ج5 - الشمس والأرض والنار

المطلب الثاني

في باقي المطهرات

وفيه مسائل (الاولى) من المطهرات عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) الشمس الا انه قد اختلف كلامهم هنا في مواضع ثلاثة : (الأول) ان ما تجففه الشمس هل هو طاهر حقيقة كما يطهر بالماء أو يكون مخصوصا بجواز الاستعمال مع اليبوسة فيكون عفوا لا طهارة حقيقة؟ (الثاني) ما الذي يطهر بها من النجاسات هل هو البول بخصوصه أم كل نجاسة ليس لها جرم يبقى بعد اليبوسة؟ (الثالث) ما الذي يطهر بها من المواضع؟

وقد صرح جماعة من الأصحاب : منهم ـ المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه والشهيدان ـ والظاهر انه المشهور بين المتأخرين ـ ان الأرض إذا أصابتها نجاسة برطوبة ولم يكن لها عين كفى في طهارتها إشراق الشمس عليها وتجفيفها للرطوبة الحاصلة فيها ، وكذا لو كانت لها عين فازيلت بوجه غير مطهر وبقيت رطوبتها ثم جففتها الشمس ، وألحقوا بالأرض في هذا الحكم كل ما لا ينقل ولا يحول في العادة كالأشجار والابنية والأبواب المثبتة والأوتاد الداخلة والفواكه على الشجر ومن المنقول الحصر والبواري لا غير. وذهب العلامة في المنتهى الى الاختصاص بنجاسة البول مع وقوعها على ما تقدم ذكره في القول المشهور ، ونقل بعض الأصحاب عنه في التحرير ان ظاهره فيه التوقف في تعدية الحكم الى غير البول ، ونقل في المنتهى عن الشيخ في موضع من المبسوط التخصيص بالبول ايضا ، وذهب المحقق في النافع الى العموم في النجاسة مع تخصيص ما وقعت عليه بالأرض والحصر والبواري ، وهو قول الشيخ في الخلاف حيث قال في موضع منه : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس وهبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة طهرت وقال في موضع آخر منه بعد الحكم بطهارة الأرض بتجفيف الشمس لها من نجاسة البول : وكذا الكلام في الحصر والبواري. وذهب الشيخ المفيد (قدس‌سره) في المقنعة ـ ونقل ايضا عن سلار في رسالته ـ الى القول بالاختصاص بالبول مع الثلاثة المذكورة من الأرض والحصر والبواري ، ونقل العلامة في المختلف عن القطب الراوندي انه قال : الأرض والبارية والحصر هذه الثلاثة فحسب إذا أصابها البول فجففتها الشمس حكمها حكم الطاهر في جواز السجود عليها ما لم تصر رطبة ولم يكن الجبين رطبا. وقال المحقق في المعتبر ان الراوندي وصاحب الوسيلة ذهبا الى ان الأرض والبواري والحصر إذا أصابها البول وجففتها الشمس لا تطهر بذلك ولكن يجوز الصلاة عليها ، ثم قال وهو جيد. ونقله عنه في المختلف ايضا فقال بعد نقل قول الراوندي : وكان شيخنا أبو القاسم بن سعيد يختار ذلك. والى القول بالعفو ذهب المحدث الكاشاني ، وظاهر صاحب المدارك التوقف في المسألة وهو في محله كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.


وكيف كان فلا بد من سوق روايات المسألة وتذييل كل منها بما تدل عليه وما يتلخص من الجميع وما يرجع اليه ، والذي وقفت عليه من ذلك روايات : منها ـ ما هو ظاهر في الطهارة ومنها ـ ما هو ظاهر في العدم ومنها ـ ما هو مجمل قابل للدخول تحت كل من الفردين المذكورين ، وها انا اذكر ما وقفت عليه منها مذيلا لكل منها بما ادى اليه فهمي القاصر :

الأولى ـ صحيحة زرارة (1) قال : «سألت أبا جعفر (عليه‌السلام) عن البول يكون على السطح أو في المكان الذي يصلى فيه؟ فقال إذا جففته الشمس فصل عليه فهو طاهر».

أقول : ومورد هذه الرواية هو نجاسة البول خاصة مع خصوص الأرض وهو مما وقع الاتفاق عليه ، وظاهرها الحكم بالطهارة كما هو المشهور ، والمناقشة فيها ـ بالحمل على المعنى اللغوي لعدم ثبوت كون المعنى المصطلح عليه حقيقة عرفية عندهم (عليهم‌السلام) كما صار اليه المحدث المتقدم ذكره حيث اختار القول بالعفو ـ فالظاهر بعدها من سياق الخبر المذكور وان سلم ما ذكره من عدم ثبوت الحقيقة العرفية عندهم (عليهم‌السلام) إلا ان قرينة السياق ظاهرة الدلالة على ان المراد بالطهارة هي الطهارة الشرعية لأنها هي المعتبرة في أحكام الصلاة مكانا أو لباسا سيما مع تعلق السؤال بالنجاسة ، ويؤيده إطلاق الأمر بالصلاة عليه بعد تجفيف الشمس الشامل لكونه بعد التجفيف وحال الصلاة رطبا ويابسا بمعنى انه متى جف بالشمس جازت الصلاة عليه رطبا كان أو يابسا لحصول الطهارة بالتجفيف الحاصل من الشمس ثم أكد ذلك بقوله : «فهو طاهر» وبالجملة فالخبر عندي ظاهر في الطهارة إلا انه سيأتي ما هو ظاهر في المعارضة.

الثانية ـ رواية أبي بكر الحضرمي عن الباقر (عليه‌السلام) (2) قال : «يا أبا بكر ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر».

وهي ـ كما ترى ـ ظاهرة في القول المشهور من طهارة الأرض والحصر والبواري

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات.


وما لا ينقل ولا يحول ، وهي وان كانت مطلقة بالنسبة الى ما زاد على ذلك إلا انه لا بد من تقييدها بما ذكروه لان ما لا ينقل ويحول لا بد من غسله بالأدلة الكثيرة ، وكذلك بالنسبة إلى النجاسة فإن إطلاقها شامل لجميع النجاسات ، وبالجملة فإنها ظاهرة الدلالة على القول المشهور وان أمكن تطرق المناقشة إلى الطهارة فيها بالتأويل المتقدم إلا انه خلاف الظاهر. والعلامة في المنتهى حيث خص النجاسة في هذه المسألة بالبول رد هذه الرواية بضعف السند وهو عندنا غير مرضى ولا معتمد مع انه استدل بها في المختلف على العموم. ويعضد هذه الرواية أيضا ما في الفقه الرضوي حيث قال (عليه‌السلام) (1) «ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شي‌ء من النجاسات مثل البول وغيره طهرتها واما الثياب فإنها لا تطهر إلا بالغسل». وهي ظاهرة تمام الظهور في القول المشهور.

الثالثة ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (2) قال : «سألته عن الأرض والسطح يصيبه البول أو ما أشبهه هل تطهره الشمس من غير ماء؟ قال كيف يطهر من غير ماء».

وهذه الرواية ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على ما ذهب إليه الراوندي ومن حذا حذوه من عدم الطهارة وانما هو عفو ، وقد احتج بها العلامة في المختلف للقائلين بعدم الطهارة بعد ان نقل عنهم الاحتجاج بان الاستصحاب يقتضي الحكم بالنجاسة وتسويغ الصلاة لا يدل على الطهارة لجواز ان يكون معفوا عنه كما في الدم اليسير. ثم أجاب عن الاستصحاب بان الاستصحاب ثابت مع بقاء الأجزاء النجسة اما مع عدمها فلا والتقدير عدمها بالشمس. وعن الرواية بأنها متأولة لجواز حصول اليبوسة من غير الشمس. وفيه ان ما أجاب به عن الاستصحاب هنا لا يوافق مذهبه في الأصول من القول بحجية الاستصحاب كما هو المشهور بينهم ، وبذلك اعترض عليه أيضا في المعالم فقال : وهذا الكلام من العلامة غريب إذ المعروف من مذهبه قبول مثل هذا الاستصحاب والاعتداد به نعم هو

__________________

(1) ص البحار ج 18 ص 35.

(2) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات.


على ما سلف تحقيقه في المباحث الأصولية واخترناه وفاقا للمرتضى والمحقق من الاستصحاب المردود.

أقول : الظاهر عندي هنا هو صحة الاستدلال بالاستصحاب المذكور فان مرجعه الى عموم الدليل كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب فان مقتضى الأدلة ان النجاسة حكم شرعي يتوقف رفعه على وجود الرافع والنجاسة قد ثبتت بلا خلاف ولا اشكال فرفعها يحتاج الى دليل ظاهر ، واما ما ذكره في المعالم ـ من عد الاستصحاب هنا من الاستصحاب المردود الذي قد أوضحنا في مقدمات الكتاب بطلانه ـ فهو مبني على قول تفرد به في هذا المقام ولم اعرف له موافقا عليه من علمائنا الأعلام إلا الفاضل الخراساني في الذخيرة حيث حذا حذوه في هذا الكلام.

قال في المعالم على اثر العبارة المتقدمة في بيان كونه من الاستصحاب المردود ما صورته : لان ما دل من النصوص على تأثير النجاسات والتأثر بها على وجه يبقى وان لم تبق أعيانها مقصور على البدن والثوب والآنية كما يشهد به الاستقراء والتتبع وانما استفيد الحكم فيما عدا ذلك من الإجماع ، وأكثر ما يكون الاستصحاب المردود فيما مدركه الإجماع لأن الحكم الثابت به في موضع الحاجة الى الاستصحاب يكون لا محالة مخصوصا بحال اولى فيطلب بالاستصحاب انسحابه الى حالة ثانية. وقد مر ان اعتبار الاستصحاب حينئذ إثبات للحكم بغير دليل. ومن هنا يتجه في موضع النزاع ان يقال ان الدليل الدال على تأثر الأرض والحصر والبواري وكل ما لا ينقل في العادة بالنجاسة مختص بالحال التي قبل زوال العين عنها وتجفيف الشمس لها لانتفاء الإجماع فيما بعد ذلك قطعا فمن ادعى ثبوت الحكم في الحال التي بعد فهو مطالب بالبرهان عليه وليس في يده غير الاستصحاب ولا يقبل منه (فان قلت) كأن الاتفاق واقع على ان للنجاسات المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه برطوبة مستمرا الى ان يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع من أنواع المطهرات الى دليل يثبته (قلت) : هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز


عن استنباط بواطن الأدلة ويلتفت اليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما قررناه أمر وراء ذلك. وبالجملة فالذي يقتضيه التحقيق انه لا معنى لكون الشي‌ء نجسا إلا دلالة الدليل الشرعي على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة وازالة عينه أو أثره لأجله واما ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمة من التكليف فيه بأحدهما. واما ما يتخيل ـ من ان كل نوع من أنواع النجاسات بمنزلة العلة الحقيقية في التأثير فكل ما لاقاه برطوبة أثر فيه النجاسة وتوقف في عوده إلى الطهارة على طرو المطهر ـ فمن الأوهام التي يظهر فسادها بأدنى تأمل ولا يستريح إلى أمثالها محصل. انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول فيه (أولا) ـ انه لا يخفى ان ما ذكره من قصر الحكم المذكور على الثلاثة المذكورة من حيث انه لم يرد في النصوص ما يدل على الأمر بالغسل بعد زوال العين في غير الثلاثة المذكورة ان كان مقصورا على هذا الموضع ومخصوصا بهذا الحكم فهو تخصيص من غير مخصص ، وان كان مطردا فيما جرى هذا المجرى مما وردت النصوص في خصوص بعض الافراد دون بعض وانه يخص الحكم بما وردت به الروايات فلا أراه يلتزمه ، وذلك فإنه لا يخفى ان جل الأحكام الشرعية التي صارت عند الأصحاب قواعد كلية انما استفيد حكمها من جزئيات السؤالات المخصوصة وخصوص وقائع جزئية مثلا ـ لا خلاف بين الأصحاب في ان من صلى في النجاسة عامدا أو ناسيا وجبت عليه الإعادة أي نجاسة كانت مع ان الوارد في النصوص انما هو نجاسات مخصوصة ولم يقل أحد من الأصحاب بتخصيص الإعادة بها بخصوصها بل عدوا الحكم الى كل نجاسة نظرا الى الاشتراك في العلة وهي النجاسة وهو تنقيح المناط القطعي الذي صرحوا به في الأصول وحملا للنجاسات المذكورة على الخروج مخرج التمثيل فلا يقتضي التخصيص ولا ريب ان ما نحن فيه من هذا القبيل ، ومن قبيل ذلك ما لو سأل السائل الإمام (عليه‌السلام) عن نجاسة أصابت قميصه فحكم بإزالتها وبطلان الصلاة فيها فان من المعلوم انه


لا خصوصية للقميص بذلك بل يعدى الحكم الى جميع لباس المصلي ويحكم ببطلان الصلاة في أيها كان إلا ما استثنى ولا يقال ان الخبر انما تضمن القميص خاصة فلا يجوز تعدي الحكم الى غيره ، فإن العلة الموجبة للإعادة الصلاة في النجاسة وهي شاملة لجميع الثياب. ثم لا يخفى ايضا ان جل الأحكام من عبادات ومعاملات ونحو ذلك انما خرجت في الرجال والسؤالات إنما وقعت في الرجال مع انه لا خلاف في دخول النساء ما لم تعلم الخصوصية للرجال في ذلك الحكم ، ونحو ذلك مما لا يخفى على المتدبر في الأخبار الواردة في جميع الأحكام ، وما ذاك إلا لما ذكرناه من حمل ما ذكر في الأخبار على مجرد التمثيل وتعدية الحكم الى ما عدا المذكور بطريق تنقيح المناط القطعي وحينئذ فالواجب بمقتضى ما ذكره في هذه المسألة هو الوقوف على موارد النصوص في جميع هذه المواضع التي أشرنا إليها ولا أراه يقوله.

و (ثانيا) ـ انه لا يخفى ان الأمر بالغسل في الثلاثة المذكورة في كلامه بعد ازالة العين لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما في البين (أحدهما) ان العلة في ذلك هو ملاقاة عين النجاسة بالرطوبة ولا شك في وجود العلة المذكورة في محل النزاع فلا يتخلف عنها معلولها ولا يتوقف على وجود نص ولا إجماع. و (ثانيهما) ان يكون ذلك تعبدا شرعيا لا من حيث النجاسة وهو موجب لحصول الطهارة بمجرد زوال العين ، ولا أراه يلتزمه ولا يقول به بل هو خلاف صريح كلامه.

و (ثالثا) ـ الصحيحة المذكورة فإن ظاهرها عدم حصول الطهارة بالماء من عين النجاسة أو محلها وهو قد اعترف في باقي كلامه بذلك أيضا إلا انه زعم عدم ظهورها في ذلك حيث ارتكب تأويلها بما سيأتي ذكره من التكلفات البعيدة والتعسفات الغير السديدة. قال بعد الكلام الذي نقلناه : قلت لو أبقى حديث ابن بزيع على ظاهره لسقطت هذه المباحث من أصلها لكن المعارض أخرجه عن الظاهر فانتفى احتمال النظر اليه. انتهى. أقول : الحق ان المسألة بسببه قد بقيت في قالب الاشكال كما صرح به


في المدارك ايضا ، وعليه اعتمد المحدث الكاشاني في الاستدلال كما قدمنا نقله عنه فذهب الى القول بالعفو دون الطهارة وقوفا على ظاهر هذا الخبر وجعل التأويل فيما عارضه كما تقدم ذكره ، والحق كما ذكرنا ظهور كل من الخبرين فيما دل عليه في البين وبعد التأويلات من الجانبين وبه حصل التوقف في المسألة.

و (رابعا) ـ موثقة عمار الآتية عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر؟ قال لا تصل عليه واعلم موضعه حتى تغسله. الحديث». وهو ظاهر الدلالة في احتياج الأرض بعد زوال العين وجفاف النجاسة إلى الغسل بالماء وبه تبطل دعواه الاختصاص بالثلاثة التي ذكرها كما لا يخفى. واما ما أجاب به في المختلف عن الصحيحة المذكورة ـ من الحمل على التطهير بعد يبس البول حيث انه في هذه الحال لا يطهره إلا الماء لان الشمس انما تكون مطهرة إذا أشرقت عليه رطبا وجففت الرطوبة وإلا فلو جف بدونها فإنها لا تكفي في تطهيره بل يجب الماء البتة ـ فهو وان كان بعيدا إلا انه في مقام الاحتمال قريب للجمع بين الاخبار. وقيل في الجواب عنها بان المراد بالماء الذي سئل عن تطهير الشمس بدونه ما يبل به الموضع إذا كان جافا ، قالوا إذ ليس في السؤال إشعار بوجوده في المحل حال إشراق الشمس فيحمل على ما إذا جف قبل إشراقها. ولا يخفى ما فيه وان استقربه في الذخيرة. وقيل بان المراد من الماء الرطوبة الحاصلة من النجاسة فكأنه قال هل تطهره إذا كان جافا؟ فأجابه (عليه‌السلام) بإنكار ذلك. وفيه ما في سابقه. وقيل بكون إنكار الطهارة بدون الماء عائدا إلى مجموع ما وقع في السؤال بعد حمل المشابهة في قوله : «وما أشبهه» على المماثلة في أصل النجاسة فيتناول النجاسات التي لها أعيان كالدم وتأثير الشمس فيها انما يتصور بعد ذهاب العين فيرجع حاصل الإنكار الى ان من النجاسات ما له عين وهذا النوع لا سبيل الى طهارته

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من أبواب النجاسات.


بالشمس إلا بتوسط الماء وذلك بجعله مائعا على وجه يمكن تجفيف الشمس له ويذهب بالجفاف عينه وهو أبعد الجميع. وهذه الاحتمالات الثلاثة قد ذكرها في المعالم لإخراج الخبر عن ظاهره بزعمه ولا يخفى انه لو قامت أمثال هذه الاحتمالات لانسدت أبواب الاستدلالات. وبالجملة فإنه لا يخفى ما في هذه الأجوبة من التكلف نعم ربما أشعرت الرواية المذكورة بعدم التطهير إلا بالماء مطلقا إلا ان ظاهر سياقها انما هو اختصاص الحكم بالمسؤول عنه ، وبالجملة فالرواية ظاهرة في عدم التطهير إلا بالماء كما فهمه منها الأصحاب.

الرابعة ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن البواري يصيبها البول هل تصلح الصلاة عليها إذا جفت من غير ان تغسل؟ قال نعم لا بأس».

الخامسة ـ صحيحته الأخرى عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن البواري يبل قصبها بماء قذر أيصلى عليها؟ قال إذا يبست فلا بأس».

السادسة ـ صحيحة له ثالثة عنه (عليه‌السلام) (3) «انه سأله عن البيت والدار لا تصيبهما الشمس ويصيبهما البول ويغتسل فيهما من الجنابة أيصلى فيهما إذا جفا؟ قال نعم».

أقول : وغاية ما تدل عليه هذه الأخبار هو الصلاة على الموضع النجس بعد الجفاف وعدم وجود عين النجاسة أعم من ان يكون الجفاف بالشمس أو بدونها بل ظاهر الثالث منها ان الجفاف انما هو بغير الشمس ، وظاهرها جواز السجود على ذلك الموضع مع ان الأصحاب قد اشترطوا في موضع السجود الطهارة ، وظاهرهم الاتفاق عليه وان لم أقف له على دليل بل ظاهر هذه الأخبار كما ترى خلافه ، وظاهر كلام الراوندي المتقدم ايضا خلاف ذلك إلا ان يتأول كلامه بحمل السجود على الصلاة ولا يخلو من بعد كما لا يخفى على من تأمل العبارة المذكورة. وربما قيل ان إطلاق هذه الأخبار وما

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 29 من النجاسات.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب النجاسات.


تدل عليه من جواز السجود شامل لما لو كانت الجبهة رطبة وهو مشكل إلا على ما سيأتي نقله عن الشيخ في الخلاف من الحكم بالطهارة بتجفيف الريح إلا انه خالف نفسه في ذلك في الكتاب المذكور كما سيأتي نقل كلامه ان شاء الله تعالى ، نعم يتجه ذلك على ما تقدم نقله عن صاحب المعالم من حكمه بالطهارة مع الجفاف وزوال العين في غير الثلاثة التي ذكرها. وبالجملة فالظاهر عندي ان هذه الروايات كما عرفت ليست من روايات المسألة في شي‌ء ومع فرض كونها منها بحمل التجفيف على كونه بالشمس فإنما هي من القسم الثالث الذي قدمنا ذكره لإجمالها.

السابعة ـ ما رواه زرارة وحديد بن حكيم الأزدي في الصحيح (1) قال : «قلنا لأبي عبد الله (عليه‌السلام) السطح يصيبه البول أو يبال عليه أيصلى في ذلك الموضع؟ فقال ان كان تصيبه الشمس والريح وكان جافا فلا بأس إلا ان يتخذ مبالا». وهذه الرواية أيضا من القسم الثالث ولا يمكن الاستدلال بها لشي‌ء من القولين المذكورين في البين ، وموردها الأرض خاصة.

الثامنة ـ ما رواه عمار في الموثق عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره فلا تصيبه الشمس ولكنه قد يبس الموضع القذر؟ قال لا تصل عليه واعلم موضعه حتى تغسله. وعن الشمس هل تطهر الأرض؟ قال إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة ، وان أصابته الشمس ولم ييبس الموضع القذر وكان رطبا فلا تجوز الصلاة عليه حتى ييبس ، وان كانت رجلك رطبة أو جبهتك رطبة أو غير ذلك منك ما يصيب ذلك الموضع القذر فلا تصل على ذلك الموضع وان كان عين الشمس اصابه حتى ييبس فإنه لا يجوز. الحديث».

وظاهر عجز الخبر بل صريحه الدلالة على عدم حصول التطهير بالشمس إلا ان

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب النجاسات.

(2) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب النجاسات.


جملة من المحدثين نقلوا عن بعض نسخ التهذيب بدل «عين الشمس» بالعين المهملة والنون «غير الشمس» بالغين المعجمة والراء أخيرا وحينئذ يسقط الاستدلال به على بقاء النجاسة ، وايضا قد روى الشيخ هذه الرواية بالإسناد المذكور في آخر أبواب الزيادات من التهذيب خالية من قوله : «وان كان غير الشمس اصابه» وعليه ايضا يسقط الاستدلال المذكور على عدم الطهارة. واما قوله : «وعن الشمس هل تطهر الأرض إلى قوله فالصلاة على الموضع جائزة» فغايته ان يكون من القسم الثالث لما عرفت من ان مجرد الرخصة في الصلاة عليه مع اليبوسة لا يدل على الطهارة لوقوع ذلك فيما جف بغير الشمس كما عرفت من روايات علي بن جعفر المذكورة ، إلا ان هذه الرواية قد تضمنت النهي عن الصلاة على الموضع القذر بعد الجفاف بخلاف ما دلت عليه صحاح علي بن جعفر فبالنظر الى ما دلت عليه من النهي متى كان الجفاف بغير الشمس وتجويز الصلاة متى كان الجفاف بالشمس يقوى القول بان تجويز الصلاة انما هو من حيث حصول الطهارة بالشمس ، إلا انك قد عرفت دلالة صحاح علي بن جعفر الثلاث على جواز الصلاة مع الجفاف مطلقا وهي أرجح من هذه الرواية البتة سيما مع ما علم من أحوال روايات عمار.

واما ما ذكره جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المختلف ـ من ان السؤال في الرواية وقع عن الطهارة فلو لم يكن في الجواب ما يفهم منه السائل الطهارة أو عدمها لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة لكن الجواب الذي وقع لا يناسب النجاسة فدل على الطهارة ـ فظني أنه قاصر بل ربما كان بالدلالة على خلاف ما ادعوه أشبه ، بأن يقال ان عدوله (عليه‌السلام) عن الجواب الصريح بكونه طاهرا الى الجواب بجواز الصلاة عليه ربما أشعر بعدم الطهارة وان جازت الصلاة عليه ولا سيما على رواية «عين الشمس» في آخر الخبر الصريح في عدم الطهارة فإنه هو الملائم لهذا المعنى. واما دعوى لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة بناء على ما ذكره فليس كذلك بل اللازم تأخير


البيان عن وقت الخطاب ولا مانع منه إذ كون الوقت وقت الحاجة ممنوع.

وبالجملة فإنه قد وقع التعارض في هذه المسألة بين صحيحة زرارة المتقدمة المعتضدة برواية الحضرمي وكلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي وبين صحيحة ابن بزيع المعتضدة بموثقة عمار على المشهور من روايتها ب «عين الشمس» والتأويل كما عرفت من الجانبين قائم إلا انه بعيد عن ظواهر الأخبار المذكورة ، فالمسألة عندي ـ بالنسبة إلى النجاسة والى ما تقع عليه حسبما عليه القول المشهور كما تقدمت الإشارة إليه ذيل الروايات المتقدمة وبالنسبة إلى الطهارة والعفو ـ محل توقف والاحتياط فيها لازم.

هذا ، ولا يخفى عليك ان كلام المحقق في المعتبر هنا لا يخلو من اضطراب ، فان مقتضى ما تقدم نقله عنه اختيار قول الراوندي مع انه قال ـ بعد ان نقل عن الشيخ الاحتجاج على الطهارة برواية عمار وصحيحة علي بن جعفر وهي الرابعة ـ ما لفظه : وفي استدلال الشيخ بالروايات إشكال لأن غايتها الدلالة على جواز الصلاة عليها ونحن لا نشترط طهارة موضع الصلاة بل نكتفي باشتراط طهارة موضع الجبهة ، ويمكن ان يقال الاذن في الصلاة عليها مطلقا دليل جواز السجود عليها والسجود يشترط طهارة محله ، ثم قال ويمكن ان يستدل بما رواه أبو بكر الحضرمي وساق الرواية ، وبان الشمس من شأنها الإسخان والسخونة تلطف الأجزاء الرطبة وتصعدها فإذا ذهب أثر النجاسة دل على مفارقتها المحل والباقي يسير تحيله الأرض إلى الأرضية فيطهر لقول الصادق (عليه‌السلام) (1) «التراب طهور». انتهى. وهذا الكلام منه بعد اختياره لمذهب الراوندي يشعر بالتردد أو العدول الى ترجيح جانب الطهارة ، وأظهر من ذلك قوله بعد ذلك بقليل في مسألة تطهير الأرض من البول بإلقاء الذنوب بعد ان استضعف دليل الشيخ فيها : فإذا تقرر هذا فيما ذا تطهر؟ الوجه ان طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك النجاسة أو

__________________

(1) ورد في حديث محمد بن حمران وجميل بن دراج المروي في الوسائل في الباب 23 و 14 من التيمم «ان الله جعل التراب طهورا كما جعل الماء طهورا».


يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليه الشمس حتى يجف بها. انتهى.

فروع

(الأول) ـ المشهور بين الأصحاب القائلين بتطهير الشمس ان الجفاف بغير الشمس لا يثمر طهارة بل قال في المنتهى : لو جف بغير الشمس لم يطهر عندنا قولا واحدا خلافا للحنفية (1) قال في المدارك : ويدل عليه ان المفروض نجاسة المحل بالنص أو الإجماع فيقف زوال النجاسة على ما عده الشارع مطهرا ، ثم أيد ذلك بصحيحة محمد بن إسماعيل المتقدمة ورواية عمار وغيرهما. أقول : وعلى هذا النهج كلام غيره من الأصحاب.

ونقل عن الشيخ في الخلاف انه قال : الأرض إذا أصابتها نجاسة مثل البول وما أشبهه وطلعت عليها الشمس أو هبت عليها الريح حتى زالت عين النجاسة فإنها تطهر ويجوز السجود عليها والتيمم بترابها وان لم يطرح عليها الماء. واحتج بإجماع الفرقة وقوله تعالى : «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (2) قال : والطيب ما لم تعلم فيه نجاسة ومعلوم زوال النجاسة عن هذه الأرض وانما يدعى حكمها وذلك يحتاج الى دليل. ثم ذكر بعد هذا الكلام في موضع آخر من الكتاب : ان البول إذا أصاب موضعا من الأرض فجففته الشمس طهر الموضع وان جف بغير الشمس لم يطهر. حكى ذلك عنه جملة من الأصحاب. منهم ـ العلامة في المنتهى والمختلف ، والظاهر ان دعوى العلامة الإجماع في المنتهى على الحكم المذكور مبني على رجوع الشيخ عن الحكم المذكور في كلامه الأول الى ما ذكره في كلامه الأخير ، وتأول في المختلف كلام الشيخ الأول بأن مراده بهبوب الرياح المزيلة للأجزاء الملاقية للنجاسة الممازجة لها وليس مراد الشيخ ذهاب الرطوبة عن الاجزاء كذهابها بحرارة الشمس.

وصاحب المعالم بناء على ما تفرد به مما قدمنا نقله عنه وأوضحنا بطلانه استراح

__________________

(1) كما في البحر الرائق لابن نجيم الحنفي ج 1 ص 226.

(2) سورة المائدة ، الآية 6.


الى كلام الشيخ الأول لموافقته لما توهمه من المقالة المخالفة لما عليه كافة العلماء الاعلام فقال : ولو لا مخالفة الشيخ نفسه في الحكم لم يكن بذلك البعيد لما علم من ان الدليل على ثبوت التنجيس في مثله بعد ذهاب العين منحصر في الإجماع والشيخ قد ادعى الإجماع على الطهارة فلا أقل من ان يكون ذلك دليلا على انتفاء الإجماع على النجاسة. وفيه ما عرفت آنفا من دلالة صحيحة ابن بزيع وموثقة عمار على عدم الطهارة إلا بالماء كما أشار إليه في المدارك فيما قدمنا نقله عنه مضافا الى الوجهين الآخرين اللذين تقدما في رد كلامه.

(الثاني) ـ عد جماعة من المتأخرين في ما تطهره الشمس مما لا ينقل ولا يحول الثمرة على الشجرة ، وظاهر العلامة في النهاية إخراجها من ذلك حيث مثل لغير المنقول واخرج الثمرة منه فقال كالنبات والبناء دون الثمرة على الأشجار ، قال في المعالم بعد نقل ذلك : وما ذكره الجماعة أولى بالاعتبار وان كان إلحاقها بالمنقول إذا صارت في محل القطع اولى. وعد والده (قدس‌سره) في الروضة في ما تطهره الشمس مما لا ينقل الفواكه الباقية على الأشجار وان حان قطعها. وكأن المستند في ذلك عموم إطلاق رواية الحضرمي وقوله (عليه‌السلام) فيها : «ما أشرقت عليه الشمس فقد طهر». وهو كذلك وان كان الاحتياط في ما ذكره في المعالم.

(الثالث) ـ لو انتقل كل من المنقول وغير المنقول إلى الحالة الأخرى كان المناط حال الجفاف ، فلو هدم الجدار الذي فيه أحجار نجسة كان تطهيرها بالماء دون الشمس ، ولو طين الجدار أو السطح بطين نجس طهر بالشمس ، ونقل الشيخ احمد بن فهد في الموجز عن فخر المحققين هنا قولا غريبا قال : وكان فخر المحققين يرى عموم الحكم في النباتات وان انفصلت كالخشب والآلات المتخذة من النباتات ، قال ويؤيده قوله في رواية الحضرمي : «ما أشرقت. إلخ» ثم قال لكن التمسك به ضعيف. أقول : يمكن ان يكون مراد فخر المحققين هو انها إذا اتخذت أبوابا أو نحوها مما يكون مثبتا كما يشير اليه لفظ الآلات ، وقد صرح بنحو ذلك شيخنا الشهيد الثاني في الروضة فعد من جملة


ما لا ينقل الأبواب المثبتة ، وإلا فصدور مثل هذا الكلام من مثل هذا المحقق بعيد جدا

(الرابع) ـ المفهوم من كلام الأصحاب ـ وهو ظاهر النصوص ايضا ـ ان تطهير الشمس على القول به انما يكون مع بقاء رطوبة النجاسة فلو أشرقت عليه الشمس بعد الجفاف لم تفده طهارة لكن لو بل بماء فأشرقت عليه الشمس وجففته هل يطهر أيضا أم لا؟ الظاهر من كلام جملة من المتأخرين الأول بل الظاهر انه المشهور بينهم. أقول : يمكن الاستدلال عليه بقوله (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (1) «ما وقعت عليه الشمس من الأماكن التي أصابها شي‌ء من النجاسات مثل البول وغيره طهرتها». قال في الذخيرة بعد ان ذكر ان المشهور بين المتأخرين الطهارة : ويؤيده خبر زرارة السابق المذكور في الكافي والتهذيب ورواية محمد بن إسماعيل ببعض التأويلات. ويؤيد النجاسة مفهوم خبر زرارة وخبر عمار عند التأمل ، والحق انه لا يصلح شي‌ء من ذلك للدلالة فالمسألة محل تردد. انتهى.

أقول : التحقيق عندي في هذا المقام هو انه ان قلنا بتخصيص ما تطهره الشمس بنجاسة البول كما هو أحد الأقوال فلا دليل على التطهير في الصورة المفروضة لذهاب عين البول وهذه الرطوبة نجاسة أخرى بملاقاة المحل وان قلنا بتطهيرها لما هو أعم كما هو المشهور فلا إشكال في حصول الطهارة ، وذلك لانه لا إشكال في انه لو أريق ماء نجس بنجاسة البول أو غيرها على الأرض فأشرقت عليه الشمس وجففته فإنها تطهره على المشهور ، وما نحن فيه من قبيل ذلك فإنه متى رشت الأرض الجافة المتنجسة بنجاسة البول عادت النجاسة بسبب هذه الرطوبة فتصير من قبيل ما ذكرناه.

(الخامس) ـ قد نص جمع من متأخري الأصحاب على ان الباطن في ما تطهره الشمس كالظاهر فيطهر إذا جف الجميع بها وكانت النجاسة متصلة كالأرض التي دخلت فيها النجاسة ، اما مع الانفصال كوجهي الحائط إذا كانت النجاسة فيهما غير خارقة

__________________

(1) البحار ج 18 ص 35.


فتختص الطهارة بما حصل عليه الإشراق. واستجوده جملة من أفاضل متأخري المتأخرين وهو كذلك. وربما لاح من كلام العلامة في المنتهى اختصاص الطهارة بالظاهر حيث انه علل تطهير الشمس بوجه اعتباري فقال بعد الاستدلال بالروايات التي ذكرها ما لفظه : وبان حرارة الشمس تفيد تسخينا وهو يوجب تبخير الأجزاء الرطبة وتصعيدها والباقي تشربه الأرض فيكون الظاهر طاهرا. انتهى. والظاهر ضعفه.

(السادس) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب في انه لو كانت النجاسة ذات جرم فإنه لا تحصل الطهارة بالشمس ما لم يزل جرم النجاسة ، ونقل في المدارك عن ابن الجنيد انه قال لا يطهر الكنيف والمجزرة بالشمس ، ثم قال وهو حسن لمخالطة أجزاء النجاسة ترابهما ، نعم لو أزيلت تلك الاجزاء وحصل التجفيف بالشمس اتجه مساواتهما لغيرهما. انتهى. وقال في الذكرى : ولا تطهر المجزرة والكنيف بالشمس لبقاء العين غالبا وكذا كل ما تبقى فيه العين. وبالجملة فالظاهر ان الحكم لا خلاف ولا اشكال فيه.

(السابع) ـ لو وضع حصيران نجسان أو باريتان كذلك أحدهما على الآخر فالذي يطهر بالشمس هو الأعلى خاصة ظاهره وباطنه لانه هو الذي أشرقت عليه الشمس ولا يطهر الآخر وان جف لان جفافه انما استند إلى حرارة الشمس دون عينها والمعتبر في التطهير إشراق عين الشمس لا مجرد حرارتها. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ من المطهرات ايضا الأرض الا ان كلام الأصحاب أيضا في هذا الباب لا يخلو من اختلاف واضطراب فإنهم ما بين من خص ما يطهر بها بالخف والنعل والقدم خاصة وبين من لم يذكر القدم وبين من عدي ذلك الى مثل النعل من خشب كالقبقاب وآخرون الى كل ما يوطأ به ولو كخشبة الأقطع ، وبعض اشترط طهارة الأرض وبعض جزم بالعموم ، وبعض اشترط جفافها وبعض العدم ، وبعض المشي خمسة عشر ذراعا وبعض العدم ، اما الاقتصار على الثلاثة الأول فالظاهر انه المشهور بل قال في المدارك انه مقطوع به


في كلام الأصحاب مع ان المفيد (قدس‌سره) في المقنعة قال : وإذا داس الإنسان بخفه أو نعله نجاسة ثم مسحها بالتراب طهر بذلك. وهو مشعر باختصاص الحكم بهما ونحوه في كلام سلار ايضا حيث قال في رسالته : إزالة النجاسة على أربعة أضرب أحدها ما يمسح على الأرض والتراب وهو ما يكون في النعل والخف. ونقل عن العلامة في التحرير انه استشكل الحكم في القدم وعزى في المنتهى القول بمساواته للنعل والخف الى بعض الأصحاب وقال ان عنده فيه توقفا. وابن الجنيد صرح في كتاب المختصر الأحمدي بالتعميم فقال وإذا وطأ الإنسان برجله أو ما هو وقاء لها نجاسة رطبة أو كانت رجله رطبة والنجاسة يابسة أو رطبة فوطأ بعدها نحوا من خمسة عشر ذراعا أرضا طاهرة يابسة طهر ما ماس النجاسة من رجله والوقاء لها ولو غسلها كان أحوط ، ولو مسحها حتى يذهب عين النجاسة وأثرها بغير ماء أجزأ إذا كان ما مسحها به طاهرا. انتهى. وقال ابن فهد في موجزه : الأرض تطهر باطن النعل والقدم وكعب العكاز والصندل وكذا حكم الخف والحافر والظلف. وقال في الذكرى بعد ذكر الثلاثة المتقدمة : وحكم الصنادل حكم النعل لانه مما يتنعل به. أقول لم أقف في كلام أهل اللغة على معنى الصندل هنا ولعل المراد به القبقاب المتخذ من الخشب في زماننا. وقال الشهيد الثاني في الروضة : والمراد بالنعل ما يجعل أسفل الرجل للمشي وقاية من الأرض ونحوها ولو من خشب وخشبة الأقطع كالنعل. وقال في الروض : ولا فرق بين النعل والخف وغيرهما مما يتنعل به ولو من خشب كالقبقاب ، وفي إلحاق خشبة الزمن والأقطع بالنعل نظر من الشك في تسميتها نعلا بالنسبة اليه ، ولا يلحق بهما أسفل العكاز وكعب الرمح وما شاكل ذلك لعدم إطلاق اسم النعل عليهما حقيقة ولا مجازا. انتهى. وربما ظهر من الشيخ في الخلاف عدم طهارة أسفل الخف بمسحه في الأرض حيث قال : إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه في الأرض حتى زالت يجوز الصلاة فيه عندنا ، ثم قال دليلنا انا قد بينا فيما تقدم ان ما لا


تتم الصلاة فيه بانفراده جازت الصلاة فيه وان كانت فيه نجاسة والخف لا تتم الصلاة فيه بانفراده وعليه إجماع الفرقة.

أقول : والواجب بسط الأخبار الواردة في المسألة كملا والنظر في ما تدل عليه من الأحكام المذكورة وما لا تدل عليه :

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة (1) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل يجب عليه غسلها؟ فقال لا يغسلها إلا ان يقذرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي».

وفي الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (2) قال : «جرت السنة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان ولا يغسله ويجوز ان يمسح رجليه ولا يغسلهما».

وما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن الأحول عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «في الرجل يطأ على الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا؟ قال لا بأس إذا كان خمسة عشر ذراعا أو نحو ذلك».

وعن المعلى بن خنيس (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء أمر عليه حافيا؟ فقال أليس وراءه شي‌ء جاف؟ قلت بلى. قال لا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا».

وعن محمد الحلبي في الموثق (5) قال : «نزلنا في مكان بيننا وبين المسجد زقاق قذر فدخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فقال اين نزلتم؟ فقلت نزلنا في دار فلان فقال ان بينكم وبين المسجد زقاقا قذرا أو قلنا له ان بيننا وبين المسجد زقاقا قذرا فقال لا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا. قلت فالسرقين الرطب أطأ عليه؟ فقال لا يضرك مثله».

ومنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن فضالة وصفوان بن يحيى عن عبد الله بن

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.


بكير عن حفص بن ابي عيسى (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) اني وطأت عذرة بخفي ومسحته حتى لم أر فيه شيئا ما تقول في الصلاة فيه؟ فقال لا بأس».

وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من نوادر احمد بن محمد بن ابي صر عن المفضل بن عمر عن محمد بن علي الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له ان طريقي الى المسجد في زقاق يبال فيه فربما مررت فيه وليس علي حذاء فيلصق برجلي من نداوته؟ فقال أليس تمشي بعد ذلك في أرض يابسة؟ قلت بلى. قال فلا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا. قلت فأطأ على الروث الرطب؟ قال لا بأس انا والله ربما وطأت عليه ثم أصلي ولا اغسله».

وفي الحسن أو الصحيح عن محمد بن مسلم (3) قال : «كنت مع ابي جعفر (عليه‌السلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت جعلت فداك وطأت على عذرة فأصابت ثوبك؟ فقال أليست هي يابسة؟ فقلت بلى. قال لا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا».

هذا ما وقفت عليه من روايات المسألة وتحقيق الكلام فيها يقع في مواضع :

(الأول) ـ لا يخفى ان صحيحة زرارة الاولى ومثلها رواية المعلى بن خنيس وكذا رواية الحلبي المنقولة في السرائر قد تضمنت باطن القدم وصرحت بأنه مما يطهر بالأرض ، وبذلك يظهر ما في كلام العلامة ودعواه الإشكال في موضع والتوقف في آخر مع دلالة الأخبار كما ترى عليه ، ورواية حفص بن ابي عيسى قد تضمنت الخف وهي مستند الأصحاب فيما تقدم نقله عنهم من عد الخف في ما يطهر بالأرض ، واما ما طعن به في الذخيرة تبعا لصاحب المعالم على دلالتها ـ من انه يكفي في جواز الصلاة في الخف كونه مما لا تتم الصلاة فيه ولا يقتضي ذلك طهارته وان كان الأصحاب أوردوها في الاحتجاج ـ فالظاهر بعده وذلك فان ظاهر كلام السائل ان سؤاله انما هو عن الطهارة

__________________

(1 و 2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 32 من النجاسات.


بالمسح وعدمها وسؤاله عن الصلاة فيه اما بناء منه على عدم علمه بالعفو عن نجاسة ما لا تتم الصلاة فيه أو المراد الصلاة الكاملة الواقعة في الطاهر ، وعلى هذا فيجب في الجواب ان يكون مطابقا للسؤال وحينئذ يكون نفي البأس كناية عن الطهارة وإلا فلو كان عالما بجواز الصلاة فيما لا تتم فيه ولم يحمل سؤاله على الصلاة الكاملة فإنه لا معنى للسؤال عن الصلاة فيه بل لا معنى لأصل سؤاله بالكلية كما لا يخفى وعلى هذا بنى الاستدلال بالخبر ، ولعل ما تقدم نقله عن الشيخ في الخلاف مبني على ما ذكره هذان الفاضلان ، إلا ان إطلاق صحيحة الأحول وموثقة الحلبي أيضا يرده لدلالتهما على ما يوطأ به ، والظاهر انه إلى إطلاق هذين الخبرين استند من عمم الحكم في كل ما يوطأ به من خف أو نعل ولو من خشب ومثل خشبة الأقطع ، إلا ان مقتضى ما قرروه في غير مقام من ان الأحكام المودعة في الأخبار انما تنصرف الى الافراد الشائعة المتكثرة دون الفروض النادرة بعد الحكم في مثل خشبة الأقطع وأبعد منه ما ذكره بعضهم من أسفل العكاز وكعب الرمح وشيخنا الشهيد الثاني في الروض انما تنظر في خشبة الأقطع من حيث عدم صدق النعل عليها. وفيه انه وان لم يصدق عليها النعل إلا انها مما يوطأ به فتدخل تحت إطلاق صحيحة الأحول وانما يمكن المناقشة فيها من الجهة التي ذكرناها إلا انه ربما أمكن أيضا شمول الحكم لها من حيث قوله (عليه‌السلام) في جملة من الأخبار المتقدمة : «ان الأرض يطهر بعضها بعضا». بل ربما استفيد منه تطهير أسفل العصا والرمح إلا ان يجعل التعليل مقصورا على ما علل به من الافراد الواردة في تلك الأخبار ، والاحتياط لا يخفى.

والذي تلخص مما ذكرناه انه يستفاد من الأخبار المذكورة طهارة القدم والخف والنعل وكل ما يوطأ به مما يكون متعارفا أكثريا وفي إلحاق ما عدا ذلك إشكال أحوطه العدم.

وصاحب المعالم لما كان اعتماده انما هو على صحاح الأخبار دون ضعيفها خرج لعموم الحكم فيما عدا القدم الذي هو مورد صحيحة زرارة وجها لا يخفى على الناظر ما فيه ، قال بعد ذكر أخبار المسألة : وهذه الاخبار وان لم تكن نقية الأسانيد فإنها


معتضدة بالحديث الأول الصحيح. وكونه مختصا بالقدم غير ضائر فإن ثبوت الحكم فيه يقتضي ثبوته في غيره بطريق أولى ، ألا ترى ان الخف والنعل لا توقف لأحد من الأصحاب في حكمهما على ما يظهر وقد حصل في القدم نوع توقف. انتهى. وفيه نظر لمنع الأولوية التي ذكرها بالنظر الى الاخبار ، واما ما استند اليه في ثبوتها من الخلاف بين الأصحاب في القدم والاتفاق على الخف والنعل ففيه (أولا) ان من خالف في القدم فهو غالط لمخالفته للأخبار المذكورة فلا يعتبر بخلافه على ان الخلاف أيضا في الخف حاصل كما تقدم في عبارة الشيخ في الخلاف. و (ثانيا) ان الكلام بالنظر الى الاخبار لا بالنظر الى كلام الأصحاب وليس في الاخبار ما يشير إلى أولوية الخف والنعل في هذا الحكم على القدم ان لم يكن الأمر بالعكس ، وبالجملة فالظاهر ان الذي ألجأه الى هذا الكلام عدم جرأته على الخروج عن ما عليه كافة الأصحاب في هذا الباب. والله العالم.

(الثاني) ـ الظاهر انه لا فرق في حصول التطهير بين كونه بالمشي أو المسح والدلك ، وعلى الاكتفاء بالمسح تدل صحيحة زرارة الاولى وكذا الثانية الواردة في الاستجمار ورواية حفص بن ابي عيسى ، وبذلك صرح المفيد في عبارته المتقدمة وكذا آخر عبارة ابن الجنيد ، وحينئذ فما نقله الأصحاب عن ابن الجنيد من انه يشترط المشي خمسة عشر ذراعا ونحوها وكذلك ما دلت عليه صحيحة الأحول محمول على مقدار المشي الذي تزول به النجاسة غالبا وفي قوله في الخبر «أو نحو ذلك» إيماء اليه. ولا إشكال ايضا ان هذا مراد ابن الجنيد لتصريحه في آخر عبارته بالاكتفاء بالمسح كما عرفت.

(الثالث) ـ قد اختلف الأصحاب في طهارة الأرض فقيل بالاشتراط وبه صرح الشهيد في الذكرى وهو صريح عبارة ابن الجنيد المتقدمة ، وذهب جماعة من الأصحاب : منهم ـ الشهيد الثاني الى عدم الاشتراط بل ادعى (قدس‌سره) ان إطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق في الأرض بين الطاهرة وغيرها. وهو كما ترى لتصريح من ذكرناه بالطهارة وهو ظاهر فحاوي جملة من عبائرهم أيضا نعم النصوص


مطلقة في ذلك إلا ان صحيحة الأحول مصرحة باشتراط ذلك حيث انه لما سأله عن الرجل الذي يطأ الموضع الذي ليس بنظيف ثم يطأ بعده مكانا نظيفا قال : «لا بأس إذا كان ذلك المكان النظيف قدر خمسة عشر ذراعا» ففيه إشعار بأن نفي البأس مخصوص بما إذا كان نظيفا بالمقدار المذكور.

أقول : والأظهر عندي الاستدلال على ذلك بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في ما روي عنه بعدة طرق فيها الصحيح وغيره (1) «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». وهو بإطلاقه شامل لما نحن فيه فان الطهور لغة بمعنى الطاهر المطهر كما تقدم تحقيقه في صدر الباب الأول وهو أعم من ان يكون مطهرا من الحدث والخبث ، والعجب من أصحابنا (رضوان الله عليهم) حيث انهم في المقام ناقشوا في اشتراط طهارة الأرض ولم يلم أحد منهم ممن قال بالطهارة بهذا الحديث وانما استدلوا بان النجس لا يفيد غيره تطهيرا ، وفي بحث التيمم لم يذكروا دليلا على طهارة التراب سوى الإجماع ، وبعض متأخري المتأخرين نقل الخبر المذكور دليلا وتنظر في الاستدلال به ، وليت شعري أي معنى لهذا الخبر واين مصداقه الذي افتخر به (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وذكر انه اختص به؟ إذ لا يخفى انه لم يرد في الشرع موضع تصير فيه الأرض مطهرة غير هذين الموضعين وثالثهما إناء الولوغ ولم يذكروا ايضا هذا الخبر فيه ورابعها أحجار الاستجمار ، وحينئذ فإذا لم تدخل هذه المواضع في مصداق الخبر ولم يجعل دليلا عليها فلا مصداق له بالكلية فكيف يقول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»؟ وليس المراد الاختصاص به حتى انه يكون ذلك من خصوصياته بل المراد انما هو له ولأمته ، وفي أي موضع يوجد مصداقه إذا لم تدخل هذه الأشياء فيه؟ ما هذه إلا غفلة ظاهرة تبع فيها المتأخر المتقدم ، ويزيد ذلك ما في دعائم الإسلام (2) حيث قال : «قالوا (عليهم‌السلام)

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 7 من التيمم.

(2) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 25 من النجاسات.


في المتطهر إذا مشى على أرض نجسة ثم على طاهرة طهرت قدميه». انتهى.

(الرابع) ـ ظاهر رواية المعلى بن خنيس ورواية الحلبي المنقولة من السرائر اشتراط جفاف الأرض التي يمشي عليها ، وبذلك صرح ابن الجنيد في عبارته المتقدمة ، واليه ذهب جماعة من متأخري الأصحاب كما ذكره في المعالم ، ونفاه العلامة في النهاية فقال : لا فرق بين الدلك بأرض رطبة أو يابسة إذا عرف زوال العين اما لو وطأ وحلا فالأقرب عدم الطهارة. واقتفاه شيخنا الشهيد الثاني في الروضة والروض وذكر ان الرطوبة اليسيرة التي لا يحصل منها تعد غير قادحة على القولين. وفي المعالم جعله الأحوط ، وفي المدارك نفى عنه البأس. والأظهر عندي هو القول الأول لظاهر الخبرين المتقدمين ولا معارض لهما إلا إطلاق غيرهما من الاخبار فيجب تقييده بهما كما هو القاعدة.

(الخامس) ـ ربما أشعرت صحيحة زرارة الاولى من حيث إطلاق المسح فيها بالاكتفاء بالمسح ولو بخشب أو نحوه ، وهو منقول في كلام الأصحاب عن ابن الجنيد ، وهو ظاهر إطلاق عبارته المتقدمة ، إلا ان الظاهر حمل إطلاق الرواية المذكورة على ما هو المعهود الغالب حال المشي من كون المسح بالأرض وهو الذي ينصرف إليه الإطلاق ، وعلى ذلك ايضا يمكن حمل عبارة ابن الجنيد خصوصا مع تصريحه في صدرها بالأرض ، ويؤكده انه هو المعروف بين الأصحاب من غير خلاف يعرف ، وكأنه لما ذكرنا استشكل العلامة في النهاية فقال لو دلك النعل والقدم بالأجسام الصلبة كالخشب أو مشى عليها فإشكال. وبالجملة فالظاهر الوقوف على ما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم).

(السادس) ـ ما تكرر في الاخبار من قولهم (عليهم‌السلام): «الأرض يطهر بعضها بعضا». يحتمل ان يكون المراد به ـ وهو الأقرب ـ ان بعضها يطهر ما ينجس ببعض وانما أسنده إلى البعض مجازا كما يقال الماء مطهر للبول اي لنجاسة البول ، فالمطهر بصيغة اسم المفعول في الحقيقة ما ينجس بالبعض لا نفس البعض ، ويحتمل ان يكون بعضها وهو المماس لأسفل النعل والقدم الطاهر منها يطهر بعضا وهو النعل والقدم فالبعض


الثاني عبارة عن المطهر بها ، وعلى الوجه الأول يكون التطهير مخصوصا بالنجاسة التي من الأرض النجسة ، وقال شيخنا البهائي في الحبل المتين : لعل المراد بالأرض ما يشمل نفس الأرض وما عليها من القدم والنعل والخف. انتهى. والظاهر انه ناظر الى الاحتمال الثاني. وقيل الوجه في هذا التطهير انتقال النجاسة بالوطء عليها من موضع الى آخر مرة بعد اخرى حتى تستحيل ولا يبقى منها شي‌ء. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ المشهور ان النار تطهر ما احالته رمادا أو دخانا وتردد فيه المحقق في كتاب الأطعمة والأشربة من الشرائع فقال : ودواخن الأعيان النجسة عندنا طاهرة وكذا ما احالته النار فصيرته رمادا أو دخانا على تردد.

ونقل عن الشيخ في المبسوط انه حكم بنجاسة الدخان النجس معللا له بأنه لا بد من ان يتصاعد من اجزائه قبل احالة النار لها شي‌ء بواسطة السخونة. ورده جملة من الأصحاب بمنع تصاعد اجزاء الدهن بدون الاستحالة. وهو جيد مع انه في الخلاف ادعى الإجماع على طهارة الأعيان النجسة بصيرورتها رمادا.

وقد احتج في الخلاف على ما ذكر من الحكم بالطهارة بالاستحالة رمادا بالإجماع وبصحيحة الحسن بن محبوب (1) «انه سأل أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الجص يوقد عليه بالعذرة وعظام الموتى ويجصص به المسجد أيسجد عليه؟ فكتب اليه بخطه : ان الماء والنار قد طهراه».

وظاهر المحقق في المعتبر هنا المنازعة في هذا الاستدلال والتوقف في الحكم حيث قال : وفي احتجاج الشيخ إشكال ، اما الإجماع فهو اعرف به ونحن لا نعلمه هنا ، واما الرواية فمن المعلوم ان الماء الذي يمازج الجص هو ما يحل به وذلك لا يطهر إجماعا والنار لم تصيره رمادا وقد اشترط صيرورة النجاسة رمادا وصيرورة العظام والعذرة رمادا بعد الحكم بنجاسة الجص غير مؤثر طهارته ، قال ويمكن ان يستدل بإجماع الناس

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 81 من النجاسات و 10 من ما يسجد عليه.


على عدم التوقي من دواخن السراجين النجسة فلو لم يكن طاهرا بالاستحالة لتورعوا منه. انتهى. واقتفى أثره العلامة في المنتهى في الكلام على الخبر المذكور كما هي عادته غالبا فقال : ان في الاستدلال به اشكالا من وجهين : (أحدهما) ـ ان الماء الممازج هو الذي يحل به وذلك غير مطهر إجماعا. و (الثاني) ـ انه حكم بنجاسة الجص ثم بتطهيره قال وفي نجاسته بدخان الأعيان النجسة إشكال. انتهى.

أقول : اما ما ذكره المحقق من المنازعة للشيخ في الإجماع فهو بمحل من النظر لموافقته له في إجماعاته التي يدعيها بل استدلاله بها في غير موضع كما لا يخفى على من تأمل كتابه ، والحكم المذكور هنا لم يظهر فيه مخالف قبله حتى يكون موجبا للطعن في إجماعه وقد قرروا في أصولهم ان الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة. واما ما ذكره بعد الطعن في دليلي الشيخ من الاستدلال على الطهارة بإجماع الناس على ما ذكره فهو أوهن من بيت العنكبوت وانه لا وهن البيوت فان بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التخريجات الوهمية مجازفة ظاهرة.

واما ما ذكره من الكلام على الاستدلال بالرواية فليس في محله فإنه وكذا العلامة بعده لم يمعنا النظر في تحقيق المعنى المراد منها ، وذلك فان الظاهر ان المراد منها ـ والله سبحانه اعلم ـ هو ان المستفاد من ظاهر السؤال هو ان العذرة تحرق على الجص ويختلط رمادها به وغرض السائل معرفة حالها بعد الإحراق وانها هل تبقى على النجاسة فيلزم تنجيس الجص بها لملاقاته لها بالرطوبة بالمزج بالماء وقت البناء أم لا؟ فخرج الجواب عنه (عليه‌السلام) بأنها تطهر بالإحراق والاستحالة رمادا فليس على الجص منها بأس ، وهو معنى واضح ودليل مفصح لا غبار عليه ، وهذا المعنى وان لم يفصح به لفظ الخبر إلا انه هو المرجع من سياقه كما ستعرف ، ويؤيده ما رواه في قرب الاسناد عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الجص يطبخ بالعذرة أيصلح ان يجصص به

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 65 من أحكام المساجد.


المسجد؟ قال لا بأس». لا ان المعنى فيها ما توهماه (قدس‌سرهما) من نجاسة الجص وانه لا يطهر بالنار لعدم الاستحالة وهو قد حكم بان تطهير النار انما هو بالاستحالة ولا بالماء الممازج له فإنه لا يطهره إجماعا ، وبالجملة فما ذكرناه معنى ظاهر الاستقامة.

والى ما ذكرنا أشار السيد السند في المدارك فقال : ويمكن ان يستدل على الطهارة أيضا بما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسن بن محبوب ثم ساق الرواية ثم قال : وجه الدلالة ان الجص يختلط بالرماد والدخان الحاصل من تلك الأعيان النجسة ولو لا كونه طاهرا لما ساغ تجصيص المسجد به والسجود عليه والماء غير مؤثر في التطهير إجماعا كما نقله في المعتبر فتعين استناده الى النار ، وعلى هذا فيكون اسناد التطهير الى النار حقيقة والى الماء مجازا أو يراد به فيهما المعنى المجازي. وتكون الطهارة الشرعية مستفادة مما علم من الجواب ضمنا من جواز تجصيص المسجد به ولا محذور فيه. انتهى.

أقول : الظاهر انما هو المعنى الأول لأن مطابقة الجواب للسؤال تقتضي حصول الطهارة ولا مطهر هنا حقيقة إلا النار كما عرفت فذكره (عليه‌السلام) في الجواب ولا ينافيه ضم الماء الى ذلك لانه يمكن حمل مدخليته في التطهير هنا على ان يكون من قبيل رش الماء على الثوب أو المكان المظنون النجاسة استحبابا ، وبالجملة فالغرض من الخبر بيان انه قد ورد على ذلك الجص مطهران شرعيان الماء والنار وان كان أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، فلا يبقى توقف في طهارته ولا يرد السؤال بان النار إذا طهرته أولا فلا معنى لتطهيره بالماء إذ لا يلزم من ورود المطهر الثاني تأثيره في الطهارة كما عرفت بل يكفي حصول المعنى المجازي.

هذا ، ولا يخفى عليك ان العلة الحقيقية في الطهارة انما هي الاستحالة سواء كانت بالنار أو بغيرها لأن الأحكام الشرعية تابعة لصدق الاسم فمتى انتقل الشي‌ء عن حالته الاولى وحقيقته السابقة إلى حقيقة أخرى وسمي باسم ما صدق عليه أفراد الحقيقة الثانية انتقل الحكم ايضا عما كان عليه أولا إلى حكم آخر ويخرج الخبر المذكور شاهدا على


ذلك ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب أيضا قال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وليست الاستحالة مختصة بالنار بل هي مطهرة بنفسها ومن ثم طهرت النطفة والعلقة بصيرورتهما حيوانا والعذرة والميتة إذا صارا ترابا. وقال سبطه في المدارك في هذه المسألة : والمعتمد الطهارة لأنها الأصل في الأشياء ، ولان الحكم بالنجاسة معلق على الاسم فيزول بزواله. انتهى. وهو جيد. ونحن انما ذكرنا النار في عداد المطهرات مع ما سيأتي ان شاء الله تعالى من عد الاستحالة جريا على كلامهم (رضوان الله عليهم) وبذلك يظهر انه لا فرق بين الرماد والدخان في الحكم المذكور سيما مع دلالة ظاهر الخبر المذكور على ذلك ، لانه لا ريب ان الجص كما اختلط بتراب العذرة والعظام فقد لاقاه دخانها ايضا فلو لم يكن طاهرا لامتنع تجصيص المسجد به وجواز السجود عليه ، هذا خلف ، وبذلك يظهر انه لا وجه لما ذكره الشيخ في المبسوط من حكمه بنجاسة دخان الدهن النجس ولا لتردد المحقق في الرماد والدهن في كتاب الأطعمة.

