ج5 - التطهير بالماء

البحث الثالث

في ما تزال به النجاسات

المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان المطهرات عشرة : الماء والشمس والأرض والنار والاستحالة والإسلام واستبراء الحيوان الجلال ونقص العصير والانقلاب والانتقال ، فالكلام هنا يقع في مطلبين :

(الأول) ـ في تطهير الماء وازالة النجاسة به وكيفية الإزالة وما يتعلق بذلك ويلحق به ، وفيه مسائل :

(الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وجوب المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب والبدن في غير بول الرضيع بل ظاهر المحقق في المعتبر


انه إجماع حيث قال بعد ذكر الحكم المذكور : وهذا مذهب علمائنا. إلا ان الشهيد في الذكرى بعد ان اختار التثنية عزى الى الشيخ في المبسوط عدم مراعاة العدد في غير الولوغ وهو ظاهر في المخالفة ، وما عزاه الى الشيخ قد جزم به في البيان فقال ولا يجب التعدد إلا في إناء الولوغ. ونقل في المعالم عن العلامة أنه اكتفى فيه بالمرة صريحا إذا كان جافا وانه يظهر من فحوى كلامه في جملة من كتبه الاكتفاء بها مطلقا حيث قال : ان الواجب هو الغسل المزيل للعين ، قال ومن البين ان زوال العين معتبر على كل حال وان مسمى الغسل يصدق بالمرة. انتهى. ومن ذلك يظهر ان الخلاف في المسألة والقول بإجزاء المرة مطلقا متحقق في كلام الأصحاب.

والأظهر ما هو المشهور من اعتبار المرتين في إزالة نجاسة البول عن الثوب والبدن للأخبار الصحيحة الصريحة :

ومنها ـ ما رواه الشيخان في الكافي والتهذيب في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله مرتين. وسألته عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن ابن ابي يعفور (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».

وعن محمد بن مسلم في الصحيح (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة». قال الجوهري : المركن الإجانة التي يغسل فيها الثياب.

وفي الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (4) قال : «سألته

__________________

(1 و 2 و 4) رواه في الوسائل في الباب 1 من النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 2 من النجاسات.


عن البول يصيب الثوب؟ قال اغسله مرتين».

وعن أبي إسحاق النحوي في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين».

وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب الجامع لأحمد بن محمد بن ابي نصر (2) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. وسألته عن الثوب يصيبه البول قال اغسله مرتين».

وفي الفقه الرضوي (3) «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره».

وما تضمنه جملة من هذه الاخبار من وجوب المرتين في البدن مما لم يظهر فيه خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا من صاحبي المدارك والمعالم لمزيد تصلبهما في هذا الاصطلاح الجديد فردا روايتي الحسين بن ابي العلاء وابي إسحاق النحوي بضعف السند واكتفيا بالمرة في البدن لذلك. وفيه ان الاولى حسنة والثانية صحيحة أو حسنة ويعضدهما رواية ابن ابي نصر المنقولة في السرائر وهي صحيحة لأنها منقولة من أصله المشهور بلا واسطة وبذلك يظهر ضعف ما ذهبا اليه. واما ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج في الصحيح (4) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن رجل يبول بالليل فيحسب ان البول اصابه فلا يستيقن فهل يجزيه ان يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه اصابه وينضح ما يشك فيه من جسده أو ثيابه. الحديث». فغايته ان يكون مطلقا فيجب تقييده بما ذكرناه من الاخبار.

واعتضد في المعالم فيما ذهب اليه من اجزاء المرة في البدن بأن العلامة في المنتهى قد اقتصر على الثوب في العبارة التي حكم فيها بوجوب المرتين وكذلك صنع في التحرير.

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 1 من أبواب النجاسات.

(3) ص 6.

(4) رواه في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.


وفيه ان عدم تعرضه لحكم البدن بالكلية لا يدل على حكمه بعدم التعدد والقول بالمرة فيه بل هو أعم من ذلك. واعتضد أيضا بأنه جزم في بحث الاستنجاء من المنتهى والنهاية بالاكتفاء فيه بالمرة إذا زالت العين وكذا في المختلف وحكى القول به عن ابي الصلاح وابن إدريس وقال انه الظاهر من كلام ابن البراج وهو قول سلار ايضا. وفيه انه من الجائز بل الظاهر ان مسألة الاستنجاء لها حكم غير هذه المسألة كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. وكيف كان فان المدار عندنا على النصوص وقد عرفت دلالتها على المدعى لا على القائل قل أو كثر فإنه محجوج مع المخالفة بما ذكرناه من النصوص ايضا.

واما من ذهب الى الاكتفاء بالمرة مطلقا كما تقدم نقله عن المبسوط والبيان فلم نقف له على دليل في الاخبار ولا في كلام الأصحاب بل الدليل كما عرفت على خلافه مكشوف الحجاب ، إلا ان العلامة في المنتهى قد احتج على ما ذهب اليه من الاكتفاء بالمرة مع الجفاف بوجهين : (أحدهما) ان المطلوب من الغسل انما هو ازالة العين والجاف ليس له عين فيكتفى فيه بالمرة. و (الثاني) ان الماء غير مطهر عقلا لأنه إذا استعمل في المحل جاورته النجاسة فينجس وهكذا دائما وانما عرفت طهارته بالشرع بتسميته طهورا بالنص فإذا وجد استعمال الطهور مرة عمل عمله من الطهارة. وأنت خبير بما فيه من الوهن والضعف الذي لا يحتاج الى تنبيه فان النصوص المتقدمة مطلقة شاملة بإطلاقها للبول بقسميه يابسا ورطبا وتخصيصها بمجرد هذه التعليلات مجازفة محضة ، وما ذكره من ان المطلوب من الغسل ازالة العين والأثر دعوى لا دليل عليها في نص ولا خبر ، إلا ان في الذكرى نقل ذلك رواية فقال اما البول فيجب تثنيته لقول الصادق (عليه‌السلام) «في الثوب يصيبه البول اغسله مرتين : الأولى للإزالة والثانية للإنقاء». وقد تقدمه في ذلك المحقق في المعتبر وذكر هذه الزيادة في رواية الحسين بن ابي العلاء فقال بعد قوله : وعن الثوب يصيبه البول قال : «اغسله مرتين الأولى للإزالة والثانية للإنقاء» والظاهر انها من كلام صاحب المعتبر وتبعه من تبعه في ذلك ظنا انها من أصل الخبر ، وهذه الزيادة


لا وجود لها في شي‌ء من كتب الاخبار وقد صرح بذلك أيضا في المعالم فقال : بعد نقل ذلك عن الذكرى والمعتبر : ولم أر لهذه الزيادة أثرا في كتب الحديث الموجودة الآن بعد التصفح بقدر الوسع ، ولو ثبتت لأمكن تقييد إطلاق تلك الاخبار بها فيخص ما دل على المرتين بما له عين لكن الكلام في ثبوتها.

تنبيهات

(الأول) ـ إطلاق روايات الحسين بن ابي العلاء وابي إسحاق النحوي وابن ابي نصر المنقولة من السرائر شامل لمخرج البول فيجب فيه المرتان بمقتضى ذلك ، إلا انهم قد اختلفوا أيضا في مسألة الاستنجاء وقد تقدم البحث فيها في محله ، وقد بينا ان الظاهر من الاخبار المذكورة في تلك المسألة هو وجوب المرة خاصة كما هو اختيار جملة من الأصحاب ، وذكرنا وجه الجمع بين اخبار تلك المسألة على تقدير هذا القول الذي اخترناه والاخبار المذكورة هنا ، وذلك لان اخبار تلك المسألة بناء على ما اخترناه مطلقة بالنسبة إلى الغسل ومقيدة بالنسبة إلى المغسول واخبار هذه المسألة مطلقة بالنسبة إلى المغسول من كونه مخرج البول أو غيره من الجسد ومقيدة بالنسبة إلى الغسل بالمرتين ، فوجه الجمع بينها اما بتخصيص عموم اخبار هذه المسألة باخبار الاستنجاء فيقال بوجوب المرتين في غير موضع الاستنجاء أو بتقييد اخبار الاستنجاء بهذه الاخبار فيقال بوجوب المرتين في الاستنجاء ، لكن الظاهر ان الترجيح للأول لمنع شمول اخبار المرتين لموضع النزاع بل الظاهر منها انما هو ما عداه من سائر الجسد فان المتبادر من هذه الروايات انما هو عروض النجاسة من خارج وتطرقها الى الثوب أو الجسد.

وكلام الأصحاب في هذا الباب غير منقح في كون المسألتين من باب واحد أو متعددتين وكما اختلفوا هنا فقد اختلفوا هناك ايضا ، والمحقق في المعتبر قد ادعى الإجماع في هذه المسألة على التعدد كما قدمنا ذكره ولم يدعه هناك وانما استدل برواية


نشيط بن صالح الدالة على المثلين (1) مع ما في دلالتها من الإجمال في البين ، وايدها بما روى من ان البول إذا أصاب الجسد يصب عليه الماء مرتين ، ولقد كانت هذه الروايات أصرح وأوضح واولى في الاستدلال لو كانت هذه المسألة من قبيل ما اشتملت عليه دون ان تجعل مؤيدة وغيره لم يشر إليها بالكلية ، وقد عرفت مما تقدم في كلام صاحب المعالم ان المسألتين عنده من باب واحد وانه يكتفي بالمرة فيهما. وفيه ما عرفت فإن الأظهر هو وجوب المرة في الاستنجاء والمرتين فيما عداه عملا بالظاهر من اخبار كل من المسألتين.

(الثاني) ـ الظاهر كما صرح به جماعة : منهم ـ الشهيد الثاني اعتبار الفصل بين المرتين ليتحقق العدد وصدق المرتين المأمور بهما في الاخبار ، واكتفى الشهيد في الذكرى باتصال الماء بقدر الغسلتين ، قال في المدارك : وهو مشكل نعم لو كان الاتصال بقدر زمان الغسلتين والقطع أمكن الاكتفاء به فيما لا يعتبر تعدد العصر فيه لان اتصال الماء في زمان القطع لا يكون أضعف حكما من عدمه. وفيه ان صدق التعدد في الصورة المذكورة مشكل والظاهر انه لا يصدق إلا مع القطع الحسي لا التقديري.

وقال في المعالم : ذكر جماعة من الأصحاب انه يكفي في المرتين التقدير فلو اتصل الصب على وجه لو انفصل لصدق التعدد حسا أجزأ ، ووجهه البعض بدلالة فحوى الاكتفاء بالحسي عليه. وهو على إطلاقه مشكل لأن دلالة الفحوى موقوفة على العلم بعلة الحكم في المنطوق وكونها في المفهوم أقوى وليست العلة هنا بواضحة. انتهى. أقول : الظاهر ان الإشارة بالبعض المذكور في كلامه الى صاحب المدارك وما نقلناه عنه هنا.

ثم قال في المعالم بعد كلام في البين : والذي يقوى في نفسي اعتبار صدق المرتين عرفا مع التراخي لأن المقتضي للفرق بين التراخي وعدمه ملاحظة تحقق المرتين المأمور بهما

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أحكام الخلوة.


والتراخي بمجرده غير كاف في صدقهما. انتهى. وهو يرجع الى ما قدمناه بعد نقل كلام صاحب المدارك من عدم صدق التعدد في الصورة المفروضة وانما يحصل بالقطع الحسي. نعم لو صحت الرواية التي ذكرها في الذكرى من تعليل المرتين بأن الأولى للإزالة والثانية للإنقاء أمكن ما ذكره في المدارك وسقط ما أورده عليه في المعالم لوجود العلة في المنطوق وحينئذ فإن اكتفى بذلك مع القطع الحسي فمع حصول الغسل بقدر زمان القطع ان لم يكن اولى بالاكتفاء لا أقل ان يكون مساويا لكن الخبر كما عرفت آنفا غير ثابت وانما المعلوم كون ذلك تعبدا شرعا فيقين البراءة لا يحصل إلا به ، ومن ذلك علم ان في المسألة أقوالا ثلاثة.

والشهيد (قدس‌سره) مع تصريحه هنا بالاكتفاء باتصال الماء بقدر الغسلتين صرح في الاستنجاء بأنه لا بد في حصول التعدد من الفصل حسا وبين الكلامين تناقض ظاهر ، وقد تقدم الجواب عنه في مسألة الاستنجاء من البول فليلحظ.

(الثالث) ـ قد صرحت صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة وكذا عبارة كتاب الفقه بالاكتفاء بالمرة في الغسل في الجاري ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب كالشهيدين والعلامة في التذكرة والنهاية والشيخ علي وصاحب المدارك وأضافوا الى الجاري الراكد الكثير ، وهو جيد. ويمكن ان يكون ذكر الجاري في الخبرين المذكورين انما هو من قبيل التمثيل لا من قبيل الحصر. واما قوله في كتاب الفقه «ومن ماء راكد مرتين». فينبغي حمله على الأقل من كر لينطبق على ظواهر الاخبار وكلام الأصحاب ، والصدوق في الفقيه قد عبر بعين عبارة كتاب الفقه. وقال في المنتهى في أحكام الأواني : الجسم النجس إذا وقع في الكثير من الراكد احتسب بوضعه في الماء ومرور الماء على اجزائه غسلة وان خضخضه وحركه بحيث تمر عليه اجزاء غير الأجزاء التي كانت ملاقية له احتسب بذلك غسلة ثانية كما لو مرت عليه جريات من الجاري. ومقتضى هذا الكلام اعتبار التعدد في الجاري والراكد الكثير ، ونقل عن الشيخ نجيب الدين في الجامع


التعدد في الراكد دون الجاري ، وصرح المحقق في المعتبر في مسألة الولوغ باعتبار التعدد في الكثير مطلقا إلا انه اكتفى في تحقق المرتين في الجاري بتعاقب الجريتين عليه ، وإطلاق عبارته في الشرائع ـ حيث قال : ويغسل الثوب والبدن من البول مرتين ـ يقتضي اعتبار التعدد في قليل كان أو كثير راكد أو جار.

والظاهر هو القول الأول للخبرين المذكورين ولا معارض لهما إلا إطلاق أخبار المرتين المتقدمة ، والظاهر تقييدها بالقليل كما هو الظاهر منها للتصريح بالصب في جملة منها والغسل في المركن في بعض.

بقي الكلام في ان مورد صحيحة محمد بن مسلم وعبارة كتاب الفقه الدالتين على المرة في الجاري انما هو الثوب خاصة وظاهر الأصحاب العموم للبدن ايضا فلو أراد إزالة نجاسة البول عنه في الجاري كفت المرة وكأنه لمفهوم الموافقة فإنه إذا ثبت ذلك في الثوب المتوقف على العصر لو كان الغسل في القليل ثبت في البدن بطريق اولى. وفيه ما فيه فتأمل.

(الرابع) ـ قد عرفت الخلاف في البول بالنسبة الى الثوب والبدن بقي الكلام بالنسبة إليه في غيرهما وغيره في غير الأواني ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ففي الذخيرة عن ظاهر جمع من الأصحاب طرد الحكم بالمرتين من نجاسة البول في غير الثوب والبدن مما يشبههما فتعتبر الغسلتان في ما يمكن إخراج الغسالة منه بالعصر من الأجسام الشبيهة بالثوب والصب مرتين فيما لا مسام له بحيث ينفذ فيه الماء كالخشب والحجر ، قال ولعلهم نظروا في هذه التعدية إلى المشابهة الصرفة أو مع ادعاء الأولوية في الفرع ، والأول قياس غير معتبر وإثبات الثاني مشكل ، فاذن الاقتصار على مورد النص غير بعيد كما نقل التصريح به عن بعض الأصحاب. انتهى. أقول : قد ذهب الشهيد في اللمعة والرسالة والمحقق الشيخ علي الى وجوب المرتين مطلقا من نجاسة البول وغيرها في الثوب والبدن وغيرهما عدا الأواني ، وذهب شيخنا الشهيد الثاني في الروضة إلى وجوب المرتين من نجاسة البول خاصة في الثوب والبدن وغيرهما والمرة الواحدة في غيره والنقل المذكور عن جمع من الأصحاب انما ينطبق على مذهب شيخنا الشهيد الثاني القائل بوجوب التثنية


من نجاسة البول مطلقا كائنة ما كانت ، إلا ان ما ذكره من التقييد بما يشبههما لم أقف عليه في كلامه بل ظاهره القول بوجوب التثنية من نجاسة البول مطلقا ، وما ذكره في توجيه التعدية فالظاهر بعده بل الظاهر ان الوجه في ذلك انما هو احتمال خروج الثوب والبدن في الاخبار مخرج التمثيل بناء على انه الفرد الغالب في ملاقاة النجاسة فلا يقتضي قصر الحكم عليهما وان خصوص السؤال عنهما لا يخصص. وقيل بوجوب المرة مطلقا وقد تقدم نقله عن الشيخ في المبسوط وبه جزم في البيان ، واعتبر في المعتبر المرة بعد ازالة العين أخذا بالإطلاق ، وأوجب العلامة في التحرير المرتين فيما له قوام وثخن كالمني دون غيره ، وقال في المنتهى النجاسات التي لها قوام وثخن كالمني أولى بالتعدد في الغسلات.

أقول : وتحقيق القول في هذا المقام بما يصل اليه الفهم القاصر من اخبارهم (عليهم‌السلام) هو وجوب المرتين من نجاسة البول في الثوب والبدن كما تقدم للأخبار المتقدمة ووجوب المرة فيما عدا ذلك لإطلاق الأمر بالغسل إذ لا ذكر للتعدد إلا في البول في الموضعين المذكورين والأواني على بعض الوجوه كما يأتي ونحن قد استثنيناها في صدر الكلام ، إذ الأمر بالماهية يصدق بالمرة والأصل يقتضي براءة الذمة من الزائد. نعم يبقى الكلام فيما له قوام وثخن كما ذكره العلامة فإن ظاهر قوله (عليه‌السلام) في حسنة الحسين بن ابي العلاء : «صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء». يدل بمفهومه على ان غير الماء أكثر عددا ويدل على انه أضعف حكما بالنظر الى الإزالة مما له قوام وثخن ، ويؤيده ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «ذكر المني فشدده وجعله أشد من البول». وهو ظاهر في ثبوت الأولوية في المني

(لا يقال) : ان مقتضى ما ذكرتم هو كون البول أضعف نجاسة من الدم إذ البول ماء كما ذكرتم والدم له ثخن وقوام ، مع ان الأمر بالعكس حيث انه قد عفي عن الدم في مواضع كما تقدم والبول لم يعف عن قليله ولا كثيره بل تجب إزالته كيف كان

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.


(لأنا نقول) الأحكام الشرعية لا مسرح للعقل فيها بالكلية بل هي تابعة للنصوص الشرعية وإثبات القوة والضعف موقوف على الدلالة الشرعية. ولا ريب ان مقتضى الخبرين المذكورين ان البول أضعف حكما بالنسبة إلى الإزالة مما له قوام وثخن وان كان بالنسبة إلى العفو أقوى إذ لا منافاة مع اختلاف الحيثية ، وحينئذ فيتجه المصير الى ما ذكره العلامة من التعدد في ما له قوام وثخن. إلا انه يمكن ان يقال ايضا ان ما ذكر في الخبرين المذكورين من الدلالة على أشدية نجاسة ما له ثخن وقوام لا يستلزم التعدد وانما غاية ما يلزم منه المبالغة في غسله وإزالته ، إذ لا يخفى ان الظاهر من الأخبار الدالة على التطهير من النجاسات ان الغرض من الغسل انما هو إزالة النجاسة من المحل وانه بالإزالة منه وقلعها يطهر المحل ولو بدفعة مشتملة على ماء كثير يقلعها ، والأمر بالتعدد في بعض النجاسات وان حصلت الإزالة قبل تمام العدد انما هو تعبد شرعي إذ لا يظهر له وجه سواه وحينئذ فمتى غسل المني دفعة بماء كثير يقلعه ويزيله وجب الحكم بالطهارة ولا يشترط فيه دفعة اخرى بعد زوال النجاسة لعدم الدليل على ذلك ، وشدته وقوته زيادة على البول انما هو باعتبار احتياجه الى مزيد فرك وزيادة ماء على غيره مما لا قوام له والتعدد في البول كما عرفت انما هو تعبد كغيره فلا يستلزم ان يحمل عليه ما لم يرد فيه تعدد لان الغرض الإزالة وقد حصلت بما ذكرناه. نعم لو صح الخبر الذي ذكره في الذكرى من ان العلة في التعدد ان الاولى للإزالة والثانية للإنقاء يعني الطهارة لربما أمكن الحكم بما ذكره من التعدد ولكن الشأن في ثبوته. وبالجملة فالظاهر ما عليه المشهور من المرة في غير البول في الثوب والبدن. والله العالم.

(المسألة الثانية) ـ المعروف من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف وجوب العصر في الثوب ونحوه مما يرسب فيه الماء فلو غسله ولم يعصره حتى جف بالهواء أو الشمس فهو باق على نجاسته كما صرح به جملة منهم.

إلا انهم اختلفوا هنا في موضعين (الأول) في مدرك وجوب العصر حيث لم


يقفوا على دليل يدل عليه من الاخبار كما ذكره بعض الأصحاب. فبين من علل ذلك بأنه لا يتيقن خروج النجاسة إلا به وبين من علله بأنه مأخوذ في حقيقة الغسل وبين من علله بأن الغسالة نجسة فيجب إخراجها. واحتج المحقق في المعتبر بأن النجاسة ترسخ في الثوب فلا تزول إلا بالعصر ، وبان الغسل انما يتحقق في الثوب ونحوه بالعصر وبدونه يكون صبا لا غسلا. واستدل عليه في التذكرة والنهاية يكون الغسالة نجسة فلا تحصل الطهارة مع بقائها. وجمع في المنتهى بين ما ذكره المحقق وما ذكره هو في الكتابين المذكورين. وعلله الشهيد في الذكرى بوجوب إخراج النجاسة وتبعه جمع من المتأخرين ، وربما أضاف إليه بعضهم الوجه المذكور في التذكرة والنهاية.

وكيف كان فلا يخفى ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة من المجازفة سيما مع ما هي عليه من تطرق الإيراد وعدم الاطراد : (اما الأول) فإنه أخص من المدعى لاختصاصه بصورة العلم بتوقف خروج النجاسة عليه والمدعى أعم من ذلك. و (اما الثاني) فلتطرق المنع إليه لغة وعرفا إذ الظاهر ان الغسل لغة وعرفا انما هو عبارة عما يحصل به الجريان والتقاطر في ثوب كان أو بدن أو غيرهما ، ويقابله الصب الذي هو عبارة عن وصول الماء خاصة من غير جريان ولا انفصال ويسمى بالرش ايضا كما وقع التعبير بهما معا في ملاقاة الكلب بيبوسة ، ومقتضى هذا الوجه وجوب العصر سواء قلنا بنجاسة الغسالة أو طهارتها وان القدر المعتبر منه ما يصدق معه مسمى الغسل في العرف حتى لو بقيت فيه اجزاء يمكن إخراجها بغير مشقة لم تضر إذا كان مفهوم الغسل قد تحقق بدون خروجها. و (اما الثالث) فلتطرق المنع إلى نجاسة الغسالة ، ومع تسليم ذلك فنمنع انحصار طريق الإزالة في العصر فإنه يحصل بالجفاف ايضا ، على ان العصر لا يشترط فيه إخراج جميع الرطوبة التي في الثوب ، وقد اعترف الأصحاب بطهارة المتخلف بعد العصر وان أمكن إخراجه بعصر أشد من الأول.

والتحقيق عندي في المقام وان لم يهتد إليه أولئك الاعلام ان أكثر الأخبار


المتقدمة وان خلا من ذكر العصر إلا ان كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (1) قد اشتمل عليه وبه يخص إطلاق تلك الاخبار ، وبه يظهر ان العلة انما هو النص دون ما ذكروه من هذه التخريجات ، والظاهر ان من ذكر العصر من المتقدمين ولا سيما الصدوقين الذين عبارتهما عين عبارة الكتاب في هذا المقام كما بيناه في شرحنا على كتاب الفقيه انما اعتمدوا على هذا الكتاب والمتأخرون قد أخذوا الحكم بذلك من كلام المتقدمين ولما خفي عليهم الدليل رجعوا الى هذه التعليلات العليلة فكل منهم علله بما ادى اليه نظره في المقام وبذلك يزول الإشكال في هذا المجال ، وقد تقدم نظير ذلك في غير مقام ويأتي مثله وأمثاله من الأحكام الجارية على هذا المنوال.

(الموضع الثاني) ـ انهم اختلفوا في تعدد العصر وعدمه فأوجب المحقق في المعتبر العصر مرتين فيما يجب غسله كذلك ، واكتفى بعضهم بعصر بين الغسلتين وبه صرح الشهيد في اللمعة ، وصرح الصدوق في الفقيه وكذا أبوه في الرسالة على ما نقله في المعالم بالعصر بعد المرتين وهو المذكور في الفقه الرضوي كما عرفت من عبارته المتقدمة والصدوقان انما أخذاه منها كما أشرنا إليه من ان عبارتيهما هنا عين عبارة كتاب الفقه بتغيير يسير ، ومتأخرو المتأخرين بناء على خفاء النص عليهم في المسألة قد أطالوا في تفريع هذا الخلاف على الخلاف المتقدم في الموضع الأول وتطبيقه عليه ، قال في المدارك بعد نقل هذه الأقوال الثلاثة : ويمكن بناء الأقوال الثلاثة على الوجه المقتضى لاعتبار العصر فان قلنا انه دخوله في مسمى الغسل وعدم تحققه بدونه كما ذكره المصنف في المعتبر وجب تعدده بتعدد الغسل قطعا ، وان قلنا انه زوال أجزاء النجاسة الراسخة في الثوب به اتجه اعتباره في الغسل الأول خاصة إذا حصلت به الإزالة ، وان قلنا انه نجاسة الماء بملاقاة الثوب كما ذكره في المنتهى اتجه الاكتفاء بعصر بعد الغسلتين لحصول الغرض منه وانتفاء الفائدة في فعله قبل الغسلة الثانية لبقاء النجاسة مع العصر وبدونه. ولا ريب

__________________

(1) ص 6.


ان ما ذهب اليه المصنف من التعدد أحوط وان كان الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين أقوى. انتهى. وما اختاره أخيرا من قوة الاكتفاء بالعصر الواحد بعد الغسلتين جيد لا لما ذكره بل لما ذكرناه من النص ، وما ذكره ايضا من الاحوطية لا بأس به وان كان للنظر فيه مجال.

فوائد : (الأولى) ـ قال في التذكرة : لو جف الثوب من غير عصر ففي الطهارة إشكال ينشأ من زوال النجاسة بالجفاف والعدم لأنا نظن انفصال أجزاء النجاسة في صحبة الماء بالعصر لا بالجفاف. وقال الشهيد في البيان : لو أخل بالعصر في موضعه فالأقرب عدم الطهارة لأنا نتخيل خروج أجزاء النجاسة به. وفي الذكرى الأولى الشرطية يعني في العصر لظن انفصال النجاسة مع الماء بخلاف الجفاف المجرد. وقال في المعالم بعد نقل ذلك عنهم : وأنت إذا أحطت خبرا بما قلناه في المسألة يتضح لك الحال في هذا الفرع لان العصر ان أخذ قيدا في ماهية الغسل أو توقف عليه خروج النجاسة لم يغن عنه الجفاف وان اعتبر لإخراج الغسالة فلا ريب في كون الجفاف مخرجا لها وما ذكراه من الظن والتخيل ليس بشي‌ء كيف وهذا الظن في أكثر الصور لا يأتي والنخيل في الأحكام الشرعية لا يجدي. انتهى.

أقول : لا يخفى ان الظاهر ان هذا الإشكال الذي ذكره في التذكرة ونحوه ما ذكره في البيان والذكرى انما نشأ من التردد في الدليل على وجوب العصر وتردده بين الوجوه المتقدمة ، وإيراده في المعالم عليهم انما يتم مع اختيار دليل بخصوصه وكلامهم ليس مبنيا عليه فلا وجه لا يراد ما أورده. وكيف كان فقد ظهر لك مما أوضحناه سابقا سقوط هذا البحث من أصله فلا وجه للتفريع عليه لان النص قد دل على وجوب العصر فلا تحصل الطهارة إلا به.

(الثانية) ـ قال في المدارك في شرح قول المصنف : ويعصر الثوب من النجاسات كلها : «إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في اعتبار العصر مرتين بين القليل


والكثير وربما كان الوجه فيه ما ادعاه المصنف (قدس‌سره) من عدم تحقق الغسل بدونه وهو ضعيف جدا. وجزم العلامة في التذكرة والنهاية ومن تأخر عنه باختصاص الحكم بالقليل وسقوطه في الكثير ووجهه معلوم مما قررناه» انتهى.

أقول : لا ريب ان الحكم بالعصر مرتين في الكثير يترتب على أمرين : (أحدهما) وجوب تعدد الغسل في الكثير ليكون العصر بعد كل غسلة و (ثانيهما) كون العلة في العصر هو انه مأخوذ في معنى الغسل ، وكل من الأصلين المذكورين لهذا الفرع قد صرح بهما المحقق المذكور ، وحينئذ فالحكم بالضعف في هذا الحكم يرجع الى ضعف ما بنى عليه من الحكمين المذكورين. وكيف كان فالحق ما ذكره من اختصاص العصر بالقليل لا لما أشار إليه بقوله : «ووجهه معلوم مما قررناه» بل لما دل عليه كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (1) من انه ان غسل في ماء جار كفت المرة من غير عصر وان غسل في ماء راكد فمرتان بعدهما عصر واحد. وقد أشرنا سابقا الى ان مراده (عليه‌السلام) بالراكد ما كان أقل من الكر.

(الثالثة) ـ اعتبر العلامة في النهاية والتحرير في طهارة الجسد ونحوه من الأجسام الصلبة دلكه ، لما فيه من الاستظهار في إزالة النجاسة ، ولقوله (عليه‌السلام) في رواية عمار (2) وقد سأله عن القدح الذي يشرب فيه الخمر : «لا يجزيه حتى يدلكه بيده ويغسله ثلاث مرات». ولا يخفى ما فيه من تطرق القدح فان الاستظهار مع تسليمه انما يصلح دليلا للاستحباب لا للوجوب ، وقياس البول على الخمر في القدح قياس مع الفارق فإنه يمكن ان يكون الأمر بالدلك في الخبر المذكور لخصوصية النجاسة المذكورة كما اختصت بالثلاث أو لخصوصية المحل أو لهما معا ، إذ لا يخفى ان القدح الذي من الخشب مظنة لعلوق بعض اجزاء الخمر به فتحتاج طهارته إلى الزيادة على مجرد الصب وربما كان الخمر أشد لصوقا بمحله من البول كما هو ظاهر ، فمن المحتمل قريبا ـ بل هو الظاهر ـ ان

__________________

(1) ص 6.

(2) رواه في الوسائل في الباب 51 من أبواب النجاسات.


الأمر بالدلك لعدم العلم بزوال العين بدونه ، وبذلك يظهر ضعف الإلحاق بالخمر في القدح والقياس عليه ، هذا مع ان الرواية المذكورة معارضة بما رواه هذا الراوي أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) من الاكتفاء في غسل الإناء من الخمر بالمرة الخالية من الدلك (1) كما سيأتي ذكر ذلك في محله ان شاء الله تعالى. ويظهر من المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى الميل الى الاستحباب. وكلام جماعة من الأصحاب خال من التعرض لذلك بالكلية. وكيف كان فلو توقفت الإزالة على الدلك وجب قطعا.

(الرابعة) ـ قد نص جملة من الأصحاب القائلين بوجوب العصر على ان ما يتعذر فيه العصر يكتفى فيه بالدق والتغميز ، وفي بعض عبارات العلامة التقليب والدق قال في المنتهى : ولو كان المتنجس بساطا أو فراشا يعسر عصره غسل ما ظهر في وجهه ، وان سرت النجاسة في اجزائه غسل الجميع واكتفى بالتقليب والدق عن العصر للضرورة. وظاهره ان العلة فيما ذكره من التقليب والدق هو ضرورة عدم إمكان العصر فجعل ذلك قائما مقامه للضرورة. ووقع في كلام جماعة من المتأخرين تبعا للشهيد في الذكرى تعليل ذلك بالرواية.

والذي وقفت عليه مما يتعلق بهذا المقام روايات ثلاث :

إحداها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن إبراهيم بن ابي محمود (2) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) الطنفسة والفراش يصيبهما البول كيف يصنع بهما وهو

__________________

(1) ليس في كتب الحديث خبر لعمار يدل على كفاية المرة في غسل الإناء من الخمر ويمكن ان يكون نظره الى موثقة الوارد في كيفية غسل الإناء وانه يصب فيه الماء فيحرك فيه ثم يفرغ منه هكذا ثلاث مرات ، ولم يتعرض في مقام البيان للدلك ، فيكون مراده بالاكتفاء بالمرة الخالية من الدلك الاكتفاء بالغسلة الخالية من الدلك في كل من الغسلات الثلاث وقد رواه في الوسائل في الباب 53 من النجاسات.

(2) رواه في الوسائل في الباب 5 من أبواب النجاسات.


ثخين كثير الحشو؟ قال يغسل ما ظهر منه في وجهه».

والثانية ـ ما رواه في الكافي عن إبراهيم بن عبد الحميد في الصحيح أو الموثق (1) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول فينفذ الى الجانب الآخر وعن الفرو وما فيه من الحشو؟ قال اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فان أصبت مس شي‌ء منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء».

والثالثة ـ ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن علي بن جعفر ورواه علي بن جعفر أيضا في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الفراش يكون كثير الصوف فيصيبه البول كيف يغسل؟ قال يغسل الظاهر ثم يصب عليه الماء في المكان الذي اصابه البول حتى يخرج من جانب الفراش الآخر».

وهذه الروايات ـ كما ترى ـ لا تعرض في شي‌ء منها لما ذكروه من الدق والتغميز والتقليب ، وغاية ما تدل عليه الاولى هو غسل ما ظهر في وجهه من غير تعرض لما بطن منه ، وغاية ما تدل عليه الثانية هو غسل الجانبين مع نفوذ النجاسة ، إلا ان الظاهر ان المراد هو غسل الجانبين وما بينهما في الباطن من الحشو كما تدل عليه رواية علي بن جعفر (عليه‌السلام) وكيف كان فغاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو غسل الجميع ولا تعرض فيها لذكر الدق ولا غيره مما ذكروه بل ظاهرها هو صب الماء عليه بحيث ينفذ منه ويجري مع تعدي النجاسة إلى الطرف الآخر والعلم بوصولها الى الباطن ، وإلا فإنه يكتفى بمجرد الرش على الطرف الآخر إذا لم يصب فيه النجاسة التي وقعت في ذلك الطرف. ولا يخفى ما في هذه الاخبار من الدلالة على السعة في تطهير النجاسات وظهورها في طهارة الغسالة ، وبذلك يظهر ان نسبة الشهيد (قدس‌سره) ومن تبعه المستند في هذا الحكم إلى الرواية ليس في محله ، ولعل السبب في نسبة الشهيد ذلك الى الرواية هو ما ذكره في المنتهى حيث انه بعد ذكر خبر إبراهيم بن ابي محمود أولا قال انه محمول على

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 5 من النجاسات.


ما إذا لم تسر النجاسة في اجزائه واما مع سريانها فيغسل جميعه ويكتفى بالتقليب والدق عن العصر. وجعل الخبر الثاني شاهدا على هذا التفصيل ، هذا حاصل كلامه في المقام ، فكأن الشهيد من هذا الكلام أخذ الاحتجاج بالرواية وإلا فليس في المسألة رواية غير ما ذكرناه. والله العالم.

(المسألة الثالثة) ـ اعلم ان ههنا أشياء لا تنفصل عنها الغسالة بنفسها ولا بالعصر ولا الدق ولا الغمز الذي أوجبوه وقد وقع الخلاف والاشكال في تطهيرها ، وذلك مثل الصابون والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى ومثل الصابون أيضا إذا انتقع في الماء النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا ايضا فيه ومثل المائع من الدهن المتنجس ونحوه ومثل التراب ، وظاهر كلام جملة من الأصحاب اختصاص الطهارة على القول بها بالكثير فلا تقع بالقليل من حيث عدم خروج ماء الغسالة عن المحل وانفصاله عنه فلا تحصل الطهارة إلا بالكثير ونحوه.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامات (الأول) في الصابون والفواكه وما الحق بهما ، نقل في المدارك عن جمع من الأصحاب ان ما لا تنفصل عنه الغسالة كالصابون والورق والفواكه والخبز والحبوب وما جرى هذا المجرى لا يطهر بالغسل في القليل بل تتوقف طهارته على غسله في الكثير ، ثم قال : وهو مشكل (أما أولا) فللحرج والضرر اللازم من ذلك. و (اما ثانيا) فلان ما يتخلف في هذه المذكورات من الماء ربما كان أقل من المتخلف في الحشايا بعد الدق والتغميز وقد حكموا بطهارتها بذلك. و (اما ثالثا) فلعدم تأثير مثل ذلك في المنع مع إطلاق الأمر بالغسل المتحقق بالقليل والكثير. انتهى. وهو جيد ، ويؤيده ما قدمنا من الروايات الدالة على حكم الفرش والحشايا فإنها بإطلاقها إنما دلت على الغسل الذي هو كما حققناه سابقا عبارة عن كثرة الماء بحيث يجري وينفصل عن محل النجاسة.

واما ما أورده في الذخيرة على الوجه الثالث ـ حيث قال بعد نقل كلامه :


وفي الأخير نظر لانه ليس في الأدلة فيما اعلم ما دل على الأمر بالغسل في كل مادة بحيث يشمل مورد النزاع لاختصاصها بالبدن والثوب وبعض الموارد الخاصة فتعدية الحكم الى غيرها يحتاج الى دليل. انتهى ـ ففيه ان اللازم مما ذكره أحد أمرين وهو اما بقاء تلك الأشياء على النجاسة وعدم قول التطهير أو طهارتها من غير ماء ، وبطلان الأمرين أظهر من ان يخفى على ذي روية. والتحقيق ان الطهارة بالغسل لا خصوصية لها بهذه الجزئيات التي وردت بها النصوص حتى يحتاج فيها الى طلب الدليل ويقال انه لا بد في طهارة كل جزئي من الأشياء المتنجسة من نص عليه بخصوصه فإنه مجرد سفسطة ظاهرة بل التحقيق ان تلك الجزئيات الواردة في النصوص انما خرجت مخرج التمثيل لا على جهة الاختصاص وحينئذ فيصير الحكم كليا ، وهذا البحث لا يختص بهذا الموضع بل هو جار في جميع الأحكام الشرعية من طهارة ونجاسة وصحة العبادة وبطلانها بالمبطلات ونحو ذلك ولا قائل به البتة. ولا يخفى على المتأمل في الأحكام والمتدبر في القواعد المقررة بين علمائنا الاعلام إن الأحكام الشرعية لم ترد عنهم (عليهم‌السلام) بقواعد كلية إلا نادرا وانما صارت قواعد كلية بينهم بتتبع الجزئيات الواردة عنهم كالقواعد النحوية المبنية على تتبع كلام العرب كما لا يخفى.

(المقام الثاني) ـ في ما انتقع في الماء النجس ، قال العلامة في المنتهى : الصابون إذا انتقع في الماء النجس والسمسم والحنطة إذا انتقعا كان حكمها حكم العجين ، ثم نقل عن بعض العامة انه قال : الحنطة والسمسم إذا تنجسا بالماء واللحم إذا كان مرقه نجسا يطهر بان يغسل ثلاثا ويترك حتى يجف في كل مرة فيكون ذلك كالعصر ، ثم قال وهو الأقوى عندي لأنه قد ثبت ذلك في اللحم مع سريان اجزاء الماء النجسة فيه فكذا ما ذكرناه. انتهى. والظاهر من قوله : كان حكمها حكم العجين يعني في عدم قبول التطهير بالماء فان ذلك مذهبه في العجين كما هو المشهور.

بقي الكلام في تقويته لما نقله عن بعض العامة من الغسل ثلاثا والتجفيف بعد كل


غسلة لقيامه مقام العصر ، فإنه محل اشكال حيث انه لم يعهد ذلك من مذهبه في كل من الموضعين ، وتأول كلامه بعض محققي متأخري المتأخرين بأنه ليس مراده إلا إثبات القبول للتطهير واما اعتبار التعدد والجفاف فغير منظور اليه. وأيده بتعليل الحكم بحال اللحم مع ان الحكم فيه كما ذكره هو وغيره انما هو طهارته بالغسل إذا وقع في مرقه ما يقتضي تنجيسه فلو أراد تقوية ما زاد على الغسل لم يكن التعليل وافيا بإثبات المدعى ، وأيده أيضا بأنه اقتصر في النهاية على الحكم بقبولها التطهير فقال بعد ان حكم بعدم طهارة الصابون والعجين بالغسل : اما السمسم والحنطة إذا انتقعا في النجس فالأقوى قبولهما للطهارة وكذا اللحم إذا تنجست مرقته. أقول : ما ذكره (قدس‌سره) من التأويل وان كان لا يخلو من قوة إلا انه لا يخفى على من له انس باختلاف أقوال العلامة في المسألة الواحدة في كتبه بل في كتاب واحد انه لا يبعد حمل كلامه هنا على ظاهره.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الذي دل على حكم اللحم المذكور هنا روايتان إحداهما رواية السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «ان أمير المؤمنين (عليه‌السلام) سئل عن قدر طبخت فإذا في القدر فأرة؟ قال يهراق مرقها ويغسل اللحم ويؤكل». والأخرى رواية زكريا بن آدم (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن قطرة خمر أو نبيذ مسكر قطرت في قدر فيها لحم كثير ومرق كثير؟ قال يهراق المرق أو يطعمه أهل الذمة أو الكلاب واللحم اغسله وكله». وظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف القول بمضمونهما وعندي في ذلك على إطلاقه إشكال وذلك فإنه ان كانت النجاسة قد رفعت بعد وقوعها بحيث لم تسر النجاسة إلا الى المرق وظاهر اللحم فلا اشكال وان كانت قد بقيت في القدر مدة بحيث على بها القدر وسرت نجاسة المرق الى باطن اللحم كما هو ظاهر عبارة العلامة المتقدمة فكيف يطهر بمجرد غسل ظاهره والنجاسة قد سرت إلى

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من الماء المضاف و 44 من الأطعمة المحرمة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 38 من النجاسات و 26 من الأشربة المحرمة.


باطنه كما هو المفروض؟ نعم لو علم وصول الماء المطهر الى الباطن وكان في ماء كثير فالقول بالطهارة متجه ، ولا فرق حينئذ بين اللحم ولا غيره مما انتقع في ماء نجس وسرت النجاسة إلى باطنه. والى ما ذكرنا يشير كلام الشهيد في الذكرى حيث قال : والظاهر طهارة الحنطة واللحم وشبهه مما طبخ بالماء النجس بالكثير إذا علم التخلل. وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة الأخير الدال على التطهير مطلقا.

واما العجين الذي عجن بالماء النجس فظاهر كلامه الأول عدم قبوله التطهير ومثله كلامه في النهاية ، وذلك لانه قد عجن بالماء النجس وقد سرت النجاسة الى جميع اجزائه فطهره لا يكون إلا باستيلاء الماء الطاهر عليه ووصوله الى كل جزء والظاهر انه لا يحصل ذلك إلا بذهاب عين العجين ، الا انه في التذكرة قد صرح بقبوله التطهير فقال : العجين النجس إذا مزج بالماء الكثير حتى صار رقيقا وتخلل الماء جميع اجزائه طهر. وظاهر الذكرى اختيار ذلك واستحسنه أيضا في المعالم ، وهو جيد ان علم استيعاب المطهر لجميع الاجزاء إلا ان في العلم بذلك اشكالا ومجرد صيرورته رقيقا لا يدل على ذلك وكيف كان فطهره بصيرورته رقيقا كما ذكروه لا يتم إلا في الجاري أو الكثير كما لا يخفى. وقال في الذكرى : وفي صحاح ابن ابي عمير المرسلة عن الصادق (عليه‌السلام) «طهره بالخبز والبيع والدفن» (1). وهي مشعرة بسد باب طهارته بالماء إلا ان يقيد بالمعهود من القليل. واعترضه في المعالم فقال : ولا ارى لهذا الكلام وجها فان ما دل من الاخبار على طهره بالنار خال من الاشعار قطعا ، وما دل على بيعه أو دفنه فالسر فيه توقف تطهيره بالماء على الممازجة والنفوذ في اجزائه بحيث يستوعب كل ما اصابه الماء النجس ، إذ المفروض في الاخبار عجنه بماء نجس وفي ذلك من المشقة والعسر ما لا يخفى

__________________

(1) اما ما تضمن الطهر بالخبز فقد رواه في الوسائل في الباب 14 من الماء المطلق برقم 18 واما روايتا البيع والدفن فهما مرسلتاه المرويتان في الوسائل في الباب 11 من الأسآر.


فلذا وقع العدول عنه الى الوجهين المذكورين. انتهى. أقول : لا يخفى ان مراد شيخنا الشهيد (قدس‌سره) بما ذكره انما هو انه لما كان العجين المذكور من المأكولات المتعارفة وحيث عجن بالماء النجس لم يرد عنهم (عليهم‌السلام) ما يدل على قبوله التطهير بالماء وانما ورد ما يدل على قبوله التطهير بالخبز وورد ما يشعر بعدم قبوله التطهير مطلقا من بيعه على مستحل الميتة أو دفنه ، ولا ريب في اشعار الجميع بعدم قبوله التطهير بالماء كما ذكره شيخنا المشار اليه ، ولو كان ثمة صورة يمكن فيها تطهيره بالماء من ترقيقه كما ذكروه لم يكن للإضراب عنها مع الحاجة إليه الى هذه الصورة المذكورة في الاخبار وجه وهو كلام جيد كما لا يخفى. والتحقيق ان الخبر الوارد بالخبز لا دلالة فيه على النجاسة كما لا يخفى فايراده ليس في محله والخبران الباقيان ظاهران في الاشعار بما ذكرناه ، واما ما ذكره من السر في العدول الى بيعه ودفنه وهو المشقة في تطهيره فهو ممنوع وأي مشقة تلزم من ذلك حتى توجب رفع اليد عنه بالكلية؟ فإن وضعه في الكثير جاريا أو راكدا على وجه يصير به رقيقا كما يدعونه أمر سهل لا مشقة فيه توجب رفع اليد عنه وإلا لاستلزم حصول المشقة ورفع اليد عن كل ما توقف تطهيره على الكثير ولا أراه يقول به. وبالجملة فكلام شيخنا المذكور عندي جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ومن تأمل فيما ذكرناه من التوجيه.

(المقام الثالث) ـ في المائع من مثل الدهن ونحوه فقال جماعة ان غير الماء من المائعات مطلقا لا يقبل التطهير ما دام باقيا على حقيقته ، وظاهر كلام العلامة في التذكرة قبولها الطهارة حيث قال : انما يطهر بالغسل ما يمكن نزع الماء المغسول به عنه دون ما لا يمكن كالمائعات والكاغذ والطين وان أمكن إيصال الماء إلى أجزائها بالضرب ما لم تطرح في كر فما زاد أو في جار بحيث يسري الى جميع اجزائها قبل إخراجها منه ، فلو طرح الدهن في ماء كثير وحركه حتى تخلل جميع الماء اجزاء الدهن بأسرها طهر. وقال في المنتهى : الدهن النجس لا يطهر بالغسل نعم لو صب في كر ماء ومازجت


اجزاء الماء اجزاءه واستظهر على ذلك بالتصويل بحيث يعلم وصول الماء الى جميع اجزائه طهر

قال في المدارك بعد نقل ذلك : قلت لا ريب في الطهارة بعد العلم بوصول الماء الى كل جزء من اجزاء المائع إلا ان ذلك لا يكاد يتحقق في الدهن لشدة اتصال اجزائه ولا في غيره من المائعات إلا مع خروجه عن تلك الحقيقة وصيرورته ماء مطلقا. انتهى. وهو جيد. وقال الشهيد في الذكرى : ولا تطهر المائعات والقرطاس والطين ولو ضربت بالماء إلا في الكثير ، وفي طهارة الدهن في الكثير وجه اختاره الفاضل في تذكرته. انتهى وظاهره الموافقة للتذكرة فيما ذكره من المائعات غير الدهن والكاغد والطين وتوقفه في الدهن ، ولا وجه لاقتصاره في نسبة الحكم بذلك إلى التذكرة خاصة بل هو اختياره أيضا في المنتهى كما عرفت وكذا في النهاية حيث قال : لو صب الدهن النجس في كر فما زاد ومازجت أجزاؤه اجزاء الماء بالتصويل فالأقرب الطهارة.

وربما توهم بعض الأصحاب من اقتصاره في النهاية والمنتهى على ذكر الدهن وعدم التعرض فيهما لغيره مغايرة ذلك لما ذكره في التذكرة من العموم ، وليس بشي‌ء لأنه لا يخفى انه متى ثبت ذلك في الدهن ثبت في غيره بطريق أولى فإن شهادة الوجدان ظاهرة في ان الدهن أبعد المائعات عن قبول الطهارة من حيث الدهنية واللزوجة وشدة اتصال اجزائه بعضها ببعض المانع جميع ذلك من نفوذ الماء في اجزائه ، فالقول بإمكان الطهارة فيه يقتضي القول بذلك في سائر المائعات.

إلا ان الحق هو ما ذكره في المدارك من الفرق بين الدهن وغيره بعدم قبول الدهن للتطهير بالكلية وقبول ما عداه من المائعات لكن على وجه لا يبقى لها اثر ، وتسمية ذلك تطهيرا ليس في محله.

ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به في المعالم حيث قال ما ملخصه : ان غير الدهن من المائعات إذا خالطها الماء على الوجه المشترط في الممازجة تخرج عن الصلاحية للانتفاع بها


في الغالب بخلاف الدهن فإن مخالطة الماء له غير مستقرة إذ يسرع انفصاله منه فتبقى الصلاحية للانتفاع بحالها وهو ظاهر ، ثم قال وقد ناقشه ـ يعني العلامة ـ جماعة بأن العلم بوصول الماء الى جميع اجزاء الدهن غير ممكن بل قد يعلم خلافه لأن الدهن يبقى في الماء مودعا فيه غير مختلط به وانما يصيب سطحه الظاهر. وهذا الكلام جيد بل التحقيق ان العيان شاهد باستحالة مداخلة الماء لجميع اجزاء الدهن وانه مع الاختلاط لا يحصل له إلا ملاقاة سطوح الأجزاء المنقطعة بالضرب ولا سبيل الى نفوذ الماء في بواطنها ، ولهذه العلة يبقى على الصلاحية للانتفاع إذ اختلاطه بالماء انما حصل على جهة التفرق في خلاله فإذا ترك ضربه سارع الى الانفصال واستقر لخفته على وجه الماء وهذا من الأمور الواضحة التي لا تحتاج الى كثير تأمل. واما غير الدهن من سائر المائعات فإنما يعقل حصول الطهارة لها مع اصابة الماء لجميع اجزائها وذلك انما يتحقق بشيوعها في الماء واستهلاكها فيه بحيث لا يبقى شي‌ء من اجزائها ممتازا إذ مع الامتياز يعلم عدم نفوذ الماء في ذلك الجزء الممتاز ، وإذا حصل الاستهلاك على الوجه المذكور يخرج المائع عن الحقيقة التي كان عليها كما تخرج عين النجاسة بشيوعها في الماء الكثير عن حكمها ومثل هذا لا يسمى تطهيرا في الاصطلاح. انتهى. وهو جيد متين ، والمراد بقوله في الدهن انه يبقى على الصلاحية للانتفاع يعني في الجملة لا ان المراد الانتفاع فيما يشترط فيه الطهارة فإنه قد صرح بعدم قبوله التطهير وعدم قبوله انما هو لما ذكره من بقاء تلك الأجزاء التي يحصل بها الانتفاع وعدم دخول الماء فيها كما لا يخفى. والله العالم.

(المقام الرابع) ـ الظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في ان الأرض متى تنجست بالبول ونحوه فإنه يحصل تطهيرها بإلقاء الكثير عليها أو الجاري أو المطر أو الشمس إذا جففت النجاسة على المشهور ، واما بالماء القليل فعلى تقدير القول بطهارة الغسالة فلا إشكال أيضا وانما محل الكلام والاشكال على تقدير القول بالنجاسة.

والشيخ مع قوله بنجاسة الغسالة قد صرح في الخلاف بالطهارة فقال فيه : إذا


بال على موضع من الأرض فتطهيره ان يصب الماء عليه حتى يكاثره ويغمره ويقهره ويزيل لونه وطعمه وريحه ، فإذا زال حكما بطهارة المحل وطهارة الماء الوارد عليه ولا يحتاج الى نقل التراب ولا قلع المكان وبه قال الشافعي (1) وقال أبو حنيفة ان كانت الأرض رخوة فصب عليها الماء فنزل الماء عن وجهها الى باطنها طهرت الجلدة العليا دون السفلى التي وصل الماء والبول إليها وان كانت الأرض صلبة فصب الماء على المكان فجرى عليه الى مكان آخر طهر مكان البول لكن نجس المكان الذي انتهى الماء اليه فلا يطهر حتى يحفر التراب ويلقى عن المكان (2) ثم ان الشيخ احتج لما صار إليه بان في التكليف بما زاد على ذلك حرجا منفيا بقوله تعالى : «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (3) وبالرواية العامية المشهورة المتضمنة أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بإهراق الذنوب من الماء على بول الأعرابي لما بال في المسجد وقوله لهم بعد ذلك «علموا ويسروا ولا تعسروا» (4) وابن إدريس قد وافق الشيخ في هذا المقام على جميع هذه الأحكام ، وهو جيد على أصله من اختياره طهارة الغسالة.

والمحقق في المعتبر بعد ان أورد كلام الشيخ المذكور قال : وما ذكره الشيخ مشكل لأن الرواية المذكورة عندنا ضعيفة الطريق ومنافية للأصل لأنا قد بينا ان الماء المنفصل عن محل النجاسة نجس تغير أو لم يتغير لانه ماء قليل لاقى نجاسة ، ثم عارض الرواية برواية عامية مثلها الى ان قال : الوجه ان طهارتها بجريان الماء عليها أو المطر حتى يستهلك النجاسة أو يزال التراب النجس على اليقين أو تطلع عليها الشمس حتى تجف بها أو تغسل بما يغمرها ثم يجري إلى موضع آخر فيكون ما انتهى اليه نجسا. انتهى.

أقول : ينبغي حمل كلامه الأخير أعني قوله : «أو تغسل بما يغمرها ثم يجري. الى آخره» على ما إذا كانت الأرض صلبة كما تقدم في كلام أبي حنيفة وإلا عاد

__________________

(1) كما في الأم ج 1 ص 80 وتابعه أبو إسحاق في المهذب ج 1 ص 49.

(2) كما في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج 1 ص 89 والبحر الرائق ج 1 ص 226.

(3) سورة الحج ، الآية 78.

(4) راجع التعليقة 1 ص 309 ج 1.


الإشكال لأنه مع كون الأرض رخوة تنفذ الغسالة فيها ولو بعضها ، والقول باغتفاره رجوع الى مذهب الشيخ وهو قد رده إذ لا فرق بين البعض والجميع فاعتذار البعض عنه بذلك لا يجدي في المقام نفعا. وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره في المعتبر من رد هذا الخبر والبناء على مقتضى الأصول المقررة في إزالة النجاسات.

وقال الشهيد في الذكرى : تطهر الأرض بما لا ينفعل من الماء بالملاقاة ، وفي الذنوب قول لنفي الحرج ولأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) به في الحديث المقبول.

أقول : لا يخفى ما فيه فإنهم ما بين ان يردوا الأخبار الصحيحة المستفيضة في الأصول بهذا الاصطلاح المتأخر وان يعتمدوا في حكم مخالف للأصول على هذه الرواية العامية ، وليت شعري بأي وجه دخلت هذه الرواية في حيز القبول أمن جهة راويها أبي هريرة الذي قد اعترف أبو حنيفة بكذبه ورد رواياته؟ ونقل بعضهم انهم لا يقبلون رواياته في معالم الحلال والحرام وانما يقبلونها في مثل أخبار الجنة والنار ونحو ذلك (1)

__________________

(1) في نوادر الآثار للعلامة المقرم عن شرح النهج لابن ابى الحديد ج 1 ص 360 طبعة مصر «كان أبو جعفر الإسكافي يقول : أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية ضربه عمر بالدرة ، وروى سفيان الثوري عن إبراهيم التيمي انهم لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر الجنة والنار. وكان أبو حنيفة يقول الصحابة عدول إلا رجال : منهم أبو هريرة وانس بن مالك» وفي مختلف الحديث لابن قتيبة ص 27 «قال النظام كذب أبا هريرة عمر وعثمان وعلى وعائشة» وفي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي الحنفي ج 8 ص 23 «قال أبو حنيفة : النصوص والأصول تأبى حديث أبي هريرة في المصراة وأبو هريرة لم يكن من فقهاء الصحابة وقد أنكر عليه عمر بن الخطاب أشياء» وفي شرح السير الكبير للسرخسى ج 3 ص 73 طبعة حيدرآباد «استعمل عمر أبا هريرة على البحرين فجاء بمال فقال يا عدو الله سرقت وأخذه منه» وفي تاريخ آداب العرب للرافعى ج 1 ص 282 «كان عمر وعثمان وعلى وعائشة ينكرون على ابى هريرة أحاديثه ويتهمونه وهو أول رواية انهم في الإسلام».


أم من حيث اعتضادها بالأصول الشرعية والقواعد المرعية؟ ما هذه إلا مجازفة محضة ، ولا اعرف لهذه المقبولية وجها إلا مجرد قول الشيخ بها في هذا الكتاب. وفيه ما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب.

وبالجملة فإن الطهارة والنجاسة أحكام شرعية يتوقف ثبوتها على الدليل الشرعي الواضح وثبوت النجاسة في موضع البحث مما لا خلاف فيه فالحكم برفعها وزوالها يتوقف على الدليل الشرعي الواضح وأمثال هذه التخريجات لا تصلح لإثبات الأحكام الشرعية.

واما ما ذكره في المعالم ـ حيث قال : وقد روى عبد الله بن سنان في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الصلاة في البيع والكنائس وبيوت المجوس؟ فقال رش وصل». وروى أبو بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في بيوت المجوس فقال رش وصل». وفي هذين الخبرين نوع اشعار بالاكتفاء في زوال النجاسة عن الأرض بصب الماء عليها وإلا لم يكن للرش في المواضع المذكورة فائدة كما لا يخفى ـ أقول : فيه انه من الجائز ـ بل هو الظاهر ـ ان الأمر بالرش في هذا المقام وكذا في أمثاله من ملاقاة الكلب بيبوسة ونحوه من المواضع الآتية انما هو تعبد شرعي وجوبا أو استحبابا ، ويمكن حمل ذلك على طهارة الغسالة كما هو أحد الأقوال في المسألة وقد تقدم في محله ، إذ من الظاهر انه على تقدير القول بنجاسة الغسالة انما يحصل بالرش زيادة النجاسة وتضاعفها ، وقد ورد الأمر بالرش في مشكوك النجاسة من الثوب والبدن ايضا كما سيأتي ان شاء الله تعالى في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة الحلبي (3) ولو لم يحمل النضح على أحد الأمرين الذين ذكرناهما للزم

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 13 من مكان المصلى.

(2) رواه في الوسائل في الباب 14 من مكان المصلى.

(3) في المسألة الخامسة في الثوب والبدن الذي شك في نجاسته.


البتة ما ذكرناه من زيادة النجاسة وتضاعفها لا زوالها بالنضح. ولا يبعد ايضا ان الوجه في الأمر بالنضح في هذه المواضع انما هو زوال النفرة ولا تعلق له بنجاسة ولا طهارة كما ورد في جملة من المواضع الظاهرة في ذلك ايضا كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

ثم قال في المعالم ايضا على اثر الكلام المتقدم : وكذا صحيح هشام بن سالم عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «في السطح يبال عليه فتصيبه السماء فيكف فيصيب الثوب؟ قال لا بأس به ما اصابه من الماء أكثر منه». ووجه الاشعار فيه تعليل نفي البأس بكون الماء الذي أصاب المحل أكثر من البول فإنه ليس بالبعيد كون اداة التعريف في الماء للعهد الذهني لا الخارجي فتأمل. انتهى.

أقول : لا يخفى ان صحة التطهير بالماء القليل بناء على المشهور من نجاسة الغسالة مشروطة بأمرين (أحدهما) غلبة المطهر وكونه قاهرا للنجاسة وهذا مما لا خلاف فيه ولا اشكال واليه يشير جملة من الأخبار : منها ـ هذا الخبر وخبر الاستنجاء المتقدم في باب الاستنجاء نقله من العلل (2) حيث قال فيه : «ان الماء أكثر من القذر». و (ثانيهما) انفصال الغسالة عن المحل بعصر ونحوه كما هو المشهور أو بغير ذلك ، والجريان في المطر على السطح كما اشتمل عليه الخبر أمر معلوم والسؤال لم يتعلق به وانما تعلق بتقاطر المطر على الثوب بعد اصابته السطح النجس ، فأجاب (عليه‌السلام) بان المطر قد طهر السطح لندافعه وتكاثره بالوقوع عليه لأنه في حكم الجاري كما تقدم بيانه في محله فلا بأس حينئذ بما يتقاطر منه فاللام في الماء انما هي للعهد الخارجي وهو ماء المطر لا الذهني بمعنى اي ماء كان.

تذنيب

قال في المعالم : الثوب المصبوغ بالمتنجس المائع يتوقف طهره قبل الجفاف على

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 6 من الماء المطلق.

(2) ج 1 ص 468 وفي الوسائل في الباب 13 من الماء المستعمل.


استهلاك الماء للأجزاء المائعة من الصبغ وكذا القول في ليقة الحبر المتنجس ، اما بعد التجفيف فيمكن طهارة الثوب مع بقاء اجزاء الصبغ فيه وذلك إذا علم نفوذ الماء في جميع تلك الاجزاء ، واما طهارة الليقة فموضع نظر من حيث ان الاجتماع الحاصل في اجزائها موجب لعدم نفوذ الماء الى الاجزاء الداخلة إلا بعد المرور على الخارجة والحال يشهد غالبا بان تكرر مرور الماء على اجزاء الحبر يقتضي تغيره وخروجه عن الإطلاق وحصول الطهارة موقوف على نفوذ الماء باقيا على إطلاقه ، ولو فرض تفريق اجزائها بحيث علم النفوذ قبل التغير المخرج عن الإطلاق طهرت كالثوب ، ولو اتفق في الثوب اجتماع اجزائه على وجه يتوقف النفوذ الى باطنها على تكرر المرور باجزاء الصبغ فهو في معنى الليقة المجتمعة. انتهى.

أقول : ينبغي ان يعلم ان صبغ الثوب انما يقع بنقع الثوب في ماء الصبغ أو غلية به مدة ليدخل الصبغ في اجزاء الثوب. وحينئذ فإذا كان ماء الصبغ نجسا وقد صبغ الثوب فمتى أريد تطهيره قبل جفافه فالظاهر انه لا يمكن ذلك إلا في الماء الكثير على وجه يضمحل ماء الصبغ فيه ، ولو أريد تطهيره بالقليل والحال كذلك فإنه لا ريب في حصول الإضافة في ما يصل الى باطن الثوب وخروجه عن الإطلاق بعين ما فرضه في الليقة ونجاسته أيضا بملاقاة ماء الصبغ فلا يفيد الثوب تطهيرا. وبالجملة فالتطهير بالقليل في هذه الصورة لا يخلو من الاشكال ، واما بعد الجفاف فإنه يذهب الماء النجس من الثوب ولا يبقى إلا نجاسة الثوب خاصة ، وحينئذ فإذا أريد تطهيره بالقليل فان كان ما فيه من الصبغ لا ينفصل عنه في الماء على وجه يغيره ويسلبه الإطلاق فلا إشكال في حصول الطهارة به وإلا ففي الطهارة إشكال لعين ما تقدم ، فإنه بأول ملاقاته للثوب يتغير به ولا يداخله إلا متغيرا فلا يحصل التطهير به ، وبذلك يظهر ما في قوله (قدس‌سره) : «فيمكن طهارة الثوب مع بقاء اجزاء الصبغ» وبالجملة فإن علم عدم التغير في حال الغسل به فلا إشكال في صحة ما ذكره وإلا فالإشكال ظاهر ، ولعله يشير الى ذلك قوله «ويمكن» فان التعبير


بهذا اللفظ مشعر بنوع تردد وتوقف كما لا يخفى إذ لا وجه له إلا ما ذكرناه.

(المسألة الرابعة) ـ مذهب الأصحاب (رضوان الله عليهم) لا نعلم فيه مخالفا انه يكفي صب الماء في بول الرضيع من غير غسل ونقل عليه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة.

والمستند فيه بعد الإجماع الأصل السالم من المعارض وما رواه الشيخ في الحسن على المشهور بإبراهيم بن هاشم الصحيح على الاصطلاح الغير الصحيح عندي وعند جملة من المحققين عن الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء فان كان قد أكل فاغسله غسلا ، والغلام والجارية شرع سواء». وأيد بعضهم هذه الرواية برواية السكوني عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (2) «ان عليا (عليه‌السلام) قال : لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم لان لبنها يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين». وفيه اشكال يعلم مما قدمنا من الكلام في هذه الرواية ، وفي الفقه الرضوي (3) «وان كان بول الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام فاغسله والغلام والجارية سواء».

إلا انه قد روى الشيخان الكليني والطوسي في الحسن عن الحسين بن ابي العلاء (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصبي يبول على الثوب؟ قال تصب عليه الماء قليلا ثم تعصره». وروى الشيخ في الموثق عن سماعة (5) قال : «سألته عن بول الصبي يصيب الثوب؟ فقال اغسله. قلت فان لم أجد مكانه؟ قال اغسل الثوب كله». وظاهر الخبرين المذكورين كما ترى المنافاة لما تقدم.

وقد أجاب الشيخ في الاستبصار عن الخبر الثاني بحمل الغسل على الصب أو على

__________________

(1 و 2 و 4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 3 من النجاسات.

(3) ص 6.


ان المراد بالصبي من أكل الطعام والثاني منهما لا بأس به في مقام الجمع ، واما الأول فيحتاج الى مزيد تكلف.

واما حسنة الحسين بن ابي العلاء فردها في المدارك (أولا) بعدم توثيق الراوي و (ثانيا) بالحمل على الاستحباب : و (ثالثا) بحمل العصر على ما يتوقف عليه إخراج عين النجاسة من الثوب فان ذلك واجب عند من يرى نجاسة هذا البول. أقول : والثالث منها جيد في مقام الجمع فلا بأس به ، واما الأولان فقد تقدم الكلام عليهما مرارا ، وربما يؤيد الوجه المذكور بقوله في السؤال : «يبول على الثوب» فإنه يشعر بذلك ، وأيضا فإن الحمل على الغسل بقرينة العصر يدافعه قوله : «تصب عليه الماء قليلا» فان ظاهره عدم ارادة الغسل فلا بد من التأويل في جانب العصر بالحمل على ما ذكرناه من إخراج عين النجاسة.

بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) ـ ان ظاهر كلام الأكثر اختصاص الحكم هنا بالصبي واما بول الصبية فيجب فيه الغسل عندهم كالكبير ، ونقل في المعالم عن ظاهر كلام ابن بابويه في رسالته عدم الفرق بين الصبي والصبية حيث فرض الحكم أولا في بول الصبي ثم قال والغلام والجارية فيه سواء. أقول : ونحوه ابنه في الفقيه حيث قال : وان كان بول الغلام الرضيع صب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام غسل ، والغلام والجارية في هذا سواء وهذا عين عبارة الفقه الرضوي التي قدمنا نقلها ومثلها ما في رسالة أبيه ، ومنه يعلم ان مستندهما في هذا الحكم انما هو الكتاب المذكور وان كانت صحيحة الحلبي أو حسنته دالة عليه ايضا.

والعجب من الأصحاب مع اعتمادهم في أصل الحكم على الحسنة المذكورة كيف عدلوا عما تضمنته من التسوية بين الغلام والجارية ، فقال الشيخ في الاستبصار قوله : «الغلام والجارية شرع سواء» معناه بعد أكل الطعام. ولا يخفى ما فيه وقال المحقق في المعتبر بعد الإشارة إلى دلالة حسنة الحلبي على ما ذكره الشيخ علي بن بابويه : والأشبه


اختصاص التخفيف ببول الصبي والرواية محمولة على التسوية في التنجيس لا في حكم الإزالة مصيرا الى ما افتى به أكثر الأصحاب. انتهى. وقال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو بعيد جدا. أقول : وفيه مع بعده انه قد خالف الأصحاب في غير موضع من كتابه مع وجود الدليل على كلامهم بزعمه ضعفه والطعن فيه فكيف يوافقهم هنا فيما دل الدليل على خلافه؟

واما صاحب المعالم فإنه بعد ان أورد حسنة الحلبي قال : وهذه الرواية نص في الحكم فليت إسنادها كان صحيحا ، ثم قال ولعل انضمام عدم ظهور المخالف إليها يجبر هذا الوهن مضافا الى ان حسنها بواسطة إبراهيم بن هاشم وبعض الأصحاب يرى الاعتماد على روايته لشهادة القرائن بحسن حاله ، الى ان قال بعد ذكر مذهب علي بن بابويه في المساواة بين الصبي والجارية ما لفظه : ولا يخفى عليك ان عبارته المذكورة موجودة بمعناها وأكثر ألفاظها في الخبر الذي هو العمدة في مستند الحكم فكان اللازم من التمسك به عدم الفرق ولكن حيث ان التعلق بها مراعى بضميمة ما يظهر من الوفاق على الحكم وهو مفقود في الصبية فلا جرم كان الاقتصار في الحكم على محل الوفاق هو الأنسب ، ثم نقل كلام المحقق والشيخ المتقدمين.

وأنت خبير بان كلامه هذا جيد بناء على أصله من رد الأخبار الحسنة بل الصحيحة التي ليست جارية على حسب اصطلاحه الذي هو بالضعف اولى وأحرى حيث انه قد زاد على الطنبور نغمة أخرى ، واما من يعمل بالأخبار الحسنة كما هو المشهور بين أصحاب هذا الاصطلاح وغيرهم بل يعد حديث إبراهيم بن هاشم من بين افراد الحسن في الصحيح كما صرح به في الذخيرة والمدارك وغيرهما فإنه لا يحتاج في العمل بالخبر المذكور الى جبر باتفاق الأصحاب ولا غيره لانه دليل صحيح شرعي صريح فلا معنى لاحتياجه الى جابر ، وبذلك يظهر صحة التزامنا لكلام الأصحاب في المسألة بما قدمنا ذكره وبالجملة فإن الخبر المذكور قد اشتمل على حكمين ولا معارض له فيهما في البين فالقول


بأحدهما دون الآخر تحكم كما لا يخفى. هذا مع قطع النظر عن اعتضاد الخبر المذكور بكلامه (عليه‌السلام) في كتاب الفقه.

والعجب من صاحب الذخيرة هنا حيث جرى على ما جرى عليه صاحب المعالم مع مباينته له في اصطلاحه وعده حسنة إبراهيم في الصحاح في شرحه المذكور في غير موضع بل اعتماده على سائر الأخبار الضعيفة بالقرائن المؤيدة للصحة كما لا يخفى على من مارس كتابة.

(الثاني) ـ ان المفهوم من كلام جملة من متأخري الأصحاب : منهم ـ شيخنا الشهيد الثاني في الروض ان المراد بالرضيع من لم يغتذ بغير اللبن كثيرا بحيث يزيد على اللبن أو يساويه ولم يتجاوز الحولين. وأنت خبير بان لفظ الرضيع غير موجود في رواياتهم وانما هو موجود في عبارة كتاب الفقه ولهذا انه في المدارك جعل الحكم معلقا بالمولود الذي لم يأكل لا الرضيع. وكيف كان فظاهر الخبرين هو تعليق الحكم على الأكل وعدمه والظاهر من الأكل كما ذكره في المنتهى هو ما استند الى شهوته وإرادته فإن أكل على الوجه المذكور كان الواجب الغسل في بوله وإلا فالصب ، واما كونه يزيد على اللبن أو ينقص عنه أو يساويه فلا إشعار في شي‌ء من الخبرين به.

وابن إدريس هنا قد علق الحكم ببلوغ الحولين فقال في سرائره : بول الصبي الرضيع وحده من لم يبلغ سنتين نجس إذا أصاب الثوب يكفي ان يصب عليه الماء من غير عصر له وقد طهر وبول الصبية لا بد من عصره مرتين مثل البالغين وان كان للصبية دون الحولين ، فإذا تم للصبي حولان وجب عصر الثوب من بوله. ورده جملة من تأخر عنه ، وهو كذلك لعدم وجود دليل على ما ذكره إذ الاخبار الواردة في المسألة كما عرفت لا تعرض في شي‌ء منها لذلك وانما الحكم وقع فيها معلقا على الأكل وعدمه.

قال المحقق في المعتبر : والمعتبر ان يطعم ما يكون غذاء ولا عبرة بما يلعق دواء أو من الغذاء في الندرة ولا تصغ الى من يعلق الحكم بالحولين فإنه مجازف بل لو استقل


بالغذاء قبل الحولين تعلق ببوله وجوب الغسل. انتهى.

وقال العلامة في المنتهى بعد تحقيق المسألة : وهذا التخفيف متعلق بمن لم يأكل ، وحده ابن إدريس بالحولين وليس شيئا إذ روايتا الحلبي والسكوني دلتا على الأكل والطعم سواء بلغ الحولين أو لم يبلغ ولا اعلم علته في ذلك بل الأقرب تعلق الحكم بطعمه مستندا إلى إرادته وشهوته وإلا لتعلق الغسل بساعة الولادة إذ يستحب تحنيكه بالتمر. انتهى. وهو جيد.

وأنت خبير بما في كلام المحقق والعلامة هنا من المنافاة لما قدمنا نقله عن الجماعة المشار إليهم حيث ان كلامهما ظاهر في ان الضابط هو صدق الاغتذاء لا على سبيل الندرة وهذا هو الأوفق بأخبار المسألة ولم يعتبرا زيادة الأكل على اللبن ومساواته له كما وقع في كلامهم. واما قوله في المعتبر في آخر كلامه : «بل لو استقل بالغذاء. إلخ» فلا ينافي ما في صدر كلامه من ان الغسل يترتب على ان يطعم ما يكون غذاء وان لم يستقل به ، لان كلامه الأخير انما وقع مبالغة في توجيه المجازفة التي عزاها الى ابن إدريس بمعنى ان إطلاق ابن إدريس تعلق الحكم بالحولين يتناول صورة الاستقلال بالغذاء وترك الرضاع رأسا قبل مضيهما مع ان تسميته في تلك الحال رضيعا مجازفة واضحة. وبالجملة فإن كلام هذين الفاضلين هو المرتبط بالدليل دون ما ذكره الجماعة.

(الثالث) ـ ان لفظ الخبر المذكور قد ورد بالصب وجملة من الأصحاب قد فرقوا بينه وبين الغسل في الثوب ونحوه بأخذ العصر في حقيقة الغسل دون الصب ، والذي قدمنا تحقيقه ان الفرق بينهما انما هو باعتبار الانفصال والتقاطر وعدمه ، والصب بهذا المعنى مرادف للرش والنضح الوارد في الاخبار في جملة من المواضع كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى ، وربما ظهر من العلامة في التذكرة في هذه المسألة مغايرة الرش للصب ، ومما يدل على ترادف النضح والصب الأخبار الواردة في ملاقاة الكلب مع


اليبوسة ، فإن أكثر الأخبار قد عبر فيها بالنضح وصحيحة أبي العباس (1) قد تضمنت الصب.

قال في المدارك في هذه المسألة : ويعتبر في الصب الاستيعاب لما اصابه البول لا الانفصال على ما قطع به الأصحاب ودل عليه إطلاق النص إلا ان يتوقف عليه زوال عين النجاسة ، مع احتمال الاكتفاء به مطلقا لإطلاق النص ، وحكى العلامة في التذكرة قولا بالاكتفاء فيه بالرش قال فيجب فيه التعميم ولا يكفي إصابة الرش بعض موارد النجاسة وبه قطع في النهاية إلا انه اعتبر في حقيقة الرش الاستيعاب وجعله أخص من النضح وفرق بينه وبين الغسل باعتبار السيلان والتقاطر في الغسل دون الرش وهو بعيد لنص أهل اللغة على ان المنضح والرش بمعنى وصدقهما لغة وعرفا بدون الاستيعاب. انتهى.

أقول : ما يظهر منه من ان الصب لا بد فيه من الاستيعاب وان النضح والرش يصدقان عرفا بدون الاستيعاب لا يخفى ما فيه بل الظاهر هو ترادف الثلاثة على معنى واحد من الاستيعاب بدون الانفصال والتقاطر فإنه يكون بذلك غسلا ، ويدل على ما ذكرناه ما أشرنا إليه من اخبار ملاقاة الكلب باليبوسة وورود الأخبار بالنضح تارة وبالصب أخرى.

بقي الكلام في ان المفهوم من كلام أهل اللغة هو ترادف الرش والنضح حيث قال في الصحاح : النضح الرش وقال في القاموس نضح البيت رشه واما الصب لغة فهو بمعنى الإراقة والسكب وهو بعيد من معنى الرش والنضح قال الله تعالى : «أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا» (2) اي سكبناه سكبا إشارة إلى ماء المطر ، ويقال دم صبيب اي كثير ، وحينئذ فالحكم بالمرادفة له مع الفردين المذكورين لا يخلو من اشكال إلا ان يستعان بالأخبار الواردة في الكلب والتعبير في بعضها بالصب وفي آخر بالنضح ، ويؤيدها خبر بول

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الأسآر.

(2) سورة عبس ، الآية 25.


الصبي المعلوم منه مغايرة الصب للغسل ، فيكون الحكم بالمرادفة من حيث الشرع لا من جهة اللغة.

واما ما ذكره في النهاية مما يؤذن بالفرق بين النضح والرش ـ حيث قال : مراتب إيراد الماء ثلاثة النضح المجرد ومع الغلبة ومع الجريان ، قال ولا حاجة في الرش إلى الدرجة الثالثة قطعا وهل يحتاج إلى الثانية؟ الأقرب ذلك ثم قال ويفترق الرش والغسل بالسيلان والتقاطر ـ ففيه ما ذكره في المعالم حيث قال ـ ونعم ما قال في جعل الرش مغايرا للنضح ـ ان المستفاد من كلام أهل اللغة ترادفهما والعرف ان لم يوافقهم فليس بمخالف لهم ولا نعلم الفرق الذي استقربه من أين أخذه؟ مع انه في غير النهاية كثيرا ما يستدل على الرش بما ورد بلفظ النضح وبالعكس ، والظاهر من كلامهم وكلامه في غيره ترادف الصب والرش والنضح. انتهى. وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك من الفرق بين الصب وبين الفردين الآخرين.

ثم لا يخفى ان الظاهر ان المراد بقوله في النهاية النضح المجرد ومع الغلبة انما هو غلبة الماء المنضوح به زيادة على البلل اليسير الذي يحصل به النضح عنده لا باعتبار استيعاب المحل وعدمه كما ذكره في المدارك وفسر به كلامه في النهاية ليتم له الاعتضاد به في ما ذهب اليه من الفرق.

(المسألة الخامسة) ـ قد تفرد الصدوق فيما اعلم بعدم وجوب الغسل في ملاقاة كلب الصيد برطوبة واكتفى فيها بالرش ونفاه مع اليبوسة ، فقال في الفقيه : ومن أصاب ثوبه كلب جاف ولم يكن بكلب صيد فعليه ان يرشه بالماء وان كان رطبا فعليه ان يغسله وان كان كلب صيد وكان جافا فليس عليه شي‌ء وان كان رطبا فعليه ان يرشه بالماء. ولم أقف له على موافق ولا على دليل بل الاخبار وكلام الأصحاب متفقة على وجوب الغسل بملاقاة الكلب برطوبة والرش مع اليبوسة من غير فرق بين كلب الصيد وغيره وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك في الفصل الثامن والتاسع في نجاسة


الكلب والخنزير وهي حجة عليه فيما صار اليه هنا في كل من الغسل والرش.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ههنا جملة من المواضع قد وردت الأخبار بالأمر بالنضح فيها وجملة منها قد وقع الخلاف فيه بكونه على جهة الوجوب أو الاستحباب.

(فمنها) ـ مس الكلب جافا فإن الأخبار المشار إليها آنفا قد دلت على الأمر بالنضح وقد اختلف الأصحاب في كونه على جهة الوجوب أو الاستحباب ، والمشهور الثاني ، وظاهر الشيخ في المبسوط الحكم بالاستحباب في جميع النجاسات إذا لاقاها بيبوسة حيث قال : كل نجاسة أصابت الثوب وكانت يابسة لا يجب غسلها وانما يستحب نضح الثوب. وفي استفادة هذا العموم من الأخبار نظر كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ونقل عن ابن حمزة القول بالوجوب هنا استنادا إلى الأوامر الواردة به فإنها حقيقة في الوجوب. ورده العلامة في المختلف بأن النجاسة لا تتعدى مع اليبوسة إجماعا وإلا لوجب غسل المحل فيتعين حمل الأمر على الاستحباب. وفيه (أولا) ان الحمل على الوجوب لا ينحصر بالنجاسة لجواز كونه تعبدا شرعيا. و (ثانيا) ان ما ذكره من ان تعدي النجاسة موجب للغسل ليس كليا ليتم ما ذكره بل هو أكثري وكيف لا وقد اكتفى في بول الرضيع كما تقدم مع الاتفاق على نجاسته بالرش فلا مجال هنا للاستبعاد.

هذا ، والظاهر من كلام جملة من الأصحاب هنا ايضا هو الوجوب مثل عبارة الصدوق المتقدمة وقوله «فعليه ان يرشه بالماء» في الموضعين منها ، وقال الشيخ في النهاية : إذا أصاب ثوب الإنسان كلب أو خنزير أو ثعلب أو أرنب أو فأرة أو وزغة وكان يابسا وجب ان يرش الموضع بعينه فان لم يتعين رش الثوب كله. وقال المفيد في المقنعة : وإذا مس ثوب الإنسان كلب أو خنزير وكانا يابسين فليرش موضع مسهما منه بالماء وكذا الحكم في الفأرة والوزغة. ونقل عن سلار انه صرح في رسالته بوجوب الرش من مماسة الكلب والخنزير والفأرة والوزغة وجسد الكافر باليبوسة.

والقول بالوجوب تعبدا لا يخلو من قوة لاتفاق الاخبار عليه من غير معارض


واتفاق كلمة هؤلاء الفضلاء الذين هم أساطين المذهب ويرجحه اعتضاده بالاحتياط ، وأكثر الأصحاب انما عبروا هنا بالرش والموجود في الاخبار كما أشرنا إليه آنفا التعبير بالنضح في بعض والصب في آخر وكأنه بناء منهم على فهم ترادف الألفاظ الثلاثة ، وقد عرفت في آخر المسألة المتقدمة ما في كلام النهاية وصاحب المدارك من المخالفة في ذلك وبينا ما فيه.

و (منها) ملاقاة الخنزير جافا والمشهور هنا ايضا بين المتأخرين الاستحباب وقد تقدم نقل القول بالوجوب عن الجماعة المتقدم ذكرهم ، ويدل على الحكم هنا صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله». والرواية المذكورة قد اشتملت على النضح وقد تقدم الكلام في مرادفته للرش وعدمها وان الأظهر المرادفة ، واحتمال الوجوب أو الاستحباب هنا في الأمر جار على ما تقدم إلا ان الظاهر هنا ان الأمر على تقدير الوجوب لا يكون مستندا إلى النجاسة وانما هو تعبد كما ذكرنا آنفا ، وذلك لانه قد أمره بالمضي في الصلاة إذا كان دخل فيها وهذا لا يجامع النجاسة ، ولا ينافي ذلك الأمر بالغسل إذا كان فيه أثر لأن سياق الرواية انما هو الإصابة بقول مطلق ولم يعلم كونها برطوبة أو عدمها وقد دخل في الصلاة والحال كذلك. فأمر (عليه‌السلام) بالمضي في الصلاة استصحابا لأصالة الطهارة ، لأن الإصابة بيبوسة غير موجبة للتنجيس والرطوبة غير معلومة فيتم البناء على أصالة الطهارة ويتم الأمر بالمضي فيها وان كان ذلك قبل دخوله في الصلاة فلينضحه إلا ان يكون فيه اثر فيغسله ، وظاهر الخبر الدلالة على عدم وجوب الفحص بعد دخوله في الصلاة وانه يكفي البناء على أصالة الطهارة عند الشك كما يدل عليه صحيح زرارة الطويل

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من النجاسات.


الوارد في المني وقد تقدم (1) وروى الشيخ في الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي ابن محمد (2) وهو مشترك قال : «سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف هل تصلح الصلاة فيه قبل ان يغسله؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلي فيه.». وفي قرب الاسناد (3) عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته عن خنزير أصاب ثوبا وهو جاف أتصلح الصلاة فيه قبل ان يغسل؟ قال نعم ينضحه بالماء ثم يصلى فيه».

و (منها) ـ بول الرضيع وقد تقدم الكلام فيه مستوفى.

و (منها) ـ الفأرة ففي صحيح علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الفأرة الرطبة قد وقعت في الماء تمشي على الثياب أيصلى فيها؟ قال اغسل ما رأيت من أثرها وما لم تره فانضحه بالماء».

ومورد الخبر ـ كما ترى ـ هو نضح ما لا يرى من أثر الفأرة الرطبة في الثوب واما ما يرى منه فحكم فيه بالغسل وجوبا أو استحبابا كما تقدم من الخلاف في الفأرة نجاسة وطهارة ، وحينئذ فما وقع في عبارة جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) من إطلاق القول بالنضح في الفأرة الرطبة ليس بجيد ، والمشهور بين الأصحاب حمل النضح في الخبر المذكور على الاستحباب وقد تقدم كلام الأصحاب الظاهر في الوجوب ، وأنت خبير بان الكلام في ذلك يتفرع على الخلاف في طهارة الفأرة ونجاستها فان حكمنا بطهارتها كما هو الأشهر الأظهر تعين الحكم بحمل النضح على الاستحباب وان حكمنا بالنجاسة كما هو أحد القولين في المسألة جرى الكلام فيها كما في الكلب والخنزير من احتمال الوجوب تعبدا.

و (منها) ـ ثوب المجوسي ففي صحيحة الحلبي (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الصلاة في ثوب المجوسي؟ فقال يرش بالماء». وينبغي حملها على عدم

__________________

(1) ص 256.

(2) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب النجاسات.

(3) ص 89.

(4) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب النجاسات.

(5) المروية في الوسائل في الباب 73 من أبواب النجاسات.


معلومية ملاقاة المجوسي له برطوبة وإلا لكان نجسا يجب غسله ، وبذلك يعلم ان إطلاق القول بالنضح في ثوب المجوسي ليس بجيد ، ويجب حمل الأمر في الخبر بالنضح بناء على ما ذكرنا على الاستحباب لصحيحة معاوية بن عمار عنه (عليه‌السلام) (1) «في الثياب السابرية يعملها المجوس. ألبسها ولا اغسلها وأصلي فيها؟ قال نعم. الحديث». وقد تقدمت في التنبيه الثاني من التنبيهات الملحقة بالمسألة الثانية من المقصد الثاني في الأحكام ، ولم أقف على من ذهب الى الوجوب في هذا المقام.

و (منها) ـ الثوب والبدن الذي حصل الشك في نجاسته ، ففي صحيحة عبد الرحمن ابن الحجاج (2) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الرجل يبول بالليل فيحسب ان البول اصابه فلا يستيقن فهل يجزيه ان يصب على ذكره إذا بال ولا يتنشف؟ قال يغسل ما استبان أنه اصابه وينضح ما يشك فيه من جسده وثيابه ويتنشف قبل ان يتوضأ».

وفي حسنة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء.».

وفي حسنة عبد الله بن سنان (4) في ثوب أصابه جنابة أو دم وفيها «وان كان يرى أنه اصابه شي‌ء فنظر فلم ير شيئا أجزأه ان ينضحه بالماء».

وفي حسنة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) قال : «سألته عن

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 73 من النجاسات.

(2) المروية في الوسائل في الباب 37 من النجاسات.

(3) المروية في الوسائل في الباب 16 من أبواب النجاسات.

(4) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.

(5) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.


أبوال الدواب والبغال والحمير؟ فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله فان شككت فانضحه».

ومن هذا الباب رواية إبراهيم بن عبد الحميد المتقدمة في تطهير الفرش ونحوها من الحشايا (1) حيث قال : «اغسل ما أصاب منه ومس الجانب الآخر فان أصبت مس شي‌ء منه فاغسله وإلا فانضحه بالماء».

ومورد هذه الاخبار وان كان نجاسات مخصوصة لكن ظاهر الأصحاب العموم قال الشيخ في النهاية : ومتى حصل في الثوب شي‌ء من النجاسات التي يجب إزالتها وجب غسل الموضع ، الى ان قال وان كان حصولها مشكوكا فيه فإنه يستحب ان يرش الثوب. وقال المفيد في المقنعة : وإذا ظن الإنسان انه قد أصاب ثوبه نجاسة ولم يتيقن ذلك رشه بالماء. وصريح عبارة النهاية الحكم باستحباب الرش وبذلك صرح العلامة في المنتهى والنهاية لكنه عبر عن الحكم بالنضح كما هو مورد الأخبار المتقدمة وقد عرفت الترادف فيهما فلا مشاحة حينئذ في التعبير خلافا لنهاية العلامة كما تقدم ذكره ، وظاهر عبارة المفيد المذكورة احتمال كل من الاستحباب والوجوب لإطلاقها ، ونقل عن سلار انه أوجب الرش إذا حصل الظن بنجاسة الثوب ولم يستيقن ، والمفهوم من الاخبار النضح في الثوب والبدن في مقام الشك أو الظن كما عرفت ، وحينئذ فما ذكره من إيجاب الرش مع الظن ان استند فيه الى ظاهر لفظ الأمر ففيه ان مثل ذلك ايضا قد ورد في مقام الشك كما في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة وحسنة محمد بن مسلم فلا وجه لتخصيصه بصورة الظن وان استند الى دليل آخر فلم نقف عليه ، والظاهر ان الأصحاب انما حكموا هنا بالاستحباب لمعارضة أصالة الطهارة ، وفيه ما أشرنا إليه آنفا من احتمال كونه وجوبا وان وجهه التعبد بذلك لا النجاسة.

و (منها) ـ وقوع الثوب على الكلب الميت يابسا لما رواه علي بن جعفر عن

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب النجاسات.


أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) في الصحيح قال : «سألته عن رجل وقع ثوبه على كلب ميت؟ قال ينضحه بالماء ويصلي فيه ولا بأس».

و (منها) ـ المذي لصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) قال : «سألته عن المذي يصيب الثوب؟ قال ينضحه بالماء ان شاء.». وهي صريحة في الاستحباب.

و (منها) ـ بول البعير والشاة لرواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصيبه أبوال البهائم أيغسله أم لا؟ قال يغسل بول الفرس والبغل والحمار وينضح بول البعير والشاة.». ولم أقف في هذا الموضع على مصرح بوجوب النضح.

و (منها) ـ عرق الجنب في الثوب لرواية أبي بصير (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن القميص يعرق فيه الرجل وهو جنب حتى يبتل القميص؟ فقال لا بأس وان أحب ان يرشه بالماء فليفعل». ورواية علي بن أبي حمزة (5) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر عن رجل أجنب في ثوبه فيعرق فيه؟ قال لا ارى به بأسا. قال انه يعرق حتى انه لو شاء ان يعصره عصره؟ قال فقطب أبو عبد الله (عليه‌السلام) في وجه الرجل فقال ان أبيتم فشي‌ء من ماء فانضحه به». والرواية الأولى ظاهرة بل صريحة في الاستحباب والثانية مشعرة بعدم الاستحباب ، والذي يلوح منها الإباحة ونفى البأس بالكلية والأمر بالنضح انما وقع مماشاة للسائل حيث فهم (عليه

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 26 من النجاسات.

(2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب النجاسات.

(3) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب النجاسات.

(4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 27 من النجاسات.


السلام) منه الامتناع عن ذلك والميل الى التنزه عن العرق المذكور كما ينادي به تقطيب وجهه وقوله «ان أبيتم».

و (منها) ـ ذو الجرح في مقعدته يجد الصفرة بعد الاستنجاء لصحيحة البزنطي (1) قال : «سأل الرضا (عليه‌السلام) رجل وانا حاضر فقال ان بي جرحا في مقعدتي فأتوضأ واستنجي ثم أجد بعد ذلك الندى والصفرة من المقعدة أفأعيد الوضوء؟ فقال وقد أنقيت؟ فقال نعم. قال لا ولكن رشه بالماء ولا تعد الوضوء». وهذا الموضع قل من ذكره من الأصحاب والظاهر من كلام من ذكره هو استحباب الرش كما هو مورد الخبر وقد تقدم نحوه في ثوب المجوسي وعرق الجنب وبه يتضح ما ذكره الأصحاب من الترادف مع النضح.

و (منها) ـ ما ورد في رواية عبد الرحيم القصير (2) قال : «كتبت الى ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) اسأله عن خصي يبول فيلقى من ذلك شدة ويرى البلل بعد البلل؟ فقال يتوضأ وينضح ثوبه في النهار مرة واحدة». ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا عنه (عليه‌السلام) (3) وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه الرواية في فروع المسألة السادسة من البحث الثاني فيما يجب إزالته من النجاسات وما يعفى عنه (4).

أقول : وسيأتي جملة من المواضع ان شاء الله تعالى في أمكنة الصلاة قد أمر فيها بالنضح والرش نذكرها في محالها.

تذنيب

قد اشتهر في كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) مسح اليد بالتراب من ملاقاة بعض النجاسات باليبوسة ، قال الشيخ في النهاية وان مس الإنسان بيده كلبا أو خنزيرا أو ثعلبا أو أرنبا أو فأرة أو وزغة أو صافح ذميا أو ناصبا معلنا بعداوة

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من نواقض الوضوء.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 13 من نواقض الوضوء.

(4) ص 355.


آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وجب غسل يده ان كان رطبا وان كان يابسا مسحه بالتراب. وقال المفيد : ان مس جسد الإنسان كلب أو خنزير أو فأرة أو وزغة وكان يابسا مسحه بالتراب ، ثم قال وإذا صافح الكافر ولم يكن في يده رطوبة مسحها ببعض الحيطان أو التراب. وحكى العلامة في المختلف عن ابن حمزة إيجاب مسح البدن بالتراب إذا أصابه الكلب أو الخنزير أو الكافر بغير رطوبة. وحكى المحقق في المعتبر عن الشيخ في المبسوط انه قال كل نجاسة أصابت البدن وكانت يابسة لا يجب غسلها وانما يستحب مسح اليد بالتراب. وقد ذكر جمع من الأصحاب انهم لم يعرفوا للمسح المذكور وجوبا أو استحبابا وجها ولا دليلا. وقد ذكر العلامة في المنتهى استحبابه ايضا من ملاقاة البدن للكلب أو الخنزير باليبوسة بعد حكمه بوجوب الغسل مع كون الملاقاة برطوبة ، ثم ذكر الدليل على إيجاب الغسل وقال بعد ذلك اما مسح الجسد فشي‌ء ذكره بعض الأصحاب ولم يثبت.

(المسألة السادسة) ـ قال في المدارك اعتبر المرتضى (رضي‌الله‌عنه) على ما نقل عنه في إزالة النجاسة بالقليل ورود الماء على النجاسة فلو عكس نجس الماء ولم يفد المحل طهارة ، وبه قطع العلامة في جملة من كتبه. انتهى. أقول : قال في المنتهى إذا أراد غسل الثوب بالماء القليل ينبغي ان يورد الماء عليه ، ولو صبه في الإناء ثم غمسه فيه لم يطهر ، قاله السيد وهو جيد ، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء عليها. وبذلك صرح ايضا الشهيد في الدروس فقال ويشترط الورود حيث يمكن. ونحوه في البيان فقال ويشترط ورود الماء على النجاسة فلو عكس نجس الماء القليل ولم يطهره إلا في نحو الإناء فإنه يكفي الملاقاة ثم الانفصال. وقال في الذكرى الظاهر اشتراط ورود الماء على النجاسة لقوته بالعمل إذ الوارد عامل. وللنهي عن إدخال اليد في الإناء ، فلو عكس نجس الماء ولم يطهر ، وهذا ممكن في غير الأواني وشبهها مما لا يمكن فيه الورود إلا ان يكتفى بأول وروده ، ثم قال مع ان عدم اعتباره مطلقا متوجه لان امتزاج الماء بالنجاسة


حاصل على كل تقدير والورود لا يخرجه عن كونه ملاقيا للنجاسة. انتهى. وأنت خبير بان هذا القول من المرتضى ـ بناء على مذهبه في نجاسة الماء القليل كما تقدم في أبواب المياه من الفرق بين ورود النجاسة على الماء وعكسه وانه انما يكون نجسا في الأول دون الثاني ـ جيد لان الماء عنده في حال وروده على النجاسة باق على الطهارة فيحصل التطهير به قطعا ، واما على مذهب الجماعة من نجاسة القليل بالملاقاة مطلقا فمشكل إذ الملاقاة حاصلة على كل من الحالين ، واليه أشار في الذكرى في آخر كلامه بقوله مع ان عدم اعتباره مطلقا متوجه. الى آخره ، وبه يشكل الحكم بالطهارة بالماء القليل لانه متى ثبت القول بنجاسة الماء القليل مطلقا وثبت القول بالتطهير بالماء القليل فاللازم من ذلك حصول الطهارة بالماء النجس ، ولا يخرج عن ذلك إلا بأحد وجوه ثلاثة ذهب الى كل منها ذاهب : (أحدها) القول بطهارة الغسالة واستثناؤها من نجاسة الماء القليل بالملاقاة و (ثانيها) ـ تخصيص النجاسة بالانفصال عن المحل المغسول. و (ثالثها) ـ ان النجاسة المانعة من التطهير هي ما ثبتت قبل التطهير لا ما كانت حال التطهير إذ لا مانع من التطهير بما حصلت نجاسته بذلك التطهير. وتحقيق هذه الأقوال وما يتعلق بها من الأبحاث في هذا المجال قد تقدم منقحا في المقام الثاني من الفصل الثالث في الماء القليل الراكد من الباب الأول وفي مسألة الغسالة من ختام الباب المذكور.

ثم لا يخفى ان ممن نقل عنه ايضا القول باشتراط الورود في التطهير الشيخ والمحقق حيث قال في الخلاف : إذا ولغ الكلب في إناء ثم وقع في ماء قليل تنجس ولم يجز استعماله ولا يعتد بذلك في غسل الإناء. وقال في المعتبر : لو وقع إناء الولوغ في ماء قليل نجس الماء ولم يتحصل من الغسلات شي‌ء. أقول : يمكن ان يكون عدم الاعتداد بهذه الغسلة انما هو من حيث تقدمها على التعفير لما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسألة من ان الواجب أولا التعفير ثم الغسل فلو تقدم الغسل لم يحسب من ذلك لا من حيث ورود النجاسة على الماء.


إذا عرفت ذلك فاعلم ان ما ذكروه من اعتبار الورود لا يتم لهم في الأواني ونحوها ولهذا استثناها في الذكرى وتأول الورود فيها بالحمل على أول الورود ، وقال بعض الأصحاب بعد ان حكى كلام الذكرى وقوله فيها بالاكتفاء في الأواني وشبهها بأول وروده : الحق انه لا يراد بالورود أكثر من هذا وإلا لم يتحقق الورود في شي‌ء مما يحتاج فصل الغسالة عنه إلى معونة شي‌ء آخر.

قال في المعالم : والذي ينبغي تحصيله في هذا المقام ان مبنى اعتبار الورود على ان انتفاءه يقتضي نجاسة الماء ومن المستبعد صلاحية ما حكم بنجاسته لرفع حكم النجاسة عن غيره ، ومن أمعن نظره في دليل انفعال القليل بالملاقاة رأى انه مختص بما إذا وردت النجاسة على الماء ، فيجب حينئذ ان يكون المعتبر هنا هو عدم ورود النجاسة على الماء لا ورود الماء على النجاسة إذ بين الأمرين فرق واضح ، وإذا ثبت ان المعتبر ما ذكرناه لم يحتج الى استثناء نحو الأواني ولا لتكلف حمل الورود على ما يقع أولا فإن ورود النجاسة في جميع ذلك منتف والمحذور إنما يأتي من جهته. انتهى.

أقول : مبنى هذا الاشكال وهذه التكلفات كلها في دفعه انما نشأ مما قدمنا ذكره من لزوم نجاسة الماء مع الورود كما ذكره ونحن قد حققنا سابقا في الموضع المشار اليه آنفا انه لا مانع من النجاسة الحاصلة آن التطهير بذلك الماء وانما قام الدليل على منع التطهير بما تنجس سابقا قبل التطهير ، وبذلك اعترف ايضا صاحب المعالم في هذا المقام بعد هذا الكلام فقال ـ بعد ان ذكر بأنه على رأي القائلين بنجاسة الماء القليل تعويلا على ان الماء القليل ينفعل بملاقاة النجاسة بأي وجه فرض وان اعتبار ذلك مشكل إذ نجاسة الماء حاصلة على كل حال ومسمى الغسل المأمور به يصدق وان كان الوارد هو النجاسة ـ ما هذا لفظه : والفرق بينه وبين استعمال ما حكم بنجاسته بغير هذا الوجه من مقتضيات التنجيس قيام الدليل على عدم صلاحية ذلك للاستعمال وانتفاؤه في هذا ، فان دليل نجاسته انما يقتضي المنع من استعماله في مغسول آخر واما نفس المغسول الأول الذي


منه نشأ الحكم بالتنجيس فليس في الدليل ما يقتضي المنع من استعماله فيه بالنظر الى إزالة ذلك الحكم عنه. انتهى. واما عدوله بعد ذلك عن هذا الكلام الى ما نقله عن العلامة من تخصيصه حصول النجاسة بما بعد الانفصال وما تكلفه من استثناء ذلك للضرورة فيحتاج الى بيان القدح فيه وبيان إبطاله بدليل شاف وإلا فلا وجه للعدول عنه الى ما ذكره لظهور صحته واستقامته كما حققناه فيما تقدم. والله العالم.

(المسألة السابعة) ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه إذا علم موضع النجاسة في ثوب ونحوه غسل ذلك الموضع خاصة وان اشتبه غسل ما وقع فيه الاشتباه من الثوب كله أو بعض نواحيه وبالجملة كل موضع يحتمل كون النجاسة فيه. قال في المعتبر انه مذهب علمائنا وفي المنتهى انه مذهب علمائنا اجمع وانما خالف فيه جماعة من العامة. وإذا حصل الاشتباه في ثوبين بحيث لا يدرى أيهما النجس وجب تطهيرهما معا ولو تعذر صلى الصلاة الواحدة فيهما مرتين.

والكلام في هذه المسألة يقع في مقامين

(الأول) فيما إذا حصل الاشتباه في الثوب الواحد ، ويدل على الحكم المذكور عدة روايات :

منها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال في المني يصيب الثوب : «ان عرفت مكانه فاغسله فإن خفي عليك مكانه فاغسله كله».

وصحيحة زرارة الطويلة (2) وفيها قال : «قلت فاني قد علمت أنه اصابه ولم أدر أين هو فاغسله؟ قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى انه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك».

واعترض هذا الخبر العلامة في المنتهى بأن زرارة لم يسنده الى الامام (عليه‌السلام) فلا حجة فيه. وفيه ان الشيخ وان رواه في الصحيح كما ذكره إلا ان الصدوق قد

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات.

(2) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 37 و 41 و 42 و 44 من النجاسات.


رواه في العلل (1) في الصحيح عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) على انه من الظاهر البين الظهور ان مثل زرارة لا يعتمد في أحكام دينه على غير امام سيما مع ما اشتمل عليه الخبر من الأسئلة العديدة والمراجعة مرة بعد أخرى فإن صدور مثل هذا من غير الامام لا يقبله الفهم السليم.

ومنها ـ حسنة الحلبي أو صحيحته عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «إذا احتلم الرجل فأصاب ثوبه مني فليغسل الذي أصابه فإن ظن أنه أصابه مني ولم يستيقن ولم ير مكانه فلينضحه بالماء وان استيقن انه قد أصابه مني ولم ير مكانه فليغسل الثوب كله فإنه أحسن».

وفي الحسن أو الصحيح عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن أبوال البغال والدواب والحمير فقال اغسله فان لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كله».

وعن سماعة (4) قال : «سألته عن المني يصيب الثوب؟ قال اغسل الثوب كله ان خفي عليك مكانه قليلا كان أو كثيرا».

قال في المدارك ـ بعد ان نقل عن المحقق في المعتبر انه استدل على هذا الحكم بأن النجاسة موجودة على اليقين ولا يحصل اليقين بزوالها إلا بغسل جميع ما وقع فيه الاشتباه ـ ما هذا لفظه : ويشكل بان يقين النجاسة يرتفع بغسل جزء مما وقع فيه الاشتباه يساوي قدر النجاسة وان لم يحصل القطع بغسل ذلك المحل بعينه. انتهى.

أقول : ما ذكره من الاشكال هنا مبني على ما قدمنا نقله عنه في مسألة الإناءين من حكمه بالطهارة في أحدهما ، وقد أوضحنا ثمة بطلانه وبطلان ما توهمه من الاشكال وانه مجرد وهم نشأ من عدم التأمل في أدلة المسألة وتتبعها من جملة مواردها ، وبالجملة فإنه لو كان ما ادعاه حقا بناء على قاعدته التي بنى عليها في أمثال هذا المقام والاخبار التي توهم

__________________

(1) ص 127.

(2 و 4) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات.

(3) رواه في الوسائل في الباب 9 من النجاسات.


دلالتها على ما صار اليه لكان الحكم في هذا الموضع ما ذكره من الاكتفاء بغسل جزء مما يظن فيه الاشتباه لأنه أحد جزئيات المسألة مع ان الاخبار كما ترى متفقة على وجوب غسل الجميع وانه لا يطهر إلا بذلك وهو أظهر ظاهر في بطلان ما بنى عليه ، ومثل هذا الموضع غيره من المواضع التي نبهنا عليها ثمة في دلالة أخبارها على خلاف ما بنى عليه مع موافقته على العمل بما دلت عليه كما اعترف به هنا.

ثم قال ايضا (قدس‌سره) في المقام المذكور بعد إيراد أخبار المسألة : ولا يخفى ان الحكم بوجوب غسل الجميع لتوقف الواجب عليه أو للنص لا يقتضي الحكم بنجاسة كل جزء من اجزائه فلو لاقى بعض المحل المشتبه جسم طاهر برطوبة فالأظهر بقاؤه على الطهارة استصحابا للحكم قبل الملاقاة الى ان يحصل اليقين بملاقاته للنجاسة ، وفي خبر زرارة المتقدم (1) «ليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك ابدا». انتهى.

أقول : قد حققنا سابقا في مسألة الإناءين ان المستفاد من اخبار المسألة هو إعطاء المشتبه بالنجس في المحصور حكم النجس والمشتبه بالحرام كذلك حكم الحرام واحد لم يقل بنجاسة المشتبه ويجزم بالحكم عليه بالنجاسة وانما يدعى انه في حكم النجس في إجراء أحكامه ، ولا ريب انه هو المستفاد من الاخبار كاخبار هذا الموضع فان الظاهر من الأمر فيها بتطهير الثوب كملا هو ترتب حكم النجس عليه قبل التطهير من عدم جواز الصلاة فيه ومن تعدى النجاسة منه برطوبة ونحو ذلك من أحكام النجس المتيقن النجاسة واما خبر زرارة الذي ذكره هنا هو وغيره فقد تقدم القول فيه ثمة وبينا انه ليس من محل المسألة في شي‌ء فلا نعيده.

تذنيب

قال الشيخ في الخلاف : إذا أصاب الثوب نجاسة فغسل نصفه وبقي نصفه فان

__________________

(1) تقدم ص 256.


المغسول يكون طاهرا ولا تتعدى نجاسة النصف الآخر اليه ، ثم حكى عن بعض العامة انه قال لا يطهر النصف المغسول لانه مجاور لا جزاء نجسة فتسري إليه النجاسة فينجس (1) قال الشيخ وهذا باطل لان ما يجاوره أجزاء جافة لا تتعدى نجاستها اليه ، قال ولو تعدت لكان يجب ان يكون إذا نجس جسم ان ينجس العالم كله لأن الأجسام كلها متجاورة وهذا تجاهل ، ثم قال وروى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعن أئمتنا (عليهم‌السلام) (2) انه إذا وقع الفأر في سمن جامد أو في زيت القى وما حوله واستعمل الباقي ، ولو كانت النجاسة تسري لوجب ان ينجس الجميع. وهذا خلاف النص. وما ذكره (قدس‌سره) هنا جيد ، وقد اقتفاه في هذه المقالة جمع ممن تأخر : منهم ـ الفاضلان في المعتبر والمنتهى والشهيد في الذكرى فأوردوا محصول كلامه ودليله ، واستجوده في المعالم ثم قال : ولا يخفى ان ما ذكره من لزوم نجاسة العالم بنجاسة جسم فيه يحتاج الى التقييد بحال كونه بأجمعه رطبا ولظهور ذلك لم يتعرض له وكذا الجماعة بعده.

(المقام الثاني) ـ فيما إذا حصل الاشتباه في الثوبين والأشهر الأظهر هو ما قدمناه من وجوب تطهيرهما معا ووجوب الصلاة الواحدة في كل منهما ، ونقل في الخلاف عن بعض الأصحاب انه يطرحهما ويصلي عاريا وجعله في المبسوط رواية واختاره ابن إدريس بعد نقله عن بعض الأصحاب.

والذي يدل على وجوب الصلاة فيهما

__________________

(1) في المهذب ج 1 ص 50 «قال أبو العباس بن القاص إذا كان ثوبه كله نجسا فغسل بعضه في جفنة ثم عاد فغسل ما بقي لم يطهر حتى يغسل الثوب كله دفعة واحدة لأنه إذا صب على بعضه ماء ورد جزء من البعض الآخر على الماء نجسه وإذا نجس الماء نجس الثوب».

(2) في سنن البيهقي ج 9 ص 354 «ان رسول الله (ص) سئل عن فأرة سقطت في سمن فماتت فقال النبي (ص) خذوها وما حولها وكلوا سمنكم». والأحاديث المروية عن أئمتنا (ع) في ذلك تقدمت ص 56.


ما رواه الصدوق في الصحيح أو الحسن عن صفوان عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (1) : «انه كتب إليه يسأله عن رجل كان معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال يصلي فيهما جميعا». قال الصدوق يعني على الانفراد.

واستدل على ذلك في المدارك أيضا بأنه متمكن من الصلاة في ثوب طاهر من غير مشقة فيتعين عليه ، وبان الصلاة في الثوب المتيقن النجاسة سائغة بل ربما كانت متعينة على ما سيجي‌ء بيانه ان شاء الله تعالى فالمشكوك فيه اولى ، ومتى امتنعت الصلاة عاريا ثبت وجوب الصلاة في أحدهما أو في كل منهما إذ المفروض انتفاء غيرهما والأول منتف إذ لا قائل به فيثبت الثاني ، ويدل عليه ما رواه صفوان ثم أورد الرواية المذكورة.

أقول : ما ذكره ـ من ان الأول منتف إذ لا قائل به ـ فيه انه وان كان لا قائل به كما ذكره إلا ان مقتضى قاعدته التي بنى عليها النزاع في مسألة الإناءين ونحوها هو صحة الصلاة في واحد منهما كما ذكره في مسألة الإناءين حيث قال ان اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلا مع تحققه لا مع الشك ، وما ذكره أيضا في مسألة حصول النجاسة في المكان المحصور من انه لا مانع من الانتفاع بالمشتبه فيما يفتقر إلى الطهارة إذا لم يستوعب المباشرة ، وحينئذ فاللازم من ذلك في هذا الموضع لو كان ما ذكره صحيحا هو وجوب الصلاة في أحدهما فنفيه له هنا مناقض لما اختاره في تلك المسائل مع ان الجميع من باب واحد ، ومن الظاهر ان النص الوارد في هذه المسألة كالنصوص الواردة في سابقتها أظهر ظاهر في رد كلامه وإبطاله من أصله لأن هذه من جزئيات المسألة المذكورة.

وقال ابن إدريس في السرائر : وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ولم يتميز له الطاهر ولا يتمكن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا يصلى في كل واحد منهما على الانفراد وجوبا ، وقال بعض منهم ينزعهما ويصلي عريانا ، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه افتى لأن المسألة بين أصحابنا خلافية ودليل الإجماع فيه منفي

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 64 من النجاسات.


فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه ، فان قال قائل بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد لأنه إذا صلى فيهما جميعا تبين وتيقن بعد فراغه من الصلاتين معا انه قد صلى في ثوب طاهر ، قلنا المؤثرات في وجوه الأفعال يجب ان تكون مقارنة لها لا متأخرة عنها والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ان يقطع على ثوبه بالطهارة وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين انه نجس ولا يعلم انه طاهر عند افتتاح كل صلاة فلا يجوز ان يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ولا يجوز ان تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وايضا كون الصلاة واجبة وجه يقع عليه الصلاة فكيف يؤثر في هذا الوجه ما يأتي بعده ومن شأن المؤثر في وجوه الأفعال ان يكون مقارنا لها لا يتأخر عنها على ما بيناه. انتهى.

وفيه انه ـ مع كونه محض اجتهاد صريح في مقابلة النص الصحيح ـ مردود بما ذكره جملة ممن تأخر عنه ، اما ما ذكره من وجوب اقتران ما يؤثر في وجوه الأفعال فبالمع لانتفاء ما يدل عليه. ثم لو سلم ذلك فنقول انه مقيد بحال التمكن لا مطلقا. ثم مع تسليم هذا ايضا فيمكن ان يقال بحصول ذلك فإنه يقصد وجوب كل واحدة من الصلاتين فان ستر العورة بالساتر الطاهر لما كان واجبا وكان تحصيله موقوفا على الإتيان بالصلاتين تعين فتكون الصلاتان واجبتين من باب المقدمة ، قال في المختلف بعد حكمه بوجوب الصلاتين من باب المقدمة : وهو ـ يعني ابن إدريس ـ لم يتفطن لذلك وحسب ان احدى الصلاتين واجبة دون الأخرى ثم يعلم المكلف بعد فعلهما انه قد فعل الواجب في الجملة ، وليس كذلك. واما ما ذكره من ان الواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ان يقطع بطهارة ثوبه فبالمنع من ذلك فإنه شرط مع القدرة لا مع الاشتباه ، وانما أوردنا لك كلامه بطوله وما ينبه على ضعف محصوله لتطلع على مزيد ضعف ما ذهب اليه وإلا فذكر جميع ذلك بعد ما عرفت من النص الواضح تطويل بغير طائل وتحصيل لغير حاصل.


فروع

(الأول) ـ ما ذكر من الحكم المذكور لا يختص بالثوبين بل لو وقع الاشتباه في ثلاثة وقد علم كون واحد منها نجسا يقينا فإنه يصلي الفريضة الواحدة في اثنين منها خاصة ، اما لو تعدد النجس كما لو كان ثوبان نجسان اشتبها بثوب طاهر فإنه يصلي الفريضة الواحدة فيما زاد عن النجس بواحد لتصادف الصلاة الزائدة الطاهر ، فان كان النجس واحدا صلى الفريضة مرتين في ثوبين وان كان اثنين صلاها ثلاثا وهكذا مراعيا للترتيب ، فيصلي من وجبت عليه الظهر والعصر مثلا الظهر أولا في كل منهما ثم العصر في كل منهما لو كان الاشتباه بواحد نجس ، ولو صلى الظهر والعصر في أحدهما ثم نزعه وصلى الفرضين أيضا في الآخر فقد صرح الأصحاب بالصحة لتحقق الترتيب واستشكل ذلك بعض للنهي عن الشروع في الثانية حتى تتحقق البراءة من الاولى. وهو جيد. ولو صلى الظهر في أحدهما ثم صلى العصر في الآخر ثم صلى الظهر فيما صلى فيه العصر ثم صلى العصر فيما صلى فيه الظهر صحت الظهر لا غير ووجب اعادة العصر فيما صلى فيه العصر أولا لجواز ان يكون الظاهر هو ما وقعت فيه العصر الأولى.

(الثاني) ـ لو تعددت الثياب وضاق الوقت عن التكرار مطلقا فقيل بالصلاة عاريا لتعذر العلم بالصلاة في الطاهر بيقين. وقيل بتعين الصلاة في أحدها ، لإمكان كونه الطاهر ، ولاغتفار النجاسة عند تعذر إزالتها ، ولان فقد وصف الساتر أسهل من فقده نفسه. ولما ورد من النصوص الدالة على الصلاة في الثوب النجس يقينا فالمشتبه اولى ، وهو الأقرب.

(الثالث) ـ قال في المنتهى : لو كان معه ثوب متيقن الطهارة تعين الصلاة فيه ولم يجز له ان يصلي في الثوبين لا متعددة ولا منفردة. قال في المدارك بعد نقله : وهو حسن إلا ان وجهه لا يبلغ حد الوجوب وهو جيد.


(الرابع) ـ قال في المنتهى : ولو كان أحدهما طاهرا والآخر نجسا معفوا عنه تخير في الصلاة في أيهما كان والأولى الصلاة في الطاهر ، قال وكذا لو كان احدى النجاستين المعفو عنهما في الثوب أقل من الأخرى كان الأولى الصلاة في الأقل. أقول : اما حكمه بالأولوية في الصورة الأولى فجيد وعليه يدل بعض الاخبار بالتقريب المذكور ذيلها ، وقد تقدمت في بعض فروع المسألة الرابعة من البحث الثاني فيما يجب إزالته من النجاسات من المقصد الثاني في الأحكام. واما في الصورة الثانية فمحل توقف لانه مع بقاء النجاسة وصحة الصلاة معها لا يظهر لأولوية نقصانها وجه كما لا يخفى.

(الخامس) ـ قيل لو فقد أحد المشتبهين صلى في الآخر وعاريا ، وقيل بالاكتفاء بالصلاة في الباقي لجواز الصلاة في متيقن النجاسة. أقول : وهو جيد بناء على القول بذلك كما هو الأظهر واما على قول من يوجب الصلاة عاريا فالمتجه هنا هو القول الأول. والله العالم.

(المسألة الثامنة) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما لو لم يجد إلا الثوب النجس ولا ضرورة تلجئ الى لبسه من برد ونحوه ولا يقدر على غسله فهل تجوز الصلاة فيه والحال كذلك أو تجب عليه الصلاة عاريا؟ وقد تقدم تحقيق البحث في هذه المسألة في المسألة السادسة من البحث الثاني فليرجع إليها من احتاج إليها.

(المسألة التاسعة) ـ لو صلى في النجاسة فلا يخلو اما ان يكون قد علم بها وصلى فيها عامدا أو لم يعلم بالكلية أو علم ونسي حال الدخول في الصلاة ولم يعلم إلا بعد الفراغ أو رآها في حال الصلاة.

وتحقيق الكلام في ذلك يتوقف على بسطه في مقامات أربعة (الأول) ـ ان يصلي فيه عالما عامدا ، ولا خلاف بين الأصحاب في بطلان صلاته ووجوب الإعادة عليه وقتا وخارجا ، قال في المعتبر وهو إجماع ممن جعل طهارة البدن والثوب شرطا. وإطلاق كلام كثير من الأصحاب وصريح بعضهم انه لا فرق في العالم بالنجاسة بين


ان يكون عالما بالحكم الشرعي أو جاهلا فإنه كالعالم في البطلان ، لان شرط التكليف إمكان العلم فيكون مكلفا بما يشترط في الصلاة وعدم معرفة ذلك تقصير منه مستند الى تفريطه فيكون قد ضم تفريطا الى جهل فلا يكون معذورا ، لانه بعد ان وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد فتركه ذلك إخلال به عمدا ، ونقل في المدارك عن العلامة وغيره انهم صرحوا بان جاهل الحكم عامد لان العلم ليس بشرط للتكليف ، ثم اعترضه بأنه مشكل لقبح تكليف الغافل قال والحق انهم ان أرادوا بكون الجاهل كالعامد انه مثله في وجوب الإعادة في الوقت مع الإخلال بالعبادة فهو حق لعدم حصول الامتثال المقتضى لبقاء التكليف تحت العهدة وان أرادوا انه كالعامد في وجوب القضاء فهو على إطلاقه مشكل لان القضاء فرض مستأنف ويتوقف على الدليل فان ثبت مطلقا أو في بعض الصور ثبت الوجوب وإلا فلا ، وان أرادوا انه كالعامد في استحقاق العقاب فمشكل لان تكليف الجاهل بما هو جاهل به تكليف بما لا يطاق ، نعم هو مكلف بالبحث والنظر إذا علم وجوبهما بالعقل والشرع فيأثم بتركهما لا بترك ذلك المجهول كما هو واضح انتهى كلامه. وعليه جرى جملة ممن تأخر عنه.

والتحقيق عندي في المقام هو التفصيل بالنسبة إلى أفراد المكلفين وان كلام كل من القائلين بعدم المعذورية والقائلين بالمعذورية ليس على إطلاقه ، وذلك لما حققناه في المقدمة الخامسة من مقدمات الكتاب من ان الجهل على قسمين : (أحدهما) ـ ان يراد به الغفلة عن الحكم الشرعي بالكلية وهو الجهل الساذج وهذا هو الذي يجب القول بمعذوريته في جميع الأحكام لان تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية والنقلية وعليه يجب ان تحمل الأخبار المستفيضة بمعذورية الجاهل. و (ثانيهما) ـ ان يراد به الغير العالم وان كان شاكا أو ظانا وهذا هو الذي يجب ان يقال بعدم معذوريته وعليه تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل كما تقدمت في المقدمة المذكورة ،


وقد بينا ثمة ان الحكم في ذلك مختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه وقوة أفهامهم وعقولهم وعدمها ، وبالجملة فتحقيق المسألة كما هو حقه قد تقدم في المقدمة المذكورة موضحا ومبرهنا عليه بالأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم‌السلام) فليرجع اليه من أحب تحقيق الحال وإزاحة الاشكال ، وأوضح منه وابسط ما في كتابنا الدرر النجفية.

وبذلك يظهر ان الجاهل بالمعنى الأول لا اعادة عليه لا وقتا ولا خارجا لعدم توجه الخطاب إليه بالكلية نعم لو علم في الوقت لزمه الإعادة حيث ان وقت الخطاب باق واما القضاء فلا لنوقفه على أمر جديد ، وهذا هو الذي يتم فيه كلام صاحب المدارك وتفصيله ، واما الجاهل بالمعنى الثاني فتجب عليه الإعادة وقتا وخارجا وذلك لتوجه التكليف اليه وعدم ثبوت المعذورية بالجهل على هذا الوجه لانه عالم في الجملة ويتمكن من الفحص والتحقيق في الأحكام كما يشير اليه قولهم في حجة المشهور : لانه بعد ان وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور لزمه الفحص والتحقيق عما تصح معه وتفسد. فإنه جيد وجيه في الجاهل بهذا المعنى وعليه تدل الأخبار كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وحسنة بريد الكناسي وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الواردة في التزويج في العدة كما تقدم جميع ذلك في المقدمة المذكورة (1) ويزيدها تأكيدا ما رواه الكليني عن الفضل بن إسماعيل الهاشمي عن أبيه (2) قال : «شكوت الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) ما القى من أهل بيتي من استخفافهم بالدين فقال يا إسماعيل لا تنكر ذلك من أهل بيتك فان الله تبارك وتعالى جعل لكل أهل بيت حجة يحتج بها على أهل بيته في القيامة فيقال لهم ألم تروا فلانا فيكم ألم تروا هديه فيكم ألم تروا صلاته فيكم ألم تروا دينه فهلا اقتديتم به؟ فيكون حجة الله عليهم في القيامة». وعن معاوية بن عمار (3) قال : «سمعت أبا عبد الله

__________________

(1) ج 1 ص 73 و 82.

(2) روضة الكافي ص 83 الطبع الحديث.

(3) روضة الكافي ص 84 الطبع الحديث.


(عليه‌السلام) يقول ان الرجل منكم ليكون في المحلة فيحتج الله تعالى يوم القيامة على جيرانه به فيقال لهم ألم يكن فلان فيكم ألم تسمعوا كلامه ألم تسمعوا بكاءه في الليل؟ فيكون حجة الله عليهم». والتقريب فيهما هو الدلالة على ان الله عزوجل يحتج على الجهال وما يأتونه لجهلهم من عبادة وغيرها بالصلحاء الذين بين أظهرهم وعباداتهم ونسكهم فينبغي لهم الاقتداء بهم والسؤال والفحص منهم ، ومنه يعلم ان الجهال متى علموا بوجوب الصلاة وان لها شروطا مصححة وأمورا مبطلة في الجملة ورأوا المصلين وما هم عليه من القيام بالشروط المصححة واجتناب الأمور المبطلة فإنه يجب عليهم الفحص والسؤال عن تلك الأحكام والاقتداء بهم كما دلت عليه الاخبار المشار إليها آنفا ، ويعضدها أيضا الأخبار المستفيضة بالأمر بالتثبت والتوقف عند الجهل بالحكم وعدم وجود من يسأل عنه كقول الصادق (عليه‌السلام) في رواية حمزة بن الطيار (1) «لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق. الحديث». واما من لم يصل اليه العلم بهذه الأشياء كمن نشأ في البادية مثلا وأخذ الصلاة من أمثاله من الجهال أو الرساتيق الغالب عليها الجهل وأمثالهم من النساء والبلة فهؤلاء من القسم الأول كما لا يخفى.

أقول : وممن حام حول هذا التفصيل في معنى الجاهل ولكن لم يهتد للدخول فيه الفاضل المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) في شرح الإرشاد حيث قال في هذا المقام : وان كان جاهلا بالمسألة فقيل حكمه حكم العامد وفيه تأمل إذ الإجماع غير ظاهر والأخبار ليست صريحة في ذلك ، والنهي الوارد بعدم الصلاة مع النجاسة أو الأمر الوارد بالصلاة مع الطهارة المستلزم له غير واصل اليه فلا يمكن الاستدلال بالنهي المفسد للعبادة لعدم علمه به فكيف يكون منهيا عنه؟ ولما هو المشهور من الخبر «الناس في سعة ما لم يعلموا أو مما لم يعلموا» (2).

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 4 و 8 و 12 من صفات القاضي.

(2) راجع التعليقة 2 ج 1 ص 43.


وما علم شرطية الطهارة في الثوب والبدن للصلاة مطلقا حتى ينعدم بانعدامه مع ان الإعادة تحتاج الى دليل جديد. إلا ان يقال انه وصل اليه وجوب الصلاة واشتراطها بأمور فهو بعقله مكلف بالفحص والتحقيق والصلاة مع الطهارة وقالوا شرط التكليف هو إمكان العلم فهو مقصر ومسقط عن نفسه بأنه لم يعلم فلو كان مثله معذورا للزم فساد عظيم في الدين ، فتأمل فإن هذا ايضا من المشكلات. انتهى كلامه. أقول : لا اشكال بحمد الله الملك المتعال بعد ما أوضحناه من التفصيل في معنى الجاهل في هذا المجال ، واما قوله فهو بعقله ففيه انه مكلف بالاخبار ايضا كما عرفت من الاخبار الدالة على وجوب الفحص والسؤال على الجاهل بالمعنى الثاني وان أيدتها الأدلة العقلية أيضا ، وعليك بالتوثق بهذا التحقيق لتنجو به في جملة من الأحكام من لجج المضيق ، هذا.

واما الاخبار الدالة على بطلان صلاة العالم العامد فهي كثيرة ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة وان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك ، وكذلك البول».

وحسنة عبد الله بن سنان (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال ان كان علم انه أصاب ثوبه جنابة قبل ان يصلي ثم صلى فيه ولم يغسله فعليه ان يعيد ما صلى وان كان يرى أنه اصابه شي‌ء فنظر فلم ير شيئا أجزأه ان ينضحه بالماء».

وصحيحة إسماعيل الجعفي عن الباقر (عليه‌السلام) (3) قال : «في الدم يكون في الثوب الى ان قال وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه فلم يغسله حتى صلى فليعد

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 16 من النجاسات.

(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.

(3) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.


صلاته وان لم يكن رآه حتى صلى فلا يعيد الصلاة».

(المقام الثاني) ـ ان يصلي فيها جاهلا بها والأشهر الأظهر صحة صلاته ، وقال الشيخ في المبسوط يعيد في الوقت لا في خارجه ونقل عنه انه اختاره في باب المياه من النهاية أيضا ، وقال في الدروس بعد نقل هذا القول : وحملناه في الذكرى على من لم يستبرئ بدنه وثوبه عند المظنة للرواية. وظاهر الأصحاب الاتفاق على عدم وجوب القضاء لو لم يعلم حتى خرج الوقت ، ونقل ابن إدريس في السرائر وابن فهد في المهذب الإجماع عليه ، ونسبه في المنتهى الى أكثر علمائنا مؤذنا بالخلاف فيه ، وهو الظاهر ايضا من الخلاف حيث قال فيه : مسألة ـ إذا صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة أو بدنه يتحقق انها كانت عليه حين الصلاة ولم يكن علمها قبل اختلف أصحابنا في ذلك واختلفت رواياتهم ، فمنهم من قال تجب الإعادة على كل حال ، وقال بعد ذلك ومنهم من قال ان علم في الوقت أعاد وان لم يعلم إلا بعد خروج الوقت لم يعد. انتهى. والعجب انه اقتصر على القولين المخالفين في المسألة ولم ينقل القول المشهور وهو عدم الإعادة مطلقا.

وكيف كان فالظاهر هو القول الأول للأخبار الكثيرة ، ومنها صحيحة محمد بن مسلم وصحيحة الجعفي المتقدمتان.

ومنها ـ صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال ان كان لم يعلم فلا يعد».

ورواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه جنابة أو دم حتى فرغ من صلاته ثم علم؟ قال قد مضت صلاته ولا شي‌ء عليه».

وصحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) الطويلة (3) وفيها «قلت فان ظننت

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.

(3) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 37 و 41 و 42 و 44 من النجاسات.


انه قد اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد الصلاة».

ورواية أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «ان أصاب ثوب الرجل الدم فصلى فيه وهو لا يعلم فلا اعادة عليه. الحديث».

وحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة إلا ان ما تقدم برواية الشيخ واما برواية الكليني (2) فقل فيها بعد قوله «فعليه ان يعيد ما صلى» «وان كان لم يعلم فليس عليه اعادة. الى آخر ما تقدم».

وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الاسناد عن أخيه (عليه‌السلام) (3) وستأتي ان شاء الله تعالى في المطلب الآتي وفيها «وان كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة ثم ليغسله».

ويؤيده أيضا صحيحة محمد بن مسلم (4) قال : «سألته عن الرجل يرى في ثوب أخيه دما وهو يصلي؟ قال لا يؤذنه حتى ينصرف».

وصحيحة العيص بن القاسم (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل صلى في ثوب رجل أياما ثم ان صاحب الثوب أخبره انه لا يصلي فيه؟ قال لا يعيد شيئا من صلاته».

هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة وكلها ـ كما ترى ـ ظاهرة الدلالة على صحة القول المشهور.

بقي الكلام فيما ذكره في الدروس من الكلام بالنسبة إلى النجاسة المظنونة والفرق بينها وبين المجهولة جهلا ساذجا حيث انه فصل في صورة الظن بين الاجتهاد بالنظر وعدمه فأوجب الإعادة على الثاني دون الأول ، قال في الذكرى بعد نقل صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة المتضمنة لقوله : «وان أنت نظرت في ثوبك. إلخ» ما صورته :

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.

(4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 47 من النجاسات.


ولو قيل بعدم الإعادة على من اجتهد قبل الصلاة ويعيد غيره أمكن لهذا الخبر ولقول الصادق (عليه‌السلام) (1) في المني تغسله الجارية ثم يوجد : «أعد صلاتك اما انك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شي‌ء». ان لم يكن احداث قول ثالث. انتهى. واعترضه في ذلك جملة من المتأخرين : منهم ـ السيد في المدارك.

أقول : ان ظاهر الشيخين والصدوق القول بذلك وان لم يعثر عليه شيخنا المشار اليه ، ولهم في الاستدلال عليه ما هو أصرح من دليله ، اما الشيخ المفيد (قدس‌سره) فإنه قال ـ بعد ان ذكر وجوب الإعادة على من ظن انه صلى على طهارة ثم انكشف فساد ظنه ـ ما صورته : وكذلك من صلى في الثوب وظن انه طاهر ثم عرف بعد ذلك انه كان نجسا ففرط في صلاته من غير تأمل له أعاد الصلاة. وظاهر الشيخ موافقته حيث استدل له بما رواه عن منصور الصيقل عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له رجل أصابته جنابة بالليل فاغتسل وصلى فلما أصبح نظر فإذا في ثوبه جنابة؟ فقال الحمد لله الذي لم يدع شيئا إلا وقد جعل له حدا ان كان حين قام نظر فلم ير شيئا فلا اعادة عليه وان كان حين قام لم ينظر فعليه الإعادة». واما الصدوق فإنه روى في الفقيه مرسلا (3) قال : وقد روى في المني «انه ان كان الرجل حين قام نظر وطلب فلم يجد شيئا فلا شي‌ء عليه وان كان لم ينظر ولم يطلب فعليه ان يغسله ويعيد صلاته». ويعضد ما دلت عليه هاتان الروايتان قوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة : «وان أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا اعادة عليك». الدال بمفهومه على انك إذا لم تنظر فعليك الإعادة ، ويشير اليه قوله (عليه‌السلام) في صحيحة زرارة وان كان في كلام الراوي : «قلت فان ظننت أنه اصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا ثم صليت فيه فرأيت فيه؟ قال تغسله ولا تعيد

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب 18 من النجاسات.

(2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 41 من النجاسات.


الصلاة». فإن الجواب بعدم إعادة الصلاة قد ترتب هنا على ظن الإصابة مع النظر وعدم الرؤية فيفهم منه ترتب الإعادة مع الظن المذكور وعدم النظر.

وبالجملة فظاهر الروايات المذكورة ولا سيما الأوليين هو ما ذكره أولئك الأجلاء (رضوان الله عليهم) إلا انه ربما يشكل ذلك باعتبار بناء المصلي على يقين الطهارة فإن الظاهر انه لا يجب عليه الفحص في الثوب ولا طلب النجاسة متى ظنها أو شك فيها لما يفهم من جملة من الاخبار وقد تقدمت من النهي عن السؤال عما يشترى من أسواق المسلمين وان ذلك تضييق للدين (1) وما يستفاد من صحيحة زرارة الطويلة وفيها بعد ما قدمنا نقله هنا منها من قوله : «قلت فان ظننت أنه أصابه. إلخ» «قلت لم ذلك؟ قال لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت فليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا. الى ان قال فهل علي ان شككت في انه أصابه شي‌ء ان انظر فيه؟ قال لا ولكنك انما تريد ان تذهب عنك الشك الذي في نفسك. الحديث». وهي صريحة ـ كما ترى ـ في البناء على يقين الطهارة كما هي القاعدة المطردة المتفق عليها وان النظر في مقام الظن أو الشك انما هو مستحب لا ذهاب وسوسة الشيطان ، والمراد بالشك في الخبر ما يشمل الظن كما حققناه في محل أليق ، والمراد بالشك هنا ما يقابل اليقين الشامل للظن والشك بالمعنى المصطلح ، وحينئذ فيمكن حمل الإعادة في تلك الاخبار على الاستحباب. اللهم إلا ان يقال انه لا منافاة بين عدم وجوب النظر عليه من أول الأمر ووجوب الإعادة لو ظهرت النجاسة في الصورة المذكورة لعدم فحصة عنها وطلبه لها وتظهر الفائدة في صحة صلاته مع استمرار الاشتباه ، ونظيره في الأحكام غير عزيز فان من صلى مع اشتباه الوقت بانيا على ظن دخوله ثم ظهر خلاف ظنه بان كانت صلاته قبل الوقت فإنه يعيد وان كانت صلاته صحيحة مع استمرار الاشتباه ، وظاهر رواية منصور ان هذا التفصيل حد شرعي للنجاسة في هذه الصورة فالمتعدي عنه داخل تحت

__________________

(1) ص 257 و 258.


قوله تعالى : «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ ...» (1) وتحت قولهم (عليهم‌السلام) (2) «ان الله عزوجل جعل لكل شي‌ء حدا ولمن تعدى ذلك الحد حدا». وهذه الروايات لا معارض لها بحسب الظاهر إلا إطلاق الروايات الدالة على عدم وجوب الإعادة على الجاهل وقضية الجمع توجب تقييد إطلاقها بهذه الروايات لكونها أخص ، وعلى هذا فتكون الأخبار مخصوصة بالجهل الساذج الخالي من حصول الظن بالكلية ، وبذلك يظهر قوة القول المذكور ويعضده أنه الأوفق بالاحتياط.

بقي شي‌ء وهو ان مورد الأخبار المذكورة انما هو نجاسة المني إلا ان ظاهر عبارة الشيخ المفيد مطلق النجاسة وكذا كلام الشهيد ، وهو كذلك إذ لا خصوصية للمني بذلك. وظاهر الأخبار المذكورة أيضا الإعادة وقتا وخارجا وهو ظاهر القائلين بذلك ايضا ، هذا.

واما ما ذهب اليه الشيخ من الإعادة في الوقت فنقل عنه انه استدل عليه بأنه لو علم النجاسة في أثناء الصلاة وجب عليه الإعادة فكذا إذا علم في الوقت بعد الفراغ. وأجيب عنه بمنع الملازمة إذ لا دليل عليها. وبالجملة فضعفه أظهر من ان يبين بعد ورود تلك الاخبار الصحاح والحسان. وأضعف منه القول بالإعادة بعد الوقت.

بقي هنا في المقام روايتان إحداهما ما رواه الشيخ في الصحيح عن وهب بن عبد ربه عن الصادق (عليه‌السلام) (3) «في الجنابة تصيب الثوب ولا يعلم بها صاحبه فيصلي فيه ثم يعلم بعد ذلك؟ قال يعيد إذا لم يكن علم». والثانية ما رواه عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن رجل صلى وفي ثوبه بول أو جنابة؟ فقال علم به أو لم يعلم فعليه إعادة الصلاة إذا علم». وظاهرهما الدلالة على القول بالإعادة مطلقا ، والشيخ قد أجاب عن الاولى في التهذيب بالحمل على انه إذا لم يعلم في حال الصلاة وكان قد سبقه العلم بحصول النجاسة في الثوب. ولا يخفى بعده. وحملها بعض على

__________________

(1) سورة البقرة ، الآية 229.

(2) أصول الكافي ج 1 ص 59 الطبع الحديث.

(3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 40 من أبواب النجاسات.


الاستحباب وبعض على الاستفهام الإنكاري بحذف الهمزة وبعض على زيادة حرف النفي وتوهم الراوي. والثانية حملها الشيخ على عدم العلم حال الاشتغال بالصلاة وبعض على الاستحباب.

أقول وكيف كان فهما لا يبلغان قوة المعارضة لما سردناه من الاخبار الصحيحة الصريحة المعتضدة بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا فهما من المرجأة إلى قائلها (عليه‌السلام) حسب ما ورد عنهم من الرد إليهم فيما اشتبه علينا. والله العالم.

(المقام الثالث) ـ ان يصلي فيها ناسيا وقد اختلف في ذلك كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) على أقوال : ثالثها ان يعيد في الوقت لا في خارجه وهو المشهور بين المتأخرين ، ورابعها استحباب الإعادة واليه ذهب جملة من متأخري المتأخرين كصاحب المدارك وغيره.

وينبغي ان يعلم أولا ان ظاهر كلام الأصحاب في هذا المقام الفرق بين نجاسة الاستنجاء وغيرها من افراد النجاسات ، وذلك فإنهم قد صرحوا بأنه لو صلى ناسيا الاستنجاء فالمشهور وجوب الإعادة وقتا وخارجا ، وقال ابن الجنيد : إذا ترك غسل البول ناسيا تجب الإعادة في الوقت وتستحب بعد الوقت. وقال أبو جعفر بن بابويه : ومن صلى وذكر بعد ما صلى انه لم يغسل ذكره فعليه ان يغسل ذكره ويعيد الوضوء والصلاة ومن نسي ان يستنجي من الغائط حتى يصلي لم يعد الصلاة. كذا نقله العلامة في المختلف. واما الصلاة في النجاسة بغير ذلك فالمشهور بين المتقدمين هو وجوب الإعادة وقتا وخارجا حتى ادعى ابن إدريس عليه الإجماع وذكر بأنه لولا الإجماع لما صار اليه كذا نقل عنه في المدارك ، والذي وقفت عليه من كلامه في السرائر في هذا المقام خلاف ذلك حيث انه بعد ذكر المسألة أدمى فيها عدم الخلاف إلا من الشيخ في الاستبصار ، وما ذكره عنه من قوله لولا الإجماع لما صار اليه ليس له أثر في الموضع المذكور واحتمال نقل صاحب المدارك عنه من غير السرائر أو منه في غير موضع المسألة بعيد كما


لا يخفى فينبغي التنبيه لا مثال ذلك. وحكى العلامة في التذكرة عن الشيخ في بعض أقواله عدم الإعادة مطلقا. وفصل الشيخ في الاستبصار بين الوقت وخارجه وتبعه المتأخرون وصار المشهور بينهم هذا القول ، وبذلك يظهر ان ما ذكره في المدارك في باب الاستنجاء وحكم الصلاة مع نسيانه من انها من جزئيات هذه المسألة التي نحن فيها على إطلاقه لا يخلو من نظر ، فإنه ان أراد عند الأصحاب فهو ليس كذلك لما عرفت وان أراد باعتبار الدليل فيمكن ، وقد تقدم الكلام في الاخبار المتعلقة بالاستنجاء وبسط البحث فيها في صدر الباب الثاني من الأبواب التي رتب عليها الكتاب.

بقي الكلام في اخبار هذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عليها وتحقيق البحث فيها :

فنقول ـ وبالله الثقة لكل مأمول ـ من الأخبار الدالة على الإعادة مطلقا فيها حسنة محمد بن مسلم الواردة في الدم (1) حيث قال (عليه‌السلام) «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه».

ورواية أبي بصير في الدم ايضا (2) قال فيها : «وان هو علم قبل ان يصلي فنسي وصلى فيه فعليه الإعادة».

ورواية سماعة (3) «عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتى يصلي؟ قال يعيد صلاته كي يهتم بالشي‌ء إذا كان في ثوبه عقوبة لنسيانه».

وصحيحة الجعفي في الدم ايضا (4) قال : «وان كان أكثر من قدر الدرهم وكان رآه ولم يغسله حتى صلى فليعد صلاته».

ورواية جميل بن دراج في الدم ايضا (5) قال : «وان كان قد رآه صاحبه قبل

__________________

(1 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.

(2) المروية في الوسائل في الباب 40 من أبواب النجاسات.

(3) المروية في الوسائل في الباب 42 من النجاسات.


ذلك فلا بأس ما لم يكن مجتمعا قدر الدرهم».

وصحيحة ابن ابي يعفور (1) «في نقط الدم يعلم به ثم ينسى ان يغسله فيصلي فيه ثم يذكر بعد ما صلى أيعيد صلاته؟ قال يغسله ولا يعيد صلاته إلا ان يكون مقدار الدرهم مجتمعا فيغسله ويعيد صلاته».

وصحيحة زرارة (2) قال : «قلت له أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من مني فعلمت أثره الى ان أصيب له الماء فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت ان بثوبي شيئا وصليت ثم اني ذكرت بعد ذلك؟ قال تعيد الصلاة وتغسله. قلت فان لم أكن رأيت موضعه وعلمت انه قد اصابه فطلبته فلم اقدر عليه فلما صليت وجدته؟ قال تغسله وتعيد».

ورواية ابن مسكان (3) قال : «بعثت بمسألة الى ابي عبد الله (عليه‌السلام) مع إبراهيم بن ميمون قلت اسأله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلي فيه ثم يذكر انه لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته».

وصحيحة علي بن جعفر المروية في قرب الاسناد وكتاب المسائل عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن رجل احتجم فأصاب ثوبه دم فلم يعلم به حتى إذا كان من الغد كيف يصنع؟ قال ان كان رآه ولم يغسله فليقض جميع ما فاته على قدر ما كان يصلي ولا ينقص منه شي‌ء ، وان كان رآه وقد صلى فليعتد بتلك الصلاة». ومما يدل على عدم الإعادة في هذه الصورة صحيحة العلاء عن الصادق (عليه‌السلام) (5) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشي‌ء فينجسه فينسى أن يغسله فيصلي فيه ثم يذكر انه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال لا يعيد قد مضت الصلاة وكتبت

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من أبواب النجاسات.

(2) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 37 و 40 و 42 و 44 من النجاسات.

(3 و 5) المروية في الوسائل في الباب 42 من أبواب النجاسات.

(4) المروية في الوسائل في الباب 40 من النجاسات.


له». وظاهرها عدم الإعادة في الوقت وخارجه بتقريب التعليل المذكور فيها المشعر بكونها بعد الفراغ منها قد كتبت له لكونها على ظاهر الصحة.

ويظهر من المحقق في المعتبر الميل الى العمل بمضمونها حيث قال : وعندي ان هذه الرواية حسنة والأصول تطابقها لانه صلى صلاة مشروعة مأمورا بها فيسقط الفرض بها. ومراده بالحسن هنا يعني بالنسبة إلى متنها وما تضمنته من الحكم لا الحسن باعتبار السند لان هذا الاصطلاح في التقسيم للأقسام المشهورة انما وقع بعده وان كان وقع التحدث به في زمانه كما يشعر به طعنه في الاخبار في المعتبر بضعف الإسناد إلا ان استقرار الاصطلاح المذكور انما وقع من تلميذه العلامة فلا يتوهم المنافاة في كلامه.

بقي الكلام في اختياره العمل بهذه الرواية مع ان بإزائها من الأخبار ما عرفت والترجيح في جانب تلك الأخبار لكثرتها وتعددها واعتضادها بالشهرة بين المتقدمين كما عرفت والمخالف مجهول القائل كما تقدم ، والشيخ وان خالف في الاستبصار الى ما ذكره من التفصيل بين الوقت وخارجه إلا انه في جميع كتبه قد وافق الأصحاب كما نقله ابن إدريس في السرائر حيث انه كما عرفت ادعى الإجماع إلا من الشيخ في الاستبصار ، وبالجملة فإني لا اعرف لاختياره العمل بهذه الرواية وعدم الجواب عن ما بإزائها وجها.

والشيخ في الاستبصار قد جمع بين الاخبار بحمل روايات الإعادة على ما إذا ذكر في الوقت ورواية العلاء على ما إذا ذكر خارج الوقت ، واستدل على هذا الجمع بصحيحة علي بن مهزيار (1) قال : «كتب اليه سليمان بن رشيد يخبره انه بال في ظلمة الليل وانه أصاب كفه برد نقطة من البول لم يشك أنه اصابه ولم يره وانه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله وتمسح بدهن ومسح به كفيه ووجهه ورأسه ثم توضأ وضوء الصلاة فصلى؟ فأجابه بجوابه قرأته بخطه : اما ما توهمت مما أصاب يدك فليس بشي‌ء إلا

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 42 من النجاسات.


ما تحقق فان حققت ذلك كنت حقيقا ان تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها ، وما فات وقتها فلا اعادة عليك لها من قبل ان الرجل إذا كان ثوبه نجسا لم يعد الصلاة إلا ما كان في وقت وإذا كان جنبا أو صلى على غير وضوء فعليه اعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته لان الثوب خلاف الجسد فاعمل على ذلك ان شاء الله تعالى». وجل المتأخرين قد تبعوه في ذلك.

واعترض هذه الرواية في المدارك فقال وهي مع تطرق الضعف إليها من حيث السند بجهالة الكاتب مجملة المتن ايضا ، بل ربما أفادت بظاهرها عدم اعتبار طهارة محل الوضوء وهو مشكل إلا ان يحمل قوله : «فان تحققت ذلك» على ان المراد ان تحققت وصول البول الى بدنك على وجه لا يكون في أعضاء الوضوء. انتهى.

أقول وفي ما ذكروه من الجمع المذكور عندي نظر من وجهين : (أحدهما) ان من جملة أخبار وجوب الإعادة حسنة محمد بن مسلم المتقدمة وقوله فيها «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه» وظاهرها كما ترى انه صلى في النجاسة صلوات كثيرة ، ومن المعلوم ان هذه الصلوات بلفظ الجمع ووصف الكثرة فأكثرها انما يقع خارج الوقت فالإعادة تقع خارج الوقت البتة فلا يتم ما ذكروه ، ونحوها صحيحة علي بن جعفر المتقدم نقلها من الكتابين المشار إليهما ثمة ، فإن ظاهرها عموم الحكم للعامد والناسي في الوقت وخارجه لان فرضه (عليه‌السلام) رؤيته وعدم غسله أعم من ان يكون سابقا أو حال الصلاة ووقوع الأمر بلفظ القضاء والتعبير عن المقضي بقوله : «جميع ما فاته» يعطي ان ذلك في خارج الوقت وان الفائت صلوات متعددة ، ويؤكده ان فرض الرؤية للنجاسة انما وقع من الغد بعد مضي تلك الصلوات في اليوم السابق ، وما عدا هذين الخبرين وان كان مطلقا يقبل التقييد بما ذكروه إلا ان هذين الخبرين لا يقبلان ذلك ، وحينئذ فلا تنطبق أخبار المسألة على ما ذكروه وبه يظهر بطلانه وإبقاء الأخبار المطلقة على إطلاقها كما هو المشهور المأثور


و (ثانيهما) ـ ان ما استندوا إليه في حمل تلك الأخبار على وجوب الإعادة في الوقت من صحيحة علي بن مهزيار المذكورة فإنه على غاية من الاشكال المانع من الاستناد إليها في الاستدلال ، فإنه لا يخفى على من تأمل في الرواية المذكورة بعين التحقيق ما فيها من الإشكالات العديدة والاحتمالات البعيدة بل الغير السديدة وبذلك صرح جملة من الأصحاب في الباب (الأول) ـ أنها تقتضي عدم اشتراط طهارة أعضاء الوضوء قبل ورود مائه عليها وهو موجب لتنجسه حينئذ فكيف يصح رفع الحدث به؟ (الثاني) ـ ان ذلك الوضوء الذي قد توضأه اما ان يكون صحيحا أم لا وعلى كلا التقديرين فالمنافاة حاصلة في البين ، اما على الأول فإن ظاهر امره (عليه‌السلام) بإعادة الصلاة التي صلاها بذلك الوضوء بعينه مشعر بأن منشأ الإعادة فساد الوضوء ، واما على الثاني فلان آخر الخبر دل على ان فساد الوضوء يقتضي قضاء الفوائت مع انه حكم فيه بان ما فات وقتها فلا اعادة عليه. وقد حمل بعضهم الوضوء في قوله (عليه‌السلام) «بذلك الوضوء بعينه» على التمسح والتدهن قال فإنه معنى لغوي. ولا يخفى ما فيه من البعد التام (الثالث) ـ ان اليد الماسحة للرأس لا ريب في تنجسها بملامسة الرأس لنجاسته فتنجس الرطوبة التي عليها (الرابع) ـ قوله : «كنت حقيقا ان تعيد الصلوات التي كنت صليتهن بذلك الوضوء» يعطي انه لو أحدث عقيب ذلك الوضوء وتوضأ وضوء آخر وصلى صلوات فإنه لا يعيدها مع ان العلة مشتركة.

وأجاب بعضهم عن الإشكال الأول بالتزام ذلك قال : لانه لم يقم لنا دليل تام على بطلان الوضوء حينئذ فلنا ان نلتزم عدم الاشتراط والاكتفاء في إزالة الخبث ورفع الحدث بورود ماء واحد. انتهى. وفيه مع تسليم صحة ما ادعاه ان المفهوم من الروايات الواردة في تطهير الثوب والبدن من نجاسة البول وجوب المرتين وهذا القائل من جملة القائلين بذلك فكيف يتم ما ذكره هنا؟

واما ما أجاب به في المدارك مما قدمنا نقله عنه وقوله : «إلا ان يحمل قوله فان


تحققت. إلخ» ففيه ان السؤال قد تضمن انه أصاب كفه لم يشك في انه أصابه إلا ان الامام (عليه‌السلام) في الجواب لأجل بيان شقوق المسألة واستيفاء أحكامها ردد له بين التوهم والتحقيق في اصابة البول اليد فقال ان كان على جهة التوهم فليس بشي‌ء وان حققت ذلك يعني اصابة البول اليد فالتحقيق راجع الى اصابة البول اليد فكيف يتم الحمل على تحقيق اصابة البدن على وجه لا يصيب إمضاء الوضوء كما زعمه (قدس‌سره

وأجيب أيضا عن الاشكال الثالث بأنه ليس في كلام السائل ما هو نص في استيعاب الرأس بمسح الدهن فلعل مقدار ما يقع عليه مسح الوضوء لم ينجس بذلك الدهن وهو (عليه‌السلام) قد اطلع على ذلك ولا يخفى ما فيه من التكلف والخروج عن الظاهر إلى أقصى غايات البعد.

وأجاب شيخنا البهائي في الحبل المتين عن الاشكال الرابع فقال : ولمتكلف ان يقول لعله أراد بذلك الوضوء بعينه الوضوء النوعي الخاص اعني الواقع بعد التدهن وقبل تطهير البدن ، وهذا التفصي وان كان كما ترى إلا انه محمل صحيح في ذاته. انتهى وبالجملة فمعنى الخبر المذكور على غاية من الخفاء وعدم الظهور وارتكاب هذه التمحلات في دفع هذه الإشكالات لا يجدي نفعا في مقام الاستدلال ، ولقد أجاد المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال بعد نقل الرواية المذكورة : معنى هذا الحديث غير واضح وربما يوجه بتكلفات لا فائدة في إيرادها ويشبه ان يكون قد وقع فيه غلط من النساخ. انتهى. وبعض فضلاء المتأخرين جعل بعض هذه الإشكالات المذكورة منشأ الاضطراب الموجب لرد الحديث.

هذا ، واما ما قدمنا نقله عن المدارك في اعتراضه على سند الرواية فهو منظور فيه بان الاعتماد في صحة الخبر المذكور انما هو على كلام الثقة الجليل علي بن مهزيار وقوله : «فأجابه بجواب قرأته بخطه» ويحتمل ان يكون مراده الطعن بجهالة المكتوب اليه كما طعن به جده في الروض على الرواية المذكورة فحرف قلمه فانصرف الى الكاتب ،


وفيه ايضا ان مثل علي بن مهزيار في جلالة شأنه لا ينسب مثل هذه العبارة الى غير الامام (عليه‌السلام) بل ولا يعتمد على غيره في شي‌ء من الأحكام كما صرحوا به (رضوان الله عليهم) في أمثال هذا المقام.

وصار جماعة من فضلاء متأخري المتأخرين لما رأوا ما في جمع الشيخ من الاختلال الى الجمع بين الأخبار بحمل أخبار الإعادة على الاستحباب والظاهر انهم قد اقتفوا في ذلك المحقق (قدس‌سره) في المعتبر حيث اختار القول بعدم وجوب الإعادة فجعلوا التأويل في جانب أخبار الإعادة بحملها على الاستحباب ، قال في المدارك بعد كلام في المسألة : والأظهر عدم وجوب الإعادة لصحة مستنده ومطابقته لمقتضى الأصل والعمومات وحمل ما تضمن الأمر بالإعادة على الاستحباب. انتهى.

وفيه (أولا) ـ ما قدمنا ذكره في غير موضع من انه لا مستند لهذا الجمع وان تكرر منهم في جميع أبواب الفقه بل ظواهر القواعد الأصولية المبتني عليها عندهم تقتضي رده فان ظواهر الاخبار الوجوب بلا خلاف والحمل على الاستحباب مجاز لا يصار اليه إلا مع القرينة واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز ، ولان الاستحباب حكم شرعي يحتاج ثبوته الى الدليل الواضح ومجرد اختلاف الاخبار لا يوجب ذلك.

و (ثانيا) ـ ان الأمر بالإعادة قد ورد في اخبار متعددة ونجاسات متفرقة ومقامات متباينة وفيها الصحيح والحسن والموثق وغيرها كما تقدم لك ذكره وما استند اليه رواية واحدة وان صح سندها ، ومن القواعد المقررة في كلام أهل العصمة (عليهم‌السلام) الترجيح بالشهرة يعني في الرواية سيما مع اعتضادها بالشهرة في الفتوى فكيف يصح الحكم بترجيح تلك الرواية على هذه الأخبار والحال كما عرفت؟ ولا يخفى ان ترجيحها على هذه الاخبار والحال ان فيها الصحيح باصطلاحه خلاف قاعدته التي بنى عليها في أكثر المواضع من شرحه ، واعتضاد تلك الرواية بالعمومات ومطابقة مقتضى الأصل غير مجد هنا فإن الأصل يجب الخروج عنه بمقتضى الدليل والعمومات يجب تخصيصها ،


وبالجملة فإنه لما تعارضت هذه الرواية وباقي أخبار المسألة وكان الترجيح في جانب الأخبار المذكورة لما ذكرناه من الوجوه فإنه لا يبقى للتمسك بهذا الأصل ولا بالعمومات وجه كما لا يخفى.

و (ثالثا) ـ ان موثقة سماعة التي هي من جملة أخبار الإعادة قد دلت بعد الأمر بالإعادة على ان ذلك عقوبة لنسيانه بمعنى تهاونه بالإزالة حتى ادى الى نسيانها والصلاة فيها وإلا فالنسيان من حيث هو لا يترتب عليه عقوبة ، والظاهر ان العقوبة لا تجامع الاستحباب الذي يجوز معه الترك اختيارا.

وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المشهور إلا انه يبقى الإشكال في صحيحة العلاء وما الذي ينبغي ان تحمل عليه ، وكيف كان فالاحتياط في جانب القول المشهور وبه يظهر ترجيحه لو تعارضت الاخبار على وجه لا يمكن ترجيح أحد طرفيها ، وان الاحتياط عندنا في مثل ذلك واجب كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب. والله العالم.

(المقام الرابع) ـ ان يرى النجاسة وهو في الصلاة ، والحال هنا دائرة بين أمرين فاما ان يعلم سبق النجاسة على الدخول في الصلاة بإحدى القرائن والأمارات الدالة على ذلك وان كان حال دخوله في الصلاة جاهلا بها أم لا ، فههنا صورتان :

(الاولى) ـ ان يعلم سبقها ، والمشهور بين الأصحاب ـ وبه قطع الشيخ في النهاية والمبسوط والمحقق وغيرهما ـ انه يجب عليه ازالة النجاسة أو إلقاء الثوب النجس وستر العورة بغيره مع الإمكان وإتمام الصلاة وان لم يمكن إلا بفعل المبطل أبطلها واستقبل الصلاة ، قال في المعتبر : وعلى قول الشيخ الثاني يستأنف. وأشار بالقول الثاني الى ما تقدم نقله عن المبسوط من اعادة الجاهل لو علم في الوقت ، قال في المدارك ويشكل بمنع الملازمة إذ من الجائز ان تكون الإعادة لوقوع الصلاة بأسرها مع النجاسة ولا يلزم مثله في البعض ، وبان الشيخ قطع في المبسوط بوجوب المضي في الصلاة مع التمكن من إلقاء الثوب وستر العورة بغيره مع حكمه فيه بإعادة الجاهل في الوقت. انتهى. وهو جيد.


(الثانية) ـ ان لا يعلم السبق والحكم فيها عند الأصحاب كما في سابقتها بل هي أولى كما لا يخفى ، ونقل في المدارك هنا ايضا عن المعتبر انه قطع بوجوب الاستئناف هنا بناء على القول بالإعادة على الجاهل في الوقت ، ثم قال في المدارك وهو أشكل من السابق.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام يتوقف على نقل جملة الأخبار المتعلقة بالمسألة وتذييل كل منها بما هو الظاهر من سياقه وبيان ما هو الحق في المسألة :

والذي وقفت عليه من الاخبار روايات : (الأولى) ـ صحيحة زرارة المذكورة (1) حيث قال في آخرها «قلت ان رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي‌ء أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك».

وظاهر الخبر المذكور التفصيل بعد رؤية النجاسة بأنه ان كان قد حصل له ظن بالنجاسة قبل دخوله في الصلاة وصلى والحال هذه فإنه تجب عليه الإعادة ، وينبغي تقييده بما إذا لم ينظر في الثوب بعد ظنه لانه (عليه‌السلام) قد قدم في الخبر انه مع الظن والنظر في الثوب وعدم رؤية النجاسة ثم يجدها بعد ذلك فلا اعادة عليه ، وان لم يحصل له ظن بالنجاسة بل كان خالي الذهن من ذلك ثم علم في أثناء الصلاة فإن الحكم فيه ما ذكره من إزالة النجاسة والبناء على ما صلى ، وفي حكمه إلقاء الثوب الذي فيه النجاسة والاستتار بغيره إن أمكن ، والحكم في الصورة الأولى مخالف لما عليه الأصحاب (رضوان الله عليهم) من المضي في الصلاة بعد طرح النجاسة أو غسلها إن أمكن إلحاقا لرؤية النجاسة في الأثناء مع الجهل بها سابقا بالرؤية بعد الصلاة مع الجهل كذلك فإنه إذا صحت الصلاة كملا بالنجاسة في الصورة المذكورة فبعضها مع استدراك الباقي أولى إلا

__________________

(1) التهذيب ج 1 ص 119 وفي الوسائل في الباب 27 و 41 و 42 و 44 من النجاسات.


انه موافق ومعاضد لما قدمناه من التحقيق في المقام الثاني وان حكم بعض الصلاة حكمها كملا في التفصيل المتقدم. وقال (عليه‌السلام) في الرواية المذكورة كما تقدم «وان لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثم بنيت على الصلاة لأنك لا تدري لعله شي‌ء أوقع عليك فليس ينبغي ان تنقض اليقين بالشك» ومن هذا الكلام يستفاد دليل الصورة الثانية. وغاية ما استدل به في المدارك في هذه الصورة الأصل السالم عما يصلح للمعارضة وغفل عن الصحيحة المذكورة.

الثانية ـ حسنة محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (1) انه قال له : «الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ فقال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل في غيره ، وان لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم فان كان أقل من درهم فليس بشي‌ء رأيته أو لم تره ، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله وصليت فيه صلوات كثيرة فأعد ما صليت فيه ، وليس ذلك بمنزلة المني والبول ، ثم ذكر المني فشدد فيه وجعله أشد من البول ، ثم قال (عليه‌السلام) ان رأيت المني قبل أو بعد فعليك إعادة الصلاة ، وان أنت نظرت ثوبك فلم تصبه وصليت فيه فلا اعادة عليك وكذلك البول» هكذا رواه الصدوق في الفقيه (2). ورواه ثقة الإسلام في الكافي (3) أيضا كذلك الى قوله : «فأعد ما صليت فيه». ورواه الشيخ في التهذيب (4) إلا ان فيه هكذا «ولا اعادة عليك وما لم يزد على مقدار الدرهم من ذلك فليس بشي‌ء». بزيادة الواو وحذف جملة «فإن كان أقل من درهم» وفي الاستبصار (5) حذف الجملة المذكورة ولم يزد الواو ، وكيف كان فالاعتماد على رواية الشيخين المذكورين بل أحدهما لو لم يكن إلا هو إذ لا يخفى على من لاحظ التهذيب وما وقع للشيخ فيه من التحريف والتغيير والزيادة والنقصان في متون

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.

(2) ج 1 ص 161.

(3) ج 1 ص 18.

(4) ج 1 ص 72.

(5) ج 1 ص 175.


الاخبار وأسانيدها ترجيح ما ذكره غيره من المحدثين ولا ريب ان هذا من جملة ذلك.

ثم انه قد دل صدر الخبر المذكور على انه إذا رأى الدم في ثوبه وهو في الصلاة فإن كان عليه ثوب غيره طرح الثوب النجس وأتم صلاته وهو مما لا خلاف فيه بين الأصحاب إلا انهم خيروا فيما إذا لم يكن عليه إلا ذلك الثوب النجس بين إزالة النجاسة وإلقاء الثوب النجس والستر بغيره إن أمكن ، وظاهر الخبر ان الحكم في المسألة ما ذكرنا وان علم سبق النجاسة ببعض القرائن المفيدة لذلك ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا كما تقدم ، وان لم يكن عليه ثوب غيره ولم يمكنه إزالة النجاسة كما ذكره الأصحاب ودلت عليه صحيحة زرارة ولا الاستبدال مضى في صلاته بذلك الدم الذي في الثوب إذا كان الدم مما يعفى عنه بان لم يزد على مقدار الدرهم ومفهومه انه إذا لم يكن مما يعفى عنه فإنه يقطع صلاته ويعيدها من رأس ، وبالجملة فظاهر الخبر هو انه بعد الرؤية ان أمكن إزالة النجاسة بأي الوجوه المتقدمة وإلا قطع الصلاة وإطلاقه يقتضي عموم ذلك لما لو علم بالتقدم أو لم يعلم ، وهو موافق لما افتى به الأصحاب (رضوان الله عليهم) في هذه الصورة والصورة الثانية فتكون الرواية دليلا لكل منهما. واما قوله : «وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيعت غسله» فقد تقدم حكمه في المقام الثالث واما قوله : «ان رأيت المني قبل أو بعد. الى آخر الخبر» فالظاهر ان معناه ان رأيت المني قبل الدخول في الصلاة ثم صليت فيه عامدا أو ناسيا فعليك الإعادة ، وهذا مما لا اشكال فيه كما تقدم ذكره في المقام الأول والثالث. بقي الكلام في رؤيته بعد الدخول وهو (عليه‌السلام) قد رتب عليه ايضا وجوب الإعادة كما إذا رآه قبل ويجب تقييده بحصول العلم بتقدمه بل هو الظاهر من المني لأنه ليس من قبيل سائر النجاسات التي يحتمل وقوعها عليه في أثناء الصلاة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد المذكور ، ثم فصل (عليه‌السلام) في الرؤية البعدية بعد حكمه بالإعادة بأنه ان نظر فلم يصبه فلا اعادة عليه ، وهذا التفصيل نظير ما تقدم في صحيحة زرارة المتقدمة وهو مؤيد لما حققناه في المقام الثاني


وان خالف مقتضى ما عليه كلمة جمهور الأصحاب من عدم الإعادة مطلقا ، وحينئذ فصدر الخبر محمول على الجهل الساذج الذي لا ظن فيه أو عدم العلم بالتقدم.

وبالجملة فالمتلخص من هذين الخبرين هو الحكم بما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) في غير صورة حصول الظن بالنجاسة وعدم النظر في الثوب فإنهما دلا على وجوب الإعادة في هذه الصورة خاصة ويعضدهما في ذلك الخبر ان المتقدمان في المقام المذكور

الثالثة ـ موثقة أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (1) «في رجل صلى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثم علم به؟ قال عليه ان يبتدئ الصلاة». وربما حملت على من علم بالنجاسة ثم صلى فيها ناسيا أو على الاستحباب ، والأظهر حملها على ما دل عليه عجز صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة من الصلاة في الجنابة بعد حصول الظن بها من غير نظر في الثوب فتكون من جملة أخبار المسألة المذكورة.

الرابعة ـ ما رواه الشيخ عن داود بن سرحان عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «في الرجل يصلي فأبصر في ثوبه دما قال يتم».

الخامسة ـ ما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن علي بن محبوب عن ابن سنان عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «ان رأيت في ثوبك دما وأنت تصلي ولم تكن رأيته قبل ذلك فأتم صلاتك فإذا انصرفت فاغسله ، قال وان كنت رأيته قبل ان تصلي فلم تغسله ثم رأيته بعد وأنت في صلاتك فانصرف واغسله وأعد صلاتك».

والخبر الأول حمله الشيخ على ما إذا كان الدم مما يعفى عنه كالاقل من الدرهم ، وهو جيد في مقام الجمع إلا ان الخبر الثاني لا يقبل هذا التأويل لأمره (عليه‌السلام) بالإعادة متى صلى فيه ناسيا ، والظاهر شذوذ الخبرين المذكورين لمخالفتهما الأخبار المستفيضة عموما وخصوصا لان اخبار هذه المسألة ما بين صريح في الإبطال أو صريح

__________________

(1 و 2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 44 من النجاسات.


في وجوب إزالة النجاسة أو طرح الثوب النجس والاستبدال والاخبار العامة دالة على بطلان الصلاة في النجاسة عامدا فكيف يجوز الإتمام في النجاسة كما يدل عليه ظاهر الخبرين ومخالفتهما لما عليه علماء الطائفة المحقة قديما وحديثا؟ فهما مرجئان الى قائلهما.

السادسة ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلا يغسله فذكر وهو في صلاته كيف يصنع به؟ قال ان كان دخل في صلاته فليمض وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا ان يكون فيه أثره فيغسله».

وهذا الخبر وان كان لا يخلو من نوع إجمال إلا ان الظاهر بعد التأمل فيه ان الأمر بالمضي مبني على كون الملاقاة إنما وقعت مع اليبوسة وهو موجب للنضح خاصة ولما كان في الصلاة امره بالمضي فيها للطهارة بقرينة قوله : «وان لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه» فحاصل الكلام انه ان ذكر في الصلاة فليمض وان لم يدخل فلينضح غاية الأمر انه (عليه‌السلام) في صورة عدم الدخول في الصلاة بين له حكما آخر وهو انه في حال النضح ان رأى فيه أثرا بسبب الملاقاة غسله ، وبالجملة فهذا الاستثناء انما هو قيد للأخير خاصة كما لا يخفى على العارف بأسلوب الكلام.

هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة وخلاصة البحث فيها ، ولصاحب المدارك هنا كلام لا بأس بإيراده وبيان ما فيه فإنه قال بعد الكلام في المسألة : وقد اختلفت الروايات في ذلك فروى زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شي‌ء من مني ، والحديث طويل قال في آخره : قلت فإن رأيته في ثوبي وانا في الصلاة؟ قال تنقض الصلاة». وروى محمد بن مسلم في الصحيح عن الصادق (عليه‌السلام) (3) انه قال : «ان رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من النجاسات.

(2) ص 427.

(3) رواه في الوسائل في الباب 16 من النجاسات.


في الصلاة فعليك إعادة الصلاة». ومقتضى هاتين الروايتين تعين القطع مطلقا سواء تمكن من إلقاء الثوب وستر العورة بغيره أم لا ، وروى محمد بن مسلم في الحسن (1) قال : «قلت له الدم يكون في الثوب علي وانا في الصلاة؟ قال ان رأيته وعليك ثوب غيره فاطرحه وصل وان لم يكن عليك غيره فامض في صلاتك ولا اعادة عليك». وروى علي بن جعفر في الصحيح عن أخيه موسى (عليه‌السلام) قال : «سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير. ، ثم ساق الرواية المتقدمة (2) ثم قال ومقتضى هاتين الروايتين وجوب المضي في الصلاة إذا لم يكن عليه غيره أو كان وطرح الثوب النجس ، والجمع بين الروايات يتحقق بحمل ما تضمن الأمر بالاستيناف على الاستحباب وان جاز المضي في الصلاة مع طرح الثوب النجس إذا كان عليه غيره وإلا مضى مطلقا ، ولا بأس بالمصير الى ذلك وان كان الاستئناف مطلقا اولى. انتهى.

وفيه (أولا) ـ ان ما ذكره من ان مقتضى صحيحتي زرارة ومحمد بن مسلم تعين القطع مطلقا وان أوهمه ما نقله من الروايتين حيث اقتصر منهما على هاتين العبارتين إلا أنك بالتأمل في سياقهما كما قدمناهما يظهر لك بطلان ما ذكره ، وهذا أحد العيوب في الاستدلال بالاخبار حيث يقتطع منها ما يظن دلالته ويترك باقي الخبر ، اما صحيحة زرارة فإنه قال فيها بعد هذه العبارة «وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته وان لم تشك. الى آخره». فقيد (عليه‌السلام) نقض الصلاة والإعادة بصورة ظن النجاسة كما أسلفنا تحقيقه ومع عدم الظن امره (عليه‌السلام) بإزالة النجاسة والبناء واين هذا مما يدعيه من القطع مطلقا؟ واما صحيحة محمد بن مسلم فإنه قال فيها بعد ما نقله منها «وان نظرت في ثوبك. الى آخره» وظاهرها كما قدمنا إيضاحه ان الإعادة مع الرؤية بعد الصلاة انما هو مع عدم النظر في الثوب لا مطلقا ، ولكن العذر له واضح

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 20 من النجاسات.

(2) ص 431.


حيث انه وغيره لم يحوموا حول هذا المعنى ولم يتوجهوا اليه وان كانت الروايات ظاهرة الدلالة عليه.

و (ثانيا) ـ ان ما ادعاه ـ من ان مقتضى روايتي محمد بن مسلم وعلي بن جعفر وجوب المضي في الصلاة والصلاة في النجاسة إذا لم يكن عليه غيره ـ ليس في محله اما حسنة محمد بن مسلم فإنه بنى فيها على نقل الشيخ في التهذيب بل غيره من أصحاب كتب الاستدلال انما نقلوها برواية التهذيب وعليه بنى استدلاله هنا ، وقد عرفت آنفا صورة رواية الشيخين المتقدمين لها فإنه على تقدير ما روياه ـ وهو الأصح ـ لا يتم ما ذكره لانه (عليه‌السلام) قيد الحكم بعدم الإعادة بما إذا لم يزد على مقدار الدرهم ، وحاصله ان عدم الإعادة من حيث العفو عن ذلك الدم ومفهومه وجوب الإعادة مع الزيادة ، فأين ما ذكره من الدلالة على وجوب المضي في الصلاة مع النجاسة؟ وعذره هنا ايضا واضح لعدم اطلاعه على الرواية المذكورة بنقل الشيخين إلا ان ذلك من مثله من المحققين لا يخلو من مجازفة فان الواجب مراجعة كتب الاخبار كملا سيما مع اعترافه في شرحه بما وقع للشيخ (قدس‌سره) من التساهل والخبط في الروايات متونا وأسانيد واما صحيحة علي بن جعفر فقد عرفت المعنى فيها وهو الأوفق بمقتضى الأصول الشرعية والضوابط المرعية ، فان إتمام الصلاة في النجاسة عمدا من غير عذر شرعي بعد العلم بها مما منعت منه الأدلة الصحيحة الصريحة عموما وخصوصا. وكان الاولى له الاستناد في هذا القول إلى موثقة أبي بصير ورواية السرائر المتقدمتين الدالتين على المضي في النجاسة وإتمام الصلاة بها. وممن ساعدنا على ما ذكرناه في معنى صحيحة علي بن جعفر المحقق الشيخ حسن في المعالم حيث قال بعد نقل الخبر : قوله في هذا الحديث «ان كان دخل في صلاته الى قوله فلينضح» أراد به ما إذا كانت الإصابة بغير رطوبة بقرينة قوله : «إلا ان يكون فيه اثر فيغسله» انتهى. و (ثالثا) ـ ان ما ذكره من الجمع بالاستحباب الذي اتخذوه قاعدة كلية في


جميع الأبواب قد عرفت ما فيه مما قدمناه في غير موضع من الكتاب.

واما ما ذكره الأصحاب في الصورتين المتقدمتين من انه إذا لم يمكن إزالة النجاسة إلا بما يستلزم بطلان الصلاة فإنه يبطلها ويعيدها من رأس فإنه يدل عليه جملة من اخبار الرعاف كما ستأتي ان شاء الله تعالى في موضعها.

بقي الكلام هنا في مواضع (الأول) لو علم بالنجاسة المعلوم سبقها في أثناء الصلاة ولكن الوقت يضيق عن الإزالة والاستئناف فهل يجب الاستمرار في الصلاة أو يزيل النجاسة وان لزم القضاء؟ قطع الشهيد في البيان بالأول ومال إليه في الذكرى موجها له باستلزامه القضاء المنفي ، قال في المدارك بعد نقله عنه : ويشكل بانتفاء ما يدل على بطلان اللازم مع إطلاق الأمر بالاستيناف المتناول لهذه الصورة ، ثم قال والحق بناء هذه المسألة على ان ضيق الوقت عن إزالة النجاسة هل يقتضي انتفاء شرطيتها أم لا؟ بمعنى ان المكلف إذا كان على بدنه أو ثوبه نجاسة وهو قادر على الإزالة لكن إذا اشتغل بها خرج الوقت فهل يسقط وجوب الإزالة ويتعين فعل الصلاة بالنجاسة أو يتعين عليه الإزالة والقضاء لو خرج الوقت؟ وهي مسألة مشكلة من حيث إطلاق النصوص المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة المتناول لهذه الصورة ومن ان وجوب الصلوات الخمس في الأوقات المعينة قطعي واشتراطها بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم فلا يترك لأجله المعلوم. وقد سبق نظير هذه المسألة في التيمم إذا ضاق الوقت عن الطهارة المائية والأداء مع وجود الماء عنده. انتهى.

أقول : الظاهر ان ما ذكره من الاشكال لا ورود له في هذا المجال وذلك فإنه لا ريب ان وجوب الصلاة في الأوقات المعينة لها شرعا أمر قطعي كتابا وسنة وإجماعا من كافة الأمة غاية الأمر ان صحتها مشروطة بشروط : منها استقبال القبلة ومنها ستر العورة ومنها طهارة الساتر ، وقد صرحوا من غير خلاف يعرف بان شروط الصحة انما تعتبر مع الإمكان فلو تعذر شي‌ء منها لم يوجب سقوط الصلاة ولا تأخيرها عن وقتها الى ان


يحصل الشرط ثم يأتي بها قضاء ولا ريب ان ما نحن فيه من هذا القبيل فلو جاز تأخير الصلاة عن وقتها للاشتغال بإزالة النجاسة ثم الصلاة قضاء لجاز لفاقد القبلة أو فاقد الستر أو طهارته تأخير الصلاة عن وقتها الى ان يحصل الشرط المذكور ثم يصلي قضاء ولا قائل به ولا دليل عليه بل الأدلة وإجماعهم على خلافه ، فان فاقد القبلة يصلي الى أربع جهات أو جهة واحدة على الخلاف وفاقد الستر يصلي عريانا وفاقد طهارته يصلي مع النجاسة أو عريانا على الخلاف ، وبالجملة فهذه المسألة من قبيل هذه المسائل المذكورة ولو جاز تقديم مراعاة الشرط فيما نحن فيه لجاز في تلك الصور لان الجميع من باب واحد وليس فليس.

واما ما ذكره ـ من إطلاق الأخبار الذي صار منشأ لاستشكاله في المقام المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة الشامل إطلاقها لهذه الصورة ـ ففيه (أولا) ـ انه حقق جملة من المحققين ان الأحكام المودعة في الأخبار انما تحمل على الافراد المتكررة الشائعة المتكثرة فهي التي ينصرف إليها الإطلاق دون الفروض النادرة الوقوع.

و (ثانيا) ـ انه مع فرض شمول إطلاقها لهذه الصورة فإنه يجب تقييدها بما ذكرناه من القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، وحينئذ فيجب حمل الأخبار المشار إليها على ما لو حصل رؤية النجاسة في أثناء الصلاة في الوقت الذي فيه سعة للإزالة والإعادة دون هذا الفرد النادر الوقوع الذي ربما لا يتفق وان كان ممكنا ، وبذلك يظهر ان الأنسب بالقواعد الشرعية هو وجوب الصلاة بالنجاسة. نعم يأتي على الخلاف في مسألة الصلاة في النجاسة مع تعذر إزالتها من الصلاة فيها أو الصلاة عاريا احتمال الصلاة عاريا هنا ايضا بناء على القول به ثمة ، إلا انه حيث ان المسألة خالية من النصوص فالأحوط فيها مع ذلك القضاء في ساتر طاهر ، هذا.

ولا يخفى عليك ما في كلام السيد من التدافع حيث انه ذكر في أول وجهي الاشكال ان إطلاق النصوص المتقدمة المتضمنة لإعادة الصلاة مع النجاسة متناول لهذه الصورة


ثم ذكر في الوجه الثاني ان اشتراط الصلاة بإزالة النجاسة على هذا الوجه غير معلوم ، وهو مما يدافع الكلام الأول فإن دخول هذه الصورة تحت إطلاق تلك الأخبار يقتضي المعلومية البتة فان اعادة الصلاة مع النجاسة التي من جملته محل البحث انما هو لاشتراطها بإزالة النجاسة ، نعم معلومية الاشتراط على هذا الوجه لا يبلغ إلى معلومية وجوب الصلوات الخمس في الأوقات المعينة إلا انه غير المراد من عبارته ، وقد تقدم منا في بحث التيمم ما يعضد ما صرنا اليه هنا ايضا. والله العالم.

(الثاني) ـ لو وقعت عليه نجاسة في أثناء الصلاة ثم زالت ولما يعلم ثم علم استمر على صلاته وهو مما لا اشكال فيه لأنه إذا جاز الاستمرار مع العلم بها في الأثناء والإزالة كما في الصورة الثانية بل مع العلم بتقدمها والإزالة كما في الصورة الأولى فبالأولى هذه الصورة.

(الثالث) ـ لو صلى ثم رأى النجاسة وشك هل كانت عليه في الصلاة أم لا؟ فلا ريب في مضي صلاته على الصحة لعدم معارضة هذا الشك لليقين الذي كان عليه ، قال في المنتهى بعد ذكر الفرع المذكور : ولا نعرف فيه خلافا من أهل العلم عملا بالأصلين الصحة وعدم النجاسة.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *