحل بذهاب ثلثيه من التعبير عنه تارة بالعصير كما عرفت
فيما تقدم من الروايات وتارة يعبر عنه بالطلاء وهو ما طبخ من عصير العنب وتارة
يعبر عنه بالبختج بالباء الموحدة ثم الخاء المعجمة ثم التاء المثناة من فوق وفي
آخره جيم وهو العصير من العنب المطبوخ وهو معرب پخته.
وبالجملة فإنه لا يخفى على من تأمل في الأخبار الواردة
بلفظ العصير في أبواب البيوع وأبواب الأشربة سؤالا وجوابا ان العصير كان شيئا
معينا مخصوصا معلوما يسأل عنه تارة بجواز شربه وعدمه فيجاب بجواز شربه ما لم يغل
وبعد الغلى فإنه يحرم حتى يذهب ثلثاه ، ويسأل عمن يشربه قبل ذهاب ثلثيه فيجاب بأنه
فعل محرما ، ويسأل عن جواز بيعه فيجاب بجواز بيعه
بالنقد خاصة ، ونحو ذلك من الأحكام
المجراة عليه في الأخبار ، ولو كان المراد بالعصير انما هو المعنى اللغوي وهو كل
ما يعصر وهو أمر كلي شامل لافراد عديدة لا تكاد تحصى كثرة لما اطردت هذه الأحكام
ولا كانت كلية في كل مقام. فان افراد العصير بهذا المعنى الذي بنوا عليه غير متفقة
كما لا يخفى على ذوي الأفهام فإنه ليس كل شيء يعصر فإنه يحرم بمجرد غلية ولا يحرم
بيعه بالنسيئة ولا يتغير بتأخيره حتى يصير محرما.
وها نحن نسرد لك جملة من الأخبار الواردة في أبواب البيع
زيادة على ما قدمناه من الأخبار الواردة في باب الشراب ، ففي صحيحة البزنطي (1) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن بيع
العصير فيصير خمرا قبل ان يقبض الثمن؟ قال فقال لو باع ثمرته ممن يعلم انه يجعله
حراما لم يكن بذلك بأس واما إذا كان عصيرا فلا يباع إلا بالنقد». وفي رواية أبي
بصير عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن ثمن العصير قبل ان يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمرا؟ قال إذا بعته قبل ان
يكون خمرا وهو حلال فلا بأس». وفي رواية يزيد بن خليفة (3) قال : «كره
أبو عبد الله (عليهالسلام) بيع العصير
بتأخير». قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر : لا يؤمن ان يصير خمرا قبل قبض الثمن فيأخذ
ثمن الخمر. وصحيحة رفاعة بن موسى (4) قال : «سئل أبو عبد الله (عليهالسلام) وانا حاضر عن
بيع العصير ممن يخمره؟ قال حلال ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله شرابا خبيثا؟». الى
غير ذلك من الاخبار الواردة من هذا القبيل ، ولا يخفى على المتأمل فيها انه انما
أريد بالعصير فيها فرد خاص من المعصورات لأكل ما يعصر كما توهمه من لا تأمل له في
الاخبار ولم يعط النظر حقه من التدبر والاعتبار ، وان المراد انما هو عصير العنب
بالخصوص لان الخمر كما عرفته فيما تقدم حقيقة في ماء العنب المسكر وان كان قد أطلق
شرعا على ما هو أعم منه ومن سائر المسكرات ، ومن ذا الذي يدعى ان كل معتصر يصير
خمرا بتأخيره زمانا وان كل معتصر فإنه يحرم بمجرد غليانه حتى يتم له دعوى
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 88 من أبواب ما
يكتسب به.
الكلية في لفظ العصير من هذه الأخبار؟
وبالجملة فجميع الأخبار الواردة بلفظ العصير مطلقا غاية
ما يتوهم منها الإطلاق بمعنى الفرد المنتشر فيصير كالنكرة المراد بها فرد شائع في
جنسه ، وهذا الإطلاق قد عرفت انه مقيد بالصحيحة المتقدمة والأخبار التي معها
ونحوها مما دل على اختصاص العصير بماء العنب خاصة ، واما الحمل على الكلية بمعنى
ان المراد منها كل ما يعتصر فهو لا يمكن توهمه ممن له أدنى روية وتمييز في الأحكام
فضلا عن ان يكون من ذوي الأذهان والافهام ، نعم ذلك التوهم انما يتجه في صحيحة عبد
الله بن سنان المسورة بكل (1) وسيأتي تحقيق
الحال في إيضاحها وبيانها ان شاء الله تعالى ، على ان جملة من الأخبار الواردة
بالعصير في باب البيع وأبواب الشراب منها ما أضيف فيها الى العنب ومنها ما أطلق
ونحن هنا قد اقتصرنا على نقل ما أطلق الذي هو محل الشبهة ، ولا ريب انه مع ملاحظة
مطلقها والضم الى مقيدها يجب حمل المطلق على المقيد كما هو القاعدة المطردة.
(الفائدة الثانية) ـ قد عرفت في الفائدة الاولى ان
النبيذ اسم مخصوص بما يؤخذ من التمر وربما أطلق ايضا على ما يؤخذ من الزبيب ، وهذه
جملة من الأخبار نسردها عليك في هذه الفائدة صريحة الدلالة في ذلك ويستفاد منها
ايضا ان النبيذ على قسمين : حلال وهو ما لم يسكر طبخ أو لم يطبخ ، وحرام وهو ما
أسكر طبخ أو لم يطبخ فمدار الحل والحرمة فيه انما هو على الإسكار وعدمه :
فمن تلك الأخبار رواية الكلبي النسابة (2) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النبيذ؟
فقال حلال. فقلت انا ننبذه فنطرح فيه العكر وما سوى ذلك؟ فقال شه شه تلك الخمرة
المنتنة. الحديث».
ورواية حنان بن سدير (3) قال : «سمعت رجلا وهو يقول لأبي عبد
الله (عليه
__________________
(1) ص 127.
(2) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب الماء المضاف.
(3) المروية في الوسائل في الباب 22 من الأشربة المحرمة.
السلام) ما تقول في النبيذ فإن أبا
مريم يشربه ويزعم أنك أمرته بشربه؟ فقال صدق أبو مريم سألني عن النبيذ فأخبرته أنه
حلال ولم يسألني عن المسكر ، قال ثم قال (عليهالسلام) : ان المسكر
ما اتقيت فيه أحدا سلطانا ولا غيره ، قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام
وما أسكر كثيره فقليله حرام. فقال له الرجل جعلت فداك هذا النبيذ الذي أذنت لأبي
مريم في شربه أي شيء هو؟ فقال اما أبي فإنه كان يأمر الخادم فيجيء بقدح ويجعل
فيه زبيبا ويغسله غسلا نقيا ثم يجعله في إناء ثم يصب عليه ثلاثة مثله أو أربعة ماء
ثم يجعله بالليل ويشربه بالنهار ويجعله بالغداة ويشربه بالعشي وكان يأمر الخادم
بغسل الإناء في كل ثلاثة أيام لئلا يغتلم فان كنتم تريدون النبيذ فهذا النبيذ». دلت
هذه الرواية بإطلاقها على اباحة النبيذ بجميع أنواعه عدا المسكر منه فإنه (عليهالسلام) أقر أبا مريم
على تحليل النبيذ بقول مطلق ولم يستثن منه إلا المسكر ، ومثلها رواية الكلبي
المتقدمة فإنه أجابه أولا بأنه حلال ومراده هذا الفرد الذي ذكره (عليهالسلام) وقد صرح به
أيضا في آخر الخبر المذكور فلما أخبره بأنه يجعل فيه العكر ونحوه مما يصير به
مسكرا أجاب بأنه يصير خمرا محرما.
ورواية أيوب بن راشد (1) قال : «سمعت أبا البلاد يسأل أبا عبد
الله (عليهالسلام) عن النبيذ
فقال لا بأس به. فقال انه يوضع فيه العكر؟ فقال بئس الشراب ولكن انبذوه غدوة
واشربوه بالعشي. الحديث».
وحسنة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «استأذنت
على ابي عبد الله (عليهالسلام) لبعض أصحابنا
فسأله عن النبيذ فقال حلال فقال أصلحك الله إنما سألتك عن النبيذ الذي يجعل فيه
العكر فيغلي حتى يسكر؟ فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) قال رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) : كل مسكر
حرام».
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 30 من الأشربة المباحة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 24 من الأشربة المحرمة.
ورواية إبراهيم بن ابي البلاد (1) قال : «دخلت
على ابي جعفر بن الرضا (عليهالسلام). فدعى بطبق
فيه زبيب فأكلت ثم أخذ في الحديث فشكا الي معدته وعطشت فاستقيت ماء فقال يا جارية
اسقيه من نبيذي فجاءتني بنبيذ مريس في قدح من صفر فشربته فوجدته احلى من العسل ،
فقلت له هذا الذي أفسد معدتك. قال فقال لي هذا تمر من صدقة النبي (صلىاللهعليهوآله) يؤخذ غدوة
فيصب عليه الماء فتمرسه الجارية واشربه على اثر الطعام لسائر نهاري فإذا كان الليل
أخذته الجارية فسقته أهل الدار. فقلت له ان أهل الكوفة لا يرضون بهذا. قال وما
نبيذهم؟ قال قلت يؤخذ التمر فينقع ويلقى عليه القعوة. قال وما القعوة؟ قلت الداذي.
قال وما الداذي. قلت حب يؤتى به من البصرة فيلقى في هذا النبيذ حتى يغلى ثم يسكن
ثم يشرب. فقال هذا حرام». وفي رواية أخرى لهذا الراوي عنه (عليهالسلام) أيضا في وصف
نبيذ أهل الكوفة (2) قال في آخر
الخبر : «وما الداذي؟ قلت ثقل التمر يصري به في الإناء حتى يهدر النبيذ ويغلى ثم
يسكن ويشرب. فقال هذا حرام». وحكمه (عليهالسلام) بالتحريم في
هذين الخبرين من حيث الإسكار وصيرورته خمرا بما يوضع فيه كما تكرر في الأخبار مما
تقدم ويأتي ان شاء الله تعالى من اضافة المسكر الى النبيذ في حال نضحه وغليانه
وتصريحهم (عليهمالسلام) بأنه يصير
خمرا مسكرا.
وموثقة سماعة (3) قال «سألته عن التمر والزبيب يطبخان
للنبيذ؟ فقال لا وقال كل مسكر حرام. وقال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ما أسكر
كثيره فقليله حرام. وقال لا يصلح في النبيذ الخميرة وهي العكرة». أقول : إنما منع (عليهالسلام) من طبخها
للنبيذ لكون المعمول يومئذ هو الطبخ الذي تكرر في الاخبار المنع من وضع العكر فيه
حتى يصير مسكرا كما يدل عليه تتمة الخبر المذكور.
__________________
(1 و 2) رواها في الوسائل في الباب 24 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
ورواية يزيد بن خليفة (1) وهو رجل من
بني الحارث بن كعب قال : «أتيت المدينة وزياد بن عبيد الله الحارثي عليها فاستأذنت
على ابي عبد الله (عليهالسلام) فدخلت عليه
وسلمت عليه وتمكنت من مجلسي فقلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) اني رجل من
بني الحارث بن كعب قد هداني الله تعالى الى محبتكم ومودتكم أهل البيت. قال فقال لي
أبو عبد الله (عليهالسلام) : كيف اهتديت
الى مودتنا أهل البيت فوالله ان محبتنا في بني الحارث بن كعب لقليل؟ قال : فقلت له
جعلت فداك ان لي غلاما خراسانيا وهو يعمل القصارة وله همشهريجون أربعة وهم يتداعون
كل جمعة فتقع الدعوة على رجل منهم فيصيب غلامي في كل خمس جمع جمعة فيجعل لهم
النبيذ واللحم ، قال ثم إذا فرغوا من الطعام واللحم جاء بإجانة فملأها نبيذا ثم
جاء بمطهرة فإذا ناول إنسانا منهم قال لا تشرب حتى تصلي على محمد وآل محمد ،
واهتديت الى مودتكم بهذا الغلام. قال فقال لي استوص به خيرا واقرأه مني السلام وقل
له يقول لك جعفر بن محمد (عليهالسلام) انظر الى
شرابك هذا الذي تشربه فان كان يسكر كثيره فلا تقربن قليله فان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) قال كل مسكر
حرام. الحديث». فانظر الى ظهور هذا الخبر في عموم تحليل النبيذ مطلقا عدا المسكر
منه فان المقام مقام البيان والحاجة وقصده (عليهالسلام) هداية ذلك
الغلام الى الحلال دون الحرام ، فلو كان هنا فرد آخر من النبيذ غير المسكر حراما
لنبه عليه ولمنعه من شربه.
ورواية الفضيل بن يسار عن الباقر (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن النبيذ فقال حرم الله تعالى الخمر بعينها وحرم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من الأشربة
كل مسكر». والتقريب ان السائل سأل عن النبيذ وما يحل منه وما يحرم فأجاب (عليهالسلام) بأن الذي حرم
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من الأشربة
هو ما أسكر
__________________
(1) المروية في الوافي ج 11 ص 83 وقطعة منها في الوسائل في
الباب 17 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 15 من الأشربة المحرمة.
خاصة ، خرج منه العصير العنبي إذا غلى
ولم يذهب ثلثاه بالنصوص وبقي ما عداه تحت الإطلاق.
ورواية يونس بن عبد الرحمن عن مولى حر بن يزيد (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) فقلت له اني
أصنع الأشربة من العسل وغيره وانهم يكلفوني صنعها أفأصنعها لهم؟ قال فأصنعها
وادفعها إليهم وهو حلال من قبل ان يصير مسكرا». وفيه ـ كما ترى ـ دلالة على انه لا
يحرم من الأشربة إلا المسكر وما عداه فهو حلال لان المقام مقام البيان فلو كان ثمة
فرد آخر لذكره (عليهالسلام).
وصحيحة صفوان (2) قال : «كنت مبتلى بالنبيذ معجبا به
فقلت لأبي عبد الله (عليهالسلام) أصف لك
النبيذ؟ فقال بل أنا أصفه لك قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام
وما أسكر كثيره فقليله حرام. فقلت هذا نبيذ السقاية بفناء الكعبة؟ فقال لي ليس
هكذا كانت السقاية إنما السقاية زمزم أفتدري من أول من غيرها؟ قلت لا. قال العباس
بن عبد المطلب كانت له حبلة أفتدري ما الحبلة؟ قلت لا. قال : الكرم كان ينقع
الزبيب غدوة ويشربه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربه من الغد يريد ان يكسر غلظ الماء
عن الناس وان هؤلاء قد تعدوا فلا تشربه ولا تقربه». والتقريب فيها انه (عليهالسلام) اضرب عن وصف
السائل إلى الوصف بالإسكار الموجب للتحريم فلو كان للنبيذ قسم آخر محرم وهو ما غلى
وان لم يسكر لما حسن هذا الإضراب الى المسكر بخصوصه كما لا يخفى.
وصحيحة معاوية بن وهب (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) ان رجلا من
بني عمي وهو من صلحاء مواليك أمرني أن أسألك عن النبيذ فأصفه لك فقال انا أصفه لك
قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : كل مسكر
حرام وما أسكر كثيره فقليله
__________________
(1) المروية في الوافي ج 11 ص 91.
(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
حرام. الحديث». والتقريب كما تقدم في
سابقه.
ورواية كليب الأسدي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن النبيذ
فقال ان رسول الله (صلىاللهعليهوآله) خطب الناس
فقال في خطبته ايها الناس ألا ان كل مسكر حرام ألا وما أسكر كثيره فقليله حرام».
ورواية محمد بن مسلم (2) قال : «سألته عن نبيذ قد سكن غليانه؟
فقال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) كل مسكر حرام».
الى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المضمار.
وكلها ـ كما ترى ـ واضحة المقالة متطابقة الدلالة على
انه لا يحرم من النبيذ غير المسكر لان السؤالات في هذه الأخبار كلها عن النبيذ ما
الذي يحل منه وما الذي يحرم منه؟ فأجابوا (عليهمالسلام) في بعض بان
الحلال منه هو النقيع الذي لم يكثر مكثه وفي جملة ان جميع ما يطبخ ويغلى بالنار
فإنه يصير مسكرا وذلك بما اعتاد عليه الناس في تلك الأزمان من وضع العكر فيه
المعبر عنه بالخميرة والداذي ، والظاهر انه من المسكر القديم الذي يضعونه في هذا
الماء الجديد الذي يطبخونه حتى يسرع بإسكاره فيكون مثل الخمير الذي يوضع في العجين
وعلى هذا كانت عادتهم في النبيذ المطبوخ ، فلذا خرجت الاخبار عنهم (عليهمالسلام) مستفيضة
بتحريمه والتصريح بكونه مسكرا ، ولو كان مجرد الغليان يوجب التحريم وان لم يبلغ حد
الإسكار لجرى له ذكر أو إشارة في بعض هذه الاخبار
وما ادعاه بعض فضلاء المعاصرين ـ من انه بمجرد الغليان
يحصل منه السكر أو مبادئه باعتبار بعض الأمزجة أو بعض الأمكنة والأهوية وصنف في
القول بتحريم عصير التمر رسالة أكثر فيها بزعمه من الدلائل وهي تطويل بغير طائل.
ومن جملته دعواه في الجواب عن هذه الاخبار بحصول الإسكار في ماء التمر بمجرد
الغليان اشتد أو لم يشتد
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 25 من الأشربة المحرمة.
ـ فلا يخفى ما فيه على العارف النبيه
فضلا عن الحاذق الفقيه ، وهذه عامة الناس في جميع الأقطار يطبخون الأطعمة بعصير
التمر والدبس بل يطبخونها خاصة ويأكلونها ولم يدع أحد منهم حصول الإسكار ،
وبالجملة فبطلان هذا الكلام أظهر من ان يحتاج الى تطويل في المقام ولا شاهد أبلغ
من ضرورة العيان وعدول الوجدان.
ومن أظهر الاخبار في الباب وأوضحها دلالة عند ذوي
الألباب ما رواه في الكافي بسنده عن محمد بن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (1) قال : «قدم
على رسول الله (صلىاللهعليهوآله) من اليمن قوم
فسألوه عن معالم دينهم فأجابهم فخرج القوم بأجمعهم فلما ساروا مرحلة قال بعضهم
لبعض نسينا أن نسأل رسول الله (صلىاللهعليهوآله) عما هو أهم
إلينا ثم نزل القوم ثم بعثوا وفدا لهم فاتى الوفد رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقالوا يا
رسول الله ان القوم بعثوا بنا إليك يسألونك عن النبيذ؟ فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) وما النبيذ
صفوه لي؟ فقالوا يؤخذ من التمر فينبذ في إناء ثم يصب عليه الماء حتى يمتلئ ويوقد
تحته حتى ينطبخ فإذا انطبخ أخذوه فألقوه في إناء آخر ثم صبوا عليه ماء ثم يمرس ثم
صفوه بثوب ثم يلقى في إناء ثم يصب عليه من عكر ما كان قبله ثم يهدر ويغلى ثم يسكن
على عكرة. فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) يا هذا قد
أكثرت أفيسكر؟ قال نعم. قال فكل مسكر حرام. قال فخرج الوفد حتى انتهوا إلى أصحابهم
فأخبروهم بما قال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) فقال القوم
ارجعوا بنا الى رسول الله حتى نسأله عنها شفاها ولا يكون بيننا وبينه سفير فرجع
القوم جميعا فقالوا يا رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أرضنا أرض
دوية ونحن قوم نعمل الزرع ولا نقوى على العمل إلا بالنبيذ؟ فقال لهم رسول الله (صلىاللهعليهوآله) صفوه لي
فوصفوه كما وصف أصحابهم فقال رسول الله (صلىاللهعليهوآله) أفيسكر؟
فقالوا نعم. قال كل مسكر حرام. الحديث». وقد جاء هذا الخبر مفصلا بأوضح تفصيل لا
يعتريه القال والقيل وهو صريح في المطلوب
__________________
(1) رواه في الوافي ج 11 ص 87 وفي الوسائل في الباب 24 من
الأشربة المحرمة.
والمراد عري عن وصمة الشك والإيراد.
وهذا الخبر ظاهر في الرد على ذلك الفاضل المتقدم ذكره
المدعى لحصول الإسكار بالغليان ، فإنه لو كان الأمر كما توهمه لم يكن لسؤال النبي (صلىاللهعليهوآله) عن الإسكار
معنى فان الرجل قد ذكر في حكايته عن صفة النبيذ انه غلى مرتين وفي الغلية الثانية
وضع فيه العكر ولو كان السكر يحصل بمجرد الغليان لحرمة رسول الله (صلىاللهعليهوآله) بمجرد
الغليان الأول ، وبالجملة فالحديث المذكور واضح الظهور ساطع النور إلا على من
اعترى فهمه وذهنه نوع فتور وقصور ، والله الهادي لمن يشاء.
(الفائدة الثالثة) ـ المستفاد من الاخبار المتقدمة في
الفائدة الاولى ان العصير العنبي على قسمين منه ما يغلى ومنه ما لا يغلى ، والأول
منه ما يكون محرما وهو ما غلى قبل ذهاب ثلثيه وما يكون حلالا وهو قبل الغلى وما
بعد ذهاب الثلثين ، والقسم الثاني أيضا منه ما يكون محرما وهو ما طال مكثه حتى
اختمر وصار مسكرا ومنه ما هو حلال وهو ما لم يبلغ الحد المذكور. واما النبيذ كما
صرحت به الاخبار في الفائدة الثانية فليس إلا قسمان غلى أو لم يغل : ان أسكر فهو
حرام وان لم يسكر فهو حلال ، والإسكار يقع فيه تارة بطول مكثه في الإناء حتى يختمر
ويصير مسكرا كما يشير اليه حديث السقاية وقوله (عليهالسلام) بعد ذكر ما
كان العباس يفعله لكسر غلظة الماء : «وان هؤلاء قد تعدوا فلا تشربه» يعنى انه لما
وصلت النوبة إلى هؤلاء المستحلين لشرب النبيذ المسكر تعدوا في الزيادة في التمر
والزبيب الذي ينبذونه وطول مكثه في الأواني حتى صار مسكرا ، واليه يشير ايضا قوله (عليهالسلام) في حديث حنان
بن سدير : «وكان يأمر الخادم بغسل الإناء في كل ثلاثة أيام لئلا يغتلم» والاغتلام
لغة الاشتداد والمراد الكناية عن بلوغ حد الإسكار ، وتارة بالغلي ووضع العكر فيه
كما صرحت به الاخبار المتقدمة. وبالجملة فإنه قد علم من هذه الاخبار كملا ان
المحرم من العصير العنبي قسمان أحدهما ما على ولم يذهب ثلثاه والثاني ما أسكر ،
واما المحرم من النبيذ فليس إلا المسكر خاصة فلو كان
ثمة قسم آخر يكون محرما وهو ما غلى
ولم يذهب ثلثاه من غير عصير العنب لوصلت إلينا به الاخبار ودلت عليه الآثار وهي
كما دريت خالية من ذلك ، وروايات نزاع إبليس مع آدم ونوح المصرحة بعلة التحريم بعد
الغليان حتى يذهب الثلثان موردها انما هو العنب خاصة.
(فإن قيل) ان إبليس قد نازع آدم في النخل ايضا لما رواه
في الكافي بسنده عن علي بن أبي حمزة عن إبراهيم عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «ان
الله تعالى لما اهبط آدم من الجنة أمره بالحرث والزرع وطرح اليه غرسا من غروس
الجنة فأعطاه النخل والعنب والزيتون والرمان فغرسها ليكون لعقبه وذريته وأكل هو من
ثمارها ، فقال له إبليس لعنه الله يا آدم ما هذا الغرس الذي لم أكن أعرفه في الأرض
وقد كنت فيها قبلك؟ فقال ائذن لي آكل منها فأبى آدم ان يطعمه فجاء إبليس عند آخر
عمر آدم وقال لحواء انه قد أجهدني الجوع والعطش فقالت له حواء فما الذي تريد؟ فقال
أريد أن تذيقيني من هذه الثمار. فقالت حواء ان آدم عهد الي ان لا أطعمك شيئا من
هذا الغرس لانه من الجنة ولا ينبغي لك ان تأكل منها شيئا؟ فقال لها فاعصري في كفي
شيئا منه فأبت عليه فقال ذريني أمصه ولا آكله فأخذت عنقودا من عنب فأعطته فمصه ولم
يأكل منه لما كانت حواء قد أكدت عليه فلما ذهب بعضه جذبته حواء من فيه فأوحى الله
تعالى الى آدم ان العنب قد مصه عدوي وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك من عصيرة
الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت الخمر لان عدو الله إبليس مكر بحواء حتى مص العنب
ولو اكله لحرمت الكرمة من أولها إلى آخرها وجميع ثمارها وما يخرج منها ، ثم انه
قال لحواء لو امصصتني شيئا من هذا التمر كما امصصتني من العنب فأعطته تمرة فمصها
وكان العنب والتمر أشد رائحة واذكى من المسك الأذفر واحلى من العسل ، فلما مصهما
عدو الله إبليس ذهبت رائحتهما وانتقصت حلاوتهما ، قال أبو عبد الله (عليه
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
السلام) ثم ان إبليس الملعون ذهب بعد
وفاة آدم فبال في أصل الكرمة والنخلة فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله فمن
ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله تعالى على ذرية آدم كل مسكر لان الماء جرى ببول
عدو الله في النخل والعنب. وصار كل مختمر خمرا لان الماء اختمر في النخلة والكرمة
من رائحة بول عدو الله تعالى إبليس».
(قلت) : هذا الخبر بحمد الله تعالى ان لم يكن حجة لنا لا
يكون علينا وذلك ان سياق الخبر كما تقدمت الإشارة اليه انما هو في بيان العلة في
تحريم المسكر من العنب والتمر وغيرهما ، ألا ترى الى قوله (عليهالسلام) : «فأوحى الله
تعالى الى آدم ان العنب قد مصه عدوي وعدوك إبليس لعنه الله وقد حرمت عليك من عصيرة
الخمر ما خالطه نفس إبليس فحرمت الخمر لان عدو الله. إلخ» ، والى قوله (عليهالسلام) بعد حكاية
بول إبليس لعنه الله في أصل الكرمة والنخلة : «فجرى الماء في عروقهما من بول عدو الله
فمن ثم يختمر العنب والتمر فحرم الله على ذرية آدم كل مسكر. إلخ» ولا دلالة فيه
ولا إشارة إلى التحريم في التمر بمجرد الغليان كما تقدم في اخبار العصير العنبي.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الكلام في هذه المسألة يقع في
مقامات ثلاثة :
(الأول) ـ في ماء التمر إذا غلى ولم يذهب ثلثاه ،
والمشهور ـ بل كاد ان يكون إجماعا بل هو إجماع ـ هو القول بحليته فانا لم نقف على
قائل بالتحريم ممن تقدمنا من الأصحاب وانما حدث القول بذلك في هذه الأعصار
المتأخرة ، فممن ذهب اليه شيخنا أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني
والمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي على ما يظهر من الوسائل ثم اشتهر ذلك
الآن بين جملة من الفضلاء المعاصرين حتى صنفوا فيه الرسائل وأكثروا من الدلائل
التي لا ترجع إلى طائل ، وهذا هو الذي حدانا على تطويل الكلام في هذه المسألة في
هذا المقام وان كانت خارجة عن محل البحث إلا بنوع مناسبة تقتضي الدخول في سلكه
والانتظام.
وربما توهم وقوع الخلاف في الحكم المذكور من بعض عبارات
الأصحاب مثل عبارة المحقق في كتاب الحدود من الشرائع حيث قال : «واما التمري إذا
غلى ولم يبلغ حد الإسكار ففي تحريمه تردد والأشبه بقاؤه على التحليل حتى يبلغ
الشدة المسكرة» انتهى ومثله عبارة الشهيد في الدروس حيث قال بعد الكلام في عصير
الزبيب وحكمه بتحليل المعتصر منه : «واما عصير التمر فقد أحله بعض الأصحاب ما لم
يسكر ، وفي رواية عمار. إلخ» (1).
وأنت خبير بأن العبارة الاولى لا دلالة فيها بوجه على
وجود القول بالتحريم لان التردد في الحكم لا يستلزم وجود الخلاف فيه بل قد يكون
منشأه تعارض الأدلة فيه أو ضعف المستند دلالة أو سندا أو تعارض احتمالين في ذلك
كما هو دأب العلماء في كثير من عبائرهم ومن ثم قال الشهيد الثاني في المسالك في
شرح هذه العبارة : وجه التردد في عصير التمر أو هو نفسه إذا غلى ، من دعوى صدق اسم
النبيذ عليه حينئذ ومشابهته لعصير العنب ، ومن أصالة الإباحة ومنع صدق اسم النبيذ
المحرم عليه حقيقة ومنع مساواته لعصير العنب في الحكم لخروج ذلك بنص خاص فيبقى
غيره على أصل الإباحة وهذا هو الأصح. انتهى. ويؤيد ما قلناه ايضا ما صرح به الفاضل
الشيخ احمد بن فهد (قدسسره) في المهذب
حيث قال : كل حكم مستفاد من لفظ عام أو مطلق أو من استصحاب يسمى بالأشبه لأن ما
كان مستند الترجيح التمسك بالظاهر والأخذ بما يطابق ظاهر المنقول يكون أشبه
بأصولنا ، فكل موضع يقول فيه : «الأشبه» يريد هذا المعنى ، والأصح ما لا احتمال
فيه عنده ، والتردد ما احتمل الأمرين ، ثم قال بعد ذلك : وربما كان النظر والتردد
في المسألة من المصنف خاصة لدليل انقدح في
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 37 من الأشربة المحرمة ،
واللفظ هكذا : «سألته ـ يعني أبا عبد الله «ع» ـ عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى
يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يمتشطن». وسيأتي التعرض لها ص 149.
خاطره. انتهى. وفيه ـ كما ترى ـ دلالة
واضحة على ان المحقق (قدسسره) بل غيره من
الفقهاء ايضا قد يقولون على الأصح أو يترددون أو يتنظرون في المسألة وان كانت
اجماعية. وأغرب من ذلك ان المحقق في كتاب المختصر في مسألة كثير السفر قال :
وضابطه ان لا يقيم في بلدة عشرة أيام ولو أقام في بلده أو غيره ذلك قصر ، وقيل هذا
يختص بالمكاري فيدخل الملاح والأجير. انتهى. قال في المهذب : ولم نظفر بقائله
ولعله سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف فقال «قيل». وقال في التنقيح : لم نسمع
من الشيوخ قائله ولكن قال بعض الفضلاء كأنه هو نفسه القائل. ونقل عن الشهيد (قدسسره) انه قال انه
احتمال عنده. وبذلك يظهر ان العبارة المذكورة وان توهم منها في بادئ النظر حصول
الخلاف في المسألة إلا انه عند التأمل الدقيق لا ينبغي الالتفات اليه ، وبه يظهر
ايضا ما في كلام شيخنا المشار اليه آنفا حيث قال : وما يقال ـ ان النزاع انما هو
في العصير الزبيبي كما يفهم من شرح الشرائع في الأطعمة والأشربة واما التمري فلا
نزاع في إباحته وقد ادعى الإجماع عليه بعض الفضلاء ـ مردود بان الظاهر من كلام
المحقق في الشرائع في كتاب الحدود خلافه وان المسألة ليست اجماعية كما قد يظن ،
فإنه قال : واما التمري إذا غلى ولم يبلغ الإسكار ثم ساق العبارة المتقدمة ، ثم
قال ودلالته على المدعى واضحة. انتهى. أقول : قد عرفت ما فيه.
واما عبارة الدروس فغاية ما تدل عليه هو اسناد التصريح
بالحلية الى بعض الأصحاب وهذا لا يستلزم ان البعض الآخر قائل بالتحريم بل الظاهر
ان مراده ان بعض الأصحاب نص على الحلية وصرح بها والبعض الآخر لم يصرح بشيء نفيا
ولا إثباتا ، وهو كذلك فان كثيرا منهم لم يتعرضوا لذكر ماء التمر المغلي بالكلية
ومن ذكره منهم فإنما وصفه بالحلية دون التحريم ، وكيف كان فغاية ما يشعر به كلامه
هنا هو التوقف في الحكم لرواية عمار المشار إليها في كلامه وسيأتي الكلام فيها ان
شاء الله تعالى ، ومما يساعد على ما ادعيناه عبارة المسالك في كتاب الأطعمة
والأشربة وهي المشار إليها في
كلام شيخنا المتقدم ، حيث قال في
الكتاب المذكور بعد البحث في عصير العنب : والحكم مختص بعصير العنب فلا يتعدى الى
غيره كعصير التمر ما لم يسكر للأصل ولا الى عصير الزبيب على الأصح. إلخ. ونحوه في
الروض وشرح الرسالة ، واعتراض شيخنا المتقدم عليه بما ذكره قد عرفت بطلانه. وأياما
كان فالاعتماد عندنا في الأحكام على الأدلة الواردة في المقام لا على الخلاف أو
الوفاق من العلماء الاعلام :
ومما يدل على الحلية في هذه المسألة الأصل والآيات
والاخبار كقوله سبحانه : «... خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ...» (1) وقوله عزوجل : «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ... الآية» (2) وقوله تعالى :
«إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ...» (3) وقوله : «يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّباتُ ... الآية الى وَطَعامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْ» (4) وقوله «...
لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ...» (5) وغيرها خرج ما
خرج بدليل فيبقى الباقي تحت العموم ، وقول الصادق (عليهالسلام) في صحيحة
محمد بن مسلم (6) : «انما
الحرام ما حرم الله تعالى ورسوله في كتابه». عقيب الأمر بقراءة «قُلْ لا أَجِدُ ... الآية» وقول
أحدهما (عليهماالسلام) في صحيحة
زرارة (7) «إنما الحرام
ما حرم الله في كتابه». وقول الباقر (عليهالسلام) في صحيحة
زرارة ومحمد بن مسلم (8) : «انما
الحرام ما حرم الله في القرآن». وفي صحيحة محمد بن مسلم (9) : «ليس الحرام
إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» ثم قال : «اقرأ هذه الآية : (قُلْ لا
__________________
(1) سورة البقرة. الآية 29.
(2) سورة الأنعام. الآية 146.
(3) سورة البقرة. الآية 173.
(4) سورة المائدة. الآية 4.
(5) سورة المائدة. الآية 87.
(6) المروية في الوسائل في الباب 9 من الأطعمة المحرمة.
(7) المروية في الوسائل في الباب 6 من الأطعمة المحرمة.
(8) المروية في الوسائل في الباب 4 من الأطعمة المحرمة.
(9) المروية في الوسائل في الباب 5 من الأطعمة المحرمة.
أَجِدُ ... الآية». ويدل
على ذلك ما قدمناه من الاخبار في الفائدة الثانية المصرحة بأن المحرم من النبيذ هو
المسكر خاصة ولا سيما رواية الوفد.
استدل شيخنا أبو الحسن المشار اليه آنفا على التحريم في
العصير التمري والزبيبي بصحيحة عبد الله بن سنان عن الصادق (عليهالسلام) (1) قال : «كل
عصير اصابته النار فهو حرام حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه». قال وروى ايضا في الحسن
عنه (عليهالسلام) (2) : «اي عصير
اصابته النار فهو حرام». وكلمتا «كل واي» صريحتان في العموم فمقتضاهما تحريم
الزبيبي والتمري إلا ان يثبت كون العصير حقيقة شرعية أو عرفية في عصير العنب خاصة
كما ادعاه جماعة ، وأنت خبير بان هذه الدعوى في حيز المنع إذ لم نظفر لها بمستند
يعتمد عليه واستسلاقها في هذا المقام مجازفة محضة وعباراتهم طافحة بتسميتهما عصيرا
ومع هذا الإطلاق لا يليق منهم إنكاره فيبقى عموم النص شاملا له ، مع ان رواية زيد
النرسي (3) ـ بالنون
والراء والسين المهملتين ـ شاهدة به وفي رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (4) اشعار ما به
كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام وان لم تدل عليه صريحا. انتهى كلامه.
أقول : فيه ـ زيادة على ما عرفت ـ نظر من وجوه : (الأول)
ان ما ذكره من رواية ابن سنان وجعله لها روايتين وان إحداهما صحيحة والأخرى حسنة
وان إحداهما بلفظ «كل» والأخرى بلفظ «اي» لا وجود له في كتب الاخبار ولا نقله ناقل
من علمائنا الأبرار ، والموجود فيها رواية واحدة وهي الأولى إلا انها صحيحة في
التهذيب وحسنة
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(2) سيتعرض المصنف (قدسسره) في الوجه الأول من وجوه النظر لعدم
وجود رواية لابن سنان بهذا اللفظ.
(3) المروية في مستدرك الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة
وستأتي في المقام الثاني.
(4) المروية في الوسائل في الباب 8 من الأشربة المحرمة وستأتي
في المقام الثاني.
في الكافي ، واما الثانية فلم أقف
عليها ولم يذكرها في الوافي الجامع لكتب الأخبار الأربعة ولا في الوسائل الجامع
للكتب الأربعة وغيرها.
(الثاني) ـ ان ما ادعاه من العموم في العصير مردود بما
أوضحناه في الفوائد المتقدمة بما لا مزيد عليه وهو ان العصير مخصوص بما يؤخذ من
العنب وان ما يؤخذ من التمر والزبيب انما يطلق عليه النقيع والنبيذ ، فهذه الأسماء
قد صارت حقائق عرفية في زمانهم وعرفهم (عليهمالسلام) كما أطلقوا
ايضا على عصير العنب الطلاء تارة والبختج اخرى ، وعاضد على ذلك كلام أهل اللغة
أيضا كما سمعت من عبائرهم ، ولكنه لقصور تتبعه (قدسسره) للاخبار وعدم
مراجعته لكلام أهل اللغة في هذا المضمار وقع فيما وقع فيه.
بقي الكلام هنا في التعبير في هذه الصحيحة بلفظة «كل»
المشعر بوجود افراد متعددة لذلك ، ويمكن ان يكون الوجه في ذلك ما ذكره بعض مشايخنا
المحققين من متأخرين المتأخرين من ان ذلك باعتبار كون المراد منه ما هو أعم من ان
يسكر كثيره أم لا أخذ من كافر أو مسلم مستحل لما دون الثلث أم لا عارف أم لا. أقول
: ويؤيده ورود الأخبار في حل المعصرات المأخوذة من أيدي هؤلاء وعدمه بالفرق في
بعضها بين العارف وغيره وفي بعض بين من يستحله على الثلث وغيره ممن يشربه على
النصف وكذا بالنسبة إلى المسلم وغيره ، وبهذا يتم معنى الكلية في الخبر المذكور
ويندفع عنه النقص والقصور.
(الثالث) ـ انه مع العدول عن حمل العصير في الخبر على ما
ذكرناه من عصير العنب فليس إلا الحمل على المعنى اللغوي الذي هو عبارة عن كل معصور
، والحمل على هذا المعنى مما لا يخفى بطلانه على محصل إذ يلزم من الحكم بصحة هذا
المعنى الحكم بتحريم كل عصير إذا غلى ولا ريب انه مخالف لما علم ضرورة من مذهب
الإسلام من إباحة الأشربة ومياه العقاقير والأدوية التي تطبخ ومياه الفواكه
والبقول ونحو ذلك ،
ولو رجع الى تخصيصها بالنصوص فالذي
صرحت به النصوص بان يتم له تخصيص هذا الخبر به انما هو السكنجبين ورب التوت
والرمان والتفاح والسفرجل والجلاب وهو العسل المطبوخ بماء الورد حتى يتقوم ،
وحينئذ فما عدا هذه المعدودة الموجودة في النصوص يبقى داخلا في عموم الخبر على
زعمه ولا أظنه يلتزمه ويقول به ، والتخصيص بالعنبي والتمري تحكم محض مع انه ارتكاب
للتخصيص البعيد الذي قد منع صحته جماعة من الأصوليين ، وبالجملة فصدور هذه الكلية
عنهم (عليهمالسلام) مع خروج أكثر
أفراد الموضوع عن الحكم بعيد جدا بل مما يكاد يقطع ببطلانه سيما مع كون الخروج
بغير دليل ولا مخصص وبهذا يظهر انه لا يجوز ان تكون الكلية والعموم في الخبر
المذكور باعتبار المعنى اللغوي الذي توهمه.
(الرابع) ـ قوله : «إلا ان يثبت كون العصير حقيقة. إلخ»
فإن فيه انه قد ثبت ذلك على وجه لا يعتريه الاشكال ولا يحوم حوله الاختلال إلا لمن
لم يعط التأمل حقه في هذا المجال ولم يسرح بريد النظر كما ينبغي في اخبار الآل
عليهم صلوات ذي الجلال كما أوضحناه بأوضح مقال وكشفنا عنه نقاب الإجمال بما لم
يسبق اليه سابق من علمائنا الأبدال ، وأيده أيضا مضي العلماء عليه سلفا وخلفا فإن
أحدا منهم لم يتوهم هذا المعنى الذي تفرد به وذهب اليه ، والقائلون بتحريم العصير
الزبيبي إنما استندوا إلى صحيحة علي بن جعفر الآتية مع ان صحيحة عبد الله بن سنان
المذكورة بمرئي منهم ومنظر وهي بالاستدلال ـ لو كانوا يفهمون من العصير هذا المعنى
الذي توهمه ـ أوضح وأظهر ، وانما فهموا منه انه عبارة عن ماء العنب خاصة فهو إجماع
أو كالإجماع منهم (رضوان الله عليهم) ، وقد عرفت أيضا مساعدة كلام أهل اللغة لهم
باعتبار تخصيصهم لما يتخذ من التمر والزبيب بالنقيع أو النبيذ. واما ما ذكره ـ من
ان عباراتهم طافحة بتسميتهما عصيرا فلا يليق منهم إنكاره ـ ففيه ان عبارات أكثرهم
خالية من هذا وان ذكره بعضهم فهو على نوع من مجاز المشاكلة ، واما إنكاره فمتعلقه
الحكم لا التسمية
وأحدهما غير الآخر ، وبذلك يظهر لك ان
المجازفة انما هو في البناء على هذه الأوهام من غير إعطاء التأمل حقه في المقام
والخروج عما عليه كافة العلماء الاعلام والمخالفة لنصوص أهل الذكر عليهم أفضل
الصلاة والسلام.
(الخامس) ـ ما ذكره بقوله : «مع ان رواية زيد النرسي.
إلخ» فإن فيه ان رواية زيد النرسي التي موردها مخصوص بالزبيب وسيأتي الكلام فيه ان
شاء الله تعالى ضعيفة فان زيد النرسي مجهول في الرجال وأصله المنقول منه هذا الخبر
مطعون فيه كما ذكره الشيخ في الفهرست ، حيث قال في الطعن على أصل زيد النرسي : انه
لم يروه محمد بن علي بن الحسين بن بابويه ، ونقل عنه في فهرسته ايضا انه لم يروه
محمد بن الحسن بن الوليد وكان يقول انه موضوع وضعه محمد بن موسى الهمداني. وقال
العلامة في الخلاصة بعد نقل كلام الشيخ وابن الغضائري في زيد الزراد وزيد النرسي :
والذي نقله الشيخ عن ابن بابويه وابن الغضائري لا يدل على طعن في الرجلين وان كان
توقف ففي رواية الكتابين ، ولما لم أجد لأصحابنا تعديلا لهما ولا طعنا فيهما توقفت
عن قبول روايتهما. انتهى. ومن هذا القبيل تمسكه برواية علي بن جعفر وقناعته بما
فيها من قوله «اشعار ما» والعجب منه (قدسسره) في استناده
الى هاتين الروايتين المتهافتتين مع ان ههنا روايات أخر مروية في الأصول المعتبرة
التي عليها المدار وهي أوضح دلالة وأصرح مقالة وأصح سندا وأكثر عددا فيما ادعاه
بالنسبة إلى الزبيب كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المقام الآتي ، وهذا مما
يدلك أوضح دلالة على صحة ما قلنا من ان كلامه (قدسسره) في هذا
المضمار لم يكن ناشئا عن تحقيق ورجوع الى الأخبار وتأمل فيها بعين الفكر والاعتبار
، وكذا بالنسبة إلى العصير التمري كان ينبغي ان يستدل بموثقة عمار التي أشار إليها
في الدروس وكأنه اعتمد على ما فهمه من صحيحة عبد الله بن سنان من صدق العصير على
هذه الأشياء ولم يبحث عن دليل سواها ، ولو انه تمسك في ماء التمر بموثقتي عمار
الآتيتين وفي الزبيب بالروايات التي سنتلوها عليك
ان شاء الله تعالى في المقام الآتي
لكان أظهر في مطلوبه ومراده وان قابله من خالفه في ذلك باعتراضه وإيراده.
هذا ، وربما استدل للقول بالتحريم في ماء التمر بموثقة
عمار بن موسى عن الصادق (عليهالسلام) (1) : «انه سئل عن
النضوح المعتق كيف يصنع به حتى يحل؟ قال خذ ماء التمر فأغله حتى يذهب ثلثا ماء
التمر». وموثقته الأخرى عنه (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن النضوح؟ قال يطبخ التمر حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ثم يمتشطن». وهذه الرواية
الثانية هي التي ذكرها في الدروس وظاهره التوقف في الحكم من أجلها ، والنضوح لغة
على ما ذكره في النهاية ضرب من الطيب تفوح رائحته ، ونقل الشيخ فخر الدين ابن طريح
في مجمع البحرين : ان في كلام بعض الأفاضل النضوح طيب مائع ينقعون التمر والسكر
والقرنفل والتفاح والزعفران وأشباه ذلك في قارورة فيها قدر مخصوص من الماء ويشد
رأسها ويصبرون أياما حتى ينش ويختمر وهو شائع بين نساء الحرمين الشريفين ، وكيفية
تطيب المرأة به ان تحط الأزهار بين شعر رأسها ثم ترش به الأزهار لتشتد رائحتها قال
: وفي أحاديث أصحابنا أنهم نهوا نساءهم عن التطيب به بل أمر بإهراقه في البالوعة.
انتهى أقول : الظاهر انه أشار بحديث الأمر بالإهراق إلى رواية عيثمة (3) قال : «دخلت
على ابي عبد الله (عليهالسلام) وعنده نساؤه
قال فشم رائحة النضوح فقال ما هذا؟ قالوا نضوح يجعل فيه الضياح قال فأمر به فأهريق
في البالوعة». أقول : الضياح لغة اللبن الخاثر يجعل فيه الماء ويمزج به ، والظاهر
بناء على ما ذكره هذا البعض المنقول عنه كيفية عمل النضوح المؤيد بخبر عيثمة
المذكور ان امره (عليهالسلام) بإهراق
النضوح انما هو لكونه خمرا وانه نجس كما هو أحد القولين المعتضد بالاخبار كما تقدم
تحقيقه ، فيكون وضعه في الرأس موجبا لنجاسته والصلاة في النجاسة حينئذ ، وعلى هذا
فتحمل
__________________
(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب 32 من الأشربة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 37 من الأشربة المحرمة.
رواية عمار على ان الغرض من طبخه حتى
يذهب ثلثا ماء التمر انما هو لئلا يصير خمرا ببقائه مدة لان غلية الذي يصير به
دبسا يذهب الأجزاء المائية التي يصير بها خمرا لو مكث مدة كذلك ، لأنه إنما بصير
خمرا بسبب ما فيه من تلك الأجزاء المائية فإذا ذهبت أمن من صيرورته خمرا ، ويؤيد
هذا قوله : «النضوح المعتق» على صيغة اسم المفعول أي الذي يراد جعله عتيقا بان
يحفظ زمانا حتى يصير عتيقا ، ويؤيده قوله ايضا «ثم يمتشطن» من ان الغرض منه التمشط
والوضع في الرأس ، فالمراد من السؤال في الروايتين عن كيفية عمله هو التحرز عن
صيرورته خمرا نجسا يمتنع الصلاة فيه إذا تمشطن به وإلا فهو ليس بمأكول ولا الغرض
من السؤال عن كيفية عمله هو حل اكله حتى يكون الأمر بغلية على مثل هذه الكيفية لحل
اكله ، فلو فرضنا انه طبخ على النصف مثلا وتمشطن به في الحال فإنه وان فرضنا تحريم
اكله كما يدعيه الخصم إلا انه لا قائل بنجاسته إجماعا ولا دليل عليها اتفاقا ، ولكن
لما كان الغرض هو حفظه وتبقيته زمانا كما عرفت فلو لم يعمل بهذه الكيفية لصار خمرا
نجسا فأمر (عليهالسلام) بطبخه على
هذه الكيفية لهذه العلة ، وكيف كان فدلالة الخبرين المذكورين انما هو بطريق
المفهوم وهو مع تسليمه انما يكون حجة إذا لم يظهر للتعليق فائدة سوى ذلك وإلا فلا
حجة فيه ، وبما شرحنا من معنى الخبرين المذكورين وهو ان الغرض ان لا يكون خمرا
مسكرا تظهر فائدة التعليق المذكور فلا يكون حجة فيما يدعيه الخصم ، وهذا بحمد الله
سبحانه واضح لا سترة عليه ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه.
بقي هنا شيئان ينبغي التنبيه عليهما (الأول) ـ ان إطلاق
الاخبار وكلام الأصحاب دال على تحريم العصير بالغليان وتوقف حله على ذهاب الثلثين
أعم من ان يطبخ وحده أو مع شيء آخر غيره ، وقد روى ابن إدريس في مستطرفات السرائر
نقلا من كتاب مسائل الرجال عن ابي الحسن علي بن محمد (عليهماالسلام) (1) «ان محمد بن
علي بن عيسى كتب اليه عندنا طبيخ يجعل فيه الحصرم وربما يجعل فيه العصير من العنب
وانما هو لحم يطبخ به وقد روي عنهم في العصير
__________________
(1) رواه في الوسائل في الباب 4 من الأشربة المحرمة.
انه إذا جعل على النار لم يشرب حتى
يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه وان الذي يجعل في القدر من العصير بتلك المنزلة وقد اجتنبوا
أكله الى ان يستأذن مولانا في ذلك؟ فكتب لا بأس بذلك». وهو ظاهر في ان حكم العصير
مطبوخا مع غيره حكمه منفردا. وكأن السائل توهم اختصاص الحكم المذكور بالعصير
منفردا وشك في جريان ذلك فيه إذا طبخ مع غيره ، لان ظاهر قوله : «الذي يجعل في
القدر من العصير بتلك المنزلة» يعني يذهب ثلثاه كما روى فأجابه (عليهالسلام) بنفي البأس
مع ذهاب الثلثين إشارة الى ان هذا الحكم ثابت له مطلقا منفردا أو مع غيره.
(الثاني) ـ انه لو وقع في قدر ماء يغلى على النار حبة أو
حبات عنب فان كان ما يخرج منها من الماء يضمحل في ماء القدر فالظاهر انه لا إشكال
في الحل لعدم صدق العصير حينئذ لأن الناظر إذا رآه انما يحكم بكونه ماء مطلقا وان
أدت اليه الحلاوة مثلا. لأن الأحكام الشرعية تابعة لصدق الإطلاق والتسمية فإذا كان
لا يسمى عصيرا وانما يسمى ماء فلا يلحقه حكم العصير البتة ، نعم لو كان الواقع في
الماء انما هو شيء من العصير المحرم وهو ما بعد غليانه وقبل ذهاب ثلثيه وكان ذلك
ايضا على الوجه الذي ذكرناه من القلة والاضمحلال في جانب الماء فهل يكون الحكم فيه
كما تقدم في الصورة الأولى أم لا؟ الظاهر الأول لعين ما ذكرناه وبذلك صرح المحقق
المولى الأردبيلي (قدسسره) في شرح
الإرشاد حيث قال ـ بعد قول المصنف (قدسسره) في كتاب
الأطعمة والأشربة : «ان ما مزج بشيء من هذه يحرم» وتفسير العبارة المذكورة بأن
تحريم ما مزج بهذه المذكورات مع نجاستها ظاهر فإن الملاقي للنجس رطبا نجس وكل نجس
حرام ، واحتماله ايضا انه يريد بيان حكم الممتزج على تقدير عدم النجاسة أيضا ـ ما
حاصله : والحكم بتحريم الممتزج حينئذ ان كان الامتزاج بحيث غلب الحرام وصار من
افراده ظاهر وكذا المساوي بل ما علم انه فيه بحيث لم يضمحل بالكلية ، فأما ما
يضمحل فيمكن الحكم بكونه حلالا مثل قطرة عرق أو بصاق حرام في حب ماء أو قدر بل في
كوز كبير للاضمحلال ، ولا يبعد
ان يكون ذلك مدار الحكم ، فان كان
بحيث إذا أخذ وأكل وشرب لم يعلم بوجود الحرام فيه يكون حلالا وان كان يعلم وجوده
فيه يكون حراما. ويدل عليه ما تقدم من العمومات والأصل وحصر المحرمات وصحيحة عبد
الله بن سنان (1) قال : «قال
الصادق (عليهالسلام) كل شيء يكون
فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعلم انه حرام». ثم قال : ويحتمل التحريم خصوصا
المسكر للروايات مثل حسنة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «قال
الصادق (عليهالسلام) ما أسكر
كثيره فقليله حرام». ثم نقل رواية عمر بن حنظلة الدالة على ان ما قطرت قطرة من
المسكر في حب إلا أهريق ذلك الحب (3) ثم قال فتأمل فإن المسألة مشكلة
والاجتناب أحوط. انتهى كلامه. وفيه ان ما استند اليه في احتمال التحريم من
الروايتين المذكورتين لا دلالة لهما على ما ادعاه ، فان مقتضى حسنة عبد الرحمن
تعلق التحريم بعين القليل ومتفرع على وجوده والمفروض اضمحلاله كما ذكره سابقا
وحينئذ فلا يكون من محل البحث في شيء ، ومقتضى رواية عمر بن حنظلة ان الإراقة
إنما تترتب على التنجيس وحكمه (عليهالسلام) بنجاسة المسكر
كما هو أشهر الروايات وأظهرها حسبما مر تحقيقه في موضعه لا على التحريم كما توهمه (قدسسره) وبالجملة
فاظهرية الحلية في الصورة المذكورة مما لا ينبغي ان يعتريه الاشكال. والله العالم.
(المقام الثاني) ـ في ماء الزبيب إذا غلى ولم يذهب ثلثاه
، المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كونه حلالا وقيل بتحريمه كما تقدمت
الإشارة إليه في كلام شيخنا الشهيد الثاني واليه مال من قدمنا ذكره من متأخري
المتأخرين وجملة من المعاصرين ، ويدل على القول المشهور ما تقدم في المقام الأول
من الأصل والعمومات في الآيات والروايات المتقدمة ثمة ، واستدل بعض مشايخنا
المعاصرين على ذلك أيضا بانحصار النزاع بين آدم
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 64 من الأطعمة المحرمة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من الأشربة المحرمة.
(3) المروية في الوسائل في الباب 18 من الأشربة المحرمة.
ونوح وبين إبليس لعنه الله في العنب
خاصة وان الحرام هو عصير العنب ، والزبيب خارج عن اسم العنب فلا يحرم ماؤه كالحصرم
انتهى. أقول : يمكن للخصم المناقشة في هذا الاستدلال بان ظاهر الاخبار التي أشار
إليها (قدسسره) ان النزاع
كان في ثمرة شجرة الكرم مطلقا ولا دلالة لها على الاختصاص بالعنب كما في موثقة
زرارة الدالة على ان نوحا لما غرس الحبلة وهي شجرة العنب وقلعها إبليس لعنه الله
فتنازع معه وقال له إبليس اجعل لي نصيبا فجعل له الثلث الى ان استقر الأمر على
الثلثين ، فإنها دالة على انه جعل له نصيبا في الشجرة يعني ما يخرج منها من الثمرة
ولا اختصاص له بالعنب ، ومثل ذلك أيضا موثقة سعيد بن يسار وباقي الأخبار المنقولة
من العلل.
واستدل الشهيد الثاني في المسالك ـ بعد ان صرح بان الحكم
مختص بالعنب فلا يتعدى الى غيره كعصير التمر ما لم يسكر ولا الى عصير الزبيب على
الأصح لخروجه عن اسم العنب ـ بذهاب ثلثيه وزيادة بالشمس ، ومثل ذلك في الروض وشرح
الرسالة ، واعترضه في المفاتيح بان ما ذكره من ذهاب ثلثيه بالشمس انما يتم لو كان
قد نش بالشمس أو غلى حتى يحرم ثم يحل بعد ذلك بذهاب الثلثين ، والغليان بالشمس غير
معلوم فضلا عن النشيش وهو صوت الغليان. واما ما جف بغير الشمس فلا غليان فيه فلا
وجه لتحريمه حتى يحتاج الى التحليل بذهاب الثلثين ، على ان إطلاق العصير على ما في
حبات العنب كما ترى. انتهى كلامه. وهو جيد.
واما ما أجاب به بعض مشايخنا المعاصرين ـ وهو الذي تقدمت
الإشارة إليه في صدر المقام من ان الموضوع في الشمس لأجل ان يصير زبيبا قد يحصل
فيه القلب أو النشيش اعني النقص فإذا ذهب منه الثلثان فقد حل ، وان الحكم في العنب
انما تعلق بمائه وان لم يخرج من الحب ، والتعبير في الأخبار بالعصير انما هو جريا
على الغالب لا تخصيصا للحكم والمراد ما من شأنه أن يؤخذ بالعصر ، ومن ثم لو طبخ حب
العنب في ماء أو طبيخ حرم ذلك المطبوخ إجماعا. انتهى ـ فظني بعده لان دعوى حصول
القلب
والغليان في ماء حب العنب إذا وقع في
الشمس غير معلوم يقينا وأصالة الحل لا يخرج عنها إلا بيقين ، ويلزم على ما ذكره
انه لو وضع العنب في الشمس يوما أو يومين أو ثلاثة مثلا بحيث انه لم يبلغ الى حد
الزبيب فإنه يحرم لحصول الغليان ولم يذهب ثلثاه بعد ولا أظنه يلتزمه فإن أصالة
الحلية لا يخرج عنها بمجرد ذلك. واما دعواه ان الحكم في العنب انما تعلق بمائه وان
لم يخرج من الحب فإنه خروج عن ظواهر الأخبار وبناء على مجرد الاعتبار. واما قوله :
«ومن ثم لو طبخ حب العنب. إلخ» ففيه ان ارتكاب المجاز في إطلاق العصير على ما يخرج
بالطبخ لا يستلزم انسحابه الى ما في العنب قبل ان يخرج بالكلية ، فإن أراد ثبوت
التحريم لحب العنب وان لم يخرج ماؤه بالطبخ منعنا هذه الدعوى. وبالجملة فإن بناء
الأحكام الشرعية على مثل هذه الاعتبارات التخمينية لا يخلو من مجازفة.
وبمثل ما صرح به شيخنا الشهيد الثاني صرح الشهيد في
الدروس فقال ولا يحرم المعتصر من الزبيب ما لم يحصل فيه نشيش فيحل طبخ الزبيب على
الأصح لذهاب ثلثيه بالشمس غالبا وخروجه عن مسمى العنب. وحرمه بعض مشايخنا
المعاصرين وهو مذهب بعض فضلائنا المتقدمين لمفهوم رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) ثم ساق متن
الرواية كما سيأتي. وأنت خبير بان ما ذكراه (قدسسرهما) من تعليل
حلية ماء الزبيب بذهاب ثلثيه بالشمس لا يوافق القائلين بالحلية ولا القائلين
بالحرمة ، فإن من قال بحل ماء الزبيب بعد الغلي وقبل ذهاب ثلثيه كما هو المشهور
قال به مطلقا سواء ذهب ثلثاه بالشمس أم لم يذهب لأنه انما يتمسك بأصالة الحلية
ويدعى ان ما ورد من التحريم بمجرد الغليان والحل بذهاب الثلثين مخصوص بالعنب
والزبيب لا يصدق عليه العنب ، ومن قال بالتحريم انما استند الى مفهوم رواية علي بن
جعفر الآتية وهي التي ذكرها في الدروس فهو قائل ايضا بتحريمه مطلقا سواء علم ذهاب
ثلثيه في حبه بالشمس أم لا. فكلامهما (قدسسرهما) لا يوافق
شيئا من المذهبين في البين.
واستدل أيضا في المسالك على الحلية بصحيحة أبي بصير (1) قال : «كان
أبو عبد الله (عليهالسلام) تعجبه
الزبيبة». قال : وهذا ظاهر في الحل لان طعام الزبيبة لا يذهب فيه ثلثا ماء الزبيب
كما لا يخفى انتهى. واقتفاه في هذه المقالة المولى الأردبيلي في شرح الإرشاد فقال
بعد نقل الرواية المذكورة مثل ما ذكره هنا. وقال بعض مشايخنا المعاصرين بعد
الاستدلال بهذه الرواية أيضا : لأن الظاهر ان المراد الطعام الذي يطبخ معه الزبيب
أو يطبخ معه ماء الزبيب وهو لا يستلزم ذهاب ثلثي ماء الزبيب غالبا كما هو واضح.
أقول : والاستدلال بهذه الرواية لا يخلو عندي من اشكال
لعدم العلم بكيفية ذلك الطعام ، ومن المحتمل قريبا الحمل على الأشربة الزبيبية
التي يأتي ذكرها في الاخبار ، ولكن استدلال شيخنا الشهيد الثاني بالخبر المذكور
وقوله بعده ما ذكر وكذا المولى الأردبيلي ربما يؤذن بكونهما عالمين بكيفية ذلك على
الوجه الذي ذكراه ولعله وصل إليهم ولم يصبل إلينا.
إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد استدل على القول بالتحريم كما
عرفت برواية علي ابن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الزبيب هل يصلح ان يطبخ حتى يخرج طعمه ثم يؤخذ ذلك الماء فيطبخ حتى يذهب ثلثاه
ويبقى الثلث ثم يرفع ويشرب منه السنة؟ قال لا بأس به». وطعن في هذه الرواية جملة
من المتأخرين ومتأخريهم بضعف السند (أولا) لاشتماله على سهل بن زياد. و (ثانيا) ان
دلالتها بالمفهوم في كلام السائل وهو ضعيف ، ومع تسليم صحته فدلالة المفهوم انما
تكون حجة ما لم يظهر للتعليق فائدة أخرى ومن الجائز بل الظاهر ان هذا العمل
المخصوص انما هو لمن أراد بقاءه عنده ليشرب منه فتكون فائدة التقييد بذهاب الثلثين
ليذهب مائيته فيصلح للمكث والبقاء
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من الأطعمة المباحة.
(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من الأشربة المحرمة.
ولا يصير مسكرا ، ويدل عليه قوله في
عجز الرواية : «ويشرب منه السنة».
هذا ، وقد روى ثقة الإسلام في الكافي روايات ربما تدل
بظاهرها على التحريم :
ومنها ـ موثقة عمار الساباطي (1) قال : «وصف لي
أبو عبد الله (عليهالسلام) المطبوخ كيف
يطبخ حتى يصير حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من زبيب وتنقيه ثم تصب عليه اثنى عشر رطلا من
ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان أيام الصيف وخشيت ان ينش جعلته في تنور مسجور قليلا
حتى لا ينش ثم تنزع الماء منه كله حتى إذا أصبحت صببت عليه من الماء بقدر ما يغمره
، الى ان قال ثم تغليه بالنار ولا تزال تغليه حتى يذهب الثلثان ويبقى الثلث.
الحديث».
ومنها ـ موثقته الأخرى عنه (عليهالسلام) (2) قال : «سئل عن
الزبيب كيف طبخه حتى يشرب حلالا؟ فقال تأخذ ربعا من زبيب فتنقيه ثم تطرح عليه اثنى
عشر رطلا من ماء ثم تنقعه ليلة فإذا كان من الغد نزعت سلافته ثم تصب عليه من الماء
قدر ما يغمره ثم تغليه بالنار غلية ثم تنزع ماءه فتصبه على الماء الأول ثم تطرحه
في إناء واحد جميعا ثم توقد تحته النار حتى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث وتحته النار ثم
تأخذ رطلا من عسل فتغليه بالنار غلية وتنزع رغوته ثم تطرحه على المطبوخ ثم تضربه
حتى يختلط به واطرح فيه ان شئت زعفرانا. الحديث».
ومنها ـ رواية إسماعيل بن الفضل الهاشمي (3) قال : «شكوت
الى ابي عبد الله (عليهالسلام) قراقر تصيبني
في معدتي وقلة استمرائي الطعام ، فقال لي لم لا تتخذ نبيذا نشربه نحن وهو يمرئ
الطعام ويذهب بالقراقر والرياح من البطن؟ قال فقلت له صفه لي جعلت فداك فقال تأخذ
صاعا من زبيب ، الى ان قال ثم تطبخه طبخا رقيقا حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، الى
ان قال في آخر الخبر : وهو شراب لا يتغير إذا بقي ان شاء الله تعالى».
أقول : يمكن الجواب عن هذه الروايات بأنه لا يلزم من
الأمر بطبخه على الثلث
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 5 من الأشربة
المحرمة.
ان يكون ذلك لأجل حليته بعد ان حرم
بالغليان بل يجوز ان يكون لئلا يصير مسكرا بمكثه كما يدل عليه قوله (عليهالسلام) في آخر رواية
إسماعيل بن الفضل : «وهو شراب لا يتغير إذا بقي ان شاء الله تعالى» ويجوز ان يكون
الخاصية والنفع المترتب عليه لا يحصل إلا بطبخه على الوجه المذكور كما ورد مثله في
رواية خليلان بن هشام (1) قال «كتبت الى
ابي الحسن (عليهالسلام) جعلت فداك
عندنا شراب يسمى الميبة نعمد الى السفرجل فنقشره ونلقيه في الماء ثم نعمد الى
العصير فنطبخه على الثلث ثم ندق ذلك السفرجل ونأخذ ماءه ثم نعمد الى ماء هذا الثلث
وهذا السفرجل فنلقي عليه المسك والأفاوي والزعفران والعسل فنطبخه حتى يذهب ثلثاه
ويبقى ثلثه أيحل شربه؟ فكتب لا بأس به ما لم يتغير». فان الطبخ على الثلث هنا انما
هو لما قلناه من حصول الخاصية وتوقف النفع على ذلك لا للتحليل ، فإنه ليس هنا شيء
قد حرم بمجرد الغليان حتى يحتاج في حليته الى ذهاب الثلثين ، ولعله لهذا الوجه
اعرض متأخر وأصحابنا عن هذه الأخبار ولم يلتفتوا إليها وان كانت موهمة للتحريم في
بادئ النظر كما أشار إليه الفاضل الخراساني في الذخيرة ، حيث قال : واعلم ان في
الكافي في باب صفة الشراب الحلال بعض الأخبار الموهمة للتحريم لكن لا دلالة لها
عليه عند التأمل الصحيح فارجع وتدبر. انتهى. لكن ربما يلوح التحريم من بعض ألفاظ
هذه الأخبار مثل قوله : «كيف يطبخ حتى يصير حلالا» وقوله (عليهالسلام) أيضا : «فإذا
كان أيام الصيف وخشيت ان ينش جعلته في تنور مسجور حتى لا ينش» فان النشيش هو صوت
الغليان والظاهر من المحافظة عليه بان لا ينش ليس إلا لخوف تحريمه بالغليان ،
وقوله في موثقته الثانية «حتى يشرب حلالا» إلا انه يمكن ان يقال ان قوله : «كيف
يطبخ حتى يصير حلالا» انما هو من كلام الراوي في سؤاله فلا حجة فيه ، وما ذكر من
الاستناد الى قوله «حتى لا ينش» فان فيه انه بعد ذلك أمر بغليانه حتى يذهب ثلثاه
فهو وان حرم
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من الأشربة المحرمة.
بالنشيش فلا مانع منه لتعقبه بالغليان
الموجب للتحليل بعد ذلك. وحينئذ فلعل المحافظة عليه من النشيش انما هو لغرض آخر لا
لأنه يحرم بعد ذلك ، فإنه وان حرم لا منافاة فيه لانه لم يجوز استعماله وشربه بعد
ذلك وانما أمره بعد ذلك بغلي ذلك الماء الموجب لحرمته الى ان يذهب ثلثاه الموجب
لحله ، وحينئذ فلا فرق في حصول التحريم فيه في وقت النشيش ولا في وقت الغليان
أخيرا ، مع انه يمكن الطعن في هذين الخبرين ايضا من حيث الراوي وهو عمار لتفرده
بروايات الغرائب ونقل الأحكام المخالفة لأصول الشريعة كما طعن عليه في الوافي في
مواضع عديدة ، وكيف كان فالخروج بمثل هاتين الروايتين ـ على ما عرفت فيهما من
المخالفة عن حكم الأصل وعموم الآيات والروايات الواردة بتفسيرها كما عرفت ـ مشكل.
ومما استند اليه شيخنا أبو الحسن فيما قدمناه من كلامه حديث
الزيدين زيد النرسي وزيد الزراد عن الصادق (عليهالسلام) (1) «في الزبيب يدق
ويلقى في القدر ويصب عليه الماء؟ قال حرام حتى يذهب ثلثاه. قلت الزبيب كما هو يلقى
في القدر؟ قال هو كذلك سواء إذا أدت الحلاوة إلى الماء فقد فسد كلما غلى بنفسه أو
بالنار فقد حرم إلا ان يذهب ثلثاه». وقد تقدم ما في هذه الرواية من الطعن في
الراوي والأصل المروي منه هذا الخبر.
وكيف كان فالحكم في ماء الزبيب عندي لا يخلو من توقف
والاحتياط في تجنبه مما لا ينبغي تركه ولا سيما ان ظاهر الكليني (قدسسره) ربما أشعر
بالميل الى العمل بظاهر هذه الأخبار حيث انه عنون الباب بباب صفة الشراب الحلال
وذكر الأخبار المذكورة ، وظاهر المفاتيح الميل الى التحريم هنا حيث قال على اثر
الكلام الذي قدمنا نقله عنه ما هذا لفظه : «نعم ان صب على الزبيب الماء وطبخ بحيث
أدت الحلاوة إلى الماء فيمكن الحاقه بالعصير في التحريم بالغليان كما في الخبر»
انتهى. والله العالم
__________________
(1) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 2 من الأشربة المحرمة.
(المقام الثالث) ـ في ماء الحصرم ، لا ريب في ان مقتضى
الأصل والعمومات من الآيات والروايات المتقدمة هو حل ماء الحصرم وان طبخ ولم يذهب
ثلثاه ، وروايات العصير قد عرفت في الفائدة الأولى اختصاصها بماء العنب خاصة
والحصرم ليس بعنب اتفاقا والأحكام الشرعية تابعة للتسمية العرفية ، وأنت إذا أمعنت
النظر في روايات العصير المطبوخ ـ والتعبير عنه في الأخبار تارة بالعصير مطلقا
الذي قد عرفت انه محمول على عصير العنب وتارة بعصير العنب وتارة بالطلاء الذي قد
عرفت آنفا انه ما طبخ من عصير العنب وتارة بالبختج وهو العصير المطبوخ كما عرفت
ايضا وتارة أتى بشراب يزعم انه على الثلث وتارة إذا كان يخضب الإناء فاشربه المكنى
به عن كونه دبسا وأمثال ذلك ـ وجدت ان الحصرم لا يدخل في شيء من ذلك فان الحصرم
لا يعمل كذلك والمتعارف طبخه قديما وحديثا انما هو عصير العنب لما فيه من الحلاوة
التي يصير بها ذا قوام وغلظ ويشرب وتترتب عليه المنافع المطلوبة منه ، وماء الحصرم
لا يطبخ على حدة وانما يطبخ في اللحم أحيانا كما يدل عليه بعض الاخبار ، وبالجملة
فالأمر في ذلك أظهر من ان يحتاج الى مزيد بيان بعد شهادة عدول الوجدان في جميع
الأزمان ، ومع فرض ان ماء الحصرم ربما يطبخ على حدة فإطلاق الاخبار لا يشمله فإن
الإطلاق انما ينصرف الى الافراد الشائعة المتعارفة الجارية بين الناس دون الفروض
النادرة كما يحمل أحدنا كلام من يخاطبه على ما هو المتعارف الجاري في العادة ، ولو
تكلف حمله على غير المتعارف المعتاد لعنف بين العباد ، وكذا الخطاب الوارد عنهم (عليهمالسلام) يجب حمله على
ما هو المتعارف المتكرر المشهور.
وقد وقفت في هذا المقام على كلام لشيخنا المحدث الصالح
الشيخ عبد الله بن الحاج صالح البحراني (قدسسره) لا يخلو من
نظر واشكال ، حيث قال في جواب سائل يسأله : ما القول في خل العنب إذا طبخ أو لم
يطبخ وفي ماء الحصرم إذا على وفي الزبيب إذا طبخ مع الطعام؟ فكتب ما هذه صورته :
أقول في هذه المسألة ثلاث مسائل ، اما
خل العنب فلا بأس به إذا لم يطبخ
كالحصرم والزبيب اما مع الطبخ ففيها عندي قلقلة واني احتاط في الفتوى والعمل ،
فالاحتياط في اجتناب ذلك للخبر الصحيح «اي عصير مسته النار فهو حرام ما لم يذهب
ثلثاه» والعصير وان كان المشهور إطلاقه على عصير العنب فقط إلا ان إطلاقه في
الاخبار على ما ذكرناه محتمل لورود تفسير العصير في الأخبار بأنه من الكرم والكرم
يطلق على العنب وعلى شجرة ، فإن كان انما يطلق على الأول فلا كلام وان كان يطلق
على الثاني فهذا منه ، فيكون الدليل متشابها فتشمل الشبهة كل ما اتخذ من الكرم من
حصرم وزبيب ونحوهما مع الغليان ، وان كان ظاهر الأصل الإباحة وعدم التحريم إلا ان
في هذا الأصل كلاما والاحتياط أولى ، الى ان قال : وبالجملة فالدليل على التحريم
غير قاطع وكذا التحليل فالاجتناب اولى. انتهى كلامه
أقول : لا يخفى عليك ما فيه من الإجمال بل الاختلال
الناشئ من الاستعجال وعدم إعطاء التأمل حقه في هذا المجال (أما أولا) فلأن الخبر
الصحيح الذي استند اليه تبعا لشيخه الشيخ ابي الحسن المتقدم ذكره قد عرفت ما فيه.
(واما ثانيا) ـ فلان قوله ـ : «وان كان المشهور إطلاقه
على عصير العنب فقط» مما يؤذن بكون مستند هذا الإطلاق انما هو مجرد الشهرة ـ مردود
بما عرفت في الفائدة الاولى من دلالة الأخبار وكلام أهل اللغة على اختصاص العصير
بماء العنب
(واما ثالثا) ـ فان ما ادعاه ـ بعد اعترافه بورود
الأخبار بتفسير العصير بأنه من الكرم من ان الكرم يطلق على العنب وعلى شجره ـ مردود
بأنه قد نص أهل اللغة على ان الكرم هو العنب ، قال في القاموس : والكرم العنب.
وقال الفيومي في المصباح المنير : والكرم وزان فلس : العنب. ومثله في مجمع البحرين
، وفي النهاية الأثيرية قال : وفيه لا تسموا على العنب الكرم فإنما الكرم الرجل
المسلم ، قيل سمى الكرم كرما لان الخمر المتخذة منه تحث السخاء والكرم فاشتقوا له
منه اسما فكره ان تسمى باسم مأخوذ من الكرم وجعل المؤمن أولى به ، يقال رجل كرم اي
كريم وصف بالمصدر كرجل عدل
وضيف ، وقال الزمخشري أراد ان يقرر
ويسدد ما في قوله عزوجل : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ» (1) بطريقة أنيقة
ومسلك لطيف وليس الغرض حقيقة النهي عن تسمية العنب كرما. إلخ ومثله في كتاب
الغريبين للهروي وفي كتاب شمس العلوم : الكرم العنب. فهذه كلمات جملة من أساطين
أهل اللغة متفقة في اختصاص إطلاقه بالعنب ، وحينئذ فلو سلم إطلاقه في بعض المواضع
على الشجر تجوزا فإنه لا يصح ان يترتب عليه حكم شرعي ، ويزيده بيانا موثقة عمار
المروية في الكافي والتهذيب عن الصادق (عليهالسلام) (2) قال : «سألته
عن الكرم متى يحل بيعه؟ قال إذا عقد وصار عقودا». والعقود اسم الحصرم بالنبطية ،
وحيث قد ثبت اختصاص الكرم بالعنب خاصة في المقام ارتفع الاشتراط في قوله : «فان
كان انما يطلق على الأول فلا كلام» وثبت الحكم وهو الحلية في هذه الأشياء وان طبخت
كما لا يخفى على ذوي الأفهام وزالت الشبهة وبطل قوله : «وان كان يطلق على الثاني»
وآل الى الانعدام ، وبالجملة فروايات العصير لما كانت مختصة بالعنب وهذه خارجة عنه
لان الحصرم كما عرفت غير العنب والخل المتخذ من العنب قد خرج عنه إلى حقيقة أخرى
كما في الخمر الذي يصير خلا والعصير الذي يصير خمرا ونحوهما فلا يلحقهما حينئذ حكم
العصير من التحريم بالغليان حتى يحتاج في حليته الى ذهاب ثلثيه.
(ولو قيل) : ان روايات نزاع إبليس لعنه الله لآدم ونوح (عليهماالسلام) في شجر الكرم
واعطائهما له الثلثين منه يعني مما يخرج من هذا الشجر مما يدل على عموم ذلك للعنب
والزبيب والحصرم وخل العنب (قلنا) : ان الحكم وان أجمل في تلك الاخبار كما ذكرت
إلا ان الأخبار المستفيضة الواردة في عصير العنب كما عرفت يحكم بها على ذلك المجمل
، ويؤيده ما في بعض تلك الأخبار وهو موثقة زرارة (3) من قوله بعد
__________________
(1) سورة الحجرات. الآية 13.
(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من بيع الثمار.
(3) ص 128.
نقل القصة في النزاع بين نوح وإبليس :
«فقال أبو جعفر (عليهالسلام) إذا أخذت
عصيرا فاطبخه حتى يذهب الثلثان وكل واشرب حينئذ فذاك نصيب الشيطان». وقوله (عليهالسلام) في رواية
محمد بن مسلم المنقولة من العلل (1) «فمن هنا طاب
الطلاء على الثلث». والطلاء ـ كما عرفت ـ هو المطبوخ من عصير العنب ، وقوله (عليهالسلام) في رواية وهب
بن منبه (2) : «ان لك فيها
شريكا في عصيرها». ولان هذا الفرد هو الذي يتعارف طبخه ويستعمل دائما في الأزمنة
السابقة واللاحقة فهو الذي يتبادر إليه الإطلاق. والله العالم.
وقد أطلنا البحث في هذا المقام وأحطنا بأطراف الكلام لما عرفت من ان المسألة من أهم المهام سيما بعد وقوع الخلاف فيها في هذه الأيام ودخول الشبهة فيها على جملة من الاعلام ، والله الهادي لمن يشاء ، فلنرجع الى ما نحن فيه.
__________________
(1) ص 129.
(2) ص 129.