ج12 - مصارف الزكاة
المقصد الثالث
وما يتعلق بذلك من
الأحكام وتفصيل ذلك يقع في أبحاث :
البحث الأول ـ في أصناف المستحقين لها وهي ثمانية أصناف
كما دلت عليه الآية الشريفة (1) :
الأول والثاني ـ الفقراء والمساكين ، وقد اختلف الأصحاب
في ترادف هذين اللفظين وتغايرهما والأشهر الأظهر الثاني وعليه فتكون الأصناف
ثمانية كما ذكرناه ، وقيل بالأول وإليه ذهب المحقق في الشرائع وعليه فتكون الأصناف
سبعة
ثم إنه على تقدير التغاير قد اختلفوا في ما به يتحقق ذلك
وبه يتميز أحدهما عن الآخر على أقوال متعددة وكذلك اختلف كلام أهل اللغة ، وليس في
__________________
(1) وهي قوله تعالى : «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...» سورة التوبة الآية 61.
تطويل الكلام بنقل ذلك مزيد فائدة.
والأظهر في بيان وجه التغاير ما دل عليه صحيح محمد بن
مسلم عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) «أنه سأله عن
الفقير والمسكين فقال الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل».
وحسنة أبي بصير (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام قول الله
تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ)؟ (3) فقال الفقير
الذي لا يسأل الناس والمسكين أجهد منه والبائس أجهدهم. الحديث».
وقال الشيخ في التهذيب (4) : ذكر علي بن
إبراهيم في كتاب التفسير تفصيل هذه الثمانية الأصناف فقال : فسرهم العالم عليهالسلام فقال الفقراء
هم الذين لا يسألون لقول الله تعالى في سورة البقرة (5) (لِلْفُقَراءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا
يَسْئَلُونَ النّاسَ إِلْحافاً). والمساكين هم
أهل الديانات. الحديث».
والجميع صريح في المغايرة كما ترى ، ودل الخبران الأولان
على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير.
ولا يخفى أن ثمرة هذا الخلاف لا مظهر لها في هذا الباب
للإجماع على جواز إعطاء كل منهما وإنما تظهر في ما لو نذر أو وقف أو أوصى لأسوئهما
حالا ، وظاهر الأصحاب أنه متى ذكر أحدهما خاصة دخل فيه الآخر بغير خلاف كما في آية
الكفارة المخصوصة بالمسكين (6) فيدخل فيه
الفقير ، وإنما الخلاف في ما لو جمعا كما في آية الزكاة لا غير ، ولا يخلو من
إشكال لأنه متى ثبت التغاير كما ذكرناه وهو المشهور عندهم فدخول أحدهما تحت الآخر
مجاز لا يصار إليه إلا بالقرينة ، اللهمّ
__________________
(1 و 2 و 4) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة.
(3) سورة التوبة الآية 61.
(5) الآية 275.
(6) وهي قوله تعالى في سورة المائدة الآية 92 «وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ فَكَفّارَتُهُ ...».
إلا أن يجعل الإجماع قرينة على ذلك ،
وفيه ما فيه.
بقي الكلام في الحد المسوغ لتناول هذين الصنفين للزكاة ،
ولا خلاف في أن الحد الشامل لهما عدم الغنى فإنه الشامل لمعناهما فإذا تحقق ذلك
استحق صاحبه الزكاة ، وإنما الخلاف في ما به يتحقق الغنى المانع لاستحقاق الزكاة.
فنقل عن الشيخ في الخلاف أنه قال : الغني من ملك نصابا
تجب فيه الزكاة أو قيمته. وقال في المبسوط : الغنى الذي يحرم معه أخذ الصدقة أن
يكون قادرا على كفايته وكفاية من يلزمه كفايته على الدوام ، فإن كان مكتفيا بصنعة
وكانت صنعته ترد عليه كفايته وكفاية من يلزمه نفقته حرمت عليه وإن كانت لا ترد
عليه حل له ذلك ، وهكذا حكم العقار ، وإن كان من أهل البضائع احتاج أن يكون معه
بضاعة ترد عليه قدر كفايته فإن نقصت عن ذلك حلت له الصدقة ، ويختلف ذلك على حسب
حاله حتى إن كان الرجل بزازا أو جوهريا يحتاج إلى بضاعة قدرها ألف دينار أو ألفا
دينار فنقص عن ذلك قليلا حل له أخذ الصدقة. هذا عند الشافعي (1) والذي رواه
أصحابنا أنها تحل لصاحب السبعمائة وتحرم على صاحب الخمسين وذلك على قدر حاجته إلى
ما يتعيش به ولم يرووا أكثر من ذلك. وفي أصحابنا من قال إن من ملك نصابا يجب عليه
فيه الزكاة كان غنيا وتحرم عليه الصدقة وذلك قول أبي حنيفة (2) انتهى.
والظاهر كما استظهره بعض الأصحاب أن المراد بقوله «على
الدوام» أن يكون له ما يحصل به الكفاية عادة من صنعة أو ضيعة أو مال يتجر به بحيث
لا ينقص فاضلها عن حاجته. وأما حمله على أن المراد به مئونة السنة كما ذكره
العلامة في المختلف فالظاهر بعده.
وقال ابن إدريس : اختلف أصحابنا في من يكون معه مقدار من
المال ويحرم عليه بملك ذلك المال أخذ الزكاة ، فقال بعضهم إذا ملك نصابا من الذهب
وهو
__________________
(1 و 2) المغني ج 2 ص 662 ، ونيل الأوطار ج 4 ص 170.
عشرون دينارا فإنه يحرم عليه أخذ
الزكاة ، وقال بعضهم لا يحرم على من ملك سبعين دينارا ، وقال بعضهم لا أقدره بقدر
بل إذا ملك من الأموال ما يكون قدر كفايته لمئونته طول سنته على الاقتصاد فإنه يحرم
عليه أخذ الزكاة سواء كان نصابا أو أقل أو أكثر ، فإن لم يكن بقدر كفاية سنته فلا
يحرم عليه أخذ الزكاة. وهذا هو الصحيح وإليه ذهب أبو جعفر الطوسي في مسائل الخلاف.
انتهى.
وإلى هذا القول ذهب المحقق والعلامة وعامة المتأخرين إلا
أنه على إطلاقه مشكل بما صرح به جملة منهم كالشيخ والمحقق في النافع والعلامة
وغيرهم من جواز تناول الزكاة لمن كان له مال يتعيش به أو ضيعة أو دار يستغلها إذا
كانت الغلة والنماء يعجز عن كفايته وإن كان بحيث يكفيه رأس المال وثمن الضيعة أو
الدار لكفاية سنته فإنه لا يكلف بالإنفاق من رأس ماله ولا بيع ضيعته وداره بل يأخذ
التتمة من الزكاة. والقول الفصل والمذهب الجزل في ذلك هو أنه متى كان كذلك يعني
يتجر في دراهمه ويستنميها لأجل معاشه ويستغل عقاره لذلك فإن الحكم فيه ما ذكر ومتى
لم يكن كذلك اعتبر فيه قصور أمواله عن مئونة سنته كما ذكروه أولا.
ويدل على الحكم الأول جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه
في الكافي في الصحيح عن معاوية بن وهب (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون
له ثلاثمائة درهم أو أربعمائة درهم وله عيال وهو يحترف فلا يصيب نفقته فيها أيكب
فيأكلها ولا يأخذ الزكاة أو يأخذ الزكاة؟ قال لا بل ينظر إلى فضلها فيقوت بها نفسه
ومن وسعه ذلك من عياله ويأخذ البقية من الزكاة ويتصرف بهذه لا ينفقها».
وما رواه الشيخ عن هارون بن حمزة الغنوي (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام يروي عن النبي
صلىاللهعليهوآله أنه قال لا
تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي؟ فقال لا تصلح لغني. قال فقلت له الرجل يكون له
ثلاثمائة درهم في بضاعته وله عيال فإن أقبل عليها أكلها عياله ولم يكتفوا بربحها؟
قال فلينظر ما يستفضل منها فيأكله
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 12 من المستحقين للزكاة.
هو ومن يسعه ذلك وليأخذ لمن لم يسعه
من عياله».
وما رواه في التهذيب والفقيه في الموثق عن سماعة عن أبي
عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال نعم إلا أن تكون داره دار غلة فيخرج
له من غلتها دراهم تكفيه لنفسه وعياله ، فإن لم تكن الغلة تكفيه لنفسه وعياله في
طعامهم وكسوتهم وحاجتهم في غير إسراف فقد حلت له الزكاة وإن كانت غلتها تكفيهم فلا».
وما رواه في الكافي والفقيه عن أبي بصير (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل من
أصحابنا له ثمانمائة درهم وهو رجل خفاف وله عيال كثيرة أله أن يأخذ من الزكاة؟
فقال يا أبا محمد أيربح في دراهمه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قال قلت نعم. قال كم
يفضل؟ قلت لا أدري. قال إن كان يفضل عن القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزكاة وإن
كان أقل من نصف القوت أخذ الزكاة. قلت فعليه في ماله زكاة تلزمه؟ قال بلى. قلت كيف
يصنع؟ قال يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم وإن بقي منها شيء يناوله غيرهم ،
وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس».
أقول : قوله عليهالسلام «إن كان يفضل
عن القوت مقدار نصف القوت» لعل المراد به أنه متى فضل هذا المقدار فإنه يجزئ
للقيام بكسوتهم وسائر ضرورياتهم فلا يجوز له تناول الزكاة ، وإن كان أقل من ذلك
فإنه لا يقوم بمئونة السنة فيجوز له أخذ الزكاة. ولا يخفى ما في هذا الخبر من
الدلالة الظاهرة على وجوب زكاة التجارة كما تقدم في تلك الأخبار التي قدمناها في
أول المطلب الرابع إلا أنه عليهالسلام جعل مصرفها
هنا في التوسعة على نفسه وعياله لأنه إذا جاز أخذها من الغير لذلك فبالأولى من
نفسه ، والظاهر أن الأمر بإعطاء الغير من زكاة ماله في هذا الخبر وغيره
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من المستحقين للزكاة. ورواه في الفروع ج 1
ص 159 أيضا.
(2) الوسائل الباب 8 من المستحقين للزكاة.
محمول على الاستحباب.
ويدل على الثاني ما رواه الشيخ المفيد (قدسسره) في كتاب
المقنعة عن يونس بن عمار (1) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول تحرم
الزكاة على من عنده قوت السنة وتجب الفطرة على من عنده قوت السنة».
وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر من كتاب المشيخة
للحسن بن محبوب عن أبي أيوب عن سماعة (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل تكون
عنده العدة للحرب وهو محتاج أيبيعها وينفقها على عياله ويأخذ الصدقة؟ قال يبيعها
وينفقها على عياله». وهو محمول على ما إذا كانت قيمتها تكفيه لمئونة سنته.
وروى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح إلى أبي بصير (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول يأخذ
الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره. قلت فإن صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة؟
قال زكاته صدقة على عياله ، ولا يأخذها إلا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة
أنفدها في أقل من سنة فهذا يأخذها ، ولا تحل الزكاة لمن كان محترفا وعنده ما تجب
فيه الزكاة أن يأخذ الزكاة».
وحاصل معنى الخبر أنه متى كان يملك سبعمائة درهم وهي
موضوعة عنده إلا أنه متى أقبل عليها وأنفق منها لم تكفه لمئونة سنته فإنه يجوز له
أخذ الزكاة وكذا يجوز له أن ينفق زكاتها متى حال عليها الحول على نفسه وعياله.
