ج21 - كتاب الصلح

كتاب الصلح

وهو عقد شرع لقطع التجاذب ، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. قال الله عزوجل (1) «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» وقال عزوجل (2) «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما».

وروى في الكافي عن حفص ابن البختري (3) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الصلح جائز بين الناس».

وروى في الفقيه مرسلا (4) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله): «الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا».

وروى في البحار (5) نقلا عن كتاب الإمامة والتبصرة مسندا عن مسعدة بن صدقة عن الصادق (عليه‌السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الحديث.

__________________

(1) سورة النساء الآية 128.

(2) سورة الحجرات الآية 9.

(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 5.

(4) الفقيه ج 3 ص 21 ح 1.

(5) البحار ج 103 ـ ص 178 ـ ح 2 ـ والوسائل ج 13 ص 164 الباب 3 من كتاب الصلح.


وروى في الكافي عن هشام بن سالم (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : لأن أصلح بين اثنين أحب الى من أن أتصدق بدينارين.

وعن المفضل (2) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : إذا رأيت بين اثنين من شيعتنا منازعة فافتدها من مالي».

وعن أبي حنيفة سائق الحاج (3) قال : من بنا المفضل وأنا وختني نتشاجر في ميراث ، فوقف علينا ساعة ثم قال لنا : تعالوا الى المنزل ، فأتينا فأصلح بيننا بأربعمائة درهم ، فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه. قال لنا : أما أنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله (عليه‌السلام) أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شي‌ء أن أصلح بينهما وأفتدى بها من ماله ، فهذا من مال أبي عبد الله (عليه‌السلام). ، الى غير ذلك من الاخبار الواردة في المقام ، وسيأتي شطر منها في بعض الأحكام.

وما ذكرنا هنا من الآيتين وبعض الاخبار وان لم يكن صريحا في هذا العقد المخصوص الذي هو محل البحث في هذا الكتاب ، الا أنه صالح لشموله وإدخاله في ذلك.

إذا عرفت ذلك فالبحث في هذا الكتاب يقع في مطلبين :

الأول ـ في جملة من الأحكام ، وفيه مسائل الاولى ـ الظاهر أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) في أنه لا يشترط في صحة الصلح سبق نزاع ، بل لو وقع ابتداء على عين بعوض معلوم صح ، وأفاد نقل كل من العوضين كما في البيع ، لإطلاق الأدلة الدالة على جوازه من غير تقييد بالخصومة ، كالحديث النبوي المتقدم ، وصحيحة حفص بن البختري المتقدمة. (4)

وصحيحة محمد بن مسلم (5) عن الباقر (عليه‌السلام) أنه قال في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحدكم له عند صاحبه فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ، ولي ما عندي فقال : لا بأس بذلك إذا

__________________

(1 و 2 و 3) في الكافي ج 2 ص 209 باب الإصلاح بين الناس ح 2 أيضا في الوسائل ج 13 ص 162 ح 1 و 3 و 4.

(4) ص 83.

(5) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 والوسائل ج 13 ص 165 ح 1.


تراضيا ، وصحيحة منصور بن حازم (1) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين الحديث كما في سابقه وزاد وطابت به أنفسهما.

وصحيحة الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) وغير واحد عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح ، فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس».

وصحيحة الحلبي (3) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في الرجل يعطى أقفزة من حنطة معلومة يطحنها بدراهم ، فلما فرغ الطحان من طحنه نقد الدراهم ، وقفيزا منه وهو شي‌ء اصطلحوا عليه فيما بينهم ، قال : لا بأس به ، وان لم يكن ساعره على ذلك». الى غير ذلك من الاخبار الظاهرة في المراد.

هذا والأصل في العقود الصحة ، للأمر بالوفاء ، لا يقال : انهم قد عرفوه كما قدمنا ذكره بأنه عقد شرع لقطع التجاذب ، وهو مستلزم لتقدم الخصومة ، لأنا نقول : أولا أن الظاهر أن هذا التعريف انما وقع من العامة ، وتبعهم أصحابنا فيه ولهذا ان بعض العامة شرط فيه تقدم الخصومة ، فلا تقوم به حجة في الخروج عن ظواهر الأدلة المشار إليها ، وثانيا أنه مع الإغماض عن ذلك ، فإنه لا يلزم من كون أصل مشروعيته لذلك أنه لا يكون الا كذلك ، الا ترى أنه قد ورد في وجوب العدة وأصل مشروعيتها التعليل باستبراء الرحم ، مع وجوبها في جملة من المواضع المقطوع فيها ببراءة الرحم ، كمن طلق زوجته أو مات عنها بعد مفارقته لها سنين عديدة ، ونحوه ما ورد من تعليل استحباب غسل الجمعة بالتأذى من روائح الأنصار إذا حضروا الجمعة ، فتأذى الناس بريح آباطهم ، فأمروا بالغسل لدفع تأذى الناس بذلك ، مع ما استفاض من استحباب الغسل وان كانت رائحته كرائحة المسك ، الى غير ذلك.

وبالجملة فإن الخلاف في هذا المقام انما هو من العامة ، نعم اختلف أصحابنا في كونه عقدا برأسه أو فرعا على غيره ، فالمشهور الأول وان أفاد في ذلك فائدة غيره

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 و 2.

(3) التهذيب ج 6 ص 207 ح 9.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 165 ح 1 وص 166 ح 3 وص 169 ح 1.


ومجرد افادته فائدة غيره لا يستلزم فرعيته عليه.

وذهب الشيخ في المبسوط إلى أنه فرع على عقود خمسة ، فجعله فرع البيع إذا أفاد نقل الملك بعوض معلوم ، وفرع الإجارة إذا وقع منفعة مقدرة بمدة معلومة بعوض معلوم ، وفرع الهبة إذا تضمن ملك العين بغير عوض ، وفرع العارية إذا تضمن إباحة منفعة بغير عوض ، وفرع الإبراء إذا تضمن إسقاط دين أو بعضه.

والأصحاب ردوه بأن افادة عقد فائدة عقد آخر لا تقتضي كونه من أفراده ، مع دلالة الدليل على استقلاله بنفسه ، كغيره من العقود.

ويظهر الفرق بين القولين : أنه على المشهور عقد لازم لدخوله في عموم الأمر بالوفاء بالعقود ، وعلى قول الشيخ يلحقه حكم ما ألحق به من العقود في ذلك الفرد الذي ألحق به.

أقول : لا يخفى أن ما ذهب اليه الشيخ هنا قد تبع فيه الشافعي حسبما نقل عنه ، قال في التذكرة : الصلح عند علمائنا أجمع عقد قائم بنفسه ، ليس فرعا على غيره ، بل أصل في نفسه ، منفرد في حكمه ، ولا يتبع غيره في الأحكام ، لعدم الدليل على تبعية الغير ، والأصل في العقود الأصالة.

وقال الشافعي : انه ليس بأصل منفرد بحكمه ، وانما هو فرع على غيره ، وقسمه على خمسة أضرب ، ضرب فرع البيع ، وهو أن يكون في يده عين أو في ذمته دين فيدعيها انسان فيقر له بها ثم يصالحه على ما يتفقان عليه ، وهو جائز فرع على البيع ، بل هو بيع عنده ، يتعلق به أحكامه.

وضرب هو فرع الإبراء والحطيطة ، وهو أن يكون له في ذمته دين فيقر له به ثم يصالحه على أن يسقط بعضه ، ويدفع اليه بعضه وهو جائز وهو فرع الإبراء.

وضرب هو فرع الإجارة ، وهو أن يكون له عنده دين أو عين فصالحه عن ذلك على خدمة عبد أو سكنى دار فيجوز ذلك ويكون فرع الإجارة.

وضرب هو فرع الهبة ، وهو أن يدعى عليه دارين أو عبدين وشبههما فيقر له بهما ويصالحه من ذلك على إحديهما ، ويكون هبة للأخرى.

وضرب هو فرع العارية ، وهو أن يكون في يده دار فيقر له بها ويصالحه


على سكناها شهرا وهو جائز ويكون ذلك عارية. انتهى.

والعجب من دعوى العلامة هنا الإجماع من أصحابنا أجمع أنه عقد قائم بنفسه ، ليس فرعا على غيره ، مع ما عرفت من تصريح الشيخ بما نقله عن الشافعي من الفرعية من المواضع الخمسة ، واشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب ، ومنهم هو (قدس‌سره) في المختلف ، حيث نسب فيه القول بالأصالة إلى المشهور ، ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه فرع لغيره.

وكيف كان فهذا القول بمحل من الضعف والقصور ، فالاعتماد على القول المشهور ، لعدم الدليل على هذه الدعوى ، فإن الأصل في جميع العقود من صلح وغيره هو كون ذلك العقد أصلا برأسه ، وجعله في حكم غيره أو فرعيته عليه فيلحقه أحكام غيره يحتاج الى دليل واضح.

ومن هنا أنكر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) كون قول الشيخ في المبسوط بذلك مذهبا له ، وانما هو نقل لقول العامة ، واستند في ذلك الى دعوى الإجماع في التذكرة ، وهو عجيب منه (قدس‌سره) وكأنه لم يلاحظ كتاب المبسوط في هذا المقام ، فان عبارته صريحة في كونه مذهبه ، حيث قال بعد ذكر الأدلة الدالة على مشروعية الصلح من الآيات والروايات : ما صورته فإذا ثبت هذا فالصلح ليس بأصل في نفسه ، وانما هو فرع لغيره ، وهو على خمسة أضرب ، أحدها فرع البيع ، وثانيها فرع الإبراء ، ثم ساق الكلام في هذه الخمسة الى أن قال : إذا ورث رجلان من مورثهما مالا فصالح أحدهما صاحبه على نصيبه من الميراث بشي‌ء يدفعه إليه ، فإن هذا الصلح فرع البيع يعتبر فيه شرائط البيع ، فما جاز في البيع جاز فيه ، وما لم يجز فيه لم يجز فيه ، الا أنه يصلح بلفظ الصلح ، ومن شرط صحة البيع أن يكون معلوما ، ثم ذكر جملة من شروط البيع وأحكامه ، ومنها خيار المجلس الا أنه قال في آخر الكلام ، ويقوى في نفسي أن يكون هذا الصلح أصلا بنفسه ، ولا يكون فرع البيع ، فلا يحتاج الى شروط البيع ، واعتبار خيار المجلس على ما بيناه فيما مضى ، ثم ساق الكلام في باقي الأقسام ، وكلامه (قدس‌سره) ظاهر بل صريح في كون ذلك مذهبا له ، لا نقلا لمذهب العامة كما توهمه المحقق المذكور.


لكنه كما ترى قد صرح بالرجوع عن ذلك في صورة الفرعية على البيع ، وقال : بأن الأقوى عنده أنه أصل برأسه في هذه الصورة مع اشتهار النقل عنه في كتب الأصحاب بالفرعية في البيع وغيره ، كما لا يخفى على من وقف على كلامهم ، وكأنهم لم يراجعوا الكتاب المذكور ، واعتمدوا في ذلك على نقل بعضهم عن بعض ، والافاق العبارة كما ترى صريحة في العدول عن مذهبه في هذه الصورة بخصوصها ، فينبغي المراجعة في أمثال هذه المقامات ، وعدم الاعتماد على النقول ، وان كانت من مثل هؤلاء الفحول ، والمعصوم من عصمه الله تعالى فيما يفعل ويقول. والله العالم.

المسئلة الثانية ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بصحة الصلح مع الإقرار والإنكار ، إلا ما أحل حراما أو حرم حلالا.

أقول : أما الحكم الأول فلا خلاف فيه عندهم ، قال في التذكرة : يصح الصلح على الإقرار والإنكار معا سواء كان المدعى به دينا أو عينا عند علمائنا أجمع ، وبه قال أبو حنيفة واحمد انتهى.

وقال في المسالك ـ بعد قول المصنف يصح مع الإقرار والإنكار ـ هذا عندنا موضع وفاق.

ونبه بذلك على خلاف الشافعي حيث منعه مع الإنكار ، نظرا إلى أنه عاوض على ما لم يثبت له ، فلا تصح المعاوضة ، كما لو باع مال غيره ، ونحن نمنع بطلان المعاوضة على ما لم يثبت بالصلح ، فإنه عين المتنازع ، والفرق بينه وبين البيع ظاهر ، فان ذلك تصرف في مال الغير بغير إذنه ، بخلافه هنا ، ولان معنى شرعيته عندنا وعنده على قطع التنازع وهو شامل للحالين. انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن صحة الصلح مع الإقرار والاعتراف بالمدعى مما لا اشكال فيها لمعلوميته عند صاحبه : ولا فرق بين أن يصالح عنه بأقل ، أو أكثر أو ما ساواه ، للمعلومية في الجميع ، وحصول التراضي من الطرفين.

إنما الإشكال في صورة الإنكار بأن يدعى شخص على غيره دينا أو عينا فينكر المدعى عليه ، فتقع المصالحة بينهما اما بمال آخر ، أو ببعض المدعى أو غير ذلك من منفعة وغيرها ، فإنه باعتبار الإنكار ، واختلاف الخصمين في ذلك نفيا وإثباتا يحتمل أن


يكون المدعى محقا : والمدعى عليه مبطلا في إنكاره ، وأنه مشغول الذمة في الواقع ، فالصلح هنا وان أفاد قطع النزاع بحسب الظاهر ـ وعدم صحة الدعوى بعد ذلك ، لصحته بحسب الظاهر ـ الا أنه لا يفيد براءة ذمة المدعى عليه مما يزيد على مال الصلح ، فيما لو فرض أنه صالحه على أقل مما في ذمته في الواقع ، أو بعض العين أو المال الأخر ، بل يبقى مشغول الذمة بالباقي وانما تبرأ ذمته بقدر ما دفعه خاصة.

وتدل على ذلك صحيحة عمر بن يزيد (1) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ، ثم صالح ورثته على شي‌ء ، فالذي أخذته الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة ، وان هو لم يصالحهم على شي‌ء حتى مات ولم يقض عنه فهو للميت يأخذه به».

حتى أنه لو كانت الدعوى على عين في يده وصالح عنها بأقل من قيمتها فالعين بأجمعها في يده مغصوبة ، ولا يستثني له منها مقدار ما دفع ، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر. ويحتمل أن يكون المدعى مبطلا والمدعى عليه محقا في إنكاره ، وأنه بري‌ء الذمة في الواقع ، فان الصلح وان صح ظاهرا ، لكنه لا يصح بحسب الواقع ، ولا يستبيح للمدعى ما دفع اليه من مال الصلح ، لأنه أكل مال بالباطل ، والمدعى عليه انما دفعه اليه افتداء من هذه الدعوى الكاذبة ، أو خوف الضرر على نفسه وماله لو لم يفعل ، ومثل هذا لا يعد عن تراض يحصل به الإباحة.

نعم لو كانت الدعوى مستندة الى شبهة وقرينة تخرج بها عن الكذب المحض ، كما لو وجد المدعى بخط مورثه أن له على فلان مالا أو شهد له من لا يثبت الحق بشهادته شرعا ولم يكن المدعى عالما بالحال ، وانما ادعى بناء على هذا الفرض ، وتوجهت له اليمين على المدعى ، فصالحه على إسقاط اليمين بمال أو قطع المنازعة ، فالظاهر هنا صحة الصلح في نفس الأمر ، واستحقاق ما يأخذه من مال الصلح ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أيضا.

وبالجملة فالحكم بالصحة في صورة الإنكار مراد بها ما هو أعم من الصحة

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 208 ح 11 ـ الوسائل ج 13 ص 166 ح 4.


بحسب ظاهر الشرع دون نفس الأمر تارة كما عرفت ، ومن الصحة ظاهرا وواقعا فيما إذا حصل الصلح على مقدار ما في الذمة ، كما في الصورة الاولى (1).

وأما الحكم الثاني وهو قولهم «الا ما أحل حراما أو حرم حلالا» فهو عين ما صرح به الحديث النبوي المتقدم ، وفسر الأصحاب تحليل الحرام بالصلح على استرقاق حر أو استباحة بضع لا سبب لإباحته إلا الصلح ، أو يشربا أو أحدهما الخمر ونحو ذلك.

وبالجملة ما يكون محرما في حد ذاته ، ويراد تحليله وإباحته بالصلح ، وتحريم الحلال بأن لا يطأ أحدهما حليلته أو لا ينتفع بماله ، أو نحو ذلك مما هو حلال له في حد ذاته ، وانما يراد تحريمه بالصلح.

وعلى هذا فالاستثناء متصل ، لان الصلح على هذا باطل ظاهرا وواقعا ، وربما فسر بصلح المنكر على بعض المدعى أو منفعته أو بدله مع كون أحدهما عالما ببطلان الدعوى : كما تقدم بيانه ، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعا ، لما عرفت من الحكم بصحة الصلح هنا ظاهرا ، وانما بطلانه بحسب الواقع ونفس الأمر ، والحكم بالصحة ، والبطلان انما يتوجه الى الظاهر ، فلا يصح أن يكون الاستثناء متصلا ، ويحتمل كونه متصلا بالنظر الى الواقع ، وهذا المثال يصلح للأمرين معا فإنه محل للحرام بالنسبة إلى الكاذب (2) ومحرم للحلال بالنسبة إلى المحق. والله العالم.

المسألة الثالثة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يصح الصلح مع العلم بالمتنازع فيه وجهله ، دينا كان أو عينا ، وما ذكروه من الصلح مع العلم فلا ريب في صحته ، لارتفاع الجهالة ، وحصول التراضي ، وان كان يبقى الكلام في المبطل منهما باعتبار الاستحقاق واقعا وعدمه ، فيجري فيه ما تقدم في سابق هذه المسألة.

__________________

(1) وهي احتمال ان يكون المدعى محقا والمدعى عليه مبطلا في إنكاره. منه رحمه‌الله.

(2) فان الكاذب أخذ ما لا يستحقه واقعا بهذا الصلح وصار حلالا له بحسب الظاهر من هذا الصلح ما لا يستحقه واقعا من المال الذي يدعيه. منه رحمه‌الله.


واما مع الجهل فيحتمل أن يكون مرادهم به كما ذكره جملة من المتأخرين ما كان ناشئا عن عدم إمكان العلم ، بحيث يتعذر عليهما استعلامه ، لا مطلقا للزوم الغرر المنهي عنه شرعا ، ولوالدي العلامة (قدس‌سره وروحه ونور ضريحه) في هذا المقام تفصيل حسن ، يحسن ذكره وان طال به زمام الكلام ، فإنه من أهم المهام ، قال (عطر الله مرقده وأعلى في جوار أئمته صلوات الله عليهم مقعده) بعد كلام في المقام : إذا عرفت هذا فنقول الصلح اما ان يقع على معلوم عند المتصالحين أو مجهول عندهما ، أو معلوم عند أحدهما ومجهول عند الأخر.

وعلى الثاني فاما أن يتعذر معرفته مطلقا ، أو في الحال فقط مع إمكان معرفته في وقت آخر. أو يمكن معرفته مطلقا.

وعلى الثالث فالعالم فيه اما أن يكون هو المستحق ، أو من عليه الحق ، فإن كان الأول فاما أن يقع الصلح بأكثر من حقه أو لا ، فان كان الثاني فاما أن يعلم الغريم المستحق بمقدار حقه أو لا ، ومع عدم إعلامه فاما أن يصالحه بأقل من حقه أو لا فهذه تسع صور :

الاولى ـ أن يكون المدعى معلوما عند كل من المتصالحين ، والحكم فيه بالصحة واضح ، لارتفاع الجهالة والغرر فيه ، ولا فرق بين كون المدعى عينا أو دينا ، وكون الصلح بمقدار مال المدعى من الحق أو أقل منه أو أكثر ، مع حصول الرضا الباطني من كل منهما لصحة المعاوضة ظاهرا وباطنا.

الثانية ـ أن يكون مجهولا عندهما وكان مما يتعذر معرفته والإحاطة به منهما مطلقا عينا كان أو دينا كوارث يتعذر العلم بحصته ، ودين غير معلوم الجنس أو الكم ، وقفيز من دقيق حنطة أو شعير ممتزج ، وكصبرة من طعام أتلفها شخص على آخر ، ولم يعلما بقدرها ، ففي هذه كلها يصح الصلح ظاهرا وفي نفس الأمر ويفيد نقل الملك وإبراء الذمة ، وان كان على المجهول كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم).

بل ظاهر عبارة الشهيد الثاني في المسالك الإجماع على جوازه ، وذلك لان إبراء الذمة أمر مطلوب ، والحاجة إليه ماسة ، ولا طريق اليه الا هذا الصلح


ويدل على صحته أيضا عموم الآية كقوله تعالى (1) «وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» والاخبار كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) «والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا».

وقول الصادق (عليه‌السلام) في حسنة حفص بن البختري (3) «الصلح جائز بين الناس».

وخصوص صحيحة محمد بن مسلم (4) عن الباقر (عليه‌السلام) ، وصفوان عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «انهما قالا في رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ولا يدرى كل واحدكم له عند صاحبه ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس بذلك إذا تراضيا».

فان الظاهر من الروايات عدم إمكان العلم والمعرفة بقدر ذلك الطعام من كل منهما كما هو واضح.

الثالثة ـ أن يكون مجهولا عندهما ولكن لا يتعذر العلم به ، بل يمكن معرفته مطلقا ، فهذا لا يصلح الصلح عليه قبل العلم به على الأظهر ، لحصول الجهل فيه والغرر الموجب للضرر بالزيادة والنقيصة مع إمكان التحرز عنه ، بل لا بد من العلم به أولا بالكيل في المكيل ، والوزن في الموزون ، والعد في المعدود والذرع في المذروع ، فلو صالحه على صبرة من طعام من غير كيل ولا وزن لم يصح كما قد سبق ، لان الاستعلام فيه ممكن.

وكذا ظرف البر والأرز ، ووعاء التمر ونحوه لا يصلح عليه الا بعد معرفة كيله أو وزنه مثلا ، ومن هذا القبيل الصلح على نصيب شخص من عين أو ميراث مع جهلهما به وإمكان العلم بقدره وتعيينه بعد الملاحظة والمراجعة ، وان كان في الحال ، فان الصلح والحال هذه غير صحيح لا ظاهرا ولا باطنا ، ولا يفيد تمليكا

__________________

(1) سورة النساء الآية 128.

(2) الفقيه ج 3 ص 21 ح 1.

(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 5.

(4) التهذيب ج 6 ص 206 ح 1 ـ الفقيه ج 3 ص 21 وذيل رواية منصور وطابت به أنفسهما ح 2 ، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 164 ح 2 و 1 وص 165 ح 1.


ولا إبراء ، وعموم الآية والاخبار الدالة على جواز الصلح بين المسلمين مخصص بما لا غرر فيه ولا جهالة ، للنهى عن ذلك في الخبر كما عرفته.

الرابعة ـ أن يكون مجهولا عندهما ، والعلم به ممكن في الجملة ، لكنه متعذر لعدم الميزان والمكيال في الحال ، ومساس الحاجة الى الانتقال ، وقد استقرب جمع من الأصحاب منهم الشهيد (قدس‌سره) في الدروس والشيخ المقداد في التنقيح والشهيد الثاني في المسالك صحة الصلح ، والحال هذه ، ووجهه تعذر العلم به في الحال مع اقتضاء الضرورة ، ومساس الحاجة لوقوعه ، والتضرر بتأخيره وانحصار الطريق في نقله فيه مع تناول عموم الآية ، والاخبار السالفة.

ومن هذا القبيل أيضا الصلح على نصيب شخص من ميراث أو عين يتعذر العلم بقدره في الحال ، مع إمكان الرجوع في وقت آخر إلى فرضي أو عالم به مع مسيس الحاجة الى نقل النصيب في الحال.

الخامسة ـ أن يكون مجهولا عند المستحق ومعلوما عند الأخر ، وهو من عليه الحق ولم يعلمه بقدره ، وصالحه بأقل من حقه ، وذلك كتركة موجودة يعلمها الذي هو في يده ويجهلها الأخر ، وكذا كل من له نصيب من ميراث أو غيره لا يعلم به ، ويعلم به خصمه إذا صالحه بأقل منه من غير اعلامه ، سواء كان من عليه الحق منكرا ظاهرا أو مقرا بمقدار ما صالح به أو أقل منه ، فان الصلح حينئذ غير صحيح ، والمعاوضة في نفس الأمر باطلة ، والواجب عليه اعلام صاحب الحق ، فإن رضي بالصلح بالأقل ، والا وجب إيصال حقه اليه بتمامه ، فأما الصلح قبل الاعلام فهو حرام ، لا يثمر تمليكا ـ لو كان المدعى عينا ـ ولا إبراء من الباقي لو كان دينا حتى لو صالح على العين بمال آخر فهي بأجمعها في يده مغصوبة ، ولا يستثني له مقدار ما دفع ، لعدم صحة المعاوضة في نفس الأمر.

والذي يدل على عدم صحة هذا الصلح وجوازه ـ مضافا الى ما فيه من الغرر والخدع المنهي عنه وكونه من قبيل الصلح الذي أحل حراما وحرم حلالا ـ ما رواه على بن أبي حمزة (1) قال : «قلت لأبي الحسن» (عليه‌السلام) : رجل يهودي

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 206 ح 3 ـ الوسائل ج 13 ص 166 ح 2.


أو نصراني كانت له عندي أربعة آلاف درهم فمات ، أيجوز لي ان أصالح ورثته ولا أعلمهم كم كان؟ قال : لا يجوز حتى تخبرهم». ونحوها صحيحة عمر بن يزيد (1) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» قال : إذا كان للرجل على الرجل دين فمطله حتى مات ثم صالح ورثته على شي‌ء : فالذي أخذته الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه منه في الآخرة الحديث». وموثقته (2) أيضا» وقال : سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن على رجل ضمانا ثم صالح عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه». نعم هذا الصلح مع فساده وعدم صحته في نفس الأمر ، هو صحيح بحسب ظاهر الشرع ، كما صرح به جماعة من الأصحاب ، منهم الشيخ على بن عبد العالي في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في شرح الشرائع ، فيحكم به على كل واحد منهما ، ولا يجوز لهما الخروج عن مقتضاه ظاهرا ، لعدم العلم بكون من عليه الحق مبطلا في صلحه خادعا فيه ، واحتمال كونه محقا فيكون حاله مشتبها ، فلا يكون صلحه باطلا في الظاهر ـ وان كان على مجهول.

نعم لو انكشف أمره ظاهرا بعد الصلح ، بحيث علم مقدار المدعى ، أو زيادته على ما صالح عليه ، أو اعترف هو بذلك اتجه بطلان الصلح حينئذ ظاهرا أيضا ، ووجب عليه تسليم المدعى ظاهرا لظهور شغل ذمته ، وبطلان المعاوضة ظاهرا وباطنا ، هذا إذا لم يكن من له الحق قد رضى باطنا بالصلح بالأقل ، أما لو رضى به باطنا كان الصلح صحيحا في نفس الأمر حينئذ كما قطع به العلامة (قدس‌سره) في التذكرة ، وحينئذ فلا يجوز له أخذ ما زاد عن مال الصلح ، وان علم الزيادة لحصول الرضا منه باطنا بذلك الأقل عوضا عن حقه ، وان كثر فيكون العبرة في إباحة الباقي بالرضا الباطن ، لا بالصلح.

ويمكن أن يستدل عليه بصحيحة الحلبي (3) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في الرجل يكون عليه الشي‌ء فيصالح فقال : إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس».

__________________

(1 و 2) التهذيب ج 6 ص 208 ح 11 والكافي ج 5 ص 259 ح 6 و 7 و 8.

(3) التهذيب ج 6 ص 206 ح 2.

وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 166 ح 4 وص 153 ح 1 وص 166 ح 3.


فهي دالة بإطلاقها الشامل لذلك كما هو ظاهر.

السادسة ـ ان يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق ، ولم يعلم قدره لكن صالحه بمقدار حقه أو أكثر ، وقد صرح جمع من الأصحاب منهم الشهيد الثاني في شرح الشرائع بصحة الصلح حينئذ ، وان كان على مجهول ، لانتفاء الغرر والخدع فيه ، مع أن العبرة بوصول حقه اليه لا بالصلح ، وأما اشتراط الاعلام في صحة الصلح كما في خبر على بن أبي حمزة السالف فالظاهر أنه مخصوص بما إذا أريد الصلح بالأقل ، لأنه مظنة الغرر والخدع ، فمع وقوع الاعلام بقدره ينتفي الغرر والخدع رأسا أما مع المصالحة بتمام الحق أو أكثر منه فلا خدع فيه قطعا ، فلا يجب فيه الاعلام مع دخوله في عموم الأدلة الدالة على جواز الصلح بين المسلمين.

السابعة ـ أن يكون مجهولا عند المستحق معلوما عند من عليه الحق ، ولكن أعلمه بقدره ولا شك في جواز الصلح وصحته حينئذ ، سواء صالحه بمقدار حقه أو بأقل مع الرضا به لحصول العلم وارتفاع الجهالة وحصول الرضا ، وعموم أدلة جواز الصلح. والله العالم.

الثامنة : أن يكون معلوما عند المستحق مجهولا عند الأخر فصالحه بأكثر من حقه الذي له في الواقع ، لقصد التخلص من دعواه لم يصح هذا الصلح في نفس الأمر ، ولم يستبح به ما زاد عن حقه الذي له في الواقع ، لبطلان المعاوضة في نفس الأمر ، وان كانت صحيحة بحسب ظاهر الشرع ، كما سبق نظيره ، فالظاهر أن ذلك باطل مع عدم الرضا الباطني من الغريم ، لكونه حينئذ من قبيل أكل المال بالباطل ، أما مع رضاه بالصلح كذلك باطنا فالظاهر صحة الصلح حينئذ ، واباحة ذلك للزائد عن حقه لطيب نفسه به ، والظاهر أن العبرة حينئذ في إباحة ذلك الزائد بالرضا به ، لا بالصلح كما سبق مثله.

التاسعة ـ الصورة بحالها ولكن صالحه بقدر حقه أو أنقص ، ولا شك في صحة الصلح فيها ظاهرا وباطنا. والله العالم. انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه ، ورفع فيها مقامه.

أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من هذه الصور التسع بالتقريبات التي ذيلها


بها ظاهر ، الا أن ما ذكره في الصورة الثالثة مما يمكن تطرق المناقشة إليه ، فإن مرجع استدلاله الى تخصيص عمومي الآية والاخبار ـ الدالة على صحة الصلح في مثل هذه الصورة ـ بالأخبار الدالة على النهى عما يشتمل على الغرر والجهالة في المعاوضة.

والتحقيق أن يقال : لا ريب أن هنا عمومين قد تعارضا ، وهما عموم أخبار الصلح الدال على دخول مثل هذه الصورة ، وعموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة الشامل للصلح وغيره من المعاوضات ، وليس تخصيص عموم أخبار الصلح ـ بعموم أخبار النهي عن الغرر ليتم ما ذكره ـ بأولى من تخصيص عموم أخبار النهي عن الغرر والجهالة بأخبار الصلح ، فيقال : حينئذ بصحة الصلح في هذه الصورة وان استلزم الغرر والجهالة كما أن ذلك حاصل في الصورة الثانية والرابعة ، ولا بد لترجيح أحدهما على الأخر من دليل ، ويمكن ترجيح الثاني بظهور عموم أخبار الصلح مع تكاثرها وتعددها على وجه يشمل الصورة المذكورة ، بخلاف ما دل على النهى عن الغرر والمجهول ، فانا لم نقف فيه على رواية صريحة ، وان تكرر دورانه في كلامهم ، وتداول على رؤوس أقلامهم.

وقد تقدم في كتاب البيع قول جملة من الأصحاب بصحة بيع المجهول في جملة من المواضع ، ودلت جملة من الاخبار على الصحة أيضا في مواضع ، وقد حققنا البحث ثمة على وجه يظهر منه أنه ليس ذلك بقاعدة كلية ، ولا ضابطة جلية كما ادعاه جملة منهم ، وبذلك يظهر لك أن الأظهر هنا هو ترجيح عموم أخبار الصلح وإبقائها على عمومها ، والتخصيص فيما دل على النهى عن الغرر والمجهول ، فإنه إذا ثبت صحة العقد مع الجهل والغرر في البيع الذي هو أكثر شروطا وأضيق مدخلا ثبت في الصلح بطريق أولى ، لأنه موضوع على المسامحة والمساهلة ، ولأن العمدة فيه كما هو المفهوم من أخباره هو التراضي من الطرفين ، اما ظاهرا وباطنا. فيصح حينئذ كذلك أو ظاهرا خاصة فتختص الصحة بالظاهر ، والتراضي في موضع النزاع حاصل ظاهرا وباطنا.

ويؤيد ما قلناه ما هو ظاهر من كلام جملة من متقدمي المتأخرين كالمحقق والعلامة وغيرهما من الحكم بصحة الصلح مع العلم والجهل مطلقا ، كما قدمناه


في صدر المسئلة.

قال في التذكرة : لا يشترط العلم بما يقع الصلح عنه لا قدرا ولا جنسا ، بل يصح سواء علما قدر ما تنازعا عليه وجنسه أو جهلاه ، دينا كان أو عينا ، وسواء كان إرثا أو غيره عند علمائنا أجمع ، ثم استدل بالأدلة العامة من آية ورواية على صحته مع الجهل ، ولم يفصل في أثناء كلامه بين ما يمكن استعلامه وما لا يمكن ، وهو ظاهر فيما قلناه.

والأظهر منه ما صرح به المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام : ولا بد أن يكون معلوما ليندفع الغرر ، ولكن الظاهر أنه يكفى العلم به في الجملة. اما بوصفه أو بمشاهدته ، ولا يحتاج الى الكيل والوزن ومعرفة أجزاء الكرباس والقماش والثياب ، وذوق المذوقات وغير ذلك مما يعتبر في البيع ونحوه ، للأصل وعدم دليل واضح على ذلك ، وعموم أدلة الصلح المتقدم ، ولان الصلح شرع للسهولة والإرفاق بالناس ليسهل إبراء ذمتهم ، فلا يناسبه الضيق ولانه مبنى على المسامحة والمساهلة ، واليه أشار بقوله ويكفي المشاهدة في الموزون وان خالف فيه البعض.

قال في الدروس : والأصح أنه يشترط العلم في الموضعين إذا أمكن ، وقال في موضع آخر : ولو تعذر العلم بما صولح عليه جاز ، الى قوله : ولو كان تعذر العلم لعدم المكيال والميزان في الحال ومساس الحاجة الى الانتقال ، فالأقرب الجواز وهو مختار شارح الشرائع أيضا ، ولا نعرف له دليلا ، وما تقدم ينفيه ، ويؤيده التجويز عند التعذر ، فان ذلك لا يجوز في البيع عندهم ، فتأمل ، انتهى. ثم أمر بالاحتياط وهو كما ترى أظهر ظاهر فيما ادعيناه مؤيد لما قدمناه.

وبالجملة فالظاهر هو الصحة في الصورة المذكورة لما عرفت ، والاحتياط لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الرابعة ـ لا يخفى أن أركان الصلح أربعة ، المتصالحان ، والمصالح عليه ، وهو مال الصلح ، والمصالح عنه ، وهو المتنازع فيه لو كان ثمة نزاع.

أما المتصالحان فإنه لا خلاف كما نقله في التذكرة في أنه يشترط فيهما


الكمال ، بأن يكون كل واحد منهما بالغا عاقلا جائز التصرف فيما وقع الصلح عليه.

وأما المصالح عليه فإنه يشترط فيه صحة التملك ، فلو كان خمرا أو خنزيرا أو استرقاق حر أو إباحة بضع محرم قبل ذلك لم يصح ، لما تقدم في الحديث النبوي وكما لا يقع هذه الأشياء مالا للصلح لا يقع مصالحا عنه ، والجميع محرم بما تقدم من النص النبوي.

ومن شرائطه العلم بما يقع الصلح عنه عند بعض كالشهيدين في الدروس والمسالك ، وقد تقدم الكلام فيه.

ومن شروطه رضا المتصالحين ، فلا يقع مع الإكراه إجماعا ، كغيره من العقود ولقوله عزوجل (1) «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» فما لم يكن عن التراضي فإنه أكل مال بالباطل ، ومن صور الإكراه ما لو كان له على غيره حق مالي فأنكره المديون ، فصالحه المالك على بعضه ، توصلا إلى أخذ بعض حقه ، فإنه وان صح الصلح ظاهرا الا أنه لا يصح واقعا ، ولا تحصل به براءة ذمة المديون من الحق الباقي في ذمته ، سواء عرف المالك قدر الحق أم لا ، وسواء ابتدء المالك بطلب الصلح أم لا ، وقد تقدم تحقيق ذلك في الصور المتقدمة في سابق هذه المسئلة.

ومتى استكملت شروطه صار لازما من الطرفين عملا بعموم أدلة الوفاء بالعقود المقتضى لذلك الا ما خرج بدليل من خارج ، ويجي‌ء على قول الشيخ الجواز في بعض موارده ، كما إذا كان فرع العارية التي هي جائزة ، والهبة على بعض الوجوه وقد عرفت ضعفه ، نعم لو اتفقا على فسخه بمعنى الإقالة من ذلك العقد كما في البيع وأوقعا صيغة التقابل انفسخ.

المسئلة الخامسة ـ إذا وقع الصلح بين شريكين على أن يكون الربح والخسران على أحدهما ، وللآخر رأس ماله صح ، والأصل في هذا الحكم ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) «في رجلين اشتركا في مال فربحا فيه ، وكان من المال دين وعليهما دين ، فقال أحدهما لصاحبه :

__________________

(1) سورة النساء الآية 29.

(2) الكافي ج 5 ص 258 ح 1 ـ التهذيب ج 6 ص 207 ح 7 ـ الفقيه ج 3 ص 144 ح 7 ـ الوسائل ج 13 ص 165 ح 1.


أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التوى ، فقال : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرط يخالف كتاب الله عزوجل فهو رد الى كتاب الله عزوجل ، ورواه في الفقيه والتهذيب ، الا أنه قال : «وكان من المال دين وعين» ،. ولم يقل وعليهما دين ورواه في التهذيب بسند آخر عن الحلبي (1) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، الا أنه قال : «وكان المال دينا». ولم يذكر العين ولا عليهما دين ، ورواه في التهذيب أيضا بسند آخر عن داود الأبزاري (2) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله ، الا أنه قال : «وكان المال عينا ودينا» ،. قال في المسالك بعد قول المصنف (قدس الله روحهما) نحو ما قدمنا من العبارة المذكورة ما هذا لفظه : هذا إذا كان عند انتهاء الشركة وارادة فسخها لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة والخسران على من هو عليه بمنزلة الإبراء ، أما قبله فلا لمنافاته وضع الشركة شرعا والمستند صحيحة أبي الصباح ، ثم ساق الرواية المذكورة الى أن قال : وهذا الخبر مشعر بما شرطناه من كون الشرط عند الانتهاء ، لا كما أطلقه المصنف. انتهى.

أقول : وقد تقدمه في ذلك المحقق الشيخ على في شرح القواعد ، فإنه قيد إطلاق عبارة المصنف فقال بعد ذكرها هذا إذا انتهت الشركة وأريد فسخها ، وللمناقشة في ذلك مجال ، فإنه لا يخفى أنه وان كان هذا الشرط مما ينافي الشركة الا أن هذا شأن أكثر الشروط ، فان مقتضى عقد البيع اللزوم من الطرفين ، فلا يجوز لأحدهما فسخه بغير سبب موجب ، مع أنه يصح لأحدهما اشتراط خيار الفسخ بلا خلاف ، ولا ريب أنه مناف لمقتضى العقد الذي هو اللزوم من الطرفين (3) ودعوى أن في

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 25 ح 24 ، الوسائل ج 12 ص 353 ح 4.

(2) التهذيب ج 7 ص 186 ح 9 ، الوسائل ج 13 ص 165 ح 1.

(3) قال في الدروس : لو اصطلح الشريكان عند ارادة الفسخ جاز أن يأخذ أحدهما رأس ماله ، والأخر الباقي ربح أو توى للرواية الصحيحة ولو جعل ذلك في ابتداء الشركة ، فالأقرب المنع ، لمنافاته موضوعها والرواية لم تدل عليه ، انتهى ، أقول فيه ما عرفت في الأصل من ثبوته بالأخبار الدالة على وجوب الوفاء بها وان نافى موضوع الشركة فإنه بمنزلة الاستثناء فيه كما عرفت من مثال خيار الفسخ في البيع المنافي لمقتضى البيع وهو اللزوم من الطرفين وقد تقدم في كتاب البيع ما يشير الى ما ذكرناه ايضا. منه رحمه‌الله.


الرواية إشعار بما شرطه من ان ذلك القول عند انتهاء الشركة ، وارادة فسخها ـ ممنوع فإن غاية ما تدل عليه كون هذا الشرط وقع بعد الشركة والعمل بالمال المشترك ، حتى صار بعضه أو كله دينا ، وهذا لا يلزم منه ارادة الفسخ ، وأنه آخر الشركة ، بل يمكن أن يكون هذا الكلام وقع في الأثناء بأنهم لما اشتركوا على العمل بذلك المال بمقتضى الشركة من كون الزيادة للجميع ، والنقص على الجميع ، اشترط بعضهم هذا الشرط في الأثناء واستمروا على الشركة بهذا الشرط ، ولعل في قوله (عليه‌السلام) «لا بأس إذا اشترطا» ما يشير اليه ، بمعنى أنه لا بأس بالشركة على هذا الوجه ، فيستمران على العمل بالشركة على هذا الوجه الذي اشترط ، والا فلو كان المراد انما هو ما ذكره من أن هذا القول عند انتهاء الشركة وارادة فسخها ، فإنه لا وجه للتعبير بالشرط ، بل كان ينبغي أن يقول لا بأس إذا تراضيا بذلك ، فان لفظ الشرط انما يناسب استمرار العقد ، بأن يكون العقد باقيا بهذا الشرط ، لا انقطاعه وتمامه كما لا يخفى. وبذلك يظهر صحة إطلاق من أطلق في العبارات المذكورة والله العالم.

المسئلة السادسة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا الكتاب أحكاما لا أعرف لذكرها فيه وجها ، لعدم صدق العنوان فيها ، وانما ذكرتها تبعا لهم في المقام.

منها أنه لو كان معهما درهمان فادعاهما أحدهما ، وادعى الأخر أحدهما كان لمدعيهما معا درهم ونصف ، وللآخر نصف درهم ،

ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب عن عبد الله بن المغيرة (1) عن غير واحد من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) في رجلين كان معهما درهمان فقال أحدهما : الدرهمان لي ، وقال الأخر : هما بيني وبينك فقال : اما الذي قال : هما بيني وبينك فقد أقر بأن أحد الدرهمين ليس له وانه لصاحبه ويقسم الأخر بينهما.

وما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن محمد بن أبي حمزة (2) عمن ذكره

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 22 ح 8 ـ التهذيب ج 6 ص 208 ح 12.

(2) المصدر ص 292 ح 16 وهما في الوسائل ج 13 ص 169 : الباب 9.


عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) مثله بأدنى تفاوت ، والمراد بكون الدرهمين معهما كما تضمنه الخبران هو كونهما تحت يديهما معا ، ليتساويا في الدعوى ، فلو كانا في يد مدعى الدرهمين لقدم قوله فيهما بيمينه ، ولو كانا في يد مدعى الدرهم لقدم قوله فيه بيمينه وأما إذا كانا في يديهما معا فالحكم ما ذكره (عليه‌السلام).

والوجه في أحد الدرهمين واضح ، لان مدعى الدرهم قد اعترف لصاحبه بأنه لا يستحق من الدرهم الثاني شيئا ، وانما يبقى النزاع بينهما في درهم ، وكل منهما يدعيه ، وقد حكم عليه‌السلام بالقسمة بينهما أيضا ، وحينئذ فلمدعي الدرهمين درهم ونصف ، أما الدرهم فلاعتراف صاحبه له به ، وأما النصف من الدرهم الثاني فمن حيث حكمه (عليه‌السلام) في الدعوى على هذه الكيفية بالقسمة انصافا.

ويستفاد منه كون الحكم كذلك في كل عين ادعاها اثنان مع إثبات يديهما عليهما ولا بينة ، أو يكون لكل منهما بينة ، الا أنه لا رجحان لإحديهما على الأخرى وظاهر الرواية المذكورة وكذا كلام جملة ممن ذكر المسئلة هو أن الدرهم يقسم بينهما انصافا من غير يمين.

والمفهوم من كلام جملة من المتأخرين أنه لا بد من أن يحلف أولا كل منهما للآخر على استحقاق النصف ، ومن نكل من أحدهما قضى به للآخر ، ولو نكلا معا أو حلفا قسم بينهما نصفين ، بل صرح بذلك في التذكرة فقال : لو كان في يد شخصين درهمان فادعاهما أحدهما وادعى الأخر واحدا منهما اعطى مدعيهما معا درهما وكان الأخر (1) بينهما نصفين ، لان مدعى أحدهما غير منازع في الدرهم الأخر فيحكم به لمدعيهما ، وقد تساويا في دعوى أحدهما يدا ودعوى فيحكم به لهما.

هذا إذا لم يوجد بينة ، والأقرب أنه لا بد من اليمين فيحلف كل واحد منهما على استحقاق نصف الأخر الذي تصادم دعواهما فيه ، فمن نكل منهما قضى به للآخر ، ولو نكلا معا أو حلفا معا قسم بينهما نصفين لما رواه عبد الله بن المغيرة ، ثم ساق الرواية كما قدمناه. انتهى.

__________________

(1) أى الدرهم الأخر الذي هو محل الدعوى. منه رحمه‌الله.


وظاهره حمل إطلاق الخبر على هذا التفصيل الذي ذكره حيث أنه مقتضى القواعد عندهم ، وقال في الدروس بعد فرض المسئلة وان في الرواية المشهورة للثاني نصف درهم ، والباقي للأول ما لفظه ويشكل إذا ادعى الثاني النصف مشاعا فإنه يقوى القسمة نصفين ، ويحلف الثاني للأول وكذا كل مشاع. انتهى.

قال بعض الأفاضل (1) : وكأن نظره (2) على أن النصف في الحقيقة بيد الأول والنصف بيد الثاني ، فمدعى التمام خارج بالنسبة الى الثاني ، فيكون البينة على الأول واليمين على الثاني ، لكن العدول عن الرواية المعتبرة مشكل ، وسيأتي إنشاء الله تعالى في لاحق هذه المسئلة ما فيه مزيد إيضاح للمقام.

ومنها ما لو أودعه إنسان دينارين وآخر دينارا وامتزج الجميع ثم تلف أحد الدنانير الثلاثة ، فإن الحكم هنا كما في سابق هذه المسئلة ، لما رواه

في الفقيه والتهذيب عن السكوني (3) عن جعفر عن أبيه عن على (عليهم‌السلام) «في رجل استودع رجلا دينارين واستودعه آخر دينارا فضاع دينار منها فقضى أن لصاحب الدينارين دينارا ويقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين».

وجملة من المتأخرين قيدوا الحكم المذكور بما إذا كان امتزاج الدنانير وكذا ضياع أحدهما بغير اختيار ولا تفريط من الأمين ، والا لكان ضامنا ، فيخرج

__________________

(1) هو الفاضل الخراساني في الكفاية. منه رحمه‌الله.

(2) قوله وكأن نظره الى آخره ، أقول : توضيحه هو أنه من حيث كون الدرهمين في يديهما معا فكان الأمر يرجع في الحقيقة الى أن درهما في يد الأول وهو مدعى الدرهمين ، ودرهما في يد الثاني وهو مدعى الدرهم ، وحينئذ فمدعى الدرهمين خارج لكون ما يدعيه من الدرهمين ، ليس في يده ، وانما في يده واحد خاصة فيكون عليه البينة من حيث كونه خارجا ، واليمين على الثاني من حيث كونه منكرا لدعوى الدرهمين فيقدم قوله بيمينه ، فإذا حلف على نفى استحقاقه الدرهمين بقي الأخر بينهما انصافا أيضا ، قال : وهكذا في كل مشاع كما ذكر الشهيد ، ومنها لو كان في يديهما ثوب ادعاه أحدهما كملا وادعى الأخر نصفه ، فإنه يقدم قول الأخر بيمينه ويقسم الثوب بينهما انصافا ، والوجه في قسمة الدرهم الباقي إنصافا بعد التمثيل أنه قد سقط دعوى صاحب الدرهمين باليمين ، والأخر انما يدعى درهما خاصة ، وهو يتضمن الإقرار لصاحبه بدرهم ، فيبقى الدرهم الأخر بينهما. منه رحمه‌الله.

(3) الفقيه ج 3 ص 23 ح 12 ، التهذيب ج 7 ص 181 ح 10 ، الوسائل ج 13 ص 171 ح 1.


عن محل المسئلة ، لأنها بعد تضمينه يقتسمان بغير كسر وهو حسن ، قال في التذكرة فإن كان بغير تفريط في الحفظ ولا في المزج بأن أذن له في المزج أو حصل المزج بغير فعله ولا اختياره ، فلا ضمان عليه ، لأصالة البراءة ، ولو فرط ضمن التالف.

وقال في الدروس بعد ذكر هذه المسئلة على أثر سابقتها : وهنا الإشاعة ممتنعة ، ولو كان ذلك في اجزاء ممتزجة كان الباقي أثلاثا ، ولم يذكر الأصحاب في هاتين المسئلتين يمينا ، وذكروهما في باب الصلح فجاز أن يكون ذلك الصلح قهريا ، وجاز أن يكون اختيارا. فان امتنعا فاليمين. انتهى.

أقول : أما قوله «ولم يذكر الأصحاب في هاتين المسئلتين يمينا» فان فيه أن ما قدمنا نقله عن التذكرة ، في المسئلة السابقة صريح في اختياره اليمين ثمة ، والظاهر أنه غفل عن الوقوف عليه في الكتاب المذكور ، وهو ظاهر جملة ممن تأخر عنه منهم الشهيد الثاني وغيره.

نعم لم أقف على من ذكر اليمين هنا وبذلك اعترف في المسالك أيضا.

وأما ما ذكره من أن الأصحاب ذكروهما في باب الصلح فجاز أن يكون الصلح قهريا ، ففيه ما قدمنا ذكره في صدر المسئلة من أن إيرادهما في هذا الباب لا وجه له بالكلية ، لعدم انطباق العنوان عليهما ، وعدم جريان الشروط فيهما ، بل ظاهر الروايات المذكورة هو كونه صلحا قهريا كما احتمله وأنه ليس من باب الصلح الاختياري الذي هو موضوع هذا الباب.

وأما قوله «ولو كان ذلك في أجزاء ممتزجة كان الباقي أثلاثا» فتوضيحه أنه لو كان بدل الدنانير المفروضة في هذه المسئلة ما يمتزج أجزاؤه مع تساوى الاجزاء بحيث لا يتميز كالحنطة أو الشعير أو الأرز أو نحوها ، فأودعه أحد قفيزين من حنطة مثلا واستودعه الأخر قفيزا منها أيضا ، فامتزج الجميع وتلف قفيز منها بعد الامتزاج فإنهم قالوا أنه يقسم المال التالف على نسبة المالين ، وكذا الباقي فيكون لصاحب القفيزين قفيز وثلث قفيز ، ولصاحب القفيز ثلثا قفيز ، والفرق ظاهر ، لان الذاهب هنا عليهما معا من حيث الامتزاج ، وتساوى الاجزاء بخلاف الدنانير ، فان الذاهب مختص بأحدهما ، أما صاحب الدينارين ، أو صاحب الدينار.


بقي الإشكال هنا من وجه آخر ، كما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني ، قال في المسالك بعد ذكر المسئلة : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، ومستنده رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) ويشكل الحكم ـ مع ضعف المستند ـ بأن التالف لا يحتمل كونه بينهما بل هو من أحدهما خاصة ، لامتناع الإشاعة هنا والموافق للقواعد الشرعية القول هنا بالقرعة ، ومال إليه في الدروس الا أنه تحاشي عن مخالفة الأصحاب ، ومقتضى الرواية أنه يقسم كذلك وان لم يتصادم دعواهما في الدينار ، وأنه لا يمين ، وكذا لم يذكر الأصحاب هنا يمينا ، بناء على كون الحكم المذكور قهريا كما ذكروه في المسئلة السابقة ، وربما امتنعت اليمين هنا ، إذا لم يعلم كل منهما بعين حقه. انتهى. وهو جيد.

وبالجملة فالظاهر من روايات المسئلتين المذكورتين أن الحكم المذكور فيهما قهري غير مشروط بشي‌ء من القيود التي ذكروها من يمين وغيرها والله العالم.

ومنها أنه لو كان لواحد ثوب بعشرين درهما وللآخر ثوب بثلاثين درهما ثم اشتبها فان خير أحدهما صاحبه فقد أنصفه وان تعاسرا بيع الثوبان وقسم الثمن بينهما ، وأعطى صاحب العشرين سهمين من الثمن ، وصاحب الثلاثين ثلاثة أسهم.

والمستند في ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن إسحاق بن عمار (1) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام)» في الرجل يبعضه الرجل ثلاثين درهما في ثوب وآخر عشرين درهما في ثوب ، فبعث بالثوبين ولم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه قال : يباع الثوبان فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن ، والأخر خمسي الثمن قال : فقلت : فان صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين. اختر أيهما شئت ، قال : قد أنصفه».

وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذا المقام فذهب الشيخ وجماعة منهم المحقق وغيره الى الوقوف على ما دلت عليه الرواية ، وذهب ابن إدريس إلى العمل بالقرعة ، قال بعد ذكر المسئلة : ان استعملت القرعة كان أولى للإجماع على أن كل أمر ملتبس فيه القرعة ، وهذا من ذاك ، واليه يميل كلام شيخنا الشهيد

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 23 ح 11 ، التهذيب ج 6 ص 208 ح 13 ، الوسائل ج 13 ص 170 ح 1.


الثاني في المسالك.

ورده العلامة في المختلف فقال بعد نقل ذلك عنه : وليس بجيد ، إذ لا اشكال مع ورود النقل ايضا ، وهذا المجموع بضاعة لشخصين لكل واحد منهما قدر معين ، فيباع ويبسط الثمن على نسبة المالين كغيرهما من الأموال ، وكما لو اشتراهما بالشركة مع الإذن ، فإن الشركة قد تحصل ابتداء ، وقد تحصل بالمزج الموجب للاشتباه كما هي هنا ، وإذا كانا شريكين كان لكل منهما بقدر رأس المال الذي له كما لو امتزج الطعامان.

ونقل في المسالك عن العلامة هنا القول بالتفصيل (1) فقال : ان أمكن بيعهما منفردين وجب ، ثم ان تساويا فلكل واحد منهما ثمن ثوب ولا اشكال ، وان اختلفا فالأكثر لصاحبه ، وكذا الأقل بناء على الغالب وان أمكن خلافه ، الا أنه نادر لا أثر له شرعا وان لم يمكن صارا كالمال المشترك شركة اختيارية ، كما لو امتزج الطعامان فيقسم الثمن على رأس المال ، وعليه تنزل الرواية.

واعترضه في المسالك بأن ما ذكره من البناء على الغالب ليس أولى من القرعة ، لأنها دليل شرعي على هذه الموارد ، ومن الجائز اختلاف الأثمان ، والقيم بالزيادة والنقصان لاختلاف الناس في المساهلة والمماكسة.

أقول : فيه ما قدمنا نقله عن العلامة في رده لكلام ابن إدريس من أن موضوع القرعة كل أمر مشكل ، والحال أنه لا اشكال بعد ورود النص بالحكم المذكور ، وبه يظهر ضعف قوله «لأنها دليل شرعي على هذه الموارد» ، وأن البناء على الغالب في موارد الأحكام الشرعية ، من القواعد الكلية المتفق عليها في كلامهم ، والمتداولة على رؤس أقلامهم.

__________________

(1) أقول : ما نقله عنه من التفصيل قد جعله في المختلف أحد الاحتمالين حيث أنه بعد الرد على ابن إدريس مما نقلناه في الأصول قال : إذ نقول ان كان الثوبان متساويين فلكل واحد منهما ثوب ، إذ قد اشترى بمال كل منهما ثوبا بانفراده ، وان تفاوتا أعطى صاحب الثلاثين الأجود منهما إذ الظاهر ذلك وان جاز خلافه فهو نادر لا اعتبار في نظر الشرع له ، فالقرعة لا وجه لها البتة كما توهمه ابن إدريس. انتهى وهو تقرير لما نقله عنه في المسالك بنوع آخر وان رجع في المعنى الى ما نقله. منه رحمه‌الله.


ثم انه قال في المسالك : وعلى تقدير العمل بالرواية يقصر حكمها على موردها ، ولا يتعدى الى الثياب المتعددة ، ولا الى غيرهما من الأمتعة والأثمان ، مع احتماله لتساوى الطريق.

واستقرب في الدروس القرعة في غير مورد النص. وهو حسن ، ولو قيل به فيه كما اختاره ابن إدريس كان حسنا أيضا انتهى.

أقول : ذهاب ابن إدريس إلى القرعة هنا ـ بناء على أصله الغير الأصيل من رد الأخبار بأنها أخبار آحاد لا يفيد علما ولا عملا جيد ، أما على مذهبه (قدس‌سره) فهو غير جيد ، ولهذا أنه قال أولا في صدر كلامه بعد نقل قول الشيخ وقول العلامة بالتفصيل ، ما صورته : وأنكر ابن إدريس ذلك كله ، وحكم بالقرعة ، لأنها لكل أمر ملتبس ، وهو هنا حاصل ، وهو أوجه من الجميع ، لو لا مخالفة المشهور ، وظاهر النص مع أنه قضية في واقعة يمكن قصره عليها ، والرجوع الى الأصول الشرعية انتهى.

وهو ظاهر في التوقف من حيث النص ، ولكنه هنا عدل عن ذلك ، وهو غير جيد لما عرفت ، وبالجملة فالأظهر الوقوف على النص المذكور في مورده ، والقول بالقرعة فيما خرج عن مورد الخبر كما اختاره في الدروس واستحسنه في المسالك وكيف كان فان الصلح هنا بمقتضى العمل بالخبر قهري ، كما في سابقيه.

والله العالم.

المسئلة السابعة ـ لو صالحه على عين بعين أو على منفعة بمنفعة أو على عين بمنفعة أو بالعكس صح ، والوجه فيه أن الصلح لما كان مفاده مفاد غيره من العقود المتقدمة ، وتلك العقود المشار إليها متعلق بعضها العين ومتعلق بعضها المنفعة لم يمتنع صحة الصلح كذلك ، بل لا يختص جوازه بما ذكر ، فلو صولح على إسقاط خيار ، أو على إسقاط حق أولوية تحجير في سوق أو مسجد ، صح أيضا بعين أو منفعة لعين ما ذكر.

وكيف كان فلو بان أن أحد العوضين كان مستحقا بطل الصلح ، إذا كان ذلك العوض معينا في العقد ولو كان مطلقا رجع ببدله ، قالوا : ولو ظهر فيه عيب فله الفسخ وفي تخيره بينه وبين الأرش وجه.


قال في المسالك : ولو ظهر غبن لا يتسامح بمثله ففي ثبوت الخيار وجهان : أجودهما ذلك دفعا للإضرار وان لم يحكم بالفرعية وهو خيرة الدروس ، وقد تقدم في خيار الغبن من البيع انه لا نص عليه بالخصوص فيمكن استفادته هنا كما استفيد هناك من الأدلة العامة انتهى.

المسألة الثامنة ـ لو صالحه على دراهم بدنانير أو بدراهم فعلى المشهور من أن الصلح عقد مستقل بنفسه يصح ، وعلى قول الشيخ بالفرعية تصير الصحة مراعاة لحصول شروط الصرف والربا.

قال في المبسوط : إذا ادعى دراهم أو دنانير في ذمته ، فاعترف بها ثم صالحه بدراهم ودنانير صح الصلح ، وهو فرع الصرف ، فما صح فيه صح في الصلح ، وما بطل في الصرف بطل فيه ، ولا يجوز حتى يتقابضا ، فان كان المقر به دراهم ، فصالحه على دنانير معينة أو موصوفة فعينها وقبضها قبل التفرق جاز ، ولو قبض البعض وفارقه بطل الصرف فيما لم يقبض ، ولو ادعى عليه دراهم فأقربها ثم صالحه منها على بعضها لم يجز ، لانه ربا ، ولكن ان قبض بعضها وأبرئه من الباقي صح ، وكان هذا الصلح فرع الإبراء انتهى.

وعلى المشهور لا يتعلق به حكم الصرف من وجوب التقابض قبل التفرق ، وأما حكم الربا فإنه يبنى على الخلاف المتقدم في باب الربا من انه هل يثبت في كل معاوضة؟ أم يختص بالبيع؟ وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في بابه ، فعلى الأول ينبغي مراعاته هنا أيضا دون الثاني.

وممن جزم بالأول هنا بناء على ذلك الشهيد الثاني في المسالك ، وممن جزم بالثاني العلامة في المختلف ، ومما يتفرع على الخلاف المذكور هنا أيضا ما لو أتلف على رجل ثوبا قيمته درهم مثلا فصالحه عنه على درهمين ، فإنه ان قلنا ان الواجب ضمان القيمي بمثله كما هو أحد القولين ليكون الثابت في الذمة ثوبا صح الصلح المذكور ، لان الصلح وقع عن الثوب ، لا عن الدراهم الذي هو قيمته ، وان قلنا أن القيمي يضمن بقيمته ، فاللازم لذمة المتلف انما هو الدراهم ، فعلى هذا إذا صالحه بدرهمين تفرع صحة الصلح هنا على الخلاف المتقدم للزوم الربا ، فيصح الصلح عند من قال بتخصيص التحريم بالبيع ، ويبطل


عند من قال بالعموم في جميع المعاوضات ، ولهذا اختار في المسالك هنا البطلان ، بناء على ما اختاره أيضا من وجوب ضمان القيمي بقيمته.

المسئلة التاسعة ـ لو ادعى اثنان عينا في يد ثالث من دار أو ثوب أو نحوهما بأنهما لهما بالمناصفة ، وصرحا معا بالسبب الموجب للملك من أنهما ورثاهما معا أو وكلا من شراها لهما معا بالمناصفة ، أو نحو ذلك فصدق المدعى عليه أحدهما فيما يدعيه من أن النصف له ، وكذب الأخر ، ثم انه صالح المدعى عليه ذلك الذي صدقه على النصف الذي أقر له به بعوض ، وحينئذ فإن كان هذا الصلح باذن شريكه سابقا على الصلح ، أو لاحقا بناء على صحة الفضولي صح الصلح على تمام النصف الذي وقع العقد عليه ، ويكون العوض بينهما نصفين ، كما أن الأصل كان كذلك ، وان لم يكن الصلح باذن شريكه صح الصلح في حقه المقر له. وهو الربع الذي هو نصف ما وقع عليه الصلح ، وبطل في ربع شريكه ، ويكون شريكا مع المدعى عليه بذلك الربع ، والوجه في ذلك انه لما اتفق المدعيان على كون سبب ملكهما مقتضيا للشركة بالمناصفة كما فرضناه سابقا ، فإقرار المدعى عليه لأحدهما يقتضي اشتراكهما فيما أقر به ، وان لم يصدق هما على السبب الموجب للاشتراك ، لان مقتضى السبب المذكور كالميراث ونحوه هو التشريك ، ويمتنع استحقاق المقر له بالنصف خاصة دون شريكه ، كما أن الفائت يكون ذاهبا عليهما بمقتضى إقرارهما بسبب الشركة ، ومن أجل ذلك تفرع عليه ما قدمناه من التفصيل بصحة الصلح على النصف مع اذن الشريك ، والاشتراك في العوض وعدم الصحة إلا في الربع مع عدم الاذن ، وكون الشريك حينئذ شريكا للمدعى عليه بالربع.

هذا كله فيما إذا صرحا بالسبب الموجب للملك بالإشاعة والمناصفة ، أما لو لم يصرحا بما يقتضي الشركة سواء صرحا بما ينافيه أم لا كما لو ادعى أحدهما ملك نصف المدعى فيه بالميراث ، وادعى الأخر ملكه بالشراء ، فإنهما لا يشتركان فيما أقر به المدعى عليه ، فان ملك أحدهما لا يستلزم ملك الأخر ، فلا يقتضي


الإقرار لأحدهما بما يدعيه مشاركة الأخر إياه. (1)

قال في المسالك بعد ذكر الحكمين المذكورين : هذا تقرير ما ذكره المنصف وجماعة في القسمين ، وفيه بحث ، لان هذا لا يتم الا على القول بتنزيل البيع والصلح على الإشاعة ، كالإقرار ، وهم لا يقولون به بل يحملون إطلاقه على ملك البائع والمصالح ، حتى لو باع ابتداء مالك النصف نصف العين مطلقا انصرف الى نصيبه ، ووجهوه بأن اللفظ من حيث هو وان تساوت نسبته الى النصفين ، الا أنه من خارج قد ترجح انصرافه الى النصف المملوك للبائع ، نظرا الى ان إطلاق البيع انما يحمل على المتعارف في الاستعمال ، وهو البيع الذي يترتب عليه انتقال الملك بفعل المتعاقدين ، ولا يجرى ، ذلك إلا في المملوك بخلاف الإقرار ، فإنه اخبار عن ملك الغير بشي‌ء ، فيستوي فيه ما هو ملكه وملك غيره ، وحينئذ فاللازم هنا أن ينصرف الصلح الى نصيب المقر خاصة ، فيصح في جميع الحصة بجميع العوض ، وتبقى المنازعة بين الأخر والمتشبث.

هذا ان وقع الصلح على النصف مطلقا أو على النصف الذي هو ملك المقر له. أما لو وقع على النصف الذي أقر به المتشبث توجه قول الجماعة لأن الإقرار ينزل على الإشاعة والصلح وقع على المقر به ، فيكون تابعا له فيها ، وعلى هذا ينبغي حمل كلامهم ، لئلا ينافي ما ذكروه من القاعدة التي ذكرناها.

وهذا توجيه حسن لم ينبهوا عليه ، وانما ذكر الشهيد (رحمة الله عليه) في بعض تحقيقاته احتمال انصراف الصلح إلى حصة المقر له من غير مشاركة الأخر مطلقا ، وتبعه عليه الشيخ على (رحمة الله عليه) انتهى.

أقول : وينبغي أولا إيضاح ما ذكره ، ثم بيان ما فيه فنقول : قوله ان هذا لا يتم الا على القول بتنزيل البيع والصلح على الإشاعة ، الى آخره بمعنى أنه لو باع

__________________

(1) قيل : ومثله ما لو ادعى كل منهما أنه اشترى النصف من غير تقييد بالمقيد نعم لو قالا اشتريناها معا أو اتهبناها وقبضنا معا ونحو ذلك ، فقد حرر في التذكرة أن الحكم فيه كالأول لاعتراف المقر بأن السبب المقتضى لتملكه قد افتقر بتملك الأخر ، ويحتمل العدم ، لان نقل الملك لاثنين بهذا الوجه بمنزلة الصفقتين. منه رحمه‌الله.


شخص حصته من مال مشترك بينه وبين غيره كالنصف مثلا فإنه بمقتضى تقريرهم لم ينصرف الى ماله ، بل الى النصف المعلوم المشاع مطلقا بينه وبين شريكه ، فيكون المبيع ربع البائع وربع الشريك ، وهم لا يقولون به في البيع ، ولا في الصلح ، بل يخصونه بنصف البائع والمصالح ، وانما ينزل على الإشاعة الإقرار ، فلو أقر بالنصف للغير يكون إقرارا بربعه وربع الشريك ، ووجه الفرق بين الأمرين أن البائع إنما يبيع مال نفسه ، ولا يصح بيع مال غيره الا فضولا على القول به ، أو وكالة ، وهما منتفيان هنا ، فينصرف الى ماله كما هو المتبادر والمتعارف ، بخلاف الإقرار فإنه كالشهادة بأنه للغير ، وهو قد يكون في ماله ، وقد يكون في مال غيره ، فهنا ينبغي أن يكون ما يصالح عليه هو نصف المقر به ، وهو الربع بالنسبة إلى المجموع ، فيكون العوض كله له ، لا أنه يكون انصافا كما ذكروه ، والنزاع يبقى للشريك الأخر مع المدعى عليه.

هذا إذا كان الصلح على النصف مطلقا ، أو على النصف الذي هو ملك المقر له ، وأما إذا صالح المقر له على النصف الذي أقر له به كان الصلح هنا منزلا على الإشاعة ، لأنه تابع للإقرار المنزل على ذلك كما عرفت ، فيكون قول الجماعة متجها على هذا الوجه ، وعلى هذا ينبغي حمل كلامهم ، هذا حاصل ما ذكره (قدس‌سره).

وفيه أولا أن الظاهر أن قول الجماعة ـ بأن إطلاق البيع والصلح انما ينصرف الى ملك البائع والمصالح دون الشائع ـ انما هو في المال المشترك الخالي عن النزاع ، والقاعدة المذكورة إنما هي بالنسبة الى ذلك ، وما نحن فيه ليس كذلك لوجود النزاع وعدم ثبوت نصف خالص للمصالح ، بل الثابت له بحسب الشرع انما هو الربع كما عرفت ، لان الفرض أن ما اعترف به المدعى عليه ، مشترك بينه وبين شريكه بحسب نفس الأمر ، وظاهر الشرع من حيث إقرارهما بموجب الشركة ، ولا نزاع في أن ما أقر به المدعى عليه مشترك بينه وبين شريكه ، فهو انما صالح على ربعه وربع شريكه ، إذ ليس نصف المصالح عليه الا ذلك ، وبه يظهر أن ما نحن فيه ليس من جزئيات القاعدة المذكورة ، ولا من أفرادها لتحصيل المنافاة


كما زعمه (قدس‌سره).

وثانيا ـ أنه مع الإغماض عن ذلك ـ فان الظاهر من المقام والمتبادر من سياق الكلام كما صرح به من ذكر المسئلة من علمائنا الاعلام (1) أن الصلح انما وقع على النصف الذي أقر له به المدعى عليه ، ولم يقصد المدعى عليه ، والذي أقر له الا ذلك ، لا أن الصلح وقع على نصفه الذي له في نفس الأمر والخروج عن قاعدة البيع والصلح انما يحصل على الثاني ، دون الأول وبما ذكرناه يظهر أيضا أن الاحتمال الذي ذكره الشهيد (رحمة الله عليه) وتبعه عليه الشيخ على (رحمة الله تعالى عليه) ليس بجيد ، والله العالم.

المسئلة العاشرة ـ قالوا : لو ادعى عليه شيئا فأنكر فصالحه المدعى عليه على سقى زرعه أو شجره بمائه ، قيل : لا يجوز ، لان العوض وهو الماء مجهول ، وهذا القول منقول عن الشيخ (رحمة الله عليه) والمشهور الجواز مع ضبط السقي بمدة معلومة ، ومثله ما لو كان الماء معوضا.

وبالجملة فإنه يجوز السقي بالماء عوضا للصلح ، بأن يكون مورده أمرا آخر من عين أو منفعة ، وكذا يجوز كونه موردا له ، وعوضه أمر آخر من عين أو منفعة ، كل ذلك مع ضبطه بمدة معلومة.

والشيخ قد خالف في الجميع ، محتجا بجهالة الماء مع أنه جوز بيع ماء العين والبئر وبيع جزء مشاع منه ، وجوز جعله عوضا للصلح ، كذا قالوا.

__________________

(1) ومن ذلك عبارة المحقق في الشرائع حيث قال : ولو ادعى اثنان دارا في يد ثالث بسبب موجب للشركة كالميراث فصدق المدعى عليه أحدهما ، وصالحه على ذلك النصف بعوض ، فان كان باذن صاحبه صح الصلح في النصف أجمع ، وكان العوض بينهما وان كان بغير اذنه صح في حقه ، وهو الربع. انتهى ، ولا يخفى أن قوله فصالحه على ذلك النصف مراد به النصف الذي أقر له بالذي صار بالإقرار مشتركا بينه وبين صاحبه ، فالإشارة راجعة إليه كما هو ظاهر ، والشارح قد جرى في تقرير معنى العبارة على ذلك أيضا ، فقال في أثناء الكلام : فإذا صالح المقر له المثبت على النصف المقر له فان كان الصلح باذن صاحبه الى آخره وهو ظاهر في أن الصلح انما وقع على ذلك النصف المقر به ، وعلى هذا النهج كلام غيرهما من الأصحاب (رضوان الله عليهم). منه رحمه‌الله.


أقول : ويمكن أن يكون منعه من الصلح على السقي المذكور من حيث عدم الضبط بالمدة ، فإنهم إنما جوزوا ذلك مع الضبط بها ، ويدل عليه إطلاق كلامه ، فإنه لا دلالة فيه على المنع مع الضبط ، بالمدة ليتجه نسبة الخلاف إليه في المقام.

وبالجملة فإنه يمكن تخصيصه المنع هنا بغير المضبوط ، فيكون موافقا لما ذكروه ، والاعتراض عليه ـ بأنه صرح بجواز بيع ماء العين والبئر وجزء مشاع منه وجوز جعله عوضا للصلح ـ يمكن دفعه بأن الماء في صورة محل البحث مجهول لا يدخل في أحد الأقسام المذكورة ، لأنه لم يستحق بالصلح جميع الماء ، ولا بعضا منه معينا ، وانما استحق سقيا لا يعرف قدره ، ولا مدة انتهائه ، ومن ثم شرطوا في الجواز ضبط المدة ، وهو لم يصرح بالمنع مع الضبط كما عرفت.

بقي الكلام فيما لو تعلق الصلح بسقي شي‌ء مضبوط دائما أو بالسقي بالماء أجمع دائما وان جهل السقي ، ونفى البعد عن الصحة شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، للتسامح بذلك في باب الصلح ، وهو غير بعيد لما قدمناه وذكره غير واحد من الأصحاب من أن مبنى الصلح على المساهلة والمسامحة.

قالوا : وكذا يصح الصلح على اجزاء الماء على سطحه أو ساحته بعد العلم بالموضع الذي يجري فيه الماء ، بأن يعرف مجراه طولا وعرضا ، ليرتفع الجهالة عن المحل المصالح عليه ، ولا يعتبر تعيين العمق ، لان من ملك شيئا ملك قراره الى تخوم الأرض ، ولا فرق في ذلك بين جعله عوضا بعد المنازعة وبين إيقاعه ابتداء ، وقد أطلق جملة منهم حكم الماء من غير أن يشترطوا مشاهدته ليرتفع الغرر ، وقيد آخرون بمشاهدته أو وصفه خروجا من الغرر ، لاختلاف الحال بقلته وكثرته ، فقد يتعلق الغرض بأحدهما دون الأخر ، ولو سقط السطح بعد الصلح أو احتاجت الساقية إلى إصلاح فعلى مالكهما ، لتوقف الحق عليه ، وليس على المصالح مساعدته.

المسئلة الحادية عشر ـ الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو قال المدعى عليه : صالحني عليه فان ذلك لا يكون إقرارا بالملك ، لان الصلح يصح مع الإنكار ،


فطلبه هنا لا يستلزم الإقرار ، إذ قد يكون ذلك لأجل رفع المنازعة والمخاصمة وخالف فيه بعض العامة حيث زعم أن الصلح لا يصح الا مع الإقرار : وفرع على ذلك ان المدعى عليه لو قال قبل الإقرار صالحني على العين التي أدعيتها يكون ذلك منه إقرارا ، لأنه طلب منه التمليك ، وهو يتضمن الاعتراف بالملك ، فصار كما لو قال : ملكني وفيه أنه متجه بناء على أصله المذكور من حيث تخصيص الصلح بالإقرار وأما على ما هو المتفق علة عندنا وعند جملة منهم من صحة وقوعه على الإقرار والإنكار ، فطلبه لا يكون موجبا للإقرار.

نعم لو قال : بعني أو ملكني اقتضى ذلك الإقرار بعدم ملكه له ، لانه صريح في طلب التمليك المنافي لكونه ملكا له ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، وبالجملة فإنه لا إشكال في إقراره بعدم الملك بقوله ذلك.

بقي الكلام في أنه هل يكون بذلك ملكا لمن طلب منه البيع أو التمليك أم لا؟ الأقرب العدم ، لانه يحتمل أن يكون المطلوب منه وكيلا ، وإذا قام احتمال ذلك لم تتم الدلالة على كونه ملكا له.

وبالجملة فالمترتب على الإقرار المذكور هو كونه مالكا ليبيع ، لا مالكا للمبيع ، لأنه أخص ، والعام لا يدل على الخاص.

وقيل : نعم لو اقترن بذلك كون المطلوب بيعه تحت يد المخاطب ترجح جانب ملكه ، لدلالة اليد على الملكية ، والأصل عدم مالك آخر ، قال في المسالك : وقد تنبه لذلك العلامة في المختلف والشهيد في الدروس وهو قوى. انتهى.

أقول : لا يخفى أن ما تقدم من الكلام وبه صرحوا أيضا أن مبنى الشك في كونه ملكا لمن طلب منه البيع وعدمه ـ انما هو على إقراره من غير انضمام شي‌ء آخر له من خارج يدل على الملكية أو عدمها ، والا فمع انضمام ما يدل على أحد الأمرين لا إشكال في الحكم بما دل عليه.

وبه يظهر أن ما ذكروه من هذا الفرع لا أعرف له مزيد فائدة على أن ما ذكروه من مجرد دلالة اليد على الملكية محل توقف ، بل لا بد مع ذلك من ادعاء الملكية ، والا فإن المال في يد الوكيل أيضا لكنه معترف بالوكالة عن الغير ،


هذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

الثانية عشر ـ وفيها حكمان ـ أحدهما انه لو ضمن شخص عن شخص مالا باذنه ثم صالح الضامن المضمون له بأقل مما ضمنه لم يكن له الرجوع على المضمون عنه الا بما صالح به ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، وعليه تدل موثقة عمر بن يزيد (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن ضمانا ثم صالح عليه قال : ليس له الا الذي صالح عليه».

رواه الكليني والشيخ (رحمة الله عليهما). وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب عبد الله بن بكير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل ضمن عن رجل ضمانا ثم صالح على بعض ما صالح عليه قال : ليس عليه الا الذي صالح عليه».

والخبران وان كانا مطلقين بالنسبة إلى اذن المضمون عنه وعدمه الا أنه يجب تقييدهما بالاذن ، لما تقدم في كتاب الضمان أنه لا رجوع الا مع الاذن ، وبدونه لا رجوع.

وكذا لو صالح الضامن المضمون له عن المال الذي ضمنه بعروض دفعها إليه ، فإنه لا يرجع على المضمون عنه الا بأقل الأمرين من قيمة العروض وما كان في ذمة المضمون عنه ، وقد تقدم ذكر هذه المسئلة وتحقيق الكلام فيها في كتاب الضمان فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه.

الثاني ـ يجوز الصلح على تعجيل بعض الدين المؤجل بنقصان منه ، ولا يجوز تأجيل شي‌ء منه بزيادة ، ولا يجوز الصلح على تعجيل البعض أيضا بمد الأجل في الباقي. ويدل على ذلك ما رواه

المشايخ الثلاثة بأسانيد عديدة فيها الصحيح والحسن عن الحلبي (3) عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سئل عن الرجل يكون له دين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول : انقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيته ، أو يقول :

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 259 ح 7 التهذيب ج 6 ص 210 ح 7.

(2) التهذيب ج 6 ص 210 ح 6 والوسائل ج 13 ص 153 ح 1 و 2.

(3) الكافي ج 5 ص 259 ح 4 ، التهذيب ج 6 ص 207 ح 6 ، الوسائل ج 13 ص 168 ح 1.


انقدني بعضه وأمد لك في الأجل فيما بقي عليك قال : لا أرى به بأسا ، انه لم يزد على رأس ماله ، قال الله عزوجل (1) ﴿ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ » وفي قوله (عليه‌السلام)» انه لم يزدد على رأس ماله». ثم أورد الآية إشارة الى عدم جواز التأجيل بالزيادة على الحق ، وان كان على سبيل الصلح ، فإنه رباء كما يدل عليه إيراد الآية ، فيمكن الاستدلال بالخبر المذكور على تحريم الربا في الصلح أيضا الا أن الربا لازم هنا مع النقصان أيضا ، وكأنه حينئذ مستثنى بالخبر ، ويعضده أيضا حسنة أبان (2) عمن حدثه عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال ، سألته عن الرجل يكون له على الرجل الدين فيقول له قبل أن يحل الأجل عجل لي النصف من حقي على أن أضع عنك النصف ، أيحل ذلك لو أحد منهما ، قال. نعم».

المطلب الثاني في تزاحم الحقوق والتنازع في الاملاك :

والكلام فيه يقع في مقامات المقام الأول ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجوز إخراج الرواشن (3) والأجنحة إلى الطرق النافذة إذا كانت عالية لا تضر بالمارة ، وهما عبارة عن إخراج خشب من حائط المالك الى الطريق بحيث لا يصل الى الجدار المقابل له ويبنى عليها ، ولو وصل الى الجدار سمى ساباطا وعلى هذا فهما عبارة عن أمر واحد ، وربما فرق بينهما بأن الأجنحة ينضم إليها مع ما ذكر أن يوضع لها أعمدة من الطريق ، وربما قيل ذلك في الرواشن.

والكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ المرجع في التضرر الى العرف بالنظر

__________________

(1) سورة البقرة الآية 279.

(2) الكافي ج 5 ص 258 ح 3 ، التهذيب ج 6 ص 206 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 168 ح 2.

(3) قال في مجمع البحرين : الرواشن جمع الروشن وهي أن يخرج اخشابا الى الدرب ويبنى عليها ويجعل عليها قوائم من أسفل. انتهى ، وفي اللغويين الروشن بأنه الكوة كذا ذكره المحقق الشيخ على على ما في شرح القواعد. وفي القاموس : الروشن الكورة ، فليتأمل فلعل الغلط في أحد الموضعين ، ولا يحضرني الان من نسخ الكتابين ما يمكن تحقيق الحال منه فان تحريف الكوة بالكورة أو بالعكس قريب فليلاحظ منه رحمه‌الله.


الى المارة في تلك الطريق وما يليق بها ، فلو كانت من الطرق التي تمر فيها الجيوش والجمال والفرسان وجب أن لا يضر بالعماريات والكنائس ، واعتبر ارتفاع ذلك بحيث يمر فيه الفارس لا يصدم رمحه مما لا على عنقه ، واعتبر العلامة في التذكرة أن يتمكن الفارس من الممر تحته ورمحه منتصب لا يبلغه ، قال : لانه قد تزاحم الفرسان فيحتاج الى أن تنصب الرماح ، ومنعه في الدروس لندرته ، وقواه في المسالك لإمكان اجتماعهم مع إمالته بحيث لا يبلغهم.

الثاني ـ المفهوم من كلامهم وتقييد الضرر بالمارة كما قدمنا ذكره أنه لو أضر بغيرهم من جار ونحوه بحيث استلزم الاشراف عليه لم يمنع منه ، كما لا يمنع لو كان وضع الجناح والروشن في ملكه فاستلزم الاشراف على جاره.

وخالف في ذلك العلامة في التذكرة فقال : بالمنع من ذلك فارقا بينه وبين الوضع في ملكه ، قال في الكتاب المذكورة : إذا أخرج جناحا أو روشنا في الشارع النافذ فقد بينا أنه ليس لأحد منعه مع عدم التضرر به ، فلو تضرر جاره بالإشراف عليه فالأقرب أن له المنع ، لانه قد حصل به الضرر ، بخلاف ما لو كان الوضع في ملكه فإنه لا يمنع وان حصل معه الاشراف ، لأن للإنسان التصرف في ملكه كيف شاء ، ويمنع في الملك من الاشراف على الجار لا من التعلية المقتضية لإمكانه ، قال : ولست أعرف في هذه المسئلة بالخصوصية نصا من الخاصة ولا من العامة ، وانما صرت الى ما قلت عن اجتهاد ، ولعل غيري يقف عليه أو يجتهد فيؤديه اجتهاده الى خلاف ذلك انتهى ملخصا.

واعترضه في المسالك فقال : وفيه نظر لان المعتبر في الموضوع في الطريق عدم الإضرار بأهل الطريق ، لانه موضوع للاستطراق فيمتنع ما ينافيه ، أما اعتبار عدم الإضرار بغيرهم فلا دليل على المنع منه ، بل قد تقدم أنه لا يمنع مما يضر بغير من يعتاد سلوكه خاصة ، فضلا عن غير المار ، والجار خارج عن ذلك كله ، فلا وجه للمنع مما يقتضي إضراره ، كما لو أحدث بناء في مباح يقابله واستلزم الاشراف عليه ، وكلام العلامة وغيره حيث قيدوا الضرر بالمارة دليل عليه ؛ وانما عمم هو الضرر في فرعه ، انتهى.


أقول : ويقول العلامة (قدس‌سره) في هذه المسئلة ولست أعرف في هذه المسئلة نصا وانما صرت الى ما قلت عن اجتهاد ، تعلق المحدث الأمين الأسترآبادي ونحوه من الأخباريين في التشنيع على المجتهدين ، ويمكن الاعتذار عنه (قدس‌سره) بأن مراده بالاجتهاد انما هو الاستنباط من الأدلة العامة ، فإنه إنما نفى وجود الخبر الخاص بهذه المسئلة ، فلا ينافيه إمكان استنباط دليل لها من الأدلة العامة ، وهو هنا حديث (1) «لا ضرر ولا ضرار». لأنه إنما استند في المنع بضرر الجار بذلك.

نعم يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الضرر المنهي عنه انما هو نفس الاشراف ، لا الروشن المقتضى له ، كما لو فعله في ملكه أو أحدث بناء في مباح يقابله واستلزم الاشراف كما تقدم في كلام شيخنا المتقدم ذكره.

الثالث ـ ما قدمنا ذكره من جواز إخراج الرواشن والأجنحة إلى الطرق النافذة ما لم يضر بالمارة هو المشهور ، سواء عارضه فيه مسلم أو لم يعارضه أحد ، وهو قول الشيخ في الخلاف.

وقال في المبسوط : بأنه لو عارض فيه مسلم وجب قلعه ، وبه قال ابن البراج ، والأول اختيار ابن إدريس ، مستندا الى جريان العادة من غير أن ينكره أحد ، قال : وسقيفة بني ساعدة وبنى النجار مشهورتان ، ولم ينكرهما أحد من المسلمين ، ونفس الطريق غير مملوكة ، وانما يملك المسلمون منافعها دون رقبتها ، انتهى.

وبه قال العلامة وغيره ، وما ذهب اليه الشيخ في المبسوط هنا نقله في التذكرة عنه ، وعن أبي حنيفة ، قال : وقال الشيخ (رحمه‌الله) وأبو حنيفة لا عبرة بالضرر وعدمه ، بل ان عارضه فيه رجل من المسلمين نزع ووجب قلعه وان لم يكن مضرا به ولا بغيره ، والا ترك ، لانه بنى في حق غيره بغير اذنه ، فكان له مطالبته بقلعه ، كما لو بنى دكة في المسلوك ، أو وضع الجناح في ملك غيره ، ثم رده بان القياس ممنوع ، فان الضرر يحصل ببناء الدكة ، بخلاف الجناح والساباط والرواشن ، لان الأعمى يعتبر بها ، وكذا في الليل المظلم يعثر البصير بها ، ويضيق الطريق بها بخلاف الجناح ، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه الا بإذنه ، بخلاف الطريق فافترقا.

__________________

(1) الفقيه ج 2 ص 147 ح 18 ، الكافي ج 5 ص 292 ح 2 ، الوسائل ج 17 ص 341 ح 3.


أقول : والعمدة في ذلك كله هو اباحة الهواء ، وانه غير مملوك هنا للمارة ولا لغيرهم فلا مانع من التصرف فيه الا على وجه يتضرر به المارة ، والمفروض عدمه ، فلو حصل الضرر به وجب إزالته ولا يختص الوجوب بالواضع ، وان كان آكد ، بل يجب على كل من له قدرة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

الرابع ـ المفهوم من تقييدهم الطرق بالنافذة عدم الجواز في الطرق المرفوعة ، والوجه فيه ظاهر ، لأنها ملك لأربابها ، كسائر الأملاك المشتركة لا يجوز التصرف فيها إلا بإذن أربابها فلا يجوز لأحد منهم احداث جناح أو باب شارع إلا بإذن الباقين ، سواء أضر بهم أم لم يضر ، للمنع من التصرف في مال الغير إلا بإذنه مطلقا ، والمراد بالمرفوعة المسدودة التي لا ينتهي إلى طريق آخر ولا مباح ، بل الى ملك الغير ، والمراد بأربابها من له باب شارع إليها ، ومما يترتب على ملكهم لها جواز سدهم لها عن السكة ، مع اتفاقهم على ذلك ، وكما يحرم التصرف فيها بما تقدم ذكره كذلك يحرم بغيره من أنواع التصرفات ، فلا يجوز المرور فيها إلا بإذنهم ولا الجلوس فيها ، ولا إدخال الدواب فيها ونحو ذلك الا مع الاذن ، ويمكن الاكتفاء في جواز المرور بشاهد الحال ، وكذا الجلوس خفيفا ، فلو اتفق في تلك الطرق المرفوعة السلوك الى مسجد أو رباط أو مطهرة أو نحوها من المشتركات بين العامة لم يكن لأصحاب الطريق المنع من السلوك إليها ، ولا احداث ساباط أو جناح يضر بالمارة وان رضى أهل السكة ، لأنها صارت مشتركة بينهم وبين عامة الناس المترددين الى تلك المواضع ، ونحوه لو جعل أحدهم داره أحد تلك المواضع ، والوجه فيه ظاهر مما تقدم.

هذا والمفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف هو أن الطرق المرفوعة ملك لأربابها ، وظاهر المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) هنا المناقشة في ذلك مستندا الى المنع من ذلك الا أن يعلم بدليل شرعي ، ولو بدعوى الملكية بشرط أن لا يكون مستنده مجرد الاستطراق ، فإن الذي علم من الاستطراق استحقاقهم ذلك لا غير ، ولما كان أكثر الطرق والاستطراق يحصل في غير الملك لا يعلم منه الملكية التي هي منفية بالأصل ، إذ لا فرق بين المسلوك والمرفوع في الحصول ، الا أن المترددين في الأول أكثر ، هذا غاية ما استند اليه (قدس‌سره).


وفيه نظر ، إذ لا يخفى أن الظاهر أنه لا خلاف في أن التصرف امارة الملك ، فلو تصرف أحد في شي‌ء ومات وهو في تصرفه حكم به ميراثا لورثته ، ولو ادعى مدع في أن تصرفه عاد طولب بالبينة ، ولا يخفى أيضا أن التصرف غير مضبوط بحد معلوم وانما هو في كل شي‌ء بنسبته ، يعنى بالنظر الى المنافع المترتبة على ذلك الشي‌ء فكل من تصرف في شي‌ء بتحصيل المنافع المترتبة عليه ثبت له الملك ، والمنافع المترتبة على الطريق التي بها ثبت التصرف ليس الا الاستطراق ، لأنها موضوعة له وان أمكن وجود منافع آخر أيضا ، الا أن هذا هو المقصود منها والغالب عليها ،

وأما ما ذكره من أن الاستطراق يحصل في غير الملك ـ فلا يدل على الملكية كما في الاستطراق في الشوارع ـ ففيه أن ما ذكرنا من أن التصرف امارة الملك فان التصرف في كل شي‌ء انما هو بنسبة حاله ، مما يثبت به المدعى ، إذ لا خلاف في هاتين المقدمتين فيما أعلم ، وعدم ثبوت ذلك في الشوارع انما هو من حيث عدم حصر السالك فيها ، والمالك لا بد أن يكون له مالك معين ، والتصرف الموجب للملك الذي يكون في كل شي‌ء بنسبته لا بد أن يكون مستمرا كما في التصرفات في سائر الاملاك.

وحينئذ فلو مر شخص في الجادة يوما ولم يعد إليها في باقي عمره لا يعد مالكا ، وان كان قد تصرف مرة ، وهكذا في سائر السالكين وان تفاوتوا ، بخلاف ملاك السكة المرفوعة. فإنهم مستمرون على الاستطراق منها الى بيوتهم كما في جملة التصرفات في الاملاك مع كونهم معينين محصورين ، وبذلك يظهر لك الفرق بين الطريقين ، وعدم قياس إحديهما على الأخرى في البين. والله العالم.

الخامس ـ قد عرفت أن الأظهر أنه ليس لأحد من المسلمين معارضته في إخراج الجناح والروشن ، ويدخل فيه الجار ، فليس له المعارضة ، ليكون الهواء بينهما ، بل أيهما سبق استحق ذلك.

نعم للآخر إخراج روشن فيما بقي من الهواء ، وليس لصاحب الأول منعه ما لم يضع على خشبته شيئا منه ، ويجوز للآخر إخراج روشنه فوق الأول أو تحته ما لم يضر به ، ويعتبر أن يكون عاليا لا يضر بالمارة على الوجه المتقدم ، ولو أظلم


الطريق بوضع الثاني أزيل خاصة ، لأن الضرر انما حصل به ، وان كان للأول أيضا أثر في ذلك الا أن الحد الموجب للضرر انما حصل بالثاني.

السادس ـ قال في التذكرة : لو صالح واضع الروشن أو الجناح أو الساباط أرباب الدرب ، وأصحاب السكة على وضعه جاز على الأظهر عندنا ، لكن الاولى اشتراط زمان معين ، لانه حق مالي بتعين المالك فجاز الصلح عليه ، وأخذ العوض عنه كما في القرار ، ومنع منه الشافعية ، بناء منهم على أن الهواء تابع ، فلا يفرد بالمال صلحا كما لا يفرد به بيعا ، ونمنع مانعية التبعية من الانفراد بالصلح ، بخلاف البيع لانه يتناول الأعيان ، والصلح هنا واقع عن الوضع مدة ، وكذا الحكم في صلح مالك الدار عن الجناح المشرع إليها من الجواز عندنا ، والمنع عندهم. انتهى.

وظاهره أن الحكم إجماعي عندنا في كل من الموضعين ، وانما المخالف فيه الشافعية خاصة ، مع أن عبارة الشيخ في المبسوط ظاهرة في ما نقله عن الشافعية حيث قال : إذا أخرج جناحا الى زقاق غير نافذ لم يجز ، لأن أربابه معينون ، فان صالحوه على تركه بعوض يأخذونه منه لم يجز ، لأن في ذلك افرادا للهواء بالبيع ، وذلك لا يصح. انتهى.

والأصحاب قد نقلوا ذلك عنه أيضا ، والظاهر أنه غفل عن مراجعة ذلك ، والمحقق في الشرائع قد تردد في المسئلة من أجل خلاف الشيخ أيضا.

وكيف كان فان الظاهر أن كلام الشيخ هنا (رحمه‌الله) مبنى على ما تقدم نقله عنه من فرعية الصلح على البيع كما هو مذهب الشافعية ، وقد تقدم نقله عن الجميع وبيان ضعفه ، والمفهوم من كلامهم كما هو ظاهر عبارة التذكرة المذكورة استحقاق جميع ملاك الطريق المرفوعة لذلك ، وهو مخالف لما صرحوا به كما سيأتي ان شاء الله تعالى من اختصاص الداخل منهم بما بين البابين ، واشتراك الجميع انما يحصل فيما خرج عن الأبواب كملا ، فالمناسب للتفريع على ذلك أن يقال : أن الروشن المحدث ان كان خارجا عن جميع الأبواب فالحق للجميع ، والصلح على إخراج الروشن مع الجميع ، وان كان داخلا عن بعضها لم يتوقف على اذن الخارج ، وقيل : يتوقف على رضى الجميع كالأول ، وقواه في الدروس ، وسيأتي


الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى.

السابع ـ قالوا : لو سقط الروشن فسبق جاره الى وضع روشن في ذلك الهواء لم يكن للأول منعه ، لأن الأول لم يملك الموضع بوضع الروشن فيه ، وانما اكتسب بوضعه الأولوية ، كالقعود في المسجد.

بل قال في التذكرة : لو هدمه جار قهرا وتعديا ثم وضع الجار روشنا أو جناحا في محاذاته ومده الى مكان روشن الأول جاز ، وصار أحق به ، لأن الأول كان يستحق ذلك بسبقه اليه ، فإذا أزال وسبقه الثاني إلى مكانه كان أولى ، كرجل جلس في مكان مباح كمسجد أو درب نافذ ثم قام عنه أو أقيم ، فإنه يزول حقه من الجلوس ، ويكون لغيره الجلوس في مكانه. وليس للأول إزعاجه ، وان أزعج الأول فكذا هنا ، ثم نقل المنع عن بعض الشافعية.

وملخص كلامهم أنه انما يزول حقه بالإعراض عن إعادته لا بالهدم والانهدام كالجالس في المكان للأولوية ، وبذلك صرح غيره أيضا ، وظاهره أن غاية ما يلزم الثاني بكسر روشن الأول الإثم والضمان خاصة ، والا فإن أولويته تزول بذلك.

ولا يخفى ما فيه من الاشكال ، لعدم النص في ذلك مع ظهور كون الثاني غاصبا وان لم يكن غصب ملك بل غصب أولوية ، فإطلاق أدلة الغصب وعمومها يشمل مثل ذلك.

وقد تنبه لما ذكرناه المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ، حيث أنه بعد نقل كلام التذكرة وما ذكره من كلام بعض الشافعية ، قال : والذي يتخيل أولوية قول بعض الشافعية ، إذ لا شك في حصول الأولوية ، والأصل بقاؤها ، ومعلوم زوالها بالإعراض لا غير ، والظاهر أنه ليس بأقل من التحجير قهرا يمكن عدم زوال أولوية الحجر ، وبالجملة الحكم ليس بمنصوص ولا مجمعا عليه على الظاهر ، فليس ببعيد قول بعض الشافعية ، ولا شك أنه أحوط ، انتهى.

وأشار بقوله : ليس أقل من التحجير الى آخره ـ وان كانت العبارة لا يخلو من غموض ولعله لغلط في الكتاب المنتسخ منه ـ الى ما صرحوا به ثمة من أنه بالتحجير الذي هو شروع في الإحياء لا يصلح لغيره التخطي اليه وان لم يفد ملكا ، بل


انما يفيد أولوية ، وهو نظير ما نحن فيه ، فيكون مؤيدا لما ذكرناه.

