ج8 - من واجبات القراءة
البحث الثالث
وفيه مسائل:
(الأولى) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان من واجبات القراءة الموالاة فلو قرأ خلالها من غيرها فان كان عمدا فظاهر الشهيد في الذكرى بطلان الصلاة ونقل عن الشيخ في المبسوط انه يستأنف القراءة ولا تبطل الصلاة ، ولو كان ناسيا استأنف القراءة على ما صرح به في الذكرى ، وفي المبسوط انه يبني على ما قرأ أولا ، وفي الدروس تبع الشيخ في استئناف القراءة في صورة العمد ونسب ما اختاره في الذكرى من البطلان إلى لفظ «قيل» مؤذنا بتمريضه وضعفه واما في صورة النسيان فكما في الذكرى من إعادة القراءة ، وبهذا يصير هذا قولا ثالثا في المسألة وهو ظاهر المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد واليه جنح في المدارك أيضا ، وفي البيان كما في الذكرى من الحكم ببطلان الصلاة في صورة العمد ولم يتعرض لحكم الناسي.
أقول : أنت خبير بان الظاهر انه لا دليل لهم على وجوب
الموالاة إلا دعوى ان ذلك هو المفهوم من القراءة ، وزاد بعضهم الاستناد إلى التأسي
فإنه (صلىاللهعليهوآله) وكذا الأئمة (عليهمالسلام) بعده كانوا
يوالون في قراءتهم مع قوله (صلىاللهعليهوآله) (1) «صلوا كما
رأيتموني أصلي». ومعنى الموالاة عندهم هو ان لا يقرأ في خلالها ولا يسكت بحيث يخرج
عن كونه قارئا ، واستثنوا من ذلك الدعاء فإنه جائز. ويشكل ذلك بان الظاهر من العرف
ان نحو الكلمة والكلمتين لا يخل بالموالاة فلو قيد الحكم المذكور في المنع من
القراءة في الأثناء بما يخل بالموالاة عرفا كما قيدوا بذلك في السكوت لكان أظهر.
ثم ان الظاهر عندي ان ما حكم به في الذكرى والبيان من
بطلان الصلاة بالإخلال بالموالاة عمدا لا يخلو من اشكال لعدم الوقوف في المسألة
على نص. وفي الذكرى انما علل ذلك بتحقق المخالفة المنهي عنها ، وحاصله انه منهي عن
تلك القراءة والنهي عن العبادة يوجب الفساد. وفيه ان النهي غير موجود لعدم النص في
المسألة إلا ان يدعى انه مأمور بالموالاة التي هي ـ كما عرفت ـ عبارة عن عدم
القراءة خلالها والأمر بالشيء يستلزم النهى عن ضده الخاص وهو القراءة خلالها.
وتوجه المنع إلى جملة من مقدمات هذا الدليل واضح ، اما الأمر بالموالاة فغير ظاهر
إلا ما عرفت من دعوى انه المفهوم من القراءة ، ومع الإغماض عن ذلك فدعوى فوات
الموالاة بمجرد القراءة ولو بمثل كلمة أو كلمتين
__________________
(1) المغني ج 1 ص 508.
قد عرفت ما فيه ، واما الاستناد إلى
قاعدة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص فقد عرفت ما فيه مما تقدم بيانه
في أثناء مباحث الكتاب زيادة على ما تقدم في المقدمات من كتاب الطهارة ، ومرجعه
إلى عدم ثبوت هذه القاعدة بل قيام النصوص على خلافها فلا ثمرة لها ولا فائدة وان
أطالوا فيها الكلام بإبرام النقض ونقض الإبرام إلا انه عند من يتمسك باخبار أهل
العصمة (عليهمالسلام) لا يصل إلى
محل ولا مقام وبذلك يظهر لك ان ما ذهب اليه الشيخ هو الأقرب في كل من صورتي العمد
والنسيان
قال السيد السند في المدارك بعد قول المصنف «الموالاة في
القراءة شرط في صحتها فلو قرأ خلالها من غيرها استأنف القراءة» ما صورته : اما
اشتراط الموالاة في القراءة فللتأسي بالنبي (صلىاللهعليهوآله) فإنه كان
يوالي في قراءته ، وقال (صلىاللهعليهوآله) (1) «صلوا كما
رأيتموني أصلي».
أقول : لا يخفى ما في هذا الدليل من الوهن لما صرح به هو
في غير مقام من هذا الشرح وغيره من الأصحاب من ان التأسي في ما لا يعلم وجه وجوبه
بدليل من خارج مستحب لا واجب ، وقد تقدم نحو ذلك في مسألة الجهر والإخفات في شرح
قول المصنف «ويجب الجهر بالحمد والسورة. إلخ» حيث نقل ثمة عن الشهيد الاستدلال على
الوجوب بفعل النبي (صلىاللهعليهوآله) والتأسي به
واجب ، فقال في رده : وهو ضعيف جدا فإن التأسي في ما لا يعلم وجهه مستحب لا واجب
كما قرر في محله. وعين ما أورده على الشهيد يرد عليه هنا. وبالجملة فإن هذا الموضع
من جملة المواضع التي اضطرب كلامه فيها في هذا الشرح كما نبهنا عليه في غير مقام
ففي جملة من المواضع يستدل به وفي مواضع اخرى يرد على من استدل به.
نعم يمكن ان يقال ان العبادات لما كانت مبنية على
التوقيف والذي ثبت عن صاحب الشريعة انما هو الموالاة فيقين البراءة من التكليف
الثابت في الذمة بيقين
__________________
(1) المغني ج 1 ص 508.
والخروج عن العهدة لا يحصل إلا بذلك.
واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ من ان عموم
ما دل على جواز قراءة القرآن في أثناء الصلاة يضعف التمسك بذلك ـ ففيه انا لم نقف
بعد الفحص في شيء من الأخبار على ما يدل على هذا العموم وان اشتهر بين الأصحاب
على وجه لا يكاد يوجد له فيه مخالف ، فإنهم جعلوا مما يستثني في الصلاة الدعاء
وقراءة القرآن ، والأول موجود في الأخبار اما الثاني فلم أقف على ما يدل عليه بعد
الفحص والتتبع بل ربما دل بعض الأخبار على خلافه مثل ما رواه الكليني والشيخ في
الموثق عن عبيد بن زرارة (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن ذكر
السورة من الكتاب ندعو بها في الصلاة مثل (قل هو الله أحد) فقال إذا كنت تدعو بها
فلا بأس». ومفهومه حصول البأس مع عدم قصد الدعاء بها.
ثم قال في المدارك : وقال الشيخ في المبسوط يستأنف
القراءة مع العمد ويبنى على السابق مع النسيان. وهو مشكل أيضا لفوات الموالاة
الواجبة مع العمد والنسيان فلا يتحقق الامتثال.
أقول : فيه انه يمكن ان يقال ان مع القول بوجوب الموالاة
فغاية ما يفيده الإخلال بها عمدا بطلان القراءة فمن ثم أوجب الشيخ الإعادة
واستئناف القراءة لا بطلان الصلاة لتوقفه على الدليل ، وقد عرفت مما تقدم في
الكلام على كلام الذكرى انه لا دليل على الابطال. واما حال السهو فان ترك الواجب
سهوا غير مبطل فيبني كما ذكره الشيخ. ولو سكت في أثناء القراءة بما يزيد عن العادة
فلهم فيه تفصيل ، فان كان لانه ارتج عليه وأراد التذكر لم يضر إلا ان يخرج عن كونه
مصليا ، وان سكت متعمدا لا لحاجة حتى خرج عن كونه قارئا أعاد قراءته ولو خرج عن
كونه مصليا بطلت صلاته ، ولو نوى قطع القراءة وسكت فنقل عن الشيخ الحكم بوجوب
إعادة الصلاة حيث قال : «وان
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من القراءة.
نوى ان يقطعها ولم يقطعها بل قرأها
كانت صلاته ماضية ، وان نوى قطعها ولم يقرأ بطلت صلاته» والمشهور الصحة ، وأورد
على الشيخ انه قد ذهب في المبسوط إلى عدم بطلان الصلاة بنية فعل المنافي. واعتذر
عنه في الذكرى بان المبطل هنا نية القطع مع القطع فهو في الحقيقة نية المنافي مع
فعله. ورده في المدارك بأنه غير جيد لأن السكوت بمجرده غير مبطل للصلاة إذا لم
يخرج به عن كونه مصليا.
ثم قال : والأصح ان قطع القراءة بالسكوت غير مبطل لها
سواء حصل معه نية القطع أم لا إلا ان يخرج بالسكوت عن كونه قارئا فتبطل القراءة أو
مصليا فتبطل الصلاة. انتهى. وهو جيد.
وبالجملة فالمسألة لما كانت عارية عن النص فالواجب فيها
الوقوف على جادة الاحتياط وهو في ما ذكره السيد المشار إليه (أفاض الله رواشح
رضوانه عليه) ويعضده ان الأصل في الصلاة الصحة حتى يقوم دليل الابطال. والله
العالم.
(المسألة الثانية) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم)
في حكم التأمين في الصلاة فقيل بتحريمه وبطلان الصلاة به وهو المشهور عندهم حتى
انه نقل الشيخان والمرتضى وابن زهرة والعلامة في النهاية الإجماع عليه ، وقال ابن
بابويه في من لا يحضره الفقيه : ولا يجوز ان يقال بعد فاتحة الكتاب (آمين) لان ذلك
كان يقوله النصارى. ونقل عن ابن الجنيد انه يجوز التأمين عقيب الحمد وغيرها ، ومال
اليه المحقق في المعتبر ونقله في المدارك عن شيخه المعاصر والظاهر انه المحقق
الأردبيلي كما عبر عنه في غير موضع من الكتاب بذلك.
واما الأخبار الواردة في المقام فمنها ـ ما رواه الكليني
والشيخ في الحسن أو الصحيح عن جميل عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «إذا
كنت خلف إمام فقرأ الحمد وفرغ من قراءتها فقل أنت الحمد لله رب العالمين ولا تقل
آمين».
__________________
(1) الوسائل الباب 17 من القراءة.
وعن معاوية بن وهب في الصحيح (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) أقول (آمين)
إذا قال الامام غير المغصوب عليهم ولا الضالين؟ قال هم اليهود والنصارى ، ولم يجب
في هذا».
وعن محمد الحلبي (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) أقول إذا
فرغت من فاتحة الكتاب آمين؟ قال لا». وفي المعتبر (3) نقل هذه
الرواية عن جامع البزنطي عن عبد الكريم عن محمد الحلبي المذكور.
وعن جميل في الصحيح (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن قول الناس
في الصلاة جماعة حين يقرأ فاتحة الكتاب آمين؟ قال ما أحسنها واخفض الصوت بها».
وروى الفضل بن الحسن الطبرسي في كتاب مجمع البيان عن
الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «إذا
قرأت الفاتحة وقد فرغت من قراءتها وأنت في الصلاة فقل الحمد لله رب العالمين».
وقال في كتاب دعائم الإسلام (6) «وروينا عنهم (عليهمالسلام) انهم قالوا
يبتدأ بعد بسم الله الرحمن الرحيم في كل ركعة بفاتحة الكتاب ، إلى ان قال وحرموا
ان يقال بعد قراءة فاتحة الكتاب (آمين) كما يقول العامة ، قال جعفر بن محمد (عليهماالسلام) انما كانت
النصارى تقولها. وعنه عن آبائه (عليهمالسلام) قال قال رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) لا تزال أمتي
بخير وعلى شريعة من دينها حسنة جميلة ما لم يتخطوا القبلة بأقدامهم ولم ينصرفوا
قياما كفعل أهل الكتاب ولم تكن ضجة آمين».
هذا مجموع ما حضرني من اخبار المسألة والذي يدل منها على
القول المشهور ـ وهو المؤيد المنصور ـ صحيحة جميل أو حسنته. وهذا الترديد الذي
نذكره دائما في الأسانيد من حيث اشتمال السند على إبراهيم بن هاشم المعدود حديثه
عند الأكثر في الحسن وعند
__________________
(1 و 2 و 4 و 5) الوسائل الباب 17 من القراءة.
(3) ص 177.
(6) مستدرك الوسائل الباب 13 من القراءة.
جمع من أصحابنا في الصحيح ، وهو
الصحيح على الاصطلاح الغير الصحيح حيث اشتملت على النهي عن قولها وهو حقيقة في
التحريم ، ونحوها رواية الحلبي. أما صحيحة جميل فهي محمولة على التقية (1) ويعضد ذلك
عدوله (عليهالسلام) في صحيحة
معاوية بن وهب عن جواب السؤال إلى ما ذكره من تفسير «غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضّالِّينَ» باليهود
والنصارى.
وقال المحقق في المعتبر : ويمكن ان يقال بالكراهة ويحتج
بما رواه الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن جميل ، ثم ذكر صحيحة جميل الثانية ،
ثم قال : ويطعن في الروايتين الأولتين ـ يعني روايتي الحلبي ـ بأن إحداهما رواية
محمد بن سنان وهو مطعون فيه وليس عبد الكريم في النقل والثقة كابن أبي عمير فتكون
رواية الإذن اولى لسلامة سندها من الطعن ورجحانها ، ثم لو تساوت الروايتان في
الصحة جمع بينهما بالاذن والكراهة توفيقا ، ولأن رواية المنع تحتمل منع المنفرد
والمبيحة تتضمن الجماعة ولا يكون المنع في إحداهما منعا في الأخرى.
ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما أسلفناه ، ويزيده
بيانا ان راوي الرواية المبيحة وهو جميل قد روى المنع أيضا وهي الرواية الاولى من
هذه الروايات المنقولة ولكنه لم ينقلها في كتابه وانما نقل رواية الحلبي المروية
عن الشيخ بالطريق الذي فيه محمد بن سنان وعن جامع البزنطي بالطريق الذي فيه عبد
الكريم وهو عبد الكريم بن عمرو وهو ثقة واقفي فردها بما ذكره ، وحينئذ بناء على ما
ذكرناه من رواية جميل المذكورة الدالة على النهي تكون معتضدة بالروايتين
المذكورتين اللتين قد وجه الطعن إليهما فلا
__________________
(1) في البدائع ج 1 ص 207 «المستحب بعد الفاتحة أن يقول «آمين»
اماما كان أو مقتديا وهو قول عامة العلماء ، وقال بعض العلماء لا يؤتى بالتأمين
أصلا ، وقال مالك يأتي به المقتدي دون الامام والمنفرد. والصحيح قول العامة» وفي
المحلى ج 3 ص 262 «قول آمين يقوله الامام والمنفرد سنة وندبا ويقوله المأموم فرضا».
ترجيح لرواية الترخيص بل الترجيح
لرواية المنع المعتضدة بالروايتين المذكورتين وغيرهما ولا سيما رواية كتاب دعائم
الإسلام لما عرفت فيها من الصراحة ، مضافا ذلك إلى الشهرة بين الأصحاب حتى ادعى
عليه الإجماع جملة منهم كما عرفت ، ومخالفة العامة القائلين بالاستحباب ، مع ان
الرواية المبيحة التي اعتمدها وبنى النزاع في المسألة عليها لا تقبل ما حملها عليه
من الكراهة فإن استحسانها على سبيل التعجب ينفي الكراهة بل أقل مراتب الاستحسان
الاستحباب فكيف يمكن حملها على الجواز على كراهة كما ذهب اليه؟ بل المحمل الظاهر
لها انما هو التقية ، ويشهد له ما عرفت من صحيحة معاوية بن وهب.
قال شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب
الحبل المتين : وقد تضمن الحديث السابع عشر عدم مشروعية قول «آمين» في الصلاة فإن
عدوله (عليهالسلام) عن جواب
السؤال عن قولها إلى تفسير المغضوب عليهم ولا الضالين يعطى التقية وان بعض
المخالفين كان حاضرا في المجلس فاوهمه (عليهالسلام) ان سؤال
معاوية انما هو عن المراد بالمغضوب عليهم ولا الضالين ، وربما حمل قوله (عليهالسلام) «هم اليهود
والنصارى» على التشنيع على المخالفين والمراد ان الذين يقولون (آمين) في الصلاة هم
يهود ونصارى اي مندرجون في عدادهم ومنخرطون في الحقيقة في سلكهم. انتهى. أقول لا
يخفى ما في قوله : «وربما حمل قوله (عليهالسلام). إلخ» من
اللطف والحسن في المقام.
وقال السيد السند في المدارك : احتج الشيخ في الخلاف على
التحريم والإبطال بإجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون في ان ذلك مبطل للصلاة ، وبقول
النبي (صلىاللهعليهوآله) (1) «ان هذه الصلاة
لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين» وقول «آمين». من كلامهم لأنها ليست بقرآن ولا
دعاء وانما هي اسم للدعاء والاسم غير المسمى ، وبما رواه في الحسن عن جميل عن أبي
عبد الله (عليهالسلام) ، ثم نقل
رواية جميل وهي الاولى من الروايات المتقدمة ثم نقل رواية الحلبي بعدها ، ثم قال :
وفي كل من هذه
__________________
(1) المغني ج 1 ص 548.
الأدلة نظر ، اما الإجماع فقد تقدم
الكلام فيه مرارا ، واما ان «آمين» من كلام الآدميين لأنها اسم للدعاء وليست بدعاء
فلتوجه المنع إلى ذلك بل الظاهر انها دعاء كقولك «اللهم استجب» وقد صرح بذلك
المحقق نجم الأئمة الرضي (رضياللهعنه) فقال : وليس ما قال بعضهم ـ من ان «صه»
مثلا اسم للفظ (اسكت) الذي هو دال على معنى الفعل فهو علم للفظ الفعل لا لمعناه ـ بشيء
لأن العربي القح يقول «صه» مع انه ربما لا يخطر في باله لفظ «اسكت» وربما لم يسمعه
أصلا ، ولو قلت اسم لاصمت أو امتنع أو اكفف عن الكلام أو غير ذلك مما يؤدي هذا
المعنى لصح فعلمنا ان المقصود المعنى لا اللفظ. واما الروايتان فمع سلامة سندهما
انما تضمنتا النهي عن هذا اللفظ فيكون محرما ولا يلزم كون ذلك مبطلا للصلاة ، لأن
النهي انما يفسد العبادة إذا توجه إليها أو إلى جزء منها أو شرط لها وهو هنا انما
توجه إلى أمر خارج عن الصلاة. ثم نقل احتجاج ابن زهرة على التحريم والابطال ثم نقل
كلام المحقق في المعتبر ورده. إلى ان قال وقد ظهر من ذلك كله ان الأجود التحريم
دون الابطال وان كان القول بالكراهة محتملا لقصور الروايتين عن إثبات التحريم من حيث
السند وكثرة استعمال النهي في الكراهة خصوصا مع مقابلته بأمر الندب. انتهى. أقول :
وبما اختاره في المسألة من التحريم دون الابطال يصير في المسألة أقوال ثلاثة
بانضمام هذا القول إلى القولين المتقدمين
ثم ان كلامه (قدسسره) لا يخلو عندي
من نظر (أما أولا) فإن طعنه في الإجماع بما أشار اليه وان كان حقا ولكن لا يخفى
على من لاحظ كتابه كثرة تمسكه بالإجماع في غير مقام وذبه عنه بجدة وجهده في جملة
من الأحكام وهو من جملة المواضع التي اضطرب فيها كلامه في هذا الكتاب.
و (اما ثانيا) فما ذكره ـ من توجه المنع إلى ان «آمين»
من كلام الآدميين مستندا إلى ما ذكره المحقق المذكور ـ فان فيه (أولا) انه مع
تسليمه انما يتم لو كان معنى (آمين) منحصرا في (اللهم استجب) لفظا أو معنى وليس
كذلك بل لها معان أخر لا يتم على
تقديرها ما ذكره ، قال في القاموس :
آمين بالمد والقصر وقد يشدد الممدود ويمال أيضا عن الواحدي في البسيط اسم من أسماء
الله أو معناه «اللهم استجب أو كذلك فليكن أو كذلك فافعل» انتهى. وقال ابن الأثير
: هو اسم مبني على الفتح ومعناه «اللهم استجب لي» وقيل معناه (كذلك فليكن) يعني
الدعاء. وقال في المغرب معناه «استجب» وقال صاحب الكشاف انه صوت سمي به الفعل الذي
هو «استجب» كما ان «رويدا وحيهل وهلم» أصوات سميت بها الأفعال التي هي «أمهل وأسرع
واقبل» انتهى. وقال في كتاب المصباح المنير : وآمين بالقصر في لغة الحجاز والمد
إشباع بدليل انه لا يوجد في العربية كلمة على «فاعيل» ومعناه «اللهم استجب» وقال أبو
حاتم معناه (كذلك يكون) وعن الحسن البصري انه اسم من أسماء الله تعالى. أقول : هذه
جملة من كلمات أساطين اللغة وأرباب العربية الذين عليهم المعول وهي متفقة في ان
أحد معانيه «اللهم استجب أو استجب» أو غيرهما من الألفاظ المذكورة التي ليست بدعاء
البتة وترجيح كلام المحقق المشار اليه على كلامهم محل نظر ، على ان اللازم ـ مما
ذكره المحقق المذكور لو تم ـ عدم وجود هذا القسم الذي هو اسم الفعل بالكلية فإن
كلامه هذا جار في جميع أسماء الأفعال التي وضعت بإزائها ، فهي حينئذ بمقتضى ما
ذكره من قبيل الألفاظ المترادفة مع انه لا خلاف بين أهل العربية في ان اسم الفعل
قسم من الأقسام المذكورة في كلامهم والمبحوث عنها في كتبهم. و (ثانيا) ان الظاهر
ان هذه الأخبار التي وردت بالمنع والنهي عن التأمين لا وجه لتصريحها بذلك إلا من
حيث كونه كلاما أجنبيا خارجا عن الصلاة مبطلا لها متى وقع فيها وإلا فالنهي عنه ـ مع
كونه دعاء كما ادعاه واستفاضة الأخبار بجواز الدعاء في الصلاة بل استحبابه ـ مما
لا يعقل له وجه.
و (اما ثالثا) فما طعن به على رواية جميل بقوله أولا «فمع
سلامة سندها» وقوله ثانيا «لقصور الروايتين عن إثبات التحريم من حيث السند» وهذا
الطعن انما هو من حيث اشتمال سندها على إبراهيم بن هاشم ، وهو مناف لما صرح به في
غير موضع من كتابه من
الاعتماد على روايته وعدها في الصحيح
في جملة من المواضع ، وهذا من جملة المواضع التي اضطرب فيها كلامه أيضا كما تقدمت
الإشارة إليه في غير موضع. وبذلك يظهر لك ان القول المشهور هو المؤيد المنصور.
ثم انه نقل في المدارك عن المحقق في المعتبر والعلامة في
جملة من كتبه انهما استدلا على ان التأمين مبطل للصلاة بأن معناه «اللهم استجب»
ولو نطق بذلك لبطلت صلاته فكذا ما قام مقامه ، ثم رده بأنه ضعيف جدا فان الدعاء في
الصلاة جائز بإجماع العلماء وهذا دعاء عام في طلب استجابة جميع ما يدعى به فلا وجه
للمنع منه. انتهى.
أقول : ما ذكره (قدسسره) جيد وفيه
دلالة على صحة ما ألزمناه به في ما اختاره من التحريم دون الابطال مع قوله بأنه
دعاء لا اسم لما يدل على الدعاء ، فإنه لا يعقل لتحريمه وجه مع كونه دعاء كما
عرفت.
(المسألة الثالثة) ـ المشهور في كلام المتقدمين ـ وبه
صرح الشيخان والصدوق والمرتضى (رضوان الله عليهم) ـ ان «الضحى» و «ألم نشرح» وكذا «الفيل»
و «لإيلاف» سورة واحدة ، والمشهور بين المتأخرين ـ ومنهم المحقق وربما كان أولهم ـ
خلافه.
قال في المعتبر بعد البحث في المسألة : ولقائل أن يقول
لا نسلم أنهما سورة واحدة بل لم لا يكونان سورتين وان لزم قراءتهما في الركعة
الواحدة على ما ادعوه؟ ونطالب بالدلالة على كونهما سورة واحدة ، وليس قراءتهما في
الركعة الواحدة دالة على ذلك وقد تضمنت رواية المفضل تسميتهما سورتين ، ونحن قد
بينا ان الجمع بين السورتين في الفريضة مكروه فتستثنيان من الكراهة. انتهى.
وقال في المدارك ـ بعد قول المصنف : روى أصحابنا ان «الضحى»
و «ألم نشرح» سورة واحدة وكذا «الفيل» و «لإيلاف» فلا يجوز إفراد إحداهما عن
صاحبتها في كل ركعة ولا يفتقر إلى البسملة بينهما على الأظهر ـ ما صورته : ما ذكره
المصنف من رواية الأصحاب ان «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة وكذا «الفيل» و «الإيلاف»
لم أقف عليه في شيء من
الأصول ولا نقله ناقل في كتب
الاستدلال. والذي وقفت عليه في ذلك روايتان ـ إحداهما ـ رواية زيد الشحام في الصحيح
(1) قال : «صلى
بنا أبو عبد الله (عليهالسلام) فقرأ «الضحى»
و «ألم نشرح» في ركعة». والأخرى رواية المفضل (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليهالسلام) يقول لا تجمع
بين سورتين في ركعة واحدة إلا «الضحى» و «ألم نشرح» وسورة «الفيل» و «لإيلاف». ولا
دلالة لهما على ما ذكروه من الاتحاد بل ولا على وجوب قراءتهما في الركعة ، أما
الأولى فظاهر لأنها تضمنت انه (عليهالسلام) قرأهما في
الركعة والتأسي في ما لا يعلم وجوبه مستحب لا واجب. واما الثانية فلأنها مع ضعف
سندها انما تضمنت استثناء هذه السورة من النهي عن الجمع بين السورتين في الركعة
والنهي هنا للكراهة على ما بيناه في ما سبق فيكون الجمع بين هذه السور مستثنى من
الكراهة. والذي ينبغي القطع بكونهما سورتين لاثباتهما في المصاحف كذلك كغيرهما من
السور فتجب البسملة بينهما ان وجب قراءتهما معا ، وهو ظاهر المصنف في المعتبر فإنه
قال بعد ان منع دلالة الروايتين على وجوب قراءتهما في الركعة : ولقائل ، ثم ساق
كلامه الذي ذكرناه.
أقول : الظاهر ان منشأ الشبهة في هذه المسألة على
المتأخرين (أولا) هو انه لما كان نظرهم غالبا مقصورا على الكتب الأربعة المشهورة
وهي خالية من هذه الرواية التي أشار إليها المحقق حصل لهم الإشكال في ذلك. و (ثانيا)
وجود البسملة في كل من السور المذكورة في المصاحف. و (ثالثا) حكمهم بكراهة القران
دون تحريمه كما سيظهر لك من كلام صاحبي المعتبر والمدارك. والجميع محل بحث ونظر
كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.
وتحقيق المقام بما لا يحوم حوله النقض والإبرام بتوفيق
الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم الصلاة والسلام) انك قد عرفت مما قدمنا في
غير موضع ان كثيرا من
__________________
(1) الوسائل الباب 10 من القراءة.
(2) الوسائل الباب 10 من القراءة.
الأحكام التي يذكرها المتقدمون وهذه
الكتب المشار إليها عارية عن أدلتها فيعترض عليهم المتأخرون بعدم وجود الدليل
وربما تكلفوا لهم دليلا والحال ان أدلتها موجودة في مواضع أخر من كتب الأخبار ،
ومنها هذه المسألة فإن دليلها موجود في مواضع :
منها ـ كتاب الفقه الرضوي الذي قد أشرنا سابقا إلى تفرده
بأمثال ذلك وبه صرح شيخنا المجلسي وولده (عطر الله مرقديهما) حيث قال (عليهالسلام) (1) «ولا تقرأ في
صلاة الفريضة «والضحى» و «ألم نشرح» و «ألم تر كيف» و «لإيلاف» ، لانه روى ان «والضحى»
و «ألم نشرح» سورة واحدة وكذلك «ألم تر كيف» و «لإيلاف» سورة واحدة. الى ان قال
فإن قرأت بعض هذه السور الأربع فاقرأ «والضحى» و «ألم نشرح» ولا تفصل بينهما ،
وكذلك «ألم تر كيف» و «لإيلاف». انتهى.
ومنها ـ ما رواه الصدوق في كتاب الهداية مرسلا عن الصادق
(عليهالسلام) (2) في حديث قال
فيه «وموسع عليك أي سورة قرأت في فرائضك إلا أربع وهي «والضحى» «وأ لم نشرح» في
ركعة لأنهما جميعا سورة واحدة و «لإيلاف» و «ألم تر كيف» في ركعة لأنهما جميعا
سورة واحدة ، ولا تنفرد بواحدة من هذه الأربع سور في ركعة فريضة». وبهذه الرواية
أفتى في الفقيه من غير اسناد إلى الرواية كما هي عادته غالبا من الإفتاء بمضامين
الأخبار.
ومنها ـ ما نقله شيخنا أمين الإسلام الطبرسي في مجمع
البيان (3) قال : «روى
أصحابنا ان «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة وكذا سورة «ألم تر كيف» و «لإيلاف
قريش». قال وروى العياشي عن أبي العباس عن أحدهما (عليهماالسلام) قال : «ألم
تر كيف فعل ربك» و «لإيلاف قريش» سورة واحدة». قال : «وروى ان أبي بن كعب لم يفصل
بينهما في مصحفه». انتهى.
__________________
(1) ص 9.
(2) البحار ج 85 الصلاة ص 45 ح 34.
(3) الوسائل الباب 10 من القراءة.
وهذه الأخبار هي مستند شهرة الحكم بين المتقدمين
بالاتحاد ، ويؤيدها صحيحة زيد الشحام ورواية المفضل المتقدمتين بنقل صاحب المدارك
، ورواية المفضل هذه رواها في المعتبر من جامع احمد بن محمد بن أبي نصر وعليهما
اقتصر في المعتبر أيضا ، وهاتان الروايتان ليستا بالدليل في المسألة على الحكم
المذكور كما توهماه حتى انه بتأويلهما يسقط الدليل في المقام ، بل الدليل الواضح
انما هو ما نقلناه من الأخبار وهذان انما خرجا بناء على ما تضمنته هذه الأخبار من
الاتحاد وإلا فهما في حد ذاتهما غير صريحين في ذلك.
ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به الشيخ في الاستبصار من ان
هاتين السورتين سورة واحدة عند آل محمد (عليهمالسلام) وينبغي ان يقرأهما
موضعا واحدا ولا يفصل بينهما ب (بسم الله الرحمن الرحيم) في الفرائض. وقال في
التهذيب : وعندنا انه لا يجوز قراءة هاتين السورتين إلا في ركعة واحدة. وكلامه في
الاستبصار مشعر باتفاق الروايات على الاتحاد وانه مذهب أهل البيت (عليهمالسلام) وكلامه في
التهذيب مشعر باتفاق الأصحاب على الحكم المذكور.
ثم ان من روايات المسألة مما لم يقف عليه صاحبا المعتبر
والمدارك زيادة على الخبرين المنقولين في كلامهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن زيد
الشحام (1) قال : «صلى
بنا أبو عبد الله (عليهالسلام) فقرأ بنا «بالضحى»
و «ألم نشرح». وحملها الشيخ على انه قرأهما في ركعة واحدة كما في روايته المتقدمة.
وروى الشيخ في الصحيح عن زيد الشحام (2) قال : «صلى
بنا أبو عبد الله (عليهالسلام) فقرأ في
الاولى «والضحى» وفي الثانية «ألم نشرح لك صدرك». وحملها في التهذيبين على
قراءتهما في النافلة.
والأقرب عندي حمل الرواية الثانية على جواز التبعيض
فيكون سبيلها سبيل ما دل على التبعيض في السورة كغيرها من الأخبار فبعين ما تحمل
عليه تلك الأخبار عند من
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 10 من القراءة.
أوجب السورة كاملة تحمل عليه هذه
الرواية. وهذان الخبران كانا اولى بالاستدلال لصاحبي المعتبر والمدارك لو اطلعا
عليهما.
وبالجملة فالظاهر من الأخبار هو الاتحاد كما عليه متقدمو
الأصحاب ويؤيده ارتباط المعنى بين السورتين. بقي الكلام في توسط البسملة بينهما في
المصاحف وهذا من أعظم الشبهة في ذهاب المتأخرين إلى خلاف ما عليه المتقدمون.
وفيه (أولا) انك قد عرفت من عبارة كتاب الفقه عدم الفصل
بينهما بالبسملة متى أراد قراءتهما معا ، وما نقله في مجمع البيان عن أبي بن كعب
من عدم إثباته البسملة في مصحفه.
و (ثانيا) ان الاستدلال بإثباتها في المصاحف انما يتم لو
كان هذا القرآن الموجود بأيدينا جمع الامام (عليهالسلام) وليس كذلك
لاتفاق الأخبار وكلمة الأصحاب وغيرهم على انه جمع الخلفاء الثلاثة (1) واما القرآن
الذي جمعه (عليهالسلام) فلم يخرج ولم
يظهر
__________________
(1) أورد المجلسي في الباب 7 ج 19 من البحار الأخبار الواردة
في هذا الموضوع وقد وردت روايات من طريق العامة تتضمن ان جمع القرآن كان بعد النبي
«ص» وان المتصدي لذلك هو زيد بن ثابت بأمر أبي بكر ، أو هو أبو بكر نفسه وانما طلب
من زيد ان ينظر في ما جمعه من الكتب ، أو هو زيد وعمر على اختلاف بين الروايات في
ذلك ، وقد أوردها في كنز العمال ج 2 ص 361 من الطبعة الثانية ، وهناك روايات تدل
على جمعه في زمن النبي «ص» كما في منتخب كنز العمال ج 2 ص 48 و 52 وصحيح البخاري ج
6 ص 102 والإتقان ج 1 ص 124 ، وقد أورد آية الله الأستاذ الخوئي أدام الله ظله
الطائفتين من الروايات في البيان في بحث صيانة القرآن من التحريف من ص 136 إلى 181
في الشبهة الثانية من شبه القائلين بالتحريف ص 156 التي ملخصها ان كيفية جمع
القرآن مستلزمة في العادة لوقوع التحريف ، وقد حقق البحث تحقيقا وافيا واثبت عدم
صلوح هذه الروايات ـ من جهة كونها اخبار آحاد ومن جهة تناقضها في نفسها ومن جهة
معارضاتها العديدة ـ لإثبات ذلك وان القرآن بمقتضى الأدلة التي ذكرها كان مجموعا
في زمن النبي «ص» فلا مجال لدعوى التحريف من هذه الجهة.
لأحد حتى يقوم القائم (عليهالسلام) وتقرير
الأئمة (عليهمالسلام) على هذا
القرآن أعم من ذلك لما تقدم في القراءات السبع.
وحينئذ إذا دلت الأخبار على انهما سورة واحدة كما عرفت
وانهما تقرءان معا في ركعة واحدة مع تحريم القران بين السورتين كما قدمنا تحقيقه
وأوسعنا مضيقة فقد علم من ذلك ان وجود البسملة في المصاحف ليس بحجة ـ ويؤيده خلو
مصحف أبي منها في هذين الموضعين دون غيرهما (1) ـ وان قراءتهما في ركعة واحدة انما
هو من حيث الاتحاد إذ مع التعدد لا يجوز إلا على تقدير جواز القران وقد أثبتنا
تحريمه ، وهذا خلف.
واما ما استند اليه في المعتبر من ان رواية المفضل قد
تضمنت انهما سورتان ففيه ـ مع الإغماض عن المناقشة في السند بناء على اصطلاحهم ـ انه
قد أجيب عنها بحمل الاستثناء على كونه منفصلا لا متصلا أو الحمل على التقية ،
والأظهر عندي ان ذلك انما خرج مخرج التجوز والمسامحة في التعبير من حيث انهما
بإثبات البسملة في المصاحف تسميان سورتين ، ويؤيد ذلك ما في عبارة الصدوق في
الفقيه ورواية كتاب الهداية حيث أطلق على كل منهما أنهما سورة مع تصريحه بكونهما
سورة واحدة ، وحاصله انهما سورتان باعتبار الرسم في القرآن والشهرة على اللسان
وإلا فهما في التحقيق سورة واحدة وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور وانه المؤيد
المنصور. والله العالم.
(المسألة الرابعة) ـ المشهور بين الأصحاب جواز العدول من
سورة إلى أخرى
__________________
(1) قال الالوسى في روح المعاني ج 30 ص 238 في سورة «لإيلاف» «قالت
طائفة انها وما قبلها سورة واحدة واحتجوا عليه بان أبي بن كعب لم يفصل بينهما في
مصحفه بالبسملة ، ثم ذكر جمعا اثبتوا الفصل في مصحف ابى والمثبت مقدم على النافي»
وفيه ص 165 في سورة «ألم نشرح» «هي شديدة الاتصال بسورة الضحى حتى روى عن طاوس
وعمر بن عبد العزيز انهما يقولان هما سورة واحدة ويقرءانها في ركعة واحدة ولم
يفصلا بينهما بالبسملة وعلى ذلك الشيعة كما حكاه الطبرسي».
ما لم يبلغ نصفها أو يتجاوز نصفها على
الخلاف في ذلك وانه يحرم بعد بلوغ الحد المذكور إلا في سورتي التوحيد والجحد فإنه
يحرم العدول عنهما بمجرد الشروع فيهما أو يكره على الخلاف إلا إلى الجمعة
والمنافقين في يوم الجمعة فإنه يعدل منهما إلى السورتين المذكورتين ما لم يبلغ
النصف أو يتجاوزه على الأشهر.
وتفصيل هذه الجملة يقع في مقامات ثلاثة إلا ان الواجب
أولا نقل الأخبار المتعلقة بالمسألة فأقول :
الأول ـ ما رواه الكليني والشيخ عن عمرو بن أبي نصر (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) الرجل يقوم
في الصلاة فيريد ان يقرأ سورة فيقرأ قل هو الله أحد وقل يا ايها الكافرون؟ فقال
يرجع من كل سورة إلا من قل هو الله أحد وقل يا ايها الكافرون».
والثاني ـ ما رواه الشيخ عن الحلبي في الصحيح (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل قرأ في
الغداة سورة قل هو الله أحد؟ قال لا بأس ، ومن افتتح بسورة ثم بدا له ان يرجع في
سورة غيرها فلا بأس إلا قل هو الله أحد فلا يرجع منها إلى غيرها ، وكذلك قل يا
ايها الكافرون».
والثالث ـ عن عبيد بن زرارة في الموثق (3) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل أراد
ان يقرأ في سورة فأخذ في أخرى؟ قال فليرجع إلى السورة الأخرى إلا ان يقرأ بقل هو
الله أحد. قلت رجل صلى الجمعة فأراد أن يقرأ سورة الجمعة فقرأ قل هو الله أحد؟ قال
يعود إلى سورة الجمعة».
الرابع ـ عن عبيد بن زرارة في الموثق أيضا عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) (4) «في الرجل يريد
ان يقرأ السورة فيقرأ غيرها فقال له ان يرجع ما بينه وبين ان يقرأ ثلثيها».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 35 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 69 من القراءة.
(4) الوسائل الباب 36 من القراءة.
الخامس ـ ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن مسلم
عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) «في الرجل يريد
ان يقرأ سورة الجمعة في الجمعة فيقرأ قل هو الله أحد؟ قال يرجع إلى سورة الجمعة». ورواه
الشيخ عن احمد بن محمد بن أبي نصر في الصحيح مثله (2)
السادس ـ ما رواه الشيخ عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد
الله (عليهالسلام) (3) قال : «إذا
افتتحت صلاتك بقل هو الله أحد وأنت تريد أن تقرأ بغيرها فامض فيها ولا ترجع إلا ان
تكون في يوم الجمعة فإنك ترجع إلى الجمعة والمنافقين منها».
السابع ـ ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب
الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليهالسلام) (4) ورواه علي بن
جعفر في كتاب المسائل أيضا عن أخيه (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
عن رجل أراد سورة فقرأ غيرها هل يصلح له ان يقرأ نصفها ثم يرجع إلى السورة التي
أراد؟ قال نعم ما لم تكن قل هو الله أحد وقل يا ايها الكافرون. وسألته عن القراءة
في الجمعة بما يقرأ؟ قال بسورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون وان أخذت في غيرها وان
كان قل هو الله أحد فاقطعها من أولها وارجع إليها». وعبارة كتاب المسائل في السؤال
الأول هكذا «هل يصلح له بعد ان يقرأ نصفها ان يرجع. إلى آخر ما هنا».
الثامن ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبيد الله بن علي
الحلبي وأبي الصباح الكناني وأبي بصير كلهم عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (6) «في الرجل يقرأ
في المكتوبة بنصف السورة ثم ينسى فيأخذ في أخرى حتى يفرغ منها ثم يذكر قبل ان يركع؟
قال يركع ولا يضره».
التاسع ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن صباح بن صبيح (7) قال : «قلت
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 69 من القراءة.
(4 و 5) الوسائل الباب 35 و 69 من القراءة إلا انه لم ينقل
السؤال الثاني من كتابه.
(6) الوسائل الباب 36 من القراءة.
(7) الوسائل الباب 72 من القراءة.
لأبي عبد الله (عليهالسلام) رجل أراد ان
يصلي الجمعة فقرأ بقل هو الله أحد؟ قال يتمها ركعتين ثم يستأنف». ورواه الكليني
مرسلا (1).
العاشر ـ ما رواه الشهيد في الذكرى نقلا من كتاب نوادر
البزنطي عن أبي العباس (2) «في الرجل يريد
ان يقرأ السورة فيقرأ في أخرى؟ قال يرجع إلى التي يريد وان بلغ النصف». وهذه
الرواية نقلها في البحار (3) عن الذكرى
أيضا إلا ان فيها عن أبي العباس عن أبي عبد الله (عليهالسلام) «في الرجل.
إلى آخره» والذي وقفنا عليه من نسخ الذكرى التي عندنا هو ما نقلناه.
الحادي عشر ـ ما ذكره (عليهالسلام) في كتاب
الفقه الرضوي (4) قال : «وقال
العالم لا تجمع بين السورتين في الفريضة. وسئل عن رجل يقرأ في المكتوبة نصف السورة
ثم ينسى فيأخذ في الأخرى حتى يفرغ منها ثم يذكر قبل ان يركع؟ قال لا بأس به. وتقرأ
في صلواتك كلها يوم الجمعة وليلة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين وسبح اسم ربك
الأعلى وان نسيتها أو واحدة منها فلا اعادة عليك فان ذكرتها من قبل ان تقرأ نصف
سورة فارجع إلى سورة الجمعة وان لم تذكرها إلا بعد ما قرأت نصف سورة فامض في صلاتك».
الثاني عشر ـ ما رواه علي بن جعفر في كتاب المسائل عن
أخيه (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
عن الرجل يفتتح السورة فيقرأ بعضها ثم يخطئ فيأخذ في غيرها حتى يختمها ثم يعلم انه
قد أخطأ هل له ان يرجع في الذي افتتح وان كان قد ركع وسجد؟ قال ان كان لم يركع
فليرجع ان أحب وان ركع فليمض».
الثالث عشر ـ ما رواه في كتاب دعائم الإسلام (6) قال : «وروينا
عن جعفر بن
__________________
(1) الوسائل الباب 72 من القراءة.
(2) الوسائل الباب 36 من القراءة.
(3) ج 85 الصلاة ص 61 ح 49.
(4) ص 11 و 12.
(5) الوسائل الباب 28 من القراءة.
(6) مستدرك الوسائل الباب 51 من القراءة.
محمد (عليهماالسلام) انه قال : من
بدأ بالقراءة في الصلاة بسورة ثم رأى ان يتركها ويأخذ في غيرها فله ذلك ما لم يأخذ
في نصف السورة الأخرى إلا ان يكون بدأ بقل هو الله أحد فإنه لا يقطعها ، وكذلك
سورة الجمعة وسورة المنافقين في الجمعة لا يقطعهما إلى غيرهما ، وان بدأ بقل هو
الله أحد فقطعها ورجع إلى سورة الجمعة أو سورة المنافقين في صلاة الجمعة يجزئه
خاصة».
هذا ما حضرني من روايات المسألة ، والكلام في هذه
الأخبار وبيان ما اشتملت عليه من الأحكام يقع في مقامات ثلاثة :
(الأول) ـ في جواز العدول من سورة إلى أخرى ما عدا سورتي
الجحد والتوحيد ، فقيل بجواز العدول في الصورة المذكورة ما لم يبلغ النصف وبه قال
ابن إدريس والشهيد في الذكرى والدروس وابن بابويه في الفقيه والجعفي وابن الجنيد
وأسنده في الذكرى إلى الأكثر. وقيل ما لم يتجاوز النصف وظاهره جواز العدول وان بلغ
النصف وهو قول الشيخين والفاضلين في المعتبر والمنتهى وغيره من كتبه وعليه جملة من
الأصحاب بل قال في الذخيرة انه المشهور ومثله شيخنا المجلسي في البحار قال بأنه
المشهور. واعترف جملة من الأصحاب : منهم ـ الشهيدان في الذكرى والروض وكذا من تأخر
عنهما بعدم وجود النص على شيء من هذين القولين ، قال شيخنا المجلسي (عطر الله
مرقده) في كتاب البحار : واعترف جماعة من الأصحاب بأن التحديد بمجاوزة النصف أو
بلوغه غير موجود في النصوص وهو كذلك. انتهى.
وأنت خبير بان ما عدا روايتي كتاب الفقه وكتاب دعائم
الإسلام من الروايات المذكورة لا دلالة في شيء منها على شيء من القولين بالكلية
حسبما ذكره الأصحاب المشار إليهم آنفا وهذه هي الأخبار التي وصل نظرهم إليها من
الكتب الأربعة وغيرها ، واما عبارة كتاب الفقه فإنها دالة على القول الأول. والعجب
هنا من شيخنا المجلسي (قدسسره) انه مع تصديه
في كتاب البحار لنقل عبارات هذا الكتاب وشرحها
كلمة كلمة كيف لم ينبه على ذلك؟ بل
غاية ما ذكره هنا ان قال والجزء الأخير يدل على اعتبار مجاوزة النصف في الجملة.
انتهى. وأراد بالجزء الأخير آخر العبارة التي ذكرناها وهي كما ترى تدل على
الاعتبار ببلوغ النصف لا بمجاوزته حيث انه (عليهالسلام) قال «ان
ذكرتها من قبل ان تقرأ نصف سورة فارجع وان لم تذكر إلا بعد ما قرأت النصف فامض»
وهو صريح في ان المدار في جواز الرجوع وعدمه على بلوغ النصف وعدمه فان بلغه مضى في
صلاته وإلا رجع. والصدوق الذي قد نسب اليه القول ببلوغ النصف انما استفيد ذلك من
عبارته في الفقيه بهذه العبارة وان جعلها في الظهر خاصة ورتب عليها وجوب السورة في
الظهر حيث قال : «ان نسيتهما ـ يعني سورة الجمعة والمنافقين ـ أو واحدة منهما في
صلاة الظهر وقرأت غيرهما ثم ذكرت فارجع إلى سورة الجمعة والمنافقين ما لم تقرأ نصف
السورة فإن قرأت نصف السورة فتمم السورة واجعلها ركعتين نافلة وسلم فيهما وأعد
صلاتك» ومرجع العبارتين الى معنى واحد وهو الاعتبار ببلوغ النصف وعدمه. واما عبارة
كتاب دعائم الإسلام فهي صريحة في القول الثاني حيث رتب جواز الرجوع على عدم الدخول
في النصف الآخر من السورة التي قرأها فلو دخل فيه مضى وهذا معنى ما عبروا به من
تجاوز النصف.
بقي الكلام في الاعتماد على الكتابين المذكورين ، اما
كتاب الفقه فقد تقدم الكلام فيه غير مرة وانه باعتماد الصدوقين عليه وافتائهما
بعباراته لا يقصر عن غيره من كتب الأخبار ، وقد نبهنا في غير موضع على ان كثيرا من
الأحكام التي ذكرها المتقدمون ولم يصل دليلها إلى المتأخرين فاعترضوا عليهم بعدم
وجود الدليل قد وجدنا أدلتها في هذا الكتاب ، وهذا منها فإن عبارة الصدوق هنا كما
ترى موافقة لعبارة الكتاب وان كان انما رتبها على الظهر خاصة بناء على مذهبه من
وجوب السورتين فيها. واما كتاب دعائم الإسلام فاخباره صالحة للتأييد البتة والغرض
هنا التنبيه على ما وصل إلينا من اخبار المسألة. والعجب هنا أيضا من شيخنا المجلسي
مع تصديه لنقل اخبار الكتاب المذكور
والبحث فيها وبيانها وإيضاحها أغمض
النظر عن هذه العبارة ولم يتكلم فيها ولو بالإشارة وظاهره ـ كما عرفت من كلامه
المنقول آنفا ـ الجمود على ما ذكره جملة ممن قدمنا نقل ذلك عنه وعنهم من عدم وجود
نص على شيء من ذينك القولين.
إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما دلت عليه عبارة كتاب الفقه
وكذا عبارة الصدوق معارض بما دلت عليه الرواية السابعة من حكمه (عليهالسلام) بان من أراد
قراءة سورة فقرأ غيرها فإنه يجوز له الرجوع إلى التي أرادها أولا وان قرأ نصف
السورة التي شرع فيها وكذا الرواية العاشرة والرواية الرابعة ، وفي هذه الرواية رد
أيضا للقول بتجاوز النصف فان ما قبل الثلثين كما يشمل بلوغ النصف يشمل بلوغ ما زاد
على النصف إلى ان يبلغ الثلثين. ويدل على جواز الرجوع مطلقا في غير ما استثنى
إطلاق الرواية الاولى والثانية والثالثة ، وإطلاق هذه الأخبار مع تصريح تلك
الأخبار الأخر كما عرفت مما يدفع رواية كتاب الفقه ، وبذلك يظهر ضعف العمل عليها
والاستناد في الحكم المذكور إليها.
وبالجملة فإني لا اعرف دليلا معتمدا لهذين القولين بل
الأخبار كما ترى ظاهرة في خلافه رأى العين ، والشيخ (قدسسره) لما حكى كلام
الشيخ المفيد بالتحديد بمجاوزة النصف لم يذكر له دليلا إلا الرواية الثامنة ، ومن
الظاهر انها لا دلالة فيها على شيء من التحديدين بالكلية وانما غاية ما تدل عليه
صحة الصلاة عند العدول بعد النصف في حال النسيان وهو مع كونه مخصوصا بالنسيان لا
يقتضي عدم جواز العدول بعد مجاوزة النصف إلا بمفهوم اللقب وهو مما لا حجة فيه عند
محققي الأصوليين.
واحتمل الشهيد في الذكرى إرجاع قول الشيخ بمجاوزة النصف
إلى القول ببلوغ النصف ليطابق كلام الأكثر ، قال ـ بعد نقل جملة من العبارات
الدالة على بلوغ النصف ـ ما لفظه : فتبين ان الأكثر اعتبروا النصف والشيخ اعتبر
مجاوزة النصف ولعل مراده بلوغ النصف. انتهى.
وفيه (أولا) ان ما ذكره جيد بالنسبة إلى ما ادعاه من ان
الأكثر على القول ببلوغ
النصف والمخالف انما هو الشيخ خاصة أو
مع الشيخ المفيد ، اما على تقدير ما قدمنا نقله عن جملة من الأصحاب من ان المشهور
انما هو مذهب الشيخ فلا وجه له. و (ثانيا) انه اي فائدة في إرجاع مذهب الشيخ إلى
قول الأكثر بناء على كلامه والحال انه لا دليل عليه في المقام كما اعترف به في صدر
كلامه. و (ثالثا) ان الشيخ كما عرفت قد أورد الرواية الثامنة دليلا على ما ادعاه
وهي صريحة في العدول مع بلوغ النصف ، وهل ما ذكره (قدسسره) إلا صلح مع
عدم تراضي الخصمين؟
والعلامة في النهاية قد وجه كلام الشيخين ومن تبعهما
بالبناء على تحريم القران ، قال : وكما لا يجوز القران بين سورتين فكذا لا يجوز
بين السورة ومعظم الأخرى. ولا يخفى ما فيه.
وشيخنا الشهيد الثاني في الروض لما اختار التحديد ببلوغ
النصف استدل عليه وفاقا للمحقق الشيخ علي بقوله تعالى «وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ» (1) فإن الانتقال
من سورة إلى أخرى إبطال للعمل.
وفيه منع ظاهر فان الانتقال المذكور من حيث هو انتقال
ليس إبطالا للعمل وإلا لصدق على الانتقال قبل بلوغ النصف بل الظاهر من إبطال العمل
انما هو إسقاطه عن درجة الانتفاع به وعدم ترتب الثواب عليه بالمرة بأن يكون فعله
كلا فعل ، وعلى هذا لا يتم الاستدلال بالآية إلا إذا ثبت ان الانتقال عن السورة
يوجب ارتفاع ثوابها بالكلية وهو غير واضح بل المعلوم خلافه. ويعضد ما ذكرناه ان
بعض المفسرين حمل الابطال على إبطال الأعمال بالكفر والنفاق وعلى هذا يدل سياق
الآية ، وبعض على الابطال بالرياء والسمعة ، وبعض على الإبطال بالمعاصي والكبائر ،
وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها في مجمع البيان. وبالجملة فالقول المذكور بمحل من البعد
والقصور. ثم انه لو سلم دلالتها على ما ادعاه لوجب تخصيصها بالنصوص المتقدمة
الدالة عموما وخصوصا على الرجوع بعد بلوغ النصف
__________________
(1) سورة محمد ، الآية 33.
كما خصصت بالإجماع والأخبار قبل بلوغ
النصف.
نعم ادعى جماعة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد الثاني في
الروض والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد الإجماع على عدم جواز العدول بعد تجاوز
النصف فان تم كان هو الوجه لا ما ذكروه من هذه التخريجات الواهية ، وحينئذ يجعل
النهي عن إبطال العمل مؤيدا له والأخبار دليلا على جواز العدول في النصف فما دونه
، وتحمل الرواية الرابعة الدالة على جواز العدول في ما بينه وبين ثلثي السورة على
الشروع في النصف الثاني جمعا بين الأخبار كما ذكره بعض الاعلام. إلا ان تحقق
الإجماع المذكور مشكل لما عرفت في مقدمات الكتاب. ومن ذلك يظهر لك قوة القول بجواز
العدول مطلقا للأصل مضافا إلى إطلاق الأخبار المتقدمة والأوامر المطلقة في القراءة
لصدقها بعد العدول أيضا والأخبار المتقدمة الصريحة في جواز العدول ولو بعد مجاوزة
النصف. والله العالم.
(المقام الثاني) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) انه لا يجوز العدول عن سورتي التوحيد والجحد إلى غيرهما سوى ما سيأتي بل
متى شرع فيهما وجب إتمامهما ، صرح به الشيخان والمرتضى وابن إدريس والعلامة وغيرهم
ونقل المرتضى في الانتصار إجماع الفرقة عليه. وخالف المحقق في المعتبر فذهب إلى
الكراهة. وتوقف فيه العلامة في المنتهى والتذكرة ، وظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة
أيضا التوقف في ذلك.
والذي يدل على القول المشهور ما تقدم من الرواية الاولى
والثانية والثالثة والسادسة والسابعة.
وقال المحقق في المعتبر بعد ان نقل عن السيد المرتضى (قدسسره) القول
بالتحريم : الوجه الكراهة لقوله تعالى «فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ» (1) قال ولا تبلغ
الرواية قوة في تخصيص الآية.
__________________
(1) سورة المزمل ، الآية 20.
وضعفه ظاهر (أما أولا) فلا جمال الآية المذكورة وقد
حققنا في مقدمات الكتاب عدم جواز الاستدلال بمجملات القرآن ومتشابهاته إلا بتفسير
منهم (عليهمالسلام)
و (اما ثانيا) ـ فإنه مع تسليم دلالة الآية على ما ادعاه
فان الروايات المذكورة لصحتها وصراحتها وتعددها موجبة لتخصيص الآية ، وقد خصصوا
آيات القرآن بما هو أقل عددا من هذه الأخبار كما لا يخفى على من جاس خلال تلك
الديار.
و (اما ثالثا) فإن الآية المذكورة مخصصة عندهم بما إذا
لم يتجاوز النصف أو لم يبلغه فإنهم يحرمون العدول بعد الحدين المذكورين على اختلاف
القولين مع ان الدليل في ما نحن فيه أقوى وأظهر.
واما ما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ حيث قال :
والأصل في هذا الباب الروايتان السابقتان أعني رواية عمرو بن أبي نصر ورواية
الحلبي ودلالتهما على التحريم ليس بواضح ، إلى ان قال والتوقف في هذا المقام في
موضعه إلا ان مقتضاه عدم العدول تحصيلا للبراءة اليقينية. انتهى ـ فهو من جملة
تشكيكاته الواهية لأنه مبني على ما تفرد به مما نبهناك عليه مرارا من عدم دلالة
الأوامر والنواهي في الأخبار على الوجوب والتحريم وقد أوضحناه في غير مقام مما
تقدم.
فرع
لو قلنا بتحريم العدول كما هو الأشهر الأظهر فخالف وعدل
إلى غيرهما فهل تبطل صلاته أم غاية ما يترتب عليه الإثم خاصة؟ لم أقف فيه على نص
من الأخبار ولا تصريح لأحد من الأصحاب إلا على كلام للوالد العلامة (أفاض الله
عليه الكرامة) حيث قال ـ بعد ان اعترف أيضا بعدم الوقوف على نص من الأخبار ولا
كلام لأحد من الأصحاب ـ ما لفظه : ولا يبعد القول ببطلان العبادة بذلك لأن النهي
حينئذ راجع إلى جزء العبادة فيبطلها لأن النهي عن الرجوع عنهما إلى غيرهما نهى في
الحقيقة عن قراءة غيرهما مع انه مأمور
بإتمامهما فعند العدول عنهما وقراءة
غيرهما يكون آتيا بما نهى عنه تاركا لما أمر به فيكون باقيا تحت العهدة فتبطل
عبادته حينئذ ، فتأمل. انتهى. وهو جيد.
(المقام الثالث) ـ المشهور جواز العدول من التوحيد
والجحد إلى الجمعة والمنافقين ، وقال المحقق في الشرائع في أحكام صلاة الجمعة :
وإذا سبق الإمام إلى قراءة سورة فليعدل إلى الجمعة والمنافقين ما لم يتجاوز نصف
السورة إلا في سورة الجحد والتوحيد. وظاهره عدم جواز العدول عنهما ولو إلى الجمعة
والمنافقين ، وربما ظهر ذلك من كلام المرتضى (قدسسره) في الانتصار
حيث قال : ومما انفردت به الإمامية حظر الرجوع من سورة الإخلاص وروى قل يا ايها
الكافرون أيضا إذا ابتدأ بها ، ثم نقل الإجماع عليه. وظاهره عموم المنع حيث لم
يستثن هاتين السورتين ، قيل وهو ظاهر إطلاق ابن الجنيد أيضا.
ويدل على القول المشهور الخبر الثالث من الأخبار
المتقدمة والخبر الخامس والخبر السادس والسابع ، وقد تقدم في الرواية التاسعة جواز
العدول إلى النفل كما ذهب اليه الصدوق في ظهر الجمعة وقد تقدم بيانه. والظاهر
الجمع بينها وبين الأخبار المذكورة بالتخيير في مورد الرواية المذكورة وهو صلاة
الجمعة. ومنع ابن إدريس من العدول إلى النفل هنا بناء على أصله الغير الأصيل من
عدم العمل بخبر الواحد مع تحريم قطع الصلاة الواجبة. ولا ريب ان ما ذكره أحوط.
واما القول الثاني فلعل مستنده إطلاق جملة من الأخبار
المتقدمة الدالة على انه بالشروع في التوحيد والجحد فإنه لا يجوز العدول عنهما
كالرواية الاولى من الروايات المتقدمة والثانية والثالثة والسؤال الأول من الرواية
السابعة. وفيه ان مقتضى القاعدة تقييد إطلاق هذه الأخبار بالأخبار المتقدمة فإنها
مفصلة والمفصل يحكم على المجمل.
بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) ان النصوص المتقدمة
المتعلقة بالمقام الثاني قد دلت على عدم جواز العدول عن سورتي التوحيد والجحد إلى
غيرهما ونصوص هذا المقام انما دلت على جواز العدول إلى سورتي الجمعة والمنافقين من
التوحيد خاصة واما
سورة الجحد فلم يدل على جواز العدول
عنها دليل ، فبقي عموم الأخبار الدالة على عدم جواز العدول عنها على حاله لا مخصص
له والتخصيص انما وقع في الأخبار المتعلقة بالتوحيد ، والأصحاب قد شركوا بين
السورتين في جواز العدول عنهما إلى سورتي الجمعة والمنافقين والدليل كما ترى لا
ينهض بذلك.
واستند بعضهم في الجواب عن هذا الإشكال إلى التمسك
بالإجماع المركب وهو ان كل من أجاز العدول من التوحيد اجازه من الجحد. وبعض استند
إلى طريق الأولوية. وضعف الجميع عني عن البيان.
نعم ربما يستفاد ذلك من الرواية السابعة وقوله فيها «وان
أخذت في غيرها وان كان قل هو الله أحد فاقطعها من أولها وارجع إليها» وجه الدلالة
دخول سورة الجحد في ذلك الغير المأمور بقطعه. إلا انه لا يخلو من شيء فان تقييد
إطلاق تلك الأخبار بإطلاق هذا الخبر ليس اولى من تقييد إطلاق هذا الخبر بإطلاق تلك
الأخبار ، وبالجملة فههنا اطلاقان تعارضا وتقييد أحدهما بالآخر لازم لكن لا بد
لتعيين أحدهما من ترجيح.
وبذلك يظهر ان الأظهر عدم جواز العدول عن سورة الجحد
مطلقا لا إلى هاتين السورتين ولا إلى غيرهما ، ويؤيده أنه الأوفق بالاحتياط.
(الثاني) ـ انه قد صرح جملة من الأصحاب ـ بل الظاهر انه
المشهور ـ بجواز العدول عن سورتي التوحيد والجحد هنا إلى سورتي الجمعة والمنافقين
باشتراط عدم بلوغ النصف أو تجاوزه كما تقدم من القولين السابقين ، وكثير من
عباراتهم مجمل لا تقييد فيه بذلك والأخبار كما عرفت عارية عن هذا التقييد.
واستدل شيخنا الشهيد الثاني ومثله المحقق الشيخ علي على
ذلك بالجمع بين الرواية التاسعة الدالة على ان من صلى الجمعة وقرأ بقل هو الله أحد
فإنه يتمها ركعتين ثم يستأنف وبين الروايات المتقدمة الدالة على العدول ، قال في
الروض : وانما اعتبروا فيهما عدم بلوغ
النصف جمعا بين ما دل على جواز العدول
منهما كصحيحة محمد بن مسلم وغيرها وبين ما روى عن الصادق (عليهالسلام) ثم ذكر الرواية
التاسعة المشار إليها ، قال فان العدول من الفريضة إلى النافلة بغير ضرورة غير
جائز لأنه في حكم إبطال العمل المنهي عنه فحملت هذه الرواية على بلوغ النصف
والأولى محمولة على عدمه. انتهى.
وفيه (أولا) ان الجمع بين الروايات لا ينحصر في ما ذكره
بل يمكن الجمع بينها بالتخيير كما قدمنا الإشارة اليه ، وهو انما ألجأه إلى القول
المذكور ضرورة الجمع والجمع يحصل بما ذكرنا. وما ذكر من الجمع بالتخيير ظاهر
الكليني في الكافي حيث انه بعد نقل صحيحة محمد بن مسلم الدالة على العدول قال (1) «وروى أيضا
يتمها ركعتين ثم يستأنف».
و (ثانيا) انك قد عرفت مما قدمنا انه لا دليل من الأخبار
على هذا التقييد من أصله فالقول به كائنا ما كان قول بلا دليل.
و (ثالثا) انه مخالف لما عليه الأصحاب فإن العدول إلى
النافلة عندهم غير مقيد ببلوغ النصف بل يجوز مطلقا تبعا لإطلاق النص.
و (رابعا) ان قوله ـ ان العدول إلى النافلة بغير ضرورة
غير جائز ـ مردود بما ذكروه ودلت عليه الأخبار من العدول لاستدراك الجماعة ، وقطع
الفريضة لتدارك الأذان والإقامة ، فإن كانت هذه الأشياء من الضرورات التي يجوز
لأجلها القطع أو العدول فكذا في ما نحن فيه وإلا فاشتراط الضرورة في جواز العدول
ممنوع.
(الثالث) ـ انه قد صرح المحققان الفاضلان المحقق الشيخ
علي وشيخنا الشهيد الثاني (عطر الله مرقديهما) بان جواز العدول من التوحيد والجحد
إلى السورتين المذكورتين مشروط بكون قراءتهما على وجه السهو والنسيان ، وحينئذ فلو
كان عمدا فإنه لا يجوز له الرجوع عملا بإطلاق أخبار المقام الثاني.
والظاهر ان مستندهم في ذلك قوله في الرواية الخامسة «في
الرجل يريد ان يقرأ
__________________
(1) الوسائل الباب 69 من القراءة.
سورة الجمعة في الجمعة فيقرأ قل هو
الله أحد؟» ونحوها غيرها من روايات المسألة ، فإن ظاهرها ان القصد كان لسورة
الجمعة وان قراءة التوحيد انما وقع لا عن قصد بل سهوا
وفيه ان هذه العبارة كما تحتمل ما ذكروه كذلك تحتمل
الحمل على العامد أيضا بأن يكون قد قصد أولا إلى سورة الجمعة ثم بدا له فقصد إلى
التوحيد ، على ان ظاهر الرواية السابعة شمول العامد لقوله بعد الأمر بقراءة سورتي
الجمعة والمنافقين «وان أخذت في غيرها. إلى آخره» فإن الأخذ في الغير أعم من ان
يكون عمدا أو سهوا ونحوها رواية كتاب دعائم الإسلام.
والتحقيق ما ذكره العلامة الوالد (قدسسره) هنا حيث قال
بعد الكلام في المسألة : وبالجملة فإن المفهوم من الروايات ان المصلي إذا قرأ سورة
التوحيد وكان في قصده قراءة غيرها فلا يرجع عنها إلا إلى السورتين ، وهذا المعنى
لا خصوص له بالناسي بل ينطبق على العامد ويصح حمل اللفظ عليه ، على ان رواية علي
بن جعفر المذكورة آنفا لا وجه لقصرها على حال النسيان لظهور شمولها لحال العامد
أيضا بل هي فيه أظهر. وبهذا يندفع ما يقال ان الخروج عن مقتضى الأخبار الصحيحة
الصريحة في المنع عن العدول من سورة التوحيد بل والجحد أيضا بناء على ما مر بمجرد
الاحتمال غير جيد بل ينبغي الاقتصار فيها على المتيقن من حال الناسي لأنه متيقن
الإرادة منها ومتفق عليه بين الأصحاب ، لأن ذلك مبني على ظهور الأخبار في الناسي
ليكون متيقن الإرادة منها بخلاف العامد لكونه حينئذ خلاف الظاهر منها ، اما من لا
يسلم ظهورها فيه كما هو مقتضى كلام الأكثر فيكون اللفظ محتملا لهما على سواء
والخروج فيهما عن مقتضى الأخبار الصحيحة الصريحة في المنع على حال واحدة ، نعم لا
يبعد ان الأخبار في الناسي أظهر منها في حال العامد وهو لا يقتضي إلا أولوية
العدول فيه لا خصوصيته به والكلام فيه. فتأمل المقام فإنه حري بالتأمل التام.
انتهى كلامه رفع مقامه.
(الرابع) ـ انه لا يخفى ان الأخبار المتعلقة بهذا المقام
الدالة على القول المشهور
كما قدمنا الإشارة إليها من العدول عن
التوحيد والجحد إلى سورتي الجمعة والمنافقين ـ موردها انما هو صلاة الجمعة وليس
فيها مار بما يوهم خلاف ذلك إلا قوله في الرواية السادسة «إلا ان تكون في يوم
الجمعة» ويجب حمله على صلاة الجمعة كما صرحت به بقية أخبار المسألة حمل المطلق على
المقيد ، ويعضد ذلك الروايات الدالة على تحريم العدول عن هاتين السورتين اعنى
التوحيد والجحد مطلقا فيجب الاقتصار في التخصيص على مورد النصوص والمتيقن بالخصوص
وهو صلاة الجمعة خاصة.
واما ما قيل هنا في تأييد ما ذكرنا ـ من ان استحباب
قراءة السورتين انما ثبت بالروايات الصحيحة في صلاة الجمعة خاصة دون ما سواها وهو
قرينة قوية على اختصاص العدول إليهما بها. انتهى ـ ففيه انه غلط محض نشأ من الركون
إلى ما ذكره في المدارك كما قدمنا نقله عنه وأوضحنا فساده بالأخبار الدالة على
استحباب السورتين المذكورتين في غير صلاة الجمعة من المواضع المذكورة في الأخبار
المتقدمة ثمة.
وبذلك يظهر لك ما في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
المقام من الخروج عن جادة أخبارهم (عليهمالسلام) فإنهم قد
اختلفوا في مواضع العدول زيادة على صلاة الجمعة التي هي مورد الأخبار المذكورة كما
عرفت ، فبعض اثبت هذا الحكم في الظهر وعليه المحقق وابن إدريس والعلامة في المنتهى
وقبلهم الصدوق في الفقيه كما تقدم نقل عبارته بذلك ، وقال الجعفي بثبوته في صلاة
الجمعة والصبح والعشاء ، قال (قدسسره) على ما نقله
عنه في الذكرى : وان أخذت في سورة وبدا لك في غيرها فاقطعها ما لم تقرأ نصفها إلا
قل هو الله أحد وقل يا ايها الكافرون ، فان كنت في صلاة الجمعة والصبح يومئذ
والعشاء الآخرة ليلة الجمعة فاقطعها وخذ في سورة الجمعة وإذا جاءك المنافقون ،
وقال الشهيد الثاني في الروض بثبوته في الجمعة وظهرها أو ظهريها.
أقول : والظاهر ان ما ذهب إليه هؤلاء الفضلاء (قدس الله
أسرارهم) قد بنوه على ما ثبت عندهم من المواضع التي يستحب فيها قراءة السورتين
المذكورتين ،
فكل موضع ثبت فيه استحباب قراءة هاتين
السورتين حكموا بجواز العدول عن سورتي التوحيد والجحد إليهما تحصيلا لفضيلتهما في
ذلك الموضع ، وقد تقدم نقل مذاهبهم في محل السورتين المذكورتين ونقل مذهب الجعفي
باستحبابهما في هذه المواضع التي نقلت عنه ههنا ، فكأنهم بنوا الحكم على عموم
الأخبار الدالة على استحباب هاتين السورتين سواء كان ابتداء أو مع العدول عن سورتي
الجحد والتوحيد.
وفيه ان الأخبار الدالة على انه بالشروع في الجحد
والتوحيد فإنه لا يجوز العدول عنهما مطلقا شاملة بإطلاقها لسورتي الجمعة
والمنافقين وغيرهما ، وقد وردت بإزائها روايات مخصصة بالعدول منهما إلى هاتين
السورتين في هذا الموضع المخصوص أعني صلاة الجمعة خاصة ، فالقول بالعدول وتخصيص
تلك الأخبار في غير الجمعة يحتاج إلى دليل ، ومجرد استحباب هاتين السورتين في هذه
المواضع لا يكفي في التخصيص كما لا يخفى. والله العالم.
تنبيهات
(الأول) ـ المشهور في كلام الأصحاب ولا سيما المتأخرين
من العلامة ومن تأخر عنه انه مع العدول يجب ان يعيد البسملة لأن البسملة آية من كل
سورة وقد قرأها أولا بنية السورة المعدول عنها فلا تحسب من المعدول إليها ، ولأن
البسملة لا يتعين كونها من سورة إلا بالقصد. وصرحوا أيضا بأنه يعيدها لو قرأها بعد
الحمد من غير ان يقصد بها سورة معينة بعد القصد ، حيث ان البسملة صالحة لكل سورة
فلا تتعين لإحدى السور إلا بالتعيين والقصد بها إلى إحداها وبدونه يعيدها بعد
القصد.
وجملة من المتأخرين فرعوا على هذا الأصل تفاصيل في
كلامهم فقالوا لا يشترط في الحمد القصد ببسملة معينة لتعينها ابتداء فيحمل إطلاق
النية على ما في ذمته ، وكذا لو عين له سورة معينة بنذر أو شبهه أو ضاق الوقت إلا
عن أقصر سورة أو لا يعلم إلا تلك السورة فإنه يسقط القصد كالحمد ، لأن السورة لما
كانت متعينة بتلك الأسباب اقتضت
نية الصلاة ابتداء قراءتها في محلها
كما اقتضت إيقاع كل فعل في محله وان لم يقصده عند الشروع فيه.
قالوا : ومحل القصد حيث يفتقر اليه عند الشروع في قراءة
السورة ، وهل يكفى القصد المتقدم على ذلك في جملة الصلاة بل قبلها؟ نظر ، من ان
السورة كاللفظ المشترك يكفي في تعيين أحد أفرادها القرينة وهي حاصلة في الجميع ،
ومن عدم المخاطبة بالسورة فلا يؤثر قصدها ، والاقتصار على موضع اليقين طريق
البراءة. واختار الشهيد في بعض فتاويه الاجزاء في الجميع ونفى عنه البعد في الروض.
قالوا ولو كان معتادا لسورة مخصوصة فالوجهان ، والاجزاء هنا أبعد.
ولو جرى لسانه على بسملة وسورة فهل يجزئ المضي عليها أم
تجب الإعادة؟ نظر واستقرب الشهيد الاجزاء ، واحتج عليه في الذكرى برواية أبي بصير
وهي الثامنة من الروايات المتقدمة المنسوبة إلى ثلاثة أحدهم أبو بصير ، إلى غير
ذلك من كلامهم في هذا المقام وما أوسعوا فيه من تفريع الأحكام وما وقع لهم فيه من
النقض والإبرام.
وقد رده جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ـ أولهم في ما
أظن المحقق الأردبيلي ـ بان ما ذكروه من انه يحتاج إلى النية لاشتراك البسملة بين
السور فلا تتعين للسورة إلا بالنية غير واضح ، لأن نية الصلاة تكفي لأجزائها
بالاتفاق ولو فعلت مع الغفلة والذهول ويكفيه قصد فعلها في الجملة ، واتباع البسملة
بالسورة يعين كونها جزء لها وذلك كاف ، وبالجملة فإنا لا نسلم أن للنية مدخلا في
صيرورة البسملة جزء من السورة بل متى اتى بمجرد البسملة فقد اتى بشيء يصلح لأن
يكون جزء لكل سورة فإذا أتى ببقية الأجزاء فقد اتى بجميع اجزاء هذه السورة
المخصوصة ولا فساد في ذلك. ودعوى تميز بسملة كل سورة عن بسملة الأخرى يحتاج إلى
دليل وليس فليس. ولو تم ما ذكروه للزم ان يكون كل كلمة مشتركة بين سورتين تحتاج
إلى القصد مثل «الحمد لله» والظاهر انهم لا يقولون به.
والتحقيق عندي في أمثال هذا المقام هو ان يقال لا ريب
انهم لا يختلفون في أصالة العدم
وان الأصل عدم الوجوب في شيء إلا مع
قيام الدليل عليه إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان ،
وعدم الدليل دليل العدم. وما ادعوه هنا ـ من وجوب القصد بالبسملة إلى سورة معينة
فلو بسمل لا بقصد فإنه يجب إعادتها بعد القصد ـ لم يأتوا عليه بدليل واضح سوى ما
عرفت من التعليل العليل الذي لا يشفي العليل ولا يبرد الغليل مع استفاضة الأخبار
عنهم (عليهمالسلام) بالسكوت عما
سكت الله عنه (1) والنهي عن
تكلف الدليل في ما لم يرد عنهم (عليهمالسلام) فيه دليل
واضح :
ومن ذلك ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده فيه عن إسحاق بن
عمار عن جعفر عن أبيه (عليهماالسلام) (2) «ان عليا (عليهالسلام) كان يقول :
الربائب عليكم حرام مع الأمهات التي قد دخل بهن في الحجور كنّ وغير الحجور سواء ،
والأمهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل بهن فحرموا ما حرم الله وأبهموا ما أبهم
الله».
وما رواه الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) في كتاب المجالس
(3) بسنده عن أمير
المؤمنين (عليهالسلام) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) ان الله حد
لكم حدودا فلا تعتدوها وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها وسن لكم سننا فاتبعوها وحرم
عليكم حرمات فلا تنتهكوها وعفا عن أشياء رحمة منه لكم من غير نسيان فلا تتكلفوها».
وما رواه في الفقيه (4) من خطبة أمير المؤمنين وقوله (عليهالسلام) فيها «ان
الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تنقصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها
نسيانا فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقبلوها».
__________________
(1) روى القاضي محمد بن سلامة القضاعي المغربي في كتابه الشهاب
في الحكم والآداب في باب الالف المقطوع والموصول عن النبي «ص» انه قال «اسكتوا عما
سكت الله عنه».
(2) الوسائل الباب 18 و 20 من ما يحرم بالمصاهرة.
(3) ص 94 من المطبوع بالمطبعة الحيدرية في النجف.
(4) باب «نوادر الحدود» وفي الوسائل الباب 12 من صفات القاضي
وما يقضى به.
مضافا إلى ما ورد في الآيات القرآنية والسنة النبوية من
النهي عن القول بغير علم ولا اثر وارد من الكتاب أو السنة «أتقولون على الله ما لا
تعلمون» (1) «ومن أظلم ممن
افترى على الله كذبا» (2) ونحوهما من
الآيات والأخبار الكثيرة الدالة على الوقوف والتثبت والرد إليهم (عليهمالسلام) في ما لم يرد
فيه أمر منهم ، وفي حديث أبي البريد المروي في الكافي عن الصادق (عليهالسلام) (3) «اما انه شر
عليكم ان تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا». ونحوه من الأخبار الواردة في هذا
المضمار كما لا يخفى على ذوي البصائر والأفكار ، ولا ريب ان بناء الأحكام الشرعية
على هذه التخريجات الفكرية خروج عن منهاج السنة النبوية لانحصار أدلة الأحكام في
القرآن العزيز واخبارهم (عليهمالسلام).
(الثاني) ـ قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ بعد
البحث في المسألة بنحو ما قدمناه في صدر المقام المتقدم اعتراضا على عبارة المصنف
وهي قوله : ومع العدول يعيد البسملة وكذا يعيدها لو قرأها بعد الحمد من غير قصد
سورة بعد القصد ـ ما صورته : بقي في المسألة إشكال وهو ان حكمه بإعادة البسملة لو
قرأها من غير قصد بعد القصد ان كان مع قراءتها أو لا عمدا لم يتجه القول بالإعادة
بل ينبغي القول ببطلان الصلاة للنهي عن قراءتها من غير قصد وهو يقتضي الفساد ، وان
كان قرأها ناسيا فقد تقدم القول بأن القراءة خلالها نسيانا موجب لإعادة القراءة من
رأس ، فالقول بإعادة البسملة وما بعدها لا غير لا يتم على تقديري العمد والنسيان ،
والذي ينبغي القطع بفساد القراءة على تقدير العمد للنهي ، وهو الذي اختاره الشهيد
في البيان وحمل الإعادة هنا على قراءتها ناسيا. انتهى.
أقول فيه (أولا) ان ما ادعاه على تقدير القراءة عمدا ـ من
بطلان الصلاة للنهي
__________________
(1) سورة الأعراف ، الآية 27.
(2) سورة الانعام ، الآية 21.
(3) الوسائل الباب 7 من صفات القاضي وما يقضى به. والراوي هاشم
صاحب البريد.
عن قراءتها من غير قصد ـ مردود بأنه
أي نهي هنا ورد بما ذكره واي حديث دل على ما سطره؟ وغاية ما يمكن ان يقال بناء على
أصولهم العديمة النوال انه مأمور بالقصد إلى البسملة كما عرفت من كلامهم المتقدم
آنفا والأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص. وقد عرفت مما حققناه آنفا انه لا
دليل على هذه الدعوى إلا مجرد تخريجات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، ومع تسليم
صحة ذلك فان استلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص وان ذهب اليه جمع منهم إلا
ان مذهبه (قدسسره) العدم كما
صرح به في كتابه المشار اليه ، وبذلك يظهر فساد ما ذكره وبنى عليه.
و (ثانيا) ان ما ذكره بناء على تقدير القراءة ناسيا ـ من
انه تقدم القول بأن القراءة خلالها نسيانا موجب لإعادة القراءة من رأس ـ غفلة
عجيبة من مثله (قدسسره) فان محل
البحث هنا انما هو الإتيان بالبسملة بعد الحمد والقراءة بتلك البسملة بغير قصد
واللازم من البسملة والقراءة بغير قصد بناء على دعواه وجوب القصد هو اعادة ما قرأه
بعد القصد ، والذي تقدم في مسألة وجوب الموالاة انما هو القراءة في خلال آيات
الحمد والسورة واين هذا من ذاك؟ ولم يذكر في ما تقدم حكم القراءة بين سورة الحمد
والسورة التي بعدها ، وغاية ما يلزم هنا هو قراءة القرآن في الصلاة وهو مما لا
خلاف بينهم في جوازه ولا تعلق له بمسألة وجوب الموالاة التي هي عبارة عن ان لا
يقرأ خلال الفاتحة والسورة غيرهما ، وجميع ما فرعه انما هو من فروع وجوب الموالاة
ومذهب الشهيد الذي نقله انما هو في الموالاة كما قدمنا نقله ، وما نحن فيه ليس من
مسألة الموالاة في شيء. وجميع ما ذكرنا ظاهر بحمد الله لا سترة عليه.
(الثالث) ـ المستفاد من الأخبار المتقدمة انه لا فرق في
جواز العدول حيث يصح بين ان يكون دخوله في السورة المعدول عنها بقصد أو بغيره ،
وعلى الأول فقد يكون عدوله عنها مقصودا لذاته بان يبدو له العدول إلى غيرها فيعدل
أو لنسيانها بان يحمله نسيانها على قصد غيرها أو غير مقصود بان يتمادى به السهو
والنسيان إلى ان يدخل في الثانية من غير قصد ، وعلى الثاني لا فرق بين ان تكون
السورة المعدول إليها مما سبق
قصدها أم لا ، فهذه صور خمس كلها
مستفادة من النصوص المتقدمة :
أما الصورة الاولى ـ وهي ان يقصد سورة فيبدو له في قصد
غيرها ـ فهي مستفادة من الرواية الثانية من الروايات المتقدمة.
واما الصورة الثانية وهي ان يقصد سورة فينساها فيتعمد
العدول الى غيرها ، والثالثة ـ وهي ان يقصد سورة فينساها فينجر به الذهول والنسيان
إلى ان يدخل في غيرها من غير قصد ـ فهما مستفادتان من إطلاق الرواية الثامنة ، فإن
قوله فيها «ثم ينسى فيأخذ في أخرى» يحتمل ان يكون المراد فينسى ما هو فيه فيعمد
إلى الدخول في أخرى أو ينسى ما هو فيه فيشرع بطريق السهو والنسيان في أخرى ،
والثانية من هاتين الصورتين مستفادة من الرواية الثانية عشرة ، فإن قوله فيها «ثم
يعلم انه قد أخطأ» ظاهر في ان دخوله في الثانية انما كان عن سهو وخطأ لا عن تعمد ،
بمعنى انه استمر به السهو بعد شروعه في الاولى إلى ان دخل في الثانية وفرغ منها ثم
ذكر بعد ذلك.
والصورة الرابعة ـ وهي ان يشرع في السورة لا بطريق القصد
بل بعد القصد لسورة أخرى فيغفل عنها إلى ان يدخل في الثانية سهوا فيعدل عنها إلى
الأولى المقصودة أولا ـ مستفادة من أكثر الأخبار كالرواية الاولى والثالثة
والرابعة والتاسعة ، لظهور شمولها لذلك بل هو أظهر من احتمالها لإرادة قراءة سورة
فينساها فيعمد إلى قراءة غيرها لأجل النسيان ثم يذكر فيعدل إلى السورة المقصودة
أولا. وهذا الاحتمال الثاني قد تضمن كون المعدول عنه والمعدول اليه كلاهما مقصودين
ولكن كان المعدول اليه مقصودا قبل المعدول عنه لكن عرض نسيانه فلا يبعد دخولها في
الصورة الأولى لشمولها من حيث إطلاقها لذلك ، وتكون هذه الأخبار من حيث احتمالها
لذلك شاهدة له وان حصلت صورة سادسة لأن فيها زيادة اعتبار ليس في الاولى فلا بأس
به.
والصورة الخامسة ـ وهي ان يكون شروعه في السورة لا بطريق
القصد فيبدو له في أثنائها العدول إلى أخرى لم تكن مقصودة قبل ـ ربما تشملها
الرواية الثانية ، فإن قوله
فيها «ومن افتتح بسورة» أعم من ان
يكون بطريق القصد أو جرى ذلك على لسانه من غير قصد وان كان الظاهر هو الأول.
وبالجملة ففي جميع هذه الصور يصح العدول بغير اشكال. والله العالم.
(الرابع) ـ المستفاد من الأخبار المذكورة بمعونة ما تقدم
تحقيقه انه لا يجب في الصلاة قصد سورة معينة قبل البسملة خلافا للمشهور بين أصحابنا
(رضوان الله عليهم) وذلك لأن نية الصلاة كافية لاجزائها إجماعا وان فعلت حال
الغفلة والذهول ، فلو جرى لسانه ابتداء على سورة أخرى من غير قصد أو قصد سورة فقرأ
غيرها نسيانا صحت الصلاة ولم يجب عليه العدول إلى سورة أخرى وان تذكر قبل الركوع ،
للأصل وحصول الامتثال المقتضي للاجزاء وهي الأخبار المتقدمة خصوصا الرواية
الثامنة.
وقال الشهيد (قدسسره) في الذكرى ـ بعد
ما صرح بوجوب ان يقصد بالبسملة سورة معينة ـ ما نصه : اما لو جرى لسانه على بسملة
وسورة فالأقرب الإجزاء لرواية أبي بصير السالفة ولصدق الامتثال ، وروى البزنطي عن
أبي العباس «في الرجل يريد ان يقرأ السورة فيقرأ في أخرى.». الرواية العاشرة من
الروايات المتقدمة (1) ثم قال : قلت
وهذا حسن ويحمل كلام الأصحاب والروايات على من لم يكن مريدا غير هذه السورة ، لأنه
إذا قرأ غير ما اراده لم يعتد به ولهذا قال «يرجع» فظاهره تعين الرجوع. انتهى
كلامه. وحاصله الفرق بين الصورتين المذكورتين سابقا والاجزاء في الصورة الأولى لما
ذكره دون الثانية أعني ما تعلق القصد بغيرها نسيانا ، فان كلامه (قدسسره) يعطي وجوب
العدول عنها لو ذكرها قبل الركوع لرواية البزنطي المذكورة حيث جعل ظاهرها تعين
الرجوع ، وأظهر منها في الدلالة على ذلك موثقة عبيد بن زرارة الاولى لتضمنها الأمر
بالرجوع. وقد جعل (قدسسره) محل جواز
العدول وعدمه في الروايات وكلام الأصحاب ما إذا تعلق قصده بغير السورة التي قرأها
كما في الصورة الاولى من
__________________
(1) ص 210.
الصور الخمس المتقدمة.
وفي ما ذكره (قدسسره) من جميع ذلك
نظر : (أما أولا) فلان ما دل على الاجزاء وعدم تعين الرجوع في الصورة الأولى قائم
بعينه في الصورة الثانية لموافقة الأصل وحصول الامتثال ولرواية أبي بصير التي
أوردها دالة على الاجزاء في الصورة الاولى وهي صحيحة الحلبي والكناني وأبي بصير
ومن حيث الاشتراك صح نسبتها إلى كل من الثلاثة ، فإن ظاهرها بل صريحها تعلق القصد
والإرادة بغير ما قرأه ناسيا. والعجب منه كيف استدل بها على الاولى مع انها صريحة
الدلالة على الثانية.
و (اما ثانيا) فإنه لو كان تعلق القصد بغير هذه السورة
موجبا لعدم الاعتداد بها كما ذكره حتى وجب لأجله العدول عنها إلى ما قصده أولا لم
يكن فرق في ذلك بين بلوغ النصف وما قبله وما بعده بل ولو فرغ من السورة قبل الركوع
، فإنه يجب في جميع ذلك الرجوع مطلقا بمقتضى ما ذكره من عدم الاعتداد مع دلالة
رواية البزنطي التي أوردها دالة على تعين الرجوع على عدم جواز الرجوع بعد تجاوز
النصف ودلالة موثقة عبيد ابن زرارة الثانية على عدم جوازه بعد الثلثين كما هو
ظاهر.
و (اما ثالثا) فلدلالة الروايات على ان الرجوع في هذه
الصورة على سبيل الجواز والتخيير دون الوجوب والتعيين كما هو ظاهر موثقة عبيد بن
زرارة المذكورة ، حيث قال فيها «له ان يرجع ما بينه وبين ثلثيها». ونحوه صحيحة علي
بن جعفر الأولى فإن مفادها الجواز دون الوجوب ، وصحيحته الثانية صريحة في التخيير
حيث قال : «فليرجع ان أحب» وحينئذ فيحمل ما دل على الأمر بالرجوع صريحا أو ظاهرا
على الاستحباب دون الإيجاب.
و (اما رابعا) فلانه لو كان الحكم في هذه الصورة وجوب
الرجوع لما ذكره من عدم الاعتداد لم يكن لاستثناء سورتي التوحيد والجحد من ذلك وجه
لاشتراك الجميع في عدم الاعتداد الموجب لتعيين المعدول إليه حينئذ ، مع دلالة أكثر
الروايات الدالة
على هذا الحكم على استثناء هاتين
السورتين منه ووجوب المضي فيهما وعدم جواز الرجوع كما عليه الأصحاب.
وبالجملة فالظاهر من الروايات استحباب العدول من كل سورة
دخل فيها بغير قصد غير السورتين المذكورتين وان جاز له المضي فيها ، إذ هو الظاهر
مما تضمنته من الأمر بالرجوع صريحا أو ظاهرا ، وظاهر الأصحاب أيضا الاتفاق على
جواز الرجوع هنا دون وجوبه. والله العالم.
تتمة تشتمل على فوائد
(الأولى) ـ نقل في الذكرى عن ابن أبي عقيل (قدسسره) انه قال لا
يقرأ في الفريضة ببعض السورة ولا بسورة فيها سجدة مع قوله بأن السورة غير واجبة.
وقال أيضا من قرأ في صلاة السنن في الركعة الأولى ببعض السورة وقام في الركعة
الأخرى ابتدأ من حيث بلغ ولم يقرأ بالفاتحة. قال في الذكرى : وهو غريب والمشهور
قراءة الحمد وقد روى سعد بن سعد عن الرضا (عليهالسلام) (1) «في من قرأ
الحمد ونصف سورة هل يجزئه في الثانية ان لا يقرأ الحمد ويقرأ ما بقي من السورة؟
فقال يقرأ الحمد ثم يقرأ ما بقي من السورة». والظاهر انه في النافلة.
(الثانية) ـ أجمع علماؤنا وأكثر العامة على ان المعوذتين
من القرآن العزيز وانه يجوز القراءة بهما في الصلاة المفروضة ، روى منصور بن حازم (2) قال «أمرني
أبو عبد الله (عليهالسلام) ان اقرأ
المعوذتين في المكتوبة». وعن صفوان الجمال في الصحيح (3) قال : «صلى
بنا أبو عبد الله (عليهالسلام) المغرب فقرأ
بالمعوذتين ، ثم قال هما من القرآن». وعن صابر مولى بسام (4) قال «أمنا أبو
عبد الله (عليهالسلام) في صلاة
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من القراءة.
(2 و 4) الوسائل الباب 47 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 47 من القراءة. ولم تجد في شيء من كتب
الأخبار قوله : «ثم قال هما من القرآن» وآخر الرواية هكذا «فقرأ بالمعوذتين في
الركعتين».
المغرب فقرأ المعوذتين ثم قال : هما
من القرآن».
قال في الذكرى : ونقل عن ابن مسعود انهما ليستا من
القرآن وانما أنزلتا لتعويذ الحسن والحسين (عليهماالسلام) وخلافه انقرض
واستقر الإجماع الآن من العامة والخاصة على ذلك (1) انتهى.
أقول : روى الحسين بن بسطام في كتاب طب الأئمة عن أبي
عبد الله (عليهالسلام) (2) «انه سئل عن
المعوذتين أهما من القرآن؟ قال (عليهالسلام) هما من
القرآن. فقال الرجل انهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ولا في مصحفه؟ فقال (عليهالسلام) أخطأ ابن
مسعود أو قال كذب ابن مسعود هما من القرآن. قال الرجل أفأقرأ بهما في المكتوبة؟
قال نعم».
وروى علي بن إبراهيم في تفسيره بسنده عن أبي بكر الحضرمي
(3) قال :
__________________
(1) في الدر المنثور للسيوطي ج 6 ص 416 وروح المعاني للالوسى ج
3 ص 279 «أخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن
مسعود انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول لا تخلطوا القرآن بما ليس منه انهما
ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي «ص» ان يتعوذ بهما. وكان ابن مسعود لا يقرأهما.
وقال البزار لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة. وصح عن النبي «ص» انه قرأ بهما في
الصلاة واثبتتا في المصحف» وفي إرشاد الساري ج 7 ص 442 «وقع الخلاف في قرآنيتهما
ثم ارتفع الخلاف ووقع الإجماع عليه فلو أنكر أحد قرآنيتهما كفر» وفي عمدة القارئ ج
9 ص 298 مثله. وفي فتح الباري ج 8 ص 525 «وقد تأول القاضي أبو بكر الباقلاني في
كتاب الانتصار وتبعه عياض وغيره فقال لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن وانما
أنكر إثباتهما في المصحف ، فإنه كان يرى ان لا يكتب في المصحف شيئا إلا أن يأذن
النبي «ص» فيه وكأنه لم يبلغه الاذن فهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا. وهذا
تأويل حسن إلا ان الرواية الصحيحة جاءت عنه انهما ليستا من القرآن إلا ان يحمل
القرآن على المصحف».
(2 و 3) الوسائل الباب 47 من القراءة.
«قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) ان ابن مسعود
كان يمحو المعوذتين من المصحف؟ فقال كان أبي يقول انما فعل ذلك ابن مسعود برأيه
وهما من القرآن».
وهذه الأخبار كما ترى متفقة الدلالة على ما عليه الأصحاب
إلا ان كلامه (عليهالسلام) في كتاب
الفقه الرضوي صريح الدلالة في ما نقل عن ابن مسعود حيث قال (عليهالسلام) (1) : وان
المعوذتين من الرقية ليستا من القرآن أدخلوهما في القرآن ، وقيل ان جبرئيل (عليهالسلام) علمهما رسول
الله (صلىاللهعليهوآله) الى ان قال
أيضا : واما المعوذتين فلا تقرأهما في الفرائض ولا بأس في النوافل. انتهى. والأقرب
حمله على التقية.
(الثالثة) ـ قال في الذكرى : لا قراءة عندنا في
الأخيرتين زائدا على الحمد فرضا ولا نفلا وعليه الإجماع منا ، وفي الجعفريات (2) عن النبي (صلىاللهعليهوآله) «انه كان
يقرأ في ثالثة المغرب : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ
لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ» (3). قال : وهو
محمول على إيرادها دعاء لا انه جزء من الصلاة.
(الرابعة) ـ روى الشيخ في التهذيب عن زرارة (4) قال : «قلت
لأبي جعفر (عليهالسلام) أصلي بقل هو
الله أحد؟ فقال نعم قد صلى رسول الله (صلىاللهعليهوآله) في كلتا
الركعتين بقل هو الله أحد لم يصل قبلها ولا بعدها بقل هو الله أحد أتم منها». قال
في الذكرى بعد نقل هذا الخبر : قلت تقدم كراهة ان يقرأ بالسورة الواحدة في
الركعتين فيمكن ان يستثني من ذلك «قل هو الله أحد» لهذا الحديث ولاختصاصها بمزيد
الشرف ، أو فعله النبي (صلىاللهعليهوآله) لبيان جوازه.
أقول : المشهور في كلام الأصحاب كراهة قراءة السورة
الواحدة في الركعتين استنادا إلى رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليهالسلام) (5) قال : «سألته
__________________
(1) ص 9.
(2) ص 41.
(3) سورة آل عمران الآية 8.
(4) الوسائل الباب 7 من القراءة.
(5) الوسائل الباب 6 من القراءة.
عن الرجل يقرأ سورة واحدة في الركعتين
من الفريضة وهو يحسن غيرها فان فعل فما عليه؟ قال إذا أحسن غيرها فلا يفعل وان لم
يحسن غيرها فلا بأس». وجملة من الأصحاب قد استثنوا من هذا الحكم سورة التوحيد
للخبر المذكور أولا ، ونحوه صحيحة حماد بن عيسى الواردة في تعليم الصادق (عليهالسلام) له الصلاة (1) حيث قال فيها
: «ثم قرأ الحمد بترتيل وقل هو الله أحد ، وساق الكلام في حكاية صلاته (عليهالسلام) الى ان قال :
فصلى ركعتين على هذا».
(الخامسة) ـ روى السكوني عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (2) انه قال : «في
الرجل يصلي في موضع ثم يريد ان يتقدم؟ قال يكف عن القراءة في مشيه حتى يتقدم إلى
الموضع الذي يريد ثم يقرأ». قال في الذكرى : قلت هذا الحكم مشهور بين الأصحاب ،
وهل الكف واجب؟ توقف فيه بعض المتأخرين ، والأقرب وجوبه لظاهر الرواية ، وان
القرار شرط في القيام. انتهى. وقال العلامة في المنتهى إذا أراد الرجل ان يتقدم في
صلاته سكت عن القراءة ثم تقدم لأنه في تلك الحال غير واقف ، ويؤيده ما رواه الشيخ (قدسسره) ، ثم ذكر
الرواية.
(السادسة) ـ قد ورد في صحيحة علي بن يقطين عن أبي الحسن (عليهالسلام) (3) «في المصلي خلف
من لا يقتدى بصلاته والامام يجهر بالقراءة؟ قال اقرأ لنفسك وان لم تسمع نفسك فلا
بأس».
وفي مرسلة علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليهالسلام) (4) «يجزئك إذا كنت
معهم من القراءة مثل حديث النفس».
قال في الذكرى : قلت هذا يدل على الاجتزاء بالإخفات عن
الجهر للضرورة وعلى
__________________
(1) ص 2.
(2) الوسائل الباب 34 من القراءة.
(3) الوسائل الباب 52 من القراءة.
(4) الوسائل الباب 52 من القراءة ، والمرسل في كتب الحديث هو
محمد بن أبي حمزة.
__________________
(1) عوائد النراقي ص 88 وعناوين مير فتاح ص 146 عن عوالي اللئالي عن على «ع».