ونحوه ما رواه الصدوق في كتاب العلل في الموثق عن محمد
بن مسلم وغيره عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) قال : «تحل
الزكاة لمن له سبعمائة درهم إذا لم تكن له حرفة ويخرج زكاتها منها ويشتري منها بالبعض
قوتا لعياله ويعطي البقية أصحابه ، ولا تحل الزكاة لمن له خمسون درهما وله حرفة
يقوت بها عياله».
وما رواه في الكافي في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله (عليهالسلام) (5)
__________________
(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 8 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 10 من المستحقين للزكاة.
(5) الوسائل الباب 12 من المستحقين للزكاة.
قال : «قد تحل الزكاة لصاحب السبعمائة
وتحرم على صاحب الخمسين درهما. فقلت له وكيف يكون هذا؟ قال إذا كان صاحب السبعمائة
له عيال كثير فلو قسمها بينهم لم تكفه فليعف عنها نفسه وليأخذها لعياله ، وأما
صاحب الخمسين فإنه تحرم عليه إذا كان وحده وهو محترف يعمل بها وهو يصيب منها ما
يكفيه إن شاء الله تعالى».
دلت هذه الأخبار بمفاهيمها على أن السبعمائة المذكورة
فيها لو قامت بمئونة سنته لم يجز له أخذ الزكاة كما دل عليه الخبران الأولان.
وأما القول بحصول الغنى بملك النصاب فنقل الاستدلال عليه
بما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله (1) أنه قال لمعاذ
: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم». فجعل الغني من تجب
عليه الزكاة ومقتضاه أن من لا تجب عليه ليس بغني فيكون فقيرا. وبأن مالك النصاب
يجب عليه دفع الزكاة فلا يحل له أخذها للتنافي.
ورد الأول بأن الرواية عامية فلا تقوم حجة مع ما في
الدلالة من إمكان المناقشة. والثاني بالمنع من التنافي فإنه مجرد استبعاد لا دليل
عليه.
فروع
الأول ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن
من قصر كسبه عن مئونة سنته أو قصر ماله فإنه يأخذ من الزكاة وإنما اختلفوا في
المأخوذ بأنه هل يتقدر بقدر أم لا؟ فالمشهور الثاني وقيل بالأول وهو أنه لا يأخذ
أزيد من تمام مئونة سنته ، وظاهر جماعة من الأصحاب أن محل الخلاف ذو الكسب القاصر
وظاهر كلام المنتهى وقوع الخلاف في غيره من المال أيضا ، حيث قال ولو كان معه ما
يقصر عن مئونته ومئونة عياله حولا جاز له أخذ الزكاة لأنه محتاج وقيل لا يأخذ
زائدا عن تتمة المئونة حولا وليس بالوجه. إلا أنه قال في موضع آخر من الكتاب
المذكور : يجوز أن يعطى الفقير ما يغنيه وما يزيد على غناه
__________________
(1) المغني ج 2 ص 662 وسنن ابن ماجة ج 1 ص 543.
وهو قول علمائنا أجمع.
وكيف كان فالظاهر من الأخبار وهي التي عليها المدار في
الإيراد والإصدار هو القول المشهور :
ومنها ـ ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عن سعيد بن
غزوان عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «تعطيه من
الزكاة حتى تغنيه».
وما رواه الكليني في الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي
الحسن موسى عليهالسلام (2) قال : «قلت له
أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهما؟ قال نعم وزده. قلت أعطيه مائة؟ قال نعم وأغنه
إن قدرت أن تغنيه». وفي معناها موثقة عمار بن موسى ورواية زياد بن مروان ورواية
إسحاق بن عمار وغيرها (3).
وأما القول الآخر فلم أقف له على حجة ، وقال الشهيد في
البيان ـ وهو ممن اختار هذا القول بالنسبة إلى من قصر كسبه عن مئونة سنته ـ وما
ورد في الحديث من الإغناء بالصدقة محمول على غير المكتسب.
وفيه أن صحة هذا الحمل متفرعة على وجود المعارض وليس
فليس ، نعم قد ورد في صحيحة معاوية بن وهب المتقدمة «ويأخذ البقية من الزكاة»
وموردها كما تقدم من كان له مال يتجر به وعجز عن استنماء الكفاية ، مع أنها غير
صريحة في المنع من الزائد.
الثاني ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في أن دار السكنى والخادم وفرس الركوب لا تمنع من أخذ الزكاة مع الحاجة
إليها.
وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الكليني
والشيخ في الصحيح عن عمر بن أذينة عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهماالسلام) (4)
__________________
(1) الوسائل الباب 24 من المستحقين للزكاة رقم (1) عن الكليني
ورقم (5) عن الشيخ.
(2 و 3) الوسائل الباب 24 من المستحقين للزكاة.
(4) الوسائل الباب 9 من المستحقين للزكاة.
«أنهما سئلا عن الرجل له دار وخادم أو
عبد أيقبل الزكاة؟ قالا نعم إن الدار والخادم ليسا بمال».
والظاهر من قولهما (عليهماالسلام) «ليسا بمال»
إنهما من حيث الحاجة وإلجاء الضرورة إليهما لا يعدان من المال الذي يكون به غنيا
وتحرم عليه الزكاة ، ومن أجل ذلك إن الأصحاب ألحقوا بذلك ثياب التجمل وفرس الركوب
وكتب العلم إذا كان من أهله.
ويدل على فرس الركوب بخصوصها ما رواه علي بن جعفر (رضياللهعنه) في كتابه عن
أخيه موسى بن جعفر (عليهماالسلام) (1) قال : «سألته
عن الزكاة أيعطاها من له الدابة؟ قال نعم ومن له الدار والعبد فإن الدار ليس نعدها
بمال».
وروى الشيخ عن سعيد بن يسار (2) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول تحل الزكاة
لصاحب الدار والخادم لأن أبا عبد الله عليهالسلام لم يكن يرى
الدار والخادم شيئا». قوله : «لأن أبا عبد الله عليهالسلام» الظاهر أنه
من كلام الراوي.
وما رواه الشيخ عن إسماعيل بن عبد العزيز عن أبيه (3) قال : «دخلت
أنا وأبو بصير على أبي عبد الله عليهالسلام فقال له أبو
بصير إن لنا صديقا وهو رجل صدوق يدين الله بما ندين به. فقال من هذا يا أبا محمد
الذي تزكيه؟ فقال العباس بن الوليد ابن صبيح. فقال رحم الله الوليد بن صبيح ما له
يا أبا محمد؟ قال جعلت فداك له دار تسوى أربعة آلاف درهم وله جارية وله غلام يستقي
على الجمل كل يوم ما بين الدرهمين إلى الأربعة سوى علف الجمل وله عيال أله أن يأخذ
من الزكاة؟ قال نعم. قال وله هذه العروض؟ فقال يا أبا محمد فتأمرني أن آمره أن
يبيع داره وهي عزه ومسقط رأسه أو يبيع جاريته التي تقيه الحر والبرد وتصون وجهه
ووجه عياله أو آمره أن يبيع غلامه وجمله وهي معيشته وقوته ، بل يأخذ الزكاة فهي له
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 9 من المستحقين للزكاة.
(3) الفروع ج 1 ص 159 وفي الوسائل الباب 9 من المستحقين
للزكاة.
حلال ولا يبيع داره ولا غلامه ولا
جمله». إلى غير ذلك من الأخبار.
والظاهر من فحوى هذه الأخبار أن الحكم في ذلك مرتب على
أحوال الناس وما هم عليه من الرفعة والضعة ، فمن كان من أهل الشرف والرفعة الذين
جرت عادتهم بالبيوت الواسعة والخدم والخيل ونحو ذلك من ثياب التجمل بين الناس
والفروش والأسباب فإن ذلك لا يمنع من أخذه الزكاة من حيث هذه الأشياء ولا يكلف
بيعها والاقتصار على أقل المجزئ من ذلك ، وأما من لم يكن كذلك بل المناسب لحاله ما
هو أقل من ذلك مع حصول هذه الأشياء عنده فلا يبعد القول بالاقتصار على ما يناسب
حاله وجرت به عادة أبناء نوعه من المسكن والمركوب والخدم وبيع الزائد إذا قام
بمئونة سنته. والله العالم.
الثالث ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن من ادعى
الفقر إن عرف صدقه أو كذبه عومل به وهو من ما لا إشكال فيه ، وإن جهل حاله
فالمشهور بل ظاهرهم الاتفاق عليه أنه يصدق في دعواه ولا يكلف يمينا ولا بينة كما
يظهر من المعتبر والمنتهى وغيرهما.
وربما علل بعضهم قبول قوله في الصورة المذكورة بأنه مسلم
ادعى أمرا ممكنا ولم يظهر ما ينافي دعواه فكان قوله مقبولا ، كما في المعتبر.
وربما علل بأنه ادعى ما يوافق الأصل وهو عدم المال وأن الأصل عدالة المسلم فكان
قوله مقبولا كما في المنتهى.
ولم أقف على من تعرض للمناقشة في هذا الحكم سوى السيد
السند في المدارك واقتفاه وزاد عليه الفاضل الخراساني في الذخيرة.
والأظهر عندي هو القول المشهور ويدل عليه وجوه : (أحدها)
ما رواه في الكافي عن عبد الرحمن العزرمي عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «جاء
رجل إلى الحسن والحسين (عليهماالسلام) وهما جالسان
على الصفا فسألهما فقالا إن الصدقة
__________________
(1) الفروع ج 1 ص 167 وفي الوسائل الباب 9 من المستحقين
للزكاة.
لا تحل إلا في دين موجع أو غرم مفضع
أو فقر مدقع ففيك شيء من هذا؟ قال نعم. فأعطياه ، وقد كان الرجل سأل عبد الله بن
عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فأعطياه ولم يسألاه عن شيء فرجع إليهما فقال لهما ما
لكما لم تسألاني عن ما سألني عنه الحسن والحسين (عليهماالسلام)؟ وأخبرهما
بما قالا فقالا إنهما غذيا بالعلم غذاء».
وما اعترض به الفاضل المشار إليه آنفا على هذه الرواية ـ
من ضعف السند أولا وعدم موافقة الحصر المفهوم منه لما ثبت بالأدلة.
مردود : أما الأول فبأنه مفروغ عنه عندنا لأنا لا نرى
العمل بهذا الاصطلاح المحدث إذ لم يدل عليه دليل بل الأدلة على خلافه واضحة السبيل
، مع أنه يمكن الجواب على قواعدهم من أن ضعفه مجبور بالشهرة بل الاتفاق على الحكم
المذكور كما اعتذروا عن ضعف الأخبار متى اضطروا إلى العمل بها. وأما الثاني فبأن
المراد الحصر بالنسبة إلى ذلك السائل لا مطلقا كأنه قيل «الأمر الموجب لسؤالك هل
هو لدين موجع؟» وإلا فمن المعلوم أنه ليس من العاملين ولا من أبناء السبيل ولا
المؤلفة ولا نحو ذلك من الأصناف وإنما هذا سؤال عن وجوه الفقر الموجبة لسؤاله (الثاني)
اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور من غير ظهور مخالف وإلا لنقل خلافه في المسألة.
(الثالث) موافقة الأصل بأن الأصل عدم المال ، والأصل
الآخر وهو عدم البينة واليمين.
(الرابع) استلزام التكليف بالبينة واليمين الحرج والعسر
في كثير من الموارد سيما إذا كان من يستحي من إظهار ذلك كما في أكثر المتجملين.
(الخامس) أنه لو كان شرطا لخرج عنهم (عليهمالسلام) فيه خبر دال
على ذلك ولنقل وليس فليس. وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالبراءة الأصلية على
الوجه الذي قدمنا بيانه في غير موضع من كتاب الصلاة ، ومحصله أن المحدث الماهر إذا
تتبع الأخبار الواردة حق التتبع في مسألة لو كان فيها حكم مخالف للأصل
لاشتهر لعموم البلوى بها ولم يظفر
بذلك في الأخبار يحصل له العلم أو الظن المتآخم له بعدم ذلك الحكم ، والأمر هنا
كذلك.
(السادس) وهو أمتنها وأظهرها وأوجهها وأنضرها أنه لا
يخفى على من تأمل الأخبار الواردة بالبينة واليمين في أبواب الدعاوي أنه لا عموم
فيها فضلا عن الخصوص على وجه يشمل مثل ما نحن فيه ، فإن موردها إنما هو ما إذا
كانت الدعوى بين اثنين مدع ومنكر ولا دلالة فيها على من ادعى شيئا وليس له من
يقابله وينكر دعواه بأنه يكلف البينة أو اليمين ، وفي الأخبار الكثيرة (1) «البينة على
المدعى واليمين على من أنكر». بل ورد في جملة من الأخبار وبه قال علماؤنا الأبرار
أن من ادعى شيئا ولا مناقض له في دعواه يقبل قوله من غير بينة ولا يمين بمجرد
احتمال صدقه.
ومن ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم عن
أبي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «قلت
عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا ألكم هذا الكيس؟
فقالوا كلهم لا وقال واحد هو لي فلمن هو؟ قال للذي ادعاه».
ويستفاد من هذا الخبر أن كل من ادعى ما لا يد عليه قضي
له به ، وبذلك صرح الأصحاب من غير خلاف ينقل ، قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
بعد نقل الرواية المذكورة دليلا للحكم المذكور : ولأنه مع عدم المنازع لا وجه لمنع
المدعي منه ولا لطلب البينة ولا لإحلافه إذ لا خصم له حتى يترتب عليه ذلك. وفيه
إشارة إلى ما قدمناه من أن البينة واليمين إنما هي في مقام الخصومة ومع عدم خصم
يقابل بإنكار تلك الدعوى فليس المقام مقام البينة ولا اليمين.
ومن ذلك رواية ميسر (3) وهي صحيحة إليه قال : «قلت لأبي عبد
الله عليهالسلام ألقى المرأة
في الفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها ألك زوج؟ فتقول لا فأتزوجها؟
__________________
(1) الوسائل الباب 3 من كيفية الحكم.
(2) الوسائل الباب 17 من كيفية الحكم.
(3) الوسائل الباب 10 من أبواب المتعة.
قال نعم هي المصدقة على نفسها».
وفي رواية أبان بن تغلب عنه عليهالسلام (1) «ليس هذا عليك
إنما عليك أن تصدقها في نفسها».
وفي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (2) قال : «قلت
للرضا عليهالسلام الرجل يتزوج
المرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا؟ قال وما عليه أرأيت لو سألها البينة كان يجد من
يشهد أن ليس لها زوج؟». وفي هذا الخبر إشارة إلى ما قدمناه في الوجه الرابع من
لزوم العسر والحرج بطلب البينة في أمثال هذه المواضع من ما يكون بين المكلف وبين
الله تعالى.
وفي بعض الأخبار الصحاح عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) «في رجل طلق
امرأته ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها فقال لها إني أريد مراجعتك فتزوجي زوجا
غيري فقالت له قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي. أيصدق قولها ويراجعها وكيف يصنع؟
قال إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها».
قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) المراد بكونها ثقة
أي موثوق بأخبارها غير متهمة لا الثقة بالمعنى المصطلح ، وهو كذلك. والظاهر أن قبول
قول المدعي في جملة هذه المواضع وعدم تكليفه باليمين أو البينة إنما هو من حيث عدم
المناقض له في دعواه لا من حيث خصوصية هذه المواضع ، وحينئذ فيطرد الحكم في كل
موضع كذلك ، ولهذا صرح الأصحاب بذلك في مواضع عديدة : منها ـ ما دل عليه بخصوصه
دليل ، ومنها ما لم يدل عليه دليل وإنما استندوا فيه إلى ما ذكرناه ومنه قبول قول
من عليه زكاة أو خمس في إخراجه ، ومنه ما لو ادعى صاحب النصاب إبداله في أثناء
الحول فرارا من الزكاة ، وما لو خرص عليه وادعى النقصان عن بلوغ النصاب ، ولو ادعى
الدين ولم يكذبه غريمه أو الكتابة ولم يكذبه سيده ، أو ادعى
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 10 من أبواب المتعة.
(3) الوسائل الباب 11 من أقسام الطلاق وأحكامه.
ذهاب ماله بعد أن كان غنيا ، وقد أنهى
شيخنا الشهيد الثاني جملة منها تزيد على عشرين موضعا. ثم قال وضبطها بعضهم بأن كل
ما كان بين العبد وبين الله ولا يعلم إلا منه ولا ضرر فيه على الغير أو ما تعلق به
الحد أو التعزير. انتهى.
ولا يخفى أن هذه الوجوه التي ذكرناها وإن أمكن المناقشة
في بعضها إلا أنه بالنظر إلى مجموعها ولا سيما الأول والأخير منها فإنه لا يبقى
للتوقف فيها مجال.
وأما ما توهمه في المدارك في مقابلة ذلك ـ من أن الشرط
اتصاف المدفوع إليه بأحد الأوصاف الثمانية فلا بد من تحقق الشرط كما في نظائره ـ فجوابه
أن الظاهر أن الفقر المشترط في الآية ليس عبارة عن الفقر بحسب الواقع ونفس الأمر ،
فإن الأحكام الشرعية لم تبن على الواقع ونفس الأمر لا في هذا الموضع ولا في غيره
للزوم الحرج وتكليف ما لا يطاق إذ ذلك غير ممكن إلا له عز شأنه وإنما جرى التكليف
على الظاهر ، وحينئذ فالمراد بالفقر في الآية ما يظهر من حال الفقير ويكفي فيه
مجرد إخباره ودعواه استنادا إلى ما ذكرنا من الوجوه.
ويؤكد ذلك ما صرحوا به من أنه لو دفع له الزكاة بناء على
ظاهر الفقر ثم ظهر يسره وأنه ليس بمستحق للزكاة فإنه لا يجزئ عنه استنادا إلى ما
رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن عثمان عن من ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) «في رجل يعطي
زكاة ماله رجلا وهو يرى أنه معسر فوجده موسرا؟ قال لا يجزئ عنه».
ومن ما يؤيد البناء على الظاهر أيضا والاكتفاء بدعوى
الفقر والحاجة ما استفاض في الأخبار من استحباب إعطاء من مد يده للسؤال وعدم رده
كما في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليهالسلام (2) قال : «أعط
السائل ولو كان على ظهر فرس». ومن الظاهر أن هذا الاستحباب إنما ترتب على مجرد مد
يده للسؤال حتى ولو كان ظاهر حاله يخالف ذلك من كونه على ظهر فرس ومتجملا ، وهو
مؤذن بتصديقه
__________________
(1) الوسائل الباب 2 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 22 من أبواب الصدقة.
في دعوى الفقر وإلا لما ثبت الاستحباب
بمجرد ذلك.
وبما ذكرناه من هذا التحقيق الرشيق يظهر لك ما في كلام
الفاضل الخراساني (قدسسره) من التشكيك
في المقام كما هي عادته في جل الأحكام حيث قال ـ بعد البحث مع الأصحاب ومناقشتهم
في هذا الباب ـ ما لفظه : وبالجملة جواز إعطاء الفقير بدون البينة أو الحلف محل
إشكال ينشأ من عدم دليل دال عليه فلا يحصل اليقين بالبراءة ، ومن أنه لم يعهد عنهم
(صلوات الله عليهم) شيء من ذلك والظاهر أنه لو كان لنقل. إلى أن قال : والتحقيق
أن تحصيل العلم بالفقر غير معتبر وإلا لزم حرمان أكثر الفقراء وانتفاء ذلك معلوم
من حال الأئمّة (صلى الله عليهم أجمعين) وكذا السلف. وهل يكفي الظن الحاصل من
الأمارات أو من دعواه مطلقا أو إذا كان أمينا مطلقا أو عند تعذر البينة أم لا بل
يحتاج إلى البينة مطلقا أو في بعض صور المسألة أو يحتاج إلى الحلف كذلك؟ لي فيه
توقف إلى أن يفتح الله علي طريق معرفته. انتهى. ولا أراك ترتاب بعد ما حققناه في
المقام في ضعف هذا الكلام وأنه من جملة الأوهام. والله العالم بحقائق الأحكام.
الرابع ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في أنه متى دفع الزكاة إلى الفقير ثم ظهر عدم فقره فإنه يجب استرجاعها مع
الإمكان لظهور أن القابض لها عاص غاصب فيجب عليه إرجاعها إلى المالك.
بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما ـ ما لو لم يعلم الآخذ
بأنها زكاة ، وقد قطع في المعتبر بعدم جواز الارتجاع لأن الظاهر أنها صدقة. واختلف
كلام العلامة في ذلك فقال في المنتهى : ليس للمالك الرجوع لأن دفعه محتمل للوجوب وللتطوع.
واستقرب في التذكرة جواز الارتجاع لفساد الدفع ولأنه أبصر بنيته. وقال في المدارك
بعد نقل كلام التذكرة : وهو جيد مع بقاء العين وانتفاء القرائن الدالة على كون
المدفوع صدقة.
أقول : وكلماتهم (رضوان الله عليهم) هنا لا تخلو عن
إجمال والتحقيق أن يقال
إنه متى دفعه إليه بنية الزكاة ولم
يعلم المدفوع إليه بكونها زكاة ولا أعلمه المالك فإنه ما دامت العين باقية يجب
عليه إرجاعها متى علم أو أعلمه المالك لعدم الاستحقاق شرعا ، ومتى تلفت العين قبل
العلم فالظاهر أنه لا يجب عليه عوضها ولا قيمتها لظهور حل التصرف ، والتضمين يحتاج
إلى دليل.
وثانيهما ـ ما لو قبضها بعنوان الزكاة وتعذر الارتجاع ،
وظاهرهم الاتفاق على أنه متى كان الدافع الإمام أو نائبه أجزأ ذلك ، وفي المنتهى
أنه لا خلاف فيه بين العلماء لأن المالك قد خرج فيه من العهدة بالدفع إلى الإمام
أو نائبه والدافع خرج من العهدة بالدفع إلى من يظهر منه الفقر ، وإيجاب الإعادة
تكليف جديد منفي بالأصل. ولا يخلو من القرب إلا أن الفتوى به مع عدم النص في
المسألة مشكل.
وأما لو كان الدافع المالك فقد اختلف الأصحاب فيه على
أقوال ثلاثة : أحدها ـ القول بالإجزاء ونقل عن الشيخ في المبسوط وجماعة من الأصحاب
، وثانيها ـ وجوب الإعادة ونقل عن الشيخ المفيد وأبي الصلاح ، وثالثها ـ التفصيل
بين الاجتهاد فيسقط الضمان وعدمه فتجب الإعادة ، وهو اختيار المحقق في المعتبر
والعلامة في المنتهى وإليه يميل كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد.
احتج الأولون بأنه دفعها إلى من ظاهره الفقر وهو دفع
مشروع فيحصل الامتثال ولا يتعقبه الإعادة لعدم الدليل. وفيه ما يأتي في ثانيه.
احتج القائلون بالثاني بما تقدم قريبا من صحيحة الحسين
بن عثمان عن من ذكره عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) «في رجل يعطي
زكاة ماله رجلا وهو يرى أنه معسر فوجده موسرا؟ قال لا يجزئ عنه». وبهذه الرواية
تبطل حجة القول الأول كما أشرنا إليه آنفا.
احتج المفصلون بأن المالك أمين على الزكاة فيجب عليه
الاجتهاد والاستظهار في دفعها إلى مستحقها فبدونه تجب الإعادة.
__________________
(1) الوسائل الباب 2 من المستحقين للزكاة.
وبما رواه الكليني والشيخ في الصحيح عندي والحسن على
المشهور بإبراهيم ابن هاشم عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «قلت له
رجل عارف أدى زكاته إلى غير أهلها زمانا هل عليه أن يؤديها ثانية إلى أهلها إذا
علمهم؟ قال نعم. قال قلت فإن لم يعرف لها أهلا فلم يؤدها أو لم يعلم أنها عليه
فعلم بعد ذلك؟ قال يؤديها إلى أهلها لما مضى. قال قلت له فإنه لم يعلم أهلها
فدفعها إلى من ليس هو لها بأهل وقد كان طلب واجتهد ثم علم بعد ذلك سوء ما صنع؟ قال
ليس عليه أن يؤديها مرة أخرى». وقالا في الكافي والتهذيب بعد نقل هذه الرواية :
وعن زرارة مثله (2) غير أنه قال :
«إن اجتهد فقد برئ وإن قصر في الاجتهاد في الطلب فلا».
وأورد على الأول أنه إن أريد بالاجتهاد القدر المسوغ
لجواز الدفع ولو بسؤال الفقير فلا ريب في اعتباره إلا أن ذلك لا يسمى اجتهادا ،
ومع ذلك فيرجع هذا التفصيل بهذا الاعتبار إلى ما أطلقه الشيخ في المبسوط من انتفاء
الضمان مطلقا ، وإن أريد به البحث عن حال المستحق زيادة على ذلك كما هو المتبادر
من لفظ الاجتهاد فهو غير واجب إجماعا على ما نقله جماعة. وعلى الروايتين أن
موردهما خلاف محل النزاع لكنهما يدلان بالفحوى على انتفاء الضمان بالاجتهاد.
أقول : والتحقيق في المقام أنه ليس في المسألة إلا رواية
الحسين بن عثمان المتقدمة والوقوف على ظاهرها متعين. وأما حمل من قال بالتفصيل لها
على عدم الاجتهاد جمعا بينها وبين صحيحة عبيد بن زرارة فهو فرع ثبوت دلالة الصحيحة
المذكورة على ما ادعوه وموردها من أولها إلى آخرها إنما هو الدفع إلى المخالف وهو
المعبر عنه بغير أهلها ، مع ما في محل الاستدلال من الإشكال أيضا فإن ظاهرها أنه
يجزئ الدفع إلى المخالف متى اجتهد في تحصيل أهلها من الشيعة فلم يجدهم والأصحاب لا
يقولون به ، والأخبار أيضا ترده كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى حتى ورد في بعض
الأخبار إلقاؤها في البحر مع تعذر وجود أهلها من الشيعة الإمامية (3)
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 2 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 5 من المستحقين للزكاة.
وظاهر السيد السند في المدارك اختيار القول الأول حيث
قال بعد البحث في المسألة ونقل الأقوال والأدلة على كل منها : وكيف كان فينبغي
القطع بسقوط الضمان مع الاجتهاد لتحقق الامتثال وفحوى الروايتين ، وإنما يحصل
التردد مع استناد الدفع إلى مجرد الدعوى من كون الدفع مشروعا فلا يستعقب الإعادة
ومن عدم وصول الحق إلى مستحقه. ولعل الأول أرجح. انتهى.
وأنت خبير بأن كلامه هذا مبني على طرح صحيحة الحسين بن
عثمان من البين مع أنه بعد نقلها دليلا للقول الثاني لم يتعرض للطعن فيها بوجه إلا
أن المعلوم من قاعدته ذلك فهي من حيث الإرسال ضعيفة باصطلاحه ، والأظهر عندي هو
الوقوف على ظاهرها والعمل بها ، ويؤيده أنه الأوفق بالاحتياط والخروج عن عهدة
التكليف الثابت في الذمة بيقين. والله العالم.
الخامس ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف
يعرف بأنه لو كان الفقير ممن يستحي من قبول الزكاة جاز دفعه إليه على وجه الصلة.
ويدل عليه حسنة أبي بصير المروية في الفقيه (1) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام الرجل من
أصحابنا يستحي أن يأخذ من الزكاة فأعطيه من الزكاة ولا أسمي له أنها من الزكاة؟
فقال أعطه ولا تسم له ولا تذل المؤمن».
وطعن في هذه الرواية في المدارك بأنها ضعيفة السند
باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف. وفيه أن الراوي عن أبي بصير هنا عاصم بن حميد
وقد ذكر أصحاب هذا الاصطلاح أنه قرينة المرادي الثقة الجليل القدر وكذلك ابن مسكان
فحيث ما وجد أحدهما حكموا بصحة روايته ، وحسن هذه الرواية كما ذكرنا إنما هو
بإبراهيم بن هاشم الذي حديثه في الصحيح عند جملة من محققي هذا الفن.
ويؤيد الرواية المذكورة أيضا ما رواه الشيخ الطوسي في
المجالس بسنده عن إسحاق بن عمار (2) قال : «قال لي أبو عبد الله عليهالسلام يا إسحاق كيف
تصنع بزكاة مالك إذا
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 58 من المستحقين للزكاة.
حضرت؟ قال يأتوني إلى المنزل فأعطيهم.
فقال لي ما أراك يا إسحاق إلا قد أذللت المؤمنين فإياك إياك إن الله تعالى يقول :
من أذل وليا لي فقد أرصد لي بالمحاربة». وفي هذا الخبر ما يدل على استحباب قصد
المالك بالزكاة إلى الفقراء وابتدائهم وكراهة تكليفهم بالإتيان إليه.
وأما ما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن
هاشم على المشهور عن محمد بن مسلم (1) ـ قال : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام الرجل يكون
محتاجا فنبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها على وجه الصدقة يأخذه من ذلك ذمام واستحياء
وانقباض أفنعطيها إياه على غير ذلك الوجه وهي منا صدقة؟ فقال لا إذا كانت زكاة فله
أن يقبلها فإن لم يقبلها على وجه الزكاة فلا تعطها إياه ولا ينبغي له أن يستحي من
ما فرض الله إنما هي فريضة الله فلا يستحي منها» ـ.
فهو غير معمول به على ظاهره ولا قائل به بل الأخبار
وكلام الأصحاب على خلافه فلا يلتفت إليه في مقابلة ما ذكرناه ، فما ذكره في
المدارك ـ من المعارضة به لحسنة أبي بصير بعد طعنه فيها بما قدمنا نقله باعتبار
حسن هذه وضعف تلك بزعمه ـ ليس من ما يعول عليه لأنها وإن صح سندها فضلا عن أن يكون
حسنا مع كون مضمونها مخالفا للأخبار وكلام الأصحاب بل اتفاقهم فإن هذه الصحة
مجازية كما نبهنا عليه في غير موضع من ما سبق ، والصحة في التحقيق إنما هي باعتبار
المتون ومطابقتها للقواعد الشرعية والأخبار المروية واتفاق الأصحاب ونحو ذلك كما
عليه جملة من متقدمي أصحابنا (رضوان الله عليهم).
وكيف كان فلا بد من ارتكاب جادة التأويل في الخبر
المذكور ، والأظهر عندي في تأويله هو حمل قوله عليهالسلام في الجواب «لا»
على الإضراب عن الكلام السابق لا على نفي إعطائها إياه على غير ذلك الوجه كما وقع
في سؤال السائل ويكون ما بعد «لا» بيان ما هو الأولى في هذا المقام ، فبين أنها
إذا كانت زكاة فله أن
__________________
(1) الوسائل الباب 58 و 57 من المستحقين للزكاة.
يقبلها ولا ينبغي أن يستحي من قبولها
وهي حق فرضه الله تعالى ، ثم قال فإن لم يقبلها على هذا الوجه فلا تلزمه بها
وتعطيها إياه على وجه الزكاة ويفهم منه جواز الإعطاء لا على الوجه المذكور ، فجواب
السؤال إنما علم من المفهوم وإلا فمنطوق الخبر إنما سيق في الكلام على ذلك المستحق
وأنه ينبغي له كذا ولا ينبغي له كذا.
وحمل الرواية المذكورة في المدارك على الكراهة بناء على
رجوع النهي بقوله «لا» إلى ما ذكره السائل بقوله «أفنعطيها إياه على غير ذلك الوجه»
وفيه بعد لما عرفت من ما ذكرناه.
وأبعد منه حمل صاحب الوسائل الخبر المذكور على احتمال
كون الامتناع لعدم الاحتياج وانتفاء الاستحقاق مع أن الراوي ذكر العلة في الامتناع
وأنه الاستحياء والانقباض فكيف يتم ما ذكره؟.
وقال في الوافي بعد نقل الخبر الأول أولا والثاني ثانيا
: لعل الفرق بين هذا وما في الخبر السابق أن ذلك كان قد علم من حاله الاستحياء
منها والتنزه عنها ولكنه كان بحيث إذا بعثت إليه لقبلها إذا كان مضطرا إليها بخلاف
هذا فإنه قد بعثت إليه واستنكف منها ، وإنما نهى عن إعطائها إياه لأنه إن كان
مضطرا إليها فقد وجب عليه أخذها وإن لم يأخذها فهو عاص وهو كمانع الزكاة وقد وجبت
عليه وإن لم يضطر إليها ولم يقبلها فلا وجه لإعطائها إياه. انتهى. وأنت خبير بما
فيه كما لا يخفى على الفطن النبيه
الثالث من أصناف المستحقين ـ العاملون عليها ، والمراد
بهم السعاة في تحصيلها وجبايتها بأخذ وكتابة وحفظ وحساب ونحو ذلك.
قال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (1) نقلا عن
العالم عليهالسلام : (والعاملين
عليها) هم السعاة
والجباة في أخذها وجمعها وحفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها.
وقد أجمع الأصحاب وأكثر العامة (2) على أن لهؤلاء
حصة من الزكاة كما
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة رقم (7).
(2) المغني ج 2 ص 654 والبداية ج 1 ص 235.
يدل عليه ظاهر الآية.
وما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن وابن
بابويه في الفقيه في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (1) «أنهما قالا لأبي
عبد الله عليهالسلام أرأيت قول الله
عزوجل (إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ
وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (2) أكل هؤلاء يعطى
وإن كان لا يعرف؟ فقال إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون له بالطاعة. الحديث».
قالوا : ولا يجوز أن يكون العامل هاشميا لتحريم الزكاة
عليه. وهو كذلك إن كان المدفوع إليه من الزكاة أما لو استؤجر على العمل ودفع إليه
الإمام من بيت المال فالظاهر أنه لا مانع منه.
ومن ما يدل على أصل الحكم ما رواه الشيخ في الصحيح عن
عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «إن
أناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلىاللهعليهوآله فسألوه أن
يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله للعاملين عليها
فنحن أولى به. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله يا بني عبد
المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكني قد وعدت الشفاعة ـ ثم قال أبو عبد الله عليهالسلام أشهد لقد
وعدها رسول الله صلىاللهعليهوآله ـ فما ظنكم يا
بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم».
والظاهر أن الاختيار إلى الإمام بين أن يجعل لهم أجرة
معينة أو يعطيهم ما يراه
ويدل على الثاني صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) قال : «قلت له
ما يعطى المصدق؟ قال ما يرى الإمام ولا يقدر له شيء». والظاهر أن المراد من
__________________
(1 و 4) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة.
(2) سورة التوبة الآية 61.
(3) الوسائل الباب 29 من المستحقين للزكاة.
آخر الخبر أنه ليس له سهم مقدر مفروض
لا يحتمل الزيادة والنقصان.
ثم إنه قد ذكر جمع من الأصحاب : منهم ـ الشهيد في البيان
والمحقق الشيخ على في حاشية الشرائع أنه لو عين له أجرة فقصر السهم عن أجرته أتمه
الإمام من بيت المال أو من باقي السهام ، ولو زاد نصيبه عن أجرته فهو لباقي
المستحقين. ولا يخفى ما فيه فإن هذا إنما يتم على القول بوجوب البسط على الأصناف
بالسوية وهو غير معمول عليه عندنا كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
الرابع من الأصناف المذكورة ـ (الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ) ، وقد اضطرب
كلام أصحابنا في معنى المؤلفة أشد الاضطراب وكثرت الاحتمالات والأقوال في هذا
الباب فما بين من خصهم بالكفار الذين يستمالون للجهاد ، قالوا ولا نعرف مؤلفة
غيرهم والظاهر أنه المشهور ، وفسره بعضهم بالمنافقين ، وأدخل بعضهم بعض المسلمين.
وكلامهم في ذلك واسع الذيل كما لا يخفى على من راجع
مطولاتهم وليس في التطويل بنقله مزيد فائدة مع عدم اعتمادهم على دليل غير مجرد
الاعتبارات والمناسبات التي ليس عليها مزيد تعويل.
والعجب منهم (رضوان الله عليهم) في هذا الخلاف والاضطراب
وأخبار أهل البيت (عليهمالسلام) بذلك مكشوفة
النقاب مرفوعة الحجاب قد رواها ثقة الإسلام في الكافي وعنون لها بابا على حدة فقال
«باب المؤلفة قلوبهم».
وها أنا أسوق لك جملة أخباره ومنها ـ ما رواه في الصحيح
أو الحسن عن زرارة عن أبي جعفر عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن قول الله عزوجل (وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ)؟ قال هم قوم
وحدوا الله عزوجل وخلعوا عبادة
من يعبد من دون الله وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوآله وهم في ذلك
شكاك في بعض ما جاء به محمد صلىاللهعليهوآله فأمر الله
نبيه أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا
فيه وأقروا به ، وأن رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم حنين تألف
__________________
(1) الأصول ج 2 ص 411.
رؤساء العرب من قريش وسائر مضر : منهم
ـ أبو سفيان بن حرب وعيينة بن حصين الفزاري وأشباههم من الناس ، فغضبت الأنصار
واجتمعت إلى سعد بن عبادة فانطلق بهم إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله بالجعرانة
فقال يا رسول الله صلىاللهعليهوآله أتأذن لي في
الكلام؟ فقال نعم. فقال إن كان هذا الأمر من هذه الأموال التي قسمت بين قومك شيئا
أنزله الله رضينا وإن كان غير ذلك لم نرض. قال زرارة : وسمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآله يا معشر
الأنصار أكلكم على قول سيدكم سعد؟ فقالوا سيدنا الله ورسوله. ثم قالوا في الثالثة
نحن على مثل قوله ورأيه. قال زرارة فسمعت أبا جعفر عليهالسلام يقول فحط الله
نورهم وفرض الله للمؤلفة قلوبهم سهما في القرآن».
وما رواه فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «المؤلفة
قلوبهم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم إن محمدا
رسول الله صلىاللهعليهوآله وكان رسول
الله يتألفهم ويعرفهم لكيما يعرفوا ويعلمهم».
وما رواه عن زرارة أيضا عن أبي جعفر (عليهالسلام) (2) قال : «المؤلفة
قلوبهم لم يكونوا قط أكثر منهم اليوم».
وما رواه عن إسحاق بن غالب (3) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام يا إسحاق كم
ترى أهل هذه الآية (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها
إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ)؟ (4) قال ثم قال هم
أكثر من ثلثي الناس».
وما رواه عن موسى بن بكر عن رجل (5) قال : «قال
أبو جعفر عليهالسلام ما كانت
المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم وهم قوم وحدوا الله تعالى وخرجوا من الشرك ولم
تدخل معرفة محمد رسول الله صلىاللهعليهوآله قلوبهم وما
جاء به فتألفهم رسول الله صلىاللهعليهوآله وتألفهم
المؤمنون بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله لكيما يعرفوا».
وقال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي (قدسسره) في تفسيره (6) نقلا
__________________
(1 و 2) الأصول ج 2 ص 411.
(3 و 5) الأصول ج 2 ص 412.
(4) سورة التوبة الآية 59.
(6) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة رقم 7.
عن العالم عليهالسلام : (والمؤلفة
قلوبهم) قال هم قوم
وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم إن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوآله فكان رسول
الله صلىاللهعليهوآله يتألفهم
ويعلمهم ويعرفهم كيما يعرفوا فجعل لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا».
وهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة في أن المؤلفة قلوبهم
قوم مسلمون قد أقروا بالإسلام ودخلوا فيه لكنه لم يستقر في قلوبهم ولم يثبت ثبوتا
راسخا فأمر الله تعالى نبيه بتألفهم بالمال لكي تقوى عزائمهم وتشتد قلوبهم على
البقاء على هذا الدين ، فالتأليف إنما هو لأجل البقاء على الدين والثبات عليه لا
لما زعموه (رضوان الله عليهم) من الجهاد كفارا كانوا أو مسلمين وأنهم يتألفون بهذا
السهم لأجل الجهاد.
بقي الكلام في قوله عليهالسلام في رواية
زرارة الثالثة «الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لم يكونوا قط
أكثر منهم اليوم». ونحوها رواية موسى بن بكر ، ولعل معناه ـ والله سبحانه وقائله
أعلم ـ أن ضعفة الدين المحتاجين إلى التأليف لأجل البقاء عليه ورسوخه في قلوبهم
ليسوا مخصوصين بوقته صلىاللهعليهوآله بل هم أكثر
كثير في هذه الأوقات ، ولعل ذلك باعتبار عدم الإقرار بإمامتهم والاعتقاد بها التي
هي أعظم ما جاء به النبي صلىاللهعليهوآله فإن الشكاك في
إمامتهم وهم القسم الثالث المتوسط بين النصاب والمؤمنين ـ ويعبر عنهم في الأخبار
تارة بالشكاك وتارة بالضلال وتارة بالمستضعفين ـ أكثر الناس في زمانهم (عليهمالسلام) كما دلت عليه
الأخبار ، وقد دلت الأخبار على أن حكمهم في الدنيا حكم أهل الإسلام وأنهم في
الآخرة من المرجئين لأمر الله.
وأما قوله عليهالسلام في رواية
إسحاق «كم ترى أهل هذه الآية فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ... إلى آخره»
فالظاهر أن المعنى فيها ما أفاده المحدث الكاشاني في معنى خبر زرارة المتقدم وهو
بهذا الخبر أنسب ، حيث قال : وذلك لأن أكثر المسلمين في أكثر الأزمنة والبلاد
دينهم مبتن على دنياهم إن أعطوا من الدنيا رضوا الدين وإن
لم يعطوا منها إذا هم يسخطون. انتهى.
ولعل المراد بالمؤمنين في قوله عليهالسلام «وتألفهم
المؤمنون» في خبر موسى بن بكر هم الأئمّة (صلوات الله عليهم) ولكن المراد بالتألف
الاستمالة إلى الدين الحق والاستقرار عليه بالهداية والتعليم والإدخال فيه بالطريق
الأحسن لا بالمال ، فإنهم (صلوات الله عليهم) لم تكن لهم يد مبسوطة تقتضي التأليف
بالزكاة.
ثم إن أصحابنا (رضوان الله عليهم) اختلفوا في سقوط هذا
السهم بعد النبي صلىاللهعليهوآله وعدمه ،
وبالأول قطع الصدوق في الفقيه حيث قال : وسهم (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ساقط بعد رسول
الله صلىاللهعليهوآله. وإلى الثاني
يميل كلام المحقق في المعتبر حيث قال : إن الظاهر بقاؤه لأن النبي صلىاللهعليهوآله كان يعتمد
التأليف إلى حين وفاته ولا نسخ بعده.
وقال الشيخ إنه يسقط في زمن غيبة الإمام خاصة لأن الذي
يتألفهم إنما يتألفهم للجهاد وأمر الجهاد موكول إلى الإمام وهو غائب.
واعترضه في المنتهى بأنا نقول قد يجب الجهاد في حال غيبة
الإمام عليهالسلام بأن يدهم
المسلمين والعياذ بالله عدو يخاف منه عليهم فيجب عليهم الجهاد لدفع الأذى لا
للدعاء إلى الإسلام فإذا احتيج إلى التأليف حينئذ جاز صرف السهم إلى أربابه من
المؤلفة. انتهى. قال في المدارك بعد نقله : ولا ريب في قوة هذا القول تمسكا بظاهر
التنزيل السالم من المعارض.
أقول : لا يخفى عليك بعد الوقوف على ما قدمناه من
أخبارهم (عليهمالسلام) أن هذا
الخلاف والبحث في هذا المقام نفخ في غير ضرام فإن كلامهم أولا وآخرا يدور كله على
أن المراد بالمؤلفة في الآية الشريفة هو التأليف لأجل الجهاد مع أنهم لم ينقلوا
بذلك خبرا ولا أوردوا عليه دليلا ، والأخبار الواردة في تفسيرها كلها كما عرفت قد
اتفقت على أن التأليف إنما هو لأجل البقاء على الدين والثبات عليه لمن دخل فيه
دخولا متزلزلا غير مستقر فأمر الله تعالى رسوله بدفع هذا السهم
لهؤلاء لكي يرغبوا في الدين ويستقر في
قلوبهم. وبالجملة فإن هذا من أعجب العجائب من الأصحاب.
بقي الكلام في أنه على تقدير المعنى الذي ذكرناه في بيان
المؤلفة هل يسقط هذا السهم بعده صلىاللهعليهوآله أم لا؟ الظاهر
من الأخبار المتقدمة بالتقريب الذي شرحناه أنه لا ريب في سقوطه في زمن الغيبة
كزماننا هذا وما قبله وما بعده إلى أن يعجل الله تعالى فرج وليه ، وأما في وقت
الأئمّة (صلوات الله عليهم) فالأخبار وإن دلت على وجود من يحتاج إلى التأليف في
زمانهم (صلوات الله عليهم) كما قدمنا الإشارة إليه إلا أن التأليف لما كان مخصوصا
بهم وأيديهم (عليهمالسلام) يومئذ قاصرة
عن إقامة الحدود الشرعية وتنفيذ الأحكام لغلبة التقية ـ إلا أن يكون تأليفا بغير
الأموال كما أشرنا إليه آنفا ـ فمن أجل ذلك سقط أيضا.
ويؤيد ما ذكرناه ما صرح به شيخنا أمين الإسلام الطبرسي (قدسسره) في كتاب مجمع
البيان حيث قال : ثم اختلف في هذا السهم هل هو ثابت بعد النبي صلىاللهعليهوآله أم لا؟ فقيل
هو ثابت في كل زمان عن الشافعي واختاره الجبائي (1) وهو المروي عن
أبي جعفر عليهالسلام إلا أنه قال
من شرطه أن يكون هناك إمام عادل يتألفهم به على ذلك. ثم نقل القول بالاختصاص
بزمانه صلىاللهعليهوآله بالتقريب الذي
نقله في المدارك عن بعض العامة وأسنده إلى الحسن والشعبي وأبي حنيفة وأصحابه (2).
ومن المحتمل قريبا أن إسقاط ابن بابويه سهم المؤلفة بعده
صلىاللهعليهوآله إنما هو لما
ذكرناه فإنه لم يتعرض لبيان معنى المؤلفة وأنهم عبارة عن ما ذا.
وروى الصدوق (قدسسره) في الصحيح
وثقة الإسلام في الصحيح أو
__________________
(1) نسبه في البداية ج 1 ص 235 إلى الشافعي وأبي حنيفة وفي نيل
الأوطار ج 4 ص 234 إلى الجبائي والشافعي وفي المغني ج 2 ص 666 إلى الحسن والزهري
وأبي جعفر ع.
(2) نسبه في البداية ج 1 ص 235 إلى مالك وفي نيل الأوطار ج 4 ص
234 إلى أبي حنيفة وأصحابه وفي المغني ج 2 ص 666 إلى الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب
الرأي.
الحسن عن زرارة ومحمد بن مسلم (1) «أنهما قالا
لأبي عبد الله عليهالسلام أرأيت قول الله
تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ
وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) (2) أكل هؤلاء يعطى
وإن كان لا يعرف؟ فقال إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرون له بالطاعة. قال
زرارة قلت فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال يا زرارة لو كان يعطى من يعرف دون من لا يعرف
لم يوجد لها موضع وإنما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه ، فأما اليوم
فلا تعطها أنت وأصحابك إلا من يعرف فمن وجدت من هؤلاء المسلمين عارفا فأعطه دون
الناس. ثم قال : سهم المؤلفة قلوبهم وسهم الرقاب عام والباقي خاص. قال قلت فإن لم
يوجدوا؟ قال لا تكون فريضة فرضها الله لا يوجد لها أهل. قال قلت فإن لم تسعهم
الصدقات؟ فقال إن الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم ولو علم أن ذلك لا
يسعهم لزادهم إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا
من ما فرض الله لهم ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير».
أقول : لعل المراد بالخبر ـ والله سبحانه وقائله أعلم ـ أنه
لما سأله زرارة «أكل هؤلاء يعطى وإن كان لا يعرف؟» أجاب عليهالسلام بأن الإمام
القائم بأعباء الإمامة والمتمكن على كرسي تلك الشوكة والزعامة كالنبي صلىاللهعليهوآله وأمير
المؤمنين عليهالسلام وقت خلافته
يعطيهم لأنهم مقرون بإمامته مذعنون لدعوته منقادون له بالطاعة. راجعه بأنه لو
كانوا لا يعرفون يعني لا يصدقون بإمامته وإن أقروا بها ظاهرا؟ أجابه بأنه لو كان
يختص الإعطاء بالعارفين المصدقين يومئذ لم يوجد لها بجميع أصنافها موضع لتخلف ذلك
في صنف المؤلفة كما يشير إليه قوله : «وإنما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين»
ويحتمل أن المراد أن الرسول صلىاللهعليهوآله في وقته كان
يعطي على الإسلام لا
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة.
(2) سورة التوبة الآية 61.
على الإيمان فيعطي المنافقين ويعطي
الشكاك التي تضمنتهم تلك الأخبار لأجل أن يرغبوا في الدين ويثبتوا عليه ، فأما
اليوم أي وقتهم (صلى الله عليهم) فقد انكشف الغطاء وظهر المغطى وسقط التأليف فلا
تعطها إلا المؤمن العارف. ولو حملت مراجعة زرارة على السؤال عن عدم المعرفة
بالمعنى الذي في صدر الخبر لم يكن لهذه المراجعة معنى لأنه قد أجابه عنها في صدر الخبر
فكيف يسأل عنها مرة أخرى ، فلا بد من حمل المعرفة هنا على المعرفة الحقيقية التي
هي عبارة عن التصديق. ثم قال : سهم المؤلفة والرقاب عام للعارف وغيره والباقي من
الفقراء والمساكين والعاملين والغارمين وابن السبيل خاص بالعارف لما سيأتي إن شاء
الله تعالى قريبا من تحريم الدفع من الزكاة إلى غير المؤمن. والله العالم.
الخامس من الأصناف الثمانية ـ الرقاب والمراد بهم على ما
ذكره الأصحاب المكاتبون والعبيد تحت الشدة أو غير شدة لكن مع عدم المستحق.
أقول : أما ما يدل على المكاتب فهو ما رواه الشيخ في
التهذيب مسندا عن أبي إسحاق عن بعض أصحابنا عن الصادق عليهالسلام ورواه ابن
بابويه في الفقيه مرسلا عنه عليهالسلام (1) قال : «سئل عن
مكاتب عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها؟ قال يؤدى عنه من مال الصدقة إن الله يقول في
كتابه (وَفِي الرِّقابِ) (2)». ومورد الخبر
من عجز عن مكاتبته وقد أدى بعضها وظاهر الأصحاب المكاتب مطلقا.
وأما ما يدل على شراء العبيد تحت الشدة فما رواه في
الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن الرجل يجتمع عنده من الزكاة الخمسمائة والستمائة يشتري بها نسمة ويعتقها؟ قال
إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم. ثم مكث مليا ثم قال إلا أن يكون عبدا مسلما في ضرورة
فيشتريه ويعتقه».
__________________
(1) الوسائل الباب 44 من المستحقين للزكاة.
(2) سورة التوبة الآية 61.
(3) الوسائل الباب 43 من المستحقين للزكاة.
وهذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب (1) من الكافي عن
عمرو بن أبي نصر والناظر فيها ينظمها في الصحيح وهو تصحيف منه (قدسسره) وسهو واقع في
عبارته وإنما هو عن عمرو عن أبي بصير ، وصاحب المدارك قد اغتر بنقل صاحب التهذيب
لها بهذه الكيفية فنظمها في الصحيح واستدل بها.
وأما ما يدل على الثالث فهو ما رواه في الكافي والتهذيب
في الموثق عن عبيد بن زرارة (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أخرج
زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك إليه فنظر إلى مملوك يباع في من
يزيد فاشتراه بتلك الألف التي أخرجها من زكاته فأعتقه هل يجوز له ذلك؟ قال نعم لا
بأس بذلك. قلت فإنه لما أن أعتق وصار حرا اتجر واحترف فأصاب مالا ثم مات وليس له
وارث فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقون
الزكاة لأنه إنما اشتري بمالهم».
هذا ما استدل به الأصحاب في المسألة على الأقسام
الثلاثة.
وقال الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره (3) في تتمة الخبر
المتقدم نقله عن العالم عليهالسلام : (وفي
الرقاب) قوم لزمتهم
كفارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الإيمان وفي قتل الصيد في الحرم وليس عندهم ما
يكفرون وهم مؤمنون فجعل الله لهم سهما في الصدقات ليكفر عنهم.
وأنت خبير بأن غاية ما تدل عليه رواية أبي بصير وكذا
موثقة عبيد بن زرارة هو شراء العبد من مال الزكاة وليس فيها تصريح ولا إشارة إلى
كونه من سهم الرقاب كما ادعوه.
ومن ما يعاضدها في ذلك ما رواه الصدوق في كتاب العلل في
الصحيح عن
__________________
(1) ج 1 ص 377 وفي الوسائل الباب 43 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 43 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة رقم 7.
أيوب بن الحر أخي أديم بن الحر (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام مملوك يعرف
هذا الأمر الذي نحن عليه أشتريه من مال الزكاة وأعتقه؟ قال فقال اشتره وأعتقه. قلت
فإن هو مات وترك مالا؟ فقال ميراثه لأهل الزكاة لأنه اشتري بسهمهم» قال وفي حديث
آخر «بمالهم».
وما رواه في الكافي عن محمد الوابشي عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «سأله
بعض أصحابنا عن رجل اشترى أباه من الزكاة زكاة ماله؟ قال اشترى خير رقبة لا بأس بذلك».
والقول بجواز الإعتاق من الزكاة منقول عن العلامة في
القواعد وقواه ولده في الشرح ونقله عن الشيخ المفيد وابن إدريس (قدسسره) ولا ريب أن
هذه الأخبار ظاهرة الدلالة عليه وليست من أخبار ما نحن فيه في شيء لما عرفت ،
وحينئذ فتكون هذه الأخبار خارجة مخرج الرخصة في العتق من الزكاة لعدم دخول ذلك تحت
شيء من الأصناف الثمانية المعدودة في الآية كما حققنا ذلك بما لا مزيد عليه في
شرحنا على المدارك وفق الله لإتمامه. ولا ريب أيضا في قوة القول المذكور لدلالة
الأخبار المذكورة عليه وإن كان كثير منهم ذهب إلى عدمه كما نقله بعض الأفاضل.
وأما ما يظهر من السيد في المدارك وهو ظاهر الأصحاب ـ من
الاستدلال على شراء العبد تحت الشدة أو مع عدم وجود المستحق بخبري أبي بصير وعبيد
بن زرارة والاستدلال بخبري أيوب بن الحر والوابشي على جواز الشراء من مال الزكاة ـ
فلا أعرف له وجها وجيها فإن مورد الجميع إنما هو الاشتراء من الزكاة مطلقا كما
عرفت ، وحينئذ فإما أن يجعل الجميع دليلا على الشراء من سهم الرقاب أو دليلا على
القول بجواز الشراء من الزكاة مطلقا ، وليس بين الأخبار الأربعة فرق
__________________
(1) الوسائل الباب 43 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 19 من المستحقين للزكاة.
إلا باعتبار أن خبر أبي بصير قد دل
بظاهره على المنع من شراء العبد إلا أن يكون تحت الشدة وباقي الروايات مطلقة سيما
رواية العلل ورواية الوابشي. وما اشتمل عليه صدر رواية عبيد بن زرارة من أنه لم
يجد لها موضعا لا يصلح للتخصيص لأنه إنما وقع في كلام السائل وليس في الجواب ما
يدل عليه. والجمع بينها ممكن إما بإبقاء تلك الأخبار على إطلاقها وحمل رواية أبي
بصير على الكراهة أو تقييد إطلاق تلك الأخبار بها أو تخصيص المنع بما إذا اشتري
بالزكاة كملا كما هو ظاهر خبر أبي بصير وقوله (عليهالسلام) فيه «إذا
يظلم قوما آخرين حقوقهم» وحمل غيره على ما إذا لم يكن كذلك.
ويؤيد ما قلناه ما اشتمل عليه خبر عبيد بن زرارة وخبر
العلل من انتقال ميراث العبد للفقراء مع عدم الوارث معللا بأنه اشتري من مالهم ،
ومن الظاهر أن سهم الرقاب ليس من مالهم لأنه أحد الأصناف الثمانية ووجوب البسط
عندنا غير ثابت حتى أنه مع الاشتراء بجميع مال الزكاة فللفقراء فيه حصة.
نعم ربما يشكل بما لو اشتري العبد من سهم سبيل الله بناء
على أنه لجميع القرب والطاعات كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وأنه لا وجه أيضا
لرجوع ميراثه إلى الفقراء لأنه اشتري من مالهم فإن سهم السبيل مصرف آخر غير مالهم.
ولعل الوجه في التفصي عن هذا الإشكال هو الرجوع إلى قصد
المشتري ونيته فإن اشتراه بقصد كونه من مال سهم سبيل الله فالوجه فيه ما ذكرناه
وأن ميراثه يرجع إلى الإمام عليهالسلام وإن اشتراه من
الزكاة لا بهذا القصد صار الحكم فيه ما تضمنته الأخبار. ولا استبعاد في ذلك لأن
العبادات بل جملة الأفعال تابعة للنيات والقصود صحة وبطلانا وثوابا وعقابا وحلية
وتحريما ونحو ذلك.
ولا يخفى أن ظاهر تلك الأخبار مساعد لما ذكرناه لأنها
دلت على الاشتراء من الزكاة بقول مطلق من غير تقييد بسهم خاص ، وأما إدخال ذلك في
سهم الرقاب كما عليه ظاهر كلمة الأصحاب فلا أعرف له وجها لعدم فهمه من الأخبار
وإجمال الآية
يجب فيه الرجوع إلى النصوص ، والذي
دلت عليه النصوص الواردة في تفسيرها هو المكاتب كما تقدم في مرسلة أبي إسحاق وما
تقدم من رواية علي بن إبراهيم في تفسيره ، إلا أن الرواية الأولى هي الأشهر بين
الأصحاب فإنه لا خلاف بينهم في حملها على المكاتب وإن كان مورد الرواية أخص من ما
ذكروه كما قدمنا الإشارة إليه ومن ما يؤيد ما ذكرناه أن الصدوق في الفقيه لم يذكر
في مصرف سهم الرقاب غير المكاتبين العاجزين عن أداء الكتابة كما هو مورد الرواية
التي قدمناها.
وأما ما دلت عليه الرواية الثانية فإنه محل خلاف بينهم ،
فإن ظاهر المحقق في الشرائع التردد في ذلك حيث قال بعد ذكر الأصناف الثلاثة التي
قدمنا نقلها عنهم : وروى رابع وهو من وجبت عليه كفارة ولم يجد فإنه يعتق عنه ، وفيه
تردد. وهو إشارة إلى الرواية المذكورة كما صرح به السيد السند في المدارك ، وطعن
فيها في المدارك أيضا بأن مقتضاها إخراج الكفارة وإن لم تكن عتقا ، وأنها غير
واضحة الإسناد لأن علي بن إبراهيم أوردها مرسلة ، قال ومن ثم تردد المصنف في العمل
بها وهو في محله. انتهى.
وقال الشيخ في المبسوط : وروى أصحابنا أن من وجب عليه
عتق رقبة في كفارة ولا يقدر على ذلك جاز أن يعتق عنه ، والأحوط عندي أن يعطى ثمن
الرقبة لكونه فقيرا فيشتري هو ويعتق عن نفسه. وظاهره أنه يعطى من سهم الفقراء ،
وجوز في المعتبر إعطاءه من سهم الغارمين أيضا لأن القصد بذلك إبراء ذمة المكفر عنه
من ما في عهدته. قال في المدارك بعد نقله عنه : وهو جيد لأن ذلك في معنى الغرم.
أقول : لا يخفى ما في كلامهم (نور الله تعالى مراقدهم)
في هذا المقام وأنه مجرد اجتهاد في مقابلة نصوصهم (صلوات الله عليهم) وليت شعري أي
مانع من العمل بالخبر المذكور بعد صراحته في تفسير الآية بذلك؟ والمناسبة للآية
حيث تضمنت الرقاب لا تختص بالعتق كما توهموه بل هي أعمّ من ذلك بأن يراد بها فك
الرقاب وتخليصها
من رق العبودية أو من حقوق لزمتها
بأحد هذه الوجوه المذكورة في الخبر ، فإنه لا ريب أن من لزمه شيء من هذه الحقوق
فقد تعلق برقبته فجعل الله تعالى له سهما في الصدقات لفك رقبته من ذلك. ولا منافاة
في هذه الرواية للرواية الأخرى الواردة أيضا في تفسير الآية كما لا يخفى ، بل
مقتضى الخبرين هو كون سهم الرقاب عبارة عن ما يصرف في إعانة المكاتب كما تضمنته
إحدى الروايتين أو في هذه الأشياء كما تضمنته هذه الرواية.
وبذلك يظهر لك ما في طعن صاحب المدارك في الرواية
بتضمنها إخراج الكفارة وإن لم تكن عتقا فإنه لا ضير فيه ولا طعن به والآية قابلة
للحمل عليه كما عرفت.
وأما طعنه بضعف السند فقد عرفت في غير مقام أنه غير
معتبر ولا معتمد سيما والمرسل لها هذا الثقة الجليل ، ومن المعلوم أن مراسيلهم
ومسانيدهم أمر واحد وأن هذا الإرسال إنما يقع غالبا للاختصار كما لا يخفى على من
أحاط خبرا بطريقة الصدوق في الفقيه وتصريحه في غير موضع بعد ذكر الأحاديث المرسلة
أني أخرجتها مسندة في كتاب كذا وكذا.
ثم إنه قد وقع الخلاف بينهم في ما لو دفع المالك من هذا
السهم للمكاتب ولم يصرفه في وجه المكاتبة بأن أبرأه سيده أو تطوع عليه متطوع فهل
يجب ارتجاعه منه أم لا؟ صرح الشيخ بالثاني قال لأنه ملكه بالقبض فكان له التصرف
فيه كيف شاء ، واستشكله المحقق في المعتبر وقال إن الوجه أنه إذا دفعه إليه ليصرفه
في مال الكتابة ارتجع بالمخالفة لأن للمالك الخيرة في صرف الزكاة في الأصناف. قال
في المدارك بعد نقله عنه : وهو جيد. لكن يبقى الكلام في اعتبار هذا القصد من
المالك ومقتضى كلامه في الغارم وابن السبيل اعتباره فإنه استدل على جواز الارتجاع
بأن كلا من الغارم وابن السبيل إنما ملك المال ليصرفه في وجه مخصوص فلا يسوغ له
غيره. وهو غير بعيد إذ لو لا ذلك لجاز إعطاء المكاتب وابن السبيل
ما يزيد عن قدر حاجتهم وهو باطل قطعا.
انتهى. والمسألة عندي محل توقف لعدم النص وإن كان ما ذكره السيد السند لا يخلو من
قرب.
تتمة (1)
قال السيد السند (قدسسره) في المدارك ـ
بعد قول المصنف : والمكاتب إنما يعطى من هذا السهم إذا لم يكن معه ما يصرفه في
كتابته ـ ما لفظه : مقتضى العبارة جواز إعطاء المكاتب من هذا السهم إذا لم يكن معه
ما يصرفه في كتابته وإن كان قادرا على تحصيله بالتكسب ، وهو كذلك عملا بالإطلاق ،
واعتبر الشهيد في البيان قصور كسبه عن مال الكتابة. انتهى.
أقول : لا يخفى أن الخبر الذي قدمناه مستندا لهذا الحكم
وهو خبر أبي إسحاق قد دل على تقييد إعطاء المكاتب بالعجز عن أداء مال الكتابة ،
والظاهر أنه هو مراد المصنف وإن كانت عبارته غير صريحة فيه إلا أن السيد المذكور
لم يقف على الخبر المشار إليه وجمد على إطلاق الآية.
وبما ذكرنا صرح أيضا شيخنا الصدوق في الفقيه لما فسر سهم
الرقاب بالمكاتب خاصة ، حيث قال : وسهم الرقاب يعان به المكاتبون الذين يعجزون عن
أداء مال الكتابة. انتهى. وبه يظهر أن الأظهر هو ما صرح به في الدروس.
ومن ما يؤيد ذلك أيضا ما ذكره السيد المذكور في صنف
الغارمين حيث قال : ويعتبر في الغارم أن يكون غير متمكن من القضاء كما صرح به
الشهيدان وجماعة لأن الزكاة إنما شرعت لسد الخلة ورفع الحاجة ولا تدفع مع
الاستغناء عنها. ولو تمكن من قضاء البعض دون البعض أعطي ما لا يتمكن من قضائه.
انتهى ولا يخفى أن هذا الكلام جار في ما نحن فيه أيضا ، فإنه إن عمل على إطلاق
الآية فهي في هذا الموضع أيضا مطلقة فكيف استجاز تقييدها بما ذكره ، وإن اعتبر
بهذا التقييد ـ وهو أن الزكاة إنما شرعت لسد الخلة. إلى آخره ـ فلا معنى
__________________
(1) هذه التتمة أوردناها على طبق النسخة الخطية ولم ترد في
المطبوعة.
لكلامه هنا لأن القادر على التحصيل
بالتكسب غني عندهم فهو غير محتاج ، فلا وجه لعمله على إطلاق الآية. وهذا بحمد الله
سبحانه ظاهر لا ستر عليه.
السادس من الأصناف المذكورة ـ الغارمون وفسرهم الأصحاب
بأنهم الذين عليهم الديون في غير معصية ، والظاهر أنه لا خلاف فيه كما صرح به غير
واحد منهم
ويدل عليه ما رواه في الكافي عن محمد بن سليمان عن رجل
من أهل الجزيرة يكنى أبا نجاد (1) قال : «سأل الرضا عليهالسلام رجل وأنا أسمع
فقال له جعلت فداك إن الله عزوجل يقول «وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (2) أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها
الله تعالى في كتابه لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر إليه لا بد من أن ينظر وقد
أخذ مال هذا الرجل وأنفقه على عياله وليس له غلة ينتظر إدراكها ولا دين ينتظر محله
ولا مال غائب ينتظر قدومه؟ قال نعم ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه
ما عليه من الدين من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزوجل فإن كان أنفقه
في معصية الله فلا شيء له على الإمام. قلت فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا
يعلم في ما أنفقه في طاعة الله عزوجل أم في معصيته؟
قال يسعى له في ماله ويرده عليه وهو صاغر».
وما رواه فيه أيضا عن صباح بن سيابة عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله أيما مؤمن أو
مسلم مات وترك دينا لم يكن في فساد ولا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه
فعليه إثم ذلك ، إن الله تبارك وتعالى يقول : «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ... الآية» (4) فهو من
الغارمين وله سهم عند الإمام فإن حبسه عنه فإثمه عليه».
وفي تفسير علي بن إبراهيم في تتمة الحديث المتقدم نقله (5) في الأصناف
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من أبواب الدين وفيه كما في الفروع ج 1 ص
353 والتهذيب ج 6 ص 185 (يكنى أبا محمد).
(2) سورة البقرة الآية 281.
(3) الأصول ج 1 ص 407.
(4) سورة التوبة الآية 61.
(5) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة رقم (7).
المتقدمة قال : «والغارمين قوم قد
وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف فيجب على الإمام أن يقضي عنهم
ويفكهم من مال الصدقات».
وما رواه الحميري في كتاب قرب الإسناد عن الحسين بن
علوان عن جعفر ابن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) (1) «أن عليا عليهالسلام كان يقول يعطى
المستدينون من الصدقة والزكاة دينهم كله ما بلغ إذا استدانوا في غير سرف».
وما رواه الكليني في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن رجل عارف
فاضل توفي وترك عليه دينا قد ابتلي به لم يكن بمفسد ولا مسرف ولا معروف بالمسألة
هل يقضى عنه من الزكاة الألف والألفان؟ قال نعم».
ثم إنه قد ورد هنا أخبار مطلقة ينبغي حملها على هذه
الأخبار المقيدة : منها ـ ما رواه في الكافي عن موسى بن بكر (3) قال : «قال لي
أبو الحسن عليهالسلام من طلب هذا
الرزق من حله ليعود به على نفسه وعياله كان كالمجاهد في سبيل الله فإن غلب عليه
فليستدن على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآله ما يقوت به
عياله فإن مات ولم يقضه كان على الإمام قضاؤه فإن لم يقضه كان عليه وزره ، إن الله
عزوجل يقول (إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها). إلى قوله (وَالْغارِمِينَ) (4) وهو فقير
مسكين مغرم».
وما رواه فيه أيضا عن العباس عن من ذكره عن أبي عبد الله
عليهالسلام (5) قال : «الإمام
يقضي عن المؤمنين سائر الديون ما خلا مهور النساء».
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع أحدها ـ قد
صرح جمع من الأصحاب بأنه يعتبر في الغارم أن يكون غير متمكن من الأداء لأن الزكاة
إنما شرعت لسد الخلة ورفع الحاجة ولا تدفع مع الاستغناء عنها ، واستقرب العلامة في
__________________
(1) الوسائل الباب 24 و 48 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 24 و 46 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 46 من المستحقين للزكاة والباب 9 من أبواب
الدين.
(4) سورة التوبة الآية 61.
(5) الوسائل الباب 9 من أبواب الدين.
النهاية جواز الدفع إلى المديون وإن
كان عنده ما يفي بدينه إذا كان بحيث لو دفعه يصير فقيرا لانتفاء الفائدة في أن
يدفع ماله ثم يأخذ الزكاة باعتبار الفقر. قال في المدارك بعد نقله عنه : ومقتضى
كلامه أن الأخذ والحال هذه يكون من سهم الغارمين ، وهو غير بعيد لإطلاق الآية وعدم
صدق التمكن من أداء الدين عرفا بذلك. انتهى.
أقول : لا ريب أن ما ذكروه من أنه يعتبر في الغارم أن
يكون غير متمكن من الأداء هو مقتضى الأخبار التي ذكرناها فالأولى في الاستدلال على
ما ذكروه هو الاستناد إليها ، إلا أنهم (رضوان الله عليهم) لم يلموا في هذا المقام
بشيء منها ولا ذكروا منها شيئا بالمرة فلذا عللوا الحكم المذكور بما ذكروه ، وهو
من حيث الاعتبار لا يخلو من قوة إلا أنك قد عرفت في غير موضع أن أمثال هذه
التعليلات العقلية لا تصلح مجردة عن الأخبار لتأسيس الأحكام الشرعية.
وأما ما ذكره العلامة من جواز الدفع إلى المديون وإن كان
عنده ما يفي بدينه فظواهر الأخبار التي ذكرناها تأباه وترده ولا سيما الخبر الأول
فإنه صريح في ذلك
وما ذكره في المدارك ـ من أنه غير بعيد لإطلاق الآية.
إلى آخر كلامه ـ ينافي ما صرح به أولا من ما نقلناه عنهم من أنه يعتبر في الغارم
أن يكون غير متمكن من الأداء. إلى آخر ما نقلناه عنهم ، فإن هذا الكلام ظاهر في
أنهم لم يعملوا على إطلاق الآية بل قيدوها بعدم التمكن ، ولا ريب أن هذا متمكن كما
هو المفروض وتعليلهم الذي ذكروه أظهر ظاهر في ذلك.
وأما ما ذكره من عدم صدق التمكن من أداء الدين عرفا فهو
ممنوع أشد المنع ، وكيف لا يكون متمكنا وعنده ما يفي بدينه كما هو المفروض ، وإنما
يتعللون بأنه بعد الدفع في الدين يكون فقيرا محتاجا إلى الزكاة.
وهذا لا يصلح وجها لما اعتمده (أما أولا) فلأن الله
تعالى ضامن للرزق فلعل الله تعالى بسبب حسن نيته في قضاء دينه والمسارعة إلى فكاك
عنقه بما عنده يعجل له بالرزق من حيث لا يحتسب ولا يحتاج إلى الزكاة.
(وأما ثانيا) فإنه ليس الفقر إلا عدم ملك مئونة السنة
وهذا لا يستلزم الحاجة إلى الزكاة في الحاضر وإن كان من أهلها باعتبار فقره وإنما
يحتاج إليها لإتمام مئونة السنة ، ومع فرض احتياجه إلى الزكاة كما ادعوه فهو لا
يصلح مستندا لما ذكروه.
وبالجملة فكلامهم في المقام لما كان غير مبني على خبر
ولا دليل شرعي وإنما هو مجرد اعتبارات وتخريجات فالباب في ذلك واسع ، وأنت إذا
رجعت إلى الأخبار التي ذكرناها لا ترتاب في صحة ما ذكرناه وظهوره منها كما بيناه.
وثانيها ـ إن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على اشتراط
الأداء عن الغارمين بأن لا يكون ما استدانوه في معصية والأخبار المتقدمة صريحة في
ذلك كما عرفت ، وبعضها وإن كان مطلقا لكن يجب حمله على مقيدها. وبذلك يظهر لك ما
في مناقشة السيد السند في المدارك ومن اقتفاه كالفاضل الخراساني في الذخيرة.
قال في المدارك : واشترط الأصحاب في جواز الدفع إلى الغارم
أن لا يكون استدانته في معصية ، واستدلوا عليه بأن في قضاء دين المعصية حملا
للغريم على المعصية وهو قبيح عقلا فلا يكون متعبدا به شرعا ، وبما روي عن الرضا عليهالسلام (1) أنه قال : «يقضى
ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله عزوجل وإذا كان أنفقه
في معصية الله فلا شيء له على الإمام». ويمكن المناقشة في الأول بأن إعانة
المستدين في المعصية إنما تقبح مع عدم التوبة لا مطلقا ، وفي الرواية بالطعن في
السند فإنا لم نقف عليها مسندة في شيء من الأصول ، ومن ثم ذهب المصنف في المعتبر
إلى جواز إعطائه مع التوبة من سهم الغارمين وهو حسن. انتهى.
أقول : بل الدليل على ما ذكره الأصحاب إنما هو هذه
الأخبار الواضحة الدلالة على ذلك ولكنه معذور حيث لم يقف عليها كما يفصح عنه
إنكاره لوجود هذه الرواية عن الرضا عليهالسلام في شيء من
الأصول وهي في كتاب الكافي لكنها حيث
__________________
(1) وهي رواية محمد بن سليمان المتقدمة ص 188.
لم تكن في كتاب الزكاة وإنما هي في
كتاب الديون لم يطلع عليها وكذا غيرها من ما نقلناه
وأما ما نقله عن المعتبر من جواز إعطائه مع التوبة
فالظاهر أنه مبني على ما أجاب به هنا عن التعليل الذي استدل به الأصحاب على عدم
جواز الدفع من هذا السهم لمن أنفق ما استدانه في معصية وأنه مع التوبة لا يقبح
الأداء عنه وإن كان كذلك.
وأنت قد عرفت أنا لا نعتمد على هذه التعليلات الواهية
وإنما العلة هي النصوص المذكورة والتوبة لا مدخل لها في ذلك ، لأن الظاهر أن إيجاب
الشارع القضاء عليه من غير أن يعطى من هذا السهم ما يقضي به عن نفسه إنما وقع
عقوبة له في ما فعل من صرف ما استدانه في المعصية كما ينادي به قول الرضا عليهالسلام في الرواية
الأولى (1) «يسعى له في
ماله ويرده عليه وهو صاغر».
وبالجملة فإن الأخبار وكلمة الأصحاب متفقة على أن الدفع
من هذا السهم مخصوص بمن استدان في غير معصية ، والخروج عن ذلك من غير دليل واضح مع
كونه تحكما محضا جرأة كما لا يخفى على المنصف. إلا أن ذلك إنما هو بالنسبة إلى من
وقف على الأخبار المذكورة وأما من لم يقف عليها فهو معذور في ما ذكره. إلا أن
الحكم في المسألة قبل تتبع الأدلة الشرعية من مظانها مشكل فنسأل الله تعالى لنا
ولهم المسامحة بجوده ومغفرته.
وثالثها ـ أنه قد ذكر الأصحاب أنه لو جهل مصرف الدين في
طاعة أو معصية فإنه يعطى من سهم الغارمين ، ونقل عن الشيخ القول بالمنع ، قالوا
وربما كان مستنده رواية محمد بن سليمان المتقدمة في أول الأخبار السابقة (2) وقوله فيها «قلت
فما لهذا الرجل الذي ائتمنه وهو لا يعلم في ما أنفقه في طاعة الله عزوجل أم في معصيته؟
قال يسعى له في ماله ويرده عليه وهو صاغر». قالوا : وهذه الرواية ضعيفة جدا فلا
يمكن التعويل عليها في إثبات حكم مخالف للأصل ، لأن الأصل في تصرفات المسلم
__________________
(1 و 2) ص 188.
وقوعها على الوجه المشروع ، ولأن تتبع
مصارف الأموال عسر.
أقول : الظاهر أن الخبر المذكور لا دلالة فيه على ما
ذكروه من أنه متى جهل الإمام حال إنفاقه لم يدفع له من هذا السهم ، وبيان ذلك أن
الظاهر أن المرجع في الإنفاق إلى كونه طاعة أو معصية إنما هو إلى المنفق لأنه
المتولي لذلك ، واطلاع الناس على ذلك أمر نادر غالبا سيما إذا كان مستور الظاهر ،
وحينئذ فيرجع الحكم إليه فإن أنفقه في طاعة جاز له الأخذ من هذا السهم وحل له ذلك
وإن أنفقه في معصية حرم عليه الأخذ منه. وأما الحكم بالنسبة إلى الإمام فإنه إن
اطلع على أحد الأمرين عامله به وإن لم يطلع ولا سيما مع كونه مستور الظاهر غير
معروف بالفسق فإنه يدفع إليه بناء على ظاهر الحال ولكنه يحرم عليه في ما بينه وبين
الله إن كان ما استدانه قد أنفقه في المعصية ، وحينئذ فيرجع قوله عليهالسلام : «إذا كان
أنفقه في طاعة الله» إلى ما لو علم الإنفاق بكونه في طاعة أو بني في ذلك على حسن
ظاهره كما يشير إليه قوله عليهالسلام في صحيحة عبد
الرحمن بن الحجاج «لم يكن بمفسد ولا مسرف» وقوله في رواية صباح بن سيابة «لم يكن
في فساد ولا إسراف» فإن مرجع ذلك إلى الحكم بحسن الظاهر.
والرواية عند التأمل فيها لا منافاة فيها لما ذكرناه ،
لأنه لما ذكر عليهالسلام أنه إنما
يعطيه الإمام إذا أنفقه في طاعة الله وأما إذا أنفقه في المعصية فلا شيء له رجع
له الراوي وقال له إن صاحب هذا الدين لا علم له بكونه أنفقه في طاعة أو معصية ،
أجابه عليهالسلام بما معناه أن
صاحب الدين لا مدخلية له في ذلك وإنما المرجع فيه إلى المستدين فإن كان قد أنفق ما
استدانه منه في معصية وجب عليه أن يسعى له فيه ويرده عليه وهو صاغر. هذا حاصل
جوابه عليهالسلام. وجهل الإنفاق
هنا إنما نسب إلى صاحب الدين لا إلى الإمام حتى يتم ما توهموه من الخبر من أنه متى
جهل الإمام وجه الإنفاق لم يدفع له من هذا السهم ، غاية الأمر أن الإمام عليهالسلام للتفصيل الذي
ذكره أولا وعلم منه الحكم أجمل في الجواب ثانيا اعتمادا على ما قدمه من التفصيل.
هكذا حقق المقام ولا تصغ إلى ما سبق
من الأوهام.
ورابعها ـ قال الشيخ في المبسوط : وأما الغارمون فصنفان
: صنف استدانوا في مصلحتهم في غير معصية ثم عجزوا عن أدائه فهؤلاء يعطون من سهم
الغارمين بلا خلاف ، وقد ألحق بهذا قوم أدانوا مالا في دم بأن وجد قتيل لا يدرى من
قتله وكاد أن تقع بسببه فتنة فتحمل رجل ديته لأهل القبيلة فهؤلاء أيضا يعطون
أغنياء كانوا أو فقراء لقوله صلىاللهعليهوآله (1) «لا تحل الصدقة
لغني إلا لخمسة : غاز في سبيل الله أو عامل عليها أو غارم». وألحق به أيضا قوم
تحملوا في ضمان مال بأن يتلف مال رجل ولا يدرى من أتلفه وكاد إن تقع بسببه فتنة
فتحمل رجل قيمته وأطفأ الفتنة. انتهى.
وبذلك صرح كثير من الأصحاب ممن تأخر عنه : منهم ـ العلامة
في أكثر كتبه وابن حمزة ، وظاهرهم دفع ذلك من سهم الