ج21 - كتاب الوديعة

 كتاب الوديعة

وتحقيق الكلام في هذا الكتاب يقتضي بسطه في بحوث ثلاثة :

البحث الأول ـ الوديعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع ، قال الله تعالى «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» (1) ، وقال تعالى «فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ» (2).

وأما السنة فالأخبار بذلك مستفيضة تكاد تبلغ حد التواتر المعنوي ، فروى في الكافي والتهذيب عن الحسين الشيباني (3) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قلت له : ان رجلا من مواليك يستحل مال بنى أمية ودمائهم وانه وقع لهم عنده وديعة ، فقال : أدوا الأمانات إلى أهلها وان كانوا مجوسيا ، فان ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا (عليه‌السلام) فيحل ويحرم.

أقول : الظاهر أنه لا منافاة بين استحلال أموالهم ودمائهم وبين وجوب أداء الأمانة لهم لما سيظهر لك من تكاثر الاخبار بوجوب أدائها ، وان كان من يحل ماله ، كما يشير اليه التمثيل بالمجوس.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 58.

(2) سورة البقرة ـ الاية 282.

(3) الكافي ج 5 ص 132 ح 2 ، التهذيب ج 6 ص 351 ح 114 الوسائل ج 13 ص 222 ح 5.


ويحتمل حمل الخبر على عمومه من تحريم أموالهم ودمائهم ، ويكون حينئذ خارجا مخرج التقية كما يشير اليه آخر الخبر ، ويمكن حمل آخر الخبر بناء على المعنى الأول على أنه يجب أداء الأمانة لهم في ذلك الوقت ، وأنه يتغير هذا الحكم بعد ظهوره (عليه‌السلام) ولا يخلو عن شي‌ء.

وروى في الكافي عن محمد بن مسلم (1) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) أدوا الأمانات ولو الى قاتل ولد الأنبياء (عليهم‌السلام)». وروى في الكافي والتهذيب عن عمر بن أبى حفص (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : اتقوا الله وعليكم بأداء الأمانة ، الى من ائتمنكم فلو أن قاتل على بن أبى طالب (عليه‌السلام) ائتمنني على أمانة لا ديتها اليه.

وعن عمار بن مروان (3) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) في وصية له : اعلم أن ضارب على (عليه‌السلام) بالسيف وقاتله لو ائتمنني على سيف واستنصحني أو استشارني ثم قبلت ذلك منه لأديت إليه الامانة».

وعن محمد بن القاسم بن الفضيل (4) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا من مواليك مالا له قيمة ، والرجل الذي عليه المال رجل من العرب يقدر على أن لا يعطيه شيئا ، ولا يقدر له على شي‌ء والرجل الذي استودعه رجل خبيث خارجي فلم ادع شيئا ، فقال لي : قل له : رده عليه ، فإنه ائتمنه عليه بأمانة الله عزوجل».

وروى في الكافي عن عبد الرحمن بن سيابة (5) قال : لما أن هلك أبى سيابة جاء رجل من إخوانه إلى فضرب الباب على فخرجت اليه فعزانى وقال لي : هل ترك أبوك شيئا ، فقلت له : لا فدفع الى كيسا فيه ألف درهم وقال :

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 133 ح 3 الوسائل ج 13 ص 223 ح 6.

(2 و 3 و 4) الكافي ج 5 ص 133 ح 4 ، التهذيب ج 6 ص 351 ح 115 ، الوسائل ج 13 ص 221 ح 2 وص 223 ح 8 و 9.

(5) الكافي ج 5 ص 134 ح 9. الوسائل ج 13 ص 219 ح 6.


أحسن حفظها وكل فضلها ، فدخلت إلى أمي وأنا فرح فأخبرتها فلما كان بالعشي أتيت صديقا كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري وجلست في حانوت فرزق الله فيها خيرا كثيرا ، فحضر الحج فوقع في قلبي فجئت إلى أمي وقلت لها : قد وقع في قلبي أن أخرج الى مكة؟ فقالت لي : فرد دراهم فلان عليه ، فهيأتها وجئت بها اليه فدفعتها اليه فكأني وهبتها اليه ، فقال ، لعلك استقللتها فأزيدك ، قلت : لا ولكن وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك ، ثم خرجت فقضيت نسكي ثم رجعت الى المدينة ، فدخلت مع الناس على أبى عبد الله (عليه‌السلام) وكان يأذن إذنا عاما فجلست في مواخير الناس ، وكنت حدثا فأخذ الناس يسئلونه ويجيبهم فلما خف الناس عنه أشار الى فدنوت اليه فقال لي : ألك حاجة؟ فقلت له : جعلت فداك أنا عبد الرحمن بن السيابة فقال لي : ما فعل أبوك قلت : هلك ، فتوجع وترحم ، قال : ثم قال لي : فترك شيئا؟ قلت : لا قال : فمن أين حججت؟ قال : فابتدأت فحدثته بقصة الرجل ، قال : فما تركني أفرغ منها حتى قال لي : فما فعلت في الألف قال : قلت : رددتها على صاحبها ، قال لي : قد أحسنت وقال لي : إلا أوصيك؟ قلت : بلى جعلت فداك ، فقال : عليك بصدق الحديث وأداء الأمانة ، تشرك الناس في أموالهم هكذا ، وجمع بين أصابعه قال : فحفظت ذلك عنه فزكيت ثلاثمأة ألف درهم». الى غير ذلك من الاخبار الجارية في هذا المضمار.

وأما الإجماع فقد نقله جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة قال : وقد أجمع المسلمون كافة على جوازها ، وتواترت الاخبار بذلك.

أقول : ويؤكد ذلك دلالة العقل والنقل على قضاء حاجة المؤمن وإدخال السرور عليه مع عدم المانع ، كما لو لم يثق من نفسه بالحفظ لبعض الأسباب المتوقف عليها ذلك ، قال في التذكرة ـ بعد أن صرح بالاستحباب كما ذكرنا ـ : ولو لم يكن هناك غيره فالأقوى أنه يجب عليه القبول ، لانه من المصالح العامة.

وبالجملة فإن القبول واجب على الكفاية ، ثم استثنى ما إذا تضمن بالقبول


ضررا في نفسه أو ماله أو على أحد من إخوانه المؤمنين ولا بأس به ، وقال في التذكرة أيضا : الوديعة مشتقة من ودع يدع : إذا استقر وسكن ، أو من قولهم يدع كذا أى يتركه ، والوديعة متروكة مستقرة عند المستودع ، وقيل : إنها مشتقة من الدعة ، وهي الخفض والراحة ، يقال : ودع الرجل : فهو وديع وو ادع ، لأنها في دعة عند المودع ، لا تتبدل ولا تتبذل ولا تستعمل ، والوديعة يطلق في العرف على المال الموضوع عند الغير ليحفظه ، والجمع الودائع ، واستودعته الوديعة أي استحفظته إياها ، وعن الكسائي أو دعته كذا : إذا دفعت إليه الوديعة فقبلها ، وأو دعته كذا : إذا دفع إليك الوديعة فقبلتها ، وهو من الأضداد والمشهور في الاستعمال المعنى الأول ، انتهى.

أقول : قال في كتاب المصباح المنير : والوديعة : هو فعلية بمعنى مفعولة ، وأودعت زيدا مالا ، دفعته اليه ليكون عنده وديعة ، وجمعها ودائع ، واشتقاقها من الدعة وهي الراحة ، أو أخذته منه وديعة ، فيكون الفعل من الأضداد ، لكن الفعل في الدفع أشهر ، واستودعته مالا ، دفعته له وديعة يحفظه ، وقد ودع زيد بضم الدال وفتحها وداعة بالفتح ، والاسم الدعة وهي الراحة ، وخفض العيش والهاء عوض من الواو ، انتهى.

وقد عرفها بعض الفقهاء بأنها الاستنابة في الحفظ ، وعرفها في التذكرة بأنها عقد يفيد الاستنابة في الحفظ ، وهو أظهر قال : وهي جائزة من الطرفين بالإجماع ، ولكل منها فسخه ، ولا بد فيها من إيجاب وقبول ، فالإيجاب كل لفظ دل على الاستنابة بأي عبارة كان ، ولا ينحصر في لغة دون أخرى ، ولا في عبارة دون أخرى ، ولا يفتقر الى التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة ، والقبول قد يكون بالقول ، وهو كل لفظ يدل على الرضا بالنيابة في الحفظ ، بأي عبارة كان ، وقد يكون بالفعل ، وهل الوديعة عقد برأسه؟ أو اذن مجرد ، الأقرب الأول ، انتهى.


وبنحو ذلك صرح جملة ممن تأخر عنه منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال : مقتضى كونه عقدا تركيبه من الإيجاب والقبول بالقولين ، ومقتضى جوازه عدم انحصاره في عبارة ، بل يكفى كل لفظ دل عليه ، ولا يعتبر فيه التصريح ، بل يكفى التلويح والإشارة المفهمة لمعناه اختيارا ، ثم قال بعد قول المصنف (رحمة الله عليه) : ويكفى الفعل الدال على القبول ، أطلق المصنف وجماعة أنه يكفى القبول الفعلي مع اعترافهم بكونه عقدا نظرا الى أن الغاية منه انما هو الرضا بالاستنابة ، وربما كان الفعل فيه أقوى من القبول ، باعتبار التزامه ودخوله في ضمانه لو قصر ، بخلاف القبول القولي ، فإنه وان لزمه ذلك شرعا الا أنه ليس صريحا في الالتزام من حيث أنه عقد جائز ، فإذا فسخه ولم يكن قبضه لم يظهر أثره واليد توجب الحفظ الى أن يرده الى مالكه ، لعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (1). وهذا حسن ، الا أن فيه بعض الخروج عن حقيقة العقد ، ومن ثم ذهب بعض العلماء إلى أنها اذن مجرد ، لا عقد ، وفرع عليه عدم اعتبار القبول القولي ، وآخرون الى أن الإيجاب ان كان بلفظ أو دعتك وشبهه مما هو على صيغ العقود وجب القبول لفظا ، وان قال احفظه ونحوه لم يفتقر الى القبول اللفظي ، كالوكالة ، وهو كلام موجه.

أقول : لا يخفى أن ما طولوا به الكلام في هذا المقام من أنه لا بد من عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والخلاف في القبول بكونه قوليا أو فعليا ، وكذا الخلاف بكونه عقدا أو إذنا كله تطويل بغير طائل ، إذ لا يظهر له عند التأمل والتحقيق ثمرة ولا حاصل ، والأمر في ذلك معروف بين جملة الناس من عالم وجاهل ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في أن من قصد غيره بمال ليودعه عنده ، وجرى بينهما من الكلام ما يدل على الرضا بذلك ، من الطرفين بحيث لا يتوهم كونه هدية ولا عطية ولا بيعا ، ولا نحو ذلك ترتب عليه أحكام الوديعة شرعا ، سواء

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


سمى ذلك عقدا أو إذنا أو غير ذلك ، ولا فرق أيضا في ذلك بين أن يكون الدال على المراد من ذلك لفظا أو فعلا إذا اقترن بما يدل على المراد.

وبالجملة فالظاهر أنه يكفى ما يدل على الاستنابة وقبولها مطلقا ، وأنها مجرد الاذن في النيابة ، وأنه ما لم يقبض أو يقبل بما يفيد القبول لم يدخل في الضمان والا فإنه يلزم الضمان ، وليس في النصوص زيادة على ما ذكرنا عين ولا أثر

وكيف كان فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع الأول ـ إذا طرح الوديعة عنده فهيهنا صور :

الاولى ـ أن يطرحها عنده ولا يحصل منه ما يدل على الاستنابة في الحفظ ، ولم يحصل من الأخر ما يدل على القبول ، ولا إشكال في عدم ثبوت الوديعة ، ولا في عدم وجوب الحفظ.

الثانية ـ الصورة بحالها ولكن حصل القبول القولي من الأخر ، وحكمها كسابقها ، فإنه بمجرد الطرح ما لم يضم الى ذلك كونه وديعة ، لا يستلزم وجوب الحفظ ، ولا الضمان.

الثالثة ـ الصورة الأولى بحالها ، ولكن قبضه الأخر ولا ريب أنه لا يصير وديعة ، ولكن يجب حفظه ، ويضمنه لخبر «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (1).

الرابعة ـ أن يطرحه ويضم الى ذلك ما يدل على قصد الإيداع ، ويحصل القبول من الأخر قولا أو فعلا ، ولا ريب في ثبوت كونه وديعة ، فيجب الحفظ ، ويضمن مع التفريط.

الخامسة ـ الصورة بحالها ولكن لم يحصل من الأخر ما يدل على القبول لا قولا ولا فعلا ، ولا ريب في أنها لا تصير وديعة ، ولا يجب عليه حفظها حتى لو ذهب وتركها لم يضمن ، الا أنهم صرحوا بأنه لو كان ذهابه بعد أن غاب المالك فإنه يأثم لوجوب الحفظ عليه من باب المعاونة على البر ، واعانة المحتاج ، فيكون

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


من باب الواجبات الكفائية ، وفيه ما فيه.

ثم انه بالنسبة إلى الصورة الرابعة المشتملة على تحقق الوديعة لو ذهب المستودع بعد طرح الوديعة والمالك حاضر ، فإنه جزم في التذكرة بأن ذلك رد الوديعة ، ولو كان المالك غائبا ضمن.

قال في المسالك : ويشكل تحقق الرد بمجرد الذهاب عنها ، مع حضور المالك ، لأصالة بقاء العقد ، وكون الذهاب أعم منه ما لم ينضم إليه قرائن تدل عليه ، وهو جيد من حيث التعليل الثاني.

أما الأول أعني الاستناد إلى أصالة العقد فهو ضعيف ، لما أشرنا إليه آنفا من أنه لا عقد هنا.

وأما الثاني فإنه جيد ، لانه لما ثبت كونه وديعة كما هو المفروض فالأصل البقاء على حكمها حتى يثبت ما يوجب فسخها ، وذهاب المستودع لا يدل عليه ، لأنه أعم من ذلك ، والعام لا يدل على الخاص ،

إذا عرفت فاعلم أن ظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية المناقشة في الصورة الثانية والثالثة مدعيا حصول الوديعة بمجرد الطرح ، فان ظاهر وضع المال عنده أن غرض المالك الاستنابة في الحفظ وان لم يقل لفظا يدل عليه ، والظاهر أنه لا يعتبر في إيجاب الوديعة لفظ ، بل يكفى ما يدل على الرضا مطلقا ، فلا حاجة الى انضمام أمر آخر يدل على الاستنابة في حفظه.

أقول : لا ريب أن مجرد الطرح أعم مما ذكره ، والعام لا دلالة له على الخاص نعم ان انضم الى ذلك قرينة حالية أو مقالية تفهم قصد الوديعة فالأمر كذلك ونحن لا نوجب لفظا مخصوصا ولا فعلا مخصوصا ، ولكن لا بد من شي‌ء يفهم منه قصد الوديعة ، ومجرد الطرح لا يفيده كما عرفت.

الثاني ـ لو أكره على قبض الوديعة لم تصر وديعة ، ولا يجب عليه حفظها ولا ضمانها ، مع احتمال حفظها ، كل ذلك لمكان الإكراه.


واستثنى شيخنا الشهيد الثاني (رحمه‌الله عليه) في الروضة أن يكون المكره مضطرا إلى الإيداع ، قال : فيجب عليه إعانته عليه كالسابق ، وأشار به الى ما قدمنا ذكره في الصورة الخامسة.

نعم لو وضع يده عليها بعد زوال الإكراه مختارا ، فإنه يجب عليه حفظها ، باليد الجديدة ، لخبر «على اليد ما أخذت» (1).

لا من حيث الإكراه ، وهل تصير بذلك وديعة أم أمانة شرعية؟ قال في المسالك : يحتمل الأول ، لأن المالك كان قد أذن له ، واستثنا به في الحفظ ، غايته أنه لم يتحقق معه الوديعة ، لعدم القبول الاختياري ، وقد حصل الان ، والمقاربة بين الإيجاب والقبول غير لازمة ، ومن إلغاء الشارع ما وقع سابقا فلا يترتب عليه أثر ، ويشكل بأن إلغائه بالنظر الى القابض لا بالنظر الى المالك.

ثم قال : ويمكن الفرق بين وضع اليد اختيارا بنية الاستيداع ، وعدمه ، ويضمن على الثاني ، دون الأول ، إعطاء لكل واحد حكمه الأصلي ، انتهى.

أقول : والمسئلة لخلوها من النص لا تخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكره أخيرا من التفصيل لا يخلو من وجه ، والله العالم.

الثالث ـ قال بعض المحققين : إذا استودع وجب عليه الحفظ ، ولا يلزمه دركها لو تلفت من غير تفريط ، أو أخذت منه قهرا نعم لو تمكن من الدفع وجب ولو لم يفعل ضمن ، ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع ، كالجرح وأخذ المال ، ولو أنكرها فطولب باليمين ظلما جاز الحلف صوريا ما يخرج به عن الكذب ، انتهى.

أقول : وتفصيل هذا الإجمال وبيان ما اشتمل عليه هذا المقال يقع في موارد أحدها أن ما ذكره من وجوب الحفظ عليه متى استودع أى قبل الوديعة مما لا ريب فيه ، ويدل عليه الاخبار المتقدمة الدالة على وجوب أداء الأمانة ،

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


فإنه لو لا وجوب حفظها لم يجب أداؤها ، وذلك أنه متى رخص له في إهمالها وعدم حفظها كيف يترتب عليه وجوب الأداء

ويدل عليه أيضا ما يأتي ـ ان شاء الله ـ من الاخبار الدالة على وجوب الضمان مع مخالفة أمر المالك في الحفظ أو الرد ، ووجوب الحفظ عليه ما دام مستودعا لا مطلقا ، لأن الوديعة من العقود الجائزة التي لهما فسخها متى أرادا ، والواجب حينئذ هو ردها أو حفظها ، فيصدق وجوب الحفظ في الجملة من حيث أنه أحد فردي الواجب المخير.

واعلم أنه قد قسموا القبول الذي يتفرع عليه حكم الحفظ إلى أقسام ، ـ فمنه ما يكون واجبا كما إذا كان المودع مضطرا الى الاستيداع ، فإنه يجب على كل قادر على ذلك واثق من نفسه بالحفظ قبول ذلك منه كفاية ، ولو انحصر في واحد كان واجبا عليه عينا ، ووجوب الحفظ على هذا واضح كفاية أو عينا ، وقد يكون مستحبا كما في الصورة المذكورة ، الا أن المودع غير مضطر لما فيه من المعاونة على البر ، وقضاء حوائج المؤمنين.

وقد يكون محرما كما إذا كان عاجزا عن الحفظ ، أو غير واثق من نفسه بالأمانة لما فيه من تعريض مال الغير الى الذهاب ، والتعرض للتفريط المحرم ، ومثله ما لو تضمن القبول ضررا على المستودع في نفسه أو ماله أو بعض المؤمنين ، وبهذا التقسيم يظهر وجوب الحفظ وعدمه ، وأما كيفية الحفظ فسيأتي الكلام فيه ان شاء الله تعالى.

وثانيها ـ ما ذكره من أنه لا درك عليه مع عدم التفريط ، فالظاهر أنه إجماعي نصا وفتوى ، فمن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي في الصحيح أو الحسن (1) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «صاحب

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 238 ح 1 ، التهذيب ج 7 ص 179 ح 3 ، الفقيه ج 3 ص 193 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 227 ح 2.


الوديعة والبضاعة مؤتمنان».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة (1) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن وديعة الذهب والفضة فقال : كل ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم».

والمراد بقوله لم يكن مضمونة أى لم يشترط المستودع فيها الضمان لمن أودعه إياها ، فإنه لا يلزمه ، غرمها.

وعن إسحاق بن عمار (2) في الموثق قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الأخر أنها كانت عليك قرضا ، فقال : المال لازم له الا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة».

وما رواه المشايخ الثلاثة (رحمة الله عليهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح وغيره عن محمد بن مسلم (3) «عن أبى جعفر (عليه‌السلام) قال : سألت عن الرجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق ، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال : ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أمينا».

وما رواه (4) في التهذيب والفقيه في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) في رجل استأجر أجيرا فأقعده على متاعه فسرق؟ قال : هو مؤتمن». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة ، وقد تقدمت جملة منها في الكتب المتقدمة.

وثالثها ـ ما ذكره من عدم الضمان عليه لو أخذت منه قهرا ، والظاهر

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 239 ح 7 ، التهذيب ج 7 ص 179 ح 2 و 1.

(3) الكافي ج 5 ص 238 ح 4 ، التهذيب ج 7 ص 184 ح 15 ، الفقيه ح 4092.

(4) التهذيب ج 7 ص 184 ح 14 ، الفقيه ج 3 ص 194 ح 2. وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 228 ح 4 وص 232 ب 7 وص 237 ح 8 وص 227 ح 2.


أنه لا اشكال فيه ، سواء كان قد تولى الظالم أخذها من يده أو من مكانها التي كانت فيه ، أو قهره على الإتيان بها فدفعها اليه ، لانتفاء التفريط في كل من الحالين وحينئذ فيرجع المالك على الظالم بالعين أو العوض : ونقل في المختلف عن أبى الصلاح أنه يضمن إذا سلمها بيده وان خاف التلف ، ولا ريب في ضعفه.

وهل للمالك الرجوع على المؤتمن في الصورة الثانية ، من حيث أنه باشر تسليم مال الغير الى غير مالكه ، بمعنى أنه يتخير في الرجوع على أيهما شاء؟ استقرب العلامة في التذكرة ذلك على ما نقله عنه في المسالك ، قال : وعلى هذا فمعنى عدم ضمانه أنه لا يستقر عليه ، بل يرجع بما غرم على الظالم ، واحتمله في المسالك أيضا الا أنه قال : والأقوى عدم جواز مطالبته ، لعدم تفريطه ولأن الإكراه صير فعله منسوبا الى المكره ، ولانه محسن فلا سبيل عليه ، والتسليم باذن الشارع ، فلا يستعقب الضمان ، انتهى.

أقول : وهذا الاحتمال الذي استقربه في التذكرة يرجع الى ما قدمنا نقله عن أبى الصلاح ، وما ذكره في المسالك في رده جيد ، يمكن تأييده بما تقدم في كتاب المزارعة عن حديث سعيد الكندي (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) انى أجرت قوما أرضا فزاد السلطان عليهم ، قال : أعطهم فضل ما بينهما ، قلت : أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم ، قال : انهم انما زادوا على أرضك».

فإنه ظاهر في أنه وان كان الظالم انما ظلم أولئك وأخذ من مالهم لكن لما كان منشأه الأرض المذكورة حكم (عليه‌السلام) بذلك على المالك ، ومثله ما لو طلب الظالم ما لا في ذمته لزيد بقصد الظلم لزيد ، فان مقتضى الخبر أنه لا يرجع زيد بما أخذه الظالم على من كان المال في ذمته ، فبطريق الاولى لا يرجع فيما نحن فيه من حيث قبضه عين الامانة.

وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما نقل عن العلامة من قرب القول المذكور

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 208 ح 61 ، الوسائل ج 13 ص 211 ح 10.


نعم لو كان الأمين هو الساعي بها الى الظالم ، ولم يقدر بعد ذلك على دفعه ، فإنه لا يبعد ضمانه من حيث تفريطه في الحفظ بالسعاية اليه ، وبذلك صرحوا جازمين بالحكم المذكور ، بخلاف ما لو كان السعاية من غيره ، أو علم بها الظالم من غير سعاية أحد.

قالوا : ومثله ما لو أخبر اللص بها فسرقها وهو ظاهر فيما لو أخبره بمكانها ، أما لو أخبره بها في الجملة فإن ظاهر العلامة في التذكرة : أنه لا يضمن.

قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : ويشكل مع كونه سببا في السرقة لانه تفريط نعم لو لم يقصدها اللص فاتفقت مصادفته لها توجه ذلك ، وهذا بخلاف الظالم ، فإنه بعمله يضمن مطلقا ، والفرق أن الظالم إذا علم بها أخذها قهرا والسارق لا يمكنه أخذها إلا إذا علم موضعها ، انتهى.

أقول : وما ذكره في الفرق يرجع الى ما قدمناه من أنه لا يضمن في صورة إخبار السارق الا مع اخباره لمكانها فلا وجه لما ذكره من الاستشكال ودعوى الضمان بكونه سببا في السرقة وأنه تفريط ، فان ذلك لا يتم الا مع الاعلام بالمكان كما لا يخفى ، وبما ذكرناه في المقام يعلم ما في كلام بعض مشايخنا الاعلام من متأخري المتأخرين الكرام في بعض أجوبة مسائله من الغفلة في المقام ، حيث سأله السائل بما صورته إذا سأل الجائر هل عندك وديعة لفلان أم لا؟ فقال : نعم فأنفذ إلى داره وأخذها ، فهل يضمن الودعي أم لا؟ فان اعتذر بأن خاف الكذب فهل يعذر أم لا؟

فأجاب بما صورته أقول : هنا مسألتان : أما الاولى فلا يضمن الودعي بمجرد اخباره ـ إذا لم ينقلها اليه وان كان السبب في إتلافه إخباره بها ـ لكنه فعل محرما لإعانته على المعصية ، لأن الدال على الشر كفاعله ، وأما الثانية فالكذب هنا غير حرام بل واجب ، لحفظ مال المسلمين من التلف ، وقد ورد في الحديث أن الله يبغض الصدق في الإفساد كما يحب الكذب في الإصلاح ، انتهى.

فان فيه كما عرفت من كلامهم أنه متى كان هو الساعي بها الى الظالم والسبب


في أخذها فإنه يكون ضامنا ، ولا ريب أنه في اخباره الظالم بذلك بعد سؤاله له يكون قد سعى بها اليه.

ويؤكده أيضا ما ذكروه وسيأتي بيانه ان شاء الله تعالى من أنه لو يتمكن من الدفع وجب ، ولو لم يفعل ضمن ، فإنه إذا كان يضمن بعدم الدفع عنها لكونه مستلزما للتفريط في حفظها ، فلان يضمن مع اخباره بها بطريق أولى ، الا أنى لم أقف في الحكم المذكور على نص بالخصوص يوجب الضمان في الصورة المذكورة ، وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك ، ولعل المستند فيه صدق التفريط بذلك والنصوص قد دلت على الضمان معه ، وظاهر كلامه تخصيص الضمان بصورة نقلها اليه ودفعها بيده دون السعى بها.

وبالجملة فالظاهر أن كلامه هنا ناش عن الغفلة عن مراجعة كلام الأصحاب وإعطاء التأمل حقه في الباب ، والله العالم.

ورابعها ـ ما ذكره من أنه لو تمكن من الدفع وجب ، أى تمكن من دفع الظالم عن الوديعة ، ولا إشكال في وجوبه ، لوجوب الحفظ عليه كما تقدم ، فيجب كلما توقف عليه ، فلو أهمل مع قدرته على ذلك ضمن بالتقريب المتقدم ، سواء كان الدفع بالاختفاء والتواري عن الظالم ، أو التوسل الى ذلك بالوسائل ، ولو توقف ذلك على دفع المال منها أو من غيرها بحيث لا يندفع بدونه عادة ، قال في المسالك : الأقرب جوازه ، ويرجع به على المالك ان لم يمكن استيذانه قبل الدفع ، أو استيذان وليه ، وعدم نية التبرع ولو ترك الدفع عنها ببعضها مع إمكانه ضمن ، ما يزيد عما يدفعه به لا الجميع لان مقدار المدفوع ذاهب على التقديرين انتهى.

وأشار بقوله : ولا يجب تحمل الضرر الكثير بالدفع كالجرح وأخذ المال إلى أنه لو كان الضرر قليلا وجب تحمله في دفع الظالم الا أن فيه ان ذلك مما يختلف باختلاف إقدار الناس ومراتبهم ، فرب رجل لمزيد شرفه ورفعة قدره


يكون الكلمة اليسيرة من الأذى ضررا كثيرا في حقه ، ورب رجل لا يكون الضرر في حقه لمهانته وضعته ضررا كثيرا ، الا أن يقيد بذلك فيكون المعتبر ما كان ضررا كثيرا بالنسبة إلى المؤتمن لا مطلقا ، والأظهر حمل الضرر على ما كان كذلك في حد ذاته عرفا لا بالنسبة إلى المؤتمن ، فلا يجوز له وان كان شريفا على المرتبة دفع الوديعة بمجرد كلمة تؤذيه وان كانت ضررا كثيرا بالنسبة إليه كما تقدم ، ويؤيده أنه الا وفق بالاحتياط لبراءة الذمة.

وخامسها ـ ما ذكره من أنه لو أنكرها وطولب باليمين الى آخره ، فإنه جيد إذ لا ريب في أن حفظ الامانة واجب عليه وهو موقوف هنا على هذه اليمين الكاذبة ، والاخبار قد دلت على جوازها في أمثال هذا المقام فإذا أبيحت في أمثال ذلك كانت هنا واجبة ، لتوقف الواجب ، وهو الحفظ عليها من باب مقدمة الواجب ، الا أنهم ذكروا أنه يوري في يمينه للتحرز عن الكذب ان أمكن وعرفها ، والا حلف من غير تورية ، وعلله في المسالك قال : لانه وان كان قبيحا الا أن ذهاب حق الأدمي أشد قبحا من حق الله تعالى في اليمين الكاذبة فيجب ارتكاب أخف الضررين.

وفيه نظر لأنا نمنع ما ذكره من قبح اليمين في هذه الحال ، بعد اذن الشارع بها ، وهو قد اعترف أيضا بذلك بعد هذا الكلام ، فقال : لان اليمين الكاذبة عند الضرورة مأذون فيها شرعا كمطلق الكذب النافع ، وحينئذ فأي وجه للقبح بعد الإذن الشرعي فيها.

وكيف يكون قبيحا مع كونه واجبا كما صرح به هو وغيره في المقام ، والا لزم اجتماع القبح والحسن والضرر والنفع في شي‌ء واحد ، فيلزم الذم والمدح والثواب والعقاب في شي‌ء واحد ، وهو محال. وكون الكذب قبيحا في حد ذاته لا يستلزم كونه هنا قبيحا بعد ما عرفت.

ومن الاخبار التي تدل على ما ذكرنا هنا من أرجحية اليمين الكاذبة


ومشروعيتها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن عن أبى الصباح الكناني (1) قال : «والله لقد قال لي جعفر بن محمد (صلوات الله عليه) : الى أن قال : ثم قال : ما صنعتم من شي‌ء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة» ،. وروى في الفقيه مرسلا (2) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : التقية في كل ضرورة وصاحبها أعلم بها حين نزل به».

وروى في الفقيه والتهذيب عن السكوني (3) «عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن على (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : احلف بالله كاذبا ونج أخاك من القتل».

وروى في الفقيه بسنده الى ابن بكير عن زرارة (4) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ولا يرضون منا الا بذلك : قال فاحلف لهم فهو أحلى من التمر والزبد».

وروى فيه أيضا بسنده عن الحلبي (5) قال : «سألته عن الرجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي عن محمد بن مسعود الطائي (6) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) : ان أمي تصدقت على بدار لها أو قال : بنصيب لها في دار ، فقالت لي : استوثق لنفسك فكتبت انى اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن فلما ماتت قال الورثة : احلف أنك اشتريت ونقدت الثمن ، فان حلفت لهم أخذته ،

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 442 ح 15 ، التهذيب ج 8 ح 1052 ، الوسائل ج 16 ص 162 ح 2.

(2) الفقيه ج 3 ص 230 ح 15 الوسائل ج 16 ص 163 ح 7.

(3) الفقيه ج 3 ص 235 ح 41 ، التهذيب ج 8 ص 300 ح 103 ، الوسائل ج 16 ص 162 ح 4.

(4 و 5) الفقيه ج 3 ص 230 ح 14 ، الوسائل ج 16 ص 163 ح 6.

(6) الكافي ج 7 ص 32 ح 17. الوسائل ج 13 ص 301 ح 5.


وان لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، قال : فقال : فاحلف وخذ ما جعلت لك» ، ونحو هذا الخبر ما رواه في التهذيب والفقيه عن محمد بن أبى الصباح (1) عن أبى الحسن.

وأما ما يدل على جواز التورية في اليمين فهو ما رواه في الكافي عن صفوان (2) في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه؟ قال : اليمين على الضمير».

رواه في الفقيه عن إسماعيل بن سعد الأشعري (3) عن أبى الحسن الرضا مثله ، ثم قال : يعنى على ضمير المظلوم ، كأنه بنى على ما يظهر من الخبر الاتى الا أن الظاهر عندي أنه أريد بذلك جواز التورية ، وان كان في غير مقام الظلم.

وما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (4) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) وسئل عما يجوز وعما لا يجوز في النية على الإضمار في اليمين ، فقال : قد يجوز في موضع ، ولا يجوز في موضع آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فما حلف عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم».

والظاهر أن المراد منه أن التورية انما تصح في حال كونه مظلوما ، وأراد الحلف للنجاة من الظالم كما هو محل البحث في المقام ، وأما لو كان ظالما وأراد الحلف لإثبات ما يدعيه ظلما فان التورية لا ينفع هنا ، ولا تدفع عنه ضرر اليمين دنيا وآخرة ، بل تصير يمينا كاذبة بالنظر الى نية المظلوم.

وكيف كان فإنه متى ترك الحلف عند توقف حفظ المال عليه فأخذه الظالم فإنه يضمنه لما عرفت من حصول التفريط بذلك ، وبه صرح الأصحاب أيضا والله العالم.

__________________

(1) التهذيب ج 9 ص 138 ح 27 ، الفقيه ج 4 ص 183 ح 24 ، الوسائل ج 16 ص 211 ح 1.

(2 و 3 و 4) الكافي ج 7 ص 444 ح 3 ، الوسائل ج 16 ص 179 ح 2 من باب 20.


الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أن الوديعة كما تبطل بالفسخ تبطل بالموت والجنون والإغماء من أحد الطرفين ، أما على القول بكونها إذنا فواضح ، وأما على القول بكونها عقدا كما هو المشهور فلانه لا خلاف بينهم في كونه من العقود الجائزة ومن شأن العقود الجائزة البطلان بذلك كالوكالة ونحوها ، لخروج كل منهما عن أهلية التكليف بحصول أحد هذه الأسباب الثلاثة ، ولان المال انتقل الى الغير بالموت فلا يصح التصرف فيه الا بإذن المالك ، وهو الوارث ، وفي الجنون ونحوه قد خرج عن أهلية التكليف ، وصلاحية الاذن ، والتصرف فهو في معنى الميت ، ومتى ثبت البطلان كانت أمانة شرعية يجب ردها الى المالك فورا ، فان اتفق أحد هذه الأسباب للمودع وجب على المستودع المبادرة إلى ردها الى المالك في صورة الفسخ ، والى الوارث في صورة الموت والى الولي والحاكم في صورة الجنون والإغماء ، وان اتفق ذلك للمستودع وجب ردها الى المالك في صورة الفسخ والى الولي والحاكم في صورة الجنون والإغماء وعلى الوارث في صورة الموت قالوا : ومعنى كونها أمانة شرعية بعد ذلك لحصولها في يده بغير اذن المالك ، لكنها غير مضمونة عليه لإذن الشارع في وضع اليد عليها الى أن يردها على وجهه ، ومن حكم الأمانة الشرعية وجوب المبادرة بردها على الفور الى المالك ، أو من يقوم مقامه ، فإن أخر عن ذلك مع قدرته ضمن ، ولو تعذر الوصول الى المالك أو وكيله أو وليه الخاص سلمها الى الحاكم لأنه ولي الغائب ، بقي الكلام هنا في أنه متى مات المودع وطلب الوارث الوديعة من المستودع مع شك المستودع في كونه وارثا أو في انحصار الإرث فيه وأراد البحث عن ذلك ، وتحقيق الحال ، والحال أنه ليس ثمة حاكم يرجع اليه ، فهل يكون ضامنا؟ والحال هذه ، قال في المسالك : الأقوى عدم الضمان ، خصوصا مع الشك في كون الموجود وارثا ، لأصالة عدمه.

وأما مع العلم بكونه وارثا فالأصل أيضا عدم استحقاقه ، لجميع المال والقدر المعلوم انما هو كونه مستحقا في الجملة ، وهو لا يقتضي انحصار الحق


فيه ، وأصالة عدم وارث آخر معارضة بهذا الأصل ، فيبقى الحكم في القابض ، وجوب البحث عن المستحق ، كنظائره من الحقوق ، انتهى.

أقول : لا إشكال في قوة ما رجحه (رحمة الله عليه) وقواه في صورة الشك في كونه وارثا ، وانما يبقى الإشكال في صورة العلم بكونه وارثا مع عدم العلم بالانحصار فيه ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا خلاف ما ذكره ، حيث قال ـ في شرح الإرشاد بعد أن ذكر أنه متى كان الميت أو الخارج عن صلاحية الإيداع هو المالك ، فيمكن وجوب الرد الى الوارث ما لفظه : ـ الظاهر وجوبه أو جوازه وان لم يعلم الانحصار فيه ، ولا يجوز مع الشك في أنه وارث ، ودليل الأول الأصل عدم وارث آخر مع العلم باستحقاق الموجود ، ولا يعارض بأصل عدم استحقاق الكل ، لان الاستحقاق واضح ، ووجود آخر مانع ، وظاهر كلام البعض عدم الوجوب ، بل عدم الجواز مع عدم العلم بالحصر ، وهو محل التأمل ، انتهى.

والظاهر أنه أشار بالبعض الى ما قدمنا نقله عن المسالك ، وبالجملة فالمسئلة محل توقف واشكال ، لعدم الدليل الواضح القاطع لمادة القيل والقال ، ويمكن ترجيح ما ذكره المحقق المشار إليه بأنه متى علم كونه وارثا ولم يعلم وارث سواه الا بمجرد احتمال وجوده ، فان ظاهر آيات الإرث وأخباره يقتضي الحكم بإرثه لجميع التركة ، فقول شيخنا ـ المتقدم ذكره ـ الأصل عدم استحقاقه لجميع المال ممنوع ، فان مقتضى الأدلة الاستحقاق ، للجميع لمعلومية كونه وارثا ، وانما يعارضه احتمال وجود آخر ، والظاهر أنه لا دليل شرعا على تأثير هذا الاحتمال في دفع ما علم بظاهر الأدلة المذكورة ، فإنه إذا قام الدليل على أن الولد يرث أباه مثلا ، ومات الأب وله ولد معلوم ، واحتمل أن يكون له ابن آخر ، فان مقتضى الأدلة وجوب دفع التركة إلى الولد المذكور المعلوم كونه وارثا ، واحتمال وجود غيره لا يؤثر شرعا في دفعه عن الجميع ، والله العالم.


ثم انهم قالوا : ان من جملة أحكام الأمانة الشرعية ـ مع ما تقدم من وجوب المبادرة إلى ردها وان لم يطالب المالك ـ أنه لا يقبل قول من هي في يده في ردها الى المالك مع يمينه ، بخلاف الوديعة ، والفرق أن المالك لم يستأمنه عليها ، فلا يقبل قوله في حقه مع أصالة عدمه ، بخلاف الوديعة ، مع ما انضم اليه من الإحسان الموجب لمنع السبيل.

ولها صور كثيرة : أحدها ـ ما ذكر من الوديعة التي يعرض لها البطلان ، وكذا غيرها من الأمانات كالمضاربة ، والشركة ، والعارية.

ومنها ما لو أطارت الريح ثوبا ونحوه الى داره.

ومنها ما لو انتزع المغصوب من الغاصب بطريق الحسبة.

ومنها ما لو أخذ الوديعة من صبي أو مجنون عند خوف تلفها.

ومنها ما يصير بأيدي الصبيان من الأموال التي يكتسبونها بالقمار كالجوز والبيض ، وعلم بها الولي ، فإنه يجب عليه رده الى مالكه ، أو وليه.

ومنها ما لو استعار صندوقا ونحوه أو اشتراه أو غيره من الأمتعة فوجد فيه شيئا فإنه يكون أمانة شرعية ، وان كان المستعار مضمونا.

ومنها اللقطة في يد الملتقط مع ظهور المالك ، وضابطه ما كان وضع اليد عليه من غير اذن المالك مع الاذن فيه شرعا والله العالم.

الخامس ـ يجب حفظ الوديعة بما يناسب حالها ، والوجه فيه أنه حيث علم من الشارع وجوب الحفظ ، ولم يعلم منه كيفية معينة لذلك ، وجب الرجوع في ذلك الى العادة والعرف الذي عليه الناس ، كالدنانير والدراهم ، فان محل حفظها الصندوق المقفل ، والثياب منها ما يكون محل حفظه الصندوق أيضا ، ومنها ما يكون البيت ، والدابة في الإصطبل ، والشاة في المراح ونحو ذلك ، ولو جعل أحد هذه الأشياء في مكان أوثق في الحفظ كالشاة والدابة في الدار المغلقة ، فالظاهر أنه مزيد إحسان لا يتعقبه الضمان ، وربما قيل : بالضمان من حيث مخالفة


المعهود والمعتاد ، والظاهر ضعفه ، والظاهر أنه لا فرق بين علم المودع بأن المستودع متمكن من تحصيل الحرز وعدمه ، فلو أودعه مالا مع علمه أنه لا صندوق عنده ، أو دابة مع علمه أنه لا إصطبل عنده أو نحو ذلك ، فإنه لا يكون ذلك عذرا بل يجب الحفظ عليه في المكان المعتاد له متى قبل الوديعة.

قال في المسالك : واعلم أنه ليس مطلق الصندوق كافيا في الحفظ ، بل لا بد معه من كونه محرزا عن غيره ، أما بأن لا يشاركه في البيت الذي فيه الصندوق يد أخرى مع كون البيت محرزا بالقفل ونحوه ، وكون الصندوق محرزا بالقفل كذلك ، وكونه كبيرا لا ينقل عادة ، بحيث يمكن سرقته كذلك مقفلا ، وهكذا القول في الإصطبل والمراح وغيرها انتهى.

ولا يخلو من اشكال سيما مع علم المودع ورضاه بما هو دون هذا القدر من الضبط ، والظاهر أنه لا يعتبر في وجوب ضبط الوديعة وحفظها أزيد مما يعتبر من ضبط المالك لما له وحفظه له ، وزيادة حرسه على حفظه ، وهو لا يبلغ الى هذا المقدار ، سيما ما ذكره من أن لا يشاركه في ذلك البيت الذي فيه الصندوق يد فإن الإنسان لا يخلو من العيال والأزواج والأولاد والخدم الذين يترددون في البيت دخولا وخروجا ، والإنسان لا يمكنه الاحتباس في البيت لأجل المحافظة ، بل يحتاج الى التردد في حوائجه من الأسواق وغيرها ، وبما صرح به في المسالك من الكلام في هذا المقام صرح به العلامة في التذكرة أيضا : فقال : لو كانت له خزانة مشتركة بينه وبين ابنه ، فدفع الوديعة الى ابنه ليضعها في الخزانة المشتركة فالأقرب الضمان ، إلا إذا علم المالك بالحال ، ثم قال : لا يجوز أن يضع الوديعة في مكان مشترك بينه وبين غيره ، كدكان أو دار مشتركة الى آخره وهو مشكل كما عرفت ، وقد تنبه لما ذكرناه من الإشكال أيضا المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) في شرح الإرشاد.

السادس ـ لو أودعه دابة ، والمراد بها مطلق الحيوان المحترم حتى العبد


فاما أن يأمره بالإنفاق عليه أو ينهاه عن الإنفاق ، أو يطلق فهيهنا صور ثلاث :

الاولى ـ أن يأمره وحينئذ فيجب عليه كما صرحوا به ، ويرجع بذلك على المالك ، ولو أخل به كان مفرطا ضامنا ، ويحصل التفريط والضمان ، ولو بمرة واحدة ، وفي كل موضع يحصل به التفريط يكون ضامنا ، ويخرج عن كونه أمينا بمقتضى القاعدة المقررة عندهم ، من أنه لو خالف وتعدى ، فإنه يخرج عن كونه ودعيا أمينا ، ولا يرجع الى ذلك إلا بإذن جديد من المالك ، ولو امتنع المستودع من الإنفاق في هذه الصورة ، فقد صرح في التذكرة بأنه متى مضت مدة تموت مثل الدابة في مثل تلك المدة نظر ، فان ماتت ضمنها ، وان لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، قال : وتختلف المدة باختلاف الحيوان قوة وضعفا.

الثانية ـ ان ينهاه عن الإنفاق فإن ترك الإنفاق امتثالا لأمره ، قالوا : كان عاصيا لله تعالى لما فيه من تضيع المال المنهي عنه ، لأنها من الأموال المحترمة التي لا يجوز إتلافها بغير وجه شرعي ، ومرجعه الى أن الإنفاق (حق الله تعالى) كما هو حق للمالك ، فلا يسقط حق الله تعالى بإسقاط المالك حقه ، وهل يضمن في هذه الحال استشكل ذلك في التذكرة ، ثم قرب العدم ، قال : وهو قول الشافعية كما قال : اقتل دابتي فقتلها أو أمره برمي قماشه في البحر فرماه ، أو أمره بقتل عبده فقتله ، فإنه يأثم ولا ضمان عليه ، فكذا هنا انتهى.

والواجب في هذه الصورة رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك ويجبره عليه ، لما عرفت من عدم جواز إتلاف المال بغير وجه شرعي ، وترك الإنفاق موجب لذلك ، قالوا : وللحاكم أن يستدين عليه أو يبيع بعض الوديعة للنفقة ، أو بعض أمواله لذلك ، وأن ينصب أمينا من قبله ، فان تعذر جميع ذلك أنفق المستودع وأشهد ويرجع بما أنفقه مع قصد الرجوع ، ولو تعذر الاشهاد فظاهرهم الاقتصار على نية الرجوع ، فينفق بنية الرجوع كما تقدم في أمثاله.


الثالثة : أن يطلق وقد صرح في المسالك بأنه يجب التوصل الى اذنه أو اذن وكيله ، فان تعذر رفع الأمر إلى الحاكم ليأمره بذلك الى آخر ما تقدم في سابق هذه الصورة ، وقال العلامة في التذكرة : وان أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولم ينهه عنهما يجب على المستودع العلف والسقي ، لأنه التزم بحفظها ، ولانه ممنوع من إتلافها جوعا ، فإذا التزم حفظها تضمن ذلك علفها وسقيها ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه العلف والسقي ، لأنه أستحفظه إياها ولم يأمره بعلفها ، وقد بينا الأمر الضمني ، انتهى.

وظاهر هذا الكلام أنه يجب على المستودع القيام بذلك كما في الصورة الاولى ، ولا فرق بينهما الا باعتبار كون الأمر في الأولى صريحا وفي هذه الصورة ضمنيا ، والا فهو مأمور في الصورتين ، وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن المسالك في هذه الصورة.

وأصرح منه في ذلك كلام المحقق الأردبيلي حيث قال : ثم ان الظاهر أن حكم الإطلاق هو حكم الأمر بالعلف والسقي ، لوجوبهما عليه ، فكأنه قال : وديعة عندك وأعلفها واسقها ، فالأمر الضمني فيها هنا موجود ، وحكمه حكم الصريح ، أشار إليه في التذكرة ، انتهى ، الا أنه قال في التذكرة أيضا بعد هذه المسئلة بلا فصل : مسئلة لا خلاف في أنه لا يجب على المستودع الإنفاق على الدابة والأدمي من ماله ، لأصالة البراءة والتضرر المنفي شرعا ، لكن ان دفع المالك إليه النفقة فذاك ، وان لم يدفع إليه فإن كان المالك قد أمره بعلفها وسقيها رجع به عليه ، لأنه أمره بالإنفاق على ماله فيما عاد نفعه عليه ، فكان كما لو ضمن عنه مالا يأمره وأداه عنه ، وان أطلق الإيداع ولم يأمره بالعلف والسقي ولانهاه فان كان المالك حاضرا أو وكيله ، طالبه بالإنفاق عليه ، أو أذن له بالمالك في الإنفاق ، فينفق ويرجع به ان لم يتطوع بذلك ، وان لم يكن المالك حاضرا ولا وكيله رفع الأمر إلى الحاكم ، الى آخر ما قدمنا ذكره


في الصورة الثانية ، بما يرجع إليه في المعنى.

وأنت خبير بما في هذا الكلام من المدافعة لما قدمنا نقله عنه أولا ، فإن مقتضى الأول هو حصول الأمر بالإنفاق ، وان كان أمرا ضمنيا ، فيجب الإنفاق حينئذ على المستودع بعد قبوله الوديعة ، وهو صريح كلام المحقق الأردبيلي كما عرفت مسندا له إلى التذكرة ، كما قدمنا نقله عنه ، فأين هذا من كلامه الثاني.

ثم انه قال في التذكرة ـ أيضا في هذه المسئلة الأخيرة : ـ ولو ترك المستودع الإنفاق مع إطلاق الاستيداع ولم يرفع الى الحاكم ولم ينفق عليها حتى تلفت ضمن ان كانت تلفت من ترك ذلك ، لانه تعدى بتركه ، وان تلفت في زمان لا يتلف في مثله لعدم العلف ، لم يضمن ، لأنها لم تتلف بذلك.

قالوا : وفي حكم النفقة ما يحتاج اليه المريض من دواء ، وفي حكم الحيوان الشجر الذي يحتاج إلى السقي ونحوه من الخدمة ، وحيث ينفق مع عدم الإشهاد اما لتعذره ، أو لعدم اشتراطه ، فلو اختلفا في قدره فالقول قول المستودع مع يمينه ، ولو اختلفا في مدة الإيداع ، فالقول قول المودع عملا بالأصل في الموضعين.

تنبيهان :

الأول ـ إطلاق كثير من عبائر الأصحاب يدل على جواز أن يتولى المستودع علف الدابة وسقيها بنفسه ، أو غلامه أمينا كان ذلك الغلام أم غير أمين غائبا كان المستودع أو حاضرا ، والوجه في ذلك الجري على ما هو مقتضى العادة من تولى الغلام والخادم لذلك ، الا أنه قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك : ـ وليس كل ذلك جائزا هنا بل انما يجوز تولى الغلام لذلك مع حضور المستودع عنده ، ليطلع على قيامه بما يجب ، أو مع كونه أمينا ، والا لم يجز ، ونحو ذلك صرح في التذكرة ، والوجه في ذلك أما في جواز الاستنابة مع الحضور فظاهر.


وأما مع كونه أمينا فلقضاء العادة بالاستنابة في ذلك ، ولو لا ذلك لما جاز لما يتضمنه من إيداع الودعي ، وهو غير جائز عندهم مع الإمكان كما سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى ، وربما قيل : بأن ذلك فيمن يمكن مباشرته لهذا الأمر ونحوه ، أما من لا يكون كذلك فإنه يجوز له الاستنابة كيف كان.

ورده في المسالك بالضعف ، ولا يخلو من اشكال ، فإن الظاهر أن الودعي مع علمه بان المستودع يترفع عن هذا الأمر ، ولا يباشره بنفسه ، وانما يباشره خدمه مثلا ومع ذلك أودعه ، فإنه إنما أودعه لقبوله لذلك ، ورضاه بما هو عادة الرجل المذكور وطريقته الجارية في أمواله ودوابه.

والظاهر أن المراد بالأمين هنا هو من تسكن النفس الى فعله ، وأنه لا يخالف ما يؤمر به ، لا العدل ، والا أشكل غاية الاشكال وصار الأمر عضالا بذلك وأى عضال.

الثاني ـ قد صرح جملة منهم المحقق والعلامة : بأنه لا يجوز إخراج الدابة من المنزل الا مع الضرورة ، كعدم إمكان السقي أو العلف في المنزل ، ولا ضمان عليه ، والوجه في الأول أن النقل تصرف فيها ، وهو غير جائز مع إمكان تركه ، والثاني في أن الحفظ يتوقف على ذلك ، فإنه من ضروريات الحيوان ، ولا فرق في المنع من إخراجها لذلك بين كون الطريق أمنا أو مخوفا ، لما عرفت من أن النقل تصرف وهو غير جائز مع إمكان تركه ، ولا بين كون العادة مطردة بالإخراج وعدمه لما ذكر ، ولا بين كون المتولي لذلك المستودع بنفسه أو غلامه ، مع صحبته له وعدمها ، لاتحاد العلة في الجميع.

وقرب في التذكرة عدم الضمان لو أخرجها مع أمن الطريق ، وان أمكن سقيها في موضعها ، مستندا الى اطراد العادة بذلك ، قال في الكتاب المذكور : إذا احتاج المستودع إلى إخراج الدابة لعلفها أو سقيها جاز له ذلك ، لان الحفظ يتوقف عليه ولا ضمان ، ولا فرق بين أن يكون الطريق أمنا أو مخوفا إذا خاف


التلف بترك السقي ، واضطر إلى إخراجها من غير ضرورة العلف والسقي ، فإن كان الطريق أمنا لا خوف فيه وامكنه سقيها في موضعها فالأقرب عدم الضمان ، لاطراد العادة بذلك وهو أظهر قولي الشافعي.

السابع ـ لا خلاف في أنه متى عين له موضعا لحفظ الوديعة ، فإنه لا يجوز له نقلها الى ما هو دونه ، أما لو نقلها الى ما هو أحرز فقد ذهب جمع من الأصحاب إلى الجواز ، محتجين بالإجماع ودلالة مفهوم الموافقة عليه ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف في ذلك ، نظرا الى مقتضى التعيين ، ومنع دلالة مفهوم الموافقة هنا ، قال : فإن الأغراض تختلف في مواضع الحفظ اختلافا كثيرا من غير التفات الى كون بعضها أحفظ من بعض ، والإجماع على جوازه ممنوع ، بل ظاهر جماعة من الأصحاب منع التخطي مطلقا ، انتهى.

ونقل في المسالك عن الشهيد في حواشيه على كتاب القواعد القول بعدم الجواز هنا أيضا ، واختاره المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) أيضا في شرح الإرشاد ، ونقله عن ابن إدريس والمحقق الشيخ على.

ولو نقلها إلى المساوي فقولان : الجواز نظرا الى أن التعيين أفاد الاذن في حفظها فيما كان في تلك المرتبة ، كما في تعيين نوع الزرع والمراكب في الإجارة ، فإنهم جوزوا التخطي إلى المساوي ، لتوافق المتساويين في الضرر والنفع المأذون فيه.

وقيل : بالمنع وهو اختياره في المسالك ، قال : لعدم الدليل على جواز تخطى ما عينه ، وإلحاق مساويه به قياس.

أقول : والمسئلة لخلوها من النصوص في الموضعين محل توقف ، وان كان ما اختاره في المسالك في الموضعين المذكورين لا يخلو من قوة ، سيما مع أوفقيته بالاحتياط المطلوب ، بل الواجب في أمثال هذه الفروع الخالية من النصوص ، وعلى هذا فلو نقلها إلى الأحرز أو المساوي ضمن ، وعلى القول بالجواز


لا ضمان عليه ، الا أنه نقل عن العلامة هنا أيضا القول بالضمان ، فإنه قال : بجواز النقل إليهما والضمان مع تلفها فيهما ، وهو مشكل ، فإن قضية الجواز تنفى الضمان كما لا يخفى.

نعم لو علم الخوف عليها في المكان المعين أو ظن ظنا قويا فالظاهر أنه لا إشكال في جواز النقل ، وينبغي أن يتحرى في ذلك الأحرز ، ثم المساوي مع الإمكان ، ثم الأدون ، لسقوط حكم المعين في الحال المذكورة.

والظاهر أنه لا ضمان عليه في الصورة المذكورة ، حيث أنه مأذون فيه ، وهو محسن في ذلك ، فلا سبيل عليه ، ولو نهاه المالك عن النقل عن ذلك المكان المعين ، فقد صرحوا بأنه يضمن بالنقل كيف كان ولو الى الأحرز إجماعا ، الا أن يخاف تلفها فيه ، فإنه يجوز النقل وان نهاه المالك والحال كذلك ، وقال له : لا تنقلها وان تلفت ، وعللوا ذلك بأن الحفظ عليه واجب ، ولا يتم الا بالنقل ، وللنهى عن إضاعة المال ، فلا يسقط هذا الحكم بنهي المالك وان صرح بقوله وان تلفت ، وعندي فيه نظر ، لان مرجع ما ذكروه الى وجوب الحفظ على الغير ، مع قصد المالك إضاعة ماله وإعراضه عنه ، ولا أعرف عليه دليلا ، والأصل براءة الذمة من هذا التكليف ، قولهم للنهى عن إضاعة المال مسلم بالنسبة إلى مالكه خاصة ، وكذا وجوب الحفظ ، فإنه بالنسبة إلى المالك ونحوه ، ووجوب الحفظ على المستودع انما يعلم مع عدم قصد المالك إضاعته وإتلافه ، وأما إذا قصد ذلك فأي دليل يدل على وجوب حفظ الغير عليه ، مع أنه ليس بطفل ولا مجنون يجب حفظ ماله على غيره.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها وجيها ، ثم انهم قالوا : لو ترك نقلها والحال كما ذكرنا أثم ولا ضمان ، لإسقاط المالك ذلك عنه ، وقد عرفت ما في الإثم من الإشكال أيضا.

ولو توقف النقل على أجرة قال في التذكرة : انه لا يرجع بها على المالك ،


فإنه متبرع ، واستحسنه في المسالك الا أنه احتمل أيضا الرجوع مع نيته ، قال : لإذن الشارع له في ذلك فيقدم على اذن المالك ، ولان فيه جمعا بين الحقين مع مراعاة حق الله تعالى في امتثال أمره بحفظ المال ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما في هذا الاحتمال ، بناء على ما قدمنا ذكره من النظر.

الثامن ـ الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في عدم صحة وديعة الطفل والمجنون ولا إيداعهما ، بمعنى أنه لا يترتب على ذلك أحكام الوديعة ، أما الحكم الأول ـ فلانه لا شبهة في عدم أهليتهما للإذن ، واللازم منه كون يد المستودع على المال يدا عارية بغير حق ، فيضمن البتة سواء كان المال لهما أو لغيرهما وان ادعيا الاذن في إيداعه.

بقي هنا شي‌ء وهو أن ظاهر جملة من الأصحاب إطلاق الضمان هنا كما ذكرناه ، والأقرب كما قواه في المسالك أيضا أنه لو كان قبضه للوديعة بعنوان استنقاذها من يديهما ، وخوف هلاكها عندهما بنية الحسبة في الحفظ ، فإنه لا ضمان عليه ، لانه محسن ، وما على المحسنين من سبيل.

لكن يجب مراجعة الولي أو الحاكم الشرعي إن أمكن ، والا كان في يده وترتب عليه أحكام الوديعة ، الا أنه لا يبرء بالرد إليهما ، لا في هذه الصورة ولا في الصورة المتقدمة ، للحجر عليهما المانع من ذلك ، ولا يبرء الا بالرد إلى الولي أو الحاكم أو هما بعد زوال المانع.

وأما الحكم الثاني فلأنه لو استودعهما لم يضمنا بالإهمال ، فإن المودع لهما مع علمه بعدم تكليفهما قد أهمل ماله ، وأتلفه ، ولان الضمان بالإهمال انما يثبت حيث يجب الحفظ ، والوجوب غير متعلق بهما ، لانه من خطاب الشرع المختص بالمكلف ، فإذا لم يجب الحفظ عليهما لم يترتب على الإهمال ضمان ، وهو ظاهر.

نعم لو كان التلف بغير الإهمال بأن تصرفا في الامانة وتعديا فيها فتلفت


فهل يضمنان مطلقا أم لا مطلقا أم للمميز خاصة وجوه ثلاثة.

والمختار عند جملة من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك هو الضمان مطلقا ، قال : لأن الإتلاف لمال الغير سبب في ضمانه إذا وقع بغير اذنه ، والأسباب من باب خطاب الوضع يشترك فيها الصغير والكبير ، ومثله القول في ما يتلقانه من مال الغير ، ويأكلانه منه ، فإنهما يضمنان.

ثم نقل الوجه الثاني وهو عدم الضمان مطلقا لعدم التكليف ، وتسليط مالكها لهما عليها فكان سببا قويا ، والمباشر ضعيف ، قاله في المسالك بعد نقل ذلك ثم قال : وجوابه يظهر مما سبق ، ثم نقل الوجه الثالث وهو الفرق بين المميز وغيره ، فيضمن المميز خاصة ، لعدم قصد غيره إلى الإتلاف ، فكان كالدابة ثم تنظر فيه بأن المقتضي للضمان وهو الإتلاف موجود ، والمانع غير صالح للمانعية.

أما القصد فإنه لا مدخل له في الضمان وعدمه ، كما يعلم من نظائره ، وأما تسليط المالك فإنه انما وقع على الحفظ لا على الإتلاف ، غاية ما في الباب أنه عرض ماله له بسبب عدم صلاحيتهما للحفظ ، وهو غير كاف في سقوط الضمان عنهما لو باشراه ، بخلاف ما إذا تركا الحفظ.

أقول : والمسئلة محل توقف لعدم الدليل الواضح والركون الى هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية سيما مع تقابلها وتدافعها لا يخلو من الاشكال كما نبهت عليه في غير مقام مما تقدم ، ثم انه على تقدير وجوب الضمان عليهما فإنه صرح بأن المخاطب بالدفع هو الولي ان كان لهما مال ، والا كان دينا عليهما قضائه بعد التكليف ، ولا يسقط بعدم المال وقت الإتلاف ، لأن تعلق الحق بالذمة لا يتوقف عليه ، نعم إيجاب التخلص من الحق عليهما يتوقف على التكليف.

أقول : وفيه من الاشكال ما في سابقه وقد تقدم في كتاب الحجر في المسئلة الثالثة : من المطلب الثاني من الكتاب المذكور من التحقيق (1) ما فيه دلالة

__________________

(1) ج 20 ص 269.


على عدم وجوب الضمان الذي ادعاه هنا ، وقد تقدم في الموضع المذكور أنه من باع للسفيه مالا ودفعه اليه مع علمه بذلك ، فتلف ، فان تلفه من مال صاحبه ، لانه سلطه عليه مع علمه بأنه محجور عليه ، وان فرض فك الحجر عنه بعد ذلك وتقدم أيضا النقل عن العلامة في التذكرة أن حكم المجنون والصبي حكم السفيه في ذلك ، فإنهما إذا أتلفا الوديعة والعارية فالأقرب أنه لا ضمان عليهما ، وهكذا الحكم فيما أتلفاه من مال الغير مطلقا.

وبالجملة فمن أراد تحقيق المسئلة ليظهر له صحة ما ذكرناه هنا فليرجع الى الموضع المذكور ، والله العالم.

التاسع ـ لو ظهر للمستودع أمارات الموت بأن حصل له مرض من الأمراض القاتلة أو حبس للقتل ونحو ذلك.

فأقوال ثلاثة : أحدها ـ وجوب الرد على المالك أو وكيله ، أو الحاكم عند تعذرهما أو إيداعها الثقة عند تعذره ، فان تعذر ذلك أشهد عليها اختاره العلامة في التذكرة ، الا أنه رجع عنه بعد ذلك الى الإيصاء بها.

وثانيها ـ الاشهاد على ذلك اختاره جمع منهم المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد.

وثالثها ـ الوصية بها وقد عرفت أنه مذهب العلامة في التذكرة ، والوجه في ذلك أن حفظ الوديعة لما كان واجبا على المستودع وجب كلما يتوقف عليه الحفظ من أحد هذه الأمور الثلاثة ، الا أنى لم أقف على نص في المقام يتضمن وجوب شي‌ء مما أوجبوه ، والاحتياط في المسئلة مطلوب بل واجب ، لخلوها عن النص وهو أحد مواضع وجوب الاحتياط عندنا ، حيث أن المسئلة صارت بذلك من الشبهات ، حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك. والاحتياط هنا في العمل بالقول الأول ، ثم انه على تقدير القول بالإشهاد ، فالظاهر أن المراد به إشهاد عدلين ، بحيث يحصل الإثبات بها لو أنكر الورثة ، أو كانوا جميعا أو بعضهم


صغارا ، وربما قيل : بالاكتفاء بواحد ، واليه يشير كلام العلامة في جملة من كتبه ، حيث جعل الواجب هو الإيصاء بها ، وهو متحقق بدون الاشهاد كذا ذكره في المسالك.

والتحقيق أن القول بالإيصاء غير القول بالإشهاد ، كما قدمنا ذكره ، وكيف كان فلو أخل بالإشهاد والوصية ضمن ، وكذا لو أخل بالرد على الوجه المتقدم ، ولكن لا يستقر الضمان الا بالموت ، ولو فرض موته فجأة فلا ضمان ، وان لزم التلف إذ لا يعد مقصرا والحال هذه ، والا لوجب الاشهاد على كل ودعي ، لإمكان ذلك في حقه ، ولا قائل به ، ولا دليل على ما قالوا.

ويعتبر في الوصي على القول بوجوب الوصية العدالة ، والظاهر أن المراد به الأمين الثقة الذي تسكن النفس إلى إيصاله لها الى المالك ، ولا فرق بين الأجنبي والوارث في التعيين للوصاية ، والمراد بالوصية إليه بذلك أن يعلمه بها ويأمره بردها بعد الموت ، لا أن يسلمها إليه ، لأنه إيداع لا يصح ابتداء كما سيأتي ذكره إنشاء الله.

قال في التذكرة : توهم بعض الناس أن المراد من الوصية بها تسليمها إلى الوصي ليدفعها الى المالك ، وهو الإيداع بعينه ، وليس كذلك ، بل المراد الأمر بالرد من غير أن يخرجها من يده ، فإنه والحال هذه مخير بين أن يودع للحاجة ، وبين أن يقتصر على الاعلام والأمر بالرد لان وقت الموت غير معلوم ، ويده مستمرة على الوديعة ما دام حيا ، انتهى.

ولو لم يوص ولم يشهد وأنكر الورثة فالقول قولهم ، كما لو أنكرها المورث ، لأن الأصل عدمها ، وكذا كل من يدعى عليه ، ولا يمين على الورثة ، الا أن يدعى عليهم العلم بالوديعة ، لأن دعوى العين انما يتعلق بالمورث ، كما لو ادعى عليه بدين ، الا أنه إذا ادعى عليهم العلم بذلك لزمهم الحلف على نفى العلم لا على البت ، لان ذلك ضابط الحلف على نفى فعل الغير.


قال في المسالك : ومثله ما لو أقر الورثة بالوديعة ، ولكن لم توجد في التركة فادعى المستودع أنه قصر في الاشهاد ، وقال الورثة : لعلها تلفت قبل أن ينسب الى التقصير فالقول قولهم ، عملا بظاهر براءة الذمة ، ولا يمين أيضا إلا مع دعواه عليهم التقصير ، انتهى.

وعندي في هذا الكلام إشكال ، لأن مرجعه ـ كما يفهم من تتمة عبارته في المقام ـ الى أن المالك يدعى بقاءها ، وتقصير الودعي في الاشهاد ، والورثة مقرون بها ، ولكن يدعون عدم وجودها في التركة ، وأنه لعلها تلفت قبل أن ينسب المالك الى التقصير ، وظاهر هذا الكلام أن كلام المالك يتضمن دعويين إحديهما ـ أنها كانت باقية في التركة ، وظاهر هذه الدعوى يرجع الى الورثة بأنها عندهم ، وأن إنكارهم لكونها في التركة بعد الإقرار بها غير مسموع ، وثانيهما تقصير المورث بعدم الاشهاد ليتحقق الضمان ، وسقوط اليمين عن الورثة إنما يتجه على الدعوى الثانية ، دون الاولى ، اللهم الا أن يحمل على أن المالك موافق على عدم وجودها في التركة ، وانما يدعى بقاءها الى وقت عروض المرض الذي هو السبب الموجب للوصية ، أو الإشهاد ، فيلزم الضمان بالتفريط في ذلك ، والورثة ينكرون الوجود الى ذلك الوقت ، وحينئذ فلا يتعلق الدعوى بالورثة على الوجه المذكور أولا ، والله العالم.

العاشر ـ لا خلاف في وجوب رد الوديعة إلى المالك متى طلبها ، وهي باقية في أول أوقات الإمكان مسلما كان أو كافرا ، للاية وهي قوله تعالى (1) «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» والروايات المتقدمة في صدر الكتاب (2) فإن جملة منها قد صرحت بوجوب الرد ولو إلى غير مسلم فلو أخل والحال كذلك كان ضامنا ، ونقل عن أبى الصلاح أنه إذا كان المودع حربيا وجب على المودع أن يحمل ما أودعه إلى سلطان الإسلام ، وهو ضعيف مردود بالاخبار المشار إليها

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 58.

(2) ص 395.


من أن كونه حلال المال مقيد بغير الامانة ، فيجب استثناؤها للاخبار الصريحة المذكورة.

وبالجملة فالحكم مما لا يخالف فيه سواه وظاهرهم القول بالفورية كما أشرنا إليه ، لأنه حق مضيق للادمى ، قالوا : والمراد بالإمكان ما يعم الشرعي والعقلي والعادي ، فلو كان في صلاة واجبة أتمها ، أو بينه وبينه مانع من مطر ونحوه صبر حتى يزول ، أو في قضاء حاجة ضرورية فإلى أن ينقضي ، وهل يعد أكل الطعام والحمام ، وصلاة النافلة وانقطاع المطر الغير المانع عذرا؟ وجهان : واستقرب في التذكرة العدم مع حكمه في باب الوكالة بأنها أعذار في رد العين إذا طلبها الموكل ، وينبغي أن يكون هنا أولى ، وحيث كان وجوب الرد فوريا فإنه يأتي بناء على ذلك ، وعلى أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص بطلان الصلاة الواجبة مع سعة الوقت لو حصل الطلب قبل الدخول فيها ، وكذا بطلان النافلة مطلقا ، وكذا بطلان جميع العبادات المنافية لذلك ، الا أن الظاهر عندي كما تقدم تحقيقه في كتب العبادات عدم ثبوت ما ادعوه ، من أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، بل قام الدليل على خلاف ذلك ، ولما فيه من لزوم الحرج والضيق المنفي بالآية والرواية.

قالوا : والمراد بوجوب الرد لا بمعنى مباشرته للرد وتحمل مؤنته ، كما ربما يظهر من بعض العبارات ، بل بمعنى رفع اليد عنها والتخلية بين المالك وبينها ، فلو كانت في صندوق مقفل فتحه ، وان كانت في البيت المغلق فكذلك ، وهكذا.

ولو أخر الدفع لأجل الإشهاد عليه فهل يكون ذلك عذرا مرتفعا به الضمان؟ أقوال : الأول نعم ، ليدفع عن نفسه النزاع واليمين لو أنكر المالك.

والثاني لا ، لان قوله في الرد مقبول ، فلا حاجة الى البينة ، ولأن الوديعة مبنية على الإخفاء غالبا.

الثالث التفصيل بأنه ان كان المالك وقت الدفع قد أشهد عليه بالإيداع


فله الاشهاد ليدفع عن نفسه التهمة ، والا لم يكن له ذلك ، وهذا القول من حيث الاعتبار أقوى الثلاثة ، الا أن ما ادعوه من الفورية عندي محل توقف ، إذ لا أعرف عليه دليلا واضحا أزيد من الأمر بالرد متى طلبها المالك ، والأمر من حيث هو لا يقتضي الفورية ، فإيجابها يحتاج الى دليل واضح ، زيادة على الأمر بالرد ، كما لا يخفى ، وكونه حقا لادمى لا يقتضي تضييقه بهذا النحو الذي ذكروه.

نعم لو فهم منه التضييق فالأمر كما ذكروه ، ولو كان المودع غاصبا فإنه لا يجوز ردها عليه ، ولا على وارثه لو طلبها ، بل يجب إعادتها على مالكها ان عرف ، ولو لم يعرف فأقوال : أحدها ما ذهب اليه الشيخ في النهاية ، قال : انه يعرفها حولا كما يعرف اللقطة ، فإن جاء صاحبها ، والا تصدق بها عنه ، وتبعه ابن البراج وهو المنقول عن ابن الجنيد أيضا ، وبه صرح العلامة في التذكرة والإرشاد ، وفي المسالك : انه هو المشهور بين الأصحاب.

وثانيها ـ ما ذهب ، اليه الشيخ المفيد قال : ان لم يعرف أربابها أخرج منها الخمس الى فقراء آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأتباعهم ، وأبناء سبيلهم وصرف منها الباقي الى فقراء المؤمنين.

وقال سلار : وان لم يعرف أربابها جعل خمسها لفقراء أهل البيت (عليهم‌السلام) والباقي لفقراء المؤمنين وهو يرجع الى قول الشيخ المفيد.

ثالثها ـ ما ذهب إليه أبو الصلاح قال : إذا لم يعرف صاحبها ولا من ينوب منابه حملها الى الامام العادل ، فان تعذر ذلك في المسلمين فعلى المودع حفظ الوديعة إلى حين التمكن من إيصالها إلى مستحق ذلك ، والوصية بها الى من يقوم مقامه ، ولا يجوز ردها على المودع مع الاختيار.

وقال ابن إدريس : ان لم يتعين له حملها الى الامام العادل ، وان لم يتمكن لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق به في ذلك بعد وفاته الى حين التمكن من المستحق ، قال في المختلف : وهو الأقوى ، لنا أنه أحوط.


وقال في المسالك بعد نقل ذلك عن ابن إدريس وقواه في المختلف : وهو حسن.

أقول : وهو يرجع الى قول أبى الصلاح المتقدم ، والذي وقفت عليه من الاخبار هنا ما رواه الشيخ عن حفص بن غياث (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعا واللص مسلم هل يرده عليه؟ قال : لا يرده ، فإن أمكنه أن يرده على صاحبه فعل ، والا كان في يده بمنزلة اللقطة ، يعرفها حولا فإن أصاب صاحبها ردها عليه والا تصدق بها ، فان جاء بعد ذلك خيره بين الأجر والغرم ، فان اختار الأجر فله ، وان اختار الغرم غرم له ، وكان الأجر له». وهذه الرواية ظاهر في ما ذهب اليه الشيخ ، وليس غيرها في المسئلة ، ولم أقف على دليل يدل على شي‌ء من القولين الأخيرين.

قال في المختلف ـ بعد نقل الرواية ـ : والجواب الطعن في السند ، ولا نسلم مساواته للقطة ، ثم قال : على أن قول الشيخ لا يخلو من قوة ، وفيه أن الطعن بالسند لا يقوم حجة على الشيخ وأمثاله الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، ومنع المساواة للقطة بعد تصريح الخبر بذلك ممنوع ، وهو انما تمسك في قوة ما اختاره بالاحتياط ، والاحتياط عندهم ليس بدليل شرعي ، ورد الخبر بلا معارض غير معقول ولا منقول.

وقال في المسالك ـ بعد الإشارة الى الخبر المذكور ـ : والطريق ضعيف ، لكنه مجبور بالشهرة ، وبه يعلم قوة ما ذهب اليه الشيخ وأتباعه.

وفي المسالك ـ بعد أن استحسن مذهب ابن إدريس كما قدمنا نقله عنه ـ قال : وان كان القول بجواز التصرف بها بعد اليأس والتعريف متوجها أيضا كما في كل مال ييأس من معرفة صاحبه ، لان فيه جمعا بين مصلحتي الدنيا والآخرة بالنسبة

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 180 ح 7 ، الوسائل ج 17 ص 368.


الى مالكها ، فإنه لو ظهر غرم له ان لم يرض بالصدقة ، فلا ضرر عليه ، ثم قال ـ بعد نقل مذهب الشيخ المفيد ـ : والأجود التخيير بين الصدقة بها وإبقائها أمانة ، وليس له التملك بعد التعريف هنا ، وان جاز في اللقطة ، وربما احتمل جوازه بناء على الرواية ، فإنه جعلها فيه كاللقطة ، وهو ضعيف ، ويمكن أن يريد بها منزلته منزلة اللقطة في وجوب التعريف مطلقا ، ولم يذكر من عمل بالرواية جواز التملك ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه من المدافعة للكلام الأول لدلالته على التملك ، وجواز التصرف مع الضمان ، وبيان الوجه في قوة ذلك ، ودلالة هذا الكلام على عدم جواز التملك هنا وان جاز في اللقطة ، والمراد بجواز التملك حيث كان انما هو مع الضمان ، واحتمال العدول عما ذكر أولا ، ولا سيما مع بيان الوجه في القول الأول والتصريح بالعلة وعدم التعرض لذلك في الثاني بعيد ، ومقتضى هذا الكلام الأخير حدوث قول رابع في المسئلة كما لا يخفى ، وظاهره أن ذلك هو الحكم هنا وان لم يعرفها بالكلية.

وقال في المسالك أيضا : وانما يجب منع الغاصب منها مع إمكانه ، فلو لم يقدر على ذلك سلمها اليه ، وفي الضمان حينئذ نظر ، والذي يقتضيه قواعد الغصب أن للمالك الرجوع على أيهما شاء ، وان كان قرار الضمان على الغاصب انتهى.

ولو مزج الغاصب الامانة بماله وأودع الجميع فقد أطلق جمع منهم المحقق في الشرائع أنه إن أمكن الودعي تمييز المالين ميزهما ورد عليه ماله ، ومنعه الأخر وان لم يمكنه وجب رد الجميع على الغاصب ، وعلل الوجوب هنا بأن منعه منهما يقتضي منعه من ماله ، لان الفرض عدم إمكان التمييز ، ومنعه من ماله غير جائز.

واستشكله في المسالك بأن في الرد تسليطا للغاصب على مال غيره بغير حق ، وهو غير جائز ، ثم قوى الرد الى الحاكم ليقسمه إن أمكن إلى آخر كلامه.

أقول : وهذا الفرع أيضا كغيره من الفروع المشكلة لعدم الدليل الواضح


في صورة ما إذا أودع الجميع مع تعذر التمييز أو تعسره ، فهل يرد عليه الجميع لو طلبه أم لا ، أم يرجع فيه الى الحاكم ، ولعل الأقرب الى القواعد الشرعية رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فيلزم الغاصب بالإقرار بالقدر المغصوب ، ويلزمه المقاسمة إن أمكن ولو بالصلح نيابة عن المالك ، والله العالم.

البحث الثاني في موجبات الضمان :

وهو دائر بين أمرين التفريط والتعدي فهنا مقامان الأول : التفريط ـ ويرجع الى ترك ما يجب عليه من الحفظ ونحوه ، وهو أمر عدمي بخلاف التعدي فإنه عبارة عما لا يجوز فعله كلبس الثوب وركوب الدابة ونحو ذلك ، وهو أمر وجودي والتفريط كان يطرحها في غير حرز أو يترك نشر الثوب الذي يتوقف حفظه على النشر أو يودعها غيره من غير ضرورة ، ولا اذن ، أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق وأمنه ، وطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها وترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليه في العادة فتموت ونحو ذلك.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ ما ذكر من أن من جملة أسباب الضمان أن يطرحها في غير حرز.

قالوا : ويجب تقييده بما إذا طرحها وذهب عنها ، أما لو بقي مراعيا لها بنظره لم يعد تفريطا لان العين حرز ، الا أن يكون المكان غير صالح لوضعها فيه بحسب حالها ، وهو نوع آخر من التفريط.

أقول : ما ذكر من التقييد المذكور لما كان شاذا نادرا صح الإطلاق ، لأن الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكررة المتعارفة الشائعة كما تقدمت الإشارة إليه في غير موضع ، وكذا عد من أسباب الضمان تأخير الإحراز مع المكنة ، وقيده بعض المحققين بالتأخير الزائد على المتعارف ، قال : وأما إذا كان تأخيرا قليلا وفي الجملة على الوجه المتعارف فليس بموجب للضمان وهو جيد.


الثاني ـ ما ذكر من أنه يضمن بترك نشر الثوب الذي يتوقف على النشر ، والوجه في ذلك أنه يجب عليه الحفظ ومن جملة ما يتوقف عليه نشر الثوب الذي يحتاج الى النشر وتعريضه للهواء في كل وقت يفتقر إليه عادة ، قالوا : حتى لبسه لو لم يندفع ضرره الا به.

وبالجملة فكل ما يتوقف عليه الحفظ كما يجب عند الإطلاق سقي الدابة وعلفها ، ونحو ذلك مما يتوقف عليه بقاؤها ، وحفظها ، الا أن ينهاه المالك عن ذلك فإنه لا يلزمه الضمان ، وان جاز له الحفظ كما تقدم مثل ذلك ، في نفقة الدابة ، ولم أقف في المقام على خبر ، ولكن ظاهرهم الاتفاق على ذلك ، ومقتضى قواعدهم يقتضيه ، الا أنه قد تقدم في كتاب الرهن من الاخبار ما هو ظاهر ، بل صريح في المنافاة فإن جملة منها يدل على أنه لو كان الرهن ثيابا وتركه المرتهن ولم يتعهده ولم ينشره حتى هلك وتأكل فإنه من مال الراهن ، مع أنه لا خلاف في أن الرهن في يد المرتهن أمانة ، يضمنها مع التفريط ، وبمضمون هذه الاخبار المذكورة أفتى الصدوق في المقنع أيضا ، فقال : ان رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع ولم يخرجه ولم يتعهده وفسد فان ذلك لا ينقص من ماله شيئا ، انتهى.

وهو كما ترى صريح في أنه لا ضمان عليه حسب ما دلت عليه الاخبار المشار إليها ، ومنها صحيحة الفضل بن عبد الملك (1) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «سألته عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الأخر قال : نعم ، قلت أو دارا فاحترقت أيكون حقه في التربة؟ قال : نعم ، أو دابتين فهلكت إحديهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال : نعم ، أو متاعا فهلك من طول ما تركه أو طعاما ففسد ، أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو ثيابا فتركها مطوية لم يتعاهدها ولم ينشرها حتى هلكت؟ قال : هذا يجوز أخذه يكون حقه عليه». ونحوها غيرها وهي كما ترى صريحة في خلاف ما ذكروه من وجوب التعاهد والضمان مع

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 175 ح 30 ، الوسائل ج 13 ص 128 ح 1.


عدمه ، لو تضرر بذلك ، ولا معارض لها في البين الا ما يظهر من ظاهر اتفاقهم ، مع أنك قد عرفت خلاف الصدوق في ذلك ، ولم أقف على من تنبه لذلك منهم ، (رحمهم‌الله) والعلامة في كتاب الرهن من المختلف نقل عبارة الصدوق المذكورة ، ثم قال : والأقرب ان على المرتهن الضمان ، لان ترك نشر الثوب المفتقر الى نشره يكون تفريطا والمفرط ضامن ، انتهى.

وهو مؤذن بغفلته عن الاخبار المذكورة ، وعدم اطلاعه عليها ، والا كان الواجب ذكرها ، لأنها مستندة في هذه المسئلة ، والجواب عنها ، وبالجملة فالمسئلة عندي لما عرفت محل توقف واشكال ، والله العالم.

الثالث ـ ما ذكر من أنه يضمن مع إيداعها الغير من غير ضرورة ولا اذن ، وهو مما لا خلاف فيه عندهم ، قال في التذكرة : إذا أودع المستودع الوديعة غيره فان كان باذن المالك فلا ضمان عليه إجماعا ، لانتفاء العدوان ، وان لم يكن باذن المالك فلا يخلو اما أن يودع من غير ضرورة ، أو بعذر ، فان أودع بغير عذر ضمن إجماعا لأن المالك لم يرض بيد غيره وأمانته ، ولا فرق في ذلك الغير بين عبده أو زوجته أو ولده أو أجنبي عند علمائنا أجمع ، انتهى.

ومقتضى كلامهم انه يسقط الضمان بأحد شيئين : أحدهما الاذن ، فإنه يجوز الإيداع على النحو المأذون به ولا ضمان ، وثانيهما العذر كخوف سرقة أو نهب أو حرق أو أراد سفرا الا أن ظاهرهم هنا هو أن الواجب أولا ردها الى المالك أو وكيله إن أمكن ، والا فإلى الحاكم ، لأنه قائم مقام المالك شرعا مع تعذره ولا يسمى هذا ايداعا ، ومع عدم إمكان الحاكم فإنه يودعها الثقة ، وهذا هو الخارج بالقيد المذكور ، فلو دفعها الى الحاكم مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله ضمن كما أنه لو دفعها الى الثقة مع إمكان الدفع الى الحاكم ضمن ، ولا فرق في المنع من إيداع الغير بدون أحد الوجهين المذكورين ، بين أن يكون الغير مستقلا بها ، أو شريكا في الحفظ بحيث تغيب عن نظره.


قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، ولانه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، قال :

وفي حكم مشاركته في الوديعة وضعها في محل مشترك في التصرف ، بحيث لا يلاحظه في سائر الأوقات نعم لو كان عند مفارقته لضروراته يستحفظ من يثق به ويلاحظ الحرز في عوداته ، رجح في التذكرة اغتفاره لقضاء العادة به ولأنه إيداع عند الحاجة ، ثم قال : ولو فوض الحفظ الى الغير لا لضرورة أو أشركه أو لم يحرز عنه ضمن ، انتهى.

ولو أودعها من غير اذن ولا ضرورة ضمن ، وكان لصاحبها أن يرجع على من يشاء منها لو تلفت ، فان رجع على المستودع الأول فلا رجوع له على الثاني ، وان رجع على المستودع الثاني كان للمستودع الثاني أن يرجع على المستودع الأول ، لأنه دخل معه على أن لا يضمن كذا ذكره في التذكرة.

والوجه فيه أن الحكم هنا كما في الغاصب ، وقد ذكروا ثمة أنه مع رجوع المالك على أيهما شاء ، فان الجاهل منهم بالغصب يرجع على من غره ، فسلطه على مال الغير ، ولم يعلمه بالحال ، وأما العالم فلا رجوع له فهيهنا أيضا كذلك فمتى رجع المالك على المستودع الأول ، فإنه لا رجوع للمستودع الأول على الثاني ، لعلمه بعدم جواز ما فعله ، فقد سلطه على إتلافه ، بخلاف رجوع المالك على المستودع الثاني لأنه مغرور ، فلا ضمان عليه ، بل يرجع على الأول.

الرابع ـ ما ذكر من أنه يضمن مع السفر بها على الوجه المذكور ، والظاهر أنه مما لا خلاف فيه ، قال في التذكرة : لو عزم المستودع على السفر كان له ذلك ، ولم يلزمه المقام لحفظ الوديعة ، لأنه متبرع بإمساكها ، ويلزمه ردها الى صاحبها أو وكيله ، والا فالحاكم ، ويجب عليه قبولها ، لانه موضوع للمصالح فان لم يجد دفعها الى أمين ، ولا يكلف تأخير السفر ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) كانت عنده ودائع ، فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن ، وأمر عليا (عليه‌السلام)


أن يردها ، فان ترك هذا الترتيب فدفعها الى الحاكم أو الأمين مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله ضمن ، ولا يجوز أن يسافر بها ، فان سافر بها مع القدرة على الرد على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو الأمين ضمن عند علمائنا أجمع ، سواء كان السفر مخوفا أو غير مخوف ، انتهى.

قيل : والمراد بتعذر الوصول الى المالك أو وكيله أو الحاكم المشقة الكثيرة الراجعة إلى التعسر ، لان ذلك معنى هذا اللفظ عرفا ولغة ، لما في التزامه بتحمل ما يزيد على ذلك من الحرج والضرر المنفيين ، وهو جيد.

بقي الكلام في ما لو اضطر الى السفر بالوديعة بأن يضطر الى السفر ، وليس في البلد حاكم ولا أمين ولم يجد المالك ولا وكيله أو اتفق في البلد ما يوجب الخروج من حريق أو غارة أو نهب ، ولم يجد أحدا من هؤلاء المذكورين. فان ظاهرهم جواز السفر بها ، ولا ضمان وادعى عليه في التذكرة الإجماع ، قال : لان حفظها حينئذ في السفر بها والحفظ واجب ، وإذ لم يتم الا بالسفر بها كان السفر بها واجبا ، ولا نعلم فيه خلافا أما لو عزم السفر من غير ضرورة في وقت السلامة وأمن البلد وعجزه عن واحد هؤلاء المذكورين وسافر بها فالأقرب الضمان لانه التزم الحفظ في الحضر ، فليؤخر السفر أو يلزم خطر الضمان ، انتهى.

وظاهر آخر كلامه جواز السفر من غير ضرورة مع العجز عن أحد هؤلاء واستصحاب الامانة مع التزام الضمان ، ومنعه في المسالك في الصورة المذكورة فقال بعد نقل ذلك عنه : والأجود المنع ، وهو الأقرب الى جادة الاحتياط المطلوب في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص.

وكيف كان فالضمان مما لا اشكال فيه ، فان ظاهر إطلاق الإيداع والحفظ انما ينصرف الى الحضر ، ولان السفر لا يخلو من خطر في الجملة ، ويؤيده أنه الا وفق بالاحتياط.


تنبيهات :

أحدها ـ قال في التذكرة : لو عزم المستودع على السفر فدفن الوديعة ثم سافر ضمنها ان كان دفن في غير حرز ، فان دفنها في منزله في حرز ولم يعلم بها أحدا ضمنها أيضا ، لأنه غرر بها ، ولانه ربما هلك في سفره فلا يصل صاحبها إليها ، لأنه ربما خرب المكان أو غرق فلا يعلم أحد مكانها ، فإن أعلم بها غيره وكان غير أمين ضمن ، لانه قد زادها تضييعا ، وان كان أمينا ولم يكن ساكنا في الموضع ضمنها ، لأنها لم يودعها عنده ، وان كان ساكنا في الموضع فان كان مع عدم صاحبها والحاكم جاز ، لان الموضع وما فيه في يد الأمين ، والاعلام كالإيداع ، انتهى.

وثانيها ـ هل المراد بالسفر هنا هو السفر الشرعي أعني قصد المسافة أو ما هو أعم منه ومن العرفي كالتردد فيما دون ذلك ، قال في شرح القواعد : لم أقف على تحديد ، والمتبادر منه شرعا قصد المسافة ، فعلى هذا لا يجب الرد الا بالخروج إلى مسافة ، وهو مشكل لانه متى خرج المستودع من بلد الوديعة على وجه لا يعد في يده عرفا يجب أن يقال أنه ضامن ، لأنه أخرج الوديعة من يده ، فقصر في حفظها فيضمن ، وينبغي الجزم بأن تردده في البلد وما حوله في المواضع التي لا يعد الخروج إليها في العادة خروجا عن البلد وانقطاعا عنه كالبساتين ونحوها لا يجب معها رد الوديعة ، ومن تعذر الحاكم والثقة كذا ذكره المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وهل الجميع من كلام الشرح أو ممزوجا بكلامه احتمالان ، حيث أنه لا يحضرني الان الشرح المشار اليه.

وقال في المسالك : وأما السفر فالأولى حمله على العرفي أيضا لا الشرعي ، فعلى هذا لا يجوز استصحابها في تردداته في حوائجه إلى حدود البلد ، وما قاربه من القرى التي لا يعد الانتقال إليها سفرا مع أمن الطريق ، ولا يجوز إيداعها في مثل ذلك مع إمكان استصحابها ، كما لا يجب ردها على المالك ، انتهى.


وقال المحقق الأردبيلي ـ بعد ذكر ما قدمنا ذكره نقلا عنه من كلام شرح القواعد وكلام في البين ونعم ما قال : فإنه الحق الحقيق بالامتثال ـ : واعلم أنه ليس في الآيات والاخبار ما يمنع السفر بالوديعة ، ولا عدم السفر للودعي الا بأن يسلمها الى المالك أو الى الحاكم أو يودعه عند ثقة ، حتى يجب علينا تحقيق السفر ، بل هو كلام الفقهاء ، بل فقهاء العامة.

ثم قاله الأصحاب أيضا ، والذي علم أنه يجب حفظها على ما يقتضيه العرف والعادة في ذلك الشي‌ء ومن مثل ذلك الشخص كما أشرنا إليه ، فيجوز له فعل كل شي‌ء ما لم يكن تركا للحفظ عرفا ، ولا يجب الكون عندها بعد وضعها في الحرز ، انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة ـ بالنظر الى سياق البحث ـ أن المراد بالسفر الشرعي ، فإنه الذي يدور عليه كلامه وتمثيلاته ، وان لم يصرح بشي‌ء من الفردين المذكورين.

وثالثها ـ ما تقدم في عبارة التذكرة من وجوب القبول على الحاكم لو عزم على السفر ، ولم يتمكن من الدفع الى المالك أو وكيله ، قد صرح به في القواعد أيضا ، فقال : والأقرب وجوب القبض على الحاكم ، وكذا المدين والغاصب إذا حملا الدين والغصب اليه ، وعلل الشارح وجه القرب قال : لانه منصوب للمصالح ولو لم يجب القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ، وهو الأصح ، ويحتمل ضعيفا العدم ، تمسكا بأصالة البراءة ، وهو يرجع الى ما ذكره في التذكرة.

وفيه أنه لا دليل على ما ذكروه ، من أن الغرض من نصبه هو ذلك ، بل غاية ما يفهم من الاخبار أنه منصوب للحكم والقضاء والفتوى خاصة ، وهي الأخبار الدالة على نيابته عن الامام (عليه‌السلام) وكما لم يقم دليل على وجوب ذلك على الامام (عليه‌السلام) الذي هو المنوب عنه في الأحكام ، كذلك لم يقم بالنسبة إليه ، بل غاية أخبار النيابة انما هو ما ذكرناه ، على أنه إذا كان الغرض من


الدفع اليه انما هو الحفظ للمالك ، فهو غير منحصر فيه ، بل يحصل ذلك بالثقة.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه من الوجوب هنا دليلا واضحا.

ورابعها ـ أنه ينبغي أن يعلم أن جواز السفر لضرورته أو ضرورتها مشروط بأمن الطريق ، فلو كان مخوفا علما أو ظنا بظهور بعض الأمارات فظاهرهم أنه لا يجوز السفر بها والحال كذلك ، فلو سافر ضمن ، لانه تعزير بها ، قالوا : حتى لو فرض الخوف أيضا في الحضر ، وتعارض الخطران رجح الإقامة ، لأن السفر في حد ذاته خطر ، فإذا انضم إليه أمارة الخوف زاد خطره على الخطر ، والله العالم.

الخامس ـ ما ذكر من أنه يضمن بطرح الأقمشة في المواضع التي تعفنها والمراد طرحها كذلك مدة يمكن حصول التعفن فيها ، فلو لم يكن كذلك بأن طرحها مدة لا يحصل ذلك بل يقطع بعدم التضرر فلا ضمان ، فإنه لا يعد تفريطا يوجبه ، ومثله وضع الكتب التي يخاف عليها من النداوة المفسدة بها ، ونحو ذلك والمرجع في الجميع في ذلك الى اشتراط كون الموضع صالحا للوديعة بحسب حالها وما يناسبها مكانا وزمانا ، إلا أنك قد عرفت في الموضع الثاني ما ينجر به المناقشة الى هذا الحكم في هذا الموضع أيضا ، والله العالم.

السادس ـ ما ذكر من الضمان مع ترك سقي الدابة أو علفها مدة لا تصبر عليه فتموت ، فإنه لا خلاف فيه الا أن تخصيص الضمان بذلك محل اشكال كما سيظهر لك ان شاء الله.

وكيف كان فإنها لو ماتت بغيره ، فإنه لا يضمن ، وكذا لو ماتت في زمان لا تتلف في مثله لم يضمن أيضا ، لأنها لم تتلف بذلك ، صرح به في التذكرة ، وقد تقدم نقله عنه آنفا ، وكذا لا يضمن لو كان بها جوع وعطش سابق لا يعلم بهما فماتت بهما ، بحيث لو لا التقصير لما ماتت ، أما لو كان عالما بهما فإنه يضمن ، ولو لم تمت بذلك بل نقصت ضمن النقصان.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عبارات الأصحاب في هذا المقام لا يخلو من اختلاف


واضطراب ، فان المفهوم من بعضها أن مجرد الترك ولو مرة واحدة تفريط موجب للضمان ، وكذا مجرد المخالفة لما أمر به المالك وان لم يترتب عليه الفوات ، ومتى تحقق الضمان زال حكم الوديعة كما تقدم ذكره ما لم يحصل إيداع جديد ، والمفهوم من بعضها تخصيص الضمان بترك العلف والسقي مدة لا تصبر عليه فماتت ، كما عرفت من العبارة المتقدمة ، وهو مؤذن بتخصيص الضمان بصورة الموت ، ونحوها الصور الملحقة بها ، وكذا مجرد التقصير في الحفظ لا يوجب ضمانا الا مع التلف ، ولهذا قال في المسالك ـ ونعم ما قال بعد ذكر عبارة المصنف بنحو ما قدمنا ذكره ما صورته ـ : واعلم أن الواجب علفها وسقيها بحسب المعتاد لأمثالها ، فالنقصان عنه يعد تفريطا سواء صبرت عليه أم لا ، ومتى عد تفريطا صار ضامنا لها ، وان ماتت بغيره ، هذا الذي يقتضيه قواعد الوديعة.

وحينئذ فتعليق المصنف الحكم على موتها بسبب ترك ذلك مدة لا تصبر عليه عادة ان أريد به هذا المعنى ، فلا اشكال من هذه الحيثية ، لكن يشكل اختصاص حكم الضمان بموتها به ، مع كونها قد صارت مضمونة بالتفريط ، ومن شأن المضمون به أن لا تفترق الحال بين تلفه ونقصه بذلك السبب وغيره ، وسيأتي له نظائر كثيرة في كلام المصنف وغيره.

وان أراد به معنى آخر أخص مما ذكرناه كما هو الظاهر أشكل الحكم بما سبق ، ومن توقف الضمان على ترك هذه المدة مع أن الواجب القيام بالمعتاد منه ، وبتركه يتحقق التفريط ، وفي عبارة العلامة ما هو أبلغ مما هنا ، قال في التذكرة : لو امتنع المستودع من ذلك ، وعنى به العلف والسقي حتى مضت مدة يموت مثل الدابة في مثل تلك المدة ، نظر ان ماتت ضمنها ، وان لم تمت دخلت في ضمانه ، وان نقصت ضمن النقصان ، وان ماتت قبل مضى تلك المدة لم يضمنها ، هذه عبارته ، وقد علق الضمان فيها كما ترى على ترك ذلك مدة تموت فيها عادة ، لا تأخيره زيادة عن العادة ، ولا زيادة على ما تصبر عليه عادة ، انتهى.


وبالجملة فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، لعدم الدليل الواضح في هذا المجال ولم أقف في المقام الا على ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن محمد بن الحسن (1) في الصحيح قال : «كتبت الى أبى محمد (عليه‌السلام) رجل دفع الى رجل وديعة فوضعها في منزل جاره ، فضاعت هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه ، فوقع (عليه‌السلام) هو ضامن لها ان شاء الله».

ورواه في الفقيه (2) هكذا «رجل دفع الى رجل وديعة وأمره أن يضعها في منزله أو لم يأمره فوضعها في منزل جاره». الى آخر ما تقدم ومورد الخبر وقوع التلف بالمخالفة ، وهو مما لا اشكال فيه ، انما الإشكال في الضمان بمجرد المخالفة وان لم يترتب عليه التلف ، كما هو ظاهر شيخنا المتقدم ذكره وغيره.

المقام الثاني في التعدي : وقد عرفت أنه عبارة عن فعل ما لا يجوز فعله ، قالوا : مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها ، وكذا لو طلبت منه فامتنع من ردها مع الإمكان ، فإنه يضمن أيضا ، ونحوه لو جهدها ثم قامت عليه البينة ، أو اعترف بها ويضمن بالخلط بماله على وجه لا يتميز ، ويضمن أيضا بفتح الكيس المختوم ، وكذا لو أودعه كيسين فمزجهما ويضمن لو حمل الدابة أثقل مما أذن له فيه ، أو أشق ولو أودعه المالك في حرز مقفل ففتح القفل وأخذ بعضها ضمن الجميع ، ولو لم يكن في حرز أو كان الحرز من الودعي وأخذ بعضها ضمن ما أخذ خاصة.

والكلام في تحقيق هذه المواضع يقتضي بسطه في موارد الأول ـ ما ذكر من الضمان بلبس الثوب وركوب الدابة ويجب تقييده بما إذا لم يتوقف الحفظ عليهما ، والا كان واجبا فضلا عن أن يكون جائزا كما لو كان الثوب من الصوف يتوقف حفظه من الدود على لبسه ، بحيث أنه لا يندفع ذلك بمجرد النشر في

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 239 ح 9.

(2) الفقيه ج 3 ص 194 ح 880 ، الوسائل ج 13 ص 229 ح 1.


الهواء وكذا الدابة لو توقف نقلها الى الحرز أو سقيها على ركوبها ، وفي حكم الثوب الكتب المودعة ، فلو توقف حفظها على المطالعة فيها ، أو النسخ منها لم يكن ذلك تعديا.

قال في التذكرة : ولو استودع ثياب صوف وجب على المستودع نشرها وتعريضها للريح ، لئلا يفسدها الدود ، ولو لم يندفع الفساد الا بأن يلبس ويفتق به رائحة الأدمي وجب على المستودع لبسها ، وان لم يفعل ففسدت بترك اللبس أو تعريض الثوب للريح كان ضامنا ، سواء أمره المالك أو سكت عنه.

أقول قد عرفت في الموضع الثاني من المقام الأول (1) ما في هذا الكلام من الاشكال والداء العضال لدلالة الاخبار على عدم الضمان في صورة عدم التعريض للهواء ، وعدم وجوب ذلك وان هلك بطول المكث ، كما هو ظاهر الصحيحة المتقدمة ، ونحوها غيرها مما تقدم في كتاب الرهن (2) وكما يضمن في الصورة المذكورة ، كذا يضمن عندهم لو أخرج الثوب من محله ليلبسه والدابة ليركبها ، فإنه يضمن أيضا ، وان لم يلبس ولم يركب كذا ذكره في التذكرة ، قال : لأن الإخراج على هذا القصد خيانة ، فوضع يده على مال الغير خيانة وعدوانا من غير أمانة فيكون ضامنا انتهى.

ولو نوى ذلك ولم يخرج شيئا منهما عن محله ولم يستعمله ، وكذا لو نوى أخذ الدراهم من الكيس ولم يأخذ ، قال في التذكرة في الضمان إشكال ، ينشأ من أنه لم يحدث في الوديعة فعلا ولا قولا ، فلا يضمن ، ومن أنه قصد الخيانة فصار خائنا ولا أمانة للخائن فيكون خائنا ضامنا ، ثم انه صرح أيضا بأنه لو أخذ الوديعة من المالك بقصد الخيانة ، فالأقوى الضمان ، لانه لم يقبضها على سبيل الامانة ، فيده يد خيانة لا يد أمانة ، فلا يكون أمينا بل خائنا ضامنا.

__________________

(1) ص 430.

(2) ج 20 ص 234.


وفيه أن الظاهر أن صدق الخائن عليه شرعا وعرفا لا يحصل الا بفعل ما يوجب الخيانة ، لا بمجرد النية ، والا لصدق على من نوى الزنا ولم يزن أنه زان ، ونحو ذلك ، ولا ريب في بطلانه.

الثاني ـ ما ذكر من الضمان لو طلبها المالك أو من يقوم مقامه فامتنع من ردها مع الإمكان.

أقول : أما وجوب الرد مع الطلب فلا ريب فيه للاية والرواية قال الله تعالى (1) «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها» والاخبار بذلك قد تقدمت في صدر الكتاب (2) والأمر بالرد فوري عندهم ، وأما وجوب الضمان في الصورة المذكورة فالظاهر أن دليله الإجماع على أن التقصير موجب للضمان ، ولم أقف على نص في ذلك ، وقد تقدم في الموضع العاشر من البحث الأول (3) تحقيق معنى الرد وتفصيل الكلام في هذا المقام.

فروع :

الأول ـ قال في التذكرة : لو أمره المالك بدفع الوديعة إلى الوكيل فطلبها الوكيل لم يكن له الامتناع ، ولا التأخير مع المكنة ، فإن فعل أحدهما كان ضامنا ، وحكمه حكم ما لو طلب المالك فلم يرد عليه ، الا أنهما يفترقان في أن المستودع له التأخير الى أن يشهد المدفوع اليه على القبض لان المدفوع اليه وهو الوكيل لو أنكر الدفع صدق بيمينه ، وذلك يستلزم ضرر المستودع بالغرم انتهى.

أقول : مرجع الفرق بينهما إلى أنه في صورة إنكار الوكيل الدفع يحتاج المستودع إلى البينة ، ومع عدمها يمين المنكر ، لان هذا الفرد أحد أفراد الكلية

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 58.

(2) ص 395.

(3) ص 426.


القائلة «1» «بأن البينة على المدعى ، واليمين على المنكر». وأما في صورة إنكار المالك لو ادعى الودعي الدفع إليه فإنه وان كان أيضا أحدهما مدعيا والأخر منكرا الا أنه من حيث كونه أمينا ومحسنا وقابضا لمصلحة المالك فالقول قوله بيمينه ، ولا يكلف البينة كما هي قاعدة الأمين في أي موضع كان ، فهي مستثناة من القاعدة المذكورة بالنصوص الكثيرة هذا هو المشهور.

وقيل : ان عليه البينة في دعوى الرد على المالك أيضا ، عملا بالقاعدة المذكورة ، والأظهر ضعفه عملا بالأخبار الدالة على حكم الامانة ، وأنه يقبل قول الأمين بيمينه ، والوديعة من جملتها كما تقدم ذكره.

الثاني : لو قال المالك له : رد الوديعة على فلان وكيلي ، فلم يطلب الوكيل الرد ، قال في التذكرة : ان لم يتمكن المستودع من الرد فلا ضمان عليه قطعا ، لعدم تقصيره ، وان تمكن من الرد احتمل الضمان ، لانه لما أمره بالدفع الى وكيله فكأنه عزله ، فيصير ما في يده كالأمانات الشرعية.

الثالث ـ قال في التذكرة أيضا : لو أمره المالك بالدفع الى وكيله أو أمره بالإيداع لما دفع اليه ابتداء ، فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدين ، لأن الوديعة أمانة.

وقول المستودع مقبول في الرد والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأن الودائع حقها الإخفاء بخلاف قضاء الدين ، وهو أظهر وجهي الشافعية.

أقول : فيه أنه قد صرح في الفرع الأول بأن للودعي التأخير عن الدفع الى الوكيل الى أن يشهد له على القبض ، لما يلزم بعدم الاشهاد من الضرر عليه لو أنكر الوكيل القبض ، وقد بينا الوجه فيه ، وهنا نفى الوجوب عنه ، وهذا لا يجامع الحكم الأول ، لان مقتضى ما ذكره أولا أنه لا يجب على الودعي الدفع الا مع الاشهاد له بالقبض ، ومقتضى هذا الكلام أنه لا يجب على الوكيل الاشهاد ،

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 20 ح 1 ، الوسائل ج 18 ص 171 ح 5.


واللازم من ذلك أنه لا يجب على الودعي الدفع في صورة أمر المالك بالدفع ، كما هو المفروض في كل من الموضعين ، ولا ريب في بطلانه ، وقوله في الكلام الأخير لأن قول المستودع مقبول في الرد انما هو مسلم بالنسبة إلى دعواه الرد على المالك لما عرفت ، بناء على القول المشهور.

وبالجملة فإن الظاهر عندي هو التدافع فيما ذكره في هذين الكلامين

الثالث ـ ما ذكر من الضمان لو جحدها ثم قامت عليه البينة أو اعترف بها وعلل بأنه انما كان الجحود موجبا للضمان ، لأنه خيانة ، حيث انه بإنكاره يزعم أن يده عليها ليست نيابة عن المالك ، فلا يكون أمينه ، فيصير يده عليها يد ضمان لا يد وديعة وأمانة.

قالوا : ويعتبر في تحقيق الضمان بالجحود أمور الأول ـ أن يكون بعد طلب المالك لها ، فلو جحدها ابتداء أو عند سؤال غيره لم يضمن ، لأن الوديعة مبنية على الإخفاء فإنكاره بغير طلب يوجب الرد أقرب الى الحفظ ، ولو لم يطلبها المالك لكن سأله عنها فقال : لي عندك وديعة فجحد فلهم في الضمان قولان : أحدهما ما اختاره في التذكرة ، وهو العدم ، لانه لم يمسكها لنفسه ولم يقر يده عليها بغير رضى المالك ، حيث لم يطلبها ، ومجرد السؤال لا يبطل الوديعة ، ولا يرفع الامانة.

وثانيها ـ ما اختاره الشيخ على (رحمه‌الله) واستوجهه في المسالك من ثبوت الضمان ، قال المحقق المذكور : لان جحوده يقتضي كون يده ليست عن المالك لان نفى الملزوم يقتضي نفى لازمه من حيث هو لازمه ، فلا يكون أمينا عنه فيضمن.

الثاني ـ أن لا يظهر بجحوده عذرا بنسيان أو غلط أو نحوهما فإنه لا يضمن ان صدقه المالك على العذر والا ففي الضمان وجهان : واستقرب في التذكرة الضمان ، ووجهه يعلم مما سبق.

وفي المسالك أن عدم الضمان لا يخلو من وجه.

الثالث ـ أن لا يكون الجحود لمصلحة الوديعة بأن يقصد به دفع ظالم أو


متغلب على المالك أو نحو ذلك ، لانه محسن في ذلك ، وما على المحسنين من سبيل.

الرابع ـ ما ذكر من الضمان بالخلط بماله على وجه لا يتميز ، قال في التذكرة : إذا مزج المستودع الوديعة بماله مزجا لا يتميز أحدهما عن صاحبه كدراهم مزجها بمثلها أو دنانير بمثلها ، بحيث لا يتميز بين الوديعة وبين مال المستودع أو مزج الحنطة بمثلها ، صار ضامنا ، سواء كان المخلوط بها دونها أو مثلها ، أو أزيد منها ، انتهى.

ومرجع ذلك الى اشتراك الجميع في التعدي الناشي عن التصرف في الوديعة تصرفا غير مشروع ، وتعيبها بالمزج المفضي إلى الشركة الموجب إلى المعاوضة على بعض ماله بغير رضاه عند القسمة ، ولا ريب أن الشركة عيب ، وربما يفهم من قوله بماله أنه لو كان الخلط بمال المالك لم يضمن ، وليس كذلك بل يضمن أيضا كما صرح به في التذكرة في تتمة كلامه ، حيث قال : ولو مزجها بمال مالكها بأن كان له عنده كيسان وديعة ، يمزج أحدها بالاخر بحيث لا يتميز ضمن أيضا ، لأنه تصرف غير مشروع في الوديعة ، وربما ميز بينهما لغرض دعى اليه والخلط خيانة ، انتهى.

وسيأتي الكلام في ذلك أيضا ان شاء الله تعالى ، وكما يضمن في الصورتين المذكورتين ، فكذا فيما لو خلطه بمال مغصوب ، بل هو أشد الجميع أو بمال يكون عنده أمانة بغير الوديعة ، لصدق التصرف المنهي عنه في الجميع.

وفي التقييد بعدم التمييز بين المالين إشارة إلى أنه لو تميز المالان فلا ضمان وهو كذلك عندهم ان لم يستلزم المزج أمرا آخر موجبا للضمان ، كما لو كان المال في كيس مختوم ، فإنه وان لم يضمن بالمزج من حيث التميز الا أنه يضمن من حيث فكه الختم الذي على الكيس كما سيأتي ذكره إنشاء الله تعالى.

الخامس ـ ما ذكر من الضمان بفتح الكيس المختوم ، قال في التذكرة : لو أودعه عشر دراهم مثلا في كيس ، فان كان مشدودا أو مختوما فكسر الختم وحل


الشداد أو فعل واحدا منهما ضمن ، لانه هتك الحرز على ما تقدم ، وظاهرهم أنه لا فرق في الضمان بكسر الختم وحل الشداد وبين أن يأخذ من الكيس شيئا وعدمه ولا في الختم بين أن يكون مشتملا على علامة للمالك وعدمه ، لاشتراك الجميع في العلة الموجبة للضمان ، وهي هتك الحرز والتصرف المنهي عنه ، ومثله الصندوق المقفل لو فتح قفله ، هذا كله إذا كان الختم والشد من المالك ، فلو كان ذلك من الودعي فلا ضمان ، إذ لا هتك ولا تصرف فيما فعله المالك ، الا أن يكون ذلك بأمر المالك ، فإنه عندهم في حكم فعل المالك ذلك.

بقي الكلام في أنه ربما كان القصد من الختم أو الشد انما هو الحفظ والمنع من الانتشار دون الإخفاء ، وعدم الاطلاع على ذلك ، والفارق بين الأمرين القرائن فإنه لا يبعد عدم الضمان في الصورة الاولى ، وبه جزم في المسالك وحيث يضمن للمظروف بفتح الظرف على الوجه المتقدم ، فهل يضمن الظرف أيضا أم لا؟ وجهان بل قولان : أولهما ـ اختاره في المسالك قال : للتصرف فيه المنهي عنه ، وثانيهما ـ استقر به في التذكرة ، لأنه لم يقصد الخيانة في الظرف وضعفه في المسالك بأن قصد الخيانة لا دخل له في الضمان ، بل التصرف ، قال : وقد استشكل في حكم ما لو عد الدراهم غير المختوم أو وزنها أو ذرع الثوب ، مع أن مقتضى تعليله عدم الضمان ، ولو خرق الكيس المختوم فان كان الخرق تحت الختم ، فهو كفض (1) الختم ويزيد ضمان الظرف أيضا وان كان فوق الختم فليس الا ضمان الظرف.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) المناقشة في هذا الحكم ، فإنه قال : بعد أن نقل عن التذكرة الضمان بمجرد فض الختم ، وخرق الكيس على الوجه المذكور.

والظاهر عدم الضمان في الموضعين لما فيه من عدم التصرف بخيانة ، وكأنه يخص التصرف هنا بغير الدراهم التي في الكيس ، حيث أنه لم يدخل يده فيها ،

__________________

(1) الفض بمعنى الكسر ـ فضه اى كسره.


وأن التصرف الموجب لضمانها انما هو وضع اليد فيها والأخذ منها ، والا فإنما ذلك تصرف في الكيس خاصا ، والمسئلة كغيرها بمحل من الإشكال ، فإن كلامه لا يخلو من قرب ، وان كان ظاهرهم الاتفاق على أنه يضمن بمجرد فض الختم ، والله العالم.

السادس ـ ما ذكره من الضمان لو أودعه كيسين فمزجها ، ظاهر هذا الكلام يعطى وجوب الضمان بمجرد المزج ولو أمكن التميز بينهما ، ولعله مبنى على استلزامه ذلك التصرف في المالين بغير اذن المالك ، الا أنه قد تقدم في المورد الرابع عدم الضمان مع إمكان التمييز ، ويمكن أن يكون المراد بالمزج هنا هو ما كان على وجه لا يتميز أحدهما من الأخر ولعل هو الظاهر من لفظ المزج ، وحينئذ فباخراجه ما في أحد الكيسين وصبه على الأخر يضمن ذلك المخرج خاصة ، لتصرفه فيه ، ولا يضمن ما في الكيس المصبوب عليه مع تميزه ، لانه لم يتصرف فيه ان لم يكن مختوما ، وفك ختمه ، فإنه يضمن من حيث فك الختم ، وربما نقل عن بعض الأصحاب الضمان مطلقا ، وان لم يكن مختوما هذا كله إذا كان الكيسان للمودع ، كما هو المفروض أولا ، أما لو كان أحدهما للمستودع فإنه لا ضمان مع بقاء التمييز كما تقدم ، لان له نقل الوديعة من محل الى آخر ، وله تفريغ ملكه ، ولا يتعين عليه الحفظ فيما وضع فيه.

السابع ـ ما ذكر من الضمان لو حمل الدابة أثقل أو أشق مما أذن له فيه ، ولا ريب في الضمان مع المخالفة واستعمالها في الأشق والأثقل ، لانه تعد محض وتفريط موجب لذلك.

قال في المسالك : بعد قول المصنف وكذا لو أمره بإجارتها لحمل أخف فآجرها لا ثقل ، ولا سهل فآجرها لا شق كالقطن والحديد ـ ما لفظه : لا اشكال هنا في الضمان مع استعمال المستأجر لها في الأثقل ، وهل يتحقق بمجرد العقد؟ يحتمل ذلك ، لتسليطه على الانتفاع والعدوان ، فيخرج عن كونه أمينا ، كما


يضمن بجحوده ، بل مجرد نيته على قول مع عدم فعل ما يوجب الضمان وعدمه كما لو نوى الخيانة أو التفريط ، أو قال : أنه يفعل ذلك ولم يفعل ، ولم أقف في ذلك على شي‌ء يعتد به ، انتهى.

أقول لا ريب أن عقد الإجارة على هذا الوجه باطل ، لان المالك انما أذن له في الإجارة بحمل الأخف وهو قد آجرها لحمل الأثقل والأشق وهو خلاف ما أذن له فيه ، فيكون باطلا ، ولا يبعد تحقق الضمان بذلك من حيث التصرف بهذا العقد الموجب لتسليط المستأجر على خلاف ما أمر به المالك.

على أن التمثيل لعدم الضمان بما لو نوى الخيانة أو التفريط مع عدم الفعل محل إشكال أيضا ، فإن العلامة في التذكرة قد صرح هنا بالضمان كما تقدم نقله عنه في المورد الأول ، وان كان فيه ما فيه كما أشرنا إليه ثمة.

وبالجملة فالظاهر أن الأقرب بمقتضى قواعدهم هو القول بالضمان في الصورة المذكورة ، ثم انه على تقدير المخالفة ووجوب الضمان فهل يضمن الجميع أو بالنسبة؟ ظاهره في المسالك الأول ، مع احتمال الثاني.

وجزم المحقق الأردبيلي بالأول من غير احتمال ، قال : لانه تعد ، فلو تلف يأخذ منه تمام القيمة ، لا أن يقسط على المأذون وغيره ، ووجه الاحتمال الذي ذكره في المسالك هو في صورة حمل الأثقل ، أن القدر المأذون فيه غير مضمون ، وانما تعدى بالزائد فيقسط التالف عليهما.

أقول : ما ذكره جيد بالنسبة إلى الأثقل ، كما لو أذن له في حمل وزن مخصوص أو كيل مخصوص لا ثقل فيه ، فزاد على ذلك الوزن أو الكيل ما حصل به الثقل ، فإنه لا يبعد ما ذكره من التقسيط ، أما لو كان ما استأجر عليه أضر وأشق على الدابة فمجموع الحمل مغاير لما أذن به المالك ، فيتوجه النهي إلى المجموع ، بخلاف الأول ، فإنه انما يتوجه الى ما حصل به الثقل من الزيادة ، وهذا التفصيل بحسب الظاهر لا بأس به على مقتضى قواعدهم.

وقال في المسالك ـ بالنسبة إلى تمثيل المصنف بالقطن والحديد ـ والمراد


من الأشق في المثالين : أن الحديد أشق عند سكون الهوى ، والقطن أشق عند الهواء ، ومن ثم جمع بين المثالين.

الثامن ـ ما ذكر من الضمان لو جعلها المالك في حرز مقفل ، ففتح القفل وأخذ بعضها ، الى آخر ما تقدم.

أقول قد تقدم أنه إذا دفع اليه كيسا مختوما ففضه فإنه يضمن الجميع بفض الختم ، وان لم يأخذ منه شيئا ، فكذا هنا يضمن هنا بفك القفل. وان لم يأخذ شيئا ، ففيما إذا أخذ بعضها بطريق أولى.

أما لو لم يكن في حرز أو كانت ولكن الحرز للودعي ، فإنه يضمن ما أخذه خاصة ، لأنه لم يحصل منه تعد الا فيما أخذه.

وأما لو كان الكيس للودعي وشده بأمر المالك فهو بمنزلة شد المالك فيضمن بفتحه كما ذكروه.

قال في المسالك : ولا فرق في ضمان المأخوذ بين أن يصرفه في حاجته وعدمه عندنا ، لأن الإخراج على هذا القصد خيانة ، وعلى هذا فلو نوى التصرف في الوديعة عند أخذها بحيث أخذها على هذا القصد كانت مضمونة عليه مطلقا ، لانه لم يقبضها على وجه الامانة ، بل على سبيل الخيانة.

وفي تأثير النية في استدامة الأخذ كما تؤثر ابتداء وجهان : من ثبوت اليد في الموضعين ـ مقترنا بالنية الموجبة للضمان ـ ومن أنه لم يحدث فعلا مع قصد الخيانة ، والشك في تأثير مجرد القصد في الضمان ، وتردد في التذكرة.

ويتحقق ذلك في صور : منها ـ أن ينوي الأخذ ولم يأخذ : والاستعمال ولم يستعمل ، وأن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك ، ولم يتلفظ بالجحود وغير ذلك ، وقد جزم المصنف (رحمه‌الله) في ما سبق بأنه لو نوى الانتفاع لا يضمن بمجرد النية ، انتهى.

أقول : فيه أن ما ذكروه من الضمان بمجرد النية في المواضع المذكورة


مبنى على وجوب نية قصد الايتمان في قبض الوديعة ، والا كان خائنا يترتب على قبضه الضمان ، وهو مشكل لعدم الدليل عليه ، وصدق الخائن عليه بمجرد هذه النية ممنوع ، إذ الظاهر أن الاتصاف بالخيانة لغة وشرعا وعرفا انما يتحقق بالتعدي والتصرف ، لا بمجرد النية ، والا لصدق على الإنسان كونه زانيا بمجرد نية الزنا ، وسارقا بمجرد نية السرقة ، وهكذا ولا يقوله أحد ، ولهذا ان الله تعالى لا يأخذ بمجرد النية والقصد ، وانما يؤاخذ بالفعل والتصرف في جميع أفراد المعاصي من خيانة وغيرها.

وبالجملة فإني لا أعرف لكلامهم هنا وجها وجيها ، بل الظاهر خلافه كما عرفت وما نقله عن التذكرة من التردد قد تقدم ذكره في المورد الأول ، وقد أشرنا في رده الى ما ذكرناه هنا على أن ما ذكروه أيضا من الضمان للجميع بمجرد فتح القفل وفض الختم لا يخلو من المناقشة ، لعدم الدليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، والتصرف هنا حقيقة أنما وقع في القفل والختم ، والى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد أيضا.

قال في التذكرة : وان كان الصندوق مقفلا والكيس مختوما ، ففتح القفل وفض الختم ولم يأخذ ما فيه فالأقوى الضمان لما فيه من الثياب والدراهم ، وهو أصح وجهي الشافعية ، لأنه هتك الحرز ، والثاني للشافعية أنه لا يضمن ما في الصندوق والكيس ، بل يضمن الختم الذي تصرف فيه ، وبه قال أبو حنيفة ، انتهى.

قال المحقق الأردبيلي ـ بعد نقل هذا الكلام بحذافيره ـ : هذا أولى لما مر غير مرة من الأصل وعدم تصرف وتقصير في الحفظ وغير ثابت كون هتك الحرز موجبا للضمان ، ولا بد له من دليل فتأمل ، انتهى وهو جيد.

تذنيب :

قد تقدم في صدر هذا الكلام أنه لو أخذ البعض ضمن ما أخذ خاصة في صورة ما إذا كان الحرز من المستودع أو لم يكن في حرز ، بقي الكلام في أنه


لو أعاد ما أخذه إلى موضعه أو أعاد بدله ، فأما على الأول فإن ظاهرهم بقاء الضمان ، وأنه لا يزول بإعادته لأن يده عليه صارت يد خيانة ، لا يخرج عنها الا بما تقدم من إيداع المالك له مرة ثانية ، كما في كل تفريط وتعد ، وسيأتي تحقيقه ان شاء الله.

ولا فرق في ذلك بين أن يمزجه بغير المضمون مزجا لا يتميز عنه ، أم لا ، لان الجميع مال المالك ، غايته أنه قد صار بعضه مضمونا وبعضه غير مضمون ، وأن هذا الاختلاط كان حاصلا قبل الأخذ.

قال في التذكرة ـ بعد فرض المسئلة في إيداع كيس فيه عشرة دراهم ـ وان لم يكن الكيس مشدودا ولا مختوما فأخرج منه درهما لنفسه ضمنه خاصة ، لأنه لم يتعد في غيره ، فان رده لم يزل عنه الضمان ، فان لم يختلط بالباقي لم يضمن الباقي ، لأنه لم يتصرف فيه ، وكذا ان اختلط وكان متميزا لم يلتبس بغيره وان امتزج بالباقي مزجا يرتفع معه الامتياز فالوجه أنه كذلك لا يضمن الباقي ، بل الدرهم خاصة ، لأن هذا المزج كان حاصلا قبل الأخذ وهو أصح قولي الشافعية والثاني عليه ضمان الباقي لخلطه المضمون بغير المضمون ، فعلى ما اخترناه لو تلفت العشرة لم يلزمه الا درهم واحد ولو تلف منها خمسة لم يلزمه الا نصف درهم ، انتهى.

وأما على الثاني فإنه لا يبرئ أيضا بإعادة البدل ، فإنه إذا كان الضمان باقيا بإعادة ما أخذه ففي بدله بطريق أولى ، لأنه لم يتعين ملكا للمالك ، إذ لا يحصل الملك الا بقبضه أو قبض وكيله والمستودع ليس وكيلا في تعيين العوض ، وانما هو وكيل في الحفظ ، وحينئذ فلا يخلو اما أن يكون المردود متميزا عن الباقي بحيث لم يخلط به ، أو كان فيه علامة من سكة أو غيرها توجب الامتياز ، فإنه لا يضمن سواء ذلك ، ولا يضمن الباقي ، أو لا يكون متميزا بل مزجه بتلك الدراهم مزجا لا يتميز منها ، فان ظاهرهم وجوب ضمان الجميع ، لما تقدم من أن مزج الوديعة بماله من موجبات الضمان للجميع والله العالم.


البحث الثالث في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى ـ حيث أن الوديعة من العقود الجائزة بناء على أنه عقد ، فإنه يجوز فسخها أى وقت شاء المستودع ، وبطريق الاولى لو كانت إذنا خاصة ، الا أنه لا يجوز تسليمها الا الى المالك أو وكيله ، ومع تعذرهما فالى الحاكم الشرعي ، ومع تعذره فيدفعها إلى ثقة ، ولا ضمان مع عمله بهذا الترتيب فلو خالف ودفع الى الحاكم مع إمكان الدفع الى المالك أو وكيله أو دفع الى الثقة مع إمكان الدفع الى الحاكم ضمن عند الأصحاب من غير خلاف يعرف.

بقي الكلام في أن الظاهر أن جواز الرد في أي وقت شاء انما يتم بالنسبة إلى الرد على المالك أو وكيله ، أما الرد على الحاكم أو الثقة فإنما يجوز مع العذر المانع من الايتمان ، كخوف تلف الأمانة في يده بحرق أو سرق أو اضطراره الى السفر ونحو ذلك من الأسباب المانعة من بقاءها أمانة في يده ، وان لم يكن له عذر لم يجز الدفع الى الحاكم ولا الثقة ، مع عدمه لانه وان جاز له فسخ عقد الوديعة متى شاء ، لانه عقد جائز الا أنه بقبول الوديعة قد التزم حفظها الى أن يردها على مالكها ، فلا يبرئ الا بالدفع الى المالك ، ولا عذر هنا يجوز له الخروج به عن ذلك من ضرورة تعرض له أو للوديعة كما تقدم.

وربما نقل عن بعضهم أنه أجاز دفعها الى الحاكم عند تعذر المالك مطلقا ، لأنه بمنزلة وكيله ، قال في المسالك : وليس بذلك البعيد.

وقال في المسالك أيضا : ثم انه على تقدير جواز دفعها الى الحاكم هل يجب عليه القبول؟ كما إذا كان له عذر ولم يجد المالك ولا وكيله وجهان : من أنه نائب عن الغائب حينئذ ، وأنه منصوب للمصالح ولو لم يجب عليه القبض فاتت المصلحة المطلوبة من نصبه ، ومن أصالة البراءة ، والأقوى الأول ، والوجهان آتيان في ما لو حمل اليه المديون الدين مع غيبة المدين ، والغاصب المغصوب أو بدله مع تلفه ، وغير ذلك من الأمانات التي يليها الحاكم ، انتهى.


أقول : وقد تقدمه العلامة في ذلك ، والمحقق الشيخ على كما تقدم ذكره ، وقد بينا ما فيه في التنبيه الثالث (1) من التنبيهات الملحقة بالموضوع الرابع من المقام الأول من سابق هذا البحث.

الثانية ـ الظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه متى صارت يد المستودع يد ضمان بالتعدي أو التفريط على الأنحاء المتقدمة ، فإنه لا يخرج عن ذلك ، ولا يعود الى حكم الوديعة برد الوديعة الى ما كانت عليه ، لانه صار بمنزلة الغاصب بتعديه ، فيستصحب الحكم بالضمان الى أن يحصل من المالك ما يوجب زواله ، والعود الى الحال الاولى.

قال في التذكرة : إذا صارت الوديعة مضمونة على المستودع اما بنقل الوديعة وإخراجها من الحرز أو باستعمالها كركوب الدابة ولبس الثوب أو بغيرها من أسباب الضمان ، ثم انه ترك الخيانة ورد الوديعة إلى مكانها وخلع الثوب لم يبرء بذلك عند علمائنا أجمع ، ولم يزل عنه الضمان ولم تعد أمانة ، وبه قال الشافعي ، لأنه ضمن الوديعة بعد وان ، فوجب أن يبطل الاستيمان كما لو جحد الوديعة ، ثم أقر بها ، وقال أبو حنيفة : يزول عنه الضمان ، لأنه إذا ردها فهو ما سك لها بأمر صاحبها ، فلم يكن ضمانها.

أقول : لم أقف لهم (رضوان الله تعالى عليهم) على دليل في المقام ، سوى ما يظهر من كلامهم من الأخذ بالاستصحاب ، مضافا الى دعوى الإجماع كما سمعت من كلام العلامة ، وقد عرفت ما في الاستصحاب في مقدمات الكتاب المذكور في صدر كتاب الطهارة (2) وما في أمثال هذه الإجماعات من المناقشة التي تقدمت في غير باب والقول بما ذكروه على إطلاقه مشكل ، لما عرفت من عدم الدليل ، وان أمكن القول بذلك في بعض الموارد بنوع من التقريب الموجب لما ذكروه ، كلبس الثوب وركوب الدابة.

__________________

(1) ص 435.

(2) ج 1 ص 52.


ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر عن جامع البزنطي (1) «قال سألته عن رجل كانت عنده وديعة لرجل فاحتاج إليها هل يصلح له أن يأخذ منها وهو مجمع على ان يردها بغير اذن صاحبها؟ قال : إذا كان عنده وفاء فلا بأس أن يأخذ ويرده». ورواه الحميري في قرب الاسناد عن على بن جعفر (2) عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته» الخبر. وبمضمون ذلك أخبار أخر قد تقدمت في المسئلة السابعة من المقدمة الرابعة من كتاب التجارة (3) والتقريب فيها أنها ظاهرة في أنه لا يخرج بهذا التصرف عن كونه أمينا لكون تصرفه جائزا.

وقال ابن إدريس ـ بعد إيراد خبر البزنطي المذكور ـ قال محمد بن إدريس لا يلتفت الى هذا الحديث ، لانه ورد في نوادر الاخبار ، والدليل بخلافه وهو الإجماع منعقد على تحريم التصرف في الوديعة بغير اذن ملاكها ، فلا يرجع عما يقتضيه العلم الى ما يقتضيه الظن ، انتهى ، وهو جيد على أصله الغير الأصل ، وكيف لا؟ والاخبار بما قلناه متظافرة كما أشرنا إليه من ذكرها في الموضع المشار اليه ، والحكم ليس منحصرا في هذا الخبر ، وقد تقدم الكلام أيضا في المناقشة في بعض الموارد المذكورة.

ثم انه على تقدير ما ذكروه من لزوم الضمان والخروج عن الوديعة فإنهم ذكروا أنه لا يعود الى الحكم الأول الا بأن يرده على المالك ، ثم يجدد له المالك وهذا الفرد مما لا خلاف ولا اشكال فيه عندهم ، لأنه وديعة مستأنف يترتب عليها أحكام الوديعة التي من جملتها كون الودعي أمينا.

قال في التذكرة : لورد الوديعة ـ بعد أن تعلق ضمانها به اما بالإخراج من الحرز أو بالتصرف أو بغيرهما من الأسباب ـ إلى المالك ثم ان المالك أودعه

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 233 ح 2 الباب 8 من أبواب أحكام الوديعة الرقم 2.

(2) قرب الاسناد ص 119.

(3) ج 18 ص 325.


إياها ثانيا فإنه يعود أمينا إجماعا ، وبرء من الضمان ، انتهى.

وأما لو لم يردها ولكن جدد له المالك الإيداع بأن أذن له في الحفظ فقال : أذنت لك في حفظها أو قال : أودعتكها أو استأمنتك عليها فظاهر الأكثر أنه كالأول.

وعلل بأن الضمان انما كان بحق المالك ، وقد رضى بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الامانة ، وهو اختياره في التذكرة ، حيث قال : لو لم يسلمها الى المالك لكن أحدث المالك له استئمانا فقال : أذنت لك في حفظها أو أودعتكها أو استأمنتك أو برءتك من الضمان فالأقرب سقوط الضمان عنه ، وعوده أمينا لأن التضمين حق المالك ، وقد رضى بسقوطه ، وهو أصح قولي الشافعي.

والثاني أنه لا يزول الضمان ولا يعود أمينا لظاهر قوله (عليه‌السلام) (1) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». انتهى ، وظاهره في المسالك التوقف في هذا المقام ، قال : ويمكن بناء ذلك على أن الغاصب إذا استودع هل يزول الضمان عنه أم لا؟ فان المستودع هنا قد صار بتعديه بمنزلته ، والمسئلة موضع إشكال ـ إذ لا منافاة بين الوديعة والضمان كما في الفرض المذكور ، فلا يزول الضمان السابق بتجدد ما لا ينافيه ، مع عموم قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على اليد ما أخذت حتى تؤدى» (2). ـ ومن أنه قد أقام يده مقام يده ، وجعله وكيلا في حفظها ، وذلك يقتضي رفع الضمان ، وقد سلف البحث في نظائرها في مواضع ، كالرهن والقراض والأقوى هنا زوال الضمان ، لان المستودع نائب عن المالك في الحفظ ، فكانت يده كيده ، وقبضه لمصلحته ، فكان المال في يده بمنزلة ما كان في يد المالك ، بخلاف الرهن ، انتهى.

ومرجع الوجه الثاني إلى ثبوت المنافاة بين الوديعة والضمان الذي معه أولا وهو الأظهر ولهذا رجع به في آخر كلامه عن الاستشكال الذي ذكره أولا.

وظاهر عبارة التذكرة المتقدمة أن الإبراء من الضمان في حكم الألفاظ

__________________

(1 و 2) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


المذكورة في تجدد الوديعة ، لما علله به من أن التضمين حق للمالك ، وقد رضى بسقوطه ، وربما أشكل بأن معنى الضمان أن العين لو تلفت وجب عليه بدلها ، والحال أنها الان لم تتلف ، فتكون البراءة من الضمان إبراء مما لم يجب.

ورد بأن الضمان المسبب عن التعدي معناه جعل ذمة الودعي متعلقة بالمال على وجه يلزمه بدل المال على تقدير تلفه ، ولزوم البدل ثمرة الضمان وفائدته ، لا نفسه ، والساقط بالإبراء هو الأول لا الثاني.

ويدل على أن المراد من الضمان هو المعنى الأول أنهم يحكمون عليه بمجرد العدوان ، فيقولون صار ضامنا ، ولو فعل كذا ضمن ونحو ذلك ، مع أن لزوم البدل لم يحصل بذلك ، وانما حصل قبول ذمته له ، وهذا معنى زواله بالبراءة ، بل هو متعلق البراءة.

الثالثة ـ إذا أنكر الوديعة أو أقر بها ولكن ادعى التلف أو ادعى الرد ولا بينة فهيهنا مقامات ثلاثة.

الأول ـ الإنكار ، والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في قبول قوله فيه ، لانه منكر ، والأصل عدمها من غير معارض.

الثاني : دعوى التلف ، والمشهور قبول قوله فيه بيمينه وان كان مدعيا ومخالفا للأصل ، لأنه أمين فيقبل قوله على من ائتمنه ، بل ظاهر التذكرة دعوى الإجماع على ذلك ، قال : إذا طلب المالك من المستودع الرد فادعى التلف ، فالقول قوله مع اليمين عند علمائنا ، سواء ادعى التلف بسبب ظاهر ، أو خفي. لأنه أمين في كل حال ، فكان القول قوله في كل حال هو أمين فيها ، انتهى.

وظاهر الأصحاب أنه لا فرق في الحكم المذكور بين دعواه التلف بسبب ظاهر كالحرق والغرق ، أو خفي كالسرق ، لاشتراكهما في المعنى وقد عرفت من ظاهر العلامة دعوى الإجماع على ذلك.

وظاهر الشيخ في المبسوط الفرق بين ذلك ، فقال : بقبول قوله في الثاني ،


دون الأول ، حيث قال بعد كلام في المقام ـ : وجملته أن كل موضع يدعى الحرق والنهب والغرق فإنه لا يقبل قوله الا بالبينة ، وكل موضع يدعى السرقة والغصب أو يقول : تلف في يده ، فان القول قوله مع يمينه بلا بينة ، والفرق أن الحرق والغرق لا يخفى ، ويمكن إقامة البينة عليه ، بخلاف السرقة ، انتهى.

وظاهر العلامة في التذكرة القبول مع الإطلاق ، وعدم تعيين السبب الموجب للتلف ، كما يشير اليه كلام الشيخ المذكور أيضا ، حيث خص عدم القبول بدعوى السبب الظاهر ، وعد دعوى التلف مطلقا فيما يقبل قوله.

ثم ان ظاهر الأكثر قبول قوله مع اليمين لا بدونها ، وقد سمعت من عبارة التذكرة دعوى الإجماع عليه ، مع أن الصدوق في المقنع قال : يقبل دعوى التلف والضياع بلا يمين.

قال : «وسئل الصادق (عليه‌السلام) عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال : نعم ولا يمين عليه» (1). قال : وروى في حديث آخر (2) أنه قال : «لم يخنك الأمين ولكنك ائتمنت الخائن».

وقال في كتاب من لا يحضره الفقيه (3) مضى مشايخنا (رضي‌الله‌عنهم) على أن قول المودع مقبول ، فإنه مؤتمن ولا يمين عليه وقال الشيخ في النهاية ولا يمين على المودع ، بل قوله مقبول ، فان ادعى المستودع أن المودع قد فرط أو ضيع كان عليه البينة ، فان لم يكن معه بينة كان على المودع اليمين.

وقال ابن الجنيد وإذا قال : قد ضاعت أو تلفت فالقول قوله ، فان اتهم أحلف ، وكذا قال : أبو الصلاح.

أقول : كلامهما يرجع الى ما ذكره في النهاية ، والمشهور بين المتأخرين اليمين مطلقا ، قال في المختلف : والأشهر التسوية بين الحكمين في وجوب

__________________

(1 و 2 و 3) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 228 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 228 ح 8.


اليمين ، لان قول المودع أنها سرقت أو ضاعت دعوى ، فلا بد فيها من اليمين ولم يوجب البينة ، لأنه أمين ، انتهى.

وحينئذ فالأقوال في المسئلة أربعة ، ولم أقف على حديث ظاهر في اليمين في هذا المقام ، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك حسنة الحلبي (1) عن الصادق (عليه‌السلام) «قال صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان». وأنت خبير بما فيه ، بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعاه أنسب ، فان مقتضى كونه أمينا أن يقبل قوله من غير يمين ، كما هو ظاهر جملة من الاخبار ، منها الخبر المتقدم نقله عن المقنع ، مع فرض كون الودعي غير ثقة ، وهو أبلغ في الدلالة.

ومنها ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (2) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لك أن تتهم من ائتمنته ، ولا تأمن الخائن وقد جربته».

وما رواه في قرب الاسناد عن مسعدة بن صدقة (3) عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «ليس لك أن تأتمن من خانك لا تتهم من ائتمنت».

وعن مسعدة بن زياد (4) «عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : ليس لك أن تتهم من ائتمنته ، ولا تأمن الخائن وقد جربته».

والتقريب في هذه الاخبار أن منشأ اليمين انما هو الاتهام له ، وعدم تصديقه ، وقد نهوا عن اتهامه ، فلا وجه لليمين حينئذ بل يجب تصديقه وقبول قوله من غير يمين ففي هذه الاخبار رد أيضا على الشيخ ومن قال بقوله من أن له إحلافه مع تهمته فان هذه الاخبار نهت عن اتهامه ويؤيد هذه الاخبار أيضا الأخبار الدالة على أنه لم يخنك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن ، فإنها ظاهرة في أنه لا يجوز له أن يخونه ، وينسبه إلى الخيانة بعد اعتقاد كونه أمينا ، وإيداعه لذلك.

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 193 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 227 ح 1.

(2) الكافي ج 5 ص 298 ح 1 ، الوسائل ج 13 ص 229 ح 9.

(3 و 4) الوسائل ج 13 ص 229 ح 9 الباب 4 من أبواب أحكام الوديعة الرقم 9 قرب الاسناد ص 35 و 10 قرب الاسناد ص 35.


ومنها ما رواه في الفقيه مرسلا (1) قال : «وروى أن رجلا قال للصادق (عليه‌السلام) انى ائتمنت رجلا على مال أودعته عنده فخانني وأنكر مالي ، فقال : لم يخنك الأمين ولكن ائتمنت أنت الخائن». ورواه الشيخ أيضا (2) مرسلا.

وهو ظاهر فيما قلناه ، وبه يظهر لك قوة قول الصدوق في المسئلة ، ويمكن حمل كلام الشيخ وابن الجنيد وأبى الصلاح على ائتمان من يتهمه ، بمعنى أنه لا يعتقد أمانته وقت الإيداع ، بل يجوز الخيانة عليه كما يدل عليه بعض الاخبار الواردة في تضمين القصار ونحوه.

أقول : ويؤيد ما قلناه هنا ما سيأتي إنشاء الله من الاخبار في كتاب العارية ، وما ذكرناه غير خاص بالوديعة ، بل كل موضع ثبت كونه أمانة من عارية ، أو مضاربة ، أو وكالة أو نحوها ، كما سيأتي تحقيقه ـ إنشاء الله تعالى ـ في كتاب العارية.

الثالث ـ ما لو ادعى الرد على المالك ، وفيه اشكال من حيث أن الأصل عدم الرد وعدم البينة على المدعى ، ومن حيث أنه أمين ومحسن وقابض لمصلحة المالك ، والمشهور قبول قوله بيمينه.

قال في التذكرة ، فإن ادعى ردها على من ائتمنه وهو المالك قدم قوله باليمين ، على اشكال ينشأ ـ (عليه‌السلام) من أنه أمين يقبل قوله مع اليمين كالمتلف ومن كونه مدعيا فافتقر إلى البينة ، وظاهره التوقف في الحكم ، وبقائه على الاستشكال لعدم الترجيح بشي‌ء من الدليلين على الأخر.

وكذلك شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث جرى على ما جرى عليه في التذكرة ، ونحوه الشهيد في شرح نكت الإرشاد حيث اقتصر على مجرد نقل وجهي الإشكال المذكور وهو في محله.

ولو ادعى الرد الى وكيل المالك فظاهرهم أنه كدعوى الرد على المالك ،

__________________

(1 و 2) الفقيه ج 3 ص 195 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 228 ح 6.


لان يده كيده ، ولو ادعى الرد على الوارث فعليه البينة ، لخروج هذا الفرد عما نحن فيه ، لان الوارث لم يأتمنه ، فلا يكلف تصديقه ، والأصل عدم الرد.

الرابعة ـ قد عرفت الحكم فيما لو ادعى الودعي رد الوديعة على المالك أو وكيله أو وارثه بقي الكلام هنا في ما لو ادعى الرد على غير من ذكر لكن باذن المالك ، ولا يخلو الحال هنا ، اما أن يوافق المالك على دعوى الاذن ، أو ينكر ذلك ، فهنا مقامان الأول ـ أن يوافق المالك على ذلك ، ولكن المدفوع اليه ينكر ذلك ، والدافع لم يشهد عليه ، وقد اختلف كلامهم في هذا المقام ، ومثله ما لو أمره بقضاء دينه فقضاه عنه ، ولم يشهد على الدفع ، مع إنكار المدفوع اليه ، والأقوال هنا ثلاثة : فقيل : يضمن الدافع في الموضعين ، وقيل : لا يضمن فيهما وقيل : بالتفصيل ، فيضمن في القرض ، ولا يضمن في الوديعة.

قال في المختلف : إذا أمره بالإيداع فلم يشهد عليه قوى الشيخ عدم الضمان ، ولو أمره بقضاء الدين قال : يضمن بترك الاشهاد وان صدقه عليه ، فإنه فرط حيث دفع دفعا غير مبرئ ، ولو قيل بالتسوية في الموضعين في عدم الضمان كان وجها ، لانه امتثل ما أمره به ، وجهود القابض لا يوجب الضمان على الدافع ، والبراءة في نفس الأمر قد وقعت ، انتهى.

مع أنه في التذكرة قوى مذهب الشيخ ، ومنع ما اختاره هنا ، فقال : لو أمره بالإيداع لما دفعه اليه ابتداء فالأقرب أنه لا يجب على المدفوع إليه الإشهاد على الإيداع ، بخلاف قضاء الدين ، لأن الوديعة أمانة ، وقول المستودع مقبول في الرد والتلف ، فلا معنى للإشهاد ، ولأن الوديعة حقها الإخفاء بخلاف قضاء الدين وهو أظهر وجهي الشافعية.

والثاني أنه يلزمه الاشهاد كقضاء الدين ، وقد بينا الفرق ، انتهى.

ثم قال ـ في المسئلة التي هي محل البحث ـ : ولو اعترف المالك بالاذن والدفع معا لكنه قال : انك لم تشهد عليه ، والمدفوع اليه ، ينكر ، كان مبنيا


على الخلاف السابق ، في وجوب الاشهاد على الإيداع ، فإن أوجبناه ضمن ، والا فلا ، ومن هذا الكلام علم القول الثاني ، والثالث ، وحجة كل منهما.

وأما القول الأول فنقله في المسالك قولا في المسئلة ، ولم يسنده ، وعلله بأنه يضمن فيهما ، لأن إطلاق الإذن يقتضي دفعا ثابتا يمكن الرجوع اليه عند الحاجة ، فإذا ترك الاشهاد فقد قصر ، خصوصا الدين ، فان الغرض منه برأيه الذمة ، ولا يظهر إلا بالإشهاد ، لأن الغريم إذا أنكر فالقول قوله.

والمحقق في الشرائع اختار في كتاب الوديعة عدم وجوب الاشهاد على أداء الوديعة ، وفي كتاب الوكالة قال بالتفصيل على تردد ، وظاهره في المسالك اختيار القول بالتفصيل ، حيث أنه استحسنه من بين الأقوال المذكورة ، والمسئلة عندي محل توقف واشكال ، لعدم الدليل من النصوص ، وتدافع هذه التعليلات ، مع ما عرفت في غير موضع من أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية والله العالم.

الثاني ـ أن ينكر المالك الاذن وحينئذ فالقول قوله بيمينه ، إذا لم يكن بينة ، لانه منكر ، ويكون الحكم فيه كدعوى الرد على الوارث ، لان المدفوع اليه لم يأتمنه ليقبل قوله عليه ، وليس بوكيل لتكون يده كيد الموكل.

وبالجملة فالظاهر أن المسئلة المذكورة من جزئيات مسئلة المدعى والمنكر يوجب البينة على المدعى ، واليمين على المنكر.

واحتمل بعض المحققين كون القول قول المستودع بيمينه ، نظرا الى ما تقدم من أنه أمين ، والظاهر ضعفه ، لان القدر المقطوع به من الاخبار وكلام الأصحاب اختصاص ذلك بغير ما ذكرناه من دعوى التلف بأي أنواعه ، أو الرد على المالك أو وكيله.

بقي الكلام في أنه متى حلف المالك فلا يخلو اما أن يكون من ادعى عليه القبض مقرا بذلك ، أو منكرا ، وعلى تقدير الأول اما أن يكون موجودة أو تلفت ، فهيهنا صور ثلاثة أحدها ـ أن يقر بالقبض والعين موجودة ، ولا


إشكال في وجوب ردها الى المالك ، قال في التذكرة : فإن غاب المدفوع إليه في هذه الصورة كان للمالك أن يغرم المستودع ، فإذا قدم الغائب أخذها المستودع وردها على المالك ، واسترد البدل الذي دفعه ، وهو ظاهر في التخيير بين الرجوع على الودعي والصبر الى قدوم الغائب ، الا أنه مع الرجوع على الودعي فالحكم ما ذكره. الثانية ـ الصورة المذكورة مع تلف العين ، والحكم عندهم أنه يتخير المالك في الرجوع على من شاء منهما ، وليس للغارم منهما أن يرجع على صاحبه ، لزعمه أن المالك ظالم له في أخذ البدل منه ، فلا يرجع به على غير من ظلمه.

الثالثة ـ أن ينكر القبض الذي ادعاه المستودع ، وحينئذ فالقول قوله بيمينه مع عدم البينة ، فيختص الغرم بالمستودع.

الخامسة ـ اختلف الأصحاب فيما لو أنكر الوديعة فأقام المالك البينة عليها فصدقها بعد الإنكار الا أنه ادعى التلف قبل إنكاره ، فقيل : لا يسمع دعواه التلف ، لأنه بإنكاره السابق مكذب لدعواه الأخيرة فلا تسمع لتناقض كلاميه ، ولا يتوجه بها يمين عليه ولا على المدعى عليه ، ولو أقام بينة أيضا فإنها لا تسمع بينته ، لانه مكذب لها ونقل هذا القول في المختلف عن الشيخ ، وأيده بعضهم بأنه بإنكاره الوديعة يصير خائنا ، فخرج عن الامانة وصار ضامنا.

وقيل : أنه إذا قال المودع : ما أودعتني شيئا ثم اعترف بالوديعة وادعى هلاكها لم يضمن إذا حلف ، لأن إنكاره يجوز أن يكون عن سهو ونسيان لها ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد ، وهو ظاهر في قبول قوله مع عدم البينة.

وذهب العلامة في المختلف الى ما قدمنا نقله عن الشيخ من أنه لا تسمع دعواه وان أقام بينة ، لانه مكذب لدعواه الهلاك بإنكاره الوديعة ، الا أنه قال : لو طلب إحلاف الغريم فله ذلك ، وفيه كما ترى دلالة على نوع من سماع دعواه ، فان ظاهر مذهب الشيخ أنه يجب عليه الضمان مطلقا.


وقيل : أنه تسمع دعواه ، وتقبل بينته ، لجواز استناد جحوده الى النسيان فيعذر وهو اختيار المحقق في الشرائع ، والعلامة في التذكرة ، على ما نقله عنه في المسالك ، وهذا القول يرجع الى ما قدمنا نقله عن ابن الجنيد.

وفي القواعد اختار القول الأول وقد تبين من ذلك أن في المسئلة أقوالا ثلاثة ، وكلها للعلامة في كتبه المذكورة ، وفي المسئلة أيضا قول رابع نقله في المسالك عن الشهيد (رحمه‌الله) واستحسنه ، وهو أنه ان أظهر لإنكاره تأويلا كقوله ليس لك عندي وديعة يلزمني ردها أو ضمانها أو نحو ذلك ، قبلت دعواه ، وسمعت بينته ، وان لم يظهر له تأويلا لم يقبل.

أقول : ويؤيد هذا القول ما يظهر من المسالك من أن محل الخلاف في المسئلة ما إذا كان الجحود بإنكار أصل الإيداع ، أما لو كانت صورته لا يلزمني شي‌ء إليك أو نحو ذلك من الألفاظ المذكورة في هذا القول فقامت البينة بها ، فادعى التلف أو الرد سمعت دعواه ببينته ، لعدم التناقض بين كلاميه.

قال في القواعد : وان أقيمت عليه البينة فادعى الرد أو التلف من قبل ، فان كان صيغة جحوده إنكار أصل الوديعة لم يقبل قوله بغير بينة ولا معها على الأقوى لتناقض كلاميه ، وان كان صيغة الجحود لا يلزمه شي‌ء قبل قوله في الرد والتلف مع البينة بدونها في الأخير ، وفي الأول على رأى.

أقول : قوله على الأقوى إشارة الى ما قدمنا نقله عنه من اختياره القول الأول ، وقوله وفي الأول على رأى ، يعنى الرد ، إشارة إلى الإشكال المتقدم ذكره فيما لو ادعى الرد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن عندي في عده في المسالك ما نقله عن الشهيد من التفصيل قولا رابعا نظرا ، بل الظاهر أنه يرجع الى القول الأول وذلك فان الظاهر من كلامه كما قدمنا الإشارة اليه أن محل الخلاف انما هو فيما إذا كان الجحود بإنكار أصل الإيداع حيث قال بعد نقل الأقوال الأربعة : هذا كله إذا كان الجحود بإنكار


أصل الإيداع ، أما لو كان صورته ما يلزمني شي‌ء أو لا يلزمني تسليم شي‌ء إليك أو مالك عندي وديعة أو ليس لك عندي شي‌ء فقامت البينة بها فادعى التلف أو الرد سمعت دعواه وبينته ، لعدم التناقض بين كلاميه ، انتهى.

ومرجع هذا الكلام الى ما ذكرناه من أن محل الخلاف والأقوال الأربعة التي قدمناها قبل هذا الكلام انما هو في صورة الجحود بإنكار أصل الإيداع ، والقول الذي نقله رابعا ظاهر في أنه مع الجحود بهذه الكيفية ، حيث لا يقبل قوله التأويل لا يقبل قوله ، وأما إذا كان جحوده لا بهذه الكيفية بل بهذه الألفاظ التي يقبل التأويل فإنه وان كان يقبل ، الا أنه خارج عن محل البحث ، والخلاف في المسئلة كما ذكره في كلامه الأخير وبالجملة فبالتأمل في كلامه يظهر صحة ما قلناه.

قال في المسالك : وحيث قلنا بقبول بينته ان شهدت بتلفها قبل الجحود برء من الضمان وان شهدت بتلفها بعده ضمن لخيانته بالجحود ، ومنع المالك منها وهو جيد ، والله العالم.

السادسة ـ المشهور بين الأصحاب على ما نقله في المسالك أنه إذا اعترف بالوديعة ثم مات وجهلت عينها فإنها تخرج من أصل تركته ، ولو كان له غرماء وضاقت التركة حاصهم المستودع ، وعلل بأن اعترافه بالوديعة في حياته أوجب ثبوت يده عليها ، والتزامه بها الى أن يردها الى مالكها ، فإذا لم تعلم كان ضامنا لها ، لعموم (1) «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». ولانه بترك تعيينها مفرط فيها ، فيضمن ، ولأن الأصل بقاءها في يده الى الموت وبعده يكون في جملة التركة ، فإذا تعذر الوصول الى عينها ، وجب البدل فيكون بمنزلة الدين ، فيحاص الغرماء وتردد في هذه المسئلة المحقق في الشرائع ، واستشكل فيها العلامة في القواعد والإرشاد ، ومنشأ التردد والاستشكال مما ذكر ، ومن أن اعترافه بها في حياته انما يقتضي وجوب الحفظ ، والا فذمته بريئة من ضمانها فإذا مات ولم تعلم ، احتمل

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


تلفها قبل الموت بغير تفريط ، أو ردها الى المالك ، والأصل براءة ذمته من الضمان ، وكون التلف على خلاف الأصل معارض بهذا الأصل ، وليسا متنافيين حتى يقال : أنهما تعارضا فتساقطا ، إذ لا يلزم من بقاءها وعدم تلفها تعلقها بالذمة ليلزم الضمان كما ادعوه.

قال ـ شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) في شرح نكت الإرشاد بعد قول المصنف (ولو مات ولم يوجد أخذت من التركة على اشكال) ـ : ما لفظه منشأ النظر إلى أصالة براءة الذمة من الضمان ، فينزل على تلفها بغير تفريط ، إذ الأصل عدمه ، والالتفات الى قوله (1) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «على اليد ما أخذت». ولأصالة عدم التلف بها ، انتهى.

وأنت خبير بأنه بالنظر الى الجحود على أمثال هذه التعليلات هو عدم الضمان ، لأن الوديعة من حيث هي لا تعلق لها بالذمة الا من حيث أسباب التعدي أو التفريط المتقدمة ، والمفروض أنه لا شي‌ء منها ، وغاية ما يجب على الودعي الحفظ لها خاصة ، ومجرد عدم وجودها بينها بعد الموت لا يستلزم تفريطا ولا تعديا ليحصل به الضمان ، فأصالة عدم الضمان ظاهرة ، وان فرض احتمال بقاءها واحتمال الرد الى المالك ، والتلف بغير تفريط قائم في العين ، وحديث (2) «على اليد ما أخذت». يمكن تخصيصه بالأمانات ، بمعنى خروج الأمانات من عمومه ، وليس هنا ما يوجب الخروج عن كونها أمانة من تفريط أو تعد يوجب الضمان والتعلق بالذمة ، حتى يقال : ان عليها ما أخذت.

وبه يظهر وجه ما استظهرناه ، ومن ثم قال في المسالك ـ بعد الكلام في المسئلة ـ والأقوى انه ان علم بقاء عينها الى ما بعد الموت ولم تتميز قدم مالكها على الغرماء ، وكان بمنزلة الشريك ، وان علم تلفها بتفريط فهو أسوة الغرماء ، والا فلا ضمان أصلا ، لأصالة براءة الذمة ، وأصالة بقائها إلى الان لو سلمت لا تقتضي

__________________

(1 و 2) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


تعلقها بالذمة ، انتهى وهو جيد.

ثم ان ما ذكرناه من عدم الضمان هنا هو ظاهر اختيار العلامة في التذكرة حيث قال : قد بينا الخلاف فيما إذا كان عنده وديعة ، ولم توجد في تركته ، وان الذي يقتضيه النظر عدم الضمان ، والذي عليه فتوى أكثر العلماء منا ومن الشافعية أن عليه الضمان ، ثم نقل عن الشافعي أنها إذا لم توجد بعينها خاص المالك الغرماء ، ونقل اختلاف أصحابه في هذه المسئلة.

وكيف كان فالمسئلة المذكورة لخلوها عن النص الواضح غير خالية من الاشكال ، وان كان ما ذكرناه لا يخلو من قرب بالنظر الى هذه التعليلات والله العالم.

السابعة ـ لو كان في يده وديعة فادعاها اثنان ، يأن ادعى كل واحد أنها له بخصوصه ، فاما أن يقربها الودعي لأحدهما ، أو يقر لهما ، أو يكذبهما ، أو يقول :

لا أدرى لايكما هي مع قطعه بانحصارها فيهما ، أو يقول ، لا أدرى لمن هي لكما أو لغيركما فهنا صور الاولى أن يقر بها لواحد منهما خاصة وقد صرح الأصحاب بأنها يحكم بها لمن أقر له بها ، ويجب دفعها اليه ، ويجب على الودعي أن يحلف للآخر. فان حلف سقطت دعوى الأخر عنه ، وبقي النزاع بين المدعيين ، ولمن لم يقر له الودعي إحلاف صاحبه الذي أقر له الودعي ، ودفع إليه الوديعة ، فإن حلف استقر الملك له. وان نكل الودعي عن اليمين للآخر أحلف ذلك للآخر على استحقاقها ان لم نقل بأنه يقضى عليه بالنكول ، وعلى كل من الوجهين فإنه يغرم الودعي حينئذ لذلك الأخر المثل أو القيمة لحيلولته بينه وبين الوديعة بإقراره للأول ، أما في صورة القضاء بالنكول فظاهر ، وأما في صورة حلف الأخر فلان اليمين المردودة عندهم بمنزلة إقرار المنكر ، فإنه لو أقر بها ثانيا للآخر بعد أن أقر بها أولا للأول ، لزمه الغرم مثلا أو قيمة ، وكذا ما هو بمنزلة الإقرار.

وربما قيل : بأن اليمين المردودة كالبينة من المدعى ، وحينئذ فكما


يحتمل ـ أن يكون الحكم فيها ما تقدم في تنزيل اليمين بمنزلة الإقرار من تغريم الودعي مع بقاء العين في يد الأول ـ يحتمل أن تنزع العين من يد الأول ، لان مقتضى العمل بالبينة كون العين لمن شهدت له.

ورد بأنها انما تكون كالبينة بالنسبة إلى المتداعيين خاصة ، لا في حق غير هما وهذه العين قد صارت حقا للأول ، والنزاع هنا انما هو بين الودعي وبين الأخر وكونها كالبينة في حق المدعى عليه ، يقتضي غرمه له للحيلولة بينه وبينها بإقراره للأول ، قالوا : واليمين منهما هنا على البت ، لأنها ترجع الى الاستحقاق ونفيه.

الثانية ـ أن يقر لهما معا على سبيل الاشتراك ، وفيه تكذيب لدعوى كل الاستقلال بالاستحقاق ، فقد كذب كل واحد منهما في دعواه الجميع وصدقه في البعض ، وحينئذ فيقسم بينهما ، ويبقى النزاع بينهما في النصف ، فان حلفا معا أو نكلا قسم بينهما أيضا ، وان حلف أحدهما خاصة قضى له به ، ولا خصومة للناكل مع الودعي.

وبالجملة فإنه يكون بمنزلة مال في يد شخصين يدعيانه هذا بالنسبة إليهما وأما بالنسبة إلى الودعي فإن حكم التصديق والتكذيب في النصف كما في الجميع بالنسبة اليه ، وحينئذ فلكل منهما عليه يمين ، فان حلف سقطت دعوى كل واحد منهما عنه وان نكل فكما تقدم من الحكم بالنكول ، أو إرجاع اليمين وما يترتب على ذلك.

الثالثة ـ أن يكذبهما معا قالوا فإنه ينتفي دعواهما ، لان اليد له ، ولكل منهما إحلافه على البت ، فان نكل عن اليمين ردت عليهما بناء على عدم القضاء بالنكول ، وصارا في الدعوى سواء ، لان يدهما خارجة ، فان حلفا أو نكلا قسمت بينهما أنصافا ، وان حلف أحدهما اختص بها.

الرابعة ـ أن يقول هي لأحدكما ، ولا أدرى من هو على التعيين فان وافقاه على عدم علمه بالتعيين ، فلا خصومة لهما معه ، وان كذباه في دعواه عدم العلم


وادعى كل واحد منهما عليه أنه يعلم أنه المالك ، فالقول قوله مع يمينه ، الا أن الحلف هنا على عدم العلم ، وهل يكفى يمين واحد أو لا بد من يمينين؟ المشهور الأول ، وهو قول الشيخ في الخلاف وظاهر ابن الجنيد ، اختاره في المختلف ، وجعله الأقوى في المسالك ، والقول الثاني للشيخ في المبسوط.

ووجه الأول أن المدعى شي‌ء واحد وهو علمه بكون المال لمعين ، بخلاف سابق هذه الصورة ، فإنه يبقى استحقاق كل واحد منهما ، فيحلف له.

ووجه الثاني أن كلا منهما مدع ، فيدخل في عموم الخبر المشهور ، والقول الأول نقله في التذكرة عن الشافعي ، والثاني عن أبي حنيفة ، وحينئذ فإذا حلف سقطت الدعوى عنه ، وبقيت المنازعة بينهما ، وان نكل عن اليمين وحلفا على علمه بناء على عدم القضاء بالنكول أغرم القيمة ، وتجعل مع اليمين في أيديهما.

بقي الكلام في أنه متى حلف لهما ، وبقيت المنازعة بينهما فقيل : بأنه يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه وحلف سلمت اليه ، وقيل : يقف حتى يصطلحا.

قال الشيخ في الخلاف : لو كان عنده وديعة فادعاها اثنان ، فقال المودع : هي لأحدهما ولا أعلم صاحبها بعينه ، وادعى كل منهما علمه بذلك احلف يمينا واحدة ، فإذا حلف وأخرجت الوديعة من عنده ، وبذل كل من المتداعيين اليمين أنها له استخرج واحد منهما بالقرعة ، فمن خرج اسمه وحلف سلمت اليه ، أو يقسم بينهما نصفين.

وقال ابن الجنيد : توقف حتى يصطلحا أو يقوم بينة بها لأحدهما ، ونقله الشيخ عن الشافعي ، وتردد في المبسوط ، فتارة حكم بالإيقاف حتى يصطلحا ، وتارة قوى القرعة ، وادعى في الخلاف الإجماع على أن لكل أمر مشكل فيه القرعة.

أقول : والأقرب بمقتضى قواعدهم هنا هو ما اختاره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث قال ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : والأقوى أنهما يحلفان


ويقسم بينهما لتكافؤ الدعويين ، وتساويهما في الحجة ، وهو يقتضي القسمة كذلك ولا يكون الأمر مشكلا ، والإيقاف حتى يصطلحا ضرر ، والاصطلاح غير لازم ، انتهى.

الخامسة ـ أن يقول لا أدرى لمن هي لكما أو لغيركما والذي صرح به في التذكرة هنا أنه إذا ادعيا عليه العلم كان القول قوله مع اليمين ، فإذا حلف على نفى العلم تركت في يده الى أن يقوم بينة ، وليس لأحدهما تحليف الأخر لأنه لم يثبت لواحد منهما يد ، ولا استحقاق بخلاف الصورة الأولى ، انتهى.

ولم يتعرض لبيان الحكم فيما لو نكل عن اليمين ، وقال في المسالك : ولو نكل عن اليمين ففي تسليمها إليهما مع حلفهما على الاستحقاق وغرامته لهما القيمة لو حلفا على علمه احتمالا ، لانحصار الحق فيهما ظاهرا ولا منازع لهما الان ، ويحتمل العدم لعدم حصر ذي اليد الحق فيهما ، ولم أقف في هذا القسم على شي‌ء يعتد به ، انتهى.

تنبيه :

ظاهر كلام المحقق في الشرائع أنه في صورة قوله لا أدرى الشامل للصورة الرابعة والخامسة أنها تقر في يده ، حتى يثبت لها مالك ، وهو في ثاني الصورتين المذكورتين مما لا يظهر فيه خلاف.

ويؤيده أن يده يد أمانة ، ولم يتعين لها مالك يجب الدفع اليه ، والحق في هذه الصورة غير منحصر فيهما ، ليتوهم سقوط أمانته بمطالبتهما.

وأما أولى الصورتين المذكورتين فقيل : ان الحكم كما ذكر من كونها أمانة ولم يتعين المالك ، وقيل : بأنها تنزع من يده ، لانحصار الحق فيهما ومطالبتهما إياه ، والقولان للشيخ (رحمه‌الله) ، ففي المبسوط قوى بقائها في يده ، وظاهره في الخلاف كما تقدم في عبارته انها تنزع من يده ، واستوجه في المختلف رد الأمر إلى الحاكم ، واستحسنه في المسالك ، والله العالم.


الثامنة ـ لو اختلفا في القيمة بعد ثبوت التفريط فهل القول قول المالك بيمينه ، أو القول قول الغارم؟ قولان : وبالأول قال الشيخان على ما نقله في المختلف ، ونقل عنهما أنهما احتجا ببطلان الأمانة بالخيانة ، فلا يكون قوله مسموعا.

ونقل في المختلف عن أبى الصلاح أنه قال : وروى أن اليمين في القيمة على المودع فتكون هذه الرواية دليلا للشيخين فيما ذهبا اليه هنا.

ورد الأول بأنه على تقدير قبول قول الودعي فإنا لم نقبله من حيث كونه أمينا ليلزم ما ذكروه ، وانما قبلنا قوله من حيث كونه منكرا للزيادة التي يدعيها المالك ، فالقول قوله بيمينه لذلك ، كما أن البينة هنا على المالك ، لكونه مدعيا ، وأما الخبر المذكور فلم يثبت على وجه تقوم به الحجة.

وبالقول الثاني صرح المحقق ، والعلامة ، وابن حمزة ، وابن إدريس ، وهو المشهور ، ولا ريب أنه الا وفق بالقواعد الشرعية ، قال في المسالك : وهذا الحكم لا يختص الأمين ، بل الحق تعديه الى كل من شاركه في هذا المعنى ، وان كان غاصبا ، انتهى وهو جيد نظرا الى الاندراج تحت القاعدة المنصوصة ، والله العالم.

التاسعة ـ لا ريب أنه إذا مات المودع سلمت الوديعة إلى ورثته ، فان كانوا جماعة بلغاء سلمت الوديعة إلى الجميع أو وكيلهم أو وليهم أو وصيهم لو كانوا أطفالا ، أو الحاكم مع غيبة الوارث ، أو عدم وجود ولى خاص للأطفال ، قالوا : وتجب المبادرة بالتسليم ، لأنها بموت المودع تصير أمانة شرعية ، وقد تقدم أن الحكم فيها وجوب المبادرة بالرد الى المالك فورا.

والمشهور أنه لا فرق في وجوب المبادرة بالرد بين علم الورثة بذلك وعدمه ، ونقل في التذكرة عن بعض الشافعية أن مع علمهم لا يجب الدفع الا بالطلب ، ونفى عنه البأس.

وقال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : وهو وجيه ، الا أنه لم يتحقق


به قائل منا ، وان كان القول به ممكنا ، لعدم تحقق الإجماع.

أقول : لا أعرف لما رجحاه في هذا المقام وجها بعد الاتفاق على كونها أمانة شرعية ، لحصولها في يده بغير اذن المالك ، ومن شأن الأمانة الشرعية وجوب ردها فورا ، وخروج هذا الفرد يحتاج الى دليل يوجب التخصيص ، الا أن يخرجوا عن أصل القاعدة المذكورة في الأمانة الشرعية ، والله العالم.

العاشرة ـ لو كان في يده سلعة فادعى أنها رهن وادعى صاحبها انها وديعة فهل القول قول من هي في يده ، أو قول المالك؟ قولان ، وقد تقدم تحقيق المسئلة مستوفى منقحا في كتاب الرهن.

الحادية عشر ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا اتجر الودعي بالوديعة بغير اذن المالك كان ضامنا ، والربح بأجمعه للمالك ، ذهب اليه الشيخان وسلار وأبو الصلاح وابن البراج وغيرهم.

وكذا قال ابن الجنيد الا أن الجماعة أطلقوا وابن الجنيد ، قال : ولو تعدى فيها بالتجارة كان الربح لصاحب المال ، الا أن يكون صاحبها خيره على أن ضمنه إياها ، ولو خيره على ذلك ولم يتجر فيها ، ولا انتفع بها ولا تعدى لم يلزمه ضمانه إياها.

قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : ولا بأس بهذا القول ، لان التضمين وان لم يكن لازما ، الا أنه يفيد الاذن في التصرف ، وحينئذ يكون الربح للودعي ، لأنه في الحقيقة استدانة.

ثم نقل رواية مسمع ، وهي ما رواه في التهذيب والفقيه عن مسمع (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انى كنت استودعت رجلا مالا فجحدنيه فحلف لي عليه ثم أنه جائني بعد ذلك بسنين بالمال الذي كنت استودعته إياه ، فقال : هذا مالك فخذه وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 180 ح 6 ، الفقيه ج 3 ص 194 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 235 ح 1.


مالك ، واجعلني في حل فأخذت المال منه ، وأبيت أن آخذ الربح منه ، وأوقفته المال الذي كنت استودعته وأتيت حتى أستطلع رأيك فما ترى؟ قال : فقال : خذ نصف الربح وأعطه النصف وحلله ان هذا رجل تائب والله يحب التوابين».

ثم قال ـ بعد نقل الخبر ـ والظاهر أن ذلك على وجه الاستحباب ، والشيخ (رحمه‌الله) أفتى بما تضمنته الرواية في الدين.

أقول : لا يخفى ما في كلامهم على إطلاقه هنا من الإشكال ، لأن هذا المتجر في هذه الصورة غاصب بلا اشكال ، ولا ريب في ضمانه ، الا أن الشراء متى وقع في الذمة فإنه يكون صحيحا شرعا بلا اشكال ، وان كان دفع الثمن من الوديعة محرما لانه تصرف في مال الغير بغير اذن منه ، والربح يكون للمشتري ، لصحة الشراء المذكور ، ولا أعرف للحكم بكونه للمالك وجها والحال كما ذكرنا.

وأما لو وقع الشراء بالعين ، فإنه يكون باطلا لا يترتب عليه استحقاق ربح لا للمالك ، ولا للبائع ، لأن حل الربح فرع صحة العقد ، بل الواجب هو رد كل ملك على مالكه من مبيع وثمن وربح ، هذا مقتضى القواعد الشرعية ، والضوابط المرعية في البيع والرواية أيضا لا تخلو من الإشكال ، الا أن تحمل على كون الشراء وقع في الذمة ، والربح حينئذ للمتجر دون المالك ، الا أنه لأجل رضى المالك وطلب التحليل منه بذل له هذا المبلغ ، ليرضيه بذلك فيحلله مما فعل فكأنه بمنزلة الصلح بينهما ، والامام (عليه‌السلام) أمره بقبول ذلك ، ورد النصف عليه في مقابلة توبته ، وقد تقدم الكلام في هذا المقام في المسئلة التاسعة من المقصد الثاني من كتاب الدين (1) والله العالم.

الثانية عشر ـ لو اختلف المالك ومن عنده الوديعة في أنه وديعة أو دين ، فادعى الذي عنده المال أنه وديعة ، وادعى المالك أنه دين ، قال الشيخ في النهاية أن القول قول صاحب المال ، وعلى الذي عنده المال البينة على أنه وديعة ، فإن

__________________

(1) ج 20 ص 183.


لم يكن له بينة وجب عليه رد المال ، فان هلك كان ضامنا وان طالب صاحب المال باليمين أنه لم يودعه ذلك المال كان له.

وقال ابن الجنيد وإذا أقر الرجل لرجل بمال وادعى فيه عليه ما يزيل به حقا وجب لصاحب المال من أنه كان وديعة فهلك ، أو مضاربة فخسر لم يصدق إلا ببينة ، وكان القول قول صاحب المال مع يمينه انتهى ، وهو يرجع الى قول الشيخ المذكور.

وفصل ابن إدريس هنا فقال : الوجه عندي أن يكون المدعى عليه قد وافق المدعى على صيرورة المال اليه ، وكونه في يده ثم بعد ذلك ادعى أنه وديعة لك عندي فلا يقبل قوله ، ويكون القول قول من ادعى أنه دين ، لانه قد أقر بأن الشي‌ء في يده أولا وادعى كونه وديعة ، والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (1) قال : «على اليد ما أخذت حتى تؤدى». وهذا قد اعترف بالأخذ والقبض وادعى الوديعة ، وهي تسقط الحق الذي أقر به لصاحب المال ، فلا يقبل قوله في ذلك ، فأما لو لم يقر بقبض المال أولا ، بل ما صدق المدعى على دعواه بأن له عنده مالا دينا ، بل قال : لك عندي وديعة ، كذا وكذا فيكون حينئذ القول قوله مع يمينه ، لانه ما صدق على دعواه ، ولا أقر أولا بصيرورة المال اليه ، بل قال : لك عندي وديعة فليس الإقرار بالوديعة إقرارا بالتزام الشي‌ء في الذمة ، ثم أمر بأن يلحظ ذلك وزعم أن فيه غموضا ، انتهى.

وبموجب تفصيله يوافق الشيخ في الشق الأول خاصة ، والعلامة في المختلف وافق الشيخ وابن الجنيد ، ورد تفصيل ابن إدريس بأنه ضعيف جدا ، قال : إذا البحث وقع في مال في يد المقر ادعى أنه وديعة ، وادعى صاحبه أنه دين ، لنا أنه اعترف بثبوت يده على مال الغير ، وهو يقتضي ظاهرا الضمان ، فيكون القول قول من يدعى الدين ، قضاء بالظاهر ، انتهى.

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 504 ح 12.


أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسئلة ما رواه الكليني والشيخ والصدوق في الموثق عن إسحاق بن عمار (1) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت فقال الرجل : كانت عندي وديعة ، وقال الأخر : انما كانت عليك قرضا؟ قال : المال لازم له الا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة». وما رواه الكليني والشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار (2) أيضا عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) «في رجل قال لرجل : عليك ألف درهم فقال الرجل : لا ولكنها وديعة ، فقال (عليه‌السلام) : القول قول صاحب المال مع يمينه». ولا يخفى ما في هذين الخبرين من الظهور في ما ذهب اليه الشيخ ، والرد لما فصله ابن إدريس ، واستشكل بعض الأفاضل في هذه الاخبار بأن الامانة والقرض متعارضان ، ثم رجح الحمل على ما إذا كان صاحب المال ثقة ، والذي يدعى الوديعة متهما.

وفيه أن الأمانة التي عارض بها دعوى القرض بناء على ما ورد «من أن صاحب الوديعة مؤتمن» انما يتم البناء عليها مع الاتفاق على كون ذلك وديعة ، وأما مع الاختلاف كما في الصورة المفروضة فلم تثبت الوديعة ، حتى يفرع عليه كونها أمانة ، وأن قول الأمين مقبول ، وبالجملة فدعوى القرض لا معارض له الا دعوى الوديعة ، وهذه الدعوى غير مسموعة بظاهر هذه الاخبار الا بالبينة ، وكان الوجه فيه أنه باعترافه بقبضه المال يلزم منه اشتغال ذمته به حتى يؤديه الى صاحبه ، نظرا الى الحديث النبوي المتقدم ذكره ، ودعواه الوديعة لدفع الضمان عنه يحتاج إلى البينة ، وحينئذ فالحكم بما دلت عليه الاخبار المذكورة.

نعم يجب تقييد الاولى من أن المال لازم لمن ادعى الوديعة مطلقا بما دلت عليه الثانية من اليمين على صاحب المال وأن القول قوله بيمينه ، والله العالم.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 239 ح 8 ، التهذيب ج 7 ص 179 ح 1 ، الفقيه ج 3 ص 194 ح 6 ، الوسائل ج 13 ص 232 ح 1.

(2) الكافي ج 5 ص 238 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 176 ح 34 ، الوسائل ج 13 ص 138 ح 1.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *