ج18 - أقسام المكاسب
المقدمة الثالثة
ويحسن هنا تقديم خبر في المقام ، قد اشتمل على قواعد
كلية في هذه الأحكام ، قل من تعرض اليه من علمائنا الاعلام ، وان طال به زمام
الكلام ، فإنه من أهم المهام.
روى الحسن بن على بن شعبة في تحف العقول عن مولانا
الصادق عليهالسلام ، انه سئل من
معايش العباد ، فقال : جميع المعايش كلها من وجوه المعاملات فيما بينهم مما يكون
لهم فيه المكاسب ، اربع جهات.
ويكون منها حلال من جهة وحرام من جهة ، فأول هذه الجهات
الأربع الولاية ، ثم التجارة ، ثم الصناعات ، تكون حلالا من جهة حراما من جهة ، ثم
الإجارات.
والفرض من الله تعالى على العباد في هذه المعاملات
الدخول في جهات الحلال ، والعمل بذلك الحلال منها ، واجتناب جهات الحرام منها.
فإحدى الجهتين من الولاية : ولاية ولاة العدل الذين أمر
الله تعالى بولايتهم على الناس. والجهة الأخرى ولاية ولاة الجور.
فوجه الحلال من الولاية : ولاية الوالي العدل ، وولاية
ولاته بجهة ما أمر به
الوالي العادل ، بلا زيادة ولا نقصان
، فالولاية له ، والعمل معه ، ومعونته ، وتقويته حلال محلل.
واما وجه الحرام من الولاية ، فولاية الوالي الجائر ،
وولاية ولاته ، والعمل لهم ، والكسب معهم ، لجهة الولاية لهم ، حرام محرم معذب
فاعل ذلك ، على قليل من فعله أو كثير ، لان كل شيء من جهة المعونة له ، معصية
كبيرة من الكبائر ، وذلك انه في ولاية الوالي الجائر وهن الحق كله ، فلذلك حرم
العمل معهم ، ومعونتهم ، والكسب معهم ، إلا بجهة الضرورة نظير الضرورة إلى الدم
والميتة.
واما تفسير التجارات في جميع البيوع ، ووجوه الحلال من
وجه التجارات التي يجوز للبائع ان يبيع مما لا يجوز له ، وكذلك المشتري الذي يجوز
له شراؤه مما لا يجوز له ، فكل مأمور به مما هو غذاء للعباد وقوامهم به ، في
أمورهم في وجوه الصلاح ، الذي لا يقيمهم غيره ، مما يأكلون ويشربون ويلبسون
وينكحون ويملكون ويستعملون في جميع المنافع ، التي لا يقيمهم غيرها ، وكل شيء
يكون فيه الصلاح ، من جهة من الجهات ، فهذا كله حلال بيعه وشراؤه ، وإمساكه
واستعماله ، وهبته وعاريته.
واما وجوه الحرام من البيع والشراء ، فكل أمر يكون فيه
الفساد مما هو منهي عنه من جهة اكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو
هبته أو عاريته ، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد ، نظير البيع بالربا أو
البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير ، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش والطير
أو الخمر ، أو شيء من وجوه النجس ، فهذا كله حرام ومحرم ، لان ذلك منهي عن اكله
وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلب فيه ، فجميع تقلبه في ذلك حرام.
وكذلك كل بيع ملهو به ، وكل منهي عنه ، ما يتقرب به لغير
الله تعالى ، أو يقوى به الكفر والشرك ، من جميع وجوه المعاصي ، أو باب يوهن به
الحق ، فهو حرام محرم بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلب فيه
الا في حال
تدعو الضرورة فيه الى ذلك.
واما تفسير الإجارات ، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك
أو يلي أمره ، من قرابته أو دابته أو ثوبه لوجه الحلال من جهات الإجارات ، أو يوجر
نفسه أو داره أو أرضه أو شيئا يملكه فيما ينتفع به ، من وجوه المنافع ، أو العمل
بنفسه وولده ومملوكه أو أجيره ، من غير ان يكون وكيلا للوالي أو واليا للوالي ،
فلا بأس ان يكون أجيرا يوجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته ،
لأنهم وكلاء الأجير من عنده ، ليس هم بولاة الوالي ، نظير الحمال يحمل شيئا بشيء
معلوم ، فيجعل ذلك الشيء الذي يجوز له حمله ، بنفسه أو بملكه أو دابته ، أو يوجر
نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه ، حلال لمن كان من الناس ملكا أو سوقة ، كافرا
أو مؤمنا ، فحلال إجارته ، وحلال كسبه ، من هذه الوجوه.
فاما وجوه الحرام من وجوه الإجارة ، نظير ان يوجر نفسه
في صنعة ذلك الشيء أو حفظه ، أو لبسه ، أو يواجر نفسه في هدم المساجد ضرارا ،
وقتل النفس بغير حل ، أو عمل التصاوير ، والأصنام ، والمزامير ، والبرابط ، والخمر
، والخنازير ، والميتة ، والدم ، أو شيء من وجوه الفساد الذي كان محرما عليه ، من
غير جهة الإجارة فيه ، وكل أمر نهى عنه من جهة من الجهات ، فمحرم على الإنسان
إجارة نفسه فيه ، أوله ، أو شيء فيه ، أوله ، إلا لمنفعة من استأجره ، كالذي
يستأجر له الأجير يحمل له الميتة ينحيها عن أذاه أو أذى غيره ، وما أشبه ذلك ـ الى
ان قال ـ : وكل من آجر نفسه أو آجر ما يملكه أو يلي أمره ، من كافر أو مؤمن ، ملك
أو سوقة ، على ما قررناه ، مما تجوز الإجارة فيه ، فحلال محلل فعله وكسبه.
واما تفسير الصناعات ، فكلما يتعلم العباد أو يعلمون
غيرهم ، من أصناف الصناعات ، مثل الكتابة والحساب والنجارة والصياغة والسراجة
والبناء والحياكة والقصارة والخياطة وصنعة صنوف التصاوير ، مما لم يكن مثل
الروحاني ، وأنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد ، منها منافعهم ، وبها
قوامهم ، وفيها بلغة جميع حوائجهم ،
فحلال تعلمه وتعليمه والعمل به لنفسه
ولغيره ، وان كانت تلك الصناعة وتلك الآلة قد يستعان بها على وجوه الفساد ووجوه
المعاصي ، وتكون معونة على الحق والباطل ، فلا بأس بصناعته وتعليمه ، نظير الكتابة
التي هي على وجه من وجوه الفساد ، وتقوية ومعونة لولاة الجور ، وكذلك السكين
والسيف والرمح والجوشن وغير ذلك من وجوه الإله التي تصرف الى وجوه الصلاح والفساد
، وتكون آلة ومعونة عليهما ، فلا بأس بتعلمه وتعليمه وأخذ الأجرة عليه والعمل به
وفيه ، لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق ، ومحرم عليهم فيه تصريفه الى
جهات الفساد والمضار ، فليس على العالم والمتعلم اثم ولا وزر ، لما فيه من الرجحان
في منافع جهات صلاحهم وقوامهم وبقائهم ، وانما الإثم والوزر على المتصرف بها في
وجوه الفساد والحرام.
وذلك انما حرم الله تعالى الصناعة التي هي حرام كلها
التي يجيء منها الفساد محضا ، نظير البرابط والمزامير والشطرنج ، وكل ملهو به ،
والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك ، من صناعات الأشربة الحرام ، وما يكون منه وفيه
الفساد محضا ، ولا يكون منه ولا فيه شيء من وجوه الصلاح ، فحرام تعليمه وتعلمه ،
والعمل به وأخذ الأجرة عليه ، وجميع التقلب فيه ، من جميع وجوه الحركات ، الا ان
تكون صناعة قد تصرف الى جهات المنافع ، وان كان قد يتصرف بها ويتناول بها وجه من
وجوه المعاصي ، فلعلة ما فيه من الصلاح حل تعلمه والعمل به ، ويحرم على من صرفه
الى غير وجه الحق والصلاح.
فهذا بيان وجه اكتساب معايش العباد وتعليمهم في وجوه
اكتسابهم. الحديث (1).
ورواه المرتضى عليه الرحمة في رسالة «المحكم والمتشابه».
وانما نقلناه بطوله لجودة مدلوله ومحصوله ، ومنه يستنبط
جملة من الأحكام التي وقع فيها الاشكال بين جملة من علمائنا الاعلام ، مثل
الاستيجار على
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 54. تحف العقول ص 331.
الصلاة ، كما توقف فيه بعض محدثي
متأخري المتأخرين ، ومثل التتن والقهوة ونحو ذلك ، فإنه ظاهر في جواز الأول وحل
الثاني ، وسيأتي الإشارة أيضا إنشاء الله تعالى إلى جملة من الفوائد التي اشتمل
عليها في مواضعها اللائق بها.
ويؤيد الخبر المذكور ما ذكره الرضا عليهالسلام في كتاب «الفقه»
حيث قال : اعلم يرحمك الله تعالى ان كل مأمور به على العباد ، وقوام لهم في أمورهم
، من وجوه الصلاح ، الذي لا يقيمهم غيره ، مما يأكلون ويشربون ويلبسون ويملكون
ويستعملون فهذا كله حلال بيعه وشراؤه وهبته وعاريته ، وكل أمر يكون فيه الفساد مما
قد نهى عنه ، من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه لوجه الفساد ، مثل الميتة
والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك ،
فحرام ضار للجسم وفساد للنفس (1). انتهى.
إذا عرفت ذلك فاعلم : ان ما يكتسب به ينقسم الى محرم ،
ومكروه ، ومباح. فهاهنا بحوث ثلاثة.
الأول ، في المحرم. وهو أنواع. فمنه : الأعيان النجسة.
ومنه : ما لا ينتفع به ، كالمسوخ برية أو بحرية. والسباع. ومنه : ما هو محرم في
نفسه ، كعمل الصور المجسمة ، والغناء ، ومعونة الظالمين ونحوه. مما سيأتي إنشاء
الله تعالى. ومنه : ما يحرم لتحريم ما يقصد به ، كآلات اللهو. ونحوها مما سيأتي ،
إنشاء الله. ومنه الأجرة على ما يجب فعله على الإنسان مما سيأتي إنشاء الله فهاهنا
مقامات :
الأول في الأعيان النجسة ، وفيه مسئلتان.
الأولى : يحرم بيع الأعيان ، كالعذرة من غير مأكول اللحم
والبول منه ايضا ، والدم ، والميتة ، والخنزير ، والكلب ، على تفصيل فيه يأتي
إنشاء الله تعالى ، والخمر بجميع أنواعه حتى الفقاع ، ونحو ذلك.
ومن الاخبار الواردة في المقام ما رواه في التهذيب عن
سماعة قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وانا حاضر ،
فقال : انى رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال : حرام بيعها
__________________
(1) مستدرك الوسائل. باب 2 من أبواب ما يكتسب به حديث : 1 فقه
الرضا ص 33.
وثمنها. وقال : لا بأس ببيع العذرة (1).
وعن يعقوب بن شعيب عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ قال : ثمن
العذرة من السحت (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مضارب عن ابى
عبد الله عليهالسلام ، قال : لا
بأس ببيع العذرة (3).
وما رواه في الفقيه عن ابى بصير قال : سألت أبا عبد الله
عليهالسلام عن ثمن كلب
الصيد ، فقال : لا بأس بثمنه ، والأخر لا يحل ثمنه. وقال أجر الزانية سحت ، وثمن
الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت ، وأجر الكاهن سحت ، وثمن الخمر سحت ، وثمن الميتة
سحت ، فاما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم (4).
وما رواه في الكافي عن السكوني عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : السحت
ثمن الميتة وثمن الكلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغي ، والرشوة في الحكم ، وأجر
الكاهن (5).
وعن عمار بن مروان ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الغلول ،
فقال : كل شيء غل من الامام فهو سحت ، الى ان قال : والسحت أنواع كثيرة ، منها :
أجر الفواجر ، وثمن الخمر ، والنبيذ المسكر ، والربا بعد البينة ، واما الرشا في
الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم جل اسمه وبرسوله (6). الى غير ذلك
من الاخبار الواردة في المقام.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به. حديث :
2.
(2) المصدر. حديث : 1.
(3) الوسائل ج 12 ص 127 حديث : 3.
(4) المصدر ص 63 حديث : 8.
(5) المصدر ص 62 حديث : 5.
(6) المصدر ص 61 حديث : 1.
والكلام يقع فيها في مواضع.
(الأول) : انه لا يخفى ان ما ذكرناه من الاخبار ، وان
كان انما اشتمل على بعض جزئيات ما ذكرناه من الأمر الكلي ، الا ان الخبر الذي
قدمناه في صدر المقدمة ، قد دل على ذلك حسبما عنونا به الكلام في هذا المقام.
ونقل في المنتهى إجماع المسلمين كافة على تحريم بيع
الميتة والخمر والخنزير. قال : قال الله تعالى «حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ» والمراد : تحريم
الأعيان ووجوه الاستمتاع.
وأنت خبير بأنه قد روى في التهذيب عن ابى القاسم الصيقل
، وولده ، قال : كتبوا الى الرجل عليهالسلام : جعلنا الله
تعالى فداك ، انا قوم نعمل السيوف ، وليست لنا معيشة ولا تجارة غيرها ، ونحن
مضطرون إليها ، وانما علاجنا من جلود الميتة من البغال والحمير الأهلية ، لا يجوز
في أعمالنا غيرها ، فيحل لنا عملها وشراؤها وبيعها ومسها بأيدينا وثيابنا ، ونحن
نصلي في ثيابنا ، ونحن محتاجون الى جوابك في المسألة يا سيدنا ، لضرورتنا. فكتب عليهالسلام : اجعلوا ثوبا
للصلاة (1). ونحوه حديث
آخر ـ ايضا ـ بهذا المعنى ، قد تقدم في كتاب الطهارة (2).
والخبر ان المذكوران ظاهران في خلاف ما دلت عليه الاخبار
المتقدمة ، من عدم جواز بيع الميتة ، وان ثمنها من السحت ، وانه لا يجوز العمل
بها.
ويؤيد هذين الخبرين ـ ايضا ـ ما ورد في حسنتي الحلبي أو
صحيحته ، من جواز بيع اللحم المختلط ذكية بميتة ممن يستحل الميتة (3). وسيأتي
الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى ، والمسألة محل الإشكال.
(الثاني) : ظاهر الروايات المتقدمة في العذرة ، الاختلاف
في حكم بيعها ،
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 125 حديث : 4.
(2) المجلد الخامس ص 63 ـ 64.
(3) الوسائل ج 12 ص 67 وص 68 حديث : 1 و 2.
حلا وحرمة.
والشيخ رضى الله عنه قد جمع بينها ، بحمل ما دل على
التحريم ، على عذرة الإنسان ، وما دل على الجواز ، على عذرة البهائم.
واحتمل في الذخيرة حمل الأول على الكراهة ، والثاني على
الجواز ، قال : لكني لا اعلم به قائلا.
وقد عرفت ما في هذا الحمل ، في غير موضع مما تقدم ، لا
سيما في كتابي الطهارة والصلاة ، فإن الخبرين الدالين على التحريم ، صريحان في ذلك
، وإخراجهما عن صريحهما يحتاج إلى قرينة واضحة ، ووجود ما ظاهره المعارضة ليس من
قرائن المجاز ، مع ان الكراهة حكم شرعي ، يتوقف على الدليل الواضح ، واختلاف
الاخبار لا يصلح ان يكون دليلا على ذلك ، لا سيما مع وجود محمل صحيح آخر تجتمع
عليه الاخبار.
وقال شيخنا المجلسي ـ رحمهالله عليه ـ في
حواشيه على كتب الاخبار : يمكن حمل عدم الجواز على بلاد ينتفع بها والجواز على
غيرها ، أو الكراهة الشديدة والجواز ، أو التقية في الحرمة ، فإن أكثرهم على
الحرمة ، بأن يكون قد أجاب المسائل علانية ، ثم رأى غفلة منهم ، فأفتى بعدم البأس
، لكنه خلاف المشهور بل المجمع عليه انتهى.
أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، والعمل على ما
ذكره الشيخ والأصحاب ، فإنه الحمل السديد.
نعم يبقى الكلام في عذرة غير الإنسان مما لا يؤكل لحمه.
والظاهر : أنه لا مستند لهم في تحريم بيعها ، إلا الإجماع المدعى في المقام ،
ويشكل بأن الشيخ في الاستبصار احتمل حمل العذرة في خبر الجواز على ما عدا عذرة
الإنسان مطلقا ، وهو يؤذن بجواز بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه.
قال في الذخيرة : وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ في
الاستبصار ، يقتضي جواز
بيع عذرة ما لا يؤكل لحمه من غير
الإنسان ، وادعاء الاتفاق على خلافه كما اتفق لصاحب المسالك ، محل اشكال. وبالجملة
ان ثبت إجماع في تحريم بيع شيء من العذرات ، فذلك ، والا كان الجواز متجها فيما
ينتفع به انتهى.
أقول : لا يخفى ان ما ذكره الشيخ في كتابي الاخبار في
مقام الجمع من الاحتمالات ، لا يوجب ان يكون ذلك مذهبا له ، لينا في دعوى الإجماع
في المقام ، ولو جعلت تلك الاحتمالات مذاهب له لم تنحصر مذاهبه في عد ، ولم تنته
الى حد ، فالتحقيق : ان المستند في تحريم بيع عذرة ما عدا الإنسان من غير مأكول
اللحم ، انما هو ما قدمناه من خبر تحف العقول صريحا ، وخبر الفقه الرضوي ظاهرا ،
لعده في الأول ما كان من افراد النجس في المحرمات ، ودلالة الثاني عليه بقوله «وما
أشبه ذلك» كما لا يخفى على المتأمل في سياق الخبر. وبذلك يظهر ما في قوله :
وبالجملة ان ثبت إجماع. إلخ.
(الثالث) : قد اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في
أرواث وأبوال ما يؤكل لحمه ، فذهب جماعة إلى جوازه مطلقا ، نظرا إلى أنها عين
طاهرة ينتفع بها ، وهو المنقول عن المرتضى ـ رضياللهعنه ـ ومن تبعه.
وادعى عليه الإجماع. وبه قال ابن إدريس والعلامة في المنتهى وغيره. والظاهر انه
المشهور.
وآخرون الى المنع من بيع العذرات والأبوال كلها ،
لاستخباثها إلا أبوال الإبل ، للاستشفاء بها ، وللنص عليها (1).
ونقله في المختلف عن المفيد ، حيث قال : قال المفيد :
وبيع العذرة والأبوال كلها حرام ، الا بول الإبل خاصة. ثم قال : وكذا قال سلار.
وقال في المسالك ـ بعد نقل القولين المذكورين ـ : والأول
أقوى ، خصوصا في العذرات ، للانتفاع بها في الزرع وغيره نفعا بينا مع طهارتها ،
واما الأبوال فكذلك ، ان فرض لها نفع مقصود ، والا فلا. انتهى.
__________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1012 حديث : 15.
ونقل جملة من المتأخرين عن الشيخ في النهاية تحريم جميع
الأبوال وان كانت مما يؤكل لحمه ، الا بول الإبل للاستشفاء. وعبارته هنا لا تخلو
من الإشكال ، فإنه قال : جميع النجاسات يحرم التصرف فيها ، والتكسب بها ، على
اختلاف أجناسها ، من سائر أنواع العذرة والأبوال وغيرهما ، الا بول الإبل
للاستشفاء به عند الضرورة. انتهى.
وهذا الكلام بالنظر الى صدره يقتضي صرف الأبوال التي
عدها ، الى أبوال ما لا يؤكل لحمه كالعذرة ، فان غيرها ليس بنجس ، وبالنظر الى
استثناء بول الإبل ، صرف الأبوال الى الأبوال مطلقا وان كانت مما لا يؤكل لحمه ،
وبالجملة فكلامه هنا مشتبه كما ترى.
وقال سلار : يحرم بيع الأبوال إلا بيع أبوال الإبل خاصة
، وهو قول المفيد ، كذا نقله في المختلف. وهو مؤذن بالمنع من بيع ما يؤكله لحمه
الا ما استثنى. والظاهر عندي هو ما ذكره في المسالك من الجواز متى كان لها منافع
تترتب عليها ، لعموم خبري تحف العقول والفقه الرضوي (1).
أقول : والأصحاب في هذا المقام لم يذكروا من الأبوال
التي دلت النصوص على جواز شربها ، من مأكول اللحم إلا أبوال الإبل خاصة ، مع انه
قد وردت الرخصة أيضا في بول البقر والغنم ، كما رواه الشيخ في الموثق ، عن عمار
الساباطي عن ابى عبد الله عليهالسلام ، انه سئل عن
بول البقر يشربه الرجل؟ قال : ان كان محتاجا اليه يتداوى به يشربه ، وكذلك بول
الإبل والغنم (2).
وما رواه سماعة قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن شرب الرجل
أبوال الإبل والبقر
__________________
(1) تحف العقول ص 331. والوسائل ج 12 ص 54. ومستدرك الوسائل
باب 2 من أبواب ما يكتسب به ، رقم : 1. فقه الرضا ص 33.
(2) الوسائل ج 2 ص 1012 حديث : 15.
والغنم ، ينعت له من الوجع ، هل يجوز
له ان يشرب؟ قال : نعم لا بأس به (1).
ومما يدل على بول الإبل زيادة على الخبرين المذكورين ،
ما رواه في الكافي بسنده عن موسى بن عبد الله بن الحسن ، قال : سمعت أشياخنا
يقولون : البان اللقاح شفاء من كل داء وعاهة ولصاحب الربو أبوالها (2).
ونقل في الوسائل في هذا الباب ما رواه عبد الله بن جعفر
في قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري ، عن جعفر عن أبيه ، ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : لا بأس
ببول ما أكل لحمه (3).
وأنت خبير بما فيه من الإجمال ، لاحتمال كون نفى البأس
باعتبار الطهارة ، لا باعتبار حل الشرب.
(الرابع) : ما اشتملت عليه الاخبار المتقدمة من تحريم
الميتة ، وان ثمنها سحت ، المراد به ما ينجس بالموت مما له نفس سائلة ، فيشمل ما
قطع من جسده ، حيا كان أو ميتا. واما تخصيص صاحب المسالك ومثله صاحب المعالم ذلك
بجسد الميت دون الاجزاء ، فهو ضعيف ، وقد تقدم البحث معهما في ذلك في كتاب الطهارة
، في بحث النجاسات وقد أوردنا جملة من الاخبار الصحيحة الصريحة فيما ذكرناه.
وظاهر الاخبار وكلام الأصحاب ، ان الطهارة والنجاسة
دائرتان مدار حلول الحياة وعدمه ، فكل ما تحله الحياة يكون نجسا ، ويكون الانتفاع
به محرما وثمنه سحتا ، بمقتضى الأخبار المتقدمة ، الا انه قد وقع الإشكال في ذلك
في جلد الميتة ، باعتبار دلالة ما تقدم من الاخبار ، في الموضع الأول على جواز
الانتفاع به ، وظاهر الصدوق في الفقيه طهارته ، لما رآه فيه من جواز جعل اللبن
والسمن فيه ، وكذا
__________________
(1) الوسائل ج 17 ص 88 حديث : 7.
(2) الكافي ج 6 ص 338. وفي المصدر المطبوع : «ولصاحب البطن
أبوالها» ، غير ان نسخة الوسائل ج 17 ص 88 حديث : 4 موافقة للمتن.
(3) الوسائل ج 2 ص 1012 حديث : 17.
الماء. واليه يميل كلام صاحبي المدارك
والمعالم ، وهو أشد إشكالا. وقد تقدم لبحث معهم في ذلك في كتاب الطهارة وبينا حمل
ما دل على ذلك على التقية.
والمشهور في كلام الأصحاب تحريم الاستصباح بما قطع من
أليات الغنم ، بناء على ما ذكرناه من انها ميتة ، والميتة لا ينتفع بشيء منها مما
تحله الحياة.
ونقل الشهيد عن العلامة جواز الاستصباح به تحت السماء ،
ثم قال : وهو ضعيف ، الا انه روى ابن إدريس في السرائر عن جامع البزنطي ، عن الرضا
عليهالسلام قال : سألته
عن رجل يكون له الغنم ، يقطع من ألياتها وهي أحياء ، أيصلح له ان ينتفع بما قطع؟
قال : نعم ، يذيبها ويسرج بها ولا يأكلها ولا يبيعها (1).
وروى هذه الرواية أيضا الحميري في قرب الاسناد عن عبد
الله بن الحسن عن جده على بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام مثله (2). والرواية
المذكورة كما ترى ظاهرة الدلالة في القول المذكور.
وظاهر شيخنا المجلسي ـ رحمهالله عليه ـ في
البحار : الميل الى العمل بهذه الرواية ، حيث قال ـ بعد نقل الخلاف في هذه المسألة
ـ : والجواز عندي أقوى ، لدلالة الخبر الصحيح المؤيد بالأصل على الجواز ، وضعف حجة
المانع ، إذ المتبادر من تحريم الميتة تحريم أكلها ، كما حقق في موضعه ، والإجماع
ممنوع انتهى.
وفيه : انه ـ وان كان المتبادر من الآية ، وهي قوله
تعالى «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ» انما هو تحريم
الأكل كما ذكره ـ الا ان الدليل ليس منحصرا فيها بل الدليل على ذلك : انما هو
الاخبار الصريحة في ان الميتة لا ينتفع بشيء منها.
ومن تلك الاخبار ما هو في خصوص موضع البحث ، وها أنا
أورد لك ما حضرني الان منها ، فمنها : ما رواه في الكافي عن الحسن بن على الوشاء ،
قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام فقلت : جعلت
فداك ، ان أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم ، فيقطعونها. فقال : حرام هي. فقلت :
جعلت فداك ، فنصطبح بها؟ فقال : أما عملت انه يصيب اليد والثوب ،
__________________
(1) السرائر ص 469.
(2) قرب الاسناد ص 115.
وهو حرام (1). وقوله : وهو
حرام اى نجس.
وعن الكاهلي قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام ، وانا عنده
عن قطع أليات الغنم ، فقال : لا بأس بقطعها إذا كنت تصلح بها مالك ، ثم قال : ان
في كتاب على عليهالسلام : ان ما قطع
منها ميت لا ينتفع به (2).
ومنها : ما في صحيح على بن المغيرة قال : قلت لأبي عبد
الله عليهالسلام : جعلت فداك
الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال لا. الحديث (3). ومن المحتمل قريبا في الحديث
المذكور خروجه مخرج التقية ، كما انهم ذهبوا الى طهارة جلد الميتة بالدباغ ، حسبما
قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة.
وابن إدريس ـ في السرائر ـ لما أورد خبر البزنطي المذكور
، قال : لا يلتفت الى هذا الحديث ، فإنه من نوادر الاخبار ، والإجماع منعقد على
تحريم الميتة والتصرف فيها بكل حال إلا أكلها للمضطر. انتهى.
واما ما لا تحله الحياة منها فهو طاهر يجوز الانتفاع به
ويحل بيعه وشراؤه اتفاقا ، نصا وفتوى ، الا اللبن في ضرع الشاة الميتة ، فقد اختلف
الأصحاب فيه طهارة ونجاسة ، فالمشهور : انه كغيره مما لا تحله الحياة ، وقد تقدم
تحقيق القول في ذلك في كتاب الطهارة.
(الخامس) : لا خلاف بين الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ في
جواز بيع كلب الصيد وعدم جواز بيع ما عداه ، وعدا كلب الماشية والزرع والحائط ،
وانما الخلاف في هذه الثلاثة ، فقال الشيخ في النهاية : ثمن الكلب سحت إلا إذا كان
سلوقيا للصيد ، فإنه يجوز بيعه وشراؤه وأكل ثمنه والتكسب به ، وكذا قال المفيد.
وقال في المبسوط : الكلاب ضربان ، أحدهما لا يجوز بيعه
بحال ، والأخر
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 255 حديث : 3.
(2) الكافي ج 6 ص 255 حديث : 1.
(3) الوسائل ج 2 ص 1080 حديث : 2.
يجوز ذلك فيه. فما يجوز بيعه : ما كان
معلما للصيد ، وروى ان كلب الماشية والحائط مثل ذلك ، وما عدا ذلك كله لا يجوز
بيعه ولا الانتفاع به.
وقال في الخلاف : يجوز بيع كلاب الصيد ، ويجب على قاتلها
قيمتها إذا كانت معلمة ، ولا يجوز بيع غير الكلب المعلم على حال.
قال في المنتهى ـ بعد نقل عبارة الشيخ في النهاية وكذا
الشيخ المفيد ـ عطر الله مرقديهما ـ : وعنى بالسلوقي كلب الصيد ، لان سلوق قرية
باليمن أكثر كلابها معلمة فنسب الكلب إليها انتهى. ومنه يظهر مراد الشيخ بهذه
العبارة ، وانها خرجت مخرج التجوز والكناية عن كلب الصيد ، لا تخصيص الحكم بما كان
من كلاب تلك القرية ، وبنحو ما عبر به الشيخ وقع التعبير في الاخبار ايضا ، كما في
جملة منها «دية الكلب السلوقي أربعون درهما». والمراد كلب الصيد ، سواء كان من هذه
القرية أو من غيرها.
وقال ابن الجنيد : ولا بأس بشراء الكلب الصائد والحارس
للماشية والزرع.
وقال ابن البراج : يجوز بيع كلب الصيد دون غيره من
الكلاب.
وقال ابن إدريس : يجوز بيع كلب الصيد ، سواء كان سلوقيا
وهو المنسوب الى «سلوق» قرية باليمن ، أو غير سلوقى. وكلب الزرع والماشية. وكلب
الحائط وبه قال ابن حمزة.
قال في المختلف : وهو الأقرب عندي. ونحو ذلك في المنتهى
ايضا. واختاره في المسالك ايضا.
وألحق بكلب الحائط كلب الدار ايضا. وتردد المحقق في
الشرائع ، ثم قال : والأشبه المنع.
ونقل في المنتهى عن الشيخ في باب الإجارة من المبسوط :
انه سوغ بيعها ، وحينئذ فيكون كلامه في الكتاب المذكور مختلفا.
أقول : والذي وصل إلينا من الاخبار المتعلقة بالكلب في
هذا الباب ، متفق
الدلالة ، متعاضد المقالة : على تخصيص
الجواز بكلب الصيد خاصة ، وان ما عداه ثمنه سحت. ومنها رواية أبي بصير المتقدمة.
ومنها ما رواه في الكافي عن عبد الله العامري ، قال : سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن ثمن الكلب
الذي لا يصيد ، فقال : سحت. قال : واما الصيود فلا بأس (1).
ومنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم وعبد
الرحمن بن ابى عبد الله عن ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ ، قال : ثمن
الكلب الذي لا يصيد سحت ، وقال : لا بأس بثمن الهر (2).
وعن ابى بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن ثمن كلب
الصيد؟ فقال : لا بأس بثمنه ، والأخر لا يحل ثمنه (3).
وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ متفقة على ما ذكرناه من
ان ما عدا كلب الصيد ، فإنه لا يجوز بيعه ولا شراؤه ، ولم أقف على خبر يتضمن
استثناء غيره ، سوى ما في عبارة المبسوط من قوله «وروى ان كلب الماشية والحائط مثل
ذلك». وفي الاعتماد على مثل هذه الرواية في تخصيص هذه الاخبار إشكال.
وأصحابنا القائلون باستثناء الثلاثة المذكورة ، انما
استندوا إلى مشاركة هذه الثلاثة لكلب الصيد في المنفعة التي يترتب عليها استثناؤه
، وهو من حيث العقل قريب. الا ان ظواهر النصوص المذكورة ـ كما ترى ـ تدفعه.
قال في المسالك : والأصح جواز بيع الكلاب الثلاثة
لمشاركتها كلب الصيد في المعنى المسوغ لبيعه ، ودليل المنع ضعيف السند وقاصر
الدلالة.
وفيه : انه يجوز ان يكون المسوغ ـ شرعا ـ انما هو هذه
المنفعة الخاصة بكلب الصيد ، فمن ثم اقتصروا ـ عليهمالسلام ـ في هذه
الاخبار عليها ، لا كل منفعة.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 83 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 12 ص 83 حديث : 3.
(3) الوسائل ج 12 ص 83 حديث : 5.
واما الطعن في الاخبار بضعف السند ،
فقد عرفت ان فيها الصحيح باصطلاحهم ، وهي صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن
المذكورة. واما الطعن بقصور الدلالة ، فهو ضعيف إذ لا أصرح في الدلالة على التحريم
من هذه الألفاظ الواردة في هذه الاخبار ، من قولهم في جملة منها : «ان ثمنه سحت».
وقوله في رواية أبي بصير : «والأخر لا يحل ثمنه».
واستدل العلامة في المنتهى على إباحة الثلاثة الباقية ـ زيادة
على ما تقدم ـ بان لها دية وقيمة لو أتلفت ـ على ما يأتي إنشاء الله ـ والدية
تستلزم التملك المستلزم لجواز التصرف.
وفيه : ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث
قال : وربما فهم بعضهم من ثبوت دياتها جواز بيعها ، نظرا إلى أنها أموال محترمة
كما في الحيوانات. وفيه : منع ظاهر ، فان ثبوت الديات لها ربما دل على عدم جواز
بيعها ، التفاتا الى أن ذلك في مقابلة القيمة ، فإنك تجد كل ماله دية لا قيمة له ،
كما في الحر. وماله قيمة لا دية له ، كما في الحيوان المملوك غير الأدمي انتهى ،
وهو جيد.
وبالجملة فالظاهر هو الاقتصار على ما دلت عليه الاخبار
المذكورة والله العالم.
(السادس) : ظاهر المشهور بين الأصحاب : انه لا بأس ببيع
الهرة وحل ثمنها ، وعليه تدل صحيحة محمد بن مسلم وعبد الرحمن المتقدمة (1).
قال في المسالك : واما الهرة فنسب جواز بيعها في التذكرة
إلى علمائنا وهو يعطى الاتفاق عليها انتهى.
ونقل في المختلف عن ابن البراج : انه قال : من باع هرة
فليتصدق بثمنها ، ولا يتصرف فيه في غير ذلك ، ثم قال : والوجه عدم وجوب ذلك. لنا
انها مملوكة فكان الثمن ملكه كغيرها. انتهى وهو جيد ، للصحيح المذكور.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 83 حديث : 3.
المسألة الثانية
لا يحل بيع المائع النجس نجاسة عارضة ، لنجاسته المانعة
من جواز الانتفاع به.
على المشهور بين الأصحاب ، عدا الدهن للاستصباح ، لورود الاخبار
به.
وهو مبنى على عدم قبول تلك المائعات للتطهير ، كما هو
الأشهر الأظهر ، واما على القول بقبولها للطهارة فإنه يجوز بيعها مع الاعلام.
قال : في المسالك ـ بعد قول المصنف بتحريم كل مائع نجس
عدا الأدهان لفائدة الاستصباح بها تحت السماء ـ ما لفظه : بناء على ان المائعات
النجسة لا تقبل التطهير بالماء ، فإنه أصح القولين. ولو قلنا بقبولها الطهارة جاز
بيعها مع الاعلام بحالها ، ولا فرق في عدم جواز بيعها ـ على القول بعدم قبولها
للطهارة ـ بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه وعدمها ، ولا بين الاعلام وعدمه ،
على ما نص عليه الأصحاب وغيرهم انتهى.
أقول : وقد تقدم البحث في قبولها الطهارة وعدمه في كتاب
الطهارة ، وبينا : ان الظاهر هو العدم بالنسبة إلى الدهن ، واما غيره فإنه لا يقبل
الطهارة إلا باضمحلاله
في الماء ، على وجه يخرج عن حقيقته
وماهيته ، وهذا لا يسمى في الحقيقة تطهيرا.
وظاهر الكفاية : المناقشة في الحكم المذكور ، حيث قال :
والمعروف ان المائعات التي لا تقبل التطهير لا يجوز بيعها سوى الأدهان لفائدة
الاستصباح. ونقل في المنتهى الإجماع عليه ، ولا حجة لذلك سواه ـ ان تم ـ وعموم
الأدلة مع حصول الانتفاع بها يقتضي الجواز ، انتهى وهو جيد.
واما بيع الأدهان لفائدة الاستصباح فظاهر الأصحاب :
الاتفاق عليه ، وعليه تدل الاخبار الاتية ، وظاهره ايضا الاتفاق على تخصيص ذلك
بالدهن المتنجس ، دون ما كان نجسا من أصله كالاليات المقطوعة من الغنم.
قال في المسالك ـ بعد نقل الخلاف في تخصيص الاستصباح
بكونه تحت السماء أو عمومه ـ ما لفظه : وموضع الخلاف ما إذا كان الدهن متنجسا
بالعرض ، فلو كان نفسه نجسا كالاليات الميتة والمبانة من حي ، لا يصح الانتفاع به
مطلقا ، لإطلاق النهي عن استعمال الميتة. ونقل عن العلامة جواز الاستصباح به تحت
السماء وهو ضعيف ، انتهى.
أقول : وقد تقدم من الاخبار ما يدل على كلام العلامة
المذكور هنا ، واختيار شيخنا المجلسي. وهو ايضا ظاهر صاحب الكفاية ، حيث نقل
الروايتين المتقدمتين الدالتين على ذلك ، بعد ان تنظر فيما ذكره في المسالك ،
وأيدهما بحسنتي الحلبي (1) الواردتين في
قطع اللحم المختلط ذكية بميتة ، وصحيحة حفص بن البختري (2) في العجين
بالماء النجس.
أقول ويؤيده أيضا روايتا الصيقل المتقدمتان (3) في الموضع
الأول.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 68 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 12 ص 68 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 68 حديث : 3.
والمسألة لذلك قوية الإشكال ، لتعارض
هذه الاخبار الواردة في هذا المجال.
بقي الكلام في انه هل يجب كون الاستصباح به تحت السماء ،
فلا يجوز تحت الظلال أم لا؟ ظاهر كلامهم : الأول. فنقل في المختلف عن الشيخين وابن
البراج : ان الدهن إذا وقعت فيه نجاسة ، جاز الاستصباح به ، فان دخانه يكون طاهرا
ولا يكون نجسا ، لأن الأصل الطهارة وبراءة الذمة ، والحكم بالنجاسة وشغل الذمة
يحتاج الى دليل.
وقال في المبسوط : الادهان إذا ماتت فيها فارة تنجس ،
ويجوز عندنا وجماعة الاستصباح به في السراج ، ولا يؤكل ولا ينتفع به في غير
الاستصباح ، وفيه خلاف. وروى أصحابنا : انه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، وهذا
يدل على ان دخانه نجس ، غير ان عندي ان هذا مكروه ، فاما دخانه ودخان كل نجس من
العذرة وجلود الميتة والسرجين والبعر وعظام الموتى عندنا ليس بنجس. واما ما يقطع
بنجاسته قال قوم : دخانه نجس. وهو الذي قدمناه من رواية أصحابنا. وقال آخرون ـ وهو
الأقوى ـ انه ليس بنجس.
وقال ابن إدريس : يجوز الاستصباح به تحت السماء ، ولا
يجوز الاستصباح به تحت الظلال ، لا لان دخانه نجس ، بل تعبدا ، لان دخان الأعيان
النجسة ورمادها طاهر عندنا بغير خلاف بيننا. ثم نقل كلام المبسوط ، ثم قال : قوله
: روى أصحابنا انه يستصبح به تحت السماء دون السقف ، هذا يدل على ان دخانه نجس ،
غير ان عندي ان هذا مكروه. ويريد به الاستصباح تحت السقف.
قال محمد بن إدريس : ما ذهب أحد من أصحابنا الى ان
الاستصباح به تحت الظلال مكروه ، بل محظور بلا خلاف منهم ، وشيخنا أبو جعفر محجوج
بقوله في جميع كتبه ، الا ما ذكره ها هنا ، والأخذ بقوله وقول أصحابنا أولى من
الأخذ بقوله المنفرد عن قول أصحابنا انتهى.
واعترضه العلامة في المختلف ، فقال ـ بعد نقل كلامه ـ :
وهذا الرد على شيخنا جهل منه وسخف ، فان الشيخ ـ رضوان الله عليه ـ اعرف بأقوال
علمائنا ، والمسائل الإجماعية والخلافية ، والروايات الواردة هنا في التهذيب مطلقة
غير مقيدة بالسماء ، ثم ساق صحيحة معاوية بن وهب وصحيحة زرارة الآتيتين إنشاء الله
تعالى ، ثم قال : وكذا باقي الأحاديث ، ثم قال : إذا عرفت هذا فنقول : لا استبعاد
فيما ذكره شيخنا في المبسوط من نجاسة دخان الدهن النجس ، لبعد استحالة كله ، بل لا
بد ان يتصاعد من اجزائه قبل احالة النار لها ، فتثبت السخونة المكتسبة من النار
الى ان يلقى الظلال فتتأثر بنجاسته ولهذا منعوا عن الاستصباح به تحت الظلال ، فان
هذا القيد مع طهارته لا يجتمعان ، لكن الاولى : الجواز مطلقا ، للأحاديث ، ما لم
يعلم أو يظن بقاء شيء من اجزاء أعيان الدهن ، فلا يجوز الاستصباح به تحت الظلال
انتهى.
أقول : والواجب أولا نقل الاخبار ، ثم الكلام فيها.
فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن
ابى جعفر ـ عليهالسلام ـ قال : إذا
وقعت الفأرة في السمن فماتت فيه ، فان كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ،
وان كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به ، والزيت مثل ذلك (1).
ومنها ما رواه أيضا الكليني والشيخ في الصحيح عن معاوية
بن وهب عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت
له. جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل ، فقال : اما السمن فيؤخذ الجرذ وما حوله ،
والزيت يستصبح به ،. وزاد في رواية التهذيب ، وقال في بيع ذلك الزيت : بعه وبينه
لمن يشتريه ليستصبح به (2).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 66 حديث : 2.
(2) الوسائل ج 12 ص 66 حديث : 1 و 4.
ومنها ما رواه أيضا في الصحيح عن سعيد الأعرج ـ وساق
الخبر ـ الى ان قال : وعن الفارة تموت في الزيت ، فقال : لا تأكله ولكن أسرج به (1).
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي قال : سألت أبا عبد
الله عليهالسلام عن الفأرة
والدابة تقع في الطعام والشراب فتموت فيه ، فقال : ان كان سمنا أو عسلا أو زيتا
فإنه ربما يكون بعض هذا ، فان كان الشتاء فانزع ما حوله وكله ، وان كان الصيف
فارفعه حتى تسرج به. الحديث (2).
وعن سماعة في الموثق قال سألته عن السمن تقع فيه الميتة
، فقال : إذا كان جامدا فألق ما حوله وكل الباقي. وقلت : الزيت؟ فقال : أسرج به (3).
وعن ابى بصير في الموثق ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفارة تقع
في السمن أو في الزيت فتموت فيه ، فقال : ان كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما
بقي ، وان كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته (4).
ومنها : ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب
الاسناد عن محمد بن خالد الطيالسي ، عن إسماعيل بن عبد الخالق ، قال : سأله سعيد
الأعرج السمان وانا حاضر ، عن السمن والزيت والعسل ، تقع فيه الفارة فتموت ، كيف
يصنع به؟ فقال : اما الزيت فلا تبعه ، الا لمن تبين له ، فيبتاع للسراج ، واما
الأكل فلا. واما السمن فان كان ذائبا فهو كذلك ، وان كان جامدا والفأرة في أعلاه ،
فيؤخذ ما تحتها وما حولها ، ثم لا بأس به ، والعسل كذلك ان كان جامدا (5).
__________________
(1) الوسائل ج 16 ص 462 حديث : 4.
(2) الوسائل ج 16 ص 462 حديث : 3.
(3) الوسائل ج 16 ص 462 حديث : 5.
(4) الوسائل ج 12 ص 66 حديث : 3.
(5) الوسائل ج 12 ص 67 حديث : 5.
ومنها : ما رواه الراوندي في كتاب النوادر ، بسنده فيه
عن موسى بن جعفر عليهالسلام ، في حديث قال
: وسئل عن الزيت يقع فيه شيء له دم فيموت ، فقال : يبيعه لمن يعمله صابونا (1).
__________________
(1) مستدرك الوسائل ج 1 ص 163 حديث : 8.
فوائد
(الاولى) : هذه الروايات
ـ على كثرتها ـ لا إشعار في شيء منها ، فضلا عن التصريح ، بما ذكروه من تقييد
الجواز بالاستصباح تحت السماء ، والمنع من كونه تحت الظلال ، حتى ذهب من ذهب الى
نجاسة دخانه لذلك كما عرفته من كلام الشيخ في المبسوط ، أو ان ذلك محض تعبد كما
ذكره في المختلف عن ابن إدريس. فإن الكل نفخ في غير ضرام ، ونزاع لا أصل له في
أخبارهم عليهمالسلام. وقد صرح بمثل
ما ذكرنا في المسالك (1).
(الثانية) : المفهوم من
كلام الأصحاب تخصيص الانتفاع بالدهن بصورة الاستصباح خاصة فلا يتعدى الى غيرها ،
بناء على تحريم الانتفاع بالنجس مطلقا ،
خرج منه ما وردت به اخبار الاستصباح المذكورة ، فيبقى ما
عداه.
قال في المسالك : واما الادهان النجسة نجاسة عارضية ،
كالزيت تموت فيه
__________________
(1) حيث قال : والمشهور بين الأصحاب تقييد جواز الاستصباح بها
بكونه تحت السماء ، بل ادعى عليه ابن إدريس في السرائر الإجماع. وفي الحكم
بالتخصيص نظر ، وفي دعوى الإجماع منع ، والصحيحة مطلقة ، والمقيد لها بحيث يجب
الجمع بينها غير معلوم ، فالقول بالجواز متجه ، واليه ذهب الشيخ في المبسوط ،
والعلامة في المنتهى. انتهى منه قده.
الفارة ، فيجوز بيعها لفائدة
الاستصباح بها. وانما خرج هذا الفرد بالنص ، والا لكان ينبغي مساواتها لغيرها من
المائعات النجسة ، التي يمكن الانتفاع بها في بعض الوجوه ، وقد ألحق بعض الأصحاب
ببيعها للاستصباح بيعها ليعمل صابونا ، أو ليدهن بها الأجرب ونحو ذلك ، ويشكل بأنه
خروج عن موضع النص المخالف للأصل ، فان جاز ، لتحقق المنفعة ، فينبغي مثله في
المائعات النجسة التي ينتفع بها ، كالدبس يطعم النحل ونحوه انتهى.
أقول : يمكن ان يقال : ان ذكر الاستصباح في هذه الاخبار
انما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، حيث انه أظهر وجوه الاستعمالات وأعم فوائدها ،
كما ان تخصيص المنع بالأكل فيها غير دال على الحصر فيه. ويؤيد ذلك خبر الراوندي
الدال على عمله صابونا ، كما ذهب اليه البعض الذي نقل عنه ذلك. ولعله استند الى
الخبر المذكور ، على انه لم يقم هنا ـ أعني بالنسبة الى ما نجاسته عارضية في
المائعات ـ ما يدل على عموم المنع من الانتفاع به ، والأصل وعموم الأدلة يؤيد ما
ذكرناه. واليه مال ـ ايضا ـ شيخنا المجلسي في البحار ، وقبله الفاضل في الذخيرة
والله العالم.
(الثالثة) : لا يخفى انه
على تقدير القول بوجوب الاستصباح بالدهن النجس تحت السماء ، فان الظاهر كون ذلك
تعبدا شرعيا ، كما ذكره ابن إدريس ، لا لنجاسة دخانه ، كما دل عليه كلام الشيخ
المتقدم ، والعلامة في المختلف ، لما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة ، من طهارة
الدخان والرماد ، وان كانا من النجاسات العينية.
وما ذكره العلامة هنا من التعليل ، ضعيف عليل ومحض تخرص
لا يروى الغليل. وأصالة العدم أظهر ظاهر في رده.
(الرابعة) قد دل صحيح
معاوية بن وهب ، وموثق ابى بصير ، وخبر قرب الاسناد (1) على الأمر
بالإعلام إذا أراد بيعه ، وحينئذ فلو باعه من غير اعلام فالظاهر
__________________
(1) تقدمت الروايات في ص 87.
ـ على قواعد الأصحاب ـ هو صحة البيع ،
وان أثم بمخالفة الأمر بالإعلام ويتخير المشترى بعد العلم.
واستشكل الجواز في المسالك ، بناء على تعليله
بالاستصباح. قال : فان مقتضاه الاعلام بالحال ، والبيع لتلك الغاية.
أقول : وتوضيحه : ان الشارع إذا كان انما جوز البيع
لفائدة الاستصباح خاصة فإذا لم يعلمه يكون قد اشتراه لغير تلك الفائدة ، وهي محرمة
، والبيع للفائدة المحرمة حرام ، فيكون باطلا.
وفيه : ما لا يخفى ، فإن الشيء إذا كان له في حد ذاته
منافع عديدة ، منها ما هو محرم ، ومنها ما هو محلل ، لا يجب في البيع قصد منفعة من
المنافع المحللة ، والا لبطل البيع في أكثر المبيعات وهي لا تخلو من المنافع
المحرمة ، كما لا يخفى.
وكيف كان ، فهو على تقدير تسليمه لا يجرى فيما اخترناه
مما قدمنا ذكره ، من جواز البيع ، لأي منفعة تترتب على ذلك.
وظاهر هذه الاخبار وجوب الإخبار بالنجاسة متى أريد بيعه
، مع انه قد تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة من الاخبار ، ما ظاهره كراهة الاخبار ،
لا سيما موثقة ابن بكير ، الدالة على جواز اعارة الثوب الذي لا يصلى فيه ، لمن
يصلى فيه (1) وصحيحة محمد
ابن مسلم ، الدالة على ان من رأى في ثوب أخيه دما وهو يصلى لا يعلمه ، حتى ينصرف
من صلاته (2).
ويؤيده ما تقدم تحقيقه في كتاب الطهارة ، من ان الطهارة
والنجاسة والحل والحرمة ليست من الأحكام النفس الأمرية ، وانما هي بالنظر الى علم
المكلف بنجاسته ، لا ما كان كذلك في الواقع.
وحينئذ فهذا الدهن ، وان كان نجسا ، باعتبار علم البائع
، الا انه بالنظر
__________________
(1) الوسائل ج 2 ص 1069 حديث : 3.
(2) الوسائل ج 2 ص 1069 حديث : 1.
إلى المشتري غير العالم طاهر ، والجمع
بين الاخبار في هذا المقام لا يخلو عن اشكال.
نعم لو قلنا بأن النجاسة من الأحكام النفس الأمرية ، كما
هو ظاهر الأصحاب ، اتجه القول بهذه الاخبار على ظاهرها.
لكن قد تقدم التحقيق في كتاب الطهارة ، بان الأمر ليس
كذلك ، بل هي انما بالنظر الى علم المكلف ، كما يدل عليه جملة من الاخبار المذكورة
ثمة ، ومنها الموثقة والصحيحة المذكورتان والله العالم.
المقام الثاني
فيما لا ينتفع به كالسباع والمسوخ
والمشهور في كلام المتقدمين تحريم التجارة في السباع
والمسوخ.
قال المفيد ـ عليه الرحمة ـ : التجارة في القردة والسباع
والفيلة والذئبة وسائر المسوخ حرام ، وأكل أثمانها حرام ، والتجارة في الفهود
والبزاة وسباع الطير ، التي بها يصاد حلال. وكذا حرم الشيخ في النهاية : بيع سائر
المسوخ وشراءها والتجارة فيها والتكسب بها ، مثل القردة والفيلة والذئبة وغيرها من
أنواع المسوخ ، وبيع جميع السباع ، والتصرف فيها ، والتكسب بها محظور ، الا الفهود
خاصة منها تصلح للصيد.
وقال سلار : يحرم بيع القردة والسباع والفيلة والذئاب.
وقال في المبسوط : الحيوان الذي هو نجس العين كالكلب
والخنزير وما تولد منهما وجميع المسوخ ، وما تولد من ذلك أو من أحدهما ، فلا يجوز
بيعه ولا إجارته ولا الانتفاع به ، ولا اقتناؤه بحال ، إجماعا ، إلا الكلب. ثم قال
: والظاهر ان غير مأكول اللحم مثل الفهد والنصر والفيل وجوارح الطير مثل الصقور
والبزاة والشواهين
والعقبان والأرانب والثعالب وما أشبه
ذلك ، فهذا كله يجوز بيعه ، وان كان مما لا ينتفع به فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف ،
مثل الأسد والذئب.
وقال ابن ابى عقيل : جميع ما يحرم بيعه وشراؤه ولبسه عند
آل الرسول ـ عليهمالسلام ـ بجميع ما
ذكرنا من الأصناف التي يحرم أكلها ، من السباع والطير والسمك والثمار والنبات
والبيض.
وقال ابن الجنيد : لا خير فيما عدا الصيود والحارس من
الكلاب ، وفي سائر المسوخ ، واختار في أثمان ما لا يؤكل لحمه من السباع والمسوخ ان
لا يصرف بائعه ثمنه في مطعم أو مشرب له ولغيره من المسلمين.
وقال ابن البراج : لا يجوز بيع ما كان مسخا من الوحوش.
ويجوز بيع جوارح الطير والسباع من الوحوش.
وقال ابن إدريس في سرائره ـ بعد نقل عبارة النهاية ـ :
قال محمد بن إدريس : قوله ـ عليه الرحمة ـ : والفيلة والذئبة. فيه كلام. وذلك ان
ما جعل الشارع وسوغ الانتفاع به فلا بأس ببيعه وابتياعه لتلك المنفعة ، والا يكون
قد حلل وأباح وسوغ شيئا غير مقدور عليه ، وعظام الفيل لا خلاف في جواز استعمالها
مداهن وأمشاطا وغير ذلك ، والذئب ليس بنجس السؤر بل هو من جملة السباع ، فعلى هذا
جلده بعد ذكاته ودباغه طاهر انتهى.
والظاهر : انه على هذه المقالة نسج المتأخرون كالفاضلين
ومن تأخر عنهما ، فإنهم جعلوا مناط الجواز طهارة العين وحصول المنفعة بجلد أو شعر
أو ريش أو عظم أو نحو ذلك.
قال في المختلف ـ بعد نقل الأقوال التي قدمنا ذكرها ـ :
والأقرب الجواز لنا : أنه عين طاهرة ينتفع بها ، فجاز بيعها. اما انها عين طاهرة
فلانا قد بينا فيما سلف طهارة المسوخ ، واما الانتفاع بها فلأنها ينتفع بجلودها
وعظامها ، واما جواز بيعها حينئذ فللمقتضى ، وهو عموم قوله تعالى «أَحَلَّ
اللهُ الْبَيْعَ» وزوال المانع ،
وهو
النجاسة ، إلى آخر كلامه زيد مقامه.
وهو المختار الذي تعضده الاخبار الجارية في هذا المضار ،
وهي التي عليها الاعتماد في الإيراد والإصدار.
ومنها : ما رواه في الكافي في الصحيح عن العيص بن القاسم
، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفهود
وسباع الطير ، هل يلتمس التجار فيها؟ قال : نعم (1). ورواه الشيخ
في الصحيح مثله.
وما رواه الشيخان المذكوران عن عبد الحميد بن سعيد ، قال
: سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن عظام الفيل
، يحل بيعه أو شراؤه ، الذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال : لا بأس ، قد كان لي منها مشط
أو أمشاط (2).
وما رواه في الكافي عن موسى بن يزيد قال : رأيت أبا
الحسن عليهالسلام يمتشط بمشط
عاج ، واشتريته له (3).
وما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه ، قال : سألته عن
جلود السباع وبيعها وركوبها أيصلح ذلك؟ قال : لا بأس ، ما لم يسجد عليها (4).
وما رواه الشيخ عن ابى مخلد ، قال : كنت عند ابى عبد
الله عليهالسلام إذ دخل عليه
معتب ، فقال له : بالباب رجلان ، فقال : أدخلهما فدخلا ، فقال أحدهما : انى رجل
سراج ، أبيع جلود النمر ، فقال : مدبوغة هي؟ قال : نعم. قال : ليس به بأس (5).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 123 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 12 ص 123 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 123 حديث : 3.
(4) الوسائل ج 12 ص 124 حديث : 5.
(5) الوسائل ج 12 ص 124 حديث : 1 قال بعض مشايخنا المحدثين من
متأخري المتأخرين : هذا الخبر يدل على مذهب من قال بعدم جواز استعمال جلود مالا
يؤكل لحمه بدون الدباغة ، ويمكن الحمل على الكراهة. منه قدسسره.
وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال ، سألته
عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : اما لحوم السباع ، والسباع من الطير فانا نكرهه
واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا شيئا منها تصلون فيه (1).
وعن سماعة ـ أيضا ـ عن ابى عبد الله عليهالسلام قال : سألته
عن لحوم السباع وجلودها؟ فقال : أما لحوم السباع فمن الطير والدواب فانا نكرهه ،
واما الجلود فاركبوا عليها ولا تلبسوا منها شيئا تصلون فيه (2).
وما رواه على بن أسباط عن على بن جعفر عن أخيه عليهالسلام ، قال : سألته
عن ركوب جلود السباع؟ قال : لا بأس ما لم يسجد عليها (3).
وما رواه البرقي (في المحاسن) عن سماعة قال : سئل أبو
عبد الله عليهالسلام عن جلود
السباع؟ فقال : اركبوا ولا تلبسوا شيئا تصلون فيه (4).
وهذه الاخبار ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة في كون السباع
قابلة للتذكية ، لإفادتها جواز الانتفاع بجلودها ، لطهارتها ، فيجوز بيعها
وشراؤها.
نعم ورد النهى عن القرد ، كما رواه الشيخان في الكافي
والتهذيب عن مسمع عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : ان
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن القرد
ان يباع أو يشترى (5). فيمكن
استثناء القرد بهذه الرواية من عموم الجواز المدلول عليه بالأصل والآية والرواية ،
مع احتمال حملها على الكراهة.
ولم نقف للقائلين بالتحريم ، على دليل يعتد به ، الا ان
يكون ما ذهب اليه الشيخ ، من نجاسة المسوخ ، وهو الذي نقله العلامة في المختلف.
__________________
(1) الوسائل ج 3 ص 256 حديث : 3 و 4.
(2) الوسائل ج 3 ص 256 حديث : 3 و 4.
(3) الوسائل ج 3 ص 256 حديث : 5.
(4) الوسائل ج 3 ص 256 حديث : 3 و 4.
(5) الوسائل ج 12 ص 124 حديث : 4.
قال : احتج المانعون بأنها نجسة فيحرم بيعها ، وبما رواه
مسمع ، ثم ساق الخبر المذكور ، ثم قال : والجواب : المنع من النجاسة. وقد تقدم.
وعن الحديث بالمنع من صحة السند ، والحمل على الكراهة جمعا بين الأدلة.
ومن هذا الباب في المنع : الحشرات ، والجري ، والطافي من السمك ، وهو ما مات في الماء ثم طفي على وجهه ، والضفادع ، والسلاحف. كذا صرح به جملة من الأصحاب.