الحقائق ج2 - كتاب النذر
كتاب النذر
وهو مصدر نذر بفتح الذال في الماضي وبضمها وكسرها في المضارع. وهو لغة الوعد بخير أو شر، وشرعا التزام فعل أو ترك بصيغة معينة سيأتي بيانها. والاصل فيه قبل الاجماع عليه آيات منها قوله تعالى (وليوفوا نذورهم) (1) وقوله (يوفون بالنذر) (2) والاخبار المستفيضة النبوية منها قوله صلى الله عليه واله (3) (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه). وهذا الكتاب مشتمل على مطالب ثلاثة، كل مطلب منها مشتمل على مسائل متعددة.
المطلب الاول في بيان شرائطه التي لا تنعقد إلا بها فمنها ما يتعلق بالناذر، ومنها ما يتعلق بالمنذور به، ومنها ما يتعلق بصيغته:
المسألة الاولى: فيما يتعلق بالناذر من الشرائط:
الاول: في اشتراط البلوغ والرشد، وضابط الامرين أن يكون مكلفا، فلا يصح نذر الصبي وإن كان مميزا ولا المجنون مطلقا إلا وقت إفاقة ذي الادوار إذا وثق بصحة تمييزه لانهما مسلو با العبارة من حيث الشرع وإن قبلها الطفل
(1) سورة الحج – آية 29. (2) سورة الانسان – آية 7. (3) عوالي اللئالى ج 3 ص 448 ح 1.
[ 237 ]
للتمرين كسائر العبارات المفروضة، لان الخطابات المتضمنة للاحكام الخمسة إنما تتوجه للمكلف بالاتفاق لرفع القلم عن هذين. وأما ما جاء في نذر الحسن والحسين عليهما السلام بالصوم ثلاثة أيام حيث مرضا فليس جاريا إلا للتمرين بظاهر الشريعة، وإن كان في الحقيقة أنهم كاملون الكمال الحقيقي الزائد على كمال كل كامل، فلا يجوز الاستدلال به على التزام النذر إذا صدر من غير البالغ، وكذلك سائر أفعالهم المتوقفة على البلوغ بظاهر الشرع بهذه المنزلة. وهذه صورة بعض الاخبار الواردة في نذرهما عليهما السلام كما في كتاب المجالس للصدوق بسندين أحدهما عن ابن عباس (1) والاخر عن الصادق عن أبيه عليهما السلام في قوله تعالى (يوفون بالنذر) قال: مرض الحسن والحسين عليهما السلام وهما صبيان صغيران، فعادها رسول الله صلى الله عليه واله ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذرا إن عافا هما الله، وفقال: أصوم ثلاثة أيام شكرا لله عزوجل، وكذلك قالت فاطمه عليهما السلام، وكذلك قال الحسنان عليهما السلام وكذلك جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية فأصحبوا صياما… إلى آخر القصة وليس فيها تصريح بسوى المشروعية منهما، ولاشك في انعقاده تمرينا فيكون البلوغ والعقل وفي الصبي شرطين في اللزوم ودون الصحة.
الثاني: في اشتراط الاسلام، فلا يصح نذر الكافر لانه ليس من أهل التقرب وقد ذكر غير واحد من الاصحاب أنه يستحب له إذا أسلم الوفاء بما نذره حال كفره لما روي (2) (أن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه واله: إني كنت نذرت اعتكاف ليلة في الجاهلية، فقال له النبي صلى الله عليه واله: أوف بنذرك. ولانه لا يحسن أن يترك بسبب الاسلام ما عزم عليه في الكفر من خصال الخير. وفي هذا الاستدلال نظر لان الخبر عامي والتعليل عليل، واكتفاؤهم في دليل السنن بمثل ذلك من أبعد البعيد،
(1) أمالى الصدوق مجلس 44 ص 212 ح 11 طبع بيروت، الوسائل ج 16 ص 228 ب 6 ح 5. (2) صحيح البخاري ج 8 ص 177 مع اختلاف يسير.
[ 238 ]
ولكنهم – قدس الله أرواحهم أشباحهم – اعتمدوا في هذه القاعدة على ما اعتمدوا ومهدوا وليتهم لم يكونوا لتلك استندوا، فإن الاستحباب والكراهة حكمان شرعيان يتوقفان على صحة المستند كما في الايجاب والحرام وقد نبهنا على ذلك غير مرة وبينا ضعف ما استندوا إليه دلالة وإن صح طريقا. الثالث: يشترط في الناذر إذا كان إمراة ذات بعل زوجة أو متعة إذا كان المنذور به من التطوعات إذن الزوج كاليمين ولم يذكروا مستندا سوى الشهرة بين المتأخرين والقياس على اليمين، ووجه القياس عليهما في الالحاق مشابهته له في الالتزام لله تعالى في كثير من الاحكام ولتسميته يمينا في رواية الوشاء (1) عن أبي الحسن عليه السلام (قال: قلت له: إن لي جارية كنت حلفت منها بيمين فقلت: لله علي أن لا أبيعها أبدا وبي إلى ثمنها حاجة مع تخفيف الموؤنة، فقال: ف لله بقولك له). ووجه التقريب والاستدلال في هذه الرواية: أن قوله (حلفت) مع أن الصيغة نذر وهو وإن كان وقع كلام السائل إلا أن الامام عليه السلام أقره عليه فكان كتلفظه به. وقد وقع في الدروس ما هو أصرح في الاستدلال في هذا الحديث حيث قال في آخرة: ف لله بنذرك. وقد نقله ثاني الشهيدين في شرح اللمعة كما في الدروس. ووجه الاستدلال بما ذكرناه تبعا للدروس. وفي المسالك نقله كما قي كتب الاخبار التي بأيدينا وهو: ف لله بقولك. ووجهه بما ذكرناه ثم قال: وفيه لانهما معنيان مختلفان. واتفاقهما في بعض الاحكام لا يقتضي تساويهما في هذا الحكم، وإطلاق اليمين عليه في الرواية مجاز لوجود خواصه مع عدم فهمه من إطلاق اللفظ وجواز سلبه عنه وغيرهما ويجوز للامام عليه السلام إقراره على المجاز خصوصا مع تصريحه في السؤال بكوفه نذرا
(1) التهذيب 8 ص 310 ح 26، الوسائل ج 16 ص 242 ب 17 ح 11 وفيهما (حلفت فيها – ولى الى ثمنها).
[ 239 ]
أيضا حيث قال: فقلت: لله علي… إلى آخره. وفيه نظر لان الامام عليه السلام لم يقره عليه وإنما بين غلطه بقوله (ف لله بنذرك) وكذا قوله (بقولك) تنبيها على خطئه في هذه التسمية سؤالا مع إمكان جعل اللام للقسم كما ذكره البعض، فيكون من اليمين وإن كان المقسم بها ناذرا. وبالجملة: أن الاستدلال به أخفى، والاولى الاستدلال عليه في المرأة بصحيح عبد الله بن سنان (1) على ما رواه المحمدون الثلاثة في كتبهم الثلاثة عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها إلا في حج أو زكاة أو بر والديها أو صلة رحمها). وفي بعض النسخ (أو صلة قرابتها). وفيه: أنه قد اشتمل علي ما لا قائل به كاشتراط الاذن في عتقها وصدقتها وتدبيرها وهبتها بالاتفاق على عدم اشتراطه، فيوجب الاختلال في الاستدلال علي أن القائل بالاشتراط خصه بغير المال من العبارات البدنية كما نقله المحقق الثاني في كتابه النوادر. ومن هنا حمله البعض على الاستحباب لانه معارض في الاخبار بصحيحة الحلبي وقد مر ذكرها في الوصية، وفيهما تصحيح عتقها وصدقتها، وزوجها كان كذلك العتق والصدقة والتدبير وجعل قوله (ولا نذر إلا بإذن زوجها) فيكون معنى الكلام ليس للمرأة مع زوجها أمر يعني شرط استئماره في هذه الامور المذكورة، بل لها الاستقلال بهذه الاشياء في مالها، ثم بين اشتراط النذر به. وفيه من التكلف ما يخفى بقرينة الاستثناء الذي وقع في آخرة. نعم قد ورد في خبر سماعة ما يدل على إطلاق اليمين على ما يشمل النذر صريحا،
(1) الكافي ج 5 ص 514 ح 4، الفقيه ج 3 ص 277 ح 2، التهذيب ج 7 ص 462 ح 59، الوسائل ج 16 ص 237 ب 15 ح 1.
[ 240 ]
وكذلك العهد، فتشمله أخبار اشتراط اليمين بإذن الزوج وإن كان الاطلاق مجازا لان المجاز المشهور كالحقيقة كما يعرف بالاستقراء وتتبع الاخبار.
الرابع: قد اشتهر بين الاصحاب حتى كاد أن يكون مجمعا عليه توقف نذر المملوك على إذن المالك، فإن بادر لم ينعقد وإن تحرر لانه قد وقع فاسدا، وإن أجاز المالك ففي صحته تردد، أشبهه اللزوم كما ذكره المحقق وغيره ممن تأخر عنه، ولم يذكروا له أيضا دليلا سوى أخبار الحجر عليه في نفسه وماله وانتفاء أهلية ذمته لاستلزام شئ بغير إذن المولى. أما في اليمين فالاجماع منعقد والاخبار متفقة على هذا الاشتراط، وعلى تقدير تعميم معنى اليمين ولو مجازا يدخل النذر في أخبار ها كما قلناه في المرأة. ويمكن الاحتجاج له بالخصوص بمارواه الحميري في كتاب قرب الاسناد بإسناده عن الحسين بن عوان (1) عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام (أن عليا عليه السلام كان يقول: ليس على المملوك نذر إلا أن يأذن له سيده). والا كثر لم يذكروا الولد مع مشاركته لهما في الحكم خصوصا للزوجة. وفي الدروس تبعا لجماعة من الاصحاب ألحقه بهما، ولا وجه لافراده عن الزوجة لكنه مسلوب المستند بالخصوص ولا دليل له سوى أخبار اليمين بناء على التعميم ثم على القول بتوقف نذر الثلاثة أو بعضهم على الاذن فالكلام فيما لو بادر قبل الاذن هل يقع باطلا أو يصح مع الاجازة ؟ كما سلف خلاف مشهور، وظاهر الاخبار أنه يقع باطلا، نعم رواية الحسين بن علوان محتملة لتأثير الاجازة بعد، أما لو زالت الولاية قبل إبطالة فلا تأثير لها في صحته لفقد الشرائط عند إيقاعه، وأقرب المجازات هي نفي الصحة وإن احتمل نفي اللزوم.
الخامس: يشترط فيه حالة النذر إليه القصد والنية، فلا يصح من المكره والسكران ولا الغضبان الذي لا قصد له، لكن لا فرق في الاكراه بين الواقع للقصد
(1) قرب الاسناد ص 52، الوسائل ج 16 ص 238 ب 15 ح 2.
[ 241 ]
رأسا وغيره كما في نظائره من النكاح والبيوع والعتق والطلاق، وقد دلت الاخبار المستفيضة المتقدمة على فساد هذه المعاملات به سيما في الطلاق والعتق، ولان المعتبر قصد الصيغة الخاصة وإن بقي القصد إلى غيرها وهو منتف في المكره عليها وإلا لم يكن مكرها. وأما السكران والغضبان على وجه يرتفع قصده فأصل القصد منتف عنهما، وقدمت الادلة في الطلاق والعتق بذلك إلا أن الغضب مراتب ولابد في إفساده من بلوغه حدا ينتفي القصد معه راسا.
السادس: ومما يشترط فيه انتفاء الحجر عليه في المال لسفه إذا كان المنذور عبادة مالية. أما لو كانت بدنية صح نذر السفيه والمفلس بعد حصول الحجر عليه ولو التزم المفلس مالا في الذمة من غير تخصيصه بما وقع عليه الحجر عليه صح أيضا ويؤديه بعد البراءة من حقوق الغرماء ولو عينه في ماله كما لو كان أعتق أو وهب في مراعاته بالفك. ومثله ما لو نذر عتق العبد المرهون، ويحتمل إلغاؤه كما لو نذر عتق عبد غير مملوك له.
المسألة الثانية: فيما يتعلق بالمنذور به، وضابطه المتفق عليه أن يكون طاعة كالعبادات الراجحة، والمراد بالطاعة ما يشتمل على القربة من العبادات المعهودة، فلو كان مباحا أو مرجوحا لم ينعقد. ففي صحيحة أبي الصباح الكناني (1) (قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل قال: علي نذر، قال: ليس النذر بشئ حتى يسمي لله صياما أو صدقة أو هديا أوحجا). وفي موثقة أبي بصير (2) كما في نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: سألته عن الرجل يقول: علي نذر، فقال: ليس شئ إلا أن يسمي النذر فيقول: نذر صوم أو عتق أو صدقة أو هدي) الحديث.
(1) الكافي ج 7 ص 455 ح 2، الوسائل ج 16 ص 219 ح 2. (2) النوادر ص 58، الوسائل ج 16 ص 222 ب 2 ح 7.
[ 242 ]
وخبر علي بن أبي حمزة عن أبي بصير (1) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقول: علي نذر، قال: ليس بشئ حتى يسمي شيئا ويقول: علي صوم أو يتصدق أو يعتق أو يهدي هديا، فإن قال الرجل: أنا أهدي هذا الطعام فليس بشئ إنما تهدى البدن). فما اطلق في صحيح الحلبي (2) عن الصادق عليه السلام (في رجل جعل عليه نذرا ولم يسمه، قال: إن سمى فهو الذي سمي، وإن لم يسم فليس عليه شئ) يجب حمله على أن المسمى أحد العبارات، بقرينة الاخبار المتقدمة، وكذلك صحيحه الاخر (3) كما يأتي في اشتراط التسمية. وخالف أول الشهيدين في الدروس فاكتفى بكونه مباحا متساوي الطرفين دنيا أو دينا، ونقله عن البعض ولم يعينه، واستدل عليه برواية الحسن بن علي الوشاء (4) المتقدمة عن أبي الحسن عليه السلام الواردة في عدم بيع الجارية وقد أمره بالوفاء به، والبيع مباح إذا لم يقترن بعوارض مرجحة، وإطلاقه أعم من وجودها ولا إشكال في انعقاده لو قصد به معنى راجحا كما لو قصد بنذر الاكل التقوي على العبادة أو عمل دنيوي أو تركه منع النفس عن الشهوات ونحو ذلك. وربما أشكل على بعضهم تفريعا على عدم انعقاد نذر المباح ما لو نذر الصدقة بمال مخصوص، فإنه يتعين اتفاقا مع أن المستحب هو الصدقة المطلقة. أما خصوصية المال فمباحة، فكما لا ينعقد لو خصلت الاباحة فكذا إذا تضمنها النذر. ويقوى الاشكال ما حكم به كثير من الفقهاء من جواز جعل الصلاة منذورا في مسجد معين مما هو أزيد مزية منه كالحرم والمسجد الاقصى، مع أن الصلاة
(1) الكافي ج 7 ص 455 ح 3 وفيه (حتى يسمى النذر)، الوسائل ج 16 ص 220 ب 1 ح 3 وفيهما (على صوم لله). (2) الكافي ج 7 ص 441 ح 10، الوسائل ج 16 ص 221 ب 2 ح 1. (3) الفقيه ج 3 ص 230 ح 18، الوسائل ج 16 ص 222 ب 2 ح 5. (4) التهذيب ج 8 ص 310 ح 26، الوسائل ج 16 ص 242 ب 17 ح 11.
[ 243 ]
في المسجد سنة وطاعة، فإذا جازت مخالفتها لطلب الافضل ورد مثله في الصدقة بالمال المعين. وجوابه: أن الصدقة المطلقة وإن كانت راجحة إلا أن المنذور ليس هو المطلقة وإنما هو الصدقة المخصوصة بالمال المعين، وهو أيضا أمر راجح متشخص لذلك المال المخصوص، فالطاعة المنذورة إنما تعلقت بالصدقة بذلك المال لا مطلقا فكيف يجزي المطلق عنه ؟ وأيضا أن الطاعة المطلقة لا وجود لها في الخارج إلا في ضمن المعين من المال والزمان والمكان والفاعل وغيرها من المشخصات، فإذا تعلق النذر بهذا المتشخص انحصرت الطاعة فيه كما تنحصر عند فعلها في متعلقاتها، فلا يجزي غيرها مما هو أفضل منها، ولان فتح هذا الباب من المناقشة يؤدي إلى عدم تعين شئ بالنذر حتى صوم يوم معين وحج سنة معينة وغير ذلك، فإن الصوم والحج في أنفسهما طاعة وتخصيصها بيوم أو سنة مخصوصين من قبيل المباح، وذلك باطل اتفاقا. ثم بهذا الشرط من كونه سائغا خرج ما كان محرما بالاتفاق، فلا ينعقد نذره للمستفيضة المتفق عليها من قولهم عليهم السلام (لا نذر في معصية) وقد تقدمت في اليمين بطرق عديدة. منها موثقة زرارة (1) (قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: أي شئ لا نذر في معصية ؟ قال: فقال: كل ما كان لك فيه منفعة في دين أو دنيا فلا حنث عليك فيه). ومثله موثقته الاخرى (2). وصحيح منصور بن حازم (3) عن أبي جعفر عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله: لا رضاع بعد فطام – إلى أن قال: – ولا نذر في معصية ولا يمين في قطيعة رحم).
(1) الكافي ج 7 ص 462 ح 14، الوسائل ج 16 ص 239 ب 17 ح 1. (2) التهذيب ج 8 ص 312 ح 34 وفيه (أي شئ لانذر فيه)، الوسائل ج 16 ص 239 ب 17 ح 1. (3) الفقيه ج 3 ص 227 ح 1، الوسائل ج 16 ص 239 ب 17 ح 2 وفيهما (ولا يمين في قطيعة).
[ 244 ]
وفي الخصال (1) في حديث الاربعمائة عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام عن علي عليه السلام (أنه قال: لانذر في معصية ولا يمين في قطيعة رحم). وموثقة أبي الصباح الكتاني (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: ليس شئ هو لله طاعة يجعله الرجل عليه إلا ينبغي له أن يفي به، وليس من رجل جعل عليه شيئا في معصية الله إلا أنه ينبغي له أن يتركه إلى طاعة الله). ومعتبرة إسحاق بن عمار (3) عن أبي إبراهيم عليه السلام كما في نوادر أحمد بن محمد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: سألته: أقال رسول الله صلى الله عليه واله: لا نذر في معصية ؟ قال: نعم). وكذلك ما كان مرجوحا محكوما بكراهته بحيث يكون الاولى فعله أو تركه كما في موثقة زرارة (4) المتقدمة لقوله (كل ما كان لك فيه منفعة في دين أو دنيا فلا حنث عليك فيه). وكذلك أجمع الاصحاب على ذلك لان أقل مراتبه أن يكون سائغا ولو بالمعنى الاعم، فيشمل المباح والواجب والمندوب.
المسألة الثانية: فيما يتعلق بصيغة، حيث إن النذر وإن كان في الاصل هو الوعد لكنه نقل إلى التزام الفعل الراجح بصيغة معينة مع تسمية المنذور به، وتلك الصيغة هو أن يقول إذا كان النذر مطلقا غير مشروط: لله علي، ثم يذكر المنذور به ويسميه، وبدون ذلك لا ينعقد. وكذا المشروط شكرا أو زجرا كما سيأتي بيانه وتقسيمه، وقد تقدم في صحيحة أبي الصباج الكناني (5) ما يدل على ذلك حيث قال: (النذر ليس بشئ حتى
(1) الخصال ج 2 ص 621 طبع مؤسسة النشر الاسلامي – قم. (2) التهذيب ج 8 ص 312 ح 36 وفيه (جعل لله عليه)، الوسائل ج 16 ص 240 ب 17 ح 6. (3) نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ص 58، الوسائل ج 16 ص 242 ب 17 ح 12 وفيهما (عن أبي ابراهيم عليه السلام قال: سألته…). (4) الكافي ج 7 ص 462 ح 14، الوسائل ج 16 ص 239 ب 17 ح 1. (5) الكافي ج 7 ص 455 ح 2، الوسائل ج 16 ص 219 ب 1 ح 2 وفيهما (ليس النذر بشئ).
[ 245 ]
يسمي شيئا لله صياما أو صدقة أو هديا أو حجا). وصحيحة منصور بن حازم (1) وقد تقدم ذكرها أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: إذا قال الرجل: علي المشي الى بيت الله الحرام وهو محرم بحجة وعلي هدي كذا وكذا فليس بشئ حتى يقول: لله علي المشي إلى بيته، أؤ يقول: لله علي أن احرم بحجة، أو يقول: لله علي كذا وكذا). وفي مرسل الفقيه (2) (قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن رجل أغضب فقال: علي المشي إلى بيت الله الحرام، فقال: إذا لم يقول: لله علي فليس بشئ). وصحيحة سعيد بن عبد الله الاعرج (3) كما في كتاب النوادر لاحمد بن محمد بن عيسى (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يحلف بالمشي إلى بيت الله ويحرم بحجة والهدي فقال: ما جعل لله فهو واجب عليه). ويفهم من مثل هذا الخبر انه يشترط مع الصيغة نية القربة لا مجرد التلفظ بها مجردا عن هذه النية، فإنه لا ينعقد أيضا، فلو قصد مع نفسه بالنذر لا لله لم يكن نذرا بلا خلاف بين أصحابنا. ويدل عليه مضافا إلى تلك الاخبار موثق إسحاق بن عمار (4) بل صحيحه (قال: قلت للصادق عليه السلام: إني جعلت على نفسي شكر الله ركعتين اصليهما في السفر والحضر، أفاصليهما في السفر بالنهار ؟ فقال: نعم ثم قال: إني لاكره الايجاب أن يوجب الرجل على نفسه، فقلت: إني لم أجعلها لله علي إنما جعلت ذلك على نفسي اصليها شكرا لله ولم اوجبه لله على نفسي، فأدعها إذا شئت ؟ قال: نعم). ومقتضى هذه الاخبار أن المعتبر نية القربة جعل الفعل لله وإن لم يجعله
(1) الكافي ج 7 ص 454 ح 1، الوسائل ج 16 ص 219 ب 1 ح 1 وفيهما اختلاف يسير. (2) الفقيه ج 3 ص 228 ح 51، الوسائل ج 16 ص 220 ب 1 ح 6. (3) النوادر ص 59، الوسائل ج 16 ص 221 ب 1 ح 8. (4) الكافي ج 7 ص 455 ح 5، الوسائل ج 16 ص 227 ب 6 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.
[ 246 ]
غاية لم، وربما اعتبر بعضهم جعل القربة غاية كأن يقول: بعد الصيغة: قربة إلى الله ونحو ذلك كنظائره من العبادات. والاصح الاول، لحصول الغرض على التقديرين وعموم النصوص. والمراد بنية القربة أن يقصد بقوله (لله) كذا معناه، بمعنى أنه لا يكتفي بقوله (لله) من دون أن يقصد به معناه، وإلا فالقربة حاصلة من جعله لله ولا يشترط معه أمر آخر كما قررناه. وكذا لا يكفي الاقتصار على نية القربة من غير أن يتلفظ بقول (لله) كما دلت عليه الاخبار السابقة.
المطلب الثاني في تقسيمه إلى المطلق والمشروط وذلك لانه إما بر أو زجر أو تبرع، ويشتمل هذا البحث على مسائل:
المسألة الاولى: أن النذر ينقسم في نفسه إلى نذر بر وطاعة وإلى نذر زجر ولجاج، نذر البر نوعان: نذر مجازاة ونذر تبرع، والمجازاة أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية، ونذر التبرع التزام شئ ابتداء من غير ان يعلقه على شئ، وهو المعبر عنه بالنذر المطلق.
المسألة الثانية: ان كل واحد من الزجر أو المجازي عليه اما ان يكون طاعة أو معصية أو مباحا، ثم إما أن يكون من فعله أو فعل غيره أو خارجا عنهما لكونه من فعل الله كشفاء المريض، ومتعلقه إما فعل أو ترك، فهذه جملة صور المسألة. والجزاء على الطاعة كقوله: إن صليت فلله علي صوم يوم مثلا، أي: إن وفقني الله للصلاة صمت شكرا. والزجر عنها كذلك إلا أنه قصد به الزجز عنها وعلى المعصية كقوله: إن شربت الخمر فلله علي كذا زجرا لنفسه عنه أو شكرا عليها. وأما البر فيقصد كذلك. والاول منهما من المثالين منعقد دون الثاني. وفي جانب النفي كقوله: إذا لم اصل فلله علي كذا وإن لم أشرب الخمر فإن قصد في الاول
[ 247 ]
الزجر وفي الثاني الشكر على توفيقه له انعقد دون العكس. وفي المباح يتصور الامر ان نفيا وإثباتا كقوله: إن أكلت أو لم آكل فلله علي كذا شكرا على حصوله أو زجرا على كسر الشهوة. ويتصور الاقسام كلها في فعل الغير كقوله: إن صلى فلان أو قدم من سفره أو أعطاني إلى غير ذلك من أقسامه. وضابط المنعقد من ذلك كله ما كان طاعة وقصد بالجزاء الشكر أو تركها وقصد الزجر، وبالعكس في المعصية، وفيما خرج عن فعله يتصور الشكر دون الزجر، وبالعكس في المعصية وفيما خرج عن فعله في المباح الراجح دينا يتصور الشكر، وفي المرجوح الزجر وعكسه كالطاعة، وفي المتساوي الطرفين يتصور الامران، ومثله: إن رأيت فلانا فلله علي كذا، فإن أراد إن رزقني الله رؤيته فهو نذر بر، وإن أراد كراهة رؤيته فهو نذر لجاج. المسألة الثالثة: إن من نذر مبتدعا بغير شرط كقوله: لله علي أصوم ونحو ذلك ففي انعقاده قولان: أحدهما: نعم وهو اختيار الاكثر، بل ادعى عليه الشيخ في الخلاف الوفاء لعموم الادلة كتابا وسنة، مثل قوله تعالى (إني نذرت لك ما في بطني محررا) (1) وقوله تعالى (يوفون بالنذر) (2) وأطلق فيهما، وقوله صلى الله عليه واله (3) (من نذر أن يطيع الله فليطعه)، وفي المستفيضة المتقدمة كرواية الكناني عن الصادق عليه السلام (ليس من شئ هو لله فجعله الرجل عليه أنه لا ينبغي له أن لا يفي به) إلى غير ذلك من الاخبار الدالة بعمومها أو إطلاقها.
(1) سورة آل عمران – آية 35. (2) سورة الانسان – آية 7. (3) عوالي اللئالى ج 2 ص 123 ح 338.
[ 248 ]
والثاني: العدم، ذهب إليه المرتضى مدعيا عليه الاجماع أيضا لما ثبت عن تغلب أن النذر عند العرب وعد يشترط والشرع نزل بلسانهم، واجيب بمنع الاجماع وقد عورض بمثله لما نقل عن غيره عن العرب من أنه وعد بغير شرط أيضا. وبالجملة: فلا مستند للمرتضى في الحقيقة بل الاخبار التي قد مناها وغيرها أن من قال: لله علي فكفارة يمين.
المسألة الرابعة: لابد أن يكون الشرط في النذر سائغا إن قصد الشكر والجزاء، والمراد بالسائغ ما قدمناه وهو الجائز بالمعنى الاعم، فيشتمل المباح والواجب والمندوب كقوله: إن صليت الفرض أو صمت شهر رمضان أو حججت أو صليت النافلة ونحو ذلك. لكن يرد عليه حينئذ ما لو كان الشرط مكروها أو مباحا مرجوحا في الدنيا، فإن جعل الجزاء شكرا على فعله لا يصح، ولو اريد بالسائغ الجائز بالمعنى الاخص – وهو المباح – خرج منه ما إذا جمله مندوبا أو واجبا، ومع ذلك يخرج ما لو كان من فعل الله تعالى كقوله: إن رزقني الله وكذا أو عافاني من مرضي ونحو ذلك فإنه لا يوصف بالسائغ، فالاولى جعل المعتبر منه كونه صالحا لتعلق الشكر به إن جعل الجزاء شكرا، وكونه مرجوحا سواء بلغ حد المنع أم لا إن قصد الزجر فيشمل جميع أفراده، وأما الجزاء فيشترط كونه طاعة مطلقة كما تقدم تقريره في الاشهر.
الخامسة: أن المنذور به إذا كان مطلقا كمن نذر صوما مطلقا فأقله يوم وله الزيادة عليه تبرعا. وكذا لو نذر صدقة مطلقة اقتصر على أقل ما يتناوله الاسم وهو ما يتمول عادة. وإذا نذر حقيقة من الحقائق لزمه ما تصدق به تلك الحقيقة، وليس مختصا بما ذكر من الامثلة وهو موضع وفاق. وحمل عليه مرسلة الحسن بن الحسين اللؤلؤي (1) (قال: قلت لابي عبد الله
(1) الكافي ج 7 ص 457 ح 14، الوسائل ج 16 ص 22 ب 2 ح 4.
[ 249 ]
عليه السلام: الرجل يقول: علي نذر ولا يسمي شيئا، قال: كف من بر غلظ عليه أو شدد). وكذا لو نذر العبادة مطلقا أجزاء أن يختار منها ما شاء في التقرير لخبر مسمع بن عبد الملك (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (أن أمير المومنين عليه السلام سئل عن رجل نذر ولم يسم شيئا، قال: إن شاء صلى ركعتين وإن شاء صام يوما وإن شاء تصدق برغيف). فيكون النذر قابلا للاجمال والتفصيل، فإن قيد وجب عليه ما قيده به قلة وكثرة، لكنه لو قيده لكثير وجب عليه الصدقة بثمانين درهما، ولم يتبع العرف في مثله للتنصيص عليه من الشارع. ففي مرسلة علي بن أبراهيم كما في الكافي (2) لما سم المتوكل نذر أن عوفي أن يتصدق بمال كثير، فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال: بعضهم: مائة ألف، وقال بعضهم: عشرة آلاف، فقالوا فيه أقاويل مختلفة. فاشتبه عليه الامر، فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: ألا تبعث إلى هذا الاسود فنسأله عنه، فقال له المتوكل: من تعني ويحك ؟ فقال: ابن الرضا، فقال له: وهو يحسن من هذا شيئا ؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذاو كذا وإلا فاضربني مائة مقرعة، فقال المتوكل: قد رضيت يا جعفر بن محمود، صر إليه وسله عن حد المال الكثير، فصار جعفر بن محمود إلى أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام فسأله عن حد المال الكثير، فقال له: المال الكثير ثمانون، فقال جعفر: يا سيدي انه يسألني عن العله فيه، فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله يقول: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) (3) فعددنا تلك المواطن فكانت ثمانين). ورواه الحسن بن شعبة في تحف العقول (4) مرسلا.
الكافي ج 7 ص 463 ح 18، الوسائل ج 16 ص 222 ب 2 ح 3. (2) الكافي ج 7 ص 463 ح 21 وفيه (صغان) بدل (صفوان)، الوسائل ج 16 ص 223 ب 3 ح 1. (3) سورة التوبة – آية 25. (4) تحف العقول ح 357 طبع بيروت.
[ 250 ]
ورواه الطبرسي – رحمه الله – في الاحتجاج (1) عن أبي عبد الله الزيادي. ورواه علي بن إبراهيم في تفسيره (2) عن محمد بن عمرو (قال: إن المتوكل – لعنه الله – اعتل) وذكر نحوه. وفي التهذيب (3) بإسناده عن محمد بن يعقوب مثله. وبإسناده في الحسن عن أبي بكر الحضرمي (4) (قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجل مرض فنذر لله شكرا إن عافاه الله أن يتصدق من ماله بشئ كثير ولم يسم شيئا فما تقول ؟ قال: يتصدق بثمانين درهما فإنه يجزيه، وذلك بين في كتاب الله تعالى إذ يقول لنبيه صلى الله عليه واله (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) والكثيرة في كتاب الله ثمانون). وفي كتاب معاني الاخبار (5) في الصحيح عن محمد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام (أنه قال في رجل نذر أن يتصدق بمال كثير فقال: الكثير ثمانون فما زاد يقول الله تعالى (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) وكانت ثمانين موطنا). وروى العياشي في تفسيره (6) عن يوسف بن السخت (قال: اشتكى المتوكل – لعنه الله – شكاة شديدة فنذر لله إن شافاه الله أن يتصدق بمال كثير، فعوفي من علته فسأل أصحابه عن ذلك – إلى أن قال: – فقال ابن يحيى المنجم: لو كتبت إلى ابن عمك – يعني أبا الحسن عليه السلام – فأمر أن يكتب له فيسأله، فكتب أبو الحسن عليه السلام: تصدق بثمانين درهما، فقال: هذا غلط من أين هذا ؟ فكتب: قال الله لرسوله صلى الله عليه واله (لقد نصر كم الله في مواطن كثيرة) والمواطن التي نصرالله رسوله
(1) الاحتجاج ج 2 ص 257 طبع النجف الاشرف. (2) تفسير القمى ج 1 ص 284. (3) التهذيب ج 8 ص 309 ح 24، الوسائل ج 16 ص 224 ب 3 ذيل ح 1. (4) التهذيب ج 8 ص 317 ح 57، الوسائل ج 16 ص 224 ب 3 ح 2. (5) معاني الاخبار ص 218 ح 1 طبع مكتبة الصدوق، الوسائل ج 16 ص 224 ب 3 ح 3. (6) تفسير العياشي ج 2 ص 84 ح 37، الوسائل ج 16 ص 225 ب 3 ح 4.
[ 251 ]
صلى الله عليه واله فيها ثمانون موطنا، فثمانون درهما من جملة مال كثير). والمراد بالدراهم المحصول عليها هي الدرهم الشرعي لان ذلك هو المراد عند إطلاق الشارع لها. ويحتمل الحمل على المعهود في المعاملة وقت النذر. وردها الحلي إلى ما يتعامل به دراهم كانت أم دنانير، وهو شاذ. هذا كله مع الاطلاق. أما لو قصد نوعا خاصا فلا إشكال في تعيينه، والحكم مقصور على نذر الشئ الكثير كما هو مورد الروايات. وأولى منه لو نذر دراهم كثيرة، وفي الروايات المرسلة جعل مورد النذر المال الكثير كما عبر به المحقق وجماعة. وفي تعديته إلى غير ذلك كما لو نذر أن يتصدق بثياب كثيرة أو دنانير كثيرة وجهان: من خروجه عن مورد النص المخالف للاصل، ومن أن الكثرة إطلاق الكثير بذلك العدد على كل شئ، بهذا حكم العلامة في المختلف والشهيد في الدروس به، وتنظر في ذلك ثاني الشهيدين بأن الكثير استعمل لغة وعرفا في غير ذلك العدد ودعوى أن ذلك تقرير شرعي مطلقا وهو مقدم عليهما في الموضع المنع. فالمستند من غير الاجماع كما ترى لا يخلو من قصور، إلا أن مقتضى تلك المراسيل وحسنة الحضرمي لكنه مخصوص بالنذر. أما لو قال: خطير أو جليل فسره بما أراد كما تقدم في الوصايا والاقرار، ومع تعذر التفسير بالموت يرجع إلى الولي وهو الوارث مقامه في التعيين بمعنى أن له إحداث التعيين والصدقة بما أراد وإن لم يعلم مراد المورت، لان الواجب في ذمة المورث أمر كلي، فيتإدى بما يختاره الوارث كما يتأدى بما يختاره المورث وكان كما لو نذر الصدقة بمال وأطلق. ولو كان الناذر قد أقر أنه قصد شيئا معينا فلا إشكال في لزومه في حقه وحق الوارث.
[ 252 ]
المطلب الثالث في بقية أحكام النذر وما يتعلق بتلك الضوابط والقواعد مما جاءت به النصوص:
وفيه مسائل:
الاولى: أن النذر إذا استكمل شرائطه المتقدمة وجب الوفاء به، فإن كان مطلقا فلا إشكال في استحباب المبادرة إليه لما فيه من المسارعة إلى سبب المغفرة المأمور بهاو الخروج من خلاف من جعل الامر المطلق منزلا على الفور، ولكن يجوز التأخير لان النذر المطلق وقته المعمر، والفوز غير واجب على الاصح كما يجوز التأخير لان النذر المطلق وقته العمر، والفور غير واجب على الاصح كما هو المشهور، ويتضيق عند ظن الوفاة أو ضعف عنه. وذهب بعض الاصحاب إلى وجوب المبادرة إليه وهو شاذ. أما لو كان موقتا وجب إتباع ما وقت عليه بالاتفاق، والنصوص به مستفيضة.
المسألة الثانية: لا ينعقد نذر الصوم إلا أن يكون طاعة مشروعة كما هو مجمع عليه عند الامامية وأكثر العامة. وذهب بعض العامة إلى انعقاد النذر ووجوب صوم يوم آخر مكانه، وربما قال بعضهم: إنه لو صامه خرج عن نذره. وفساده واضح. ويدل على هذا ما تقدم في كتاب الصوم من أنه إذا نذر يوما معينا فوافق أحد الايام المحرم فيها الصوم كيومي العيدين وأيام التشريق بمنى وأيام المرض وأيام الحيض وجب عليه الافطار واستحب له القضاء وربما قيل بالوجوب، وقد تقدم ذلك كله، وفي صحاح ابن مهزيار ومكاتباته وغيرها الصريح بذلك، وفيها يقضي يوما بدل يوم إن شاء الله تعالى. الثالثة: لا ينعقد صوم يوم لا يتمكن منه كما لو نذر صوم يوم قدوم زيد من سفره بعينه ولم ينذره دائما، فإن المشهور بين الاصحاب أنه لا ينعقد نذره
[ 253 ]
مطلقا، لانه إن قدم ليلا لم يكن قدومه نهارا فيكون في يوم حتى يتنظر في أنه هل يصام أم لا ؟ وهذا بناء على أن اليوم اسم للنهار خاصة كما هو المعروف لغة وعرفا فلم يوجد يوم قدومه فيكون مفقود الشرائط، وإن قدم نهارا فقد مضى قبل قدومه جزء من النهار، فإن أو جبنا صوم بقية اليوم وجعلناه متعلق النذر لزم انعقاد صوم بعض يوم والاصحاب لا تقول به. إن قلنا بوجوب مجموع اليوم لزم تكليف ما لا يطاق لان الجزء الماضي منه لا يقدر الناذر على صومه عن النذر، ولا فرق على هذابين أن يقدم والناذر صائم لذلك اليوم نذبا أو واجبا، أو غير ناو للصوم لاشتراك الجميع في المقتضي. ونقل في الشرائع قولا بأنه إن قدم قبل الزوال ولم يكن الناذر أحدث ما يفسد الصوم انعقد نذره ووجب عليه صومه لان هذا القدر من النهار قابل للصوم ندبا بل واجبا على بعض الوجوه فلا مانع من انعقاد نذره، كما لو نذر إكمال صوم اليوم المندوب خصوصا قبل الزوال. وهذا القول قوي جدا سيما قد جاء في أخبار القضاء عن شهر رمضان ما يدل على جواز الصوم ولو ذهب عامة النهار. ومن هنا قال ثاني الشهيد ين في المسالك بعد ذكره القول الثاني: وهذا قوي بل يحتمل انعقاده وإن قدم بعد الزوال ولما يحدث ما يفسد الصوم بناء على صحة الصوم المندوب حينئذ فينعقد نذره. ولو كان صائما ندبا زاد الاحتمال قوة لانه حينئذ صوم حقيقي مندوب فيكون نذره طاعة. ويمكن بناء الحكم على أن المنتقل إذا نوى الصوم نهارا هل يكون صائما وقت النية أم من ابتداء النهار ؟ فعلى الاول يتجه عدم صحة النذر لان المفهوم من صوم يوم قدومه صوم مجموع اليوم ولم يحصل، وعلى الثاني يصح لصدق الصوم في المجموع واستتباع الباقي للماضي. ويمكن رجوع الخلاف إلى أمر آخر وهو أن الناذر إذا التزم عبادة وأطلق تسمية الملتزم ينزل على نذره أم لا ؟ فيه وجهان:
[ 254 ]
(أحدهما) أنه ينزل على واجب من جنسه لان المنذور واجب فيجعل كالواجب ابتداء من جهة التبرع لقرب الواجب من الواجب.
(والثاني) ينزل على الجائز من جنسه لان لفظ الناذر اقتضى التزام الجائز لا الواجب، فلا معنى لالتزامه ما لم يتناوله لفظه، ولعل هذا أظهر وعليه تتفرع مسائل كثيرة، منها المسألة المذكورة، فإن نزلناه على الوجوب انتفى انعقاد نذر يوم قدومه بعد الزوال قطعا لان الواجب لا ينعقد حينئذ مطلقا، وقبل الزوال يتجه الانعقاد لان الواجب قد ينعقد حينئذ فيما لو أصبح غير ناو للصوم ثم نوى القضاء عن شهر رمضان قبل أن يتناول، فإن الاقوى صحة صومه حيئنذ فليكن في النذر كذلك. وأما إذا قلنا بعدم صحة الصوم عن الواجب لاشتراط تبييت النية ليلا لم يصح النذر لعدم صحة الواجب في أثناء النهار، وإن حملناه على ما يصح من جنسه صح في الحالين، وأن الصوم المندوب ينعقد في أثناء النهار مطلقا، على ما مر تحقيقه في بابه على المذهب المشهور من عدم صحة تجديدة بعد الزوال مطلقا ما ينعقد النذر ولو قدم بعده مطلقا على ما مر تحقيقه. وإنما يبقى الكلام فيما لو قدم قبل الزوال، فإن كان قد ألحقناء بما يصح وإن كان مندوبا صح، وإن ألحقناه بالواجب وقلنا بصحته صح أيضا، وإلا فلا. وعلى تقدير الصحة لو علم ليلا قدومه نهارا لقرائن أو جبت له ذلك جاز له نيته ليلا، لكن في وجوبه نظر لوجهين: أحدهما أن العلم العادي الذي بنيت عليه أحكام كثيرة شرعا حاصل، والاخر جواز تخلفه، والا وجه الوجوب في النية ليلا وإن علم مجيؤه بعد الزوال لان المنذور مجموع اليوم الذي يقدم فيه وهو متحقق بقدومه في جزء من النهار، بل يمكن صرف مجموعه إلى النذر بسبب العلم السابق
[ 255 ]
كما هو مختار أول الشهيدين في الدروس. ولو قال: لله علي أن أصوم يوم قدومه وأراد صوم ذلك اليوم من الاسبوع دائما سقط صوم ذلك اليوم الذي جاء فيه – لما تقدم من المانع – ووجب عليه مثل صوم ذلك اليوم فيما بعد لثبوت المقتضي لوجوب صومه وهو النذر مع انتفاء المانع، لانه كان قد نشأ في اليوم الاول من مضي بعض اليوم الموجب لعدم قوة التزام صوم يوم الجمعة دائما فإذا سقط اليوم الاول لعارض بقي الثاني، وهكذا فيجب نية صومه ليلا كغيره من الواجبات، ويوصف مجموعه بالوجوب، ولو قلنا بانعقاد يوم قدومه مطلقا صح الجميع. ولو صادف ذلك اليوم في شهر رمضان صامه من شهر رمضان خاصة وسقط النذر فيه لانه كالمستثنى فلا يقضيه أيضا. ولو اتفق ذلك يوم عيد فلا خلاف في وجوب إفطاره لتحريم صومه على كل حال. وفي وجوب قضائة قولان قد مر ذكر هما في الصيام.
أحدهما: – وهو الذي اختارة المحقق – رحمه الله – وجماعة ممن تأخر عنه – العدم، لان وجوب قضائه مفرع على صحة نذره، وصحته موقوفة على قبول الزمان للصوم حتى يكون طاعة، والعيد مما لا يصح صومه شرعا، فلا يدخل تحت النذر، فهو مخصوص بالافطار، كما أن شهر رمضان متعين صومه بعينه فلا يتناولهما النذر.
والقول الثاني: الوجوب، وإليه ذهب الشيخ وجماعة لصحيحة علي بن مهزيار (1) (قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: رجل نذر أن يصوم يوم الجمعة دائما فوافق ذلك اليوم يوم عيد فطر أو أضحى أو يوم جمعة أو أيام التشريق أو سفر أو
(1) الكافي ج 7 ص 456 ح 12، الوسائل ج 16 ص 233 ب 10 ح 1 وفيهما (أو أضحى أو أيام التشريق – وضع الله عنه الصيام).
[ 256 ]
مرض، هل عليه صوم ذلك اليوم أو قضاؤه ؟ أم كيف يصنع يا سيدي ؟ فكتب إليه ؟ قد وضع الله صيام في هذه الايام كلها ويصوم يوما بدل يوم إن شاء الله تعالى). ولان اليوم المعين من الاسبوع كيوم الاثنين مثلا ثد يتفق فيه العيد وقد لا يتفق فيتناوله النذر بخلاف شهر رمضان، فإن وقوعه فيه أمر معلوم، ولهذا وقع الاتفاق على عدم تناوله حيث لم يعلقه بالمشيئة بلفظ (إن) تختص بالمحتمل لا بالمحقق. وفيه نظر، لان من جملة المسؤول عنه ما يجب قضاؤه قطعا وهو أيام السفر المرض، المشيئة كثيرا ما تقع في كلامهم عليهم السلام لمجرد التبرك كما قال الله تعالى ولتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله) (1) وهو اللائق بمقام الجواب عن الحكم الشرعي. نعم، قد وقع في مضمون هذه الرواية إشكال لتشريكه في الحكم بين يوم الجمعة وغيرها من الايام المحرمة، وغاية الصوم يوم الجمعة أن يكون مكروها، ومكروه لعبادة ينعقد نذره لرجحانه في الجملة، فإدخالها في هذا الحكم لا يناسب الوجوب ولا الاستحباب على هذا التقدير، إلا أن يلتزم مشاركة المكروه للمحرم في ذلك. واعلم أنه لو وقع في شهر رمضان – وقد لا يتفق كما أن العيد قد يقع في ذلك اليوم وقد لا يقع بخلاف الاربعة – فإنه لابد منها، وذلك واضح.
الرابعة: لو وجب على ناذر ذلك اليوم صوم شهرين متتابعين في كفارة كان موضع خلاف، فقال الشيخ – رحمه الله -: يصوم في الشهر الاول من الايام المذكورة عن الكفارة تحصيلا للتتابع، فإذا صام من الثاني شيئا وحصل التتابع شرعا صام ما بقي من الايام عن النذر لسقوط التتابع فيرتفع المانع. وذهب بعض المتأخرين إلى سقوط التكليف بالصوم لعدم إمكان التتابع
(1) سورة الفتح – آية 27.
[ 257 ]
فينتقل فرضه إلى الاطعام، وليس بشئ فالوجه صيام ذلك اليوم وإن تكرر عن النذر، ثم لا يسقط به التتابع شرعا سواء كان في الشهر الاول أم الثاني لانه عذر لا يمكن الاحتراز عنه. ويتساوى في ذلك تقدم وجوب التكفير على النذر وتأخره وذلك إذا وجب على ناذر يوم معين كيوم الاثنين لكونه يوم قدوم زيد أو غيره فصادف صوم شهرين متتابعين في كفارة على وجه التعيين كالمرتبة فهي موضع الخلاف في تقديم تلك الكفارة على النذر أو تقديمه عليها أقوال:
(أحدها) تقديم الكفارة فيما يجب تتابعه على النذر، وذلك الشهر الاول واليوم الاول من الثاني بحيث يحصل له شهر ويوم متتابعان، ويتخير بعد ذلك في الشهر الثاني بين صوم المعين عن النذر، ولا يمكن صوم الكفارة بدون أن يصومه عنها لفوات التتابع لتخلل ذلك اليوم، فيجمع بين الواجبين بصومه عن الكفارة وقضائه عن النذر، هذا فيما تحقق وجوب متابعته. وأما في بقية الشهر الثاني فإنه يمكن صومه عن كل واحد من الواجبين من غير أن يضر بالاخر لانتفاء اشتراط التتابع وهو مستحيل لوجوب صوم اليوم المعين عن النذر فينتقل إلى غير الصوم من الخصال كالاطعام إقامة لتعذر شرط الصوم مقام تعذره، وهو مختار الحلي في سرائرة.
(وثالثها) ما قدمناه – وهو مختار المحقق وأكثر المتأخرين – وهو تقديم النذر، ولا يقطع بتتابع الكفارة لانه عذر لا يمكن الاحتراز عنه فمثله كأيام الحيض والمرض والسفر الضروري سواء في ذلك الشهر الاول والثاني، وهذا هو الاقوى. واعلم أن موضع هذا الخلاف ما إذا كانت الكفارة معينة ككفارة الظهار وقتل الخطأ، فلو كانت مخيرة لم يجزء الصوم عنها وانتقل إلى الطعام الانتفاء الضرورة إلى التفريق بإمكان التكفير بالخصلة الاخرى على تقدير قدرته عليها،
[ 258 ]
وإلا كانت كالمعينة. وأنه لا فرق بين تقدم سبب الكفارة على النذر وتأخره لاشتاركهما في المقتضي وهو تعيين للصوم المنذور، وإنما يتجه الفرق لو قلنا بتقديم الكفارة وقضاء اليوم عن النذر، فإنه على تقدير النذر يكون قد أدخل على نفسه صوم الشهرين بعد وجوب صوم اليوم بالنذر فيجمع بينهما بالقضاء، بخلاف ما إذا تقدمت الكفارة، لانه حينئذ يكون كالمستثنى كما استثنى الواقع في شهر رمضان، واحتمل بعضهم هنا القضاء أيضا، لان الوقت غير متعين لصوم الكفارة بخلاف شهر رمضان.
الخامسة: من نذر أن يصوم زمانا لزمه صوم خمسة أشهر، وذلك لان الزمان من الحقائق الشرعية الثابتة بالنصوص، وإلا فهو من الالفاظ المبهمة لغة وعرفا الصالحة للقليل والكثير، فكان حق ناذر صومه أن يكتفي بصوم يوم الذي هو أول مراتب أزمان الصوم. ومثله من نذر أن يصوم حينا فإنه يحمل على صوم ستة أشهر لتلك النصوص أيضا، وفي ذلك ثبوت الحقائق الشرعية. فمن تلك الاخبار رواية السكوني (1) عن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام (أن عليا عليه السلام قال في رجل نذر أن يصوم زمانا، قال: الزمان خمسة أشهر والحين ستة أشهر، لان الله يقول (تؤتي اكلها كل حين بإذن ربها) (2). ورواية أبي الربيع الشامي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه سئل عن رجل قال: لله علي أن أصوم حينا وذلك في شكر، فقال أبو عبد الله عليه السلام: قد اتي أبي في مثل ذلك فقال: صم ستة أشهر فإن الله يقول (تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها) يعني ستة أشهر). ومثل هذين الخبرين ما رواه العياشي في تفسيره (4) بطرق عديدة عنه
(1) الكافي ج 4 ص 142 ح 5، الوسائل ج 7 ص 484 ب 14 ح 2. (2) سورة ابراهيم – آية 25. (3) الكافي ج 4 ص 142 ح 6، الوسائل ج 7 ص 284 ب 14 ح 1 وفيهما (اتى على (ع) في مثل هذا). (4) تفسير العياشي ج 2 ص 224 ح 12، الوسائل ج 7 ص 284 ب 14 ح 1.
[ 259 ]
عليه السلام إلا أنها ضعيفة الاسناد في الاصطلاح الجديد، ومن هنا طعن عليها بذلك. وقد اجيب عنه بأن الشيخ عمل بمضمونها وتبعه الاصحاب حتى لا يعلم فيه مخالف فكان جابرا لضعفها. وحيث إن هذه المسألة تقدمت في الصوم لم يحتج إلى إرخاء عنان الكلام فيها. هذا كله إذا أطلق ولم يعين شيئا. أما لو نوى به زمانا معينا فإن كان ذلك الزمان مما يصلح للصوم تعين وإلا فلا.
السادسة: إذا نذر صلاة فأقل ما يجزيه ركعتان لانهما مما وضعت الصلاة عليهما شرعا فرضا ونقلا، وقد مر فيمن نذر عبادة مطلقة أنه يتخير بين صلاة ركعتين وبين صيام يوم وبين الصدقة بما يتمول. وقيل: يجزي بركعة واحدة لان الله قد تعبد بها في الجملة كما في الوتر. وهذا مذهب ابن إدريس، واستحسنه المحقق في الشرائع وجماعة، وربما بني هذا الخلاف على ما تقدم من أن المعتبر هو أقل واجب أو أقل صحيح، فعلى الاول الاول وعلى الثاني الثاني. ويتفرع على ذلك أيضا وجوب الصلاة قائما أو يجوز ولو جالسا لجوازه في النافلة، وكذلك في وجوب السورة عند من أوجبة، إلى ذلك من الجهات التي يفترق فيها الواجب والصحيح مطلقا. وكذا الكلام في إيقاعها على الراحلة وإلى غير القبلة راكبا أو ماشيا، ولو صرح في نذره أو نوى أحد هذه الوجوه المشروعة فلا إشكال في انعقاده، وفي جواز العدول عنه إلى الافضل الوجهان، والاجود اتباع القيد المنذور به مطلقا. ويستفاد من قولهم هذا (إن أقل ما يجزيه ركعتان) أنه لو صلى أزيد من ركعة صح وهو كذلك مع إتيانه بهيئة مشروعة في الواجب أو المندوب على الوجهين كالثلاث والاربع بتشهد وتسليم. وقيل: إنه لا يجزي إلا ركعتان لان
[ 260 ]
المنذور فعل صادر واجبا ولم يتعبد في النوافل إلا بركعتين بالتسليم، ففي شرعية ما بعد الركعتين بنية الندب وجهان: من سقوط الفرض بالركعتين فلا وجه للوجوب، ومن جواز كون هذا الوجوب كليا، ودخول بعض أفراده في بعض لا يخرج الزائد عن أن يكون فردا للكلي، وإن جاز تر كه كما ثبت في الركعتين والاربع في مواضع التخيير. ومثله الكلام في التسبيحات المتعددة في الركعتين الاخيرتين والركوع والسجود وهذا يتجه مع قصد الزائد ابتداء. وخبر مسمع بن عبد الملك (1) المتقدم عن أبي عبد الله عليه السلام (أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن رجل نذر ولم يسم شيئا، قال: إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء صام يوما، وإن شاء تصدق برغيف) دال علي عدم الاجتزاء بالركعة لو نذر الصلاة.
السابعة: لو نذر الصلاة في مسجد معين أو مكان معين من المسجد لزم لانه طاعة راجحة. أما لو خلى عن الرجحان كما لو نذر الصلاة في مكان لامزية للصلاة فيه على غيره فإنه موضع خلاف. فقيل: لا يلزم، وتجب الصلاة وحدها في أي مكان وتردد في ذلك المحقق، وجزم جماعة من المتأخرين باللزوم، والاخبار خالية عنه وعموم الكتاب والسنة وإطلاقهما دالان على القول الاخير. وأجابوا عن عدم رجحان المكان من أن المنذور ليس هو المكان خاصة حتى يرد أنه لارجحان فيه بل الصلاة الواقعة في المكان، ولا شبهة في رجحانها فينعقد نذرها كالصلاة المنذورة في الوقت مطلقا لانهم قد أجمعوا عليه، ولا يجزي فعلها في غيره من الاوقات سواء كان أدنى منه مزية أو مساويا أو أعلى. وفرق القائلون بتعيين الوقت دون المكان بأن الشارع جعل الزمان سببا للوجوب، بخلاف المكان فإنه من ضرورة الفعل لاسببية فيه.
(1) الكافي ج 7 ص 463 ح 18، الوسائل ج 16 ص 222 ب 2 ح 3.
[ 261 ]
ويضعف بأنه لا يلزم من سببية بعض الاوقات بنص الشارع مزية في بعض الصلوات سببية الوقت الذي يعينه الناذر، فإن هذا الوقت الذي يعينه بالنذر لا سببية له متعلقة بوجوب المنذور قط، وإنما سببية النذر، والزمان والمكان أمران عارضان ومطلقهما من ضرورة الفعل ومعينهما بتعيين الناذر، فأي رابطة لسببية الوقت بالصلاة الواجبة بالاصل وبين الوقت الذي هو بتعيين الناذر ؟ واجيب عن هذا الايراد بأن السببية في الوقت حاصلة على كل تقدير وإن كان ذلك بالنذر، لانا لا نعني بالسببية إلا توجه الخطاب إلى المكلف عند حصول الوقت، وهو حاصل هنا، ولا يتصور مثل ذلك في المكان إلا تبعا للزمان. وتنظر فيه ثاني الشهيدين في المسالك بأن الوقت المعين بالنذر إذا كان مطلقا كيوم الجمعة مثلا فتوجه الخطاب إلى الناذر بالفعل عند دخول الجمعة ليس على وجه التعيين بالامر فيه كالنذر المطلق بالنسبة إلى العمر، غايته أن هذا مختص بالجمع الواقعة في العمر، فتوجه الخطاب فيه على حد توجهه على تقدير تعيين المكان من دون الزمان، بل هذا أقوى حيث إن الخطاب متوجه إليه بسبب ما أوقعه من صيغة النذر في أن يؤدي الفعل في ذلك المكان ويسعى في تحصليه لقدرته عليه في كل وقت بحسب ذاته وإن امتنع بعارض على بعض الوجوه، بخلاف الزمان فإنه لا قدرة له على تحصيله مع اشتراكهما في أصل تقييد العبادة المنذورة بهما، فيجب تحصيلها على الوجه الذي عينه عملا بعموم الاوامر الدالة على وجوب الوفاء بالنذر على وجهه، إذ العبادة الخارجة قيدها غير منذور وإنما المنذور العبادة في ضمن القيد. وإذا تقرر ذلك، فإن قلنا بتعيين ذي المزية خاصة لم يصح له العدول إلى ما دونه ولا إلى مساويه، وهل ينعقد بالنسبة إلى ما فوقه ؟ فيه وجهان، فقيل: نعم، لانه مأمور بإيقاعها فيه، والامر بالشئ يقتضي النهي عن ضده، والحصولان متضادان لتضاد الاكوان، والنهي في العبادة مفسد. وقيل: لا، فيجوز العدول إلى
[ 262 ]
الاعلى لان نسبة ذي المزية إلى الاعلى كنسبة ما لامزية فيه إليه، والتقدير إنا نجوز العدول عما لا مزية فيه، فكذا هنا. وربما اجيب عن الاول بأنه إن أراد بالامر بأيقاعها فيه مطلقا فهو عين المتنازع، وإن أراد في حالة ما لم يدل على مطلوبهم وعن الثاني بأنا نمنع اتحاد النسبتين لانه في المتنازع ينعقد في الجملة، وما خلا عن المزية لا انعقاد فيه عندهم فيه أصلا. والحق أن النذر قد تعلق بالصلاة مشخصة بالكون المخصوص مستجمعا لشرائطه، فلا وجه للعدول عن مقتضاه. ودعوى (أن المكان على هذا الوجه كالمباح فلا ينعقد نذره) قد بينا لك فيما سبق فساده، وذلك لان المنذور ليس هو المكان وإنما هو العبادة لكنها مشخصة به، فهي بدونه غير منذورة بل ولا مقصودة بالكلية، فظهر ترجيح عدم إجزاء فعلها في غيره مطلقا.
الثامنة: لو نذر الحج ما شيا له لزمه، ويتعين من بلد النذر وذلك لان الحج والعمرة من أكبر الطاعات وأشرف العبادات، لكنهما إدا قيد نذرهما بالمشي فهل يلزمه المشي أم له أن يحج ويعتمر راكبا ؟ فيه وجهان مبنيان على أن الحج ما شيا أفضل مطلقا أم الركوب أفضل ولو على بعض الوجوه ؟ فعلى القول الاول ينعقد نذر المشئ لكونه الفرد الراجح كما قطع به المحقق وجماعة في كتاب النذر مع أنه قد اختار في الحج أن المشي إفضل لمن لم يضعفه للنهي عن العبادة، وإلا كان الركوب أفضل. ويمكن على هذا بتعيين المنذور وإن كان مرجوحا لما تقرر فيما سبق في أن المنذور هو الحج على الصفة المخصوصة، إذ لاريب في كونه طاعة راجحة في الجملة وإن كان غيرها أفضل منها. وقيل: لا يلزمه المشي إلا إذا ترجح على الركوب، لانه حينئذ قد يكون التزم في العبادة الملتزمة زيادة فضلية كما لو نذر الصوم متتابعا، ومع عدم ريحانه
[ 263 ]
إما مطلقا أو على بعض الوجوه لا ينعقد النذر بكونه وصفا مرجوحا فلا يكون متعلق النذر، وقد تقدم البحث فيه. وإذا تقرر ذلك فيتفرع على لزوم المشي مسائل: أحدها: في بدأته، فإن صرح بالتزام المشي من دويرة أهله إلى الفراغ من العرف عليه، فإن من قال: حججت ماشيا أو حج فلان ماشيا فلا يفهم منه عرفا إلا مشيه في جميع الطريق والعرف محكم في مثل ذلك. وأيضا فالحج هو القصد إلى مكة ومشاعرها إلى آخره، وهو أنسب بالمعنى اللغوي، فان الاصل عدم النقل. ومع تسليمه فالنقل بمناسبة أولى منه بدونها والقصد متحقق من البلد.
(والقول الثاني) أنه من الميقات، وذلك لان قوله (ماشيا) وقع حالا من الحج لان ذلك هو المفهوم منه شرعا، فلا يجب الوصف المذكور إلا حالة الحج والاشتغال بأفعاله لان ذلك هو مقتضى الوصف كما إذا قال: ضربت زيدا راكبا، فإنه لا يفهم منه إلا ضربه حالة الركوب لا قبله ولا بعده، والاظهر الاول، وعليه دلت المعتبرة المستفيضة وقد مر ذكرها في كتاب الحج (1). وعليه فهل المعتبر في ذلك بلده أو بلد النذر ؟ قولان: من أن الالتزام المذكور وقع في بلد النذر فكان ذلك كالاستطاعة من بلده، ومن أن المتبادر عرفا من الحج ماشيا كونه من بلده، وربما قيل: يعتبر أقرب البلدين إلى الميقات، وهو حسن لو لا دلالة النصوص على ما ذكرناه، وموضع البحث والاشكال ما إذا لم يقصد شيئا بخصوصه.
(1) راجع جزء 14 من الحادائق ص 223.
[ 264 ]
ثانيها: اختلفوا في نهايته أيضا إلى قولين:
(أحدهما) وهو المشهور بين الاصحاب أنه طواف النساء لان به يحصل كمال التحلل لانه باق في أعمال الحج ما بقيت عليه علقة الاحرام، ثم له الركوب بعد ذلك وإن كان قد بقي عليه الرد (1) في أيام منى لخروجها من الحج خروج التسليم الثاني في قول.
(والثاني) إلى تمام الافعال التي آخرها الرمي وإن كان بعد التحلل، لان الحج اسم لمجموع المناسك وهو من جملتها على القول بوجوبها كما هو المشهور، لما قد تقدم من أن المنذور هو الحج في حالة المشي، والمركب لايتم إلا بتمام أجزائه كما هو واضح. وتؤيده صحيحة إسماعيل بن همام (2) عن أبي الحسن الرضا عليه السلام (قال: قال أبو عبد الله عليه السلام في الحج: إذا رمى الجمار زار البيت راكبا وليس عليه شئ). وهي ظاهرة في أن المراد رمي جميع الجمار وهو لا يحصل إلا بعد التحلل والعود إلى منى، لان زيارة البيت لطواف الحج إنما يكون بعد رمي جمرة العقبة خاصة، هذا إذا اريد بالجمار محل الرمي. وان اريد بها الحصى المرمى بها فقد وقعت في الحديث جمعا معرفا فتفيد العموم لانها من صيغة كما برهن عليه في الاصول، فلا يصدق إلا بتمام الرمي. وحيئنذ فتحمل زيارة البيت فيها على طواف الوداع ونحوه، ولو حمل على أن المراد بزيارة البيت طواف الحج – بناء على أنه المتعارف في الاخبار – كان دالا على الاكتفاء بالتحلل الاول في سقوط المشي وهو كونه خلاف الظاهر في رمي الجمار مخالف للقولين معا، نعم هو قول لبعض العامة، والاول هو الاصح عندهم أيضا، والثاني لا يخلو من قوة.
(1) كذا في النسخة والظاهر أن الصحيح (الرمى). (2) الكافي ج 4 ص 457 ح 7، الوسائل ج 8 ص 62 ب 35 ح 3.
[ 265 ]
وثالثها: لو فاته ذلك الحج، المنذور ماشيا – ثم من المعلوم أن من فاته الحج يحتاج إلى بقاء الحج ليتحلل بأعمال العمرة – فهل يلزمه المشي في تلك الاعمال ؟ فيه وجهان:
(أحدهما) نعم، لان هذه الاعمال لزمته بالاحرام أن يكون ماشيا ويبنى الحج على تمام ما وقع الشروع فيه بصفاته.
(والثاني) لا يجب القضاء ماشيا لانه خرج بالفوات عن أن يكون حجة المنذور ولذلك وجب القضاء، وإذا خرج عن أن يكون هو المنذور ثبت أن يكون يلزمه فيه المشي، وهذا أظهر. ولو فسد الحج بعد الشروع فيه فهل يجب المشي في بقية الفاسد ؟ وجهان، والاقوى وجوبه لانه هو المنذور كما دلت عليه موثقة زرارة (1) في أنه إذا فسد حجه كان ذلك الفاسد هو فرضه فيكون المنذور بعينه باقيا.
التاسعة: لو حج هذا الناذر راكبا مع القدرة على المشي بعد انعقاد نذره فقد أطلق المحقق – رحمه الله – وجماعة وجوب الاعادة عليه، وهو شامل بالاطلاق لما لو كان معينا بسنة مخصوصة أو مطلقا. ووجهه: أنه قد التزم العبادة على صفة مخصوصة ولم يأت بها على تلك الصفة مع القدرة، فما قد أتى به من الحج لم يقع عن نذره لان المنذور هو الحج ماشيا ولم يفعله. وربما قد علل بوجه آخر وهو: أنه قد أوقع أصل الحج إلا إنه بقي المشي واجبا عليه ولا يمكنه تداركه مفردا فالزم بحجة اخرى كي يتدارك فيها المشي، إذ لا يشرع المشي عبادة برأسه. وقيل: إن كان ذلك النذر، معينا بنية معينة وجب قضاؤه بالصفة والكفارة لاخلاله به من القدرة، وإن كان قد أطلق وجب إعادته ماشيا. (أما الاول) فللاخلال بالمنذور في وقته وهو عبادة تقضى بأصل الشرع بمعنى أنها تتدارك حيث
(1) راجع الوسائل ج 9 ص 257 ب 3 ح 4.
[ 266 ]
لا تقع الاولى على وجهها، فكذا مع وجوبها بالعارض لاشتراكهما في معنى الوجوب فتجب الكفارة للاخلال.
(وأما الثاني) فلانه لم يأت المنذور على وصفة ووقته غير معين فيتدارك مع إمكانه وبقاء وقته فكأنه لم يفعله أصلا، وهذا أقوى. ومال المحقق – رحمه الله – في المعتبر إلى صحته مع التعيين وإن وجبت الكفارة من حيث إن المنذور في قوة سنن الحج والمشي، فإذا أتى بهما خاصة برئت ذمته منه ولم يبق سوى الاخر، والحج هنا قد أتى به حقيقة، فالمتروك هو المشي وليس هو جزء من الحج ولا شرطا فيه وإنما هو واجب منه خارج عنه، ولا طريق إلى قضائه مجردا لعدم التعبد به شرعا منفردا، فقد تحققت المخالفة للنذر في الجملة فلزمه الكفارة لاجلها، وهذا يتوجه إذا نذر الحج والمشي من غير أن يتقيد أحدهما بالاخر في قصده وأياما كان فالاظهر من هذه الاقوال التفضيل، ولو ركب بعضا قضى الحج ومشى ما ركب. وقيل: إن كان الحج المنذور مطلقا أعاد ماشيا، وإن كان معينا لسنة معينة لزمه كفارة خلف النذر، والاول هو المروي كما تقدم في الحج وهو المشهور بين الاصحاب. والقول الثاني لابن أدريس وعليه المتأخرون، واستظهر ثاني الشهيدين لكنه في السرائر أطلق في المعينة بالصحة ووجوب الكفارة، فيحتمل أن يكون لاجل فوات الصيغة مع صحة الحج كما حكيناه عن المحقق في المعتبر، ويحتمل كونه مع إعادته كما صرح به جماعة. ويؤيد الاول ما ذكرناه فيما مضى أن الاخلال بالمنذور عمدا يوجب الحنث والاخلال بالنذر كاليمين فلا يجب القضاء بفوات وقت المعين، وإلحاق الموقت بالنذر بالموقت بأصل الشرع قياس لانقول به.
والعاشرة: لو عجز الناذر عن المشي انتقل إلى الركوب، وإذا حج راكبا فهل يجب عليه جبره بسياق بدنة ينحرها بمكة أو بمنى ؟ أقوال: (أحدها) عدم وجوبها، ذهب إليه المحقق وابن الجنيد – رحمه الله – وأكثر
[ 267 ]
المتأخرين للاصل وسقوط وجوب المشي بالعجز عنه فلا يجب بدله، فمن نذر أن يصلي قائما فعجز فإنه يصلي قاعدا بغير جبر اتفاقا. ولما روي (1) عن النبي صلى الله عليه واله (أمر رجلا نذر أن يمشي في حج أن يركب فركب وقال: إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه، ولم يأمره صلى الله عليه واله بسياق). ولصحيحة محمد بن مسلم (2) عن أحدهما عليهما السلام (حيث سأله عن مثله فأجابه بذبح بقرة، فقال له: أشي واجب ؟ قال: لا، من جعل لله شيئا فبلغ جهده فليس عليه شئ).
(والقول الثاني) أنه يسوق بدنة وجوبا، وهو قول الشيخ – رحمه الله – في الخلاف والنهاية، ولما روي من طريق العامة (3) (أن اخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية فسئل النبي صلى الله وعليه واله فقيل: إنها لا تطيق ذلك، فقال: فلتركب ولتهد بدنة). وصحيحة الحلبي (4) عن الصادق عليه السلام (أنه قال: أيما رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله فعجز عن أن يمشي فليركب ويسق بدنة إدا عرف الله منه الجهد) ولوجود عدة من الاخبار الصحيحة المعتبرة بالاذن له بالركوب لعدم التعرض للبدنة، لكنها لا تنفي الوجوب بعد دلالة هذه الصحيحة عليه. والفرق بين الحج والصلاة أن لا مدخل فيها للجبر بالمال بخلاف الحج وجماعة من المتأخرون حملوا الخبر المذكور وما ضاهاه بالجبر على الاستحباب جمعا بينه وبين الخبر السابق، وهو حسن لكشف الصحيحة السابقة عنه، فتخلو تلك المعتبرة عنه بالكلية.
(1) صحيح البخاري ج 8 ص 177 ب 29 ح 2 وفيه (لغنى). (2) وسائل الشيعة ج 16 ص 193 ب 8 ح 5. (3) سنن أبى داود ج 3 ص 234 ح 3296 وفيه اختلاف يسير. (4) التهذيب ج 8 ص 315 ح 48، الوسائل ج 16 ص 243 ب 20 ح 1.
[ 268 ]
(والقول الثالث) أنه إن كان مطلقا توقع المكنة وإن كان معينا بسنة معينة سقط الحج أصلا للعجز عن المنذور، فإنه الحج ماشيا لا الحج مطلقا، فيسقط وجوبه لاستحالة التكليف بما لا يطاق، وهو قول إدريس في سرائره والعلامة في كتاب الحج من القواعد، واختار في كتاب النذر منها سقوط الوصف خاصة، وهو الاقوى لما مر. ولصحيحة محمد بن مسلم (1) عن أحدهما عليهم السلام (قال: سألته عن رجل جعل عليه مشيا إلى بيت الله فلم يستطع، قال: يحج راكبا). وصحيحته الاخرى (2) (قال: أبا جعفر عليه السلام عن رجل جعل عليه المشي إلى بيت الله فلم يستطع، قال: فليحج راكبا). وصحيحة رفاعة وحفص بن البختري (3) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نذر أن يمشي إلى بيت الله حافيا، قال: فليمش فإذا تعب فليركب). وصحيحة السندي بن محمد (4) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قلت له: جعلت على نفسي مشيا إلى بيت الله، قال: كفر عن يمينك فإنما جعلت على نفسك يمينا فما جعلته لله فأوف به). وهذا يجب حمله مع القدرة. ومعتبرة إسحاق بن عمار (5) عن عنبسة بن مصعب (قال: نذرت في ابن لي إن عافاه الله أن أحج ماشيا، فمشيت حتى بلغت العقبة فاشتكيت فركبث ثم وجدت راحة فمشيت، فسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فقال: إني احب إن كنت مؤسرا أن تذبح بقرة، فقلت: معي نفقة ولو شئت أن أذبح لفعلت: فقال: إني احب أن
(1) الگافى ج 7 ص 458 ح 20، الوسائل ج 16 ص 230 ب 8 ح 1. (2) الكافي ج 7 ص 458 ح 21، الوسائل ج 16 ص 230 ب 8 ح 3. (3) الكافي ج 7 ص 458 ح 18، الوسائل ج 16 ص 230 ب 8 ح 2. (4) الكافي ج 7 ص 458 ص 18 وفيه (عن صفوان الجمال عن أبى عبد الله)، الوسائل ج 16 ص 231 ب 8 ح 4 وفيهما (فف به). (5) التهذيب ج 8 ص 313 ح 40، الوسائل ج 6 ص 232 ب 8 ح 5.
[ 269 ]
كنت مؤسرأ أن تذبح بقرة، أشئ واجب أفعله فقال: لا، من جعل لله شيئا فبلغ جهده فليس عليه شئ). وأعلم أن المحقق – رحمه الله – وجماعة قد أطلقوا الحج راكبا مع السياق وعدمه من غير فرق بين المعين والمطلق. ويظهر من الشهيد في شرح الارشادأن مراده الاطلاق لانه ذكر التفصيل قولا لابن إدريس وهو أن النذر إن كان معينا سنة حج راكبا لتعذر الصفة. ويبقى الكلام في الجبر وجوبا أو استحبابا أو عدمه، فإن كان مطلقا توقع المكنة إلى أن يضيق وقته لظن استمرار العجز فيكون الحكم كالمعين، وبذلك صرح العلامة في كتبه واستحسنه ثاني الشهيدين. والمدار على ما دلت عليه تلك الاخبار من وجوبه راكبا واستحباب الاخبار بالبدنة والبقرة. أما لو نذر أن يحج راكبا فمشى، فإن جعلناه أفضل من المشي مطلقا أو في حق الناذر فلا بحث في انعقاده لانه حينئذ عبادة راجحة وطاعة مقصودة، فإذا أوجبها على نفسه بالنذر لزمت كما نذر ماشيا على القول بأفضليته، وإن جعلنا المشي أفضل مطلقا أو في حق الناذر في انعقاد نذر الركوب خلاف إلى قولين:
أحدهما: عدم الانعقاد، لان الركوب حينئذ مرجوح فلا يتم كونه طاعة فلا ينعقد الوصف لكن ينعقد أصل الحج، وحينئذ يتخير بين الحج راكبا وماشيا، وبهذا قطع العلامة في القواعد.
والثاني: الانعقاد، وهو مذهب المحقق – رحمه الله – واستقر به العلامة في التحرير وجماعة من المتأخرين لان المنذور ليس هو الركوب المرجوح خاصة بل الحج راكبا، ولا شبهة في أن الحج راكبا فرد من أفراد العبادة الراحجة بل من أحسنها، فما المانع من انعقادة ؟ وأيضا فإن الركوب ليس مرجوعا مطلقا
[ 270 ]
بل بالنسبة إلى المشي على هذا القول، وإلا فهو عبادة لما فيه من تحمل المؤونة والاتفاق في سبيل الله وإراحة البدن – إذ الاغلب فمن يتعقب (1) الشؤم وسوء الخلق – ومثل هذا أمر مطلوب للشارع وإن كان غيره أرجح منه، إذ لا يتوقف انعقاد النذر على كون المنذور به أعلى مراتب العبادات. وأيضا فقد تقدم في كتاب الحج عن جماعة من المعتد بكلامهم ودلت عليه أخبار معتبرة أن الركوب قد بلغ من المزية إلى أن قالوا بأفضليته، فلا أقل من أن يكون عبادة في الجملة، وهذا أقوى، وحينئذ فيتعين بالنذر فيلزم بمخالفته الكفارة إذا كان معينا، والاعادة في المطلق على نحو ما تقرر في نذر المسمى بعينه. وإذا نذر المشئ وكان في السفينة والمعبر فالشيخ وجماعة منهم المحقق في كتاب الحج إلى أنه يقف يدل المشي استنادا إلى رواية السكوني (2) (أن عليا عليه السلام سئل عن رجل نذر أن يمشي إلى البيت فمر بالمعبر، قال: ليقم حتى يجوزة). وعلل مع ذلك بأن الواجب على تقدير المشي القيام مع حركة الرجلين فإذا انتفى الثاني لعدم الفائدة بقي الاول. وضعف بضعف الرواية وحمل المشي على المعهود وهو منتف في موضع العبور عادة، وكما سقط الامر الثاني لانتفاء الفائدة فكذلك الاول، فعدم الوجوب أصح، وحمل الخبر المذكور على الاستحباب خروجا من خلاف هؤلاء الجماعة وللتساهل في أدلة السنن وإن كان فيه ما فيه. ويسقط المشي عن ناذره بعد طواف النساء كما تقدم لانه يتم به التحليل من الحج، وقد مضى البحث فيه مقررا بما لا مزيد عليه. أما لو كان النذر للعمرة وجب عليه المشي إلى آخر أفعالها اتفاقا، إذ ليس لها إلا محلل واحد وبه يتم بأفعالها.
(1) كذا في النسخة، والظاهر أنه تصحيف (فمن يتعب). (2) الكافي ج 7 ص 455 ح 6، الوسائل ج 8 ص 64 ب 37 ح 1.
[ 271 ]
الحادية عشرة: لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام انصرف إلى بيت الله بكمة كما دلت عليه تلك النصوص المستفيضة. وكذا لو قال: إلى بيت الله بدون الوصف كما هو مذهب المشهور لان إطلاقه عليه أغلب، بل هو المتبادر من قولهم: فلان زار بيت الله وقاصد إلى بيت الله وشبه ذلك. والقول الثاني البطلان، وهو قول الشيخ – رحمه الله – في الخلاف لاشتراك جميع المساجد في كونها بيت الله ولم يعين أحدها فيبطل ويضعف بمنع اشتراكهما في ذلك عند الاطلاق، ولو سلم يجب أن لا يبطل بل يجب عليه الاتيان أي مسجد شاء، كما لو نذر أن يأتي مسجدا وحيث ينعقد النذر يجب عليه ومع الوصول إلى ميقات الحج له والعمرة كما في كل داخل عدا ما استثني كما تقدم في كتاب الحج فالمتكررين مثل الحطاب والحشاش والجلبة والداخل لقتال مشروع، فإذا كان أحدهم لم يجب عليه أحدهما، وتجب عليه صلاة ركعتين في المسجد على الاقوى لان قصد المسجد في نفسه عبادة ولانه أحد المساجد التي تشد إليه الرحال بمجرد القصد إليه، ولاطلاق جملة من الادلة تقدمت في أحكام المساجد من النبوية وغيرها حيث قالوا عليهم السلام (1) (من مشى إلى مسجد لم يضع رجله على رطب ولا يابس إلا سبحت إلى الارضين السابعة). إلى غير ذلك من الاخبار الحادثة على الاختلاف إلى المساجد. أما لو قال في نذره: فلله علي أن أمشي إلى بيت الله لاحاجا ولا معتمرا، ففيه خلاف، فقيل: ينعقد بصدر الكلام ويلغى الضميمة. وقال الشيخ: يسقط النذر. واستشكل الحكم المحقق في شرائعه، ووجه الاشكال ناش عن كون قصد بيت الله طاعة فينعقد، ومن أن قوله (أمشي بيت الله الحرام) يقتضي كونه حاجا، فقوله بعده (لاحاجا ولا معتمرا) يقع لغوا بوجوب أحدهما من أول الكلام، فلا يفيده الرجوع عنه بعد تمام النذر.
(1) التهذيب ج 3 ص 255 ح 26 وفيه (الى الارض السابعة) الوسائل ج 3 ص 482 ب 4 ح 1 وفيهما (لم يضع رجلا – الا سبحت له الارض).
[ 272 ]
وقوى الشيخ في المبسوط بطلان ذلك النذر، بناء على أن المشي إليه بغير أحد النسكين غير مشروع بل ولا جائز، فلا ينعقد نذره والكلام لا يتم إلا بآخره، فيكون بقيده الاخير قد نذر ما ليس بطاعة. والمحقق – رحمه الله – استشكل ذلك بأن القصد إلى بيت الله في نفسه طاعة كما سمعت من تلك الادلة وإن لم يضم إليه أحد النسكين، ووجوب أحدهما عليه أمر خارج يلزم بالدخول للناذر وغيره، وإنما يجب عليه بعد بلوغ الميقات ولا ينافي تركهما صحة النذر، غاية الامر أن يقضي بتركهما من حيث مجاوزته للميمقات بغير إحرام لا من حيث النذر. وفيه: أن المنذور هولقاء البيت مقيدا له بكونه غير محرم بأحدهما وذلك معصية محضا فلا ينعقد، وكون وجوب الاحرام طارئا على النذر إنما ينفع لو لم يقيد ذلك النذر بصفة محرمة، أما معه فلا، لانه بدونها غير مقصود، وبها غير مشروع، فالقول بعدم الانتعاقد قوي، نعم لو قصد بقوله ” لا حاجا ولا معتمرا أن أحدهما غير منذور وإنما المنذور والمشى إلى بيت الله تعالى من غير أن ينفى فعل أحدهما بفعل النذر اتجه ما كره المحقق – رحمه الله – وانعقد النذر وإن وجب عليه أحدهما عند بلوع الميقات لا من حيث النذر بل من تحريم مجاوزة الميقات من غير إحرام بأحدهما مع وجوب مجاوزته للقاء البيت، وهذا كله في حق غير من يجوز له دخول الحرم غير محرمين، وإلا فلا شبهة في انعقاد النذر لانتفاء المعصية به حيئنذ. ولو قال: أن أمشي واقتصر على ذلك، فإن قصد موضعا في نيته انصرف إلى ما قصده، وإن لم يقصد لشئ لم ينعقد نذره المشي مطلقا ليس طاعة في نفسه، وحيئنذ فيقع لغوا. وإنما ينعقد إذا المشي في أمر راجح كالمشي إلى المسجد وقضاء حاجة مؤمن أو في جنازته وعيادة مريض ونحو ذلك. وإن أطلق اللفظ ولم يقيده بالنية بأحد هذه الطاعات لم ينعقد لان المنذور حيئنذ ليس
[ 273 ]
سوى مجرد المشئ، وليس هو بطاعة في نفسه وإنما يصير عبادة بجعله وسيلة ومقدمة إلى طاعة لا مطلقا.
الثانية عشرة: لو نذر: إن رزق ولدا يحج به أو يحج عنه ثم مات الناذر حج بالولد أو عنه من صلب ماله. والاصل في هذه المسألة خبر مسمع بن عبد الملك (1) الحسن (قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: كانت لي جارية حبلى فنذرت لله عزوجل إن ولدت غلاما أن أحجه أو أحج عنه، فقال: إن رجلا نذرلله عزوجل في ابن له إن هو أدرك أن يحجة أو يحج عنه، فمات الاب وأدرك الغلام بعد، فأتى رسول الله صلى الله وعليه واله ذلك الغلام فسأله عن ذلك فأمر رسول الله صلى الله وعليه واله أن يحج عنه بما ترك أبوه). ولان ذلك طاعة مقدورة للناذر فتستكمل الشرائط فينعقد نذرها، إلا أن مقتضى هذه الصيغة كون الناذر مخيرا بين أن يحج بالولد وبين أن يستنيب من يحج عنه، فإن اختار الثاني نوى النائب الحج عن الولد كما هو مقتضى النذر، وإن أحج الولد قبل عن نفسه إن كان مميزا، وإلا أجزأ الولد ما أوقعه من صورة الحج به كما لو صحبه في الحج تبرعا، وقد تقرر كيفية ذلك في بابه. ولو أخر الاب الفعل إلى أن بلغ الولد، فإن اختار الحج عنه – كما هو أحد شقي النذر – لم يجزه عن حجة الاسلام، وإن أحجه أجزأه لان ذلك بمنزلة الاستطاعة بالبذل المنذور. ولو اتفق موت الاب قبل فعله أحد الامرين، فإن كان موته قبل أن يتمكن من فعل أحدهما سقط النذر، وإن كان بعده تحتم قضاؤه من أصل تركته لكونه حقا ماليا تعلق بتركته، وهو مدلول الرواية، ويتخير الوصي لقيامه مقام الناذر حينئذ بين الحج بالولد والحج عنه كما كان ذلك للاب، ولو اختلفت الاجرة كما لو مات وعليه كفارة مخيرة فيخرج عنه أقل الامرين إن لم يتبرع الوارث بالازيد.
(1) الكافي ج 7 ص 459 ح 25، الوسائل ج 16 ص 198 ب 16 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.
[ 274 ]
وظاهر هذا الحسن بقاء التخيير من غير تقييد بذلك، وليس منافيا لما سبق لانه فرضها هاهنا فيما لو كان قد أدرك الولد وأمر بالحج عنه بما ترك أبوه فجاز كونه الفرد المعتبر إخراجه، ولانحصار الوارث في الابن ورضاه، أو غير ذلك من المحتملات. ولو فرض اختيار الولد الحج عن نفسه بالمال صح أيضا وأجزأه على تقدير استطاعته عن فرضه لان متعلق المال حجة عن نفسه، وذلك لا ينافي كونه حجة الاسلام. أما لو مات الولد قبل أن يفعل أحد الامرين بقي الفرد الاخر – وهو الحج عنه – سواء كان موته قبل أن يتمكن من الحج بنفسه أم لا، وذلك لان النذر ليس بمحضر في حجه حتى يلاحظ تمكنه في وجوبه. نعم لو كان موته قبل أن يتمكن الاب من أحد الامرين احتمل السقوط رأسا لفوات متعلق النذر قبل التمكين منه لانه أحد الامرين والباقي منهما غير أحدهما الكلي، وهذا خيرة الشهيد الاول في الدروس. ولو قيل هنا بوجوب الحج عنه كان قولا وجيها لان الحج عنه متعلق النذر أيضا، وهو ممكن. ونمنع اشتراط القدرة على جميع الافراد المخيرة بينها في وجوب أحدهما، كما لو نذر الصدقة بدرهم فإن متعلقه أمر كلي، فهو مخير في الصدقة بأي درهم اتفق من ماله، فلو اتفق ذهاب ماله إلا درهما واحدا وجبت الصدقة به لانحصار الكلي فيه.
الثالثة عشرة: لو نذر أن يحج ولم يكن له مال فحج نائبا عن غيره أجزأ عنهما على قول الشيخ – رحمه الله – وجماعة، استنادا إلى صحيحة رفاعة (1) وما ضاهاما من الاخبار وقدمت في كتاب الحج (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل حج عن غيره ولم يكن له مال وعليه نذر أن يحج ماشيا أيجزي عنه ؟ قال: نعم).
(1) التهذيب ج 8 ص 315 ح 50، الوسائل ج 16 ص 244 ب 21 ح 1 وفيهما (أيجزى عنه من نذره).
[ 275 ]
وخالف الاكثر قذهبوا إلى عدم الاجزاء لانهما سببان مختلفان، والاصل عدم التداخل، فلا يجزي أحدهما عن الاخر. والمحقق في الشرائع قد تردد في الحكم لصحة الرواية ومخالفتها للقواعد الشرعية، فحملها علامة المختلف فيه على ما إذا عجز عن أداء ما نذره واستمر عجزه. وفيه نظر، لانه مع غيره عن المنذور واستمرار عجزه يسقط النذر، وحملت أيضا على ما كان المنذور الحج مطلقا عنه أو عن غيره بمعنى أنه قصد ذلك، وهذا وإن كان أولى لكن ظاهر الرواية يأباه، لانه على تقدير فصده ذلك لا يتقيد إجزاء حج النيابة عن النذر بعدم قدرته على مال بحج به عن النذر الذي هو مفروض الرواية، إلا أن يكون الفرض بيان الواقع فلا ينافي غيره.
الرابعة عشرة: إذا نذر أن يهدي بدنة وأطلق انصرف ذلك الاطلاق إلى الكعبة لان الاستعمال الظاهر في عرف الشرع، ولو نوى منى ألزم. ولو نذر الهدي إلى غير الموضعين لم ينعقد لانه ليس بطاعة وكما ينصرف هذا الاطلاق بالنسبة إلى الموضعين كذلك ينصرف الاطلاق بالنسبة إلى المهدى إلى أحد النعم، وله أن يهدي أقل ما يسمى من النعم هديا. وقيل: كان له أن يهدي ولو بيضة. وقيل: يلزمه ما يلزمه في الاضحية، والاول هو المشهور وهو الاشبه بالمذهب والاخبار. وتحرير هذه الصور والمسائل المذكورة هو أنه إذا نذر أن يهدي فإما أن يعين الهدي كقوله: بدنة أو بقرة أو نحو ذلك أو يطلق، وعلى التقديرين إما أن يعين المكان المهدي فيه أو يطلق، فالصور أربع:
الاولى: أن ينذر هديا معينا كالبدنة ثم يعين مكانها، فإن كان المعين مكة ومنى تعين إجماعا لانها محل الهدي شرعا، وإن كان قد عين غير هما ففيه خلاف وسيأتي بيانه.
وثانيها: أن يعين الهدي ولا يعين المكان، فينصرف ذلك الاطلاق إلى مكة
[ 276 ]
لانها المحل شرعا. قال الله تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق) (1) وقال تعالى (هديا بالغ الكعبة) (2). وفي صحيح محمد بن مسلم كما في التهذيب (3) عن الباقر عليه السلام (في رجل قال عليه بدنة ولم يسم أين ينحر ؟ قال: إنما المنحر بمنى يقسونها بين المساكين). وعمل الاصحاب على الاول إلا إذا سمى منى ولو بالقصد فينصرف إليها الاطلاق، وإلا فلا، والرواية كما ترى، والطعن فيها باشتراك محمد بن مسلم وغيره في غيره محله لان القرينة القبلية والبعدية عينته. وثالثها: أن يطلق الهذي والمكان فيقول: لله علي أن أهدي فعلام يحمل ؟ فيه قولان:
(أحدهما) وهو المشهور بين الاصحاب أن يحمل على النعم لكونه الهدي شرعا، فيحمل اللفظ على المعنى الشرعي كما لو نذر الصلاة. ثم على هذا القول هل يعتبر في الحيوان المذكور أن يكون في السن والصفات والسلامة من العيوب بحيث يجزي في الاضحية ؟ أم يكتفي بمطلق الحيوان بحيث يقال عليه الهدي شرعا ؟ قولان، اختار المحقق الثاني نظرا إلى صدق الاسم ولاصابة البراءة من الزائد. وذهب الشيخ في أحد قوليه إلى الاول واستدل عليه في الخلاف بالاجماع من الامة المحقة كما هي الطريقة المستعملة عنده، وقد يوجه بأن الهدي شرعا عبارة عن ذلك فيجب حمل اللفظ عليه كما حمل على كونه من النعم. ويفهم من اختيار المحقق من الاجزاء بما يسمى هديا من النعم وجعله مقابلة للقول باشتراط شروط الهدية أن المراد بالهدي هنا غير الهدي المعتبر في الحج، وإلا لاتحد القولان المعتبر في الاضحية من الشرائط هو بعينه المعتبر
(1) سورة الحج – آية 33. (2) سورة المائدة – آية 95. (3) التهذيب ج 8 ص 314 ح 44، الوسائل ج 16 ص 194 ب 11 ح 1 وفيهما اختلاف يسير.
[ 277 ]
في الهدي من السن والسلامة من العيوب وغيرها. والمشهور بين أصحابنا في المسألة أن من قال بوجوب الهدي من النعم اعتبر فيه شروط الاضحية وجعله مقابلا للقول الثاني لاغير.
(والقول الثاني) في المسألة هو الاجتزاء بكل منحة حتى الدجاجة والبيضة والتمرة وغيرها مما يسمى مالا، لان اسم الهدي يقع على الجميع لغة وشرعا، يقال: أهدى بيضة وتمرة، وقال تعالى (يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة) وقد يحكمان يقيمة عصفور أو جرادة، قال صلى الله وعليه واله كما روته العامة (2) في صحاحهم في حديث الذهاب إلى الجمعة (ومن راحت السادسة الخامسة فكأنها أهدى بيضة) وهذا اختيار شيخ المبسوط مع أنه في الخلاف قد نقل الاجماع والوفاق على القول الاول. وهذا الاستدلال ضعيف جدا لان الاية مقيد بكونه من النعم فلا إطلاق ولا تعميم فيها. وأما الحديث فمع الاغماض عن كونه عاميا فهو من باب المجاز بقرينة ذكر المهدى وهو البيضة. ثم على القول الاول فمحله مكة كما مر، وعلى الثاني وجهان:
(أحدهما) أنه كذلك نظرا إلى اطلاق اسم الهدي.
(والثاني) جوازة في أي موضع شاء للاصل ولكونه بمنزلة المنحة والهدية، ولهذا لم ينحصر في النعم فيصح في غير مكة.
رابعها: أن يطلق في الهدي ويعين المكان، والكلام هنا في الهدي كما سبق، وأما المكان فإن جعله مكة أو منى فلا إشكال في انعقاده وتعينه وإن عينه غيرهما فسيأتي الخلاف فيه.
الخامسة عشرة: لو نذر أن يهدي إلى بيت الله الحرام دون النعم كان موضع خلاف في الانعقاد وعدمه، فالقدماء كابن الجنيد وابن أبي عقيل والقاضي ابن البراج على عدم الانعقاد لانه لم يتعبد بالاهداء إلا بالنعم، فيكون نذرا
(1) سورة المائدة – آية 95. (2) صحيح البخاري ج 2 ص 3 ب 4 ح 1 وفيه اختلاف يسير.
[ 278 ]
بغير المتعبد به فيبطل. ويدل عليه خبر أبي بصير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيه (فإن قال الرجل: أبا أهدي هذا الطعام فليس بشئ إنما هدى البدن). وطعن فيها بعد ضعف السند بعلي بن أبي حمزة البطائني بحصره الاهداء في الحصر الاضافي نظرا إلى الفرد الكامل، لان الله تعالى قد عبر بها في قوله (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) (2) وكثيرا ما يرد الحصر بهذا المعنى. والقول الاخر وهو المشهور بين المتأخرين وهو الانعقاد، وعلى هذا القول قد دل صحيح علي بن جعفر (3) (قال: سألته عن رجل جعل جاريته هديا للكعبة كيف يصنع ؟ قال: إن أبي أتاه رجل جعل جاريته هديا للكعبة فقال: من مناديا يكون على الحجر فينادي: ألا من قصرت به نفقته أو قطع به أو نفد طعامه فليأت فلان بن فلان ومره أن يعطي أولا فأولا حتى ينفذ ثمن الجارية). ولا خصوصية للجارية فيكون غيرها بمنزلتها لعدم الفارق بل للاجماع على عدمه. وقد رجح هذا القول في المختلف والتحرير وولده في إيضاح الفوائد وأول الشهيدين في الدروس وجعله ثانيهما الاصح كما في المسالك والروضة. والمحقق وجماعة قد خصوا مورد الخلاف بما إذا نذر أن يهدي غير النعم وغير عبده وجاريته ودابته، فإن نذر أن يهدي دراهم أو دابة أو طعاما أو نحو ذلك وإلا فالاول لا يبطل إجماعا والثاني وهو الثلاثة المذكورة تباع قطعا وتصرف في مصالح البيت وفي معونة الحاج أو الزائرين إن كان النذر لاحد المشاهد. وتنظر في هذا الكلام والتفصيل ثاني الشهيدين في المسالك.
(1) التهذيب ج 8 ص 303 ح 3، الوسائل ج 16 ص 183 ب 1 ح 3 وفيهما اختلاف يسير. (2) سورة الحج – آية 36. (3) الكافي ج 4 ص 242 ح 2، الوسائل ج 9 ص 354 ب 22 ح 7 وفيهما (فقال له: قوم الجارية أو بعها ثم مر مناديا يقوم على الحجر – أو قطع به طريقة أو نفد به طعامه).
[ 279 ]
وأما صرفه بعد بيعه إذا كان من غير النعم فهو ما اشتمل عليه صحيح علي ابن جعفر المتقدم. ووقع في رواية اخرى لعلي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام كما في تهذيب (1) (قال: سألته عن الرجل يقول وهو ينذر للكعبة بكذا وكذا ما عليه إذا كان يقدر على ما يهدي ؟ قال: إن كان جعله نذرا ولا يملكه فلا شئ عليه، وإن كان مما يملكه غلام أو جارية أو شبهه باعه واشترى بثمنه طيبا يطيب به الكعبه). لكن في قوله (أو شبهه) يقيد زيادة على الثلاثة، وفي إخراجه الدابة من الحكم وحكمه على عدم لزوم شئ على تقديرها مخالفة للجميع، وفي طريقها محمد بن عبد الله بن مهران وهو ضعيف جدا، وبها احتج بعضهم للقول – المجهول قائله – وهو بيعه وصرفه في مصالح البيت، لكنها قاصرة عن دلالته من حيث تخصيصها الحكم بما ذكر فيها – أعني تطيب الكعبة به – كأنه لا ينطبق على أحد الاقوال فلا يعتمد عليها شئ من الاستدلال، ولو نذر نحر الهدي بمكة فلا إشكال في وجوبه وتعينه. واختلف في وجوب التفرقة بها فقال الشيخ – رحمه الله – في المبسوط وأكثر المتأخرين: نعم لان إطلاق الهدي يقتضي ذلك، قال الله تعالى (هديا بالغ الكعبة) ولان المقصود من الذبح والنحر ذلك التفريق وإلا لم يصح النذر إذ لا فائدة ولا أدب في جعل الحرم مجزرة دون الصدقة فيه على مساكينه. وقيل: يقتصر على الذبح أو النحر وهو المنذور، وهو اختيار العلامة في المختلف، والاصل براءة الذمة من وجوب شئ آخر غير ما نذره ويمنع من كون النحر والذبح نفسه ليس بطاعة في ذلك المكان، ولهذا لا يجزي من نذر الهدي أن يتصدق به حيا كالهدي الواجب في الحج بالاصل لان في ذبحه قربة وله نية برأسه.
(1) التهذيب ج 8 ص 310 ح 27، الوسائل ج 16 ص 242 ب 18 ح 1 وفيهما (هو يهدى الى الكعبة كذا وكذا – ما يهديه مما يملك غلاما – فيطيب).
[ 280 ]
أما لو نذر النحر أو الذبح بغير مكة أو منى أو سائر الارض ففي انعقادة قولان أحدهما – وهو قول الشيخ في المبسوط – ينعقد لعدم التعبد بذلك شرعا، ولان متعلق النذر طاعة ولا طاعة في غير البلدين، وقوى المحقق الانعقاد، وهو اختيار الشيخ في الخلاف لعموم الامر بالوفاء بالنذر وخصوص صحيح محمد ابن مسلم (1) عن باقر عليه السلام (في رجل قال عليه بدنة ينحرها بالكوفة، قال: إذا سمى مكانا فلينحر فيه) وبهذا يظهر قوة هذا القول. وقد يستدل به على ما ذهب إليه أول الشهيدين وجماعة من انعقاد نذر المباح، لان الذبح في غير البلدين ليس طاعة بمجرده إلا أن يجعل نذر المكان وقع تابعا مع خروجه في الحقيقة – كما تقرر فيما سبق – وهل يلزمه مع ذلك تفرقته في فقراء تلك البقعة أم لا ؟ قولان، المحقق وجماعة على وجوب تلك التفرقة، محتجين بأن المقصود من الذبح أو النحر ذلك، ويشكل بما مر من قريب من أنه ليس بمنذور، ولا لازم له، فله التفرقة أينما شاء كما هو خيرة المختلف، نعم لو ذل العرف على التفرقة فيه وجب المصير إليه. ولو نذر الذبح أو النحر مطلقا فالخلاف الخلاف، فعلى الانعقاد يجزيه الفعل مطلقا. ولو نذر أن يهدي بدنة، فإن نوى كونها من الابل لزم، وكذا لو لم ينو لانها عبارة عن الانثى من الابل، كما نص عليه أهل اللغة، وليس في العرف ما يخالفه. نعم قد ذهب بعض العامة إلى أن اسم البدنة يقع على اسم الغنم والبقر والابل جميعا، فإذا نوى شيئا منها بعينه فذاك، وإلا كان له الخيار. وله قول آخر أنه يتخير بين كونها من الابل وبين بقرة أو سبع شياه، لان المعهود من الشرع إقامة كل منها مقام الاخر وهما في موضع المنع.
(1) التهذيب ج 8 ص 314 ذيل ح 44، الوسائل ج 16 ص 233 ب 11 ح 1.
[ 281 ]
ولو عجز عن سبع من الغنم في مقام تعذر البدنة وقدر على بعضها فالظاهر وجوب الميسور لانه بعض الواجب فيدخل في عموم (1) (إذا امرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) بخلاف ما لو قدر على بعض البدنة أو البقرة فإن البدل يقدم على البعض لثبوته شرعا على تقدير العجز عن مجموع المبدل، وهذا مبني على ما تقرر في كتاب الحج. في هذا المحل من أن من لزمته البدنة فعجز عنها جعل عوضها عن بقرة، فإن لم يجد فسبع شياه، لكن في بدلية البقرة على هذا النحو أنه لامستند له من الاخبار، وإنما جاء في السبع الشياه وإن ضعف مستنده في الاصطلاح الجديد، ومع ذلك فمورده كفارات الصيد عند وجوب البدنة، والقصاص ليس بشئ لكنهم – قدس الله ارواحهم – يتسامحون بمثل ذلك في الاستدلال كما أو قفناك عليه غير مره.
السادسة عشرة: إذا نذر صوم سنة غير معينة كان مخيرا بين التوالي والتفرقة، هذا إن لم يشترط التتابع، وإلا وجب، وله عند الاطلاق أن يصوم اثنى عشر شهرا، والشهر إما عدة بين هلالين أو ثلاثون يوما. ولو صام شوالا وكان ناقصا أتمه بيوم بدلا عن العيد، وربما قيل بيومين، واختاره المحقق لان الشهر إما عدة بين هلالين أو ثلاثون يوما، والاول منتف هنا لكسرة بيوم العيد فينتفي الثاني. وذو الحجة يكلمه ثلاثين، فإن كان بمنى تدارك أربعة أيام مطلقا على الاول لكن شرطه عدم نقصانه وإلا كان خمسة على الاصح، ولا يجب أن يصوم متتابعا. وإن صام سنة على التوالي وجب على أن يتدارك لشهر رمضان شهرا – إن قلنا بعدم دخوله في النذر كما مر تحقيقه – والعيدين وأيام التشريق إن لم ينقص شهر العيدين وإلا أضاف إليها يومين آخرين أو يوما إن كان الناقص أحدهما.
(1) عوالي اللئالى ج 4 ص 58 ح 206.
[ 282 ]
وبقي في المسألة قولان آخران:
أحدهما: أنه إنما يخرج عن النذر بصوم ثلاثمائة وستين يوما مطلقا لان السنة تنكسر لا محالة بسبب شهر رمضان وأيام الفطر، وإذا انكسرت وجب عليه أن يعتبر العدد كانكسار الشهر.
وثانيهما: أنه إذا صام من المحرم إلى المحرم أو من شهر إلى آخر مثله عليه أن يصوم شهر رمضان عن فرضه إن لم نقل بدخوله كما تقدم بيانه، ويفطر العيدين وإيام التشريق، لكن هل يلزمه تداركها للنذر ؟ قولان:
(أحدهما) المنع لان السنة المتتابعة اسم لاثني عشر شهرا أو لئلاثمائة وستين يوما وقد صام من هذه الدة ما يجوز صومه فلا يلزمه الزيادة عليه، كما لو عين السنة.
(وثانيها) وهو الاظهر أنه يلزمه التدراك على ما الاتصال الاخر المحسوب من السنة لانه التزم صوم سنة، ولم يصح عما التزم سنة، ويخالف ما إذا كانت السنة معينه لان المعين لا يبدل والمطلق يبدل كما في نظائره من العقود. ولو أفطر بغير عذر وجب الاستئناف هنا قولا واحدا، بخلاف الحالة السابقة وهي السنة المعينة، فإن فيها يأمن من الخلاف. والفرق بينهما أن جميع أجزائها معين فلا يزول تعيينه بهذا الاخلال، بخلاف المطلقة فإن المعتبر المكلف به إيقاع مجموع العدد بحيث يكون متتابعا على وجه يمكن، فإذا أخل بالوصف وجب عليه استدراك جميع المنذور متصفا بذلك الوصف تحصيلا للشرط الممكن واعلم أن المحقق – رحمه الله – في الشرائع لم ينقل خلافا في الاكتفاء
[ 283 ]
في تحقق التتابع بمجاوزة النصف في غير المعين كما ذكر في المعين مع اشتراكهما في المعين المقتضي له، تبعا للشيخ – رحمه الله – حيث لم ينقله إلا في السنة المعينة. وعكس العلامة في القواعد فنقل القول بالاكتفاء بمجاوزة النصف في غير المعينة ولم يذكره في المعينة. وفي الدروس نسب القول المذكور للشيخ – رحمه الله – في نذر السنة مطلقا سواء كانت معينة أو مطلقا، واعتذر له بما سبق، وما ذكره أنسب بحال هذا القول لتوجيهه وإن كان خصه في المبسوط بحالة التعيين. أما لو نذر صوم شهر متتابعا وجب عليه أن يتوخى ما يصح ذلك فيه، وأقله – كما تقدم في الصوم – أن يصح فيه تتابع خمسة عشر يوما. ولو شرع فيه ذي الحجة لم يجز لان التتابع ينقطع بالعيد، والاكتفاء في تتابع الشهر المنذور بمتابعة خمسة عشر يوما هو مذهب الاصحاب لا نعلم فيه مخالفا. ومستندهم رواية الفضيل بن يسار (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه قال في رجل جعل عليه صوم شهر فصام خمسة عشر يوما ثم عرض له أمر، فقال: جائز له أن يقتضي ما بقى عليه، وإن كان أقل من خمسة عشر يوما لم يجز له حتى يصوم شهرا تاما). ورواية موسى بن بكر (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل جعل عليه صوم شهر فصام منه خمسة عشر يوما ثم عرض له أمر، قال: إن كان صام خمسة عشر يوما فله أن يقضى ما بقي عليه، وإن كان أقل من خمسة عشر يوما لم يجزه حتى يصوم شهرا تاما). وطعن في هاتين الروايتين بضعف السند لاشتمالهما على موسب بن بكر وهو غير ثقة. واجيب عن ذلك بأن ضعفهما مجبور بعمل الطائقة، وقد مرت المناقشة
(1) الكافي ج 4 ص 139 ح 6 وفيه اختلاف يسير، التهذيب ج 4 ص 285 ح 37 الوسائل ج 7 ص 276 ب 5 ح 2. (2) التهذيب ج 4 ص 285 ح 7 36 الوسائل ج 7 ص 276 ب 5 ح 1.
[ 284 ]
في ذلك غير مرة، وإنما المدار على القرائن المثمرة للصحة عند القدماء. اللهم إلا أن يجعل ذلك من أتمها كما هو ظاهر مقبولة ابن حنظلة (2) حيث قال (خذ ما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النار) فإذا اعتبر ذلك عند التعارض فاعتباره عند عدمه أقوى.
السابعة عشرة: إذا نذر صوم سنة معينة وجب صوم جميع شهورها وأيامها وله حالتان: أحدهما: أن يعين سنة متوالية الايام كقوله: أصوم سنة كذا أو سنة من أول شهر كذا أو من الغد إلى مثله، فصيامها يقع متتابعا لجميع الوقت، ويصوم شهر رمضان عن فرضه إن لم نقل بدخوله في النذر، ويفطر العيدين وأيام التشريق إن كان بمنى، ولا يجب قضاؤها بل هي غير داخلة في النذر لان شهر رمضان واجب بغير النذر، والباقي غير قابل للصوم في ذاته. وإذا أفطرت المرأة لعذر الحيض والنفاس ففي وجوب القضاء قولان:
(أحدهما) يجب، لان النذر محمول على الواجب شرعا، وإذا وجب مع الحيض في الصوم الواجب شرعا قضاؤه فكذا الواجب بالنذر.
(وثانيها) لا يجب، كيوم العيد وزماني الحيض والنفاس، فيقع مستثنى شرعا، والاول أقوى. ومثله ما لو أفطر للمرض والسفر الضروري. ولو أفطر في بعض الايام بغير عذر كان آثما وعليه القضاء بغير خلاف بين الاصحاب، والكفارة كذلك، وبيني على ما مضى من الصوم سواء أفطر لعذر أ بغير عذر، ولا يجب معه الاستئناف من الافطار لغير عذر، ومع العذر قولان:
(أحدهما) – وهو الذي جزم به المحقق وجماعة – وجوبه، لان ذكر التتابع في النذر يدل على كونه مقصودا، ولابد من تحصليه، وقد فات بتخلل الافطار،
(1) راجع الكافي ج 1 ص 67 ح 10، عوالي اللئالى ج 3 ص 129 ح 12.
[ 285 ]
فيلزمه تحصيله بالاستئناف وإتمام تلك السنة بعد انفضاء المعين بقدر ما فات منها.
(وثانيها) – وهو المشهور – لا يجب، لان شرط التتابع مع تعين السنة يقع لغوا، وما فعله قبل الافطار قد وقع صحيحا في وقته، وإخلاله بالتتابع بعد ذلك لا يؤثر فيما حكم بصحته وإن استلزم وجوب القضاء والكفارة، والمذهب بين متأخري المتأخرين هو الاول، ولا فرق بين وقوع الافطار بعد مجاوزته النصف وعدمه لان المقتضي لذلك مشترك بين الجميع وهو إخلاله بالشرط. والقول الذي نقله في الشرائع بأن مجاوزة النصف مزيلة لوجوب الاستئناف قد نقله في المبسوط مستندا له إلى روايات أصحابنا وإن لم نقف عليها، وعلى ما نقله في الدروس عن فتوى الشيخ – رحمه الله – من الاجزاء مطلقا عند مجاوزة النصف مطلقة كانت السنة أو معينة فهو من باب القياس على الشهر الذي يكفي مجاوزة نصفه، ومن ثم نسبه المحقق – رحمه الله – إلى الاولوية أو من باب الحقيقة الشرعية المطردة كما ورد في الكثير في الاقرار. وفيه نظر بين إذا لا ملازمة بين الاكتفاء بمجاوزة النصف في الشهر والشهرين للنصوص والاكتفاء به في غيرهما، لان ذلك حكم على خلاف الاصل، والالوية في المتنازع فيه منفية، وإنما الاختلاف بمجرد الزيادة والنقصان، فالقياس لازم وإثبات الحقيقة الشرعية بمجرد الورود في هذين الفردين – أعني الشهر والشهرين – وتعديته إلى غيرها من الاعداد المنذورة على الاطلاق ظاهر الفساد وطرد الكثير في الاطلاق في حيز المنع. والحق أن هذا الاعتذار (1) بمجرد العناية.
ثانيها: أن ينذر صوم سنة ويطلق، وقد مر الكلام فيها منقحا.
الثامنة عشرة: لو نذر صوم الدهر انعقد صحيحا بإخراج العيدين وأيام التشريق ويفطر في السفر، وكذا الحائض في أيام حيضها ولا يلزمها القضاء، وإنما استثنيت هذه الايام لتتحقق الصحة في النذر، فلو قصد دخولها لم ينعقد
(1) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (أن هذا الاعتذار مردود بمجرد العناية).
[ 286 ]
وكان حراما كما تقدم في كتاب الصوم، والاخبار به مستفيضة. ومن قال بكراهة صوم الدهر قال بالانعقاد لان مكروه العبادة لا ينافى النذر كنظائره لبقاء أصل الرجحان، لكن يستثنى من هذا النذر العيدين وأيام التشريق بمنى لما تقدم من عدم قبولها للصوم شرعا، سواء نص على استثنائها أم أطلق لاختصاص المنع بها فلا مانع من انعقاد غيرها. وصحة صوم بعض الدهر غير متوقف على صحة الباقي، واحتمل جماعة البطلان في الجميع عند الاطلاق الصيغة إنما تناول المجموع من حيث هو مجموع ولم يحصل وهو في حيز المنع، بل إنما تناولت كل واحد واحد والمجموع تابع، فلا يضر تخلفه لعارض، ولو صرح بإدخالها بالنذر فالقولان أيضا، تجدد القضاء عن شهر رمضان. وفي استثناء شهر رمضان مع الاطلاق قولان مبنيان على انعقاد نذر الواجب وسيأتي الكلام عليه، ولو نوى إدخاله في النذر فأولى بالصحة لو قيل به ثمة، إلا أن الاقوى دخوله مطلقا في غير السفر لتحريم صومه، ففيه يجب إفطاره ثم يقضيه بعد لانه كالمستثنى بقوله (فعدة من أيام اخر) وكذلك الاخبار الواردة بذلك. ويجوز له السفر مع الضرورة إليه قطعا. أما بدون الضرورة ففيه خلاف، وقد استظهر جماعة جوازه ولكن تجب الفدية بمد عن كل يوم كالعاجز عن صوم النذر مع احتمال العدم عند بعضهم لانه ليس بعاجز بحسب ذاته. ثم إذا أفطر الناذر لعذر كفارة ولا فدية عليه، وإن كان متعديا
[ 287 ]
لزمته الكفارة لتفويته صوم النذر في زمانه. ولو أفطر يوما من الدهر فلا سبيل إلى القضاء لاستغراق أيام العمر بالاداء لكونه منذورا. ومما يتفرع هنا أيضا أنه لو نوى في بعض الايام قضاء يوم شهر رمضان فهل له إفطاره قبل الزوال اختيارا ؟ قولان، منشأهما أن هذا اليوم قد صار بهذه النية قضاء عن شهر رمضان فتلحقه أحكامه، ومنها جواز إفطاره قبل الزوال ومن وجوبه بالنذر، وإنما استثني القضاء على تقدير صحته، فإذا نوى تركه عاد الوجوب من جهة النذر إذ لا يخرج الامر عنهما، وعلى هذا التقدير يكون صحة صومه عن القضاء كاشفة عن استثنائه بالنذر لا بمجرد النية، وهذا أقوى، وعليه فلو أفطره القضاء حينئذ لزمه كفارة النذر، ولو كان الافطار بعد الزوال ففي وجوب كفارة إفطار القضاء خاصة لتعينه له بالزوال أو كفارة النذر، لما قررناه وبيناه من أن بطلان القضاء يوجب تعلق النذر أو هما معا لصدق الافطار بالقضاء بعد الزوال ومن تعلق النذر به حيث بطل، أوجه أقواها الاخير، والسفر الضروري عذر لاينطقع به التتابع، وينطقع بالاختياري كما قدمناه.
التاسعة عشرة: إن نذر المعصية لا ينعقد ولا تلزم كفارة ولايجوز فعله فضلا عن وجوبه، وقد تقدمت الاخبار في ذلك وهي متضافرة به، والاجماع عليه من الامامية واقع. ومن ضروب المعصية نذر ذبح الولد وغيره وإن كان في الصدر الاول سائغا لكنه منسوخ في قضية عبد الله أبي رسول الله صلى الله وعليه واله. وخالف بعض العامة في ذلك فذهب إلى أن من نذر ذبح ولده فعليه شاة، وإن ذبح غيره من آبائه وجدوده وامهاته فلا شئ عليه، وآخرون منهم ذهبوا إلى أن عليه كفارة يمين، وكذا في كل نذر معصية، وقد رووا عن ابن عباس أن عليه ذبح شاة. وجاء في أخبارنا مثله كخبر السكوني (1) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم السلام
(1) التهذيب ج 8 ص 317 ح 58، الوسائل ج 16 ص 206 ب 24 ح 2 وفيهما (تتصدق).
[ 288 ]
(أنه أتاه رجل فقال: إنى نذرت أن أنحر ولدي عند مقام إبراهيم عليه السلام إن فعلت كذاو كذا ففعلته، فقال عليه السلام: اذبح كبشا سمينا وتصدق بلحمه على المساكين). ومثله خبر الجعفريات ونوادر الروانذي وقد حمله الشيخ على الاستحباب، وتبعه عليه جماعة من المحدثين، لما ثبت من أن نذر المعصية لا ينعقد. ولخبر عبد الرحمن بن أبي عبد الله (1) (قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل نذر أن ينحر ولده، فقال: ذلك من خطوات الشيطان).
المسألة العشرون: إذا الناذر عما نذره سقط فرضه، فلو نذر الحج فصد عنه سقط النذر. وكذا لو نذر صوما فعجز عنه سقط نفس الصوم، ولكن يتصدق عن كل يوم بمد من طعام. ويتحقق هذا العجز بمجزه عن المنذور بأيجاده له في جميع الوقت المعين كمن نذر أن يحج في هذه السنة فلم يتمكن فيها. أما لو كان مطلقا فالعجز غير متحقق إلا باليأس منه في جميع العمر. وأما العاجز عن الصوم فالمشهور سقوطه أيضا أداء وقضاء. وقيل: يجب على العاجز عنه إذا كان معينا القضاء دون الكفارة. وقيل: بالعكس، والمراد بها أن يتصدق عن كل يوم بمد من طعام. وقيل: بمدين، وعليه الشيخ في النهاية والمحقق في باب الكفارات من الشرائع. وفي كتاب النذر ذكر أنه مد ناسبا له إلى الرواية وهي رواية محمد بن منصور (2) عن الرضا عليه السلام (قال: كان أبي عليه السلام يقول: من عجز عن صوم نذر مكان كل يوم نذر مد). ومثلها رواية الكليني (3) عن علي بن إدريس وزاد فيها (من حنطة أو شعير)
(1) التهذيب ج 8 ص 288 ح 55، الوسائل ج 16 ص 212 ب 44 ح 1. (2) الكافي ج 4 ص 143 ح 2، الوسائل ج 7 ص 286 ب 15 ح 2 وفيهما (قال: سألت الرضا (ع) عن رجل نذرا في صيام فعجز فقال: – عليه مكان كل يوم مد). (3) الكافي ج 4 ص 143 ح 1، الفقيه ج 2 ص 99 ح 2، الوسائل ج 7 ص 285 ب 15 ح 1 وص 286 ح 5.
[ 289 ]
ورواها في الفقيه ورجحه الشهيد الاول، وفيه نظر، فإن في طريق الثانية علي ابن أحمد وموسى بن عمر وهما مشتركان، وفي مسند الاخيرة جهالة، وذلك عندهم مانع من الحكم بالوجوب، والقاعدة تقتضي حملها على الاستحباب للتساهل عندهم في أدلته، مضافا إلى أن العجز يوجب سقوط المنذور في نظائره، فتفرد الصوم بالفدية لا يخلو من إشكال مع أن الفدية في الخبرين مختلفة مقدارا، وهذا أمارة الاستحباب.
الحادية والعشرون: قد اختلف الاصحاب في صحة نذر الواجب سواء في ذلك أول يوم من شهر رمضان وغيره، فذهب جماعة منهم السيد المرتضى – رحمه الله – والشيخ أبو الصلاح الحلبي إلى المنع لانه متعين بأصل الشرع، فإيجابه بالنذر تحصيل للحاصل. وذهب أكثر المتأخرين إلى الصحة لان الواجب طاعة مقدورة للناذر فينعقد نذره لان ذلك متعلق النذر، وإيجاب صومه بأصل الشرع لا ينافي تأكيد الوجوب لكون النذر يفيد زيادة الانبعاث حذرا من الكفارة وهي نوع من اللطف، ولعموم الادلة وهذا هو الاقوى، وعليه فيجوز تراخي النذر، وتتعدد الكفارة بتعدده، ويتفرع على هذا دخول صوم شهر رمضان في نذر صوم السنة المعينة ونذر صوم الدهر مع الاطلاق، والتنصيص عليه لصلوحه لذلك كباقي الشهور، فالمفطر فيه متعمدا تجب عليه كفارتان أحدهما لصوم شهر رمضان والاخرى للنذر.
الثانية والعشرون: إن من نذر أن يتصدق بدراهم من فضة وصيرها ذهبا لزمه الاعادة لتعلق النذر بذلك المعين وإن كانت ذهبا أعلى ثمنا. ففي صحيحة علي بن مهزيار كما في كما في الكافي والتهذيب (1) (قال: قلت لابي الحسن عليه السلام: رجل جعل على نفسه نذرا إن قضى الله حاجته أن يتصدق بدراهم،
(1) الكافي ج 7 ص 456 ح 11، التهذيب ج 305 ح 12، الوسائل ج 16 ص 232 ب 9 ح 1.
[ 290 ]
فقضى الله حاجته، فصير الدراهم ذهبا ووجيهها إليك، فيجوز ذلك أو يعيد ؟ فقال: يعيد). وزاد في رواية الشيخ في التهذيب في السؤال (نذر أن يتصدق في مسجده بألف درهم) فيكون فيه بيان العدد والمكان إلا أن الاعادة فيه مرتبط على تصيير الدراهم ذهبا وإن طابقت العدد والمكان.
الثالثة والعشرون: إن من نذر عن سبيل النذر عن ترك الطاعة (1) كمن نذر إن يحج قبل التزويج أن يعتق غلامه لزم ذلك النذر وإن كان الحج ندبا، لمعتبرة إسحاق بن عمار (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قلت له: رجل كان عليه حجة الاسلام فأراد أن يحج فقيل له: تزوج ثم حج، فقال: إن تزوجت قبل أن أحج فغلامي حر، فتزوج قبل أن يحج، فقال: أعتق غلامه، فقلت: لم يرد بعتقه وجه الله، فقال: إنه نذر في طاعة الله والحج أحق عليه من التزويج وأوجب عليه من التزويج، قلت: فإن الحج تطوع، قال: وإن كان تطوعا فهو طاعة لله قد أعتق غلامه). ورواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن إسحاق بن عمار. وكذا لو نذر عتق جاريته والجارية ليست بعارفة فلا يجزيه أن يتصدق بثمنها في وجوه البر بل يتعين عتقها وإن كانت غير عارفة، لخبر علي بن راشد كما في الكافي والتهذيب (2) (قال: قلت لابي جعفر الثاني عليه السلام: إن امرأة من أهلنا اعتل صبي لها، فقال: اللهم إن كشفت عنه فلانة جاريتي حرة والجارية ليست بعارفة، فأيهما أفضل تعتقها أو تصرف ثمنها في وجوه البر ؟ فقال: لا يجوز إلا عتقها).
الرابعة والعشرون: إن من نذر نذرا معلقا على شرط ثم علم بوقوع الشرط قبل النذر لم ينعقد النذر ولم يلزمه شئ، وذلك مجمع عليه بخبر جميل
(1) كذا في النسخة، ولا يخفى وقوع التصحيف فيه. (2) الكافي ج 7 ص 455 ح 7، الوسائل ج 16 ص 229 ب 7 ح 1. (3) لم نعثر عليه في الكافي، التهذيب ج 8 ص 314 ح 46، الوسائل ج 16 ص 229 ب 7 ح 2.
[ 291 ]
ابن صالح (1) (فال: كانت عندي جارية في المدينة فارتفع طمثها فجعلت لله نذرا إن هي حاضت، فعلمت أنها حاضت قبل أن أجعل النذر، فكتبت إلى أبي عبد الله عليه السلام بالمدينة فأجابني: إن كانت حاضت قبل النذر فلا عليك، وإن كانت حاضت بعد النذر فعليك). وهذا الحديث وإن كان ضيعفا في الكافي لاشتماله على القاسم بن محمد لكنه قد رواه الصدوق (2) – رحمه الله – عن جميل بن صالح وطريقه إليه في الصحيح وهو مثله متنا إلا أنه قال: فلا نذر عليك. وصحيحه محمد بن مسلم (3) عن أحدهما عليهما السلام (قال: سألته عن رجل وقع على جارية له فارتفع حيضها وخاف أن تكون قد حبلت، فجعل لله عتق رقبة وصوما وصدقة إن هي حيضها وخاف كانت أن تكون قد حبلت، فجعل لله عتق رقبة وصوما وصدقة إن هي حاضت، وقد كانت الجارية فد طمثت قبل أن يحلف بيوم أو يومين وهو لا يعلم، قال: ليس عليه شئ) وكان هذا الرجل كاره أن يكون له ولد من هذه الجارية فتمنى زواله بأحد الاسباب المكرهة له لذلك، وإلا فلا وجه لهذا النذر.
الخامسة والعشرون: قد عرفت أن من شرط المنذور كونه طاعة فلو كان مرجوحا ولو مكروها لم ينعقد، ولازم هذا الكلام أن من نذر أن يتصدق بجميع ماله أن لا ينعقد نذره على كل حال، بل لا يلزم منه إلا ما لا يضر بحاله لا في الدين ولا في الدنيا، وما أضر به أو كان ترك الصدقة به أولى لم ينعقد نذره، وقد حكم الاصحاب – إلا من نذر – بأن من نذر هذا النذر لزم نذره مطلقا، فإن لم يخف ضررا من الصدقة لزمه ذلك النذر فيه، وإن خاف الضرر دفعه بأن يقوم ماله ويحتسبه على نفسه فيجوز له الصرف فيه والانتفاع به ويضمن قيمته في ذمته ثم يتصدق به على التدريج شيئا فشيئا إلى أن يتم.
(1) الكافي ج 7 ص 455 ح 4، الوسائل ج 16 ص 226 ب 5 ح 1. (2) الفقيه ج 3 ص 238 ح 62. 1 (3) التهذيب ج 8 ص 313 ح 41، الوسائل ج 16 ص 226 ب 5 ح 2.
[ 292 ]
واستندوا في ذلك إلى صحيحة محمد بن يحيى (1) (قال: كنا عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة إذ دخل عليه رجل من موالي أبي جعفر عليه السلام ثم جلس وبكى ثم قال له: جعلت فداك أني كنت أعطبت الله عهدا إن عافاني الله من شئ كنت أخافه على نفسي أن أتصدق بجميع ما أملك، وأن الله قد عافاني منه وقد حولت عيالي من منزلي إلى قبة في خراب الانصار وقد حملت كلما أملك، وها أنا بائع داري وجميع ما أملك وأتصدق به، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: انطلق منزلك وجميع متاعك وما تملك بقيمة عادلة واعرف ذلك، ثم اعمد إلى صحيفه بيضاء واكتب فيها جملة ما قومته، ثم انطلق الى أوثق الناس في نفسك وادفع إليه الصحيفة وأوصيه ومره إن حدث بك حادث الموت أن يبيع منزلك وجميع ما تملك فيتصدق به عنك، ثم ارحج إلى منزلك وتم في منزلك على ما كنت فيه، وكل أنت وعيالك مثل ما كنت تأكل ثم انظر كل شئ تتصدق به فيما يستقبل من صدقة أو صلة قرابة ومن وجوه البر فاكتب ذلك كله واحصه، فإذا كان رأس السنة فانطلق إلى الرجل الذي وصيت إليه فمره أن يخرج الصحيفة ثم ليكتب جملة ما تصدقت به وأخرجت من صلة قرابة أو بر في تلك السنة، ثم افعل ذلك في كل سنة حتى تفي لله بجميع ما نذرت فيه ويبقى لك منزلت إن شاء الله تعالى، فقال الرجل: فرجت عني يابن رسول الله جعلني الله فداك). ووجه التقريب في هذا الخبر والاستدلال مع ما ترى من ظاهره من الحكم بحصول الضرر على الناذر بالصدقة بجميع ماله، ولم يحكم عليه ببطلان النذر في شئ منه، إنما أمره بحيلة تدفع عنه الضرر بتقويمه على نفسه والصدقة به على التدريج. وهذا حكم لا ينطبق على قاعدة النذر لكنه لاسبيل إلى رده لصحة طريقة، وتلقى الاصحاب بالقبول، فلا تجب تلك الصدقة بما لا تضر به الصدقة عاجلا،
(1) الكافي ج 7 ص 458 ح 23، الوسائل ج 16 ص 236 ب 14 ح 1.
[ 293 ]
ويبطل النذر فيما تضره الصدقة بعينه إذا الضرر بتقويمه، ولا صدقة بالقيمة. لكن قد بقي الكلام فيما هو خارج عن النص كما لو نذر الصدقة ببعضه وكان الاولى خلافه والضرر يندفع بتويمه، فهل يعمل به كما تضمنته الرواية في الكل ؟ أم يقع باطلا ؟ قولان: من مشاركته للمنصوص في المقتضي، وكون كل فرد من أفراد ماله على تقدير نذر الجميع منذور الصدقة، ولم ينظر إلى آحاده وإنما نظر إلى المجموع، ونظر فيه إلى التقويم. ومن خروجه عن الاصل والقاعدة، فيقتصر فيه على مورده ولا يلزم من الجميع الحكم في الابعاض لانهما متغايران، وهذا أجود. وأما ما قيل من الاشكال على انعقاد هذا النذر من حيث إن الصدقة بجميع المال مكروهة كما بين في بابه والقاعدة المقررة في المكروه أن لا ينعقد نذره وقد قال صلى الله عليه واله في المستفيضة (1) (خير الصدقة ما أبقت غنى). وأن قوله (إنه يتصدق بجميع ما يملكه) وقع فيه الفعل بصيغة المستقبل، فيشمل المتجدد أيضا، ولا يلزمه منه كون الضرر (2) وعدم التخلص منه بالتقويم، لان التقويم ظاهر فيما يملكه حال النذر والصيغة لاتدل عليه، وأن العدول إلى التقويم إنما هو لدفع الضرر وعدم التخلص منه بالتقويم وهو ينافي انعقاد النذر، فيرجع الفرع إلى أصله بالابطال. فيمكن الجواب عنه بأن المكروه هنا من مكروهات العبادة، والرجحان معها متحقق، وإنما غايتها نقصان ثوابها عن غير المكروه، فلا ينافي انعقاد نذره لانه عبادة راجحة في الجملة. وأما صيغة (يملكه) فهي صيغة المضارع المجرد مما يدل على الاستقبال: فيصلح للحال والاستقبال، فهي مشتركة بينهما على الاصح، والمشترك مما لا يصح استعماله في معنييه معا على سبيل الحقيقة، وإنما يستعمل في أحدهما بالقرينة، وهي هنا موجودة دالة على إرادة الحال، بل صريحة فيه بدليل التقويم
(1) الجامع الصغير ج 2 ح 9. (3) كذا في النسخة، ولا يخفى ما وقع في العبارة من الخلط والتصحيف.
[ 294 ]
الذي لا يتأتى ولا يمكن فرضه في المستقبل من المال. وأما كون الضرر مانعا من انعقاد النذر كما هي القاعدة فهو حق، حيث لا يمكن دفعه بوجه، وهنا أمكن دفعه بالتقويم، فيبقي رجحان الصدقة لامانع له منه، إذ قد ورد به النص الصحيح المعمول به عند أجلاء الطائفة، حتى لو كان ضعيف السند لا يجبر وهنه، فتعين القول به، وإطلاقه يقتضي عدم وجوب تعجيل الصدقة بعين ما لا يضر، بل يكتفي بتدريجها على هذا التقدير مطلقا، وظاهر الفتاوى مبنية عليه، وفي بعضها تصريح به ولو قيل بوجوب تعجيل مالاينصره من غير تقويم كان حسنا لان فيه جمعا بين ما أطبق من النص هنا وبين القاعدة المقررة المتفق عليها في غيره بين الاصحاب والنصوص إلا أن كثيرا من متأخري المتأخرين قد ردوا هذا الخبر محافظة على تلك القاعدة ولمخالفته القواعد من وجوه، فأبطلوا مثل النذور لما في ارتكابها من المحذور. ومنهم من قال بأنها صريحة في العهد لاالنذر، والعهد كاليمين لاكالنذر فيكفي في متعلقه الاباحة، فلا تضره المرجوحية الشرعية، فكيف يحتج به على النذر ؟ ومن تتبع أخبار النذر وتأملها ظهر له في كثير منها التزام ما هو مرجوح حيث يقع النذر به، ولعلها جاءت تقية لعدم اشتراطهم الرجحان والعبادة في متعلقه، وكثيرا ما يطلق العهد على ما يشمل النذر واليمين كما تطلق اليمين على ما يشملها، وكذلك في الايات الواردة في الكتاب في العهد، فيجب اتباع الكتاب المنصوص بالخصوص وتخصيص القواعد العامة به، وإلا انسد باب الاستدلال ويوجب لاكثر المسائل الاختلال، كيف وما من عام إلا وقد خص، فالقول بما ذهب إليه الاصحاب في هذه المسألة واجب الاتباع لان الشريعة المحمدية قد غلق فيها أبواب تكليف ما لا يطاق وفتح فيها أبواب التساهل والسماح، وفي ذلك صونا لاكثر أخبارنا عن الاطراح.
السادسة والعشرون: في بيان حكم العهد وبيان مشروطه ومتعلقه، وقد اختلفت عبارات الاصحاب في ذلك، فالمحقق – رحمه الله – والعلامة جعلا حكمه حكم
[ 295 ]
اليمين، فينعقد فيما ينعقد ويبطل فيما يبطل فيه. والشيخ في النهاية والشهيد في الدروس جعلا حكمه حكم النذر. وتظهر فائدة هذا الخلاف في العهد على المباح المتساوي الطرفين دينا ودنيا فإن جعلناه كاليمين انعقد بغير إشكال، وإن جعلناه كالنذر فالمشهور كما تقدم عدم صحته لان شرطه أن يكون متعلقه طاعة راجحة فلا ينعقد في المباح، وفيما إذا لم يعلق على شرط فعلى إلحاقه باليمين ينعقد بغير إشكال، وعلى إلحاقه بالنذر يكون معرض الخلاف المتقدم. ومن قال بانعقاد النذر به – كما اختاره في الدروس – وبانعقاد النذر المبتدأ بغير شرط – كما هو مذهب جماعة، بل هو المشهور – لايعرف الامران. ويدل على إلحاقه باليمين رواية علي بن جعفر (1) عن أخيه عليه السلام (قال: سألته عن رجل عاهد الله في غير معصية، ما عليه إن لم يف بعهده ؟ قال: يعتق رقبة أو يتصدق بصدقة أو يصوم شهرين متتابعين) فعلق الكفارة على العهد في معصية وهو شامل للمباح، إذ لا يخرج منه سوى المحرم، ومع ذلك فهو شامل للمكروه وما هو خلاف الاولى من المباح، إلا أن ذلك خارج بالاجماع. ويدل على إلحاقه بالنذر رواية أبي بصير (2) عن أحدهما عليهما السلام (قال: من جعل عليه عهد الله وميثاقه في أمر لله طاعة فحنث فعليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا) فجعل مورده الطاعة وهي مورد النذر، إلا أنها لا تنفي تعلقه بغيرها لان السؤال وقع على العهد على الطاعة، وذلك لا يفيد الحصر. وفي نوادر أحمد بن محمد بن عيسى (3) عن أبي جعفر الثاني عليه السلام (في رجل عاهد الله عند الحجر أن لا يقرب محرما أبدا، فلما رجع عاد إلى المحرم، فقال أبو جعفر عليه السلام: يعتق رقبة أو يصوم أو يتصدق على ستين مسكينا وما ارتكب من الامر أعظم
(1) التهذيب ج 8 ص 309 ح 25، الوسائل ج 16 ص 247 ب 25 ح 1. (2) التهذيب ج 8 ص 315 ح 47، الوسائل ج 16 ص 247 ب 26 ح 2. (3) الوسائل ج 16 ص 248 ب 25 ح 4 وفيه (وما ترك من الامر).
[ 296 ]
ويستغفر الله ويتوب إليه). وهذا العهد قد تعلق بالواجب لان عدم ارتكاب المحرم من الواجبات. وقد جاء مثله في النذر، ففي صحيحة جميل بن دراج (1) عن عبد الملك بن عمرو عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: من جعل الله عليه أن لا يركب محرما سماه فركبه قال: لا ولا أعلمه إلا قال: فليعتق رقبة أوليصم شهرين متتابعين أو ليطعم ستين مسكينا) وصورته أن يقول: عاهدت الله أو علي عهد الله أنه متى كان كذا فعلي كذا. وأما كفارته فستأني في كتاب الكفارات إن شاء الله تعالى عن قريب، وهو كالنذر واليمين لا ينعقد إلا بالنطق عليه. وقد اختلف في انعقاد هما بالضمير من دون لفظ، فذهب الشيخان والقاضي وابن حمزة إلى الانعقاد، نظرا إلى أنها عبادة، والاصل في العبادات الاعتقاد والضيمر، ولعموم قوله صلى الله وعليه واله (2) (إنما الاعمال بالنيات) وقد ثبت (إنما) للحصر و (الباء) للسببية وذلك موجب لحصر العمل في النية، فلا يتوقف على غيرها، وإلا لزم جعل ما ليس بسبب سببا، ولان الغرض من اللفظ إعلام الغير بما في الضمير، والاستدلال به على القصد، والمتعبد له عالم بالسرائر ومستشرف على ما في الضمائر ولقوله تعالى (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما) (1). وفي هذه الادلة نظر لان العبادة ليست بمنحصرة في الاعتقاديات، بل منها ما هو لفظ محض لا يجزي عنه الاعتقاد كالقراءة والاذكار، ومنها ما هو بدني لا يجزي عنه الاعتقاد كالركوع والسجود وأفعال الحج، ومنها مالي لا يجزي عنه غيره، فكونهما عبادة لا يدل على الاكتفاء فيهما بالاعتقاد وإن كان معتبرا فيهما في جملة من جهة النية، وهذا أمر آخر، والخصم يسلمه هنا، وكون لاعمال بالنيات لا يدل على حصرها فيها أيضا لوجود الاعمال بدونها،
(1) التذيب ج 8 ص 315 ح 42 وفيه اختلاف يسير، الوسائل ج 16 ص 243 ب 19 ح 1. (2) عوالي اللئالى ج 1 ص 380 ح 2. (3) سورة الاحزاب – آية 54.
[ 297 ]
فلا بد فيه من إضمار الاعمال المعتبرة شرعا أو التي يترتب عليها أثرها وغايتها ونحو ذلك، وهو يدل أيضا على التغاير بين النية والعمل وإن كانت من شروطه. وكون (الباء) للسببية لا يدل على أزيد من ذلك لانه يدل على أن النية سبب في اعتبارها، ولا يلزمه منه حصر السببية فيها لان بعض الاسباب قد يكون ناقصا وقد يكون تاما، فمطلقه أعم من التام، والامر في الاعمال المعتبرة من شروطه كذلك، فإن النية لا يكفي في اعتبارها من غير انضمام باقي ما يعتبر فيها من الاسباب والشروط، فالنية إذن من الاسباب الناقصة لالتامة. ونمنع من كون الغرض من اللفظ ذلك الاعلام بما في الضمير مطلقا، بل هو في العبارات تعبد بدني ملحوظ بالاعتبار كما تعتبر النية فيه، وذلك واضح ليس عليه غبار في العبادات اللفظية المفتقرة إلى النية، فإن كلا منهما لا يجزي عن الاخر في الاعتبار وإن كان الله تعالى هو العالم بالاسرار. وأما الاية الدالة على المحاسبة – على ما يخفوه – فلا دلالة لها على انعقادها بالضمير مطلقا كما لا يخفى على ذو الفطنة والاختبار. وذهب الاسكافي من المتقدمين والحلي في السرائر والمحقق في الشرائع والعلامة في أكثر كتبه وتبعهم باقي المتأخرين إلى اشتراط التلفظ بهما حسب ماشرطته الاخبار السابقة لقول الصادق عليه السلام في صحيحة منصور بن حازم (1) (ليس بشئ حتى يقول لله علي…) إلى آخره وقوله عليه السلام في صحيحة أبي الصباح الكناني (ليس النذر بشئ حتى يسمي شيئا لله). إلى غير ذلك من الاخبار – التي قدمنا ذكرها – الدالة على اعتبار القول، ولانهما من قبيل الاسباب فلا يكفي أقوى، وإن كان دليل السبب لا يخلو عن شئ لكون الاسباب لا تنحصر في ألفاظ، والله العالم بالصواب.
(1) الكافي ج 7 ص 455 ح 2، الوسائل ج 16 ص 229 ب 1 ح 1.