ج1 - الماء المطلق الجاري
كتاب الطهارة وفيه أبواب أربعة
وينقسم الماء الى مطلق ومضاف. والأول منهما الى جار
وراكد. والجاري إلى ماء بئر وغيره. والراكد الى كر وأقل منه. والأقل إلى ماء سؤر
وغيره.
وحيث جرت عادة فقهائنا (نور الله تعالى مراقدهم) بأفراد البحث لكل من هذه الأقسام لاختلافها بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة في الأحكام ، كان الواجب بسط الكلام هنا في فصول ستة وختام.
الفصل الأول
في الماء المطلق الجاري ، والقول فيه ينتظم في مقالات:
(المقالة الاولى) ـ المراد بالجاري هو النابع وان لم
يتعد محله. والنبع ـ على ما في كتب اللغة ـ عبارة عن خروج الماء من العين ، قال في
الصحاح : «نبع الماء ينبع نبوعا : خرج ، والينبوع عين الماء ، ومنه : قوله تعالى (حَتّى
تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (1) والجمع ينابيع»
انتهى. وقال في القاموس : «نبع الماء ينبع ـ مثلثة ـ نبعا ونبوعا : خرج من العين ،
والينبوع العين» وقال في مادة عين : «العين : الباصرة ، الى ان قال : وينبوع الماء»
انتهى. وعلى هذا فالعين انما هو اسم للينبوع الذي يخرج منه الماء وان اشتهر
إطلاقها على مجمع الماء ، وحينئذ فما
__________________
(1) سورة الإسراء. آية 93.
يوجد ـ في بعض البلدان كبلادنا
البحرين حرسها الله من طوارق الملوين ، من الآبار التي يخرج ماؤها بطريق الترشح من
الأرض ـ لا تدخل في الجاري ، ولعلها مما تدخل تحت الثمد بالثاء المثلثة ثم الميم
ثم الدال المهملة ، وهو ـ على ما صرح به في القاموس ـ الماء القليل لا مادة له ،
إذ الظاهر ان المراد بالمادة هو الينبوع الذي يخرج منه الماء بقوة وثوران دون ما
يخرج بطريق الترشح من جميع سطح الأرض ، ولهذا ان الوالد (عطر الله مرقده) كان يطهر
ـ تلك الآبار المشار إليها حيث كانت في قريته متى تنجست ـ بإلقاء الكر عليها دون
مجرد النزح منها ، إلا ان تطهيره لها بإلقاء الكر عليها كان بجعل الكر في ظروف
متعددة. وفيه عندي إشكال سيأتي التنبيه عليه في الكلام على تطهير الماء القليل ان
شاء الله تعالى.
(المقالة الثانية) الثلج والبرد أو كان ماء بحر أو نحوه
ـ طاهر في نفسه مطهر لغيره إجماعا ، فتوى ودليلا ، آية ورواية.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله سبحانه (وَأَنْزَلْنا
مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (1) وقوله عز شأنه
: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ
بِهِ).) (2).
وقد أورد على الاستدلال بهذه الآيات سؤالات : (أحدها) ـ ان
أقصى ما تدل عليه طهورية ماء السماء لا مطلق الماء ، فالدليل أخص من الدعوى.
(ثانيها) ـ ان (ماء) في الآيتين نكرة في سياق الإثبات ،
وهي لا تفيد العموم كما صرحوا به في الأصول.
(ثالثها) ـ ان (طهورا) هنا لا يجوز ان يكون على بابه من
المبالغة في أمثاله لأن المبالغة في (فعول) إنما هي بزيادة المعنى المصدري وشدته
فيه ، كأكول وضروب ،
__________________
(1) سورة الفرقان. آية 51.
(2) سورة الأنفال. آية 12.
وكون الماء مطهرا لغيره أمر خارج عن
أصل الطهارة التي هي المعنى المصدري ، فكيف تراد منه؟ بل هو حينئذ بمعنى الطاهر.
والجواب عن الأول ـ ان المستفاد من الآيات القرآنية ان
الماء أصله كله من السماء ، وبذلك صرح شيخنا الصدوق في أول كتاب من لا يحضره
الفقيه ، وما ذكره المتخرصون ـ من ان مواد المياه ليست إلا الأبخرة المحتبسة ، وان
حصل لها الغزارة والنزارة بكثرة مياه الأمطار والثلوج وقلتها ـ فكلام عار عن
التحصيل ، فضلا عن مخالفته لصريح التنزيل ، وما ورد عن معادن التأويل.
ومن الآيات الدالة على ما قلنا قوله سبحانه : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي
الْأَرْضِ ، وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» (1)
وروى الثقة الجليل علي ابن إبراهيم القمي في تفسير هذه
الآية عن الباقر (عليهالسلام) قال : «هي
الأنهار والعيون والآبار».
وقوله تعالى : «أَلَمْ
تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ
ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ...» (2).
وقوله تعالى : «(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ
شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ) الى قوله (يُنْبِتُ
لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ).» (3).
فهذه الآيات دالة على ان أصل ماء الأرض كله من السماء.
والجواب عن الثاني ـ انه وان كان كذلك مع عدم قرينة تفيد
العموم إلا ان قرينة المقام في هذه الآيات التي نقلناها تفيد العموم ، فان الظاهر
ان هذه الآيات كلها واردة في معرض التفضل وإظهار الامتنان وبيان الانعام ، وحينئذ
فلو كان هناك
__________________
(1) سورة المؤمنون. آية 19.
(2) سورة الزمر. آية 23.
(3) سورة النحل. آية 11 و 12.
فرد آخر لذكره (عز شأنه) سيما مع ما
يدل عليه قوله سبحانه : «وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ» (1) من التهديد
بأنه ان أذهب ذلك الماء النازل من السماء لم يبق لنا غيره. وبما ذكرنا صرح جمع من
الأصوليين ، حيث قالوا بأن النكرة في سياق الإثبات إذا كانت للامتنان عمت ، وفرعوا
عليه قوله سبحانه : «فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ» (2).
والجواب عن الثالث ان الطهور في اللغة لمعان :
(أحدها) ـ انه وصف بمعنى طاهر ، ومنه انقدحت الشبهة على
المعترض المذكور.
و (ثانيها) ـ ما هو مشهور بين أهل اللغة ـ على ما نقله
جمع من الخاصة والعامة ـ من انه اسم لما يتطهر به ، كالسحور والوقود والغسول
ونحوها. وحمله في تلك الآيات على هذا المعنى ممكن ، وان احتاج وصف الماء به الى
نوع تجريد ، لأن أسماء الآلة كأسماء الزمان والمكان لا يوصف بها مثل المشتقات ،
وحينئذ فلا اثر لذلك الإيراد.
و (ثالثها) ـ بمعنى الطاهر المطهر كما هو المدعى ، وبذلك
صرح الفاضل الفيومي في كتاب المصباح المنير ، حيث قال : «وطهور قيل مبالغة وانه
بمعنى طاهر ، والأكثر انه لوصف زائد ، قال ابن فارس : قال ثعلب : الطهور هو الطاهر
في نفسه المطهر لغيره. وقال الأزهري أيضا : الطهور في اللغة هو الطاهر المطهر ،
قال : وفعول في كلام العرب لمعان : (منها) ـ فعول لما يفعل به ، مثل الطهور لما
يتطهر به ، والوضوء لما يتوضأ به ، والفطور لما يفطر عليه والغسول لما يغتسل به ويغسل
به الشيء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «هو الطهور ماؤه» (3). أي هو الطاهر
المطهر
__________________
(1) سورة المؤمنون. آية 19.
(2) سورة الرحمن. آية 69.
(3) هذا من حديث روى عن النبي (صلىاللهعليهوآله) في ماء البحر بالنص
قاله ابن الأثير ، قال : وما لم يكن
مطهرا فليس بطهور. وقال الزمخشري : الطهور البليغ في الطهارة. وقال بعض العلماء :
ويفهم من قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (1) انه طاهر في
نفسه مطهر لغيره ، لان قوله : (ماء) يفهم منه انه طاهر ، لانه ذكر في معرض
الامتنان. ولا يكون ذلك إلا بما ينتفع به ، فيكون طاهرا في نفسه. وقوله : (طهورا)
يفهم منه صفة زائدة على الطهارة وهي الطهورية (فإن قيل) : قد ورد طهور بمعنى طاهر
كما في قوله : «ريقهن طهور» (فالجواب) ان وروده كذلك غير مطرد بل هو سماعي ، وهو
في البيت مبالغة في الوصف أو واقع موقع طاهر لإقامة الوزن ، ولو كان طهور بمعنى
طاهر مطلقا لقيل : ثوب طهور وخشب طهور ونحو ذلك. وهو ممتنع» انتهى كلام صاحب
المصباح.
والى ذلك ايضا يشير كلام الشيخ في التهذيب حيث قال : «الطهور
هو المطهر في لغة العرب ، ثم قال : وليس لأحد أن يقول : ان الطهور لا يفيد في لغة
العرب كونه مطهرا ، لأن هذا خلاف على أهل اللغة ، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل
: هذا ماء طهور. وهذا ماء مطهر. ثم قال ما ملخصه : انه لو قيل : ان الطهور لا يكون
بمعنى المطهر ، لان اسم الفاعل منه غير متعد ، وكل فعول ورد في كلام العرب متعديا
لم يكن إلا وفاعله متعد. قيل له : انه لا خلاف بين أهل النحو ان فعولا موضوع
للمبالغة وتكرر الصفة. وعدم حصول المبالغة على ذلك الوجه لا يستلزم عدم حصولها
بوجه آخر. والمراد هنا باعتبار كونه مطهرا» انتهى.
__________________
الآتي
: «هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته».
كما
في الجزء الأول من المنتقى لابن تيمية في الصحيفة 4 ، وكما في الجزء الثالث من
تيسير الوصول للشيبانى في الصحيفة 54 وغيرهما.
ورواه
صاحب الوسائل في باب ـ 2 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة عن المحقق في
المعتبر.
(1) سورة الفرقان. آية 51.
واعترضه جمع من متأخري المتأخرين ـ منهم : المحققان
المدققان الشيخ حسن في المعالم والسيد السند في المدارك ـ بما حاصله : ان الطهور
لم يرد في اللغة بمعنى المطهر ، بل هو اما صفة كقولك : ماء طهور اي طاهر ، أو اسم
غير صفة ومعناه ما يتطهر به. والشيخ قد استدل على كونه بمعنى المطهر بأنه لا خلاف
بين أهل النحو. واللغة لا تثبت بالاستدلال.
وفيه ان الشيخ (رحمهالله) لم يستدل على
كون طهور بمعنى مطهر ، وانما نقل ذلك عن العرب وأسنده إليهم ، ثم استشعر اعتراضا
قد أورد في البين وأجاب عنه بما ذكر. وكلامه من قبيل ما يقال : انه تعليل بعد
الورود ، وبيان ذلك ان أبا حنيفة قد خالف في المسألة وقال : ان طهورا بمعنى طاهر ،
وأنكر كونه بذلك المعنى ، وأورد على من ادعى انه كذلك هذا السؤال الذي ذكره الشيخ (رحمهالله تعالى) وأجاب
عنه. والسؤال المذكور وجوابه مذكوران في كتب الشافعية كينابيع الاسفرايني وغيره ،
فإنهم نقلوا عن أبي حنيفة ذلك وأجابوا عنه بما ذكر. وبذلك ظهر ان الشيخ لم يكن
غرضه الاحتجاج على ذلك وانما استند في ثبوته الى ما نقله عن العرب ، وغرضه من ذلك
الكلام الآخر انما هو دفع السؤال وبيان حكمة الواضع وتصحيح لغرضه لا الاحتجاج على
ذلك المطلب وإثباته.
والعجب من إنكار جملة من فضلاء متأخري المتأخرين ـ كهذين
الفاضلين وغيرهما ـ ورود طهور بمعنى الطاهر المطهر لغة. وكلام صاحب المصباح ـ كما
عرفت ـ على غاية من الصراحة والإيضاح ، وقد نقله عن جملة من أئمة اللغة ، بل ظاهر
كلامه انه قول الأكثر ، وان المعنى الوصفي للفظ الطهور إنما هو عبارة عن هذا
المعنى. واما كونه بمعنى طاهر فظاهر آخر كلامه ـ كما عرفت ـ انه غير مطرد بل موقوف
على السماع كما في البيت الذي أورده. وعبارة القاموس أيضا دالة على ذلك ، حيث قال
: «الطهور
المصدر واسم ما يتطهر به والطاهر
المطهر» انتهى. ونقل بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) ان الشافعية نقلت ذلك عن أهل
اللغة ، ونقل هو (قدسسره) عن الترمذي ـ
وهو من أئمة اللغة ـ انه قال : «الطهور بالفتح من الأسماء المتعدية وهو المطهر
غيره» انتهى. ونقله المحقق في المعتبر عن بعض أهل اللغة أيضا.
ومن الاخبار الدالة على ذلك
ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم
عن الصادق (عليهالسلام) قال : «الماء
كله طاهر حتى يعلم انه قذر» (1). وفي هذا
الحديث الشريف بحث نفيس حررناه في كتاب الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وقد
تقدم جملة من الكلام فيه في صدر المقدمة الحادية عشرة (2).
وصحيحة داود بن فرقد عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «كان
بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض ، وقد وسع الله عليكم
بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا ، فانظروا كيف تكونون؟».
ورواية السكوني عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (4) قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) الماء يطهر
ولا يطهر».
وهذا الحديث بناء على القول بنجاسة القليل بالملاقاة لا
يخلو من اشكال ، فإن
__________________
(1) رواه الكليني في الكافي في باب ـ 1 ـ من كتاب الطهارة ،
والشيخ في التهذيب في باب (المياه وأحكامها) في الصحيفة 61 بالنص المذكور في
الكتاب ، ورواه الصدوق في الفقيه في باب (المياه وطهرها ونجاستها) من الجزء الأول
بالنص الآتي : «كل
ماء طاهر إلا ما علمت انه قذر».
(2) في الصحيفة 134.
(3) المروية في الوسائل في باب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة.
(4) المروية في الوسائل في باب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة.
قليل الماء إذا تنجس كان طهره بالكثير
من الجاري أو الراكد.
وأجيب بأن المراد يطهر غيره ولا يطهره غيره.
ويرد عليه أيضا بأنه على إطلاقه غير مستقيم ، لانتقاضه
بالبئر ، فان تطهيرها بالنزح ، والماء النجس يطهر باستحالته ملحا ، والماء القليل
إذا كان نجسا وتمم كرا بمضاف لم يسلبه الإطلاق ، فإنه في جميع هذه الصور قد طهر
الماء غيره.
وأجيب عن ذلك (اما عن الأول) فبانا لا نسلم ان مطهر
البئر حقيقة هو النزح بل هو في الحقيقة الماء النابع منها شيئا فشيئا بعد إخراج
الماء المنزوح. ولا يخلو من ضعف. بل التحقيق الجواب بعدم نجاسة البئر بالملاقاة ،
وحينئذ فأصل الاعتراض بالبئر ساقط.
و (اما عن الثاني) فبان الماء قد عدم بالكلية فلم يبق
هناك ماء مطهر بغيره. ومثله ايضا الماء النجس إذا شربه حيوان مأكول اللحم واستحال
بولا ، فإنه يخرج عن الحقيقة الأولى الى حقيقة أخرى.
و (اما عن الثالث) فبعد تسليم ذلك يمكن ان يقال : المطهر
هنا هو مجموع الماء البالغ كرا لا المضاف وحده.
ويمكن الجواب عن أصل الإشكال بأن الماء متى تنجس فطهره
بممازجة الكثير له على وجه يستهلك النجس فيه ، وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا ،
لاضمحلال النجس حينئذ ، وحينئذ يصدق ان الماء لا يطهر. وفي الحديث حينئذ دلالة على
اعتبار الممازجة في المطهر دون مجرد الاتصال كما هو أحد القولين ، ولعل هذا المعنى
أقرب من الأول ، لسلامته من التكلفات.
(المقالة الثالثة) ـ لا خلاف ولا إشكال في أن الماء
الجاري بل كل ماء ينجس باستيلاء النجاسة على أحد أوصافه الثلاثة أعني اللون أو
الطعم أو الريح.
وتدل عليه الأخبار المستفيضة كصحيحة حريز عن ابي عبد
الله (عليهالسلام) (1) قال : «كلما
غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ منه واشرب ، فإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا
تتوضأ منه ولا تشرب».
وصحيحة زرارة (2) : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم
ينجسه شيء إلا ان تجيء ريح تغلب على ريح الماء».
ورواية عبد الله بن سنان (3) قال : «سأل
رجل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن غدير أتوه
وفيه جيفة. فقال : ان كان الماء قاهرا ولا توجد فيه الريح فتوضأ».
وصحيحة أبي خالد القماط (4) انه سمع أبا
عبد الله (عليهالسلام) يقول «في
الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة. فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ان كان
الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه ، وان لم يتغير ريحه وطعمه
فاشرب منه وتوضأ».
ورواية العلاء بن الفضيل (5) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الحياض
يبال فيها؟ قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول».
ورواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (6) انه «سئل عن
الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال : ان تغير الماء فلا تتوضأ منه ، وان لم تغيره
أبوالها فتوضأ منه. وكذلك الدم إذا سال في الماء وأشباهه».
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في باب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة بالنص الآتي : قال : وقال أبو جعفر (عليهالسلام) : «إذا كان الماء أكثر من
راوية لم ينجسه شيء ـ تفسخ فيه أو لم يتفسخ ـ إلا ان تجيء له ريح تغلب على ريح
الماء».
(3 و 4 و 5 و 6) المروية في الوسائل في باب ـ 3 ـ من أبواب
الماء المطلق من كتاب الطهارة.
واستدل جمع من متأخري المتأخرين على الحكم المذكور بقوله
(صلىاللهعليهوآله) : «خلق الله
الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» (1). بل ادعى
السيد السند في المدارك انه من الأخبار المستفيضة.
والعجب منه (قدسسره) انه ـ بعد
ذلك في بحث نجاسة البئر بالملاقاة ، حيث أنكر ورود نجاسة الماء بتغير لونه في
أخبارنا ـ طعن في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل والحق كونه كذلك (2) فانا لم نقف
عليه في شيء من كتب أخبارنا بعد الفحص التام ، وبذلك صرح ايضا جمع ممن تقدمنا.
وممن صرح بكونه عاميا شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب
الحبل المتين ، ذكر ذلك أيضا في مقام إنكار ورود التغير اللوني في أخبارنا ،
والظاهر انه اقتفى في هذه المقالة أثر السيد المذكور.
والعجب منهما (قدسسرهما) في ذلك
ورواية العلاء بن الفضيل المتقدمة (3) تنادي بالدلالة عليه.
ومثلها صحيحة شهاب بن عبد ربه عن ابي عبد الله (عليهالسلام) المروية في
كتاب البصائر (4) حيث قال في
آخرها : «وجئت تسأل عن الماء الراكد ، فما.
__________________
(1) رواه صاحب الوسائل في باب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق من
كتاب الطهارة عن المعتبر والسرائر.
(2) الذي عثرنا عليه في روايات العامة بهذا المضمون هي النصوص
الآتية : «الماء
لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه طعمه أو ريحه».
كما
في الجزء الأول من سنن البيهقي في الصحيفة 259. «ان الماء طاهر الا ان تغير ريحه
أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيها».
كما
في الصحيفة 260 منه. «الماء لا ينجس الا ما غير ريحه أو طعمه».
كما
في الصحيفة 260 منه ايضاو قد رواها عن النبي (ص) مسندة. «الماء طهور الا ما غلب
على ريحه أو طعمه».
كما
في كنز العمال ج 5 ص 94.
(3) في الصحيفة 179 السطر 12.
(4) ج 5. باب (ان الأئمة يعرفون الإضمار) وفي الوسائل في باب ـ
9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
لم يكن فيه تغير أو ريح غالبة. قلت :
فما التغير؟ قال : الصفرة ، فتوضأ منه. الحديث».
ويدل على ذلك ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي (1) حيث قال (عليهالسلام) : «كل غدير
فيه من الماء أكثر من كر لا ينجسه ما يقع فيه من النجاسات إلا ان تكون فيه الجيف
فتغير لونه وطعمه ورائحته ، فإذا غيرته لم يشرب منه ولم يتطهر منه. الحديث».
وهذا الكتاب وان لم يشتهر بين الأصحاب النقل عنه ولا
الاعتماد عليه بل ربما طعن بعضهم في ثبوته عنه (عليهالسلام) الا ان
الأظهر كما قدمنا ذكره (2) هو الاعتماد
عليه.
ولعل السر ـ في اشتمال أكثر الاخبار على التغير الطعمي
والريحي دون اللوني ـ ان تغير الطعم والريح أسرع من تغير اللون أو لا ينفك تغير
اللون من تغيرهما فلا ثمرة في التعرض له حينئذ.
وهل يعتبر التغير الحسي ، فلو كان الماء على صفاته
الأصلية وكانت النجاسة مسلوبة الأوصاف لم تؤثر في نجاسة الماء وان كثرت. أو يجب
تقدير الأوصاف للنجاسة ، فلو كانت مما يتغير بها الماء على تقدير وجود الأوصاف نجس
والا فلا؟ قولان.
المشهور الأول نظرا الى ان التغير حقيقة في الحسي ، لصدق
السلب بدونه ، واللفظ إنما يحمل على حقيقته ، واعتبار التقدير يتوقف على دليل ،
والأصل عدمه.
ويمكن أن يقال : ان التغير حقيقة في النفس الأمري لا
فيما كان محسوسا ظاهرا ، فقد يمنع من ظهوره مانع ، كما اعترفوا به فيما سيأتي مما
إذا خالفت النجاسة الجاري في الأوصاف لكن منع من ظهورها مانع ، فإنهم قطعوا هناك
بوجوب التقدير ،
__________________
(1) في الصحيفة 5 السطر 18. وقد أسقط (قده) منه ما لا يرتبط
بمورد البحث.
(2) في الصحيفة 25 السطر 12.
استنادا الى ان التغير حصل واقعا وان
منع من ظهوره مانع ، والمناط التغير في الواقع لا الحسي ، والفرق بين الموضعين لا
يخلو من خفاء.
ويؤيد ذلك ان الظاهر ان الشارع إنما ناط النجاسة بالتغير
في هذه الأوصاف لدلالته على غلبة النجاسة وكثرتها على الماء واقعا ، وإلا فالتغير
بها من حيث هو لا مدخل له في التنجيس ، فالمنجس حقيقة هو غلبة النجاسة وزيادتها
وان كان مظهره التغير المذكور ، وحينئذ فلو كانت هذه النجاسة المسلوبة الأوصاف
بلغت في الكثرة إلى حد يقطع بتغير الماء بها لو كانت ذات أوصاف ، فقد حصل موجب
التنجيس حقيقة الذي هو غلبة النجاسة وزيادتها على الماء.
وبالجملة فإنا نقول : كما ان الموجب لنجاسة القليل على
المشهور مجرد ملاقاة النجاسة وان قلت ، فالمنجس للكثير كثرتها وغلبتها. واناطة ذلك
بالتغير في تلك الأوصاف انما هو لكونه مظهرا لها غالبا ، فمع حصولها بدونه تكون
موجبة للتنجيس (1).
ويؤيد ذلك ايضا ما صرح به المحقق الثاني من ان عدم
التقدير يفضي الى جواز الاستعمال وان زادت النجاسة أضعافا ، وهو كالمعلوم البطلان.
والجواب ـ بأنه مع استهلاك النجاسة الماء لكثرتها يثبت
التنجيس قولا واحدا ـ مما يؤيد ما حققناه آنفا من ان الاعتبار بغلبة النجاسة
وكثرتها على الماء وان تفاوت ذلك
__________________
(1) وممن جنح الى ما ذكرناه في هذا المقام الفاضل السيد نور
الدين بن ابى الحسن في شرح المختصر ، حيث قال ـ بعد نقل كلام أخيه السيد السند في
المدارك ـ ما صورته : «ويشكل ذلك إذا فسر التغير بالاستيلاء ولم يكتف بمطلق التغير
كما تشعر به عبارة المصنف وهو الأوفق بالحكمة ، إذ الظاهر ان علة النجاسة غلبة
النجس على الظاهر حتى صار مقهورا معه فيضعف حكمه ، وصدق التغير عليه بهذا المعنى
حاصل على التقديرين ، فكيف يدعى صحة سلبه عنه إذا لم يكن حسيا؟» انتهى كلامه زيد
مقامه (منه رحمهالله).
شدة وضعفا. وكأن التزام المجيب
بالتنجيس في هذه الصورة ودعواه الإجماع دفع للشناعة اللازمة من القول بالطهارة على
هذا التقدير ، وإلا فمقتضى ما قرروه يقتضي كون الحكم كليا مع الاستهلاك وعدمه ،
وظاهر عبائر جملة منهم العموم. واستدلال المحقق المذكور بذلك مبني على ما قلنا من
فهمه العموم من كلامهم. والا لم يتجه دليله. والظاهر ان العلة في دعوى الإجماع
المذكور إنما هو ما ذكرنا ، ولهذا ان جملة ممن تعرض للجواب عن هذا الكلام ـ ومنهم
: شيخنا الشهيد الثاني في الروض ـ إنما ردوه بأنه مجرد استبعاد بل صرح بعض متأخري
المتأخرين بالتزامه مع عدم ثبوت الإجماع على خلافه.
ويؤيد ذلك ايضا (1) ما صرحوا به في المضاف المسلوب
الأوصاف إذا وقع في الماء ، من وجوب اعتباره إما بقلة الاجزاء وكثرتها أو بتقديره
مخالفا في الأوصاف على اختلاف القولين ، وإذا وجب الاعتبار في المضاف ففي النجاسة
أولى.
ونقل عن العلامة في أكثر كتبه القول بالثاني ، وتبعه ابن
فهد في موجزه ، ورجحه المحقق الثاني في شرح القواعد ، ونفى عنه البعد شيخنا
البهائي في كتاب الحبل المتين.
واحتج عليه في المختلف بان التغير الذي هو مناط النجاسة
دائر مع الأوصاف فإذا فقدت وجب تقديرها. ورد بأنه إعادة للمدعى.
ويمكن الجواب بما قدمنا تحقيقه من ان المدار لما كان على
التغير في نفس الأمر
__________________
(1) إنما ذكرنا ذلك على جهة التأييد لكسر سورة الاستبعاد فيما
قلناه دون ان يكون دليلا كما ذكره المحقق الثاني (ره) لتطرق القدح اليه بكونه
قياسا وان كان قياس أولوية. ومنع بعض المتأخرين الأولوية هنا محض مكابرة ، فإنه
إذا وجب التقدير في المضاف ليترتب عليه الاجتناب فيما يشترط بالماء المطلق من
الطهارة مثلا فبالطريق الاولى في النجس ليترتب عليه الاجتناب فيما يشترط بالطاهر
من طهارة وأكل وشرب ونحوها ، إذ دائرة المنع في النجس أوسع منها في المضاف كما لا
يخفى (منه قدسسره).
لا الظاهر الحسي ، لأنه ربما منع منه
مانع من فقد الأوصاف في النجاسة أو فقد الأوصاف في الماء. وجب تقديره مع وجود
المانع المذكور. وبذلك ايضا يظهر وجه الجواب عما أورد على الدليل الذي نقله عنه
ابنه فخر المحققين من استدلاله بان الماء مقهور بالنجاسة ، لأنه كلما لم يصر
مقهورا لم يتغير بها على تقدير المخالفة ، وينعكس بعكس النقيض الى قولنا : كلما
تغير على تقدير المخالفة كان مقهورا. انتهى.
فإنه أورد عليه منع الكلية الأولى ، فإن المخالف بقول
بعدم صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة على تقدير المخالفة. وعلى ما حققناه
يمكن أن يكون مراده انه كلما لم يكن الماء مقهورا في نفس الأمر لم يتغير على تقدير
المخالفة ، لا انه كلما لم يكن مقهورا شرعا ليتوجه عليه ان المخالف يقول بعدم
صيرورة الماء مقهورا مع تغيره بالنجاسة على تقدير المخالفة. وبذلك يظهر سقوط منع
كليته الأولى.
وبالجملة فالمسألة لما ذكرنا لا تخلو من الاشكال ،
والاحتياط في التقدير ان لم يكن متعينا كما لا يخفى على الناقد البصير ، إلا ان
تتوقف عليه عبادة مشروطة بالطهارة أو بإزالة النجاسة ، فيعود الاشكال بحذافيره.
فوائد
(الاولى) ـ لو اشتمل الماء على صفة تمنع من ظهور التغير
فيه ـ كما لو تغير بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة كتغيره بطاهر أحمر ، ثم وقع
فيه دم ـ فالذي قطع به متأخر والأصحاب من غير خلاف معروف في الباب هو وجوب تقدير
خلو الماء من ذلك الوصف كما عرفت آنفا ، وكأنهم لحظوا ـ في الفرق بين هذا الموضع
وبين ما كانت النجاسة مسلوبة الأوصاف ، حيث أوجبوا التقدير هنا دون هناك ـ ان
المراد بالتغير هو التغير الحسي كما تقدم. والتغير هنا ظاهر حسا لو خلينا وذات
الماء وذات النجاسة ، بخلاف ما هناك ، لكون النجاسة عارية عن الأوصاف. وفيه ان خلو
النجاسة عن الأوصاف لا يخرجها عن
تنجيس ما تلاقيه ، والمنجس ليس هو أوصافها وانما المنجس عينها. على ان الخلو عن
الأوصاف غالبا انما يكون بعارض من خارج لا من أصل الخلقة ، كما هو المشاهد في جميع
المطعومات والمرئيات ، وحينئذ فكما يقدر خلو الماء عن ذلك الوصف الموافق للون
النجاسة لكونه عارضا ، ينبغي ان يقدر خلو النجاسة عن هذا العارض الذي أزال وصفها.
(الثانية) ـ هل المعتبر على تقدير القول بالتقدير
هو الوصف الأشد للنجاسة كحدة الخل وذكاء المسك وسواد الحبر ، لمناسبة النجاسة
تغليظ الحكم. أو الوسط لأنه الأغلب؟ ظاهر العلامة في النهاية والشهيد في الذكرى
الأول ، وبعض المتأخرين الثاني ، واستظهره المحقق الثاني ورجحه في المعالم ، واحتمل
بعض فضلاء متأخري المتأخرين اعتبار الأقل تغليبا لجانب الطهارة. والظاهر ان الأوسط
أوسط. واحتمل المحقق الثاني (قدسسره) ايضا اعتبار
أوصاف الماء وسطا ، نظرا إلى شدة اختلافها كالعذوبة والملوحة والرقة والغلظة
والصفاء والكدرة ، قال : «ولا يبعد اعتبارها ، لان له فيها أثرا بينا في قبول
التغير وعدمه» انتهى قال في المعالم بعد نقل ذلك عنه : «وهو محتمل حيث لا يكون
الماء على الوصف القوي ، إذ لا معنى لتقديره حينئذ بما هو دونه» انتهى. واستشكله
ايضا بعضهم بما إذا لم يكن الماء خارجا عن أوصافه الأصلية.
(الثالثة) ـ لو لم يكن الماء على الصفات الأصلية كسائر
المياه كالمياه الزاجية والكبريتية وكانت النجاسة على صفاتها ولم تغيره باعتبار ما
هو عليه من الصفات ، لكن لو فرض خلوه منها لغيرته ، فهل يجب التقدير هنا أم لا؟ لم
أقف لأحد من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على كلام في ذلك. ومقتضى النظر ان الكلام
هنا كالكلام فيما لو تغير الماء بجسم طاهر يوافق لونه لون النجاسة ، ومقتضى حكمهم
بوجوب التقدير ، هناك هو وجوبه هنا أيضا.
إذ لا فرق بين المقامين إلا باعتبار ان خروج الماء عن
صفته الأصلية هناك باعتبار وقوع هذا الجسم فيه أخيرا ، وخروجه هنا باعتبار كون
الأرض كبريتية أو زاجية فاتفق تكيفه برائحتها ، أو باعتبار موافقة لون ذلك الجسم
الطاهر الذي تغير به الماء للون النجاسة في إحدى الصورتين ، ومخالفته لها على وجه
يستر رائحتها في الصورة الأخرى. وكل منهما لا يصلح وجها للفرق الموجب لتغاير الحكم
، إلا ان بعض محققي متأخري المتأخرين استظهر ان الكلام هنا كالكلام في النجاسة
المسلوبة الأوصاف دليلا وجوابا وظاهره ان النجاسة في هذه الصورة باعتبار ما عليه
الماء من الصفات لم تغيره واقعا ، بخلاف الصورة التي تغير فيها بجسم طاهر ، فإنه
تغير واقعا وان لم يظهر للحس بسبب الوصف العارضي. ولا يخفى ما فيه ، فان الواقع
المعتبر القياس اليه ، ان لوحظ مع قطع النظر عن العارض فالتغير ثابت في الصورتين ،
وإلا فلا فيهما. وقد عرفت ان الوجه الفارق لا يوجب تغايرا يترتب عليه ما ذكره (1).
__________________
(1) ثم انى وقفت بعد ذلك على كلام لشيخنا البهائي (عطر الله
مرقده) في كتاب الحبل المتين يؤيد ما رجحناه ، حيث قال : «وقد يستفاد ـ من قوله (عليهالسلام) في الحديث الثاني : «كل ما غلب الماء
على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب». ـ انه لو كان للماء رائحة كالمياه الزاجية
والكبريتية مثلا فسترت رائحة الجيفة ، لم ينجس وان كان بحيث لو خلا الماء من تلك
الرائحة لظهرت ، لصدق غلبة الماء على ريح الجيفة. والحديث السابع من الفصل الثاني
كالصريح في ذلك. لكن الحق صرفهما عن ظاهرهما. وتقدير الماء خاليا من رائحته
الأصلية. انتهى» وأشار بالحديث السابع الى حسنة زرارة ، قال : «إذا كان الماء أكثر
من راوية لم ينجسه شيء تفسخ فيه أو لم يتفسخ الا ان تجيء له ريح تغلب على ريح
الماء». وكأن ذلك الفاضل لم يقف ايضا على كلام شيخنا المذكور ، حيث انه ذكر ايضا
انه لم يقف على كلام لأحد من الأصحاب في ذلك.
أقول
: ومما يؤيد ما ذكرنا ايضا ان الأحكام المودعة في الاخبار إنما تحمل على الافراد
الغالبة الشائعة كما صرحوا به ، وحينئذ فالمعتبر في الغلبة وعدمها هو المياه
(الرابعة) ـ لو تغيرت رائحة الماء بمرور رائحة النجاسة
القريبة لم ينجس الماء قولا واحدا ، لأن الرائحة ليست بنجاسة فلا تؤثر تنجيسا.
(الخامسة) ـ لو حصل التغير بالمتنجس لا بالنجاسة على وجه
لا يسلبه الإطلاق فالأظهر الأشهر عدم التنجيس ، وللشيخ (رحمهالله تعالى) خلاف
ضعيف يأتي الكلام عليه في بحث المضاف ان شاء الله تعالى.
(المقالة الرابعة) ـ المشهور ـ بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) بل ادعى في المعتبر عليه الإجماع ـ ان الجاري مطلقا وان نقص عن الكر لا
ينجس بمجرد الملاقاة ، وذهب العلامة في جملة من كتبه الى اشتراط الكرية فيه
كالراكد ، ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني في الروض الميل اليه ، بل صرح ابنه المحقق
الشيخ حسن في المعالم بأنه ذهب إليه في جملة من كتبه ، قال : «إلا أن الذي استقر
عليه رأيه بعد ذلك هو المذهب المشهور» (1) ونقل في الروض عن جملة من المتأخرين
أيضا موافقة العلامة على هذه المقالة.
احتج القائلون بالأول بأصالة الطهارة ، فإن الأشياء كلها
على الطهارة إلا ما نص الشارع على نجاسته ، لأنها مخلوقة لمنافع العباد ، ولا يتم
النفع إلا بطهارتها.
وبالأخبار المتقدمة في سابق هذه المقالة (2) لدلالتها على
طهارة كل ماء ما لم يتغير ، خرج عنه القليل الراكد بالدليل ، فيبقى ما عداه داخلا
تحت العموم.
__________________
العارية عن هذه العوارض. واما هذه فتحمل على تلك وتقدر فيها
الغلبة وعدمها (منه رحمهالله).
(1) وممن جنح الى هذا القول من متأخري المتأخرين الشارح الجواد
في شرح الجعفرية (منه رحمهالله).
(2) في الصحيفة 179.
وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا (عليهالسلام) (1) قال : «ماء
البئر واسع لا يفسده شيء إلا ان يتغير ريحه أو طعمه ، فينزح حتى يذهب الريح ويطيب
طعمه ، لأن له مادة».
وجه الدلالة أنه علل فيه نفى الانفعال بوجود المادة ،
والعلة المنصوصة يتعدى بها الحكم الى كل موضع توجد فيه إذا شهدت الحال بان خصوص
متعلقها الأول لا مدخل له فيها. والأمر ههنا كذلك ، فإن خصوصية البئر من ذلك
القبيل. وشهادة الحال بذلك ظاهرة لمن أحاط خبرا بأحكام البئر ، وحينئذ ينحصر
المقتضي لنفي الانفعال في وجود المادة ، وهي موجودة في مطلق النابع.
وقول الصادق (عليهالسلام) فيما روي عنه
بعدة طرق ، وقد تقدم الإشارة إلى بعضها (2) : «الماء كله طاهر حتى يعلم انه قذر».
وحسنة محمد بن ميسر (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الرجل
الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به
ويداه قذرتان. قال : يضع يده ويتوضأ ويغتسل ، هذا مما قال الله عزوجل : (ما
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (4).
ويتوجه على الأول (5) ان الطهارة والنجاسة حكمان شرعيان
يتوقف الحكم بهما على الدليل الشرعي ، ولا مدخل للدليل العقلي فيهما كما لا مدخل
له في غيرهما
__________________
(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 و 14 ـ من أبواب الماء
المطلق من كتاب الطهارة.
(2) في الصحيفة 177. السطر 5. ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ 1
من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة ،.
(4) سورة الحج. آية 78.
(5) وهو أصالة الطهارة.
من أحكام الشرع. وما ذكر هنا في بيانه
ضعيف ، لحصول المنافع في النجس بل في عين النجاسة أيضا كما لا يخفى (1).
وعلى الثاني (2) ما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى
في الكلام في نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، من أن ظاهر هذه الاخبار بواسطة
القرائن الحالية والمقالية كون ذلك الماء أكثر من كر بل كرور ، فلا تدل على ما
ذكروه ، ولا يحتاج الى تخصيصها بما دل على نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة.
وعلى الثالث (3) (أولا) ـ ما
عرفت في المقدمة الثالثة (4) من الكلام في
حجية منصوص العلة وان الحجة منه هو ما يرجع الى تنقيح المناط القطعي ، وكأنه لهذا
قيد المستدل في بيان الاستدلال الحجية بشهادة الحال بان خصوص متعلقها الأول لا
مدخل له ، فمرجعها الى تنقيح المناط المذكور. الا ان فيه ان شهادة الحال بذلك في
هذا المقام لا تخلو من اشكال ، وبدونه لا يتم الاستدلال.
و (ثانيا) ـ ما ذكره شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب
الحبل المتين من احتمال ان يكون قوله (عليهالسلام) : «لان له
مادة» تعليلا لترتب ذهاب الريح وطيب الطعم على النزح ، كما يقال : لازم غريمك حتى
يعطيك حقك ، لانه يكره ملازمتك. وكما يقال : الزم الحمية حتى يذهب مرضك ، فان
الحمية رأس الدواء. قال : ومثل ذلك كثير. ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال.
والظاهر انه لا يخلو من بعد ، فان ذهاب الريح وطيب الطعم
بالنزح أمر بديهي محسوس لا يحتاج إلى علة ، فحمل الكلام عليه مما يخرجه عن الفائدة
، ولا يليق
__________________
(1) فإنه قد تكون المصلحة في خلقه دفع الأذى كفضلة الإنسان أو
ابتلاء الخلق كخلق المسكرات ونحو ذلك (منه رحمهالله).
(2) وهي الأخبار المتقدمة في الصحيفة 179.
(3) وهي صحيحة ابن بزيع المتقدمة في الصحيفة 188 السطر 1.
(4) في الصحيفة 60.
حينئذ نسبته بكلام الإمام الذي هو
إمام الكلام.
وعلى الرابع (1) ما تقدم تحقيقه في المقدمة الحادية
عشرة (2) من ان ظاهر
الخبر المذكور ـ وهو القدر المتيقن فهمه منه ـ ان الماء كله طاهر حتى يعلم عروض
النجاسة له فافراد هذه الكلية إنما هي المياه الطاهرة شرعا والمقطوع بطهارتها ،
فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى تعلم النجاسة. والغرض منها عدم معارضة الشك بعروض
النجاسة ليقين الطهارة التي هي عليه شرعا ، لا ان أفرادها ما شك في كونه سببا
للنجاسة ، كنقصان الجاري عن الكر ـ مثلا ـ هل يكون موجبا لانفعاله بالملاقاة أم لا؟
فيحكم بطهارته بهذا الخبر. والفرق بين المقامين ظاهر.
ونظيره ما ورد مفسرا في موثقة مسعدة بن صدقة (3) من قوله (عليهالسلام) : «كل شيء
هو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك
قد اشتريته وهو سرقة ، ومملوك عندك وهو حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا ، وامرأة
تحتك وهي أختك أو رضيعتك. والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به
البينة».
وحينئذ فافراد هذه الكلية كما ذكره (عليهالسلام) هي الأشياء
المحكوم بحلها شرعا والمعلوم حليتها قطعا. فإنه يستصحب الحكم فيها بذلك حتى يظهر
دليل الحرمة وان كانت مما حرمه الشارع بالنسبة إلى العالم بذلك ، ولا تخرج عن أصل
الحلية المقطوعة بمجرد الشك في حرمتها ، لا ان أفرادها ما شك في حليته كالمتولد من
نجس العين وطاهرها مع عدم المماثل مثلا ، فيقال : ان مقتضى هذا الخبر حله ومقتضى قوله
(عليهالسلام) : «كل شيء
طاهر حتى تعلم انه قذر» (4) طهارته.
__________________
(1) وهو الحديث المتقدم في الصحيفة 188 السطر 9.
(2) في الصحيفة 124 السطر 13.
(3) تقدم الكلام فيها في التعليقة (2) في الصحيفة 141.
(4) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 42.
وبالجملة فمورد الخبرين الأشياء المعلومة الطهارة
والنجاسة ، وانه لا يدخل أحد أفراد الأول في الثاني إلا مع العلم واليقين والأشياء
المعلومة الحل والحرمة وانه لا يدخل أحد أفراد أولهما في الثاني الا مع العلم
ايضا.
وعلى الخامس (1) ان الماء القليل في الخبر المذكور
وان شمل بعمومه الجاري والراكد ، إلا ان وصفه بالقلة ان أخذ على ظاهره ـ كما هو
ظاهر الاستدلال ـ كان الخبر من أقوى أدلة عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة.
وتخصيصه ـ بالجاري خاصة بناء على قيام الدليل على نجاسة القليل بالملاقاة ـ بعيد
من سياق اللفظ ، فالأظهر حمل القلة فيه على المعنى العرفي دون الشرعي ، أو حمله
على التقية كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى (2) احتج العلامة (رحمهالله) بعموم
الأخبار الدالة على اشتراط الكرية في الماء بقولهم (عليهمالسلام) (3) : «إذا بلغ
الماء كرا لم ينجسه شيء». فان تقييد عدم انفعال الماء ببلوغ الكرية يقتضي انفعال
الماء بدونه ، وهو شامل للجاري والراكد.
وتدل على ذلك أيضا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (4) قال : «سألته
عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء. يتوضأ منه للصلاة؟
قال : لا ، إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من الماء». وهي بظاهرها شاملة لما كان
جاريا أو راكدا (5).
__________________
(1) وهي حسنة محمد بن ميسر المتقدمة في الصحيفة 188 السطر 11.
(2) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد دلالة
الأخبار المستدل بها على عدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة.
(3) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة. والنص الوارد : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء».
(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 و 9 ـ من أبواب الماء
المطلق من كتاب الطهارة.
(5) وأجاب المحقق الشيخ حسن (قدسسره) في المعالم عن عموم المفهوم ، قال : «والجواب
ـ على تقدير تسليم العموم بحيث يتناول محل النزاع ـ انه مخصوص بصحيح ابن بزيع
لدلالته على ان وجود المادة سبب في نفى الانفعال بالملاقاة ، فلو كانت الكرية
معتبرة في ذي المادة لكانت هي السبب في عدم الانفعال ، فلا يبقى للتعليل بالمادة
معنى» انتهى وفيه ما عرفت من الصحيحة المذكورة آنفا (منه رحمهالله).
وأجيب بمنع العموم ، لفقد اللفظ الدال عليه. ومع تسليمه
فيقال : عامان تعارضا من وجه فيجب الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ، والترجيح
في جانب الطهارة بالأصل والإجماع وقوة دلالة المنطوق على المفهوم. هكذا أجاب السيد
في المدارك.
ولا يخلو من نظر (أما أولا) فلان منع العموم هنا ـ مع
تصريحه ـ هو (قدسسره) وغيره من
محققي الأصحاب بل وغيرهم ـ بان المعرف بلام الجنس في كلام الشارع عند عدم قرينة
العهد للعموم قضية للحكمة ـ ليس في محله ، كيف؟ ولو تم المنع المذكور لم يتم له
الاستدلال بصحيحة حريز المتقدمة (1) وأمثالها في الطرف الآخر ، لجواز ان
يراد بلفظ الماء فيها بعض افراده وهو غير الجاري ، بل قد استدل ـ هو نفسه (قدسسره) على مساواة
مياه الحياض والأواني لغيرها في عدم انفعال الكر منها ـ بالعمومات الدالة على عدم
انفعال الكر بالملاقاة مطلقا ، ردا على ما ذهب اليه المفيد في المقنعة وسلار ،
فكيف يمنع العموم هنا؟
وما ذكره المولى الأردبيلي (طاب ثراه) في المقام ـ من ان
القول بالمفهوم لا يستلزم القول بعمومه هنا ، لان الخروج من العبث واللغو يحصل
بعدم الحكم في بعض المسكوت عنه ، وذلك كاف وفيما نحن فيه يصدق انه إذا لم يكن
الماء كرا ينجسه شيء من النجاسات بالملاقاة في الجملة ، وذلك يكون في الراكد ،
وكفى ذلك لصحة المفهوم ـ لو تم لبطل الاستدلال بهذا المفهوم على نجاسة الماء
القليل بالملاقاة ، مع انه عمدة أدلتهم على ذلك المطلب ، وذلك فان مقتضى منطوق «إذا
بلغ الماء كرا لم ينجسه شيء» (2). عدم تنجيس شيء من النجاسات
__________________
(1) في الصحيفة 179 السطر 1.
(2) تقدم الكلام فيه في التعليقة 3 في الصحيفة 191.
للماء بعد بلوغه كرا ، ومفهومه تنجيس
شيء له مع عدم البلوغ ، ويكفي للخروج من العبث واللغو ـ كما ذكره (قدسسره) ـ حصول الحكم
في بعض المسكوت عنه. وهو تنجيسه بالنجاسة المغيرة للماء ، سيما مع كون (شيء) نكرة
في سياق الإثبات ، وهو خلاف ما صرحوا به في المقام من ارادة العموم من لفظ (شيء)
كما سيأتيك تحقيقه ان شاء الله تعالى في بيان نجاسة الماء القليل بالملاقاة.
وبالجملة فكما ان لفظ (الماء) في المنطوق للعموم فكذا في
المفهوم ، ومثله لفظ (شيء) فيهما ، ودلالته على العموم بتقريب ما ذكرنا آنفا مما
لا مجال لإنكاره.
و (اما ثانيا) ـ فلأن ما ذكره ـ من تعارض العمومين بناء
على دلالة صحيحة حريز وأمثالها (1) على ان كل ماء طاهر ما لم يتغير ـ محل
النظر ، لعدم تسليم العموم من تلك الأخبار كما أشرنا اليه (2) وسيأتيك ان
شاء الله تعالى (3) ما فيه زيادة
تنبيه عليه ، وحينئذ فلا عموم في ذلك الطرف ويبقى عموم المفهوم سالما من المعارض.
ثم انه على تقدير تسليم العموم كما يدعونه فالأظهر
تخصيصه بعموم المفهوم المؤيد بمنطوق صحيحة علي بن جعفر المتقدمة (4) ، وإلا
فبالصحيحة المذكورة ان نوقش في تخصيص العام بالمفهوم ، بناء على منع بعض الأصوليين
ذلك مطلقا أو إلا ان تكون دلالته أقوى من دلالة العام على الفرد الذي يخصص به.
فإنه يخصص به العام حينئذ ، وإلا فلا.
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 179.
(2) في الصحيفة 189 السطر 3.
(3) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد دلالة
الأخبار المستدل بها على عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة.
(4) في الصحيفة 191 السطر 12.
على ان التحقيق عندي ـ كما سيأتيك بيانه ان شاء الله
تعالى ـ (1) ان دلالة هذه
الأخبار على نجاسة القليل بالملاقاة لا تنحصر في مفهوم مخالفتها ، بل المتبادر
منها بقرينة المقام ان مقصودهم (عليهمالسلام) بيان المعيار
الفارق بين ما ينجس بملاقاة النجاسة وبين ما لا ينجس ، فههنا في التحقيق دلالتان
كما سيتضح لك في محله ان شاء الله تعالى.
و (اما ثالثا) ـ فلان ما ذكره من تعارض العمومين من وجه
، فيه ان الظاهر ان مراده من العمومين عموم المفهوم القائل : ان كل ماء قليل ينجس
بالملاقاة وعموم المنطوق الذي نطقت به الروايات الدالة على ان كل ماء لا ينجس ما
لم يتغير ، القائل بأن كل ماء لا ينجس بمجرد الملاقاة.
وأنت خبير بأن النسبة بين هذين العمومين هو العموم
والخصوص المطلق لا من وجه. وعموم المفهوم أخص مطلقا. ومقتضى القاعدة المقررة تقديم
العمل به وتخصيص العام به ، وحينئذ فالدليل عليه لا له.
و (اما رابعا) ـ فلان ترجيحه (قدسسره) جانب الطهارة
بالإجماع ـ مع ان الإجماع عندهم دليل قطعي فلا يحتاج معه الى الترجيح ـ محل نظر لا
يخفى ، فكان الأولى أن يقول : ونقل الإجماع. هذا ما اقتضاه النظر العليل وخطر
بالفكر الكليل والاحتياط حيثما توجه أوضح سبيل.
(المقالة الخامسة) ـ اشترط شيخنا الشهيد في الدروس في
الجاري دوام النبع ، وتبعه في هذا الشرط الشيخ جمال الدين احمد بن فهد في موجزه.
قال في الدروس : «ولا يشترط فيه الكرية على الأصح. نعم
يشترط فيه
__________________
(1) في المقام الأول من الفصل الثالث عند الكلام في رد الوجه
الخامس من الوجوه التي استدل بها المحدث الكاشاني على عدم انفعال الماء القليل
بمجرد الملاقاة.
دوام النبع» فعنده الشرط فيه أحد
الأمرين : اما الكرية أو دوام النبع.
واختلف كلام من تأخر عنه في فهم معنى هذا الكلام وما
المراد منه.
فقيل : ان المراد بدوام النبع عدم الانقطاع في أثناء
الزمان ككثير من المياه التي تخرج زمن الشتاء وتجف في الصيف ، وهو الذي صرح به
شيخنا الشهيد الثاني في كتاب روض الجنان ، ولذلك اعترض عليه وطالبه بالدليل. ولا
ريب ان هذا المعنى هو الأربط باللفظ والأقرب إليه ، لكونه المتبادر منه عرفا ،
ولكنه مما يقطع بفساده.
(أما أولا) ـ فلانه لا شاهد له في الاخبار ، ولا يساعد
عليه الاعتبار ، فهو تخصيص لعموم الأدلة بمجرد التشهي.
و (اما ثانيا) ـ فلان الدوام بالمعنى المذكور ، ان أريد
به ما يعم الزمان كله فلا ريب في بطلانه ، إذ لا سبيل الى العلم به ، وان خص
ببعضها فهو مجرد تحكم. وبالجملة فالظاهر ان فساده مما لا يخفى على ذلك المحقق
النحرير ، فساحة شأنه أجل من ان يجري منه به قلم التحرير.
وقيل : ان المراد بدوام النبع استمراره حال ملاقاة
النجاسة ، وهذا هو الذي ذكره المحقق الشيخ علي بعد ان أطال في التشنيع على من فسر
تلك العبارة بالمعنى الأول واستحسن هذا المعنى جملة ممن تأخر عنه. وهو وان كان
خلاف ظاهر اللفظ إلا انه في حد ذاته مستقيم ، إذ متى كان حال ملاقاة النجاسة غير
مستمر النبع كان بمنزلة القليل. وأنت خبير بان مرجعه الى اعتبار المادة ، وحينئذ
فلا يزيد على اشتراط الجريان إذ الجاري ـ كما عرفت ـ هو النابع ، فزيادة هذا القيد
حينئذ ليس بمحل من الفائدة.
وبعض محققي متأخري المتأخرين وجه كلام المحقق المذكور
فقال بعد نقله واستحسانه : «وتقريبه ان عدم الانفعال بالملاقاة في قليل الجاري
معلق بوجود المادة كما علمت ، فلا بد في الحكم بعدم الانفعال فيه من العلم بوجودها
حال ملاقاة النجاسة ،
وربما يتخلف ذلك في بعض افراد النابع
كالقليل الذي يخرج بطريق الترشح (1) فان العلم بوجود المادة فيه عند
ملاقاة النجاسة مشكل ، لانه يترشح آنا فآنا ، فليس له فيما بين الزمانين مادة ،
وهذا يقتضي الشك في وجودها عند الملاقاة فلا يعلم حصول الشرط واللازم من ذلك الحكم
بالانفعال بها عملا بعموم ما دل على انفعال القليل ، لسلامته حينئذ عن معارضة وجود
المادة ، ولا يخفى ان اشتراط استمرار النبع يخرج مثل هذا ولولاه لكان داخلا في
عموم النابع ، لصدق اسمه عليه. وهذا التقريب وان اقتضى تصحيح الاشتراط المذكور في
الجملة إلا انه ليس بحاسم لمادة الإشكال ، من حيث ان ما هذا شأنه في عدم العلم
بوجود المادة له عند الملاقاة ربما حصل له في بعض الأوقات قوة بحيث يظهر فيه اثر
وجود المادة ، واللازم حينئذ عدم انفعاله ، مع ان ظاهر الشرط يقتضي نجاسته. ويمكن
ان يقال : ان الشرط منزل على الغالب من عدم العلم بوجود المادة في مثله وقت
الملاقاة ، ويكون حكم ذلك الفرض النادر محالا على الاعتبار ، وهو شاهد بمساواته
للمستمر» انتهى كلامه زيد مقامه.
وفسر بعض الفضلاء المحدثين من متأخري المتأخرين النابع
على وجوه :
(أحدها) ـ ان ينبع الماء حتى يبلغ حدا معينا ثم يقف ولا
ينبع ثانيا إلا بعد إخراج بعض الماء.
و (ثانيها) ـ ان لا ينبغ ثانيا إلا بعد حفر جديد كما هو
المشاهد في بعض الأراضي.
و (ثالثها) ـ ان ينبغ الماء ولا يقف الى حد كما في
العيون الجارية ، قال : «وشمول الأخبار المستفاد منها حكم الجاري للوجه الثاني غير
واضح ، فيبقى تحت
__________________
(1) هذا الكلام مما يدل على كون الماء الخارج بطريق الرشح من
جملة النابع كما صرحنا به في المقالة الأولى (منه قدسسره).
ما يدل على اعتبار الكرية ، وكأن مراد
شيخنا الشهيد (رحمهالله) ما ذكرنا ،
وبذلك اندفع عنه ما أورد عليه» انتهى.
(المقالة السادسة) ـ قد عرفت مما تقدم (1) انه لا خلاف
ولا إشكال في ان الجاري ينجس مع استيلاء النجاسة وغلبتها على أحد أوصافه الثلاثة ،
وحينئذ فإن تغير بعضه اختص بالتنجيس إلا أن يكون الماء ممتدا وينقص ما تحت المتغير
عن الكر ويستوعب التغير عمود الماء ـ وهو خط ما بين حافتيه عرضا وعمقا ـ فينجس ما
تحت المتغير ايضا ، لتحقق الانفصال.
وناقش بعض محققي متأخري المتأخرين في الحكم بنجاسة ما
تحت المتغير في الصورة المذكورة ، حيث قال بعد نقل الحكم المذكور : «وهذا الحكم
وان كان مشهورا فيما بين المتأخرين لكن ليس له وجه ظاهر ، إذ يتخيل حينئذ انه
ينقطع اتصاله بما فوق فيصير في حكم القليل. وليس بمسلم ، إذ الانقطاع إنما يحصل
بانقطاع الماء وعدم جريانه اليه بالاتصال. وفيما نحن فيه ليس كذلك ، إذ الماء يجري
الى ما تحت ، غايته في البين ماء نجس. والحاصل ان الأصل الطهارة وعموم دلائل
انفعال القليل قد عرفت حاله ، فلا بد في نجاسة هذا الماء من دليل ، ولا دليل عليه
إلا ان يتمسك بالشهرة أو عدم القول بالفصل. وفي الكل نظر لكن الاحتياط فيه» انتهى.
وهو غريب ، فإنه ان سلم نجاسة القليل بالملاقاة ـ كما
يعطيه صدر كلامه ـ فلا ريب انه يصدق على هذا الماء كونه كذلك. واتصاله بالجاري ـ بواسطة
الماء المتغير بالنجاسة على الوجه المذكور ـ ليس باتصال. وان منعها أو منع عموم
أدلتها على وجه يشمل موضع البحث فهي مسألة أخرى يأتي تحقيقها ان شاء الله تعالى (2).
__________________
(1) في المقالة الثالثة في الصحيفة 178.
(2) يأتي تحقيق نجاسة القليل بالملاقاة وعدمها في المقام الأول
من الفصل
ثم ان للحكم المذكور زيادة على ما ذكرنا صورا تختلف
باختلاف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اعتبار استواء السطوح وعدمه كما سيأتي
تفصيله ان شاء الله تعالى (1).
وجملة صور المسألة ان يقال : إذا تغير بعض الجاري فاما
ان يكون متساوي السطوح أولا ، وعلى التقديرين اما ان يقطع التغير عمود الماء على
ما قدمنا (2) أو لا وعلى
الأول اما ان يبلغ ما ينحدر عن المتغير مقدار الكر أو لا. فهذه صور ست :
(الأولى) ـ كون السطوح متساوية ولا يقطع التغير عمود
الماء. ولا إشكال في اختصاص المتغير بالتنجيس إذا بلغ الباقي كرا ، ومع عدمه فيبني
على الخلاف المتقدم (3) من اشتراط
كرية الجاري في عدم الانفعال وعدمه.
(الثانية) ـ الصورة بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود
الماء وكان المنحدر عن المتغير كرا ، وحينئذ فما فوق المتغير مما يلي المادة ان
كان أكثر من كر فالحكم كما في الصورة الأولى ، وإلا بني على الخلاف المتقدم (4) ايضا.
وربما قيل هنا بعدم انفعاله لو كان قليلا وان اعتبرت
الكرية ، معللا بأن جهة المادة في الجاري أعلى سطحا من المتنجس فلا ينفعل به. ورد
بأنه ليس بشيء ، لأن الجريان يتحقق مع مساواة السطوح كما يشهد به العيان.
(الثالثة) ـ الصورة الثانية بحالها إلا ان ما ينحدر عن
المتغير دون الكر ،
__________________
الثالث ويأتي الكلام في عموم أدلة النجاسة بالملاقاة لموضع
البحث وعدمه في المقام الرابع من الفصل الثالث.
(1) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
(2) في الصحيفة 197 السطر 6.
(3) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
(4) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
ولا ريب في نجاسته مع المتغير ، لقلته
وانفصاله ، وحكم ما فوق المتغير كما في سابقتها. واحتمل بعض المحدثين (1) عدم تنجس ما
تحت المتغير ، قال : «لانه هارب عن المتغير واستلزام مجرد الاتصال التنجيس غير
ثابت» انتهى.
(الرابعة) ـ ان تختلف السطوح ولم تستوعب النجاسة عمود
الماء ، وحكمها كما في الصورة الأولى.
(الخامسة) ـ الصورة بحالها ولكن استوعبت النجاسة عمود
الماء وكان ما بعد المتغير مما يبلغ الكر ، والكلام في هذه الصورة مبني على الخلاف
الآتي بيانه ان شاء الله تعالى (2) في اشتراط استواء سطوح مقدار الكر من
الواقف وعدمه ، فعلى الاشتراط ينجس ما تحت المتغير ايضا ، وعلى تقدير عدمه يختص
التنجيس بالمتغير. واما ما فوق المتغير فان كان فوقيته محسوسة فهو طاهر قطعا وان
اعتبرنا الكرية في الجاري وكان أقل من كر ، لأنه أعلى من النجس فلا يؤثر فيه ، وان
كان انزل فيبني على الخلاف المتقدم (3).
(السادسة) ـ الصورة بحالها ولكن المنحدر عن المتغير أقل
من كر ، ولا ريب في نجاسته. وحكم ما فوق المتغير كما في سابقتها. والاحتمال
المتقدم (4) جار هنا ايضا
هذا كله لو كان الماء ممتدا في قناة ونحوها. اما لو كان مجتمعا في مكانه الذي يخرج
منه ـ كمياه العيون الغير الممتدة ـ فإنه يختص التنجيس بالموضع المتغير ان كان
الباقي كرا والا بني على الخلاف المتقدم (5) وربما أمكن أيضا فرض الصور الثلاث
الأول لو اتسع
__________________
(1) هو المحدث الأمين الأسترآبادي (قده) وسيجيء في كلامه (منه
قدسسره).
(2) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
(3 و 5) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
(4) في الصورة الثالثة.
المكان الذي فيه الماء على الينابيع
التي تخرج من الأرض.
ثم اعلم انه لا وجه هنا بناء على المشهور لاعتبار استواء
السطوح في عدم الانفعال بالملاقاة كما سيأتي في الكثير من الراكد ، لكن يتجه ـ على
قول العلامة باعتبار ذلك في كثير الراكد عند ملاقاة النجاسة ، بناء على ما صرح به
في التذكرة كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ـ اعتبار ذلك هنا أيضا في مقدار الكر
من الجاري ، لقوله بانفعاله بالملاقاة. لكنه (رحمهالله) في جملة من
كتبه أطلق القول عند تغير البعض من الجاري باختصاص النجاسة بالمتغير دون ما فوقه
وما تحته تساوت سطوحه أو اختلفت وهو لا يخلو من تدافع. الا ان يقال : ان إجماله في
الكلام هنا احالة على ما علم تفصيله بالتأمل في مقتضى قواعده المقررة في تلك
المسألة (1).
واعتذر عنه بعض محققي متأخري المتأخرين بان عدم تعرضه
هنا لذلك كأنه يرى للجاري خصوصية عن الواقف في الجملة وان شاركه في انفعال قليله
بالملاقاة ، ولعل الخصوصية كون الغالب فيه عدم الاستواء ، فلو اعتبرت المساواة على
حد ما ذكره في الواقف ، للزم الحكم بتنجيس الأنهار العظيمة بملاقاة النجاسة
أوائلها التي لا تبلغ مقدار الكر ولو بضميمة ما فوقها ، وذلك معلوم الانتفاء.
__________________
(1) قال في القواعد : «ولو تغير بعضه بها نجس دون ما قبله وما
بعده». وقال الشيخ علي (ره) في شرحه بعد كلام في المقام : «وإطلاق عبارة المصنف
تخرج على مذهب الأصحاب لا على اشتراط الكرية في الجاري ، وهكذا صنع في غير ذلك من
مسائل الجاري» انتهى. وقال في التذكرة : «لو تغير الجاري اختص المتغير منه
بالتنجيس وكان غيره طاهرا ، ثم قال : الثاني ـ لو كان الجاري أقل من كر نجس
بالملاقاة للملاقي وما تحته وفي أحد قولي الشافعي انه لا ينجس إلا بالتغير» انتهى.
فانظر الى هذا الاختلاف. ويحتمل ان يكون إطلاقه في جميع هذه الموارد محمولا على
الجاري الذي هو كر فصاعدا وان الباقي بعد التغير لو تغير بعضه كر فصاعدا. والله
العالم (منه رحمهالله).
(المقالة السابعة) ـ قد عرفت (1) ان الجاري
مطلقا بناء على المشهور لا ينجس إلا بتغيره ، وحينئذ فطهره ـ على ما صرح به
الأصحاب من غير خلاف فيه بينهم ـ بتدافع الماء من المادة وكثرته عليه حتى يستهلكه
ويزول التغير ، هذا ان اشترطنا في تطهير الماء الامتزاج كما هو أحد القولين ، وان
اكتفي بمجرد الاتصال كما هو القول الآخر اكتفي بمجرد زوال التغير ، لمكان المادة ،
وبذلك صرح جمع من متأخري المتأخرين منهم : السيد في المدارك.
ونقل عن بعض الأصحاب انه بناء على القول الأخير يتوقف
طهره هنا على التدافع والكثرة ، نظرا الى ان الاتصال المعتبر في التطهير هو الحاصل
بطريق العلو أو المساواة وذلك بالنسبة إلى المادة غير متحقق ، لأنها باعتبار
خروجها من الأرض لا تكون إلا أسفل منه (2) وفي التعليل منع ظاهر.
واعلم انا لم نقف في شيء من الاخبار على تطهير الماء
النجس سوى ما ورد في البئر وفي باب الحمام.
ويمكن الاستدلال هنا على الطهارة بالوجه المذكور بما
رواه ثقة الإسلام في الكافي (3) عن ابن ابي
يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) قال : «ان
ماء الحمام
__________________
(1) في المقالة الرابعة في الصحيفة 187.
(2) والظاهر انه الى هذا القول يميل كلام المحقق الشيخ حسن (قدسسره) في كتاب المعالم ، حيث قال ـ بعد نقل
القول المذكور ونقل القول بالاكتفاء بمجرد زوال التغير ـ ما صورته : «والتحقيق انه
ان كان للمادة نوع علو على الماء النجس أو مساواة فالمتجه الحكم بالطهارة عند زوال
التغير بناء على الاكتفاء بالاتصال ، وإلا فاشتراط التكاثر والتدافع متعين» انتهى.
وهو ذلك القول بعينه الا ان فيه استدراكا على ذلك القائل ، حيث ان ظاهر كلامه ان
المادة لا تكون إلا أسفل وأوجب التدافع والتكاثر ، مع ان المادة قد تكون أعلى أو
مساوية بأن تكون في أرض مرتفعة كما ذكر المحقق المذكور (منه رحمهالله).
(3) في الباب ـ 10 ـ من كتاب الطهارة وفي الوسائل في الباب ـ 7
ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
كماء النهر يطهر بعضه بعضا».
هذا على تقدير القول المشهور. واما على ما ذهب إليه
العلامة من اشتراط الكرية في عدم الانفعال ، ففيه إشكال ، لأنه متى تغير الجاري
على وجه لا يبلغ الباقي كرا فلا يطهر إلا بمطهر من خارج ، لان ما يخرج بالنبع لا
يكون إلا قليلا فينفعل بالملاقاة بعد خروجه ، وهكذا فيما يخرج دفعة ثانية وثالثة
وهكذا ، فلا يتصور حصول الطهارة به وان استهلك المتغير ، لان الاستهلاك بماء محكوم
بنجاسته كما عرفت.
وقد أطلق (قدسسره) في كتبه
طهارة الجاري المتغير بتكاثر الماء وتدافعه حتى يزول التغير ، وعلله في المنتهى
والتذكرة بأن الطارئ لا يقبل النجاسة لجريانه ، والمتغير مستهلك فيه (1) وأنت خبير بما
فيه ، قال ـ بعض فضلاء متأخري المتأخرين بعد إيراد ذلك على قوله ـ «ويمكن ان يجعل
هذا من جملة الأدلة على بطلان تلك الدعوى» انتهى.
(المقالة الثامنة) ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم)
بان حكم ماء الحمام كالجاري إذا كان له مادة ، قالوا : والمراد بماء الحمام يعني
ما في حياضه الصغار. ثم اختلفوا في اشتراط الكرية في المادة وعدمه ، وحينئذ فالبحث
هنا يقع في مواضع ثلاثة :
__________________
(1) ويظهر ـ من كلام العلامة (ره) في حكم تغير البئر ـ انه يرى
تعين النزح وان أمكن إزالة التغير بغيره ، وحمله بعضهم على انه ناظر الى اشتراط
الكرية في عدم انفعاله بكونه من جملة أنواع الجاري الذي يعتبر فيه الكرية ، فلا
تصلح المادة بمجردها للتطهير حيث يزول التغير ، قال في المعالم بعد نقل ذلك : «ولا
يذهب عليك ان حكمه ـ بحصول الطهارة بمثل النزح في مطلق الجاري الذي هو العنوان في
الاشتراط ـ يباين هذا الحمل وينافيه ، ولو نظر الى ذلك في حكم البئر لكان مورد
الشرط اعنى مطلق الجاري أحق بهذا النظر» انتهى (منه رحمهالله).
(الأول) ـ في بيان كونه كالجاري ، والظاهر ان المراد من
التشبيه عدم نجاسة ما في حياضه الصغار بالملاقاة عند الاتصال بالمادة.
ويدل على أصل الحكم صحيحة داود بن سرحان (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : ما تقول في
ماء الحمام؟ قال : هو بمنزلة الماء الجاري».
ورواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) «قلت : أخبرني
عن ماء الحمام يغتسل منه الجنب والصبي واليهودي والنصراني والمجوسي؟ فقال : ان ماء
الحمام كماء النهر يطهر بعضه بعضا».
ورواية بكر بن حبيب عن ابي جعفر (عليهالسلام) (3) قال : «ماء
الحمام لا بأس به إذا كانت له مادة».
وما رواه في كتاب قرب الاسناد (4) عن إسماعيل بن
جابر عن ابي الحسن الأول (عليهالسلام) قال :
ابتدأني فقال : «ماء الحمام لا ينجسه شيء».
وما في كتاب الفقه الرضوي (5) قال (عليهالسلام) : «وماء
الحمام سبيله سبيل الجاري إذا كانت له مادة».
وربما أمكن تطرق الإشكال الى هذا الاستدلال بان ذلك لا
يتم إلا بعد معرفة الحيضان التي كانت في زمنهم (عليهمالسلام) على اي كيفية
كانت؟ إذ الظاهر ان الأسئلة كانت عن ماء الحمام المعهود عندهم ، سيما ان أصل
الإضافة للعهد ، لكن لا يخفى ان ضم الأخبار المشتملة على اشتراط المادة الى
الأخبار الباقية يعطي بظاهره
__________________
(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء
المطلق من كتاب الطهارة.
(4) في الصحيفة 128 السطر 9 من المطبوع بطهران سنة 1370 ، وفي
الوسائل في الباب ـ 7 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) في الصحيفة 4 السطر 32.
ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من
ان المراد بماء الحمام ما في حياضه الصغار التي لا تبلغ الكر ، والمادة عبارة عن
الحوض الكبير الذي يجري منه الماء الى الحياض الصغار ، ولهذا تضمن الخبر الأخير (1) اشتراط مشابهة
الجاري بوجود المادة له ، ورواية بكر بن حبيب (2) نفي البأس عنه بشرط المادة. والمراد
في الخبرين اتصالها به إذ مع عدمه يلحقه حكم القليل حينئذ.
ومما ذكرنا علم الكلام في الموضع الثاني أيضا.
واما الموضع الثالث فالمشهور بين الأصحاب اشتراط الكرية
في المادة استنادا إلى انه مع عدم الكرية يدخل تحت القليل فينفعل بالملاقاة.
وذهب المحقق في المعتبر الى عدم اعتبار كثرة المادة
وقلتها ، لكن لو تنجس ما في الحياض لم يطهر بمجرد جريانها اليه (3).
ويدل عليه إطلاق صحيحة داود بن سرحان (4) فان جعله
بمنزلة الجاري كالصريح في عدم اشتراط الكرية ، وإطلاق رواية بكر بن حبيب (5) فان المادة
فيها أعم من كونها كرا أو دونه.
وأجيب عن الاولى بعدم التعرض فيها للمادة ولا للقلة
والكثرة. واما الثانية
__________________
(1) وهو حديث الفقه الرضوي المتقدم في الصحيفة 203 السطر 12.
(2 و 5) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 8.
(3) ظاهر كلام المحقق (ره) ان عدم اعتبار قلة المادة وكثرتها
مع اتصالها بالحوض الصغير إنما هو لعدم انفعال المجموع بما يلاقيه من النجاسة ،
وانه كالجاري لذلك وان قل الجميع عن الكر. اما لو انفصلت المادة عن الحوض فتنجس
ماء الحوض ، لم يطهر بمجرد اجراء تلك المادة إليه بل لا بد من كريتها حينئذ ،
ويكون حكم الحمام حينئذ حكم غيره من الماء القليل إذا أريد تطهيره ، فإنه لا بد من
إلقاء الكر عليه دفعة على ما في ذلك من التفاصيل الآتية (منه قدسسره).
(4) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 3.
فبضعف السند أولا ، وحمل إطلاق المادة
فيها على ما هو الغالب من أكثرية المادة كما هو الآن موجود ، أو إرادة الكثرة من
لفظ المادة لاشعارها بذلك. ولئن سلمنا العموم في كلا الخبرين فلا ريب ان عموم
اشتراط الكرية أقوى دلالة فيجب تخصيص هذا العموم به.
ويرد على ذلك ان عدم التعرض للمادة والقلة والكثرة لا
ينفي صحة الاستدلال بالخبر باعتبار عمومه ، وتنزيله منزلة الجاري في الخبر المذكور
أخرجه عن حكم القليل ، فلا يلزم من الحكم بانفعال القليل بالملاقاة الحكم بانفعاله
، فإنه كما خرج ماء الاستنجاء وماء المطر عن قاعدة الماء القليل بنص خاص ، فكذا
ماء الحمام ينبغي خروجه بمقتضى النص المذكور. نعم يخرج منه القليل الذي لم يتصل
بالمادة أصلا بناء على القول بنجاسة القليل بالملاقاة بإجماع القائلين بذلك عليه ،
ويبقى غيره داخلا في عموم الخبر.
وبالجملة فهذه الروايات أخص موضوعا من الروايات الدالة
على انفعال القليل بالملاقاة ، ومقتضى القاعدة تخصيص تلك بهذه لا العكس.
واما ضعف السند في الرواية الثانية (1) فيدفعه جبر
ذلك بعمل الأصحاب كما هو مقرر بينهم ، وكلا الأمرين اصطلاحيان. والحمل على الغالب
خلاف الظاهر وخلاف مدلول تلك الصحيحة المذكورة (2).
والى هذا القول (3) مال جملة من المتأخرين ومتأخريهم (4).
__________________
(1) وهي رواية بكر بن حبيب المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 8.
(2) وهي صحيحة داود بن سرحان المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 3.
(3) وأيد هذا القول بعضهم بالعمومات الدالة على طهارة مطلق
الماء ، والعمومات الدالة على طهارة مطلق الماء ما لم يتغير (منه رحمهالله).
(4) منهم : شيخنا البهائي (قدسسره) في كتاب الحبل المتين ، فإنه نفى عنه
البعد وأيده بنحو ما ذكرنا ، والمحدث الكاشاني في الوافي ، والمحدث الأسترآبادي في
تعليقاته على المدارك ، والفاضل الخراساني في الذخيرة والكفاية (منه قدسسره).
وربما بنى ذلك بعضهم على قاعدة الفرق في نجاسة الماء
القليل بين ورود النجاسة عليه ووروده على النجاسة ، فحكم هنا بعدم النجاسة من حيث
ورود الماء على النجاسة ، وجعل ذلك هو السر في عدم تنجس ماء الحمام بمجرد الملاقاة
وفي طهارة ماء الاستنجاء ، قال : «فلا حاجة حينئذ إلى اعتبار كرية المادة بل ولا
كرية المجموع من المادة وما في الحوض والماء النازل» ثم اعترض على نفسه بأن
النجاسة ههنا واردة على ماء الحوض وأجاب بأن المفروض ورود الماء من المادة على ماء
الحوض وتسلطه على ماء الحوض وعلى ما يصيبه من القذر ، فلم تكن النجاسة واردة على
ما هو حافظ لطهارة ماء الحوض بل الأمر بالعكس ، ثم قال : «وقد اتضح مما ذكرناه ان
على مذهب من يخص تنجيس القليل بصورة ورود النجاسة عليه يتجه القول بعدم اشتراط
الكرية في مادة الحمام» انتهى.
و (فيه أولا) ـ انه ان استند في استثناء ماء الحمام من
قاعدة تنجس القليل بالملاقاة الى هذه الأخبار فهي لا اشعار فيها بهذا التخصيص ، بل
مقتضى ظاهر التشبيه بالجاري هو عدم الانفعال مطلقا ، وكذا ظاهر نفي البأس مع وجود
المادة ، وكذا ظاهر قوله في رواية قرب الاسناد (1) : «لا ينجسه شيء». فان ذلك كله يدل
بظاهره على عدم انفعاله بالملاقاة كيف كانت.
و (ثانيا) ـ ان ما ذكره إنما يتم لو كان الماء الجاري من
المادة إلى الحوض الصغير آتيا عليه من أعلاه. اما لو كان آتيا من أسفله كما هو
معمول في كثير من الحياض فلا يتم ما ذكره. مع ان ورود المادة على الحوض الصغير أعم
من ان يكون من جهة العلو أو السفل.
و (ثالثا) ـ انه لا يظهر حينئذ للتشبيه بالجاري هنا مزية
، إذ متى كان
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 10.
حكمه حكم الماء القليل في تنجسه بورود
النجاسة عليه دون وروده عليها ـ كما هو مختاره في الماء القليل مطلقا ـ فأي ثمرة
لهذا التشبيه؟ فان ما ذكره حكم عام للماء القليل بجميع افراده وهذا أحدها ، بل
الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه أعلم ـ من تلك الأخبار المتقدمة (1) ـ الدال بعضها
على انه كالجاري مطلقا ، وبعضها انه كماء النهر يطهر بعضه بعضا ، وبعضها انه لا
ينجسه شيء مطلقا وان دل دليل من الخارج على تخصيصه بالتغير بالنجاسة ، وبعضها على
نفي البأس عنه بشرط المادة ـ ان لماء الحمام خصوصية يمتاز بها عن مطلق الماء
القليل ، وليس ذلك إلا باعتبار عدم انفعاله بالملاقاة وان قل ، بخلاف مطلق الماء
القليل ، وان خص انفعال مطلق القليل بورود النجاسة عليه دون العكس ، كما اختاره
القائل المذكور وفاقا لمن سبقه في ذلك ايضا ، فلا بد هنا من اعتبار عدم الانفعال
مطلقا مع القلة ـ ورد على النجاسة أو وردت عليه ـ تحقيقا للخصوصية المميزة
المستفادة من تلك الاخبار.
وينبغي التنبيه هنا على أمور :
(الأول) ـ هل يشترط بناء على القول بكرية المادة بلوغ
المادة وحدها كرا لتعصم ما في الحياض عن الانفعال بالنجاسة بعد الاتصال ، أو يكفي
بلوغ المجموع منها ومما في الحياض كرا مع تواصلهما مطلقا؟
ظاهر أكثر المتأخرين ـ حيث أطلقوا القول بكرية المادة ـ الأول
، مع انهم أطلقوا القول بان الغديرين إذا وصل بينهما بساقية وكان مجموعهما مع
الساقية كرا ، لم ينفعلا بملاقاة النجاسة. وذلك يقتضي أن يكون حكم الحمام أغلظ ،
مع انه ليس كذلك ، لما عرفت من الأخبار المتقدمة (2).
__________________
(1 و 2) في الصحيفة 203.
وربما أجيب بأن إطلاق القول بكرية المادة في الحمام
محمول على ما إذا لم يكونا متساويين بناء على الغالب من علو المادة ، فاما مع
التساوي فيكفي بلوغ المجموع كرا ونقل في المعالم عن بعض الأصحاب التصريح بالتفصيل
المذكور ، ثم قال : «وهو الأجود» وإطلاق القول في الغديرين محمول على المتساويين.
ورد بأن العلامة أيضا قد صرح في الغديرين المختلفين
بتقوي الأسفل بالأعلى.
وأجيب عنه يحمل الاختلاف في الصورة المذكورة على ما إذا
كان بطريق الانحدار دون التسنم من ميزاب ونحوه. والغالب في الحمام هو الثاني ،
وحينئذ فإطلاق القول في الغديرين محمول اما على التساوي أو على الاختلاف الحاصل
بالانحدار ، فإنه متى كان كذلك لم ينفعل شيء منهما. وإطلاق القول في الحمام محمول
على الاختلاف الحاصل بالتسنم من ميزاب ونحوه (1).
ولا يخفى ما في هذه التقييدات من التكلف والتمحل ، وكأن
محصل الفرق المذكور على هذا التقرير دخول الماء المتساوي السطوح والمختلف على وجه
الانحدار في الاخبار الدالة على عدم نجاسة الكر بالملاقاة ، ومرجعه الى حصول
الوحدة في الماء على وجه يكون داخلا تحت تلك الاخبار. واما إذا كان متسنما من
ميزاب ونحوه فإنه ليس كذلك فلا يدخل تحت تلك الاخبار. فاعتبرت كرية المادة في
الحمام لكون إتيانها
__________________
(1) وأجاب بعض متأخري الأصحاب بأن إطلاق الأصحاب اشتراط كرية
المادة مبنى على الغالب من كثرة الأخذ من ماء الحوض ، فلو لم تكن المادة وحدها كرا
لنقص بالأخذ وانفعل ، والا فالإجماع قائم على انه يكفى بلوغ المجموع كرا وان
اختلفت السطوح ولا يخفى ما فيه حق ان صاحب المعالم عده من المجازفات العجيبة. وبعض
آخر عد إطلاق اشتراط الكرية في المادة قولا مغايرا للتفصيل باستواء السطوح وعدمه ،
ومقتضى ذلك وجود القائل باشتراط كرية المادة وحدها وان استوت السطوح. ولا يخفى ما
بين القولين المذكورين من التباعد (منه رحمهالله).
على الحياض على ذلك الوجه المقتضي
لعدم اتحادها مع ما في الحياض ، ولا يخفى ما في هذا التقييد من المخالفة لإطلاق
النص وإطلاق كلام الأصحاب.
فالتحقيق هو ما قدمنا (1) من عدم اعتبار
كرية المادة ، وان هذا الحكم خارج بالنص ، فلا يحتاج الى ارتكاب هذه التمحلات. على
انه قد صرح المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) بان المستفاد
من روايات باب الكر تقوي كل جزء منه بالباقي ، قال : «وهذا المعنى موجود في الساكن
دون غيره. لعدم تقوي الأعلى بالأسفل في غير الساكن ، بل اعتبر الشيخ المحقق ابن
العالم الرباني الشهيد الثاني (رحمهماالله تعالى) في
كتاب المعالم تقارب اجزاء الماء كما تشعر به روايات هذا الباب ليحصل التقوى
المذكور ، فان مع تقارب اجزاء الماء النجاسة الواردة عليه تنتشر وتتوزع عليها».
انتهى. كلامه (زيد مقامه).
وأجاب بعض فضلاء متأخري المتأخرين بأن الغرض من اشتراط
الكرية في المادة وحدها لتطهير الحوض الصغير لا لمجرد عدم انفعالها.
ونقل ـ السيد في المدارك عن جده في فوائد القواعد ـ الثاني
، لعموم قوله (عليهالسلام) في عدة أخبار
صحيحة (2) : «إذا كان
الماء قدر كر لم ينجسه شيء». قال : «وهو متجه ، وعلى هذا فلا فرق بين ماء الحمام
وغيره» انتهى.
أقول : وهذا القول من شيخنا الشهيد الثاني (رحمهالله) متجه على ما
اختاره مما سيأتي ذكره (3) من الحكم
بالوحدة بمجرد الاتصال ، وان استواء سطح الماء غير معتبر في الكر ، فلو بلغ الماء
المتواصل المختلف السطوح كرا لم ينفعل شيء منه بالملاقاة
__________________
(1) في الموضع الثالث في الصحيفة 204.
(2) رواها صاحب الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(3) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
سواء في ذلك الأعلى والأسفل. وسيأتي
تحقيق القول في ذلك ان شاء الله تعالى.
هذا. وظاهر العلامة في التحرير اعتبار زيادة المادة عن
الكر ، حيث قال بعد الكلام في الجاري : «وحكم ماء الحمام حكمه إذا كان له مادة
تزيد على الكر» انتهى وهو غريب (1).
(الثاني) ـ لو انفصل ماء المادة عن الحوض وتنجس ماؤه ،
فهل يطهر بمجرد اتصال المادة به أم يشترط فيه الامتزاج والغلبة؟ وجهان بل قولان
مبنيان على الكلام في تطهير القليل بإلقاء الكر عليه كما سيأتي بيانه ان شاء الله
تعالى (2).
واختار العلامة ـ في التذكرة والمنتهى هنا ـ الثاني ،
واحتج عليه في المنتهى بان الصادق (عليهالسلام) حكم بأنه
بمنزلة الجاري (3) ، ولو تنجس
الجاري لم يطهر إلا باستيلاء الماء عليه بحيث يزيل انفعاله. مع انه (قدسسره) في التحرير
والمنتهى والنهاية في مسألة الغديرين حكم بطهارة النجس منهما باتصاله بالبالغ كرا
، وهو مناقض لما حكم به في هذه المسألة ، لأن المسألتين من باب واحد. كذا أورده
عليه جمع من المتأخرين.
__________________
(1) وقد تلخص مما ذكرنا من البحث ان الأقوال في المادة خمسة : (أحدها)
ـ ما هو المشهور من اعتبار الكرية فيها وحدها حملا لها على التسنم كما اعتبروه
وحكموا عليه بالإطلاق (الثاني) ـ الاكتفاء ببلوغها مع ما في الحوض كرا ايضا ، وهو
قول الشيخ الشهيد الثاني (الثالث) ـ عدم اعتبار الكرية ولو نقصت هي مع ما في الحوض
عن الكر ، وهو ظاهر المحقق والمؤيد بظواهر الأخبار (الرابع) ـ هو الثالث بعينه
لكنه بشرط ورود الماء على النجاسة ، وهو اختيار المحدث الأمين الأسترآبادي. و (خامسها)
ـ ما في التحرير من الزيادة على الكر (منه رحمهالله).
(2) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(3) في صحيحة داود بن سرحان المتقدمة في الصحيفة 203 السطر 3.
ويمكن الجواب عنه (أولا) ـ بأن ظاهر استدلاله ـ في
المنتهى بالخبر المذكور على الممازجة في ماء الحمام ـ اختصاص الحكم المذكور
بالحمام ، لما ذكره من الخبر ، فكأن حكم الحمام عنده في المسألة المذكورة مستثنى
من مواضع تطهير القليل.
و (ثانيا) ـ انك قد عرفت ايضا (1) تقييد إطلاق
القول في الغديرين بالحمل على المتساويين أو المختلفين بطريق الانحدار دون التسنم
، فيمكن حمل كلامه هنا في تلك الكتب بالاكتفاء بمجرد الاتصال على ذلك ، بخلاف
الحمام ، لما عرفت سابقا (2) من كون جريان
المادة في الأغلب بطريق التسنم ، فلا بد فيه من الممازجة.
واختار جماعة ـ منهم : شيخنا الشهيد الثاني ـ الأول ،
بناء على أصله المشار إليه آنفا (3) ونقل ايضا عن المحقق الشيخ علي (رحمهالله) واليه مال في
المدارك ايضا ، واستدلوا على ذلك بما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في مسألة تطهير
القليل (4).
ولعل الأظهر هنا الثاني ، لأن يقين النجاسة لا يحكم
بارتفاعه إلا بدلالة معتبرة ، والارتفاع بالممازجة مجمع عليه ، مع إشعار جملة من
النصوص به كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى (5) مع تحقيق في المقام يكشف عن هذه
المسألة وأمثالها نقاب الإبهام.
(الثالث) ـ هل يشترط في تطهير الحوض زيادة المادة على
الكر بمقدار ما تحصل به الممازجة والغلبة (6) بناء على اشتراط الممازجة ، أو
بمقدار الماء المنحدر
__________________
(1 و 2) في الأمر الأول في الصحيفة 207.
(3) في الصحيفة 209 السطر 16.
(4 و 5) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(6) فلو اتصل بها على وجه لم تحصل الممازجة ونقص الباقي عن كر
، تنجس حينئذ وحينئذ فما لم تحصل الممازجة والحوض باق على النجاسة لا بد من كون
الباقي على قدر يعصمه من النجاسة وبالجملة فإنه يشترط الزيادة على الكرية ما دام
الحوض باقيا على النجاسة ، فإذا حصلت الممازجة كفى كون الباقي كرا (منه رحمهالله).
للحوض المتصل به (1) بناء على مجرد
الاتصال أم لا؟ قولان.
صرح بالأول المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني ، وعللاه
بأنها لو كانت كرا فقط لكان ورود شيء منها على الحياض موجبا لخروجها عن الكرية ،
إذ المعتبر كرية المادة بعد الملاقاة ، فتقبل الانفعال حينئذ ، وهو صريح التحرير
كما تقدم (2).
وبالثاني صرح السيد السند في المدارك ، قال (قدسسره) : «الظاهر
الاكتفاء في تطهير ما في الحياض بكرية المادة ، ولا يشترط زيادتها على الكر ، وبه
صرح في المنتهى في مسألة الغديرين ، ويلوح ـ من اشتراطهم في تطهير القليل إلقاء كر
عليه دفعة ـ اعتبار زيادة المادة على الكر هنا» انتهى.
وفيه انك قد عرفت سابقا (3) ـ من مقتضى
الجمع بين إطلاقي القول بكرية المادة والقول بالاكتفاء في الغديرين بحصول الكرية
من مجموعهما ومن الساقية ـ تقييد المادة بالتسنم ، ومن ثم اعتبر فيها الكرية على
حدة ، وتقييد الغديرين بالتساوي أو الاختلاف على جهة الانحدار ، ومن ثم اكتفي
بكرية المجموع. وبذلك يظهر لك ما في كلامه من الاستناد الى ما صرح به في المنتهى في
مسألة الغديرين.
نعم لقائل أن يقول : ان هذه الزيادة المعتبرة ـ سواء
اعتبرت في التطهير بمجرد الاتصال أو المزج ـ لا دليل عليها. قولكم ـ : انها بعد
الملاقاة بأول جزء منها ينجس الملاقي مع كون الباقي أقل من كر ـ قلنا نجاسة أول
المادة باتصالها بالحوض النجس ليس أولى من طهارة النجس باتصالها به ، فلا بد
لترجيح الأول من دليل. على ان
__________________
(1) وذلك لان الاجزاء التي تتصل بالحوض منها تنفصل في الحكم عن
المادة لكونها أسفل منها ، فيعتبر في عدم انفعالها بملاقاة ماء الحوض اتصالها
بمادة كثيرة عالية (منه قدسسره).
(2) في الصحيفة 210 السطر 2.
(3) في الأمر الأول في الصحيفة 207.
التحقيق كما سيأتي ان شاء الله تعالى (1) ان شرط
الطهارة في المطهر وعدم النجاسة إنما هو قبل التطهير. واما نجاسته حال التطهير فلا
دليل على المنع منها.
والمحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) ـ بناء على
ما يختاره من تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة بورود النجاسة على الماء دون العكس ـ صرح
هنا بأنه يتجه ان يقال : انه لا حاجة الى كرية المادة بل يكفي جريان الماء الطاهر
بقوة بحيث يستهلك الماء فيه ، واستند الى ظواهر جملة من الاخبار ستأتي الإشارة
إليها ان شاء الله تعالى.
هذا كله مع علو المادة على الحوض. اما مع المساواة كما
يتفق في بعض الحياض من جعل موضع الاتصال أسفل الحوض فلا يشترط الزيادة ، بل يكفي
مجرد الاتصال على أحد القولين أو جريانها إليه بقوة الى ان يحصل الامتزاج على
القول الآخر.
(الرابع) ـ لو شك في كرية المادة فظاهر كلام جملة من
الأصحاب ـ وبه صرح بعضهم ـ انه يبنى على الأصل وهو عدم البلوغ.
واستضعفه بعض محققي متأخري المتأخرين ، واستظهر البناء
على طهارتها وعدم الحكم بنجاستها بملاقاة النجاسة.
واحتج بالروايات الدالة على ان «كل ماء طاهر حتى يعلم
انه قذر» (2). وباستصحاب
الطهارة الوارد فيه النص بخصوصه كما ورد في تطهير الثياب.
وفيه نظر ، لتطرق القدح الى ما أورده من الأدلة.
(اما الأول) ـ فلما مضى بيانه في المقالة الرابعة (3).
__________________
(1) في رد الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها المحدث
الكاشاني على عدم انفعال الماء القليل بمجرد الملاقاة ، وفي المسألة الرابعة من
المقام الأول من تتمة باب المياه.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة وقد تقدم الكلام فيما يرجع الى هذا المضمون في التعليقة 1 في
الصحيفة 177.
(3) في الصحيفة 190 السطر 3.
و (اما الثاني) ـ فلان استصحاب الطهارة الذي ورد به النص
في الثوب هو ما إذا كان الثوب متيقن الطهارة وشك في عروض النجاسة له ، كما تضمنته
صحيحة زرارة المضمرة (1) وغيرها ، فإنه
لا يخرج عن يقين الطهارة إلا بيقين النجاسة. ووجه الفرق بين هذا وبين ما نحن فيه
ظاهر ، فإن صحيحة زرارة المذكورة وظاهر غيرها ان الغرض المترتب على التمسك بيقين
الطهارة في هذه المواضع هو دفع الشك بعروض النجاسة حتى يحصل اليقين بها ، فالتمسك
بيقين الطهارة إنما هو في مقابلة الشك في عروض النجاسة ، وافراد هذه الكليات إنما
هي الأمور المقطوع بعدم العلم بملاقاة النجاسة لها. فتستصحب طهارتها الى ان يظهر
خلافها. وما نحن فيه ليس كذلك ، إذ هو مما تحقق ملاقاة النجاسة له لكن حصل الشك في
بلوغه القدر العاصم من النجاسة وعدمه ، وليس الشك هنا في ملاقاة النجاسة كما هو
مساق تلك الاخبار. ومثل ذلك لو حصل في ثوب دم محكوم بنجاسته شرعا لكن حصل الشك في
زيادته على الدرهم وعدمها. فإنه ليس للقائل أن يستند الى هذه الاخبار بان الأصل
طهارة الثوب لقوله (عليهالسلام) : «كل شيء
طاهر حتى تعلم انه قذر» (2).
وبالجملة فالمراد بالشك الذي لا يعارض اليقين هو الشك في
عروض النجاسة وملاقاة النجس لا الشك في السبب الموجب للتنجيس.
(المقالة التاسعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان
الله عليهم) في ان ماء المطر في الجملة حال تقاطره كالجاري. ونقل عن ظاهر الشيخ
اشتراط
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 139 السطر 3 ، وقد تقدم الكلام فيها
في التعليقة 1 من نفس الصحيفة ، وقد أسندها هناك الى ابى جعفر (عليهالسلام).
(2) تقدم الكلام فيه في التعليقة 1 في الصحيفة 42 وسيأتي منه (قدسسره) ـ في التنبيه الثاني من تنبيهات
المسألة الثانية من مسائل البحث الأول من أبحاث أحكام النجاسات ـ التصريح بما
ذكرناه هناك.
الجريان من ميزاب ، وإطلاق تشبيهه
بالجاري يقتضي عدم انفعاله بملاقاة النجاسة ، وتطهيره لما يقع عليه من ماء نجس أو
أرض أو ثياب أو ظروف أو نحو ذلك.
وتحقيق القول في ذلك يتوقف على النظر في الاخبار الواردة
في المقام ، فلنورد ما عثرنا عليه منها ثم نردفه بما يكشف عنه نقاب الإبهام بتوفيق
الملك العلام وبركة أهل الذكر (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
فمن الأخبار صحيحة هشام بن الحكم عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) «في ميزابين
سالا أحدهما بول والآخر ماء المطر فاختلطا فأصاب ثوب رجل. لم يضره ذلك».
ورواية محمد بن مروان عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (2) قال : «لو ان
ميزابين سالا أحدهما ميزاب بول والآخر ميزاب ماء فاختلطا ثم أصابك ، ما كان به بأس».
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليهالسلام) (3) قال : «سألته
عن البيت يبال على ظهره ويغتسل من الجنابة ثم يصيبه المطر أيؤخذ من مائه فيتوضأ به
للصلاة؟ فقال : إذا جرى فلا بأس به. وسألته عن الرجل يمر في ماء المطر وقد صب فيه
خمر فأصاب ثوبه. هل يصلي فيه قبل ان يغسله؟ فقال : لا يغسل ثوبه ولا رجله ويصلي
فيه ولا بأس».
وصحيحة هشام بن سالم (4) انه «سأل أبا عبد الله (عليهالسلام) عن السطح
يبال عليه فتصيبه السماء فكيف فيصيب الثوب. فقال لا بأس به ، ما اصابه من الماء
أكثر منه».
__________________
(1 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء
المطلق من كتاب الطهارة.
(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 5 ـ من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
ومرسلة الكاهلي عن رجل عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «قلت
أمر في الطريق فيسيل علي الميزاب في أوقات أعلم ان الناس يتوضؤون؟ قال : ليس به
بأس لا تسأل عنه. قلت : يسيل علي من ماء المطر ارى فيه التغير وارى فيه آثار القذر
فتقطر القطرات علي وينتضح علي منه؟ والبيت يتوضأ على سطحه فكيف على ثيابنا؟ قال :
ما بذا بأس لا تغسله ، كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر».
ورواية أبي بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن الكنيف
يكون خارجا فتمطر السماء فتقطر علي القطرة؟ قال : ليس به بأس».
ومرسلة محمد بن إسماعيل عن بعض أصحابنا عن ابي الحسن
موسى بن جعفر (عليهماالسلام) (3) «في طين المطر
انه لا بأس به ان يصيب الثوب ثلاثة أيام الا ان يعلم انه قد نجسه شيء بعد المطر ،
فإن أصابه بعد ثلاثة فاغسله ، وان كان الطريق نظيفا فلا تغسله».
وروى في الفقيه (4) مرسلا قال : «وسئل (عليهالسلام) عن طين المطر
يصيب الثوب فيه البول والعذرة والدم. فقال طين المطر لا ينجس».
وروى علي بن جعفر في كتاب المسائل والحميري في قرب
الاسناد (5) عنه عن أخيه (عليهالسلام) قال : «سألته
عن الكنيف يكون فوق البيت فيصيبه المطر
__________________
(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء
المطلق.
(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء المطلق
وفي الباب ـ 75 ـ من أبواب النجاسات.
(4) في باب «المياه وطهرها ونجاستها» ورواه صاحب الوسائل في
الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.
(5) في الصحيفة 89 من المطبوع بايران ، وفي الباب ـ 6 ـ من
أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة من الوسائل.
فيكف فيصيب الثياب ، أيصلى فيها قبل
ان تغسل؟ قال : إذا جرى من ماء المطر فلا بأس».
وروى في كتاب المسائل أيضا عن أخيه (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن المطر يجري في المكان فيه العذرة فيصيب الثوب ، أيصلى فيه قبل ان يغسل؟ قال :
إذا جرى به المطر فلا بأس».
وروى في كتاب الفقه الرضوي (2) قال (عليهالسلام) : «إذا بقي
ماء المطر في الطرقات ثلاثة أيام ، نجس واحتيج الى غسل الثوب منه. وماء المطر في
الصحاري لا ينجس. وروي طين المطر في الصحاري يجوز الصلاة فيه طول الشتاء».
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بالمقام.
ويدل على اعتبار الجريان منها صحيحة هشام بن الحكم (3) ورواية محمد
ابن مروان (4) وصحيحة علي بن
جعفر (5) وروايتاه
المنقولتان من كتابه (6) ولكن اعتبار
الجريان من الميزاب انما وقع في الأولتين ، وليس فيهما دلالة على تخصيص الحكم بذلك
، فلا تنهضان حجة للمستدل (7) ولعل ذكر
الميزاب في كلام الشيخ على جهة التمثيل كما احتمله جمع من المحققين.
وأنت خبير بان هذه الأخبار لا تصريح فيها بكون ماء المطر
كالجاري مطلقا أو مقيدا بحالة مخصوصة إلا من حيث أجوبة المسائل المسؤول عنها فيها.
فان بعضها
__________________
(1) ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ 6 ـ من أبواب الماء المطلق
من كتاب الطهارة.
(2) في الصحيفة 5 السطر 26.
(3 و 4 و 5) المتقدمة في الصحيفة 215.
(6) إحداهما في الصحيفة 216 والأخرى في هذه الصحيفة.
(7) إذ غاية ما يستفاد منهما هو عدم ضرر ذلك ونفى البأس عنه لو
اتفق كذلك ، وهذا لا يدل على انحصار الحكم فيه والاقتصار عليه كما لا يخفى (منه قدسسره).
لا ينطبق على تقدير جعله كالماء
القليل المنفعل بالملاقاة على المشهور ، وحينئذ فغاية ما يستفاد منها كون ماء
المطر قسما ثالثا بين الجاري والراكد ، وله أحكام قد يشارك في بعضها الجاري وفي
البعض الآخر الراكد ، فاما مشاركته للجاري ففي صورة الجريان قطعا والكثرة على
الظاهر ، كما يدل عليه ما تضمن اشتراط الجريان من الأخبار المتقدمة ، وما تضمن
اعتبار الكثرة ، وهو صحيحة هشام (1) ، لجعله (عليهالسلام) الجريان في
تلك الأخبار والكثرة في الخبر المذكور علة لحصول الطهارة (2) وخصوص
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 215 السطر 17.
(2) وما ذكره الفاضل الخراساني في الذخيرة ـ من ان صحة
الاستدلال بهذا الخبر مبنية على تعين إرجاع الضمير في قوله (عليهالسلام) : «ما أصابه» إلى السطح. وهو ممنوع بل
يمكن إرجاعه الى الثوب ، فكأنه قال (عليهالسلام) : «القطرة الواصلة الى الثوب غالب على
البول الذي لاقاه» ثم قال : «وايضا ما ذكره من الدليل على تعدية الحكم على تقدير
تمامه إنما يصح إذا رجع ضمير (منه) الى مطلق النجاسة. وليس كذلك ، بل الظاهر رجوع
الضمير الى البول ، فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة» انتهى ـ مدفوع (أولا) ـ بأن
ظاهر الرواية قد تضمن السؤال عن ظهر البيت الذي يبال عليه متى اصابه المطر ، وعما
يقطر منه فيصيب الثوب ، والأول منهما هو المقصود بالذات ، لأن الثاني متفرع عليه
كما لا يخفى ، فلو جعل ضمير (ما اصابه) راجعا الى الثوب لزم كون التعليل المذكور
مخصوصا بالسؤال الثاني ، ولزم عدم الجواب عن السؤال الأول الذي هو المقصود الذاتي
، لأن مرجع ضمير (اصابه) هو مرجع ضمير (به) في (لا بأس به) ومتى جعل مرجع الجميع
الى الثوب لزم خلو السؤال الأول من الجواب. و (ثانيا) ـ ان البول إنما هو على ظهر
البيت لا في الثوب حتى تكون القطرة الواصلة إليه غالبا على البول الذي لاقاه ،
والرواية إنما تضمنت كون القطرة النازلة من السطح النجس بالبول حال المطر هل تنجس
الثوب أم لا؟ لا ان الثوب فيه بول ووقع عليه من ماء المطر أكثر منه كما توهمه. وهو
غفلة عجيب منه. و (ثالثا) ـ ان ضمير (منه) انما يرجع الى البول ، لكن لما كانت
خصوصية البول لا مدخل لها في العلية حكم بالانسحاب الى اى نجاسة كانت كما أوضحناه
في المتن (منه رحمهالله).
مورد السؤال لا يصلح لتخصيص الجواب
إلا إذا كان لخصوصية السؤال مدخل في العلية وشاهد الحال في المقام دال على عدم
المدخلية ، ومتى كان التعليل يدل على التعدية الى كل ما توجد فيه العلة وشاهد
الحال يدل على عدم المدخلية ، وجب التعدية الى كل ما توجد فيه العلة.
وما قيل ـ في الجواب عن صحيحة علي بن جعفر (1) الدالة على
اشتراط الجريان في تطهير البيت الذي يبال على ظهره ، من انه يمكن أن يكون الاشتراط
هنا لنفوذ النجاسة في السطح ، وان السؤال لما كان يتضمن الجريان أجاب (عليهالسلام) على وفق
السؤال ، فاشترط الجريان حتى يستولي على النجاسة ، فهو لا يدل على نفي البأس إلا
في هذه الحالة ، فمورد السؤال حينئذ مخصص للجواب.
مدفوع (أولا) ـ بأن صحيحة هشام بن سالم (2) قد تضمنت هذا
السؤال بعينه ووقع الجواب فيها بما يدل على الطهارة مع الكثرة دون الجريان ، ومن
الظاهر ان الكثرة لا تستلزم الجريان ، إلا أن يراد الجريان ولو بالقوة دون ان يكون
بالفعل بخصوصه ، فوجه الاستلزام ظاهر ، ولعله الأظهر.
و (ثانيا) ـ بما تضمنته روايتا علي بن جعفر (3) المنقولتان من
كتابه. فإنه لا مجال فيهما لتخصيص الجواب ، فالظاهر حمل تلك الرواية أيضا عليهما.
لكن أصحابنا لاقتصارهم في الاستدلال على ما في الكتب الأربعة لم يتعرضوا لهاتين
الروايتين في المقام ولا غيرهما مما خرج عن الكتب المشار إليها ، وما عدا الصورة
المذكورة فلا دلالة في شيء من تلك الأجوبة المذكورة على كونه كالجاري. وأقرب ما
يتوهم منه الدلالة على كونه كالجاري ـ وان لم يدخل في تلك الصورة ـ مرسلة الكاهلي (4) لقوله
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 215.
(2) المتقدمة في الصحيفة 215.
(3) المتقدمتان في الصحيفة 216 و 217.
(4) المتقدمة في الصحيفة 216 السطر 1.
(عليهالسلام) : «كل شيء
يراه ماء المطر فقد طهر». وتقييد إطلاقها بتلك الاخبار غير بعيد ، فتحمل عليها حمل
المطلق على المقيد. واما ما دل على النهي عن غسل الثوب والرجل من اصابة ماء المطر
الذي قد صب فيه خمر ـ وانه يصلى فيه (1) وكذلك طهارة ما يقطر من ظهر البيت
النجس بالبول والكنيف (2) ـ فمع احتمال
تقييده ايضا كما هو مصرح بالقيد في بعض تلك الأخبار لا دلالة فيه ، لذهاب جملة من
الأصحاب الى عدم انفعال القليل بوقوعه على النجاسة ، وتخصيص نجاسته بالملاقاة
بورود النجاسة عليه دون العكس. وهو الظاهر من الأخبار كما سيأتي بيانه ان شاء الله
تعالى (3).
وتنقيح المقام يتوقف على ذكر فروع :
(الأول) ـ لو وقع المطر على ماء نجس بدون التغير بعد
زوال عين النجاسة منه ، فان وقع عليه بطريق الجريان أو الكثرة فالظاهر انه لا
إشكال في تطهيره له. نعم يبقى الكلام في الاكتفاء بمجرد الاتصال أو اعتبار التداخل
والامتزاج ، فعلى الأول يطهر بمجرد الاتصال ، وعلى الثاني يتوقف على الامتزاج.
وسيأتي تحقيق القول في ذلك ان شاء الله تعالى (4) وان وقع لا بأحد الطريقين المذكورين
فالمشهور بين الأصحاب التطهير بناء على حكمهم بكون ماء المطر كالجاري مطلقا. وقد
عرفت ما فيه ، فإنه لا دليل على هذا الإطلاق في الأخبار ، وحديث ـ «كل شيء يراه
ماء المطر فقد طهر» (5) ـ
__________________
(1) وهي صحيحة علي بن جعفر المتقدمة في الصحيفة 215.
(2) وهي صحيحة هشام بن سالم المتقدمة في الصحيفة 215. وروايتا
ابى بصير وعلي بن جعفر المتقدمتان في الصحيفة 216.
(3) في المقام الثاني من الفصل الثالث.
(4) في الموضع الأول من المقام الخامس من الفصل الثالث.
(5) المتقدم في الصحيفة 216 السطر 1.
قد عرفت ما فيه (1) ، ومع عدم
تقييده بما ذكرنا فقد أورد ايضا على الاستدلال به ان ماء المطر في الصورة المفروضة
لا يمكن ان يرى جميع الماء النجس ، لامتناع التداخل ، ومع إمكانه أيضا فالظاهر ان
عند التقاطر ـ كما هو مذهبهم ـ لا يمكن ان يصل الى جميع اجزاء الماء. ويمكن الجواب
بأن الرواية لما دلت على طهارة ماء المطر المقتضي لطهارة الموضع الذي يصل اليه ،
فاللازم طهارة ما عداه ، إذ لو لم يطهر بذلك للزم عدم طهارة ذلك الموضع بالكلية ،
أو عود النجاسة الى ما وصل اليه المطر بالمجاورة ، وكلاهما خلاف ظاهر النص.
ولقد بالغ بعض المتأخرين (2) فحكم بتطهير
القطرة الواحدة من المطر إذا وقعت على الماء النجس ، قال في الروض بعد نقله : «وليس
ببعيد ولكن العمل على خلافه» انتهى.
واعترض هذا القول المحقق الشيخ حسن في المعالم بأنه غلط.
قال : «لأن المقتضي لذلك اما كونه في حكم الجاري أو النظر الى ظاهر الآية ، حيث
دلت على كونه مطهرا بقول مطلق ، وكلاهما فاسد (اما الأول) ـ فانا وان تنزلنا الى
القول بثبوت أحكام الجاري له مطلقا ، إلا انك قد علمت ان المقتضي لطهارة الماء
بمجرد الاتصال ـ على القول به ـ هو كون الجزء الملاقي للكثير يطهر بملاقاته له ،
عملا بعموم ما دل على كون الماء مطهرا ، وبعد الحكم بطهارته يتصل بالجزء الثاني ـ وهو
متقو بالكثير الذي منه طهره ـ فيطهر الجزء الثاني ، وهكذا. ولا يذهب عليك ان هذا
التوجيه
__________________
(1) في الصحيفة 219 السطر 18.
(2) هو السيد حسن بن السيد جعفر المعاصر لشيخنا الشهيد الثاني
، قال في الروض : وكان بعض من عاصرناه من السادة الفضلاء يكتفى في تطهير الماء
النجس بوقوع قطرة واحدة عليه ، الى آخر ما نقلناه في المتن (منه رحمهالله).
لا يتوجه هنا ، إذ أقصى ما يقال في
القطرة الواقعة أنها تطهر ما تلاقيه. ولا ريب ان الانقطاع لا ينفك عن ملاقيها ،
وهي بعده في حكم القليل كما علمت ، فليس للجزء الذي طهر بها مقو حينئذ ليستعين به
على تطهير ما يليه ، بل هو معها حين الانقطاع ماء قليل ، فيعود بها الى الانفعال
بملاقاة النجاسة. و (اما الثاني) ـ فقد مر الكلام فيه وبينا انه ليس له عموم»
انتهى.
ويرد عليه ان اتصال هذه الاجزاء بعضها ببعض إنما يكون في
زمان واحد ، لا ان الجزء الأول يتصل بالثاني في زمان ثم الثاني بالثالث في زمان
آخر وهكذا ، فان باتصال الجزء الأول من النجس بالجاري أو الكثير صدق اتصال الاجزاء
كملا بعضها ببعض ، فمتى سلم ان ماء المطر ولو قطرة حكمه حكم الجاري مطلقا وانه
يطهر الجزء الملاقي له حال وقوعه عليه ، فلا ريب في إجراء التقريب المذكور في
الجاري فيه حينئذ. وصدق الانقطاع عليه في الآن الثاني غير ضائر ، لحصول الطهارة في
الآن الأول بالتقريب المذكور.
(الثاني) ـ إذا وقع على أرض متنجسة ونحوها واستوعب موضع
النجاسة وأزال العين ـ ان كانت ـ فعلى المشهور لا ريب في حصول التطهير به ، وعلى
اعتبار الجريان فالظاهر انه لا يناط هنا بحصوله ، لان الشيخ القائل بذلك صرح ـ كما
نقل عنه ـ بالاكتفاء في تطهير الأرض بالماء القليل ، الا ان مقتضى صحيحة هشام (1) اعتبار كثرة
ماء المطر في مثل الصورة المذكورة. وقد عرفت (2) انه لا مدخل لخصوصية السؤال في
التعليل المذكور.
وبذلك صرح المحقق الشيخ حسن في المعالم ، قال : «ولا بد
من كون الماء الواقع أكثر من النجاسة ، لجعله في الحديث علة لحصول الطهارة. وكون
مورد السؤال
__________________
(1) المتقدمة في الصحيفة 215 السطر 17.
(2) في الصحيفة 218 السطر 6.
فيه السطح لا يقتضي اختصاص الحكم به ،
لان التعليل يدل على التعدية الى كل ما توجد فيه العلة ، إذ الحال شاهدة بعدم
مدخلية الخصوصية فيها ، وقد بينا وجوب التعدية حينئذ» انتهى.
واعترضه في الذخيرة بان صحة الاستدلال بهذا الخبر على ما
ذكره مبنية على تعين إرجاع الضمير في قوله (عليهالسلام) : «ما أصابه»
إلى السطح. وهو ممنوع ، بل يمكن إرجاعه الى الثوب ، فكأنه (عليهالسلام) قال : «القطرة
الواصلة الى الثوب غالب على البول الذي لاقاه» وايضا ما ذكره من الدليل على تعدية
الحكم ـ على تقدير تمامه ـ إنما يصح إذا رجع ضمير (منه) الى مطلق النجاسة. وليس
كذلك ، بل الظاهر رجوع الضمير الى البول ، فلا يلزم الانسحاب في كل نجاسة. انتهى.
ولا يخفى ما في كلامه (قدسسره) من التكلف
التام والبعد عن ظاهر الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
(أما أولا) ـ فلان المقصود بالذات من السؤال هو ظهر
البيت وتطهير المطر له ، والسؤال عما يقطر على الثوب إنما هو فرع على الأول ،
فالأنسب كون الجواب وما علل به راجعا إلى الأول.
و (اما ثانيا) ـ فلانه على تقدير رجوع الضمير الى الثوب
فالتقريب الذي ذكره ذلك المحقق حاصل به ، بكون المعنى حينئذ ما أصاب الثوب من ماء
المطر الملاقي للبول أكثر من البول ، بمعنى ان المتقاطر على الثوب مجتمع من الماء
والبول ولكن الماء أكثر ، فبسبب الكثرة صار قاهرا للبول وغالبا عليه. ومنه يظهر ان
مناط التطهير هو الكثرة الموجبة للقهر والغلبة.
و (اما ثالثا) ـ فلان ما ذكره ـ من ان تعدية الحكم مع
رجوع ضمير (منه) الى النجاسة دون البول ومعه لا يصح ـ ففيه ان ضمير (منه) إنما
يرجع في الخبر الى البول
لكن لما كان خصوصية البول لا مدخل له
في العلية حكم بالانسحاب الى اي نجاسة كانت كما ذكره المحقق المذكور وقد قدمنا
التنبيه عليه (1).
وربما استدل على حصول التطهير في الفرع المذكور بمرسلة
الكاهلي (2) لقوله (عليهالسلام) : «كل شيء
يراه ماء المطر فقد طهر». وفيه ما عرفت آنفا (3) وبمرسلة محمد بن إسماعيل (4) الواردة في
طين المطر ، لتصريحها بنفي البأس عن اصابته الثوب ثلاثة أيام إلا ان يعلم انه قد
نجسه شيء بعد المطر ، وهو دال على حصر البأس فيما إذا نجسه شيء بعد المطر ، فما
عداه لا بأس به ، وهو شامل لما إذا كانت الأرض نجسة قبل المطر. فيستفاد منه تطهير
المطر الأرض حينئذ. وفي الدلالة تأمل.
(الثالث) ـ الظاهر انه لا خلاف في ان ما يبقى من ماء
المطر بعد انقطاع المطر حكمه حكم القليل وان كان جاريا. وحكمه مع اختلاف سطوح
واستوائها كحكمه كما سيأتي ان شاء الله تعالى (5).
(الرابع) ـ هل يتقوى الماء الطاهر القليل بماء المطر حال
تقاطره ويعصمه من الانفعال بالملاقاة؟ لا ريب في ذلك على المشهور من جعل ماء المطر
كالجاري مطلقا واما على اعتبار الجريان أو الكثرة فيناط بحصول أحدهما. ورجح بعض
متأخري المتأخرين التقوى مع عدم الجريان والكثرة لا من حيث ان ماء المطر كالجاري
مطلقا بل من حيث عدم العموم في أدلة انفعال القليل بالملاقاة على وجه يشمل الفرع
المذكور.
(الخامس) ـ صرح العلامة (قدسسره) في جملة من
كتبه بان ماء المطر كالجاري ،
__________________
(1) في الصحيفة 218 السطر 6.
(2) المتقدمة في الصحيفة 216 السطر 1.
(3) في الصحيفة 219 السطر 18.
(4) المتقدمة في الصحيفة 216.
(5) في المسألة الثانية من الفصل الثاني.
مع انه شرط في الجاري الكرية ، فيلزمه
اشتراطها هنا ايضا. واعتذر عنه بأن مراده أنه كالجاري إذا كان كرا. وأورد عليه ان
سؤال الفرق متجه ، فلم اشترط الكرية في الجاري دونه. وأجيب بأن الفرق ظاهر ، فإن
أدلة انفعال القليل بالملاقاة لا معارض لها على وجه يصلح للمعارضة من اخبار الجاري
بخلاف اخبار ماء المطر ، فإنها صريحة في المعارضة ، وهي أخص من تلك الأخبار ، فوجب
تقييدها بها ، ومن ثم اشترطت الكرية ثمة دون ما نحن فيه.
وبعض محققي متأخري المتأخرين صرح بان الظاهر من كلام
العلامة (رحمهالله) اشتراط
الكرية في ماء المطر. ولم نقف على ما يقتضي ذلك في كلامه ، بل صريح كلامه في
التذكرة يقتضي عدم الاشتراط ، حيث قال : «لو انقطع تقاطر المطر وفيه نجاسة عينية
اعتبرت الكرية ، ولا تعتبر حال التقاطر ، ولو استحالت عينها قبل انقطاعه ثم انقطع
كان طاهرا وان قصر عن كر» انتهى.
(السادس) ـ استشكل بعض فضلاء متأخري المتأخرين في روايتي
الميزابين (1) بان ميزاب
البول ان سلم عدم تغييره ميزاب الماء فلا أقل من عدم استهلاكه بميزاب الماء ، فكيف
يحكم بطهارة الماء المختلط منهما؟ ثم احتمل حمل الاختلاط على ترشح ميزاب البول الى
ميزاب الماء ، فإذا أصاب الثوب لم يكن به بأس ، إذ الماء لم ينجس بذلك ، والترشح
من البول لم يعلم اصابته. وايضا قد استهلك في الماء الطاهر فصار طاهرا. ثم استبعده
واحتمل القول بان البول يطهر باختلاط ماء المطر وان لم يستهلك ، ثم قال : «وفيه
أيضا إشكال» ثم احتمل ايضا رد الروايتين لعدم صحة سندهما.
أقول : لا يخفى ان ما ذكره من الاشكال وان كان في بادئ
النظر ظاهر
__________________
(1) وهما صحيحة هشام بن الحكم ورواية محمد بن مروان المتقدمتان
في الصحيفة 215.