قال في المعالم بعد البحث في المسألة : إذا عرفت هذا فاعلم ان مورد الحديث كما علمت هو استحالة عين النجاسة وقد وقع في كلام أكثر الأصحاب فرض المسألة كما في النص ، وعمم بعضهم الحكم على وجه يتناول المتنجس ايضا نظرا الى ان ثبوت ذلك في أعيان النجاسات يقتضي ثبوته في المتنجس بها بطريق اولى ، وهو جيد ويؤيده ملاحظة ما قررناه في تطهير الشمس من كون دليل التنجيس في أمثال ذلك غالبا هو الإجماع وانتفاؤه بعد الاستحالة معلوم. انتهى. وظاهره ان ثبوت الطهارة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى عين النجاسة بعد الاستحالة انما هو بالإجماع مضافا الى النص المذكور واما في المتنجس فليس إلا طريق الأولوية المؤيدة بعدم الإجماع كما ذكره. وفيه نظر بل الحق في الموضعين هو ما قدمنا ذكره من تبعية الأحكام للتسمية التابعة للحقيقة التي عليها ذلك الشي‌ء ، وسيأتي في المسألة الآتية ان شاء الله تعالى مزيد إيضاح لذلك.

نعم هنا مواضع قد وقع الخلاف في طهارتها بالنار مع عدم الاستحالة أو الشك فيها


(الأول) الفحم قال في المعالم : الحق بعض المتأخرين بالرماد الفحم محتجا بزوال الصورة فيه والاسم ، وتوقف والدي (قدس‌سره) في ذلك ، وكلام المتقدمين خال من التعرض له ، والتوقف في محله ان كانت استحالته عن عين نجاسة اما إذا كان مستحيلا عن متنجس كالحطب النجس فليس بالبعيد طهارته نظرا الى ما قلناه في استحالة هذا النوع رمادا. انتهى وهو جيد إلا ان في الفرق بين عين النجاسة والمتنجس خفاء فإنه إن حصلت الاستحالة والخروج عن الحقيقة الاولى والاسم التابع لها إلى حقيقة أخرى يتبعها اسم آخر فالظاهر الطهارة كما قدمناه في الموضعين وإلا فلا.

(الثاني) ـ الطين النجس إذا طبخ بالنار حتى صار خزفا أو آجرا ، فذهب الشيخ في الخلاف والعلامة في النهاية وموضع من المنتهى والشهيد في البيان والمحقق الشيخ حسن في المعالم الى القول بالطهارة ، وجزم جمع من المتأخرين : منهم ـ الشهيد الثاني بالعدم ، وتوقف المحقق في المعتبر والعلامة في موضع آخر من المنتهى والسيد السند في المدارك

استدل الشيخ في الخلاف بالإجماع وصحيحة الحسن بن محبوب المتقدمة ، واحتج في المعالم على ذلك فقال : لنا ـ أصالة الطهارة بالتقريب السابق في تطهير الشمس وملاحظة كون مدرك الحكم بالتنجيس في مثله بعد ذهاب العين هو الإجماع ولا ريب في التفائه بعد الطبخ ، كيف وقد احتج الشيخ للطهارة بإجماع الفرقة فلا أقل من دلالته على نفي الإجماع على ثبوت التنجيس حينئذ وقد علم ان الاستصحاب في ما مدركه الإجماع مطرح وإذا لم يكن على الحكم بالنجاسة فيما بعد الطبخ دليل فالأصل يقتضي براءة الذمة من التكليف باجتنابه أو تطهيره أو تطهير ما يلاقيه برطوبة لأجل فعل مشروط بالطهارة. انتهى.

أقول : اما ما استدل به الشيخ هنا على الطهارة فإنا لا نعرفه وهو اعرف به ، اما إجماعاته المدعاة في هذا الموضع وغيره فلا يخفى على العارف الخائض في الفن ما فيها ، واما الرواية فلا دليل فيها على ما يدعيه بالكلية كما تقدم بيانه إذ لا اشعار فيها بنجاسة الجص قبل الحرق حتى انه بالحرق صار طاهرا ويصير الحكم في الخزف مثله.


واما ما ذكره في المدارك بعد نقل احتجاج الشيخ (قدس‌سره) ـ حيث قال : وفيه إشكال منشأه الشك في تحقق الاستحالة وان كان القول بالطهارة محتملا لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة ـ ففيه ان ما ذكره من الاشكال باعتبار الشك في تحقق الاستحالة كما تقدم منه أيضا في باب التيمم في محله ، واما ما ذكره من ان القول بالطهارة محتمل لعدم تيقن استمرار حكم النجاسة فكلام مزيف لا يخفى ما فيه على المتأمل بعين التحقيق فإنه متى ثبتت النجاسة وحكم بها استمر الحكم بها حتى يثبت الرافع الشرعي والمطهر الشرعي وليس هنا إلا الاستحالة وهو لا يقول بها بل جعلها موضع شك ، ولو كان مجرد خروج الشي‌ء من حال إلى أخرى يوجب الطهارة لوجب بمقتضى ذلك الحكم بطهارة العجين النجس بخبزه وطهارة الأرض بعد الرطوبة باليبوسة بالهواء ونحو ذلك وهو لا يقول به ، وقد صرح به في الفرع الأول من فروع مسألة تطهير الشمس في ما لو جف بغير الشمس فقال : ويدل عليه ان نجاسة المحل بالنص فيقف زوال النجاسة على ما عده الشارع مطهرا. انتهى. وهو آت في ما نحن فيه ، وبالجملة فإن الاستصحاب هنا انما هو من قبيل استصحاب عموم الدليل المتفق على صحته. نعم ما ذكره يأتي في الاستصحاب المصطلح الذي هو محل النزاع بينهم وهو ما دل الدليل فيه على حال مخصوصة وأريد تعدية الحكم الى حالة أخرى خالية من النص لا في ما إذا كان الدليل شاملا للحالين.

واما ما ذكره في المعالم فهو مبني على ما تفرد به في تطهير الشمس مما نقلناه ثمة عنه وبينا ما فيه وهو أصل متزعزع الأركان وقاعدة منهدمة البنيان بما أوضحنا من الأدلة الساطعة البرهان المخالفة لما عليه كافة العلماء الأعيان ، وحينئذ فمتى ثبتت النجاسة وجب استصحاب حكمها الى ان يحصل المطهر الشرعي ، وليس ثبوت أصل الحكم بالإجماع خاصة كما ادعاه حتى انه بعد الطبخ حيث لا إجماع فمقتضى الأصل الطهارة ، وبالجملة فإن المعتبر في الحكم بالنجاسة هو ملاقاتها للشي‌ء مع الرطوبة فإنه يصير بذلك متنجسا بالإجماع نصا وفتوى وهذا الحكم لا يزول عنه إلا بتطهيره بأحد المطهرات المنصوصة ،


هذا هو مقتضى الأصول الشرعية والقواعد المرعية المتفق عليها بين كافة العلماء قديما وحديثا ، وزوال العين لم يجعل مطهرا إلا في حالة مخصوصة متفق عليها نصا وفتوى لا مطلقا كما يدعيه في غير الثلاثة التي قدمها.

احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض على ما ذهب اليه من النجاسة بعدم خروج الخزف عن مسمى الأرض كما لم يخرج الحجر عن مسماها مع انه أقوى تصلبا منه مع تساويهما في العلة وهو عمل الحرارة في أرض أصابتها رطوبة ومن ثم جاز السجود عليهما مع اختصاصه بالأرض ونباتها بشرطية. انتهى.

وأجاب عن ذلك ولده في المعالم فقال : هذا ، وعندي ان ادعاء عدم الخروج عن الاسم هنا توهم منشأه النظر الى الحجر وملاحظة ما ذكر من اشتراكهما في علة الصلابة وكونها في الحجر أقوى ، والعرف الذي هو المحكم عند فقدان الحقيقة الشرعية وخفاء اللغوية ينادي بالفرق ويعلن بصدق اسم الأرض على الحجر دون الخزف ، وقد تنبه لهذا جماعة : منهم ـ المحقق في المعتبر فقال في بحث التيمم : ان الخزف خرج بالطبخ عن اسم الأرض فلا يصلح التيمم به ، ثم ذكر جوازه في الحجر محتجا بأنه أرض إجماعا (لا يقال) هذا مناف لتوقفه في طهارته (لأنا نقول) ليس نظره في التوقف الى عدم الخروج عن الاسم لانه توقف فيما لا ريب في خروجه وقد عرفت كلامه في الرماد وسترى كلامه في ما يستحيل بغير النار. انتهى ومن هنا يظهر ان توقف من توقف في المسألة للشك في الخروج وعدمه في محله. والله العالم.

(الثالث) ـ العجين المعجون بماء نجس هل يطهر بخبزه أم لا؟ المشهور العدم وقال الشيخ في النهاية في باب المياه : فان استعمل شي‌ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن به ويخبز لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز فان النار قد طهرته. وقال في باب الأطعمة من الكتاب المذكور : وإذا نجس الماء بحصول شي‌ء من النجاسات فيه ثم عجن به وخبز لم يجز أكل ذلك الخبز وقد رويت رخصة في جواز اكله وذلك ان النار قد طهرته


والأحوط ما قدمناه. واختلف كلامه أيضا في كتابي الحديث فأفتى في الاستبصار بالطهارة وفي التهذيب بعدمها.

واحتج في المعالم بعد اختياره القول المشهور من عدم الطهارة فقال : لنا ـ أصالة النجاسة إذ المفروض كون الماء نجسا والنار لا تخرج من العجين المخبوز جميع الماء وانما تجفف بعض رطوبته فيفتقر الحكم بطهارة باقي الرطوبة إلى الدليل (لا يقال) يلزم على هذا طهر الأجزاء التي تجففها النار من رطوبة الماء رأسا لزوال المقتضى لاستصحاب النجاسة حينئذ (لأنا نقول) مدار غالب أحكام النجاسات على الإجماع ومن البين ان الخلاف هنا منحصر في القول بالبقاء على النجاسة مطلقا والقول بطهارته إذا صار خبزا مطلقا والتمسك باستصحاب النجاسة ينفي القول الثاني ، واما احتمال الطهارة إذا صار خبزا يابسا فإنما ينفيه فرض انحصار الخلاف في القولين إذ لا مساغ لإحداث الثالث على ما يقتضيه أصول الأصحاب ، وقد بينا هذا في مبحث الإجماع من مقدمة الكتاب. انتهى

أقول : لا يخفى ان ما ذكره في صدر كلامه جيد وبه استدل جملة من الأصحاب إلا انه في سؤالاته لنفسه وأجوبته قد ناقض نفسه في ما تقدم نقله عنه في تطهير الشمس فإنه قد قال ثمة ـ بعد ان ذكر انحصار وجوب التطهير بعد زوال العين في الثوب والبدن والآنية دون غيرها ـ ما لفظه : (فان قلت) كأن الاتفاق واقع على ان للنجاسات المعلومة أثرا في كل ما تلاقيه برطوبة مستمرا الى ان يحصل المطهر الشرعي فيفتقر كل نوع من أنواع المطهرات الى دليل يثبته (قلت) هذا كلام ظاهري يقع في خاطر العاجز عن استنباط بواطن الأدلة ويلتفت اليه القانع بالمجمل عن التفاصيل وما قررناه أمر وراء ذلك ، وبالجملة فالذي يقتضيه التحقيق انه لا معنى لكون الشي‌ء نجسا إلا دلالة الدليل الشرعي على التكليف باجتنابه في فعل مشروط بالطهارة أو ازالة عينه أو أثره لأجله وان ما لا دليل فيه على أحد الأمرين فهو على أصل الطهارة بمعنى أصالة براءة الذمة من التكليف فيه بأحدهما. إلى آخر ما تقدم.


أقول : لا ريب في دخول الخبز اليابس بالنار أو الهواء في ما ذكره من الافراد التي يجب بمقتضى تحقيقه الحكم فيه بالطهارة كالأرض التي تجف بغير الشمس ، وتوقفه هنا على وجود القائل به يدفعه قوله بما ذهب اليه من هذا القول الذي تفرد به فإن عامة الأصحاب قديما وحديثا كما لا يخفى على من راجع كتبهم وكلامهم على ان النجاسات متى أثرت في شي‌ء بملاقاتها له برطوبة وجب استصحاب ذلك الى وجود المطهر الشرعي وهو قد ذهب الى طهارته بمجرد زوال العين في غير الثوب والبدن والآنية ، فاللازم هنا هو طهارة الخبز الذي عجينه نجس باليبس وزوال الماء النجس كيف اتفق كما لا يخفى إذ العلة في الموضعين واحدة والتستر عن ذلك بلزوم احداث قول ثالث في هذا المقام تستر بما هو أوهن من بيت العنكبوت وانه لأوهن البيوت. فان انتشار الخلاف وتكثر الأقوال في المسائل الشرعية بين المتأخرين مما لم يوجد في كلام المتقدمين ولو صحت هذه القاعدة لم يبلغ الأمر الى ذلك ، على ان الأصل الذي بنى عليه كما عرفت انما أحدثه هو خاصة ولم يقل به أحد قبله بل عبائر الأصحاب كلها على خلافه وان سجل عليه بما سجل وأكثر بما طول ، وبالجملة فظهور المنافاة بين كلاميه مما تقدم في مسألة تطهير الشمس وما ذكره هنا أوضح من ان يحتاج الى تطويل وان تستر عنه بما لا اعتماد عليه ولا تعويل.

وكيف كان فالواجب الرجوع الى الروايات الواردة في المقام وبيان ما يفهم منها من الأحكام :

فمنها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي عمير عن بعض أصحابه قال وما أحسبه إلا حفص بن البختري (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) في العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال يباع ممن يستحل أكل الميتة».

وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن بعض أصحابه عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «يدفن ولا يباع».

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 11 من أبواب الأسآر.


وما رواه ثقة الإسلام والشيخ عن زكريا بن آدم (1) قال : «قلت لأبي الحسن (عليه‌السلام) فخمر أو نبيذ قطر في عجين أو دم؟ قال فقال فسد. قلت أبيعه من اليهود والنصارى وأبين لهم؟ قال نعم فإنهم يستحلون شربه». وبمضمون هذه الرواية أفتى في الفقيه من غير إسنادها الى الامام فقال : «وان قطر خمر أو نبيذ في عجين فقد فسد فلا بأس ببيعه من اليهود والنصارى بعد ان يبين لهم».

وفي الصحيح عن ابن ابي عمير ايضا عن من رواه عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «في عجين عجن وخبز ثم علم ان الماء كان فيه ميتة؟ قال لا بأس أكلت النار ما فيه».

وعن عبد الله بن الزبير (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البئر تقع فيها الفأرة أو غيرها من الدواب فتموت فيعجن من مائها أيؤكل ذلك الخبز؟ قال إذا أصابته النار فلا بأس بأكله».

أقول : والظاهر ان مستند الشيخ في ما تقدم نقله عنه من الطهارة بالخبز هو الخبران الأخيران ، ورده المتأخرون بعد الطعن بضعف السند بالطعن في الدلالة (اما الأول) فلأن الميتة أعم من الطاهرة والنجسة ولا دلالة في الخبر على كونها من ذوات الأنفس النجسة بالموت. و (اما الثاني) فهو موقوف على القول بنجاسة البئر والأظهر طهارتها وهذا الخبر من جملة الأخبار الدالة على ذلك ، ونفي البأس عن اكله بعد اصابة النار انما هو كناية عن الاستقذار المتوهم مما في الماء كما يشير اليه قوله في الخبر الأول «أكلت النار ما فيه» ومن المحتمل قريبا ان المراد بالماء في رواية ابن ابي عمير الثالثة انما هو ماء البئر ، وحينئذ فلا فرق بين كونها نجسة العين أو طاهرة بناء على عدم نجاسة البئر بالملاقاة ، وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لأصالة بقاء النجاسة حتى يحصل

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 38 من النجاسات.

(2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق.


المطهر الشرعي كما عليه جملة الأصحاب في هذا الباب وتخرج الروايات الثلاث المتقدمة شاهدة على ذلك.

بقي الكلام هنا في مسألتين : (إحداهما) أن الرواية الأولى تضمنت انه يباع ممن يستحل الميتة والثانية تضمنت انه يدفن ولا يباع. ويمكن الجمع بينهما بحمل النهي عن البيع على البيع على المسلم من غير اعلام وإلا فبيعه على المسلم مع الاعلام لا إشكال في جوازه بل الظاهر انه لا خلاف فيه كالدهن النجس ونحوه فان له منافع محللة.

و (ثانيتهما) ـ ان الرواية الأولى تضمنت انه يباع من أهل الذمة وبه صرح الشيخ في النهاية وهو ظاهر المشهور بين الأصحاب أيضا ، ومنع ابن إدريس من ذلك وذهب الى انه لا يجوز بيعه مطلقا وقال ان الرواية الواردة بذلك متروكة فلا عمل عليها لأنها مخالفة لأصول مذهبنا ولان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه» (1). وأجاب العلامة في المختلف بعد اختياره مذهب الشيخ عن كلام ابن إدريس بأن هذا في الحقيقة ليس بيعا وانما هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فكان سائغا. انتهى. وهو مؤذن بتوقفه في الحكم بصحة البيع ، وبذلك صرح في المنتهى فقال : واما ما تضمنته الرواية من البيع ففيه نظر والأقرب انه لا يباع لرواية ابن ابي عمير فان استدل بما رواه ابن ابي عمير وذكر الرواية الاولى ، ثم قال والجواب انها معارضة لما قدمناه ويمكن ان يحمل على البيع على غير أهل الذمة وان لم يكن ذلك بيعا حقيقة.

وعندي في ما ذكره ابن إدريس وكذا ما ذكره العلامة في المنتهى نظر

__________________

(1) لم يرد هذا الحديث بهذا اللفظ في كتب الاخبار لا من طرق الخاصة ولا من طرق العامة نعم ورد في حديث ابن عباس عنه (ص) «ان الله إذا حرم على قوم أكل شي‌ء حرم ثمنه عليهم». وقد رواه أحمد في المسند ج 1 ص 247 وص 293 والبيهقي في السنن ج 6 ص 13 وأبو داود في السنن ج 2 ص 280 وابن الدنيع في تيسير الوصول ج 1 ص 55 والشوكانى في نيل الأوطار ج 5 ص 121.


(اما أولا) فلما قدمنا الإشارة إليه من انه عين مملوكة يجوز الانتفاع بها نفعا محللا في علف الحيوان كالدهن النجس للاستصباح وغيره فلا مانع من بيعه ، نعم إذا باعه على مسلم فظاهر الأصحاب وجوب اعلامه وان لم أقف فيه على دليل واما بيعه على الكافر المستحل لذلك فلا يتوقف على الاعلام.

و (اما ثانيا) ـ فلتظافر الأخبار بذلك ومنها رواية زكريا بن آدم المتقدمة وصحيحة ابن ابي عمير الاولى وحسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «انه سئل عن رجل كانت له غنم وبقر وكان يدرك الذكي منها فيعزله ويعزل الميتة ثم ان الميتة والذكي اختلطا كيف يصنع؟ قال يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه.». وصحيحته الأخرى أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سمعته يقول إذا اختلط الذكي بالميت باعه ممن يستحل الميتة.». ومع دلالة هذه الأخبار على الحكم المذكور فلا مجال للتوقف فيه ولا ضرورة الى ما تكلفه العلامة في المختلف من التأويل.

واما ما استند اليه ابن إدريس من الحديث الذي نقله ففيه انه بعد صحته وثبوته فغايته ان يكون مطلقا وهذه الأخبار مع تكاثرها وصحتها خاصة فيجب تقييد إطلاق ذلك الخبر بها كما هو القاعدة المتكررة في كلامهم.

بقي ان رواية زكريا ابن آدم تضمنت الاعلام قبل البيع إلا ان ذلك في كلام السائل فلا يتقيد به الحكم المذكور لكن ظاهر عبارة الصدوق المتقدمة تقييد الحكم بذلك في البيع على أهل الذمة واليه يشير كلام العلامة في المنتهى وقوله : «ويمكن ان يحمل على البيع على غير أهل الذمة» ويمكن توجيه ذلك بأنهم مع القيام بشرائط الذمة يعاملون معاملة المسلمين فلا يباع عليهم الا مع الإعلام. إلا ان فيه ان رواية زكريا المشتملة على ذلك وهي التي أخذ الصدوق عبارته منها تضمنت انهم يستحلون شربه فأي فائدة تترتب على الاعلام ، وبالجملة فالإشكال في عبارة الصدوق لا في الرواية لما عرفت. والله العالم.

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 36 من الأطعمة المحرمة.


المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *