ج13 - لواحق أحكام الصوم
المقصد الثالث
وفيه مسائل الأولى ـ لا خلاف نصا وفتوى في انه يشترط في
صوم شهر رمضان الإقامة فلا يصح صومه في سفر يجب فيه التقصير.
ويدل عليه من الأخبار ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن
محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) «في الرجل يشيع
أخاه مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال ان كان في شهر رمضان فليفطر. قلت أيهما
أفضل يصوم أو يشيعه؟ قال يشيعه ان الله (عزوجل) قد وضعه عنه».
وفي الصحيح عن عيص بن القاسم عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «إذا
خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر. وقال ان رسول الله صلىاللهعليهوآله خرج من
المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة فلما انتهى الى كراع الغميم
دعا بقدح من ماء في ما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر ثم أفطر الناس معه وتم ناس
على صومهم فسماهم العصاة ، وانما يؤخذ بآخر أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله».
وروى الصدوق في الصحيح عن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام (3) قال : «سمى
رسول الله صلىاللهعليهوآله قوما صاموا
حين أفطر وقصر عصاة وقال هم العصاة إلى يوم القيامة. وانا لنعرف أبناءهم وأبناء
أبنائهم إلى يومنا هذا».
وعن عبيد بن زرارة عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) «في قول الله عزوجل (فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (5) قال ما أبينها
، من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه».
وما رواه الكليني في الصحيح عن ابن ابى عمير عن بعض
أصحابه عن أبى عبد الله
__________________
(1) الفروع ج 1 ص 198 وفي الوسائل الباب 10 من صلاة المسافر.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 1 ممن يصح منه الصوم.
(5) سورة البقرة الآية 182.
عليهالسلام (1) قال : «سمعته
يقول قال رسول الله صلىاللهعليهوآله ان الله (عزوجل)
تصدق على مرضى أمتي ومسافريهم بالتقصير والإفطار ، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة ان
ترد عليه؟». الى غير ذلك من الاخبار.
وحينئذ فلو صام عالما بالحكم كان صيامه باطلا ولم يجزئه
بل يجب عليه القضاء لعدم الامتثال ، وعليه تدل صحيحة الحلبي الآتية ، وهو ظاهر.
ولو كان جاهلا أجزأه اتفاقا ، ويدل عليه ما رواه ثقة
الإسلام في الصحيح عن عيص بن القاسم عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «من صام
في السفر بجهالة لم يقضه».
وعن الحلبي ـ في الحسن على المشهور والصحيح على الأظهر ـ
عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قلت له
رجل صام في السفر؟ فقال ان كان بلغه ان رسول الله صلىاللهعليهوآله نهى عن ذلك
فعليه القضاء وان لم يكن بلغه فلا شيء عليه».
ورواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عنه عليهالسلام مثله (4).
وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله
عن ابى عبد الله عليهالسلام (5) قال : «سألته
عن رجل صام شهر رمضان في السفر فقال ان كان لم يبلغه ان رسول الله صلىاللهعليهوآله نهى عن ذلك
فليس عليه القضاء وقد أجزأ عنه الصوم».
وهل يلحق الناسي بالجاهل هنا؟ قولان : أحدهما ـ نعم
لاشتراكهما في العذر وثانيهما ـ لا قصرا لما خالف الأصل على موضع النص. وهو الأصح.
ولو صام المريض الذي لا يشرع له الصيام جاهلا فقيل بوجوب
الإعادة عليه لانه اتى بخلاف ما هو فرضه ، والحاقه بالمسافر قياس لا نقول به.
__________________
(1) الوسائل الباب 1 ممن يصح منه الصوم.
(2 و 5) الوسائل الباب 2 ممن يصح منه الصوم.
(3) الفروع ج 1 ص 198 وفي الوسائل الباب 2 ممن يصح منه الصوم.
(4) الفقيه ج 2 ص 93 وفي الوسائل الباب 2 ممن يصح منه الصوم.
أقول : هذا القول انما يتجه على ما هو المشهور من عدم
معذورية الجاهل إلا في الموضعين المشهورين واما من قال بالمعذورية من حيث الجهل
كما هو مستفاد من الأخبار المتكاثرة فالأظهر صحة صومه ، وليس الاستناد هنا إلى
الحاقه بالمسافر الجاهل في هذه المسألة بل الى تلك الأخبار المستفيضة كما بسطنا
الكلام فيه في مقدمات الكتاب.
المسألة الثانية ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في ان من قدم بلده أو بلدا يعزم على الإقامة فيه قبل الزوال ولم
يتناول شيئا فإنه يجب عليه الصوم ويجزئه ، وان تناول قبل ذلك أو قدم بعد الزوال
وان لم يتناول استحب له الإمساك ووجب عليه القضاء.
اما الحكم الأول فيدل عليه جملة من الاخبار : منها ـ موثقة
أبي بصير (1) قال : «سألته
عن الرجل يقدم من سفره في شهر رمضان؟ فقال : ان قدم قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك
اليوم».
ورواية أحمد بن محمد (2) قال «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن رجل قدم من
سفر في شهر رمضان ولم يطعم شيئا قبل الزوال؟ قال يصوم».
ورواية يونس (3) قال وقال : «في المسافر يدخل أهله
وهو جنب قبل الزوال ولم يكن أكل فعليه أن يتم صومه ولا قضاء عليه. يعني إذا كانت
جنابته من احتلام».
والظاهر ان قوله «يعنى» من كلام يونس.
ورواه في الفقيه عن يونس بن عبد الرحمن عن موسى بن جعفر عليهالسلام (4) انه قال : في
المسافر. الحديث مثله.
وموثقة سماعة (5) قال : «سألته عن الرجل كيف يصنع إذا
أراد السفر؟. الى
__________________
(1) الوسائل الباب 6 ممن يصح منه الصوم ، وآخره هكذا «فعليه
صيام ذلك اليوم ويعتد به».
(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 6 ممن يصح منه الصوم.
أن قال : ان قدم بعد زوال الشمس أفطر
ولا يأكل ظاهرا وان قدم من سفره قبل زوال الشمس فعليه صيام ذلك اليوم ان شاء».
إلا انه قد روى الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال : «سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يقدم
من سفره في شهر رمضان فيدخل أهله حين يصبح أو ارتفاع النهار؟ قال : إذا طلع الفجر
وهو خارج ولم يدخل أهله فهو بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر».
وعن رفاعة بن موسى في الحسن (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يقدم
في شهر رمضان من سفر فيرى انه سيدخل أهله ضحوة أو ارتفاع النهار؟ فقال : إذا طلع
الفجر وهو خارج ولم يدخل أهله فهو بالخيار ان شاء صام وان شاء أفطر».
وظاهر هذين الخبرين ان المدار في وجوب الصوم وعدمه في
هذه الصورة على دخول البلد قبل الگفجر وعدمه فان دخل قبل الفجر وجب عليه الصوم وان
دخل بعد الفجر كان بالخيار بين الصوم وعدمه.
وأصرح منهما في ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) في حديث قال :
«فإذا دخل أرضا قبل طلوع الفجر وهو يريد الإقامة بها فعليه صوم ذلك اليوم وان دخل
بعد طلوع الفجر فلا صيام عليه وان شاء صام».
ولم أقف على قائل بذلك بل ظاهر أصحابنا الاتفاق على ما
قدمنا ذكره من الاعتبار في الوجوب وعدمه بالزوال لا بطلوع الفجر ، وظاهر ما نقله
في المنتهى عن العامة أيضا ذلك (4).
وجملة من أصحابنا قد نقلوا الخبرين الأولين وحملوهما على
التخيير خارج البلد
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 6 ممن يصح منه الصوم.
(4) نقل في المغني ج 3 ص 100 عن احمد قولين في جواز الإفطار في
اليوم الذي يسافر فيه من دون تفصيل بين الزوال وعدمه.
بمعنى ان من علم انه يصل البلد قبل
الظهر فهو بالخيار ان شاء أفطر قبل الدخول وان شاء أمسك حتى يدخل فيجب عليه
الصيام. وهو جيد. واحتمال التخيير الى بعد الدخول وان أمكن نظرا إلى الإطلاق إلا
انه يجب العمل على ما ذكروه جمعا بين هذين الخبرين وبين ما تقدم من الاخبار. إلا
ان اعتبار هذا المعنى بعيد في الرواية الثالثة فإنها كالصريحة في التخيير بعد
الدخول ، ويمكن ارتكاب التأويل فيها ايضا وان بعد بحمل قوله «وان دخل بعد طلوع
الفجر» على معنى «وان أراد الدخول» مثل قوله عزوجل (إِذا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) (1) أي إذا أردتم
القيام ، وقوله سبحانه (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) (2).
وكيف كان فلا يخفى ان الترجيح ثابت للأخبار الأولة من
وجوه : أحدها ـ كونها نصا في المطلوب وما قابلها ممكن الحمل عليها بما ذكرناه وان
تفاوت في بعضها قربا وبعدا. وثانيها ـ اعتضادها بعمل الطائفة بل عمل جميع العلماء
من الطرفين كما أشرنا اليه. وثالثها ـ انه مع العمل بالأخبار الأولة يمكن حمل هذه
الأخبار عليها ومع العمل بهذه الأخبار يلزم طرح الأخبار الأولة مع صراحتها ،
والعمل بالدليلين مهما أمكن أولى من طرح أحدهما. ورابعها ـ انها أوفق بالاحتياط
الذي هو أحد المرجحات الشرعية عند اختلاف الاخبار فيجب المصير الى العمل بها.
ثم انه ينبغي أن يعلم ان المراد بالقدوم المبنى عليه
الحكم المذكور هو تجاوز محل الترخص داخلا على القول المشهور ودخول المنزل على
القول الآخر وهو الأشهر من الروايات.
واما الحكم الثاني فيدل عليه جملة من الاخبار : منها ـ موثقة
سماعة (3) قال : «سألته
عن مسافر دخل أهله قبل زوال الشمس وقد أكل؟ قال : لا ينبغي له أن يأكل يومه ذلك
شيئا ولا يواقع في شهر رمضان ان كان له أهل».
__________________
(1) سورة المائدة الآية 9.
(2) سورة النحل الآية 101.
(3) الوسائل الباب 7 ممن يصح منه الصوم.
ورواية يونس (1) قال قال : «في المسافر الذي يدخل
أهله في شهر رمضان وقد أكل قبل دخوله؟ قال : يكف عن الأكل بقية يومه وعليه القضاء.
الحديث».
وما تقدم في حديثي الزهري والفقه الرضوي (2) حيث قالا (عليهماالسلام) «واما صوم
التأديب. الى أن قالا. وكذلك المسافر إذا أكل أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك
بقية يومه تأديبا وليس بفرض».
وهذه الأخبار وان اختصت بمن أكل قبل دخوله ولم يذكر فيها
حكم من دخل بعد الزوال ولم يتناول إلا انه مفهوم منها بطريق الأولوية ، لأنه قد
علم بالأخبار المتقدمة ان من دخل بعد الزوال فهو مفطر يجب عليه القضاء فإذا استحب
له الإمساك تشبها بالصائمين لمن أكل فمن لم يأكل أولى بذلك البتة ، وهذه الاخبار
خرجت مخرج الغالب في أن المفطر لا يبقى بلا أكل الى ما بعد الزوال غالبا.
واما ما ورد في موثقة محمد بن مسلم (3) ـ قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يقدم
من سفره بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من الحيض أيواقعها؟ قال :
لا بأس به». ـ فهو غير مناف لاستحباب الإمساك.
المسألة الثالثة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
الوقت الموجب للقصر على المسافر ، فقال الشيخ المفيد : ان خرج من منزله قبل الزوال
وجب عليه الإفطار والقصر في الصلاة وان خرج بعد الزوال وجب عليه الإتمام في الصيام
والقصر في الصلاة. وهو اختيار ابن الجنيد واليه ذهب العلامة في المختلف وبه صرح
أيضا في كتاب المنتهى.
وقال في المقنع : وإذا سافر قبل الزوال فليقصر وإذا خرج
بعد الزوال فليصم ، وروى ان من خرج بعد الزوال فليقصر وليقض ذلك اليوم ، وهو
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 7 ممن يصح منه الصوم.
(2) ص 6 وفي الوسائل الباب 7 ممن يصح منه الصوم.
راجع الى كلام الشيخ المفيد.
وقال الشيخ في النهاية : إذا خرج الى السفر بعد طلوع
الفجر أى وقت كان من النهار وكان قد بيت نيته من الليل للسفر وجب عليه الإفطار ،
وان لم يكن قد بيت نيته من الليل ثم خرج بعد طلوع الفجر كان عليه إتمام ذلك اليوم
وليس عليه قضاؤه ، وان خرج قبل طلوع الفجر وجب عليه الإفطار على كل حال وكان عليه
القضاء ، ومتى بيت نية السفر من الليل ولم يتفق له الخروج إلا بعد الزوال كان عليه
أن يمسك بقية النهار وكان عليه القضاء. والى ذلك مال ابن البراج.
والمستفاد من كلام النهاية ان المعتبر في جواز الإفطار
تبييت نية السفر والخروج قبل الزوال وانه مع تبييت النية والخروج بعد الزوال يجب
عليه الإمساك والقضاء.
وذهب المرتضى وقبله على بن بابويه في رسالته وابن ابى
عقيل وابن إدريس الى أن شرائط قصر الصلاة والصوم واحد فمن سافر في جزء من اجزاء
النهار وان كان يسيرا لزمه الإفطار كما يلزمه تقصير الصلاة ، قال ابن بابويه في
رسالته على ما نقله في المختلف : إذا خرجت في سفر وعليك بقية يوم فأفطر. وقال
المرتضى : شروط السفر التي توجب الإفطار ولا
يجوز معها صوم شهر رمضان في المسافة والصفة وغير ذلك هي الشروط التي ذكرناها في
كتاب الصلاة الموجبة لقصرها. ونحوه عبارة
ابن ابى عقيل وابن إدريس.
فتلخص ان في المسألة أقوالا ثلاثة : أحدها ـ الاعتبار
بالزوال فان خرج قبله وجب الإفطار وان كان بعده وجب الصيام. وثانيها ـ الاعتبار
بتبييت النية وعدمه. وثالثها ـ انه كالصلاة فيجب الإفطار في أي جزء خرج من النهار.
والسبب في اختلاف هذه الأقوال هو اختلاف الاخبار في
المسألة وها أنا اذكر جميعها لتحصيل الإحاطة :
فمنها ـ صحيحة الحلبي عن أبى عبد الله عليهالسلام (1) «انه سئل عن
الرجل يخرج من بيته يريد السفر وهو صائم؟ فقال : ان خرج قبل أن ينتصف النهار
فليفطر وليقض ذلك اليوم وان خرج بعد الزوال فليتم يومه».
وموثقة عبيد بن زرارة عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «إذا
خرج الرجل في شهر رمضان بعد الزوال أتم الصيام ، وإذا خرج قبل الزوال أفطر».
وحسنة عبيد بن زرارة عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) «في الرجل
يسافر في شهر رمضان يصوم أو يفطر؟ قال : ان خرج قبل الزوال فليفطر وان خرج بعد
الزوال فليصم. قال ويعرف ذلك بقول على عليهالسلام : أصوم وأفطر
حتى إذا زالت الشمس عزم علي. يعنى الصيام».
وصحيحة محمد بن مسلم عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) قال : «إذا
سافر الرجل في شهر رمضان فخرج بعد نصف النهار فعليه صيام ذلك اليوم ويعتد به من
شهر رمضان».
وهذه الاخبار كما ترى صريحة في مذهب الشيخ المفيد ومن
تبعه وان كانت الأخيرة إنما دلت بمنطوقها على بعض المدعى إلا انها تدل بالمفهوم
على البعض الآخر.
ومنها ـ رواية عبد الأعلى مولى آل سام (5) «في الرجل يريد
السفر في شهر رمضان؟ قال يفطر وان خرج قبل ان تغيب الشمس بقليل».
وما رواه في المقنع مرسلا (6) قال : «وروى
ان من خرج بعد الزوال فليفطر وليقض ذلك اليوم».
وما في الفقه الرضوي (7) حيث قال عليهالسلام : فإذا قدمت
من السفر وعليك بقية يوم فأمسك من الطعام والشراب الى الليل ، فان خرجت في سفر
وعليك بقية يوم فأفطر ، وكل من وجب عليه التقصير في السفر فعليه الإفطار وكل من
وجب عليه التمام في الصلاة فعليه الصيام ، متى ما أتم صام ومتى ما قصر أفطر. انتهى.
__________________
(و 2 و 3 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 5 ممن يصح منه الصوم.
(7) ص 25.
وهذه الأخبار صريحة في مذهب الشيخ على بن بابويه ومن
تبعه ولا سيما عبارة كتاب الفقه لتكرر هذا الحكم في كلامه ، ومنه أخذ الشيخ على بن
بابويه عبارته في الرسالة على عادته المتكررة كما نبهت عليه في غير مقام.
ويؤيد هذه الاخبار ظاهر الآية وهي قوله عزوجل (وَمَنْ
كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (1) لصدقه على من
خرج ولو قبل المغرب بشيء يسير.
ويؤيده أيضا قول الصادق عليهالسلام في صحيحة
معاوية بن وهب (2) «إذا قصرت
أفطرت وإذا أفطرت قصرت».
وقوله عليهالسلام في موثقة
سماعة (3) في حديث «وليس
يفترق التقصير والإفطار فمن قصر فليفطر».
وما رواه الفضل بن الحسن الطبرسي في مجمع البيان مرسلا
عن ابى عبد الله عليهالسلام (4) قال : «من
سافر قصر وأفطر إلا أن يكون رجلا سفره الى صيد أو في معصية الله». وروى هذه
الرواية أيضا المشايخ الثلاثة كما هنا وزيادة (5).
ومنها ـ رواية على بن يقطين عن ابى الحسن موسى عليهالسلام (6) «في الرجل
يسافر في شهر رمضان أيفطر في منزله؟ قال : إذا حدث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا
خرج من منزله وان لم يحدث نفسه من الليل ثم بدا له في السفر من يومه أتم صومه».
ورواية أبي بصير (7) قال : «إذا خرجت بعد طلوع الفجر ولم
تنو السفر من الليل فأتم الصوم واعتد به من شهر رمضان».
ورواية أبي بصير أيضا (8) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول إذا أردت
السفر في شهر رمضان فنويت الخروج من الليل فان خرجت قبل الفجر أو
__________________
(1) سورة البقرة الآية 182.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 4 ممن يصح منه الصوم.
(5) الوسائل الباب 8 من صلاة المسافر.
(6 و 7 و 8) الوسائل الباب 5 ممن يصح منه الصوم.
بعده فأنت مفطر وعليك قضاء ذلك اليوم».
ورواية سليمان بن جعفر الجعفري (1) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن الرجل ينوي
السفر في شهر رمضان فيخرج من أهله بعد ما يصبح؟ قال إذا أصبح في أهله فقد وجب عليه
صيام ذلك اليوم إلا أن يدلج دلجة».
وصحيحة صفوان عن الرضا عليهالسلام (2) في حديث قال :
«ولو انه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا لكان عليه أن ينوي من الليل
سفرا والإفطار ، فإن هو أصبح ولم ينو السفر فبدا له من بعد ان أصبح في السفر قصر
ولم يفطر يومه ذلك».
وبهذه الأخبار أخذ الشيخ وأفتى في النهاية ومثله في
التهذيب حيث قال : ومتى خرج الإنسان إلى السفر بعد ما أصبح فإن كان قد نوى السفر
من الليل لزمه الإفطار وان لم يكن نواه من الليل وجب عليه صوم ذلك اليوم ، وان خرج
قبل طلوع الفجر وجب عليه أيضا الإفطار وان لم يكن قد نوى السفر من الليل. ثم قال
بعد نقل حسنة الحلبي وصحيحة محمد بن مسلم الدالتين على مذهب الشيخ المفيد : الوجه
في هذين الخبرين وما يجرى مجراهما انه إذا خرج قبل الزوال وجب عليه الإفطار ان كان
قد نوى من الليل السفر وإذا خرج بعد الزوال فإنه يستحب له أن يتم صومه ذلك فإن
أفطر فليس عليه شيء ، وان لم يكن قد نوى السفر من الليل فلا يجوز له الإفطار على
وجه. وحاصل جوابه عن الروايات المذكورة تقييد وجوب الإفطار فيها بالخروج قبل
الزوال بتبييت النية ليلا وحمل الوجوب بالخروج بعد الزوال على الاستحباب.
ومنها ـ موثقة رفاعة (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يعرض
له السفر في شهر رمضان حين يصبح؟ قال : يتم صومه ذلك».
وموثقة سماعة (4) قال : «سألته عن الرجل كيف يصنع إذا
أراد السفر؟ قال : إذا طلع الفجر ولم يشخص فعليه صيام ذلك اليوم ، وان خرج من أهله
قبل طلوع
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 5 ممن يصح منه الصوم.
الفجر فليفطر ولا صيام عليه».
وروايته ايضا (1) قال «قال أبو عبد الله عليهالسلام : من أراد
السفر في رمضان فطلع الفجر وهو في أهله فعليه صيام ذلك اليوم وإذا سافر لا ينبغي
أن يفطر ذلك اليوم وحده ، وليس يفترق التقصير والإفطار فمن قصر فليفطر».
وهذه الروايات الثلاث يمكن حملها على مذهب الشيخ لقوله
بوجوب الصوم على من لم يبيت نية السفر بحمل إطلاقها على عدم تبييت نية السفر.
إلا انه ينافيها في ذلك صحيحة رفاعة (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يريد
السفر في رمضان؟ قال : إذا أصبح في بلده ثم خرج فان شاء صام وان شاء أفطر».
هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة ولا يخفى ما هي عليه
من التدافع والتنافي ، والسيد السند في المدارك اعتمد على مذهب الشيخ المفيد لصحة
رواياته باصطلاحهم لانه (قدسسره) كما عرفت
يدور مدار صحة الأسانيد. ثم انه لما كانت صحيحة رفاعة دالة على التخيير مطلقا قال
: ولو قيل بالتخيير مطلقا كما هو ظاهر الرواية لم يكن بعيدا وبذلك يحصل الجمع بين
الأخبار.
وبالجملة فإن من يقتصر في العمل على الأخبار الصحيحة فلا
ريب في ترجيح مذهب الشيخ المفيد عنده واما من يحكم بصحة الأخبار كملا فالجمع بينها
عنده لا يخلو من الإشكال.
إلا انه يمكن أن يقال بتوفيق الملك المتعال ان ما دل على
مذهب الشيخ في النهاية من الاخبار التي أوردناها لا يبعد حملها على التقية التي هي
في اختلاف الأحكام أصل كل بلية ، وذلك ان العلامة في المنتهى بعد أن نقل خلاف
علمائنا (رضوان الله عليهم) في المسألة قال ما صورته : اما الجمهور فقد قال
الشافعي إذا نوى المقيم الصوم قبل الفجر ثم خرج بعد الفجر مسافرا لم يفطر يومه ،
وبه قال أبو حنيفة
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 5 ممن يصح منه الصوم.
ومالك والأوزاعي وأبو ثور واختاره
النخعي ومكحول والزهري (1) انتهى. وهذا
الكلام ظاهر في اشتراط تبييت نية الصوم في وجوب الإفطار كما هو قول الشيخ وإيجاب
الصوم على من لم يكن كذلك وانما كان في نيته صوم ذلك اليوم فإنه إذا أصبح بهذه
النية وجب عليه الصوم وان سافر وهذا هو الذي صرح به الشيخ كما تقدم نقله عنه. ثم
نقل في المختلف (2) عن الشافعي
انه احتج بان الصوم عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا اجتمع فيها السفر والحضر غلب
حكم الحضر (3) انتهى. وهو
يشير إلى انه مع نية الصيام ليلا والإصباح على تلك النية غالب على حصول السفر بعد
ذلك فيجب عليه الصيام وان سافر بخلاف ما إذا نوى السفر ليلا وأصبح بهذه النية فإنه
في حكم المسافر.
وبالجملة فالحمل على التقية في هذه الأخبار ظاهر وان لم
يتعرض إليه أحد في ما أعلم لاعراضهم (رضوان الله عليهم) عن الترجيح بين الاخبار
بالقواعد المروية عن الأئمة الأطهار (عليهمالسلام) كما عرفته في
غير موضع من ما تقدم.
بقي الكلام في أدلة القولين الآخرين والظاهر هو ترجيح أدلة
شيخنا المفيد لصحتها كما عرفت وصراحتها ، واما أدلة قول الشيخ على بن بابويه ومن
تبعه فهو ما بين عام وخاص ، اما العام فيمكن تقييده وتخصيصه بهذه الأدلة ، واما
الخاص فهو لا يبلغ قوة في معارضة تلك الأخبار لما عرفت من صحتها وصراحتها وكثرتها
الموجب لترجيحها.
وكيف كان فالاحتياط من ما لا ينبغي تركه في أمثال هذه
المقامات وهو هنا يحصل بتبييت النية ثم الخروج قبل الزوال فإنه يجب الإفطار على
جميع الأقوال وعليه تجتمع الأخبار الواردة في هذا المجال. والله العالم.
المسألة الرابعة ـ قال ابن أبى عقيل على ما نقل عنه في
المختلف : ان خرج متنزها أو متلذذا أو في شيء من أبواب المعاصي يصوم وليس له أن
يفطر وعليه القضاء
__________________
(1 و 3) المغني ج 3 ص 100.
(2) الصحيح (المنتهى).
إذا رجع الى الحضر ، لان صومه في
السفر ليس بصوم وإنما أمر بالإمساك عن الإفطار لئلا يكون مفطرا في شهر رمضان في
غير الوجه الذي أباح الله (عزوجل) له الإفطار فيه كما ان المفطر في يوم من شهر
رمضان عامدا قد أفسد صومه وعليه أن يتم صومه ذلك الى الليل لئلا يكون مفطرا في غير
الوجه الذي أمر الله (عزوجل) فيه بالإفطار. ونحوه قال ابن الجنيد وهو غريب.
قال في المختلف : والمشهور انه يجب عليه الصوم إذا كان
سفره معصية ولا يجب عليه القضاء. ثم استدل بالأمر بالصوم وقد امتثل فيخرج عن
العهدة وان القضاء إنما يجب بأمر جديد. وهو جيد.
ثم انه نقل عن ابن الجنيد في مقام آخر انه قال : ولا
استحب لمن دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم أن يخرج الى سفر إلا أن يكون لفرض حج أو
عمرة أو ما يتقرب به الى الله (عزوجل) أو منفعة نفسه وماله لا في تكاثر وتفاخر فان
خرج في ذلك أو في معصية الله (عزوجل) لم يفطر في سفره وكان عليه مع صيامه فيه
القضاء.
ثم قال في المختلف : وقد بينا ان المشهور وجوب الصيام في
المعصية وعدم وجوب القضاء ، واما الخروج للتنزه والتلذذ فان كان مباحا وجب الإفطار
والقضاء وإلا وجب الصوم دون القضاء ، لنا الأصل إباحة السفر في المباح فيجب القصر
في الصوم. ثم نقل عنهما الاحتجاج برواية أبي بصير الدالة على المنع من السفر في
شهر رمضان وستأتي في المسألة الآتية (1) وأجاب عنها بعد الطعن في السند
بالحمل على الاستحباب.
المسألة الخامسة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) جواز السفر في شهر رمضان وان كان على كراهة الى أن يمضى من الشهر ثلاثة
وعشرون يوما ، ونقل عن ابى الصلاح انه قال إذا دخل الشهر على حاضر لم يحل له السفر
مختارا.
__________________
(1) ص 411.
والمعتمد القول المشهور للأخبار الكثيرة ، إلا ان ظاهرها
الاختلاف في الأفضلية في بعض المواضع وان السفر في بعضها أفضل من الصيام فإطلاق
القول بأفضلية الصيام وكراهة السفر من ما لا وجه له.
فمن الأخبار المشار إليها ما رواه الصدوق في الصحيح عن
العلاء عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام (1) «انه سئل عن
الرجل يعرض له السفر في شهر رمضان وهو مقيم وقد مضى منه أيام؟ فقال : لا بأس بأن
يسافر ويفطر ولا يصوم».
قال ابن بابويه : وقد روى ذلك ابان بن عثمان عن الصادق عليهالسلام (2). وطريقه الى
ابان في المشيخة صحيح فيكون الخبر صحيحا.
وما رواه الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (3) «في الرجل يشيع
أخاه مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة؟ قال : ان كان في شهر رمضان فليفطر. قلت أيما
أفضل يصوم أو يشيعه؟ قال : يشيعه ان الله (عزوجل) قد وضعه عنه». وروى الصدوق مرسلا
نحوا منه (4).
وما رواه الصدوق عن الوشاء عن حماد بن عثمان في الحسن (5) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام رجل من أصحابي
قد جاءني خبره من الأعوص وذلك في شهر رمضان أتلقاه وأفطر؟ قال نعم. قلت أتلقاه
وأفطر أو أقيم وأصوم؟ قال تلقاه وأفطر».
وما رواه الكليني في الموثق عن زرارة عن ابى جعفر عليهالسلام (6) قال : «قلت
الرجل يشيع أخاه في شهر رمضان اليوم واليومين؟ قال يفطر ويقضى. قيل له فذلك أفضل
أو يقيم ولا يشيعه؟ قال يشيعه ويفطر فان ذلك حق عليه».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 3 ممن يصح منه الصوم.
(2) الوسائل الباب 3 ممن يصح منه الصوم.
(3) الفروع ج 1 ص 198 وفي الوسائل الباب 10 من صلاة المسافر.
(4 و 5 و 6) الوسائل الباب 10 من صلاة المسافر.
وما رواه في المقنع مرسلا (1) قال : «سئل
أبو عبد الله عليهالسلام عن الرجل يشيع
أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة؟ فقال ان كان في شهر رمضان فليفطر. قلت أيهما أفضل يصوم
أو يشيعه؟ قال يشيعه ان الله قد وضع عنه الصوم إذا شيعه».
وقد ورد بإزاء هذه الأخبار ما يدل على أفضلية الإقامة :
ومنها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن الرجل يدخل شهر رمضان وهو مقيم لا يريد براحا ثم يبدو له بعد ما يدخل شهر رمضان
ان يسافر؟ فسكت فسألته غير مرة فقال يقيم أفضل إلا أن تكون له حاجة لا بد له من
الخروج فيها أو يتخوف على ماله».
وما رواه الشيخ عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قلت له
جعلت فداك يدخل على شهر رمضان فأصوم بعضه فتحضرني نية زيارة قبر أبى عبد الله عليهالسلام فأزوره وأفطر
ذاهبا وجائيا أو أقيم حتى أفطر وأزوره بعد ما أفطر بيوم أو يومين؟ فقال أقم حتى
تفطر. قلت له جعلت فداك فهو أفضل؟ قال نعم اما تقرأ في كتاب الله عزوجل (فَمَنْ
شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (4)».
وما رواه أيضا في التهذيب عن محمد بن الفضل البغدادي (5) قال : «كتبت
الى أبى الحسن العسكري عليهالسلام جعلت فداك
يدخل شهر رمضان على الرجل فيقع بقلبه زيارة الحسين عليهالسلام وزيارة أبيك
ببغداد فيقيم في منزله حتى يخرج عنه شهر رمضان ثم يزورهم أو يخرج في شهر رمضان
ويفطر؟ فكتب عليهالسلام : لشهر رمضان
من الفضل والأجر ما ليس لغيره من الشهور فإذا دخل فهو المأثور».
وروى ابن إدريس في آخر السرائر نقلا من كتاب مسائل الرجل
ومكاتباتهم
__________________
(1) الوسائل الباب 10 من صلاة المسافر والباب 3 ممن يصح منه
الصوم.
(2 و 3) الوسائل الباب 3 ممن يصح منه الصوم.
(4) سورة البقرة الآية 182.
(5) الوسائل الباب 91 من أبواب المزار.
الى مولانا أبى الحسن على بن محمد (عليهماالسلام) من مسائل
داود الصرمي (1) قال : «سألته
عن زيارة الحسين وزيارة آبائه (عليهمالسلام) في شهر رمضان
نزورهم؟ فقال : لرمضان من الفضل وعظيم الأجر ما ليس لغيره فإذا دخل فهو المأثور
والصيام فيه أفضل من قضائه ، وإذا حضر فهو مأثور ينبغي أن يكون مأثورا».
وما رواه الشيخ عن الحسين بن المختار في القوى عن أبى
عبد الله عليهالسلام (2) قال «لا تخرج
في رمضان إلا للحج أو العمرة أو مال تخاف عليه الفوت أو لزرع يحين حصاده».
وما رواه المشايخ الثلاثة عن ابى بصير (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الخروج إذا
دخل شهر رمضان فقال لا إلا في ما أخبرك به : خروج إلى مكة أو غزو في سبيل الله أو
مال تخاف هلاكه أو أخ تريد وداعه ، وانه ليس أخا من الأب والام». وفي التهذيب
والفقيه (4) «أو أخ تخاف
هلاكه».
ويمكن أن يكون هذا الخبر هو مستند ابى الصلاح في ما تقدم
نقله عنه من القول بالتحريم إلا انه لم يستثن ما استثناه عليهالسلام في الخبر
المذكور.
وما رواه الشيخ عن على بن أسباط عن رجل عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (5) قال : «إذا
دخل شهر رمضان فلله فيه شرط قال الله تعالى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (6) فليس للرجل
إذا دخل شهر رمضان ان يخرج إلا في حج أو عمرة أو مال يخاف تلفه أو أخ يخاف هلاكه ،
وليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه ، فإذا مضت ليلة ثلاث وعشرين فليخرج حيث شاء».
وهذا الخبر هو المستند في ما تقدم من انتفاء الكراهة بعد
ليلة ثلاث وعشرين كما ذكروه.
__________________
(1) الوسائل الباب 91 من أبواب المزار.
(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 3 ممن يصح منه الصوم.
(6) سورة البقرة الآية 182.
والذي يتلخص من مجموع هذه الأخبار وضم بعضها الى بعض هو
جواز السفر على كراهة إلا في المواضع المستثناة. إلا أن في عدم استثناء زيارة
الحسين (عليهالسلام) كما دل عليه
خبر أبى بصير وخبر محمد بن الفضل وخبر السرائر إشكالا ، إذ لا تقصر عن بعض هذه
المستثنيات ان لم تزد عليها. ولا يبعد حمل الأخبار المذكورة على التقية.
والعجب من جمود صاحب الوسائل على العمل بخبري محمد بن
الفضل والسرائر حيث لم يذكر غيرهما مع معلومية رجحان زيارة الحسين (عليهالسلام) على استحباب
التشييع الذي تكاثرت به الاخبار المتقدمة من ما لا يخفى على العارف. والله العالم.
المسألة السادسة ـ قد تقدم في المسألة الثالثة من
الاخبار ما يدل على التلازم بين قصر الصوم والصلاة مثل قوله (عليهالسلام) في صحيحة
معاوية بن وهب (1) «هما واحد إذا
قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت». ونحوها من الأخبار المتقدمة وبذلك صرح الأصحاب من
غير خلاف يعرف إلا من الشيخ في النهاية والمبسوط حيث نقل عنه ان من سافر لصيد
التجارة قصر صومه وأتم صلاته ، قال في المعتبر : ونحن نطالبه بدلالة الفرق ونقول
ان كان مباحا قصر فيهما وإلا أتم فيهما.
أقول : ما ذكره الشيخ (قدسسره) من الحكم
المذكور وان لم يصل إلينا دليله في الأخبار الواردة في الكتب المشهورة إلا انه
مذكور في الفقه الرضوي في كتاب الصلاة حيث قال (عليهالسلام) (2) «وإذا كان صيده
للتجارة فعليه التمام في الصلاة والقصر في الصوم». إلا انه (عليهالسلام) في كتاب
الصوم نسب ذلك الى الرواية حيث قال (3) والذي يلزمه التمام للصلاة والصوم في
السفر المكاري والبريد والراعي والملاح لانه عملهم ، وصاحب الصيد ان كان صيده بطرا
فعليه التمام في
__________________
(1) الوسائل الباب 4 ممن يصح منه الصوم.
(2) ص 16.
(3) ص 25.
الصلاة والصوم وان كان صيده للتجارة
فعليه التمام في الصلاة والصوم ، وروى ان عليه الإفطار في الصوم ، وإذا كان صيده
من ما يعود به على عياله فعليه التقصير في الصلاة والصوم لقول النبي صلىاللهعليهوآله الكاد على
عياله كالمجاهد في سبيل الله. انتهى.
وأنت خبير بأن أصحابنا (رضوان الله عليهم) قد أعادوا
الكلام بالنسبة الى ما ذكروه في كتاب الصلاة من الأحكام الموجبة للتقصير على
المسافر في الصلاة في كتاب الصوم مثل اشتراط المسافة وبيان مقدارها وبيان محل
الترخص وأحكام كثير السفر ونحو ذلك ، ونحن لم نتعرض لذلك في الكتاب اعتمادا على ما
تقدم في كتاب الصلاة.
المسألة السابعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
حكم الجماع لمن ساغ له الإفطار في نهار شهر رمضان فالمشهور بين الأصحاب هو الجواز
على كراهة وذهب الشيخ (قدسسره) الى التحريم.
ويدل على الأول صحيحة عمر بن يزيد (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يسافر في شهر رمضان إله أن يصيب من النساء؟ قال : نعم».
ورواية عبد الملك بن عتبة الهاشمي (2) قال : «سألت
أبا الحسن ـ يعنى موسى (عليهالسلام) ـ عن الرجل
يجامع أهله في السفر وهو في شهر رمضان قال لا بأس به».
وصحيحة على بن الحكم (3) قال : «سألت أبا الحسن عليهالسلام عن الرجل
يجامع أهله في السفر في شهر رمضان؟ فقال : لا بأس به».
ورواية محمد بن سهل عن أبيه (4) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن رجل أتى
أهله في شهر رمضان وهو مسافر؟ فقال : لا بأس».
ورواية محمد بن مسلم (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يقدم من سفر بعد العصر في شهر رمضان فيصيب امرأته حين طهرت من
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 13 ممن يصح منه الصوم.
الحيض أيواقعها؟ قال : لا بأس به».
وموثقة داود بن الحصين (1) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
يسافر في شهر رمضان ومعه جارية أيقع عليها؟ قال نعم».
ورواية أبي العباس عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (2) «في الرجل
يسافر ومعه جارية في شهر رمضان هل يقع عليها؟ قال : نعم».
ويدل على ما ذهب اليه الشيخ صحيحة ابن سنان (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل
يسافر في شهر رمضان ومعه جارية له فله ان يصيب منها بالنهار؟ فقال سبحان الله اما
يعرف حرمة شهر رمضان؟ ان له في الليل سبحا طويلا (4) قلت أليس له
أن يأكل ويشرب؟ فقال ان الله تعالى قد رخص للمسافر في الإفطار والتقصير رحمة
وتخفيفا لموضع التعب والنصب ووعث السفر ولم يرخص له في مجامعة النساء في السفر
بالنهار في شهر رمضان ، وأوجب عليه قضاء الصيام ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة
إذا آب من سفره. ثم قال : والسنة لا تقاس وانى إذا سافرت في شهر رمضان ما آكل إلا
القوت وما أشرب كل الري».
ورواية عبد الله بن سنان (5) قال : «سألته
عن الرجل يأتي جاريته في شهر رمضان بالنهار في السفر؟ فقال : اما عرف هذا حق شهر
رمضان؟ ان له في الليل سبحا طويلا (6)».
ورواية محمد بن مسلم عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (7) قال : «إذا
سافر الرجل في شهر رمضان فلا يقرب النساء بالنهار في شهر رمضان فان ذلك محرم عليه».
وجمع الشيخ بين الاخبار بحمل ما تضمن الاذن في الوطء على
من غلبته الشهوة ولم يتمكن من الصبر عليها ويخاف على نفسه الدخول في محظور فاما من
يقدر على الصبر فليس له ذلك. ثم قال : ان حديث عمر بن يزيد ونحوه ليس فيه تعرض
__________________
(1 و 2 و 3 و 5 و 7) الوسائل الباب 13 ممن يصح منه الصوم.
(4 و 6) اقتباس من قوله تعالى في سورة المزمل الآية 8 (إِنَّ
لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً).
لذكر النهار فيحمل على ارادة الليل.
ورد المتأخرون كلامه بالبعد.
والأصحاب قد جمعوا بين الأخبار بحمل أدلة الشيخ على
الكراهة المغلظة :
قال في الكافي : الفضل عندي أن يوقر الرجل شهر رمضان
ويمسك عن النساء في السفر بالنهار إلا أن يكون يغلبه الشبق ويخاف على نفسه ، وقد
رخص له أن يأتي الحلال كما رخص للمسافر الذي لا يجد الماء إذا غلبه الشبق أن يأتي
الحلال ، قال : ويؤجر في ذلك كما انه إذا أتى الحرام اثم. وقال في الفقيه : النهى
عن الجماع للمقصر في السفر انما هو نهى كراهة لا نهى تحريم. قال في الوافي : ويشبه
أن يكون الحكم بالجواز ورد مورد التقية والاحتياط هنا من ما لا ينبغي تركه. انتهى.
أقول : قد عرفت بما قدمنا في غير موضع ما في الجمع بين
الاخبار بالحمل على الكراهة والاستحباب وان اشتهر ذلك وصار قاعدة كلية بين الأصحاب
، ولا سيما صحيحة ابن سنان المذكورة ورواية محمد بن مسلم فإنهما صريحتان في
التحريم خصوصا صحيحة ابن سنان من نسبته عليهالسلام حمل الجماع
على الأكل والشرب على القياس وقوله عليهالسلام : «ان السنة
لا تقاس» بمعنى ان تحليل الأكل والشرب لا يستلزم تحليل الجماع كما ان الشارع أوجب
على المسافر قضاء الصوم ولم يوجب عليه قضاء تمام الصلاة مع اشتراكهما في الفوات
بالسفر.
والأظهر عندي حمل هذه الأخبار التي استدل بها الشيخ على
التقية ، والعامة وان كانوا هنا على قولين ايضا فمذهب الشافعي كما نقله في المنتهى
موافق للقول المشهور ومذهب احمد موافق لمذهب الشيخ (1) إلا انه لما
كان أصحابنا (رضوان الله عليهم) متقدموهم ومتأخروهم عدا الشيخ على القول بالجواز
عملا بالأخبار المتقدمة فإن ذلك يوجب العلم أو الظن المتاخم له بان ذلك هو مذهب
الأئمة (عليهمالسلام) فان مذهبهم
إنما يعلم بنقل شيعتهم واتباعهم كما ان مذهب كل امام من أئمة الضلال إنما يعلم
بنقل اتباعه وتدينهم به. واما ما ذكره في الوافي من اختيار حمل أخبار الجواز
__________________
(1) المغني ج 3 ص 101 و 102 و 134.
على التقية فالظاهر بعده لما عرفت.
وكيف كان فالاحتياط من ما ينبغي المحافظة عليه.
وقد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) أيضا بأنه يكره
التملي لمن ساغ له الإفطار في شهر رمضان واستدلوا عليه بان فيه تشبها بالصائمين
وامتناعا من الملاذ طاعة لله تعالى. والاولى الاستدلال عليه بما تقدم في صحيحة ابن
سنان من قوله عليهالسلام : «انى إذا
سافرت في شهر رمضان ما آكل إلا القوت». وفي رواية الفقيه (1) «كل القوت وما
أشرب كل الري». والله العالم
المسألة الثامنة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بأنه يستحب الإمساك تأديبا وان لم يكن ذلك صياما في مواطن : المسافر إذا قدم أهله
أو بلدا يعزم الإقامة فيها بعد الزوال أو قبله وقد أفطر ، والمريض إذا برئ بعد
الزوال ، والحائض والنفساء إذا طهرتا في أثناء النهار ، وكذا الكافر إذا أسلم
والصبي إذا بلغ والمجنون والمغمى عليه إذا أفاقا.
ويدل على بعض ذلك ما تقدم في حديثي الزهري وكتاب الفقه
المذكور في صدر الكتاب (2) حيث قالا (عليهماالسلام): «واما صوم
التأديب فإنه يؤمر الصبي إذا بلغ سبع سنين بالصوم تأديبا وليس بفرض ، وكذلك من أفطر
لعلة أول النهار ثم قوى بقية يومه أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض ،
وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أهله بقية يومه أمر بالإمساك تأديبا
وليس بفرض ، وكذلك الحائض إذا طهرت أمسكت بقية يومها».
وفي موثقة سماعة (3) قال سألته عن مسافر دخل أهله قبل
زوال الشمس وقد أكل؟ قال : لا ينبغي له أن يأكل يومه ذلك شيئا ولا يواقع في شهر
رمضان ان كان له أهل».
وفي رواية محمد بن عيسى عن يونس (4) قال قال «في
المسافر الذي يدخل أهله في
__________________
(1) ج 2 ص 93.
(2) ص 6 وفي الوسائل الباب 7 ممن يصح منه الصوم.
(3 و 4) الوسائل الباب 7 ممن يصح منه الصوم.
شهر رمضان وقد أكل قبل دخوله؟ قال :
يكف عن الأكل بقية يومه وعليه القضاء».
الى غير ذلك من الأخبار الواردة في المقام.
المسألة التاسعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
حكم الشيخ والشيخة إذا عجزا عن الصيام أو أطاقاه بمشقة شديدة ، فقيل بأنهما يفطران
ويتصدقان عن كل يوم بمد من طعام ، ذهب اليه الشيخ وجماعة من الأصحاب وبه صرح
العلامة في المنتهى والمحقق في المعتبر واختاره السيد السند في المدارك ، لكنه في
النهاية أوجب مدين فان عجز فمد. وقيل بأنهما إذا عجزا عن الصوم فلا كفارة كما انه
لا يجب عليهما الصيام فكذا لا تجب الكفارة وان أطاقاه بمشقة وجبت الكفارة وسقط
الصيام ، ذهب اليه الشيخ المفيد والسيد المرتضى ونسبه في المنتهى الى أكثر علمائنا
وهو مختار العلامة في المختلف والشهيد الثاني. ومرجع الخلاف الى وجوب الكفارة في
صورة العجز وعدمه لاتفاق الجميع على الوجوب في صورة المشقة الشديدة.
واستدل على القول الأول بما رواه الكليني والصدوق في
الصحيح عن محمد بن مسلم (1) قال : «سمعت
أبا جعفر عليهالسلام يقول : الشيخ
الكبير والذي به العطاش لا حرج عليهما أن يفطرا في شهر رمضان ، ويتصدق كل واحد
منهما في كل يوم بمد من طعام ، ولا قضاء عليهما».
ورواية عبد الملك بن عتبة الهاشمي (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الشيخ
الكبير والعجوز الكبيرة التي تضعف عن الصوم في شهر رمضان؟ قال : تصدق عن كل يوم
بمد من حنطة».
وهذه الرواية وصفها في المدارك بالصحة تبعا للعلامة في
المختلف وهو غفلة منهما فان عبد الملك المذكور مهمل في الرجال لم ينص أحد على
توثيقه ولا مدحه وانما الثقة عبد الملك بن عتبة النخعي.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 15 ممن يصح منه الصوم.
وصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن رجل كبير يضعف عن صوم شهر رمضان؟ فقال : يتصدق بما يجزئ عنه طعام مسكين لكل يوم».
قال في المدارك بعد نقل هذه الاخبار : ولم نقف للمفيد
واتباعه على رواية تدل على ما ذكروه من التفصيل ، وقد اعترف بذلك الشيخ في التهذيب
فقال بعد أن أورد عبارة المفيد : هذا الذي فصل به بين من يطيق الصيام بمشقة وبين
من لا يطيقه أصلا لم أجد به حديثا مفصلا والأحاديث كلها على انه متى عجزا كفرا
عنه. والذي حمله على هذا التفصيل هو انه ذهب الى ان الكفارة فرع على وجوب الصوم ،
ومن ضعف عن الصيام ضعفا لا يقدر عليه جملة فإنه يسقط عنه وجوبه جملة لانه لا يحسن
تكليفه بالصيام وحاله هذه وقد قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) (2) قال : وهذا
ليس بصحيح لان وجوب الكفارة ليس بمبنى على وجوب الصوم ، إذ لا يمتنع أن يقول الله عزوجل : متى لم
تطيقوا الصوم صارت مصلحتكم في الكفارة وسقط وجوب الصوم عنكم. وليس لأحدهما تعلق
بالآخر.
قال في المدارك : هذا كلامه (قدسسره) وهو جيد لكن
ما وجه به كلام المفيد لا وجه له فان التكليف بالصيام كما يسقط مع العجز عنه
لإناطة التكليف بالوسع كذا يسقط مع المشقة الشديدة لأن العسر غير مراد لله تعالى.
وأيضا فإنه لا خلاف في جواز الإفطار مع المشقة الشديدة وإنما الكلام في وجوب
التكفير معه كما هو واضح. انتهى.
أقول : ما ذكره (قدسسره) من الاستدلال
على كلام الشيخ جيد لكن قوله أخيرا ـ إنما الكلام في وجوب التكفير مع جواز الإفطار
في صورة المشقة الشديدة ـ ليس بجيد فإنه لا كلام هنا ولا خلاف في وجوب الكفارة في
هذه
__________________
(1) الوسائل الباب 15 ممن يصح منه الصوم.
(2) سورة البقرة الآية 287.
الصورة إنما الكلام والخلاف في صورة
العجز كما أشرنا إليه في صدر الكلام.
ثم نقل (قدسسره) عن العلامة
في المختلف انه استدل على هذا التفصيل بقول الله تعالى (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (1) فإنه يدل
بمفهومه على سقوط الفدية عن الذين لا يطيقونه. وبأصالة البراءة من وجوب التكفير مع
العجز ومنع دلالة الروايات على الوجوب : اما رواية محمد بن مسلم فلاقتضائها نفى
الحرج عنهما على الإفطار ونفى الحرج يفهم منه ثبوت التكليف وانما يتم مع القدرة ،
واما روايتا الحلبي وعبد الملك الهاشمي فلأن موردهما من ضعف عن الصوم والضعف لا
يستلزم العجز.
ثم قال (قدسسره) : ويتوجه
عليه ان الآية الشريفة غير محمولة على ظاهرها بل اما منسوخة كما هو قول بعض
المفسرين (2) أو محمولة على
ان المراد «وعلى الذين كان يطيقونه ثم عجزوا عنه» كما هو مروي في أخبارنا (3) واما الروايات
فهي بإطلاقها متناولة للحالين فان الضعف عن الصوم يتحقق بالعجز عنه وبالمشقة
اللازمة منه وكذا نفى الحرج يتحقق مع الوصفين ، وبالجملة فالأحاديث مطلقة فيجب
حملها على إطلاقها. انتهى.
أقول : تحقيق الكلام في المقام يرجع الى تحقيق معنى
الآية أولا ثم بيان الكلام في الأخبار المذكورة :
اما الآية فما ذكره فيها من النسخ مبنى على ما قاله
بعضهم من انه كان القادر على الصيام الذي لا عذر له في تركه مخيرا بين الصيام وبين
الفدية لكل يوم نصف صاع وقيل مد ، وكان ذلك في صدر الإسلام حين فرض عليهم الصيام
ولم يتعودا فرخص لهم في الإفطار والفدية ، ثم نسخ ذلك بقوله عزوجل : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
__________________
(1) سورة البقرة الآية 181.
(2) ارجع الى البيان لآية الله الخوئي ج 1 ص 207.
(3) ص 420 رقم 3.
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (1). وهذا مع عدم
الدليل عليه في أخبارنا مردود بظواهر الأخبار الواردة في تفسير الآية المذكورة كما
ستقف عليه في المقام ان شاء الله تعالى.
واما المعنى الآخر الذي ذكره فهو وان ورد في موثقة ابن
بكير على رواية الفقيه وابن فضال عن بعض أصحابنا على رواية الكافي (2) عن ابى عبد
الله عليهالسلام (3) «في قول الله عزوجل (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)؟ (4) قال : الذين
كانوا يطيقون الصوم فأصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد».
إلا انه قد روى ثقة الإسلام والشيخ في كتابيهما في
الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام (5) «في قول الله عزوجل (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (6)؟ قال : الشيخ
الكبير والذي يأخذه العطاش. الحديث».
وروى العياشي في تفسيره (7) عن سماعة عن
ابى بصير قال : «سألته عن قول الله عزوجل (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (8)؟ قال : هو
الشيخ الكبير الذي لا يستطيع والمريض».
وروى (9) عن رفاعة عن ابى عبد الله عليهالسلام «في قول الله عزوجل (وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) (10)؟ قال : المرأة
تخاف على ولدها والشيخ الكبير».
وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ قد فسرت «الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ» في الآية بالشيخ الكبير والمريض
والمرضع التي تخاف على ولدها فله اللبن من الصيام ، وهي أرجح سندا وعددا ودلالة من
الرواية التي اعتمدها.
ويؤيد العمل بظاهر هذه الأخبار أيضا أولا ـ انه مع الحمل
على المعنى الذي دلت عليه تلك الرواية يستلزم الحذف والتقدير في الآية كما دل عليه
الخبر المذكور والأصل عدمه واما على ما نقلناه من الأخبار فلا.
وثانيا ـ انه يلزم فصل ما ظاهره الوصل في الآية وهو قوله
عزوجل : (وَأَنْ
__________________
(1) سورة البقرة الآية 182.
(2) السند فيه : ابن فضال عن ابن بكير عن بعض أصحابنا.
(3 و 5 و 7 و 9) الوسائل الباب 15 ممن يصح منه الصوم.
(4 و 6 و 8 و 10) سورة البقرة الآية 181.
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (1) بان يكون
كلاما مستأنفا ليس له ربط بما تقدمه أى ان صومكم خير عظيم لكم وظاهر الآية انه
مرتبط بما تقدمه.
وتفصيل هذه الجملة هو انه لا يخفى ان المعلوم من الأدلة
العقلية والنقلية أنه (عزوجل) لا يكلف نفسا إلا وسعها والوسع لغة دون الطاقة كما
صرح به في مجمع البيان وغيره.
وفي التوحيد (2) عن الصادق عليهالسلام في حديث طويل
قال : «ما أمر الناس إلا بدون سعتهم وكل شيء أمر الناس بأخذه فهم متسعون له وما
لا يتسعون له فهو موضوع عنهم ولكن الناس لا خير فيهم».
وفي كتاب الاعتقادات للصدوق (3) مرسلا عن
الصادق عليهالسلام قال : «ما كلف
الله العباد إلا دون ما يطيقون».
وحينئذ فلا تكلف نفس بما هو على قدر طاقتها أى ما يشق
عليها تحمله عادة ويعسر عليها ، فالآية دلت على ان الذين يطيقون الصوم كالشيخ
والشيخة وذي العطاش ـ يعنى من يكون الصوم على قدر طاقتهم ويكونون معه على مشقة وعسر
ـ لم يكلفهم الله تعالى حتما بل خيرهم بينه وبين الفدية توسعة لهم ثم جعل الصوم
خيرا لهم من الفدية في الأجر والثواب إذا اختاروه كما قال في مجمع البيان : قوله «وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» يعنى من الإفطار والفدية.
وبما أوضحناه يظهر ان المراد من الآية هو ان من أمكنه
الصوم بمشقة فإنه قد جوز له الإفطار والفدية ولا تعرض فيها للعاجز عنه بالكلية إلا
ان كان كما ذكره في المختلف من الدلالة بالمفهوم.
واما الاخبار التي ادعى دلالتها على ذلك بإطلاقها
فالظاهر ان المنساق منها
__________________
(1) سورة البقرة الآية 181.
(2) باب الاستطاعة ص 358 وفيه «ما أمر العباد».
(3) باب الاعتقاد في التكليف.
الى الذهن إنما هو خلاف ما ادعاه إذ
المنساق من قوله : «يضعف عن صوم شهر رمضان» في رواية عبد الملك وصحيحة الحلبي انما
هو حصول المشقة بذلك مع إمكان تحمله لا العجز ، والحرج المنفي في صحيحة محمد بن
مسلم هو إمكان الفعل مع المشقة كما في قوله تعالى (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (1) أى مشقة وعسر.
وقد وافقنا في المقام الفاضل الخراساني مع اقتفائه أثره
غالبا فقال هنا مشيرا اليه : واستدل بعض الأصحاب على القول بوجوب الكفارة بصحيحة
محمد بن مسلم والحلبي ورواية عبد الملك. وفيه نظر لان المتبادر من هذه الروايات
غير العاجز بالكلية كما لا يخفى على المتأمل فيها ، على ان قوله : «فان لم يقدرا»
في الخبر الأول يحتمل أن يكون المراد به إن لم يقدرا على الصوم أصلا ، وعلى هذا
المعنى يوافق قول المفيد ومن تبعه. انتهى. ثم نقل كلام المختلف واعترضه بما قدمنا
نقله عن صاحب المدارك واقتفى أثره فيه كما هي عادته وقد عرفت ما فيه. وبالجملة فإن
كلام العلامة في المختلف كما قدمنا لا يخلو من قوة.
وقد ظهر من ما حققناه ان مورد الآية والاخبار إنما هو
بالنسبة الى من يمكنه الصوم بمشقة فإنه يفطر ويفدى وهذا هو المتفق عليه ، ويبقى
وجوب الفدية على العاجز بالكلية عاريا عن الدليل وبه يتأيد قول الشيخ المفيد.
ولم أر من تنبه لما قلناه في معنى الآية إلا المحدث
الكاشاني في الصافي والمفاتيح ولا يخفى انه إذا لم يترجح هذا المعنى الذي ذكرناه
فلا أقل أن يكون مساويا في الاحتمال لما ذكره وبه يسقط الاستدلال بالأخبار
المذكورة. وبذلك صرح في المختلف فقال : ومع قبول الروايات للتأويل يسقط الاستدلال
بها فان الدليل متى تطرق اليه الاحتمال سقطت دلالته. انتهى.
إلا انه قد روى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن
إبراهيم بن أبي
__________________
(1) سورة الحج الآية 78.
زياد الكرخي (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام رجل شيخ لا
يستطيع القيام الى الخلاء لضعفه ولا يمكنه الركوع والسجود؟ فقال ليومئ برأسه
إيماء. الى أن قال : قلت فالصيام؟ قال إذا كان في ذلك الحد فقد وضع الله عنه فان
كانت له مقدرة فصدقة مد من طعام بدل كل يوم أحب الى وان لم يكن له يسار ذلك فلا شيء
عليه». وهو ظاهر الدلالة على القول المشهور إلا أن تحمل الصدقة في الخبر على
الاستحباب بقرينة قوله عليهالسلام «أحب الى» وفيه
ما فيه.
وكيف كان فالاحتياط العمل على القول المشهور.
فوائد
الأولى ـ روى الثقة الجليل على بن إبراهيم القمي في
تفسيره (2) بسنده عن
الصادق عليهالسلام في تفسير
الآية المتقدمة «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ» قال من مرض في
شهر رمضان فأفطر ثم صح فلم يقض ما فاته حتى جاء شهر رمضان آخر فعليه ان يقضى
ويتصدق لكل يوم بمد من طعام. وهذا تفسير ثالث للآية المذكورة. وقد تقدم تحقيق
الكلام في ما دل عليه هذا الخبر.
الثانية ـ قد روى الشيخ صحيحة محمد بن مسلم الاولى بلفظ «مدين
من طعام» وحمله في الاستبصار على الاستحباب ، وقال في التهذيب ان هذا الخبر ليس
بمضاد للأحاديث التي تضمنت مدا من طعام أو إطعام مسكين لان هذا الحكم يختلف بحسب
اختلاف أحوال المكلفين فمن أطاق إطعام مدين يلزمه ذلك ومن لم يطق إلا إطعام مد
فعليه ذلك ومن لم يقدر على شيء منه فليس عليه شيء حسبما قدمناه. والأظهر وجوب
المد مطلقا كما هو المشهور ومع عدم الإمكان فلا شيء عليه.
الثالثة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب
القضاء عند
__________________
(1) الوسائل الباب 15 ممن يصح منه الصوم.
(2) سورة البقرة الآية 181 ص 56.
التمكن منه ، ونقل عن الشيخ على بن
الحسين بن بابويه عدم الوجوب ، وسيأتي نقل عبارته قريبا.
ويدل على ما ذهب اليه ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم
التي في صدر المسألة (1) برواية
الشيخين المذكورين من قوله عليهالسلام : «ولا قضاء
عليهما».
وعلى ذلك ايضا يدل كلامه عليهالسلام في الفقه
الرضوي (2) حيث قال عليهالسلام : وإذا لم
يتهيأ للشيخ أو الشاب المعلول أو المرأة الحامل أن يصوم من العطش أو الجوع أو تخاف
المرأة أن يضر بولدها فعليهم جميعا الإفطار ، ويتصدق كل واحد عن كل يوم بمد من
طعام وليس عليه القضاء. انتهى.
وهذه العبارة هي مستند الشيخ على بن بابويه إذ هي نفس
عبارته الآتية وان كانت الرواية المتقدمة دالة ايضا على ذلك.
قال في المدارك : ومقتضى العبارة وجوب القضاء عليهما مع
التمكن كما في ذي العطاش وهو مشكل لإطلاق الرواية المتضمنة للسقوط. انتهى.
أقول : العجب منه (قدسسره) انه قدم
صحيحة محمد بن مسلم المشتملة على نفى القضاء عنهما وغفل عن الاستدلال بها وإنما
استند إلى إطلاق الروايات بالسقوط والرواية صحيحة صريحة في ما يريده. وأعجب من ذلك
انه في مسألة ذي العطاش استند إليها في سقوط القضاء ورد على الأصحاب في إيجاب
القضاء عليه وهو بعد العبارة الأولى بأربعة أسطر.
الرابعة ـ روى الشيخ في التهذيب بسنده عن ابى بصير عن
ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قلت له
الشيخ الكبير لا يقدر أن يصوم؟ فقال يصوم عنه بعض ولده. قلت فان لم يكن له ولد؟
قال فادنى قرابته. قلت فان لم يكن له قرابة؟ قال يتصدق بمد في كل يوم فان لم يكن
عنده شيء فليس عليه».
__________________
(1) ص 417.
(2) ص 25.
(3) الوسائل الباب 15 ممن يصح منه الصوم.
وحمل في الاستبصار صوم الولد والقرابة على الاستحباب
وبذلك صرح في المنتهى ، ولو لا إعراض الأصحاب عن العمل بالرواية واتفاقهم على
العمل بتلك الأخبار لأمكن القول بتقييد الأخبار المتقدمة بها.
المسألة العاشرة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
حكم ذي العطاش ـ وهو بالضم داء لا يروى صاحبه ـ فقيل بأنه يجب عليه الإفطار إذا شق
عليه الصيام ويجب عليه التكفير والقضاء مع البرء ، واختاره المحقق في المعتبر
والشرائع.
اما وجوب الإفطار فظاهر لان التكليف منوط بالوسع كما
عرفت لقوله عزوجل (لا
يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها) (1).
واما وجوب الصدقة فلقوله عليهالسلام في صحيحة محمد
بن مسلم المتقدمة في صدر المسألة السابقة (2) «يتصدق كل واحد
منهما ـ يعنى الشيخ الكبير والذي به العطاش ـ عن كل يوم بمد من طعام».
واما وجوب القضاء فاستدل عليه في المعتبر بأنه مرض وقد
زال فيقضى كغيره من الأمراض. أقول : ويؤيده ظاهر الآية (فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ) (3) الا أن إطلاق
صحيحة محمد بن مسلم المشار إليها ينافي ذلك لقوله عليهالسلام : «ولا قضاء
عليهما».
وقيل انه ان كان مرجو الزوال يجب على صاحبه القضاء بعد
البرء ولا كفارة وان كان من ما لا يرجى زواله وجبت الكفارة خاصة دون القضاء.
اختاره العلامة في جملة من كتبه.
قال في المختلف : ذو العطاش الذي يرجى برؤه ويتوقع زواله
يفطر ويقضى مع البرء ، وهل تجب الكفارة؟ قال الشيخ : نعم ، وبه قال سلار وابن
البراج وابن حمزة ، وقال المفيد والسيد المرتضى وابن إدريس لا تجب وهو الأقرب ،
لنا ـ
__________________
(1) سورة البقرة الآية 287.
(2) ص 417 واللفظ مطابق للفقيه ج 2 ص 84.
(3) سورة البقرة الآية 182.
الأصل براءة الذمة ، ولانه مريض فلا تجب
عليه كفارة مع القضاء كغيره. الى ان قال : ولو كان العطاش من ما لا يرجى برؤه قال
الشيخ يفطر ولا قضاء عليه وتجب الكفارة ، وبه قال ابن بابويه والسيد المرتضى وابن
الجنيد والمفيد وابن إدريس وابن البراج ، وقال سلار لا تجب الكفارة. انتهى.
ومنه يعلم ان ما قدمنا نقله عن العلامة في جملة من كتبه
هو مذهب الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن إدريس وان ما نقل عن الشيخ في كلا
الشقين هو مذهب المحقق الذي قدمنا نقله عنه ، ومحل الاختلاف بين القولين في وجوب
الكفارة مع البرء فأثبتها الشيخ والمحقق ومن معهما ونفاها العلامة ومن تبعه.
وقيل انه متى كان غير مرجو الزوال فلا كفارة ولا قضاء
ولو حصل البرء على خلاف الغالب ، اختاره المحقق الشيخ على ، وهو ظاهر المنقول عن
سلار.
وإطلاق الخبر المتقدم مدافع لكل من القولين المذكورين
فإنه دال على وجوب التكفير مطلقا أعم من أن يرجى برؤه أم لا ونفى القضاء مطلقا أعم
من أن يرجى برؤه أم لا ، ولا ريب ان الوقوف على ظاهر الخبر هو الأظهر والاحتياط لا
يخفى.
وهل يجب على ذي العطاش الاقتصار من الشرب على ما تندفع
به الضرورة أم يجوز له التملي من الشرب وغيره؟
قيل بالأول لرواية عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) «في الرجل
يصيبه العطش حتى يخاف على نفسه؟ قال : يشرب بقدر ما يمسك رمقه ولا يشرب حتى يروى».
وقيل بالثاني وهو خيرة الأكثر لإطلاق صحيحة محمد بن مسلم (2) وقوله عليهالسلام : «الشيخ
الكبير والذي به العطاش يفطران».
ويمكن ترجيح الثاني بأن مورد الرواية الأولى غير مورد
الرواية الثانية.
وكيف كان فالاحتياط في الوقوف على القول الأول.
__________________
(1) الوسائل الباب 16 ممن يصح منه الصوم.
(2) ص 417 وهو نقل بالمعنى.
واما ما رواه الشيخ عن المفضل بن عمر (1) ـ قال «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام ان لنا فتيانا
وشبانا لا يقدرون على الصيام من شدة ما يصيبهم من العطش؟ قال : فليشربوا بقدر ما
تروى به نفوسهم وما يحذرون» ، ـ فالظاهر حمله على الصغار الصائمين تمرينا فهو خارج
عن محل البحث وان ذكره المحدثون في ضمن اخبار هذه المسألة. والله العالم.
المسألة الحادية عشرة ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) هو التفصيل بالنسبة إلى الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن بأنهما
إن خافا على أنفسهما أفطرتا وعليهما القضاء ولا كفارة كالمريض وكل من خاف على نفسه
، وان خافا على الولد أفطرا وقضيا وكفرا.
قال العلامة في المنتهى : مسألة ـ الحامل المقرب والمرضع
القليلة اللبن إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وعليهما القضاء ، وهو قول فقهاء
الإسلام ولا كفارة عليهما. الى أن قال : مسألة ـ ولو خافتا على الولد من الصوم
فلهما الإفطار أيضا وهو قول علماء الإسلام. ويجب عليهما القضاء إجماعا إلا من سلار
من علمائنا ، ويجب عليهما الصدقة عن كل يوم بمد من طعام ، ذهب إليه علماؤنا.
وقال شيخنا الشهيد في الدروس : وتجب الفدية على الحامل
المقرب والمرضعة القليلة اللبن إذا خافتا على الولد مع القضاء. ثم قال في الفروع :
الثاني ـ لو خافت المرأة على نفسها دون ولدها ففي وجوب الفدية وجهان والرواية
مطلقة ولكن الأصحاب قيدوا بالولد.
وقال المحقق الشيخ على بن عبد العالي في حواشي الإرشاد
عند قول المصنف : الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن وذو العطاش الذي يرجو
زواله يفطرون ويقضون مع الصدقة. فكتب المحقق المذكور في الحاشية : أما الحامل
المقرب وهي التي قرب زمان وضع حملها والمرضعة القليلة اللبن فإنهما يفطران ويقضيان
مع الصدقة عن كل يوم بمد إذا خافتا على الولد فقط اما إذا خافتا على أنفسهما
فإنهما يفطران
__________________
(1) التهذيب ج 4 ص 240 وفي الوسائل الباب 16 ممن يصح منه
الصوم. وفي اللفظ تغيير لا يخل.
ويقضيان ولا كفارة كالمريض وكل من خاف
على نفسه. انتهى.
وظاهر المحقق في الشرائع ـ وهو صريحة في المعتبر ـ انهما
يفطران ويقضيان ويفديان مطلقا وهو ظاهر عبارة الإرشاد المتقدمة.
وبذلك يظهر لك ما في اعتراض صاحب المدارك هنا على جده (قدسسره) حيث قال ـ بعد
قول المصنف : الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن يجوز لهما الإفطار في رمضان
وتقضيان مع الصدقة عن كل يوم بمد من طعام ـ ما لفظه : إطلاق العبارة يقتضي عدم
الفرق في ذلك بين أن تخاف الحامل والمرضع على أنفسهما وعلى الولد ، وبهذا التعميم
صرح المصنف في المعتبر واستدل عليه بما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح عن محمد
بن مسلم (1) قال : «سمعت
أبا جعفر عليهالسلام يقول الحامل
المقرب والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان لأنهما لا
تطيقان الصوم ، وعليهما أن تتصدق كل واحدة منهما في كل يوم تفطران فيه بمد من طعام
، وعليهما قضاء كل يوم أفطرتا فيه تقضيانه بعد». ثم نقل عن الشافعي قولا بأنهما
إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضيتا ولا كفارة (2) ثم قال : وما
ذكره الشافعي لا وجه له مع وجود الأحاديث المطلقة وهو كذلك. ومن العجب ان الشارح (قدسسره) جعل هذا
التفصيل هو المشهور مع انا لم نقف على مصرح به سوى فخر الدين وبعض من تأخر عنه.
الى آخره :
فان فيه ما عرفت من أن ما ذكره جده صحيح لا تعجب منه كما
سمعت من كلام من قدمنا ذكره منهم وهو ظاهر لمن تتبع كلامهم في المقام.
نعم عبائر المتقدمين كالشيخ المفيد في المقنعة والشيخ في
المبسوط وابن إدريس في السرائر إنما صرحت بالخوف على الولد خاصة فأوجبوا الإفطار
والقضاء والفدية في ذلك واما الخوف على أنفسهما فلم يذكروا حكمه ، وكأنهم حملوا
الرواية المذكورة
__________________
(1) الوسائل الباب 17 ممن يصح منه الصوم.
(2) المغني ج 3 ص 139.
على ذلك وجعلوا حكم الخوف على أنفسهما
من قبيل سائر الأمراض كما صرحت به عبائر جملة من المتأخرين وقد تقدم فاستندوا في
حكمه الى عموم اخبار المرض مطلقا من وجوب الإفطار والقضاء خاصة.
ويدل على خصوص ذلك ما رواه ابن إدريس في مستطرفات
السرائر (1) نقلا من كتاب
مسائل الرجال رواية أحمد بن محمد الجوهري وعبد الله بن جعفر الحميري عن على بن
مهزيار قال : «كتبت إليه ـ يعنى على بن محمد عليهالسلام ـ اسأله عن
امرأة ترضع ولدها وغير ولدها في شهر رمضان فيشتد عليها الصوم وهي ترضع حتى يغشى
عليها ولا تقدر على الصيام أترضع وتفطر وتقضى صيامها إذا أمكنها أو تدع الرضاع
وتصوم؟ فان كانت ممن لا يمكنها اتخاذ من يرضع ولدها فكيف تصنع؟ فكتب : ان كانت ممن
يمكنها اتخاذ ظئر استرضعت لولدها وأتمت صيامها وان كان ذلك لا يمكنها أفطرت وأرضعت
ولدها وقضت صيامها متى ما أمكنها».
وبالجملة فإن الصحيحة المتقدمة وان كانت مطلقة إلا انه
يمكن تقييد إطلاقها بهذه الرواية لأنها ظاهرة في أن الخوف على نفس المرأة لا على
الولد وهي إنما تضمنت القضاء خاصة فتخص تلك الصحيحة بالخوف على الولد. ولا ينافيه
قوله عليهالسلام فيها «لأنهما
لا تطيقان الصوم» حيث انه ظاهر في ان الخوف على أنفسهما لإمكان الحمل على المجاز
باعتبار تضرر الولد به.
بقى فى المقام فوائد
الأولى ـ قد نقل العلامة في المختلف عن الشيخ على بن
الحسين بن بابويه انه قال في الرسالة : وإذا لم يتهيأ للشيخ أو الشاب أو المرأة
الحامل ان تصوم من العطش أو الجوع أو تخاف المرأة ان يضر بولدها فعليهم جميعا
الإفطار وتصدق عن كل يوم بمد من طعام وليس عليه القضاء.
ثم قال (قدسسره) بعد نقل ذلك
: وهذا الكلام يشعر بسقوط القضاء
__________________
(1) الوسائل الباب 17 ممن يصح منه الصوم.
في حق الحامل والمرضع والمشهور بين
علمائنا وجوب القضاء عليهما. ثم استدل ببعض الأدلة التخريجية ثم بصحيحة محمد بن
مسلم المتقدمة (1).
ثم قال : احتج بأن الأصل براءة الذمة من القضاء ، ولان
القضاء انما يجب بأمر جديد ، ولأنهما أفطرتا بالعذر فاشبهتا الشيخ الفاني. والجواب
أصالة البراءة انما تعتبر مع عدم دليل يخالفها والقضاء يجب بالآية (2) والحديث (3) وعمل الأصحاب.
والفرق بينهما وبين الشيخ ظاهر فان الشيخ عاجز عن الأداء والقضاء فلو أوجبنا عليه
القضاء لوجب عليه الأداء. انتهى.
أقول : الظاهر ان هذا الاحتجاج الذي نقله إنما هو تكلف
منه (قدسسره) حيث لم يجد
دليلا من الأخبار الواصلة اليه ، والحجة الحقيقية للشيخ المشار اليه إنما هو كتاب
الفقه الرضوي فإن هذه العبارة عين عبارة الفقه الرضوي التي قدمناها في الفائدة
الثالثة من المسألة التاسعة (4) وهذه عادته
كما نبهنا عليه في غير موضع من ما تقدم من أنه يأخذ عبارة الكتاب ويفتي بها ،
وربما كان الحكم فيها غريبا كما في هذا الموضع فيطعنون عليه بعدم الدليل أو يزيفون
له دليلا كما هنا ، وكل ذلك ناشئ من عدم اطلاعهم على هذا الكتاب وانه معتمد الشيخ
المذكور في جميع الأبواب.
الثانية ـ قال في الدروس : لو قام غير الام مقامها روعي
صلاح الطفل فان تم بالأجنبية فالأقرب عدم جواز الإفطار ، هذا مع التبرع أو تساوى
الأجرتين ولو طلبت الأجنبية زيادة لم يجب تسليمه إليها وجاز الإفطار.
أقول : اما ما اختاره من عدم جواز الإفطار في ما لو تم
صلاح الطفل بالأجنبية فهو صريح صحيحة على بن مهزيار المتقدمة (5) لقوله عليهالسلام : «ان كانت
ممن
__________________
(1) ص 428.
(2) وهو قوله تعالى في سورة البقرة الآية 182 (فَعِدَّةٌ
مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ).
(3) الوسائل الباب 17 ممن يصح منه الصوم.
(4) ص 424.
(5) ص 429.
يمكنها اتخاذ ظئر استرضعت لولدها
وأتمت صيامها». واما تقييد ذلك بالتبرع أو تساوى الأجرتين ـ فلو طلبت الأجنبية
زيادة لم يجب تسليمه إليها وجاز الإفطار ـ فهو خلاف ظاهر الخبر المذكور لانه عليهالسلام ناط ذلك
بالمكنة فمتى أمكنها اتخاذ الظئر ـ بأجرة أو بغير اجرة زادت الأجرة على اجرة المثل
أم لا ـ وجب عليها اتخاذ الظئر ووجب عليها الصيام.
الثالثة ـ قال في الدروس : هذه الفدية من مالها وان كانت
ذات بعل ، ومثله صرح في المدارك ، والوجه فيه ظاهر صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (1) وقوله عليهالسلام فيها «وعليهما
ان تتصدق كل واحدة منهما». ولان هذه الفدية ترتبت على إفطارهما فتكون لازمة لهما.
الرابعة ـ قال في المدارك : واعلم ان إطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في المرضع بين الام وغيرها ولا بين المتبرعة والمستأجرة. وهو كذلك.
__________________
(1) ص 428.