ويؤيده أيضا ما تقدم في أحكام المساجد من كتاب الصلاة بالنسبة إلى السابق الى موضع منها من تصريح شيخنا الشهيد الثاني بأنه لو أزعجه مزعج فلا شبهة في إثمه ، وهل يصير أولى بعد ذلك يحتمله ، لسقوط حق الأول بالمفارقة ، وعدمه للنهى ، فلا يترتب عليه حق ، ويتفرع على ذلك صحة صلاة الثاني وعدمها ، مع أنه (قدس‌سره) ممن وافق العلامة فيما نقلناه عنه في كتاب المسالك ، والحكم في المسألتين من باب واحد ، والله العالم.

المقام الثاني ـ في الطرق وهي على قسمين ، نافذة ويقال شارعة ، ومرفوعة والكلام في هذا المقام يقع أيضا في مواضع ، الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في جواز فتح الأبواب المستحدثة في الطرق النافذة ، لأن المسلمين فيها شرع ، فيجوز احداث الأبواب فيها لمجاوزها ، سواء كان لتلك الدار باب آخر إليها أم الى غيرها من الطرق النافذة؟ أو المرفوعة.

أما الطرق المرفوعة فلا يجوز الا برضاء أهلها ، ولا حد الشركاء فيها إلا بإذن الباقين ، وكذا لا خلاف في جواز وضع الميازيب في الطرق النافذة ، واحتج عليه في التذكرة بأن الناس بأسرهم اتفقوا على وضع الميازيب ونصبها على سطوحهم قديما وحديثا من غير إنكار أحد منهم ، فكان إجماعا هذا إذا لم يتضرر بوضعها أحد ، فإن تضرر بوضعه وجب قلعه.

أقول : الأظهر الاستدلال على ذلك بأصالة الإباحة ، إذ لا شي‌ء هنا مما ربما يتوهم المنع منه الا الاستطراق الذي هو حق للمسلمين ، والمفروض أنه لا يضربه ، فيكون كوضعه مشرفا على الأماكن المباحة.

الثاني ـ يجوز فتح الروازن والشبابيك في الطرق النافذة بلا اشكال ، وكذا في الطرق المرفوعة وأن استلزم ذلك الاشراف على جاره ، لما تقدم من أن المحرم هو الاشراف والتطلع ، لا التصرف في الملك ، ليستفيد بذلك الاضائة في بيته.

نعم للجار وضع شي‌ء في ملكه يمنع الاشراف عليه وان استلزم سد الضوء ،


ولا فرق بين أن يكون لصاحب الحائط الذي فتح فيه الروزنة أو الشباك باب في تلك الدرب أم لا ، لان له رفع جميع الحائط ، وأن يضع عوضه شباكا فبعضه أولى.

نعم يمنع من فتح الباب لو لم يكن له باب قديم ، وان لم يستطرق فيه دفعا للشبهة ، اعنى شبهة استحقاقه التطرق ، والمرور من تلك الطريق ، وبهذا يفرق بين فتح الشباك والروزنة بل رفع جميع الحائط ، وبين فتح الباب ، فإن الشبهة المذكورة لا تترتب على الثلاثة الأول ، بل انما نترتب على الرابع ، فإنه بعد تطاول الزمان واشتباه الحال يمكن الاستناد إليه في استحقاق المرور والتطرق من تلك الطريق ، بخلاف رفع الجدار فضلا عن الشباك والروزنة ، فإنه لا يقتضي استحقاق المرور به بوجه ، هذا كله إذا لم يأذن أرباب تلك الطريق ، فلو أذنوا سقط.

الثالث ـ لو كان في السكة المرفوعة أبواب بعضها أدخل من الأخر فهل يشترك جميعهم في جميع السكة فيكون الاستحقاق في جميعها لجميعهم ، أم شركة كل واحد يختص بما بين رأس السكة وباب داره؟ لان محل تردده هو ذلك المكان خاصة ، المشهور بين الأصحاب الثاني ، والوجه فيه أن المقتضى لاستحقاق كل واحد هو الاستطراق ونهايته بابه ، فلا يشارك في الداخل ، فحكمه بالنسبة الى هذا الداخل الزائد على بابه حكم الأجنبي من غير أهل السكة.

وقيل : بالأول ، فيشترك الجميع في الجميع حتى في الفضلة الداخلة عن الأبواب وهو صدر السكة ان كان ذلك ، وعلل باحتياجهم الى ذلك عند ازدحام الأحمال ، ووضع الأثقال عند الإدخال والإخراج.

وقوى في الدروس هذا القول ، ونقل القولين في التذكرة عن الشافعية ، وقال : ان أظهر الوجهين لهم الثاني ، والمسألة غير منصوصة عندنا ، الا أن الأوفق بالقواعد الشرعية هو القول المشهور؟ ولو فضل في صدر الزقاق فضلة عن الاستطراق فظاهر الأصحاب أن أرباب الأبواب فيها سواء ولا أولوية لواحد على غيره لاستوائهم في الارتفاق بها. بخلاف ما بين البابين أو الأبواب ، فإن أدخلية الباب تقتضي الاستطراق اليه ، وهو مختص بالمستطرق ، فيتحقق الترجيح ، فالادخال ينفرد بما


بين البابين ، وهكذا لو كانت أكثر من بابين ، ويشترك الجميع في الطريقين أعنى صدر السكة الخالي عن الاستطراق ، لما تقدم ، وآخرها الزائد على الأبواب ، لاشتراك الجميع في استطراقه ،

قال في التذكرة : فعلى المشهور عندنا ان الأدخل عنده ينفرد بما بين البابين ، ويتشاركان في الطريقين ، ولكل منهما الخروج ببابه مع سد الأول وعدمه ، فان سده فله العود اليه مع الثاني ، وليس لأحدهما الدخول ببابه ويحتمله ، لانه قد كان له ذلك في ابتداء الوضع ويستصحب ، وله رفع جميع الجدار فالباب أولى انتهى.

أقول : الظاهر ان هذا الاحتمال مبنى على القول الأخر الذي تقدم تقويته عن الدروس ، والا فإنه يشكل بناء على المشهور من حيث اختصاص تملكه بما يستطرفه ، وهو الى الباب الموجود يومئذ ، فادخاله للباب الى داخل السكة مع أنه ملك غيره من أصحاب الأبواب الداخلة مشكل.

وأورد المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) هنا عليهم اشكالا قد أشرنا إليه في الموضع السادس من المسئلة السابقة ، قال (رحمه‌الله) ثم هيهنا اشكال وهو أنهم قد حكموا بكون المرفوعة ملكا لكل من فيها ، فالهواء والأرض كله ملك مشترك بين أربابها ، وأيضا قالوا : لا يجوز لأحد التصرف بإحداث الرواشن والأجنحة والساباط وفتح الأبواب المستحدثة حتى لغير الاستطراق أيضا ، وكذا وضع الميزاب ، سواء حصل الضرر أم لا إلا بإذن الأرباب ، فمعه يجوز مطلقا ، فهو مؤيد للاشتراك ثم حكموا هنا بالاختصاص بما بين البابين لذي الباب الأدخل والأول ، الى أن قال : فكأنهم جوزوا ما حرموه.

وقد تقدمه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، فإنه أيضا أشار الى ذلك ، ويتفرع على ذلك ما أشرنا إليه آنفا من توقف وضع الجناح أو الروشن على اذن الجميع ، بناء على حكمهم بعموم الملك للجميع ، والتفصيل بما تقدم بناء على كلامهم هنا من اختصاص الداخل بما بين البابين.

الرابع ـ قال العلامة في التذكرة : يصير الموضع شارعا بأمور أن يجعل


الإنسان ملكه شارعا وسبيلا مسبلا ويسلك فيه شخص آخر ، أو يجي‌ء جماعة أرض قرية أو بلدة ويتركوا مسلكا نافذا بين الدرب والمساكن ، ويفتحوا اليه الأبواب ، أو يصير موضع من الموات جادة يسلك الناس فيها ، فلا يجوز تغييره ، وكل موات يجوز استطراقه ، لكن لا يمنع أحد من إحيائه بحصول الممر عليه ، فليس هو حكم الشوارع. انتهى.

وقال في الدروس : يجوز عمل سرداب في الطريق النافذ ، إذا أحكم أزجه ولم يحصر الطريق من وجهها ، ولو كان في المرفوع لم يجز وان أحكم إلا بإذنهم ، ومثله الساقية من الماء إذا لم يكن لها رسم قديم ، ومنع الفاضل من عمل الساقية وان أحكم الأزج عليها في النافذ ، أما لو بناها بغير أزج فإنه يمنع منها إجماعا ، ويجوز لكل أحد إزالتها انتهى.

المقام الثالث في الجدران :

والبحث فيها يقع في موارد الأول ـ الجدار بين الملكين اما أن يكون لواحد من صاحبي الملكين ، أو يكون مشتركا بينهما ، فان كان مختصا بأحدهما كان له التصرف فيه كيف شاء ، بهدم وبناء ونحو ذلك ، وليس للآخر وضع جذع ولا خشبته عليه الا بإذن صاحبه ، وهذا كله مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وان كان مشتركا لم يجز لأحدهما التصرف فيه الا بإذن الأخر ، كوضع وتد وفتح كوة ونحو ذلك ، حتى أنه عد في التذكرة من ذلك أخذ تراب ليترب به الكتاب ، فإنه لا يجوز إلا بإذن شريكه ثم استثنى من ذلك ما لا يقع المضايقة به كالاستناد اليه ، واسناد المتاع إليه إذا لم يتضرر الجدار بذلك ، وهذا الحكم عام في جدار الغير مطلقا ، لأنه بمنزلة الاستظلال بجدار الغير ، والاستضائة بسراجه ، ولو منع المالك أو الشريك من الاستناد فهل يحرم أم لا؟ جزم في التذكرة بذلك وتبعه في المسالك واستقرب في الدروس العدم لانتفاء الضرر قال في المسالك : وموضع الخلاف ما إذا كان المجلس للمستند والا لم يجز إجماعا.


الثاني : قالوا ، إذا التمس الجار وضع جذوعه على حائط جاره لم يجب على جاره اجابته. نعم يستحب ، واستدل في المسالك على الاستحباب بما روى عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله» من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يمنعن جاره من وضع خشبة على جداره».

أقول : لم أقف على هذا الخبر في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه من طريق العامة حيث انه نقل في المسالك أن بعضهم أجاز وضع الخشب بدون الاذن مستندا الى هذا الخبر.

وكيف كان فان عموم اخبار قضاء الحوائج للمؤمنين والتوصية بالجار ونحو ذلك مما يدل على الاستحباب في مثل ذلك ، فلا بأس به.

ثم انه لو أذن له في الوضع فله الرجوع في الاذن ما لم يضعه اتفاقا ، أما لو وضعه فقيل : انه ليس له الرجوع لاقتضاء الاذن في ذلك الدوام والتأبيد كالإذن في دفن الميت في الأرض ، وللإضرار الحاصل بالنقض حيث يفضى الى خراب ملك المأذون ، ذهب اليه الشيخ في المبسوط وجماعة ، والمشهور بين المتأخرين ، ومنهم المحقق والعلامة والشهيدان وغيرهم أن له الرجوع لأنه عارية ، والأصل جواز تصرف المالك في ملكه بأي نحو كان ، قالوا : والحاقه بالدفن قياس مع الفارق ، لتحريم نبشه ، لا من حيث تخريب البناء والإضرار يندفع بضمان الأرش.

أقول : وهذا الجواب جيد ، الا أن بعضهم احتمل جواز النقض مجانا من غير أرش ، بناء على أن الاذن إنما أفاد العارية ، ولازمها الرجوع متى أراد مع أصالة براءة ذمة المالك من ثبوت مال لغيره عليه على تخليص ملكه منه ، بل أصالة البراءة مطلقا.

والقائلون بالأول استندوا إلى أنه بناء محترم صدر بالاذن ، فلا يجوز قلعه الا بعد ضمان نقصه ، ولان فيه جمعا بين الحقين ، ولانه سبب الإتلاف لإذنه ، والمباشر ضعيف ، لأنه بالأمر الشرعي.

ثم انه على تقدير وجوب الأرش فهل هو عوض بما نقصت آلات الواضع بالهدم؟


أو هو عبارة عن تفاوت ما بين العامر والخراب؟ وجهان : اختار أولهما في المسالك ، وزاد المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله) وجها ثالثا قال ، ويحتمل ثالثا وهو جميع ما أخرجه المالك في الجدار بعد وضع قيمة الآلات الموجودة منه ، فتدخل فيه أجرة الأكار وغيرها وهو الأظهر انتهى.

ولو اتفقا على بقائه بالأجرة زال الإشكال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر المحقق المذكور في شرحه على الإرشاد الميل الى مذهب الشيخ في المبسوط في هذه المسئلة (1) قال (قدس‌سره) : وظاهر المصنف بل الأكثر جواز إخراج الخشب المعار ، وان كان مستلزما للخراب على المأذون ، فيعطى الأرش ، ويحتمل عدم الجواز ، وهو مذهب الشيخ ، لأن العارية في مثل هذا للتأبيد ، فكأنه قال : أعرني بحيث يكون دائما عندي ما دام الجدار ، ولا يكون لك الرجوع بوجه ، والتزم ذلك فصار لازما ، لان المسلمين عند شروطهم ، ولأن الأصل في العقود اللزوم ، وخرجت العارية في غير محل النزاع بالإجماع ونحوه ، وبقي الباقي ولانه مستلزم للضرر ، «ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام». ، ولا ينجبر بالأرش ، إذ قد يكون بحيث لو لم يعر الخشبة لسهل عليه تحصيل غير الخشب يبقى دائما ، وقد تخيل بقاؤه دائما ، وحينئذ يخرب ملكه ، وقد لا يوجد من يبني أو يكون الخرج زائدا بكثير على الأول ولا يعارضه ان المنع أيضا ضرر على مالك الخشب ، لانه فعله بنفسه من غير إجبار ، مع أن العادة قاضية بأن مثل هذه العارية انما تكون للدوام ، فإن أحدا لا يرتكب مثل هذه العارية مع تجويز رجوع مالكه إذا كان

__________________

(1) قال (قدس‌سره) : الثالث على تقدير ثبوت الأرش فهل هو عوض ما نقصت آلات الواضع بالهدم أو تفاوت ما بين العامر والخراب ، وجهان : مبناهما على أن البناء إذا كان محترما فهو بهيئته حق لبانيه فيكون جبره بتفاوت ما بين كونه عامرا وخرابا ، لان ذلك هو نقص المالية ، ومن أن نقص هذه المالية مستند الى ملك صاحب الجدار فلا يضمن ، انما تضمن في نقصان الغير الذي كان سبب إتلافه وفواته وهو أقوى لأن جميعه مال للواضع غايته كونه موضوعا على ملك الغير وذلك الملك انما أثر جواز النقص لا المشاركة في المالية. انتهى. منه رحمه‌الله.


مستلزما للخراب ، كما في العارية للدفن ، ولا ينفع الفرق بأن النبش حرام وأنه قياس ، لما تقدم ، ولأن الغرض التمثيل والتأييد ، على أنه قد يقال به ، لظهور العلة المشتركة ، ويدفع الفرق بأنه على تقدير جواز الرجوع لا يكون النبش حينئذ حراما ، بل يكون هذه من الصور المستثنيات الكثيرة.

ثم ان الظاهر على تقدير الجواز ما كان ينبغي وجوب الأرش ، لأنه انما هو بسبب كونه عارية ، وهي جائزة دائما ، والمالك قد أضر نفسه بقبول العارية الجائزة ، فكأنه جوز على نفسه الرجوع والتخريب لما بنى ، فكأنه المخرب والمهدم ، فلا يتوجه أنه سبب ، ومالك الخشب مباشر ، على أنه إذا كان جائزا فله أن يجبر مالك الجدار بحكم الحاكم بدفع ماله اليه ، فيكون هو المباشر فتأمل ، انتهى أقول : والمسئلة لخلوها عن النص محل توقف واشكال ، والاعتماد على هذه التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مجازفة ظاهرة ، سيما مع تدافعها كما عرفت.

نعم يمكن تأييد مذهب الشيخ بما دل على وجوب الوفاء بالوعد من الآية والرواية ، فإن هذه المسئلة وان كانت من قبيل العارية التي حكمها جواز الرجوع فيها ، الا أن قرائن الحال تشهد بأن المطلوب منها هنا الدوام ، فان المعير انما أعار جداره على هذا الوجه ، فلا يجوز له الرجوع بعد ذلك ، لما دل على وجوب الوفاء بالوعد ، ويؤيده حديث الوفاء بالشروط ، والله العالم.

تذنيبان :

الأول ـ قال في التذكرة : ان رفع صاحب الجذوع جذوعه لم يكن له إعادتها إلا بإذن جديد ، لأن الإذن الأول زال بزواله وكذا لو أذن في وضع روشن على حائطه أو جناح أو ساباط ، وهو أحد قولي الشافعي.

والثاني أن له الوضع عملا باستصحاب الاذن الأول وكذا لو سقطت الجذوع أو الروشن أو الساباط أو الجناح بنفسه ، ولو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة فكذلك ، لأن الإذن لا يتناول إلا مرة ، وللشافعية وجهان ، ولو بناه بغير تلك الآلة


لم يعد الوضع إلا بإذن جديد عندنا وعند الشافعية قولا واحدا ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الاتفاق على التوقف على الاذن الجديد إذا كان البناء بغير تلك الإله مشعر بالخلاف فيما إذا بناه بتلك الإله ، الا أن ظاهره أن الخلاف إنما هو من الشافعية ، حيث قال : وللشافعية وجهان ، مع أن الشيخ قد صرح بذلك في المبسوط أيضا ، ونقله عنه الأصحاب.

ومنهم العلامة في المختلف قال : إذا أذن له في وضع الجذوع على جداره ثم استهدم الجدار للمعير نقضه ، فإذا أعاده قال الشيخ في المبسوط : ان أعاده بتلك الآلة لم يكن له منعه من رد الخشب والسقف عليه ، وان أعاده بغير تلك الآلة كان له منعه ، وقيل : ليس له منعه ، والأول أقوى (1) ، ثم قال في المختلف : والوجه الأخير لنا أنها عارية ، وللمالك الرجوع فيها خصوصا إذا لم يتضمن ضرر المستعير ، ولا ضرر هنا ، لأن إزالة الجذوع كان سائغا ، مع ان الشيخ قال أولا : لو انهدم الحائط أو أهدمه المستعير لم يكن له الإعادة إلا بإذن مستأنف ، وأى فارق بين الموضعين سوى مباشرة الهدم في الثاني دون الأول ، وتلك لا توجب دوام الإعارة بل نقول أبلغ من ذلك ، وهو أن المالك لو هدم الحائط من غير حاجة لم يكن للمستعير الإعادة وان وجب عليه الأرش ان قلنا به ، انتهى.

أقول : ومن أجل اضطراب كلام الشيخ واختلافه هنا كما سمعت من كلام المختلف لم يذكر كثير منهم خلاف الشيخ المذكور ، كما يشير إليه عبارة التذكرة ، وكأنهم أخذوا بقوله الموافق لما عليه الأصحاب من المنع من الرجوع مطلقا ، وأطرحوا هذا التفصيل الذي ذكره ، والقولان للشافعية ، والشيخ جمع

__________________

(1) أقول ومما اقرعه الشيخ على هذا التفصيل ما لو حلف أن لا يستند الى هذا الحائط ثم هدم وبنى بتلك الإله ، فإنه يحنث ، قال في المبسوط وقال العلامة في المختلف : ويقوى في نفسي أنه لا يحنث لأن الحائط الثاني ليس هو الأول ، لأن الحائط عبارة عن آلة وتأليف مخصوص ولا خلاف في أن تأليفه بطل انتهى ، منه رحمه‌الله.


بين الحكمين المختلفين.

إذا عرفت ذلك فهنا شي‌ء لم أعثر على من تنبه له ولا نبه عليه وهو أن ما ذكره الشيخ من التفصيل المتقدم نقله محل الخلاف منه انما هو الشق الأول ، وهو ما إذا أعاد الجدار بتلك الإله فالشيخ حكم بأنه ليس له منعه من الإعادة ، والأصحاب حكموا بالمنع ، وظاهر العبارة المذكورة ان الخلاف انما هو في الثاني ، والعبارة بهذه الكيفية قد ذكرها في المبسوط ، كما في نقل المختلف ، والمعنى لا يصح الا بإسقاط لفظ ليس ، مع أنها موجودة في الكتابين ، وقول العلامة في المختلف والوجه الأخير ثم علله بما ذكره انما يتم بحذف ليس ، لانه هو الوجه الأخير الذي في مقابلة التفصيل الأول ، والمراد أن له منعه مطلقا فليتأمل. والله العالم.

الثاني : لو وقع الصلح بينهما على وضع الخشب أو الجذوع على الجدار بشي‌ء صح ، لعموم أدلة الصلح الا أنه يشترط عندهم معرفة الخشب أو الجذوع الموضوعة طولا ووزنا ، لاختلاف ضرر الجدار باختلاف ذلك ، وتكفي المشاهدة عن اعتبارها بما ذكر ، ولكن لا بد من تعيين المدة وضبطها ، هذا إذا كان الصلح قبل البناء ووضع الخشب.

وأما لو كان بعده فإنه لا يفتقر الا الى تعيين المدة خاصة ، لأن الباقي صار معلوما ، قالوا : ولو كان الجدار غير مملوك بل موقوفا كجدار المسجد لم يجز التصرف بوضع شي‌ء عليه الا بإذن الحاكم الشرعي ، وليس له الإذن إلا بعوض ، وفي الجواز مع العوض بشرط عدم الضرر نظرا إلى المصلحة بحصول العوض وعدمه نظرا إلى أنه تصرف في الوقف بغير ما وضع له ، ولانه يثمر شبهة الاستحقاق بتطاول الأزمان ـ وجهان : أجودهما الأخير ، وهو خيرة الشهيدين في الدروس والمسالك.

الثالث ـ لو تداعيا جدارا فاما أن يكون لأحدهما عليه يد في الجملة ، أم لا يد بالكلية ، فعلى الثاني ان حلف عليه أحدهما مع نكول صاحبه قضى به للحالف ،


وان حلفاهما معا أو نكلا قضى به لهما انصافا ، وعلى الأول فاما أن يكون تلك اليد التي في الجملة مثل كونه في أرض أحدهما فإنه يحكم له به ، أو يكون متصلا ببنائه اتصالا يبعد به كونه محدثا ، كتداخل اللبن والأحجار ، ومثلهما ما لو كان لأحدهما عليه قبة أو غرفة أو نحو ذلك فإنه بجميع ذلك يصير صاحب يد ، فالقول قوله بيمينه مع فقد البينة ، وكذا لو كان لأحدهما عليه جذع أو جذوع ، لان حكم الجذع والجذوع حكم ما تقدم من المرجحات ، فيكون القول قوله مع يمينه ، ونقل عن الشيخ هنا أنه لا يقضى له بذلك ، قال في المبسوط : إذا تنازعا جدارا بين ملكيهما غير متصل ببناء أحدهما ، ولأحدهما عليه جذع أو جذوع له يحكم له.

وقال ابن إدريس : يحكم لصاحب الجذوع ، قال في المختلف : وهو مذهب والدي (رحمه‌الله) وهو المعتمد ، لنا أنه متصرف فيه ، وله عليه يد دون الأخر ، فيحكم مع عدم البينة له بعد اليمين ، كغيره من الأموال ، ثم قال : احتج الشيخ بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) (1) «البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه». ولم يفرق وأيضا فإن هذا الحائط قبل طرح الجذوع كان بينهما نصفين بلا خلاف ، فمن قال بطرح الجذوع بغير الحكم عليه والدلالة ، بل يقال لصاحب الجذع ، أقم البينة على انك وضعت هذه الجذوع بحق ، فإن أقامها ، والا كان على حاله قبل وضعها فيه ، وأيضا فإن وضع الجذوع قد يكون عارية لأن في الناس من يوجب اعارة ذلك ، وهو مالك ، فإنه قال يجبر على ذلك لقوله (عليه‌السلام) «لا يمنعن أحدكم جاره أن يوضع خشبته على جداره».

والجواب عن الأول أنا نقول : بموجب الحديث ، فان اليمين هنا على المدعى عليه وهو صاحب الجذوع ، لانه متصرف وذو يد ، فالقول قوله مع اليمين ، وعلى الأخر البينة ، لأنه مدع وخارج.

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 20 ح 1 والوسائل ج 18 ص 170 و 171.


وعن الثاني أن التنصيف ثابت مع عدم التصرف لتساوى نسبتهما اليه ، كما لو تداعيا عينا في يدهما أو يد ثالث لا يعترف لأحدهما ، فإنهما متساويان في الدعوى لعدم اليد ، أو لثبوتها لهما أما في صورة النزاع فان يد أحدهما ثابتة عليه ، فكان قوله مقدما ، والأصل وضع الجذوع بحق ، فلا يطالب صاحبها بإقامة البينة على ذلك ، الا أن يثبت الأخر دعواه ، والأصل عدم العارية ، والتخريج على المذهب الفاسد فاسد ، انتهى كلامه (زيد مقامه) وهو جيد ، ولو تفرقت هذه المرجحات بأن كان لأحدهما بعض ، وللآخر بعض ، بان كان البناء متصلا ببناء كل منهما ، أو اختص أحدهما بالجذوع والأخر بالقبة أو الغرفة ، أو نحو ذلك حكم باليد لهما ، فيرجع الكلام الى ما تقدم من اختصاص الحالف مع نكول الأخر ، أو القسمة بينهما مع حلفهما أو نكولهما.

قالوا : ولا يرجع دعوى أحدهما بالخوارج التي في الحيطان ، وهو كل ما خرج عن وجه الحائط من نقش ووتد ورف ونحو ذلك ، لإمكان احداثه من جهته من غير شعور صاحب الجدار به ، ونحوها أيضا الدواخل في الجدار كالطاقات غير النافذة ، والروازن النافذة لما ذكر ، وفيه على إطلاقه تأمل.

الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنه لو انهدم الجدار المشترك وأراد أحد الشريكين عمارته دون الأخر ، فإنه لا يجبر الممتنع على المشاركة في عمارته ، وعللوه بأن الإنسان لا يجب عليه عمارة ماله.

وانما يبقى الكلام في موضعين أحدهما ـ أنه لو أراد أحد الشريكين عمارته فهل يتوقف على اذن شريكه الممتنع؟ أم يجوز البناء وان نهاه؟ قولان : وعلل الأول بأنه مال مشترك ، فيمتنع التصرف فيه بدون اذن الشريك ، كما في جميع المشتركات ، وعلل الثاني بأنه نفع وإحسان في حق الشريك حيث يعمر له حائطه ولا يغرمه في نفقته ، ولا ضرر عليه بوجه ، ونقل هذا القول عن الشيخ ، وفي المسالك قوى الأول.

وفي الحكم بقوته على إطلاقه إشكال ، لأنه ربما يتضرر الشريك بترك عمارته


فيلزم من عدم الاذن له الإضرار به ، وحديث (1) «نفى الضرر والإضرار». يدفعه ، وربما قيل بالتفصيل بين إعادته بالآلة المشتركة ، فلا يشترط رضاه ، وبين إعادته بآلة من عنده فيشترط ، لانه على الأول يبقى شريكا كما كان ، بخلاف الثاني.

ثم انه قال في المسالك : وحيث يتوقف البناء على اذن الشريك ويمتنع رفع أمره الى الحاكم ليجبره على المساعدة أو الاذن ، فإن امتنع اذن له الحاكم انتهى.

أقول : مقتضى ما قدمنا نقله عنه من تقويته القول الأول هو عدم جواز البناء لو لم يأذن ، وفيه ما عرفت آنفا ، ومقتضى كلامه هنا هو أنه يجبر على الاذن ، أو يأذن الحاكم نيابة عنه ، وهو على إطلاقه أيضا لا يخلو عن إشكال ، لأنهم صرحوا بأنه لا يجب عليه عمارة ماله ، وظاهر كلامهم أنه أعم من أن يكون مشتركا أو مختصا به ، وسواء كان بنفقة ينفقها عليه أم لا ، فكيف يجبر على ذلك هنا ، والأظهر عندي انما هو التفصيل بما قدمنا ذكره من أنه مع ارادة الشريك التعمير وامتناع شريكه من ذلك ، فان كان في امتناعه ضرر على شريكه فإنه يجوز للشريك التعمير من غير اعتبار اذنه ، فيسقط الاذن هنا أيضا وقوفا على حديث «نفى الضرر والإضرار» والا فلا ، وقوفا على ما ذكروه من عدم وجوب تعمير الإنسان ماله ، ولا مدخل هنا للحاكم بوجه.

وثانيهما انهم قالوا : على القول باعتبار اذنه لو خالف وعمره بغير الاذن ، فهل للشريك نقضه؟ احتمال من حيث تصرفه في ملك غيره ، وتغيير هيئته ووضعه الذي كان عليه ، فصارت الكيفية الثانية كأنها مغصوبة ، فله إزالتها.

وفصل في المسالك فقال : الأقوى العدم ، ان كان بناه بالآلة المشتركة ، لان هدمه أيضا تصرف في مال الغير ، وهو الشريك الذي بنى ، فلا يصح كالأول ، وانما تظهر الفائدة في الإثم ، والجواز ان كان بناه بغير آلته ، لانه عدوان محض ، وتصرف في أرض الغير ، فيجوز تغييره. انتهى.

أقول : يمكن تطرق المناقشة الى ما ذكره (قدس‌سره) بأن البناء كما أنه

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 292 ح 2 ـ الفقيه ج 3 ص 147 ح 18 ـ الوسائل ج 17 ص 319 ح 1.


مشتمل على الإله فهي أحد أجزائه فهي أيضا مشتملة على الكيفية المخصوصة وهي أحد أجزائه ، وكما يحصل العدوان والغصب بالبناء بغير آلته القديمة كما اعترف به ، يحصل أيضا بتغيير الهيئة والكيفية السابقة ، وبه يظهر أن قوله فيما لو بناه بالآلة المشتركة ـ ان هدمه أيضا تصرف في مال الغير وهو الشريك الذي بنى ـ غير تام ، لان هذا التصرف بناء على ما ذكرناه تصرف عاد غير جائز ، فيجوز إزالته ، وبما ذكرناه يظهر قوة الاحتمال الأول وضعف ما ذكره من التفصيل.

ثم ان الموافق لما قدمناه من التفصيل بالضرر وعدمه أن يقال : انه على القول باعتبار الاذن لو خالف وعمره بغير اذنه ، فان كان في نقضه ضرر على الشريك الذي بناه فليس للآخر نقضه ، عملا بالخبر المتقدم ذكره ، والا فله نقضه ، للعلة المذكورة في وجه الاحتمال من حيث التصرف في ملك الغير ، وتغيير هيئته ، ثم انه على تقدير تحريم الهدم لو هدمه الشريك لزمه الأرش ، كما لو هدمه ابتداء.

والله العالم.

الخامس ـ قالوا : لو اختلفا في خص قضى به لمن اليه معاقد القمط ، والخص بالضم البيت الذي يعمل من القصب ، والقمط بالكسر حبل يشد به الخص ، وبالضم جمع قماط ، وهي شداد الخص من ليف ، وخوص ، ويستفاد من الفقيه أن الخص هو الحائط من القصب بين الدارين ، وهو الأوفق بالأخبار الواردة في المسئلة ، وكذا يفرض المسئلة في كلامهم.

والذي وقفت عليه من الاخبار ما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن منصور بن حازم (1) في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : سألته عن خص بين دارين فزعم أن عليا (عليه‌السلام) قضى به لصاحب الدار الذي من قبله وجه القماط. ورواه في الكافي بسند آخر في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (2) مثله ، الا أنه قال : عن حظيرة عوض خص ، ورواه الصدوق بإسناده عن منصور بن حازم مثله الا أن فيه «فذكر» عوض «فزعم» ، وروى في الفقيه بإسناده عن عمرو بن شمر

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 296 ح 9 ـ التهذيب ج 7 ص 146 ح 34.

(2) الكافي ج 5 ص 295 ح 3 التهذيب ج 3 ص 56 ح 1.


عن جابر (1) «عن أبى جعفر عن أبيه عن جده عن على (عليهم‌السلام) أنه قضى في رجلين اختصما إليه في خص فقال : ان الخص للذي إليه القمط».

والأصحاب لم ينقلوا في هذه المسئلة إلا الرواية الأخيرة ، ولهذا قال في المسالك بعد نقله الرواية المذكورة : والطريق ضعيف ، الا أن الأصحاب تلقوها بالقبول ، وردها بعضهم ومنهم المصنف في النافع ، وقال انها قضية في واقعة ، فلا تتعدى ، وحينئذ فحكم الخص حكم الجدار بين الملكين انتهى.

وقال المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) بعد نقل ذلك عن المسالك وكأنه أوفق بالأصول والقوانين ، الا أنه يفهم من شرح الشرائع والتذكرة الإجماع عليه ، ثم ذكر رواية منصور بن حازم المتقدمة ، وقال : انها مروية بطريق صحيح ، وبطريق آخر حسن ، الى أن قال : فالمشهور لا بأس به ، ولا اعتبار بما تقدم ، وان احتمل كونها قضية في واقعة عرفها عليه‌السلام ، فلا تتعدى ، انتهى ملخصا.

وصدر كلامه (رحمه‌الله) يميل الى ما ذكره في النافع من طرح الرواية ، وجعل الخص المتنازع فيه كالجدار المتقدم ذكره ، وحكم التنازع فيه ، ثم ذكر رواية منصور المروية بطريق صحيح ، وآخر حسن ، ووافق المشهور في العمل بالرواية ، ونفى الاعتبار بما ذكره أولا ، الا أنه احتمل الوقوف على مورد الخبرين من غير أن يتعدى الحكم الى غير الخص ، والظاهر أن السبب في ذلك هو أن ظاهر الروايات المذكورة الاعتماد في ذلك على القرائن ، فهي تدل على اعتبار القرائن في إثبات الأحكام الشرعية ، مع أن الأمر بحسب الشرع ليس كذلك ، وحيث كانت الرواية بذلك متعددة مع صحة بعضها ، وجب الوقوف فيها على موردها. والله العالم.

السادس ـ قد تقدم الكلام في أنه لو انهدم الجدار المشترك لم يجبر شريكه على المشاركة في عمارته ، قالوا : وكذا لا يجبر صاحب السفل ولا العلو على بناء الجدار الذي يحمل العلو ، والوجه فيه أنه لا يجب على الإنسان عمارة ملكه ، لأجل

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 157 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 173 ح 2.


الغير ، الا أن الشهيد في الدروس قيده بان لا يكون لازما بعقد ، بمعنى أن لا يكون حمل جدار العلو أو السقف لازما على صاحب جدار السفلى بعقد لازم فلو كان واجبا عليه ، فإنه يجبر وهو جيد ، ولو أراد صاحب الجدار الا على بناء الأسفل تبرعا فهل لصاحب الجدار الأسفل منعه أم لا؟ الكلام فيه كما تقدم في المورد الرابع ، وأطلق العلامة في التحرير أنه ليس له منعه ، هذا كله إذا انهدم الحائط بنفسه ، أو هدماه معا.

أما لو هدمه أحدهما بدون اذن الآخر أو بإذنه لكن بشرط أن يعمره ، فقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقيل : بأنه يجب عليه إعادته ، ونقل عن الشيخ (رحمه‌الله) وبه صرح المحقق في الشرائع ، والعلامة في الإرشاد ، ونقله في المسالك عن التذكرة ، الا أن الذي وقفت عليه في التذكرة خلاف ما نقله ، كما ستسمعه ـ إنشاء الله تعالى ـ من العبارة المشار إليها.

وقيل : بأن الواجب انما هو الأرش ، صرح به العلامة في القواعد والتذكرة ، قال في التذكرة : لو هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير اذن صاحبه ، فان كان استهدامه في موضع وجوب الهدم لم يكن عليه شي‌ء ، فان كان مما لا يجب هدمه ، أو هدمه وهو معمور لا يخشى عليه السقوط فقد اختلف قول علمائنا ، قال بعضهم ، يجبر الهادم على عمارته الى ما كان عليه أولا ، والأقوى لزوم الأرش على الهادم ، لان الجدار ليس بمثلي. انتهى.

ومنه يظهر لك غلط ما في نقله في المسالك عن التذكرة من القول بوجوب الإعادة ، وقيل. بالتفصيل في ذلك كما ذكره في الدروس ، قال : ولو هدمه فعليه إعادته أن أمكنت المماثلة ، كما في جدران بعض البساتين والمزارع ، والا فالأرش ، والشيخ أطلق الإعادة ، والفاضل أطلق الأرش انتهى.

وقال في المسالك بعد نقل ذلك عنه. وفيه مناسبة الا أنه خارج عن القواعد الشرعية لانتفاء المثلية في الفائت ، فإنه محض صفة ، إذ الأعيان باقية ، والمماثلة في الصفة بعيدة ، والقول بالأرش مطلقا أوضح.

وظاهر المحقق الأردبيلي الميل هنا الى ما ذكره في الدروس ، فإنه بعد أن


ذكر الاعتراض على القول بالإعادة ، بأن ضمان المثل انما يكون في المثلي ، والجدار قيمي لا مثلي ، وذكر أن القائل بذلك استند الى ما في التذكرة قال : ولا يخفى أن الإعادة غير بعيد فيما أمكن المماثلة في الجملة ، وان كان الجدار قيميا باصطلاحهم.

الا أن العرف قد يقضي بالمماثلة في بعض الجدران ، وعدم دقة فيها إذا كان المطلوب الحائل والمانع ، ولا يريدون في أمثال ذلك غير تلك المماثلة في الجملة ، فليس ببعيد الاكتفاء في أمثاله بهذا المقدار ، فان العقل يجد أن لا تكليف في أمثاله الا بالمثل ، وهو المضمون ، ويؤيده أن الأرش بعيد ، فإنه لا يسوى بعد الهدم إلا بشي‌ء قليل جدا ، والجدار الصحيح تكون له قيمة كثيرة ، بل المناسب على القول بالأرش أن يراد به ما يحتاج في تعميره بمثل ذلك التعمير ، وفيه أيضا تأمل إذ قد يتفاوت العمل والأجرة كثيرا فتأمل الى أن قال ـ بعد ذكر قوله في المسالك في الاعتراض على كلام الدروس أنه خارج عن القواعد الشرعية والخروج عن القواعد لوجه إذا لم تكن مأخوذة من النص الصريح لا بأس به. انتهى.

أقول : والمسألة كنظائرها محل اشكال ، لعدم المستند الواضح لشي‌ء من هذه الأقوال ، وتدافع التعليل في كل منها والاحتمال ، وان كان كلام الدروس لا يخلو من قرب في هذا المجال. والله العالم.

السابع ـ المشهور أنه إذا كان البيت لرجل وعليه غرفة لاخر فتداعيا جدران البيت فإنه يحكم به لصاحب البيت بيمينه ، ولو تداعيا في جدران الغرفة ، فالقول قول صاحبها بيمينه ، والوجه في ذلك أن جدران البيت جزؤه ، وجدران الغرفة جزؤها ، فيجب أن يحكم بهما لصاحب الجملة.

ونقل عن ابن الجنيد أن جدران البيت بينهما معا ، لان حاجتهما إليه واحدة بخلاف جدران الغرفة ، إذ لا تعلق لصاحب البيت بها ، قال في المختلف : قال في المبسوط : لو تنازع صاحب البيت والغرفة في حيطان البيت قضى به لصاحب البيت.


وقال ابن الجنيد : لو كان على رأس الدرج روشن ليستطرقه صاحب العلو وهو على منزل صاحب السفل كان الروشن لصاحب العلو ، واجذاع السقف وبواريه وجميع آلة السقف لصاحب العلو ، والحيطان الحاملة له بينهما مع موضعها من الأرض ، وكأنه نظر الى أن لكل من صاحب العلو والسفل يدا عليه ، وتصرفا فيه ، ولا بأس بهذا القول انتهى ، وظاهره الميل الى ما ذكره ابن الجنيد.

وقال في المسالك أيضا : أنه قول جيد ، لكن الأول أجود ، ولو كان التنازع في سقف البيت الذي هو أرض الغرفة فقد اختلف فيه كلامهم ، قال في المبسوط : فان لم يكن لأحدهما بينة حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ، فان حلفا كان بينهما نصفين ، والأحوط أن يقرع بينهما فمن خرج منهما حلف وحكم له به ، وقال في المختلف يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه حلف لصاحبه ، وحكم له به ، وان قلنا أنه يقسم بينهما نصفين كان جائزا ، واستدل بإجماع الفرقة على أن كل مجهول يستعمل فيه القرعة ، وهذا من الأمر المشتبه.

وقال ابن إدريس : يحكم لصاحب الغرفة بالسقف ، وقد تلخص من ذلك أن في المسئلة أقوالا ثلاثة ، القول باستوائهما فيه ، وهو قول الشيخ في المبسوط ، وقواه في الدروس : ووجهه اشتراكهما في الانتفاع به ، لانه سقف لصاحب البيت ، وأرض لصاحب الغرفة.

والقول بالقرعة ، وهو للشيخ أيضا كما عرفت ، واستحسنه المحقق في الشرائع ، ووجهه ما تقدم في كلام الشيخ ، وربما أورد عليه بمنع الاشتباه هنا ، لان رجحان أحد الطرفين في نظر الفقيه يزيل الاشتباه بالنسبة إلى الحكم ، وعندي فيه نظر ، إذ المفروض أنه لا نص في المسئلة ، والمرجح في نظر الفقيه بمجرد هذه التخريجات لا يخرج الحكم عن الاشتباه ، ان جوزنا للفقيه الترجيح بمثل ذلك ، والا فهو محل المنع أيضا ، فإن الحكم في المسائل الشرعية موقوف على النصوص من الكتاب والسنة : فلا تثبت بمجرد هذه التقريبات العقلية سيما مع تصادمها كما عرفت في أكثر مسائل هذا الباب.


والقول الثالث الحكم به لصاحب الغرفة ، وهو مذهب ابن إدريس ، وهو الظاهر من عبارة ابن الجنيد المتقدمة ، واختاره العلامة في جملة من كتبه ، واليه يميل كلامه في المسالك ، واستدل عليه في المختلف قال : لنا أن الغرفة انما يتحقق بالسقف ، إذ هو أرضها ، والبيت قد يكون بغير سقف ، وقد اتفقا على أن هنا غرفة لصاحبها ، وبدون السقف لا غرفة ، ولان تصرفه فيها دون صاحب السفلى.

أقول : ومرجعه الى أن السقف وان أمكن الانتفاع به لهما الا أنه بالنسبة الى صاحب الغرفة أغلب ، وفي حقه أضر فيكون الترجيح باعتبار أغلبية الحاجة وأضريتها ، ويرد عليه حينئذ أن ذلك يجري في جدران البيت الذي قد تقدم اختياره فيها القول بالاشتراك ، من حيث أن كلا منهما صاحب يد ، مع أن البيت لا يوجد الا بالجدران ، لأنها أجزاؤه ، ولا وجود للكل بدون الجزء ، بخلاف الغرفة ، فإنها يمكن أن تبنى على الأعمدة والأساطين ، ولا يتوقف على الجدران فيرجع الأمر هنا إلى أنهما وان اشتركا في الانتفاع بها الا أن صاحب البيت أضره بعين ما قاله في السقف : فان قيل : ان ما فرضتموه نادر ، قلنا : وجود البيت بدون السقف كذلك أيضا ، وبذلك يظهر لك ما في بناء الأحكام الشرعية على أمثال هذه التقريبات العقلية من المجازفة الظاهرة.

قال في المسالك : موضع الخلاف السقف الذي يمكن احداثه بعد بناء البيت ، أما ما لا يمكن كالأزج الذي لا يعقل احداثه بعد بناء الجدار الأسفل ، لاحتياجه إلى إخراج بعض الاجزاء عن سمت وجه الجدار قبل انتهائه ، ليكون حاملا للعقد فيحصل به التوصيف بين السقف والجدران ، وهو دخول آلات البناء من كل منهما في الأخر ، فإن ذلك دليل على أنه لصاحب السفل ، فيقدم قوله فيه بيمينه. انتهى. وهو كذلك والله العالم.


المقام الرابع في مسائل متفرقة من هذا الباب

الاولى ـ المشهور أنه إذا خرجت أغصان الشجرة إلى ملك الجار وجب على مالك الشجرة عطف تلك الأغصان إن أمكن ، والا قطعها ، لانه يجب عليه تفريغ أرض الغير وهواه من ماله كيف ما أمكن ، وان امتنع المالك من ذلك فلما لك الأرض والهواء تولى ذلك ، مقدما للعطف على القطع ان أمكن ، ولا يتوقف مالك الأرض مع امتناع مالك الشجرة على اذن الحاكم ، لان سبيل هذا الحكم سبيل بهيمة دخلت في ملكه ، فان له إخراجها من غير توقف على اذن الحاكم ، قالوا : وهكذا الحكم في العروق.

وربما قيل : بجواز ازالة مالك الأرض لها من دون مراجعة مالك الشجرة لأن إزالة العدوان عليه أمر ثابت له ، وتوقفه على اذن الغير ضرر ، ويؤيده ما تقدم من جواز إخراج البهيمة الداخلة في ملكه من غير مراجعة مالكها ، والمفهوم من كلام العلامة في التذكرة أنه لا يجب على مالك الشجرة إزالة الأغصان المذكورة ، وان جاز لمالك الأرض ، مستندا إلى أنه ليس من فعله ، فلا يجبر على إزالته ، وهو خلاف ما تقدم من القول المشهور : ومرجع القولين إلى أنه هل يجب على الإنسان تفريغ أرض الغير من ماله إذا لم يكن ذلك بفعله أو لا يجب عليه ولا يخاطب به؟ وانما يكون الحكم متعلقا بصاحب الأرض ، فإن شاء تفريغ أرضه من مال الغير فله ذلك ، وجهان : ولا يحضرني الان دليل على ترجيح أحد الوجهين.

ولو قطع الأغصان المذكورة مالك الأرض مع إمكان عطفها ضمن بلا اشكال لكن هل يضمن جميع ما قطعه أم تفاوت ما بينه وبين المعطوف اشكال ، من التعدي بالقطع فيضمنه ، ومن أن العطف حق له ، وما يفوت به في حكم التالف شرعا ، فلا يضمن الا التفاوت ، ولعل الثاني أقرب.

وفي حكم أغصان الشجرة التراب المنتقل من ملكه الى ملك غيره ، والحائط المائل في هواء الغير فيجب المبادرة إلى تخليص الأرض والهواء منهما ، ولو


ملكه التراب وقبله سلم من نقله ، وان امتنع من قبوله وجب نقله ، وان شق لما تقدم ، هكذا قالوا ، وفيه ما عرفت من التردد.

ولو صالحه على إبقاء الأغصان المذكورة في الهواء فالمشهور الصحة ، ومنع منه الشيخ ، بناء على أصله المتقدم ذكره من تفريع الصلح على البيع ، وأن الهواء تابع لا يصح افراده بالبيع ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في الموضع السادس من المقام الأول.

بقي الكلام هنا في أن الشيخ قد علل ذلك بعلة أخرى ، فقال : لو صالحه على إبقاء الغصن البارز الى ملك الغير في الهواء لم يصح ان كان رطبا ، لانه يزيد في كل حال ، ولا يعرف قدره ، وكذا ان كان يابسا لانه يتبع الهواء من غير قرار وذلك لا يجوز. انتهى ، ومرجع المنع إذا كان رطبا من حيث المجهولية في المصالح عليه ، فلا بد من معلوميته.

قال في المسالك بعد قول المصنف ولو صالحه على طرحه على الحائط جاز مع تقدير الزيادة أو انتهائها ما لفظه : والمراد بقوله مع تقدير الزيادة أو انتهائها ان الأغصان ان كانت قد انتهت في الزيادة ، بحسب ظن أهل الخبرة صح الصلح على إيقاعها مطلقا ، وان كانت أخذت في الزيادة فلا بد من تقدير الزيادة ليكون الصلح مضبوطا ، ولا بد مع ذلك من تقدير مدة الإقامة ، فلا يصح المؤيد على ما ذكره الجماعة. انتهى.

وحينئذ فالخلاف بينه وبين الأصحاب انما هو في صورة عدم الزيادة بأن يكون يابسا أو قد تناهت زيادته بحيث لا يزيد على ذلك بحسب نظر أهل الخبرة.

الثانية ـ قالوا : إذا كان لإنسان بيوت الخان السفلى : ولاخر بيوته العليا وتداعيا الدرجة ، فإنه يقضى بها لصاحب البيوت العليا مع يمينه ، لاختصاصه بالتصرف فيها بالسلوك الى بيوته العليا وان كانت موضوعة في الأرض التي هي لصاحب البيوت السفلى ، لان مجرد ذلك لا يوجب اليد ، وكما يحكم بها لصاحب العليا ، فكذا محلها ، هذا مع اختلافهما أيضا في الخزانة التي تحت الدرج.

أما لو اتفقا على أن الخزانة لصاحب البيوت السفلى ، وانما النزاع في الدرج


خاصة ، فإنهم قالوا : ان الدرج حينئذ كالسقف المتوسط بين الأعلى والأسفل ، فيجري فيه الخلاف السابق ، فعلى تقدير القول ثمة بأن السقف لصاحب الغرفة ، فإنه يحكم هنا بالدرجة للأعلى مطلقا ، سواء اختلفا في الخزانة أم اتفقا على أنها للأسفل ، وانما يتجه الفرق على تقدير القول بالاشتراك ، فإنه مع الاتفاق على الخزانة يجعل الدرج هنا مشتركا بينهما كالسقف ثمة ، أما مع الاختلاف فيها فالحكم في الدرج ما تقدم من كونها للأعلى مع يمينه.

ولو تداعيا في الخزانة التي تحت الدرج خاصة كانا في دعويها على السواء ، والوجه فيه أن لكل منهما شاهدا بالملك ، أما صاحب الأعلى فلأنك قد عرفت أن له الدرجة : فيكون مكانها كذلك ، وان كان مكانها الهواء : لان الهواء كالقرار وأما صاحب الأسفل فلأنها متصلة بملكه ، بل هي من جملة البيوت السفلى ، وحينئذ فيقضى بها لهما بعد التحالف أو النكول كما تقدم.

أقول : ويمكن ترجيح دعوى صاحب الأسفل بأن يقال : أنه قد ثبت أن الهواء تابع للقرار ، ولهذا منع الشيخ كما تقدم من بيعه والصلح عليه منفردا عن القرار ، فالأصل فيه حينئذ أن يكون تابعا للقرار ، ومجرد وضع الدرجة فيه لا يستلزم الملك ، وتبعيته للدرجة في ذلك ، لأنه أعم من ذلك.

ولو تداعيا الصحن قالوا : ان ما يسلك فيه الى العلو يكون بينهما ، وما خرج عن ذلك فهو لصاحب الأسفل : والوجه فيه أن صاحب العلو لما افتقر سلوكه إليه إلى التصرف في قدر الممر كان له اليد عليه بذلك ، دون باقي الصحن ، فلا يد له عليه ، ولما كان صاحب الأسفل يشاركه في الانتفاع بذلك القدر مغدا ومجيئا كان له يد عليه أيضا ، فاقتضى ذلك الشركة فيه ، دون ما زاد ، لاختصاص صاحب الأسفل به ، وعلى هذا لو كان المرقى الى العلو خارجا عن الدهليز لم يكن لصاحب العلو مشاركة في العرصة ولا في الدهليز بالكلية ، إذ لا يدله على شي‌ء منهما ولو كان المرقى في وسط الصحن فمن أول الدهليز الى المرقى بينهما لتصرفهما فيه ، وما وراء ذلك فهو لصاحب الأسفل.

الثالثة ـ لو تنازع راكب الدابة وقابض لجامها ، فقيل : انه يقضى بها


للراكب ، لقوة يده وشدة تصرفه بالنسبة إلى القابض ، وهو قول الشيخ في المبسوط فإنه قال : انه يحكم بها لأقواهما يدا وآكدهما تصرفا ، وهو الراكب ، وبه قال المحقق في الشرائع والعلامة في المختلف.

وقيل : هما سواء في الدعوى وهو قول الشيخ في الخلاف : قال : إذا تنازعا في دابة وأحدهما راكب ، والأخر أخذ بلجامها ولم يكن مع أحدهما بينة ، جعلت بينهما نصفين ، لعدم دليل على وجوب تقديم أحدهما على الأخر. انتهى وبه قال ابن إدريس.

وقال في المسالك : ووجه التسوية اشتراكهما في اليد ، وقوتها لا مدخل له في الترجيح ، ولهذا لم يؤثر في ثوب بيد أحدهما أكثره كما سيأتي. نعم مع الراكب زيادة التصرف ، الا أنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا ، وتعريف المدعى والمنكر منطبق عليهما ، بتفسيراته ، وحينئذ فالقول بالتساوي أقوى بعد أن يحلف كل منهما لصاحبه إذا لم يكن بينة. انتهى.

أقول : فيه أن ما ذكره هنا جار في التنازع في السقف الذي بين الغرفة والدار السفلى ، مع أنه قد اختار هناك القول باختصاص صاحب الغرفة به لقوة يده ، فإنه قال بعد نقل تعليل العلامة الذي قدمنا نقله ثمة : ما لفظه ولان تصرفه فيه أغلب من تصرف صاحب السفلى ، والفرق بين المسئلتين غير ظاهر.

وقال في المسالك أيضا تفريعا على ما اختاره : ولا عبرة عندنا بكون الراكب غير معتاد فنية الدواب ، والمتشبث معتادا لذلك : وما ذكر حكم الدابة ، أما اللجام فلمن في يده ، والسرج لراكبه.

أقول : مقتضى ترجيحهم بالقرائن في أمثال هذه المقامات كما تقدم في غير موضع أنه لا مانع من الترجيح هنا أيضا بما منعه من كون الراكب غير معتاد لقنية الدواب ، وقابض اللجام معتادا لذلك.

ويؤيده ما ذكره المحقق الأردبيلي هنا حيث قال : ويمكن اعتبار القرائن مثل كون الدابة بحيث يعلم عادة كونها للراكب ، دون القابض : فيحكم له


أو بالعكس.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى اللجام والسرج فإنه رده المحقق المتقدم ذكره بالبعد ، قال : أنه يبعد أن يكون اللجام لشخص ، والدابة لاخر ، وكذا الجل والرحل فالحكم غير واضح ، انتهى.

أقول : ويؤيده ما تقدم في غير مقام من أن الأحكام انما تبنى على الافراد المتكررة الغالبة ، دون الفروض النادرة.

وكيف كان فان الحكم في هذه المقامات بمجرد هذه التعليلات من غير وجود نص واضح لا يخلو من مجازفة. والله العالم.

الرابعة ـ قيل : لو تنازعا ثوبا في يديهما لكن في يد أحدهما أكثره ، فهما سواء فيه لاشتراكهما في مسمى اليد ، ولا ترجيح لقوتها : والفرق بين هذه المسئلة وسابقتها عند هذا القائل هو أن التصرف الذي كان مع الراكب بالركوب زائدا على اليد ، منتف هنا فاختلف الحكم لذلك.

وأما على ما ذكره في المسالك في ما قدمنا نقله عنه من أنه يثبت شرعا كونه مرجحا يصير حكم المسئلتين من باب واحد ، فيحكم بالتساوي فيهما بعد حلف كل منهما لصاحبه ، قال في المسالك : نعم لو كان أحدهما لابسا للثوب والأخر ممسكا له فهي كمسألة الراكب والقابض ، لزيادة تصرف اللابس على اليد ، وربما قيل هنا : بتقديم اللابس ، لان الظاهر أنه لم يتمكن من لبسه ، الا وهو غالب مستقل باليد انتهى.

أقول : الظاهر أن هذا القول هنا يجرى مجرى القول بتقديم الراكب في مسئلة تنازع الراكب والقابض ، لأنهما مشتركان في زيادة التصرف بالركوب واللبس على مطلق اليد في كل من الموضعين ، ومقتضى ما ذكره في المسالك في تلك المسئلة من عدم ثبوت الترجيح بذلك ، ينبغي ان يجرى في هذا الموضع بمقتضى حكمه بالمساواة بين المسئلتين ، الا أنه أغمض النظر هنا عن ذلك ، وربما


أشعر كلامه هنا وإعراضه عن المناقشة بأن الحكم في الراكب والقابض هو ترجيح الراكب ، مع أنه خلاف ما قدمه ، وسيأتي إنشاء الله تعالى ما يوضح ذلك أيضا.

الخامسة ـ لو تداعيا جملا كان بيديهما بان كانا قابضين لزمامه ، ونحو ذلك مما يكون به كل واحد منهما ذائد ، ولأحدهما عليه حمل ، قالوا : ان القول قول صاحب الحمل ، لان وضع الحمل يستدعي كمال الاستيلاء ، فيرجح به صاحبه ، ولو كان لأحدهما حمل ، ولا يد للآخر فإنه لا شبهة في الترجيح لصاحب الحمل ، ولو كان أحدهما قابضا لزمام الحمل ، وللآخر عليه حمل ، كان كمسئلة الراكب والقابض ، بل الحمل أقوى دليلا على كمال الاستيلاء من الركوب. فان الركوب أسهل تعلقا من الحمل ، ولم ينقلوا في هذا الحكم خلافا ، وظاهره في المسالك القول بذلك على جميع هذه الوجوه ، خصوصا انه قال بعد ذكره نحو ما ذكرناه ، وفي الدروس جعل حكم الراكب ولابس الثوب وذي الحمل سواء في الحكم ، وهو كذلك انتهى ونحوه في الروضة.

وفيه كما ترى مخالفة ظاهرة لما قدمه في مسئلة الراكب والقابض ، حيث اختار التساوي ثمة ، وطعن في زيادة التصرف بالركوب بأنه لم يثبت شرعا كونه مرجحا ، وفي هذا الموضع وافق الدروس في حكمه بترجيح الراكب واللابس وذي الحمل ، وتقديم قول كل منهم بيمينه ، فإنه قد صرح في الدروس واللمعة بذلك ، والمسئلتان في صفحة واحدة ليس بينهما إلا أسطر يسيرة ، ومثل ذلك وقع له في الروضة أيضا ، وهو عجيب من مثله (قدس‌سره).

السادسة ـ قالوا : لو تداعيا غرفة على بيت أحدهما ، وبابها إلى غرفة الأخر كان القول قول صاحب البيت ، لأنها موضوعة في ملكه ، فان هواء بيته ملكه ، لانه تابع للقرار ، ومجرد فتح الباب الى الغير لا يثبت به اليد ، ولا الملك ، فيقدم صاحب البيت بيمينه ، هذا إذا لم يكن من اليه الباب متصرفا في تلك الغرفة بالسكنى ونحوه ، والأقدم قوله ، لان يده عليها بالفعل ، فان التصرف مقتض لذلك ، ويد صاحب الهواء انما كانت بالتبعية ليده على القرار ، واليد الفعلية أقوى من التابعة ، ويحتمل التساوي لثبوت اليد من الجانبين وعدم تأثير قوة اليد كما تقدم.

أقول : والحكم الأول لا اشكال فيه وأما الثاني فإنه لا يخلو من الاشكال ، وان كان ما ذكروه أقرب. والله العالم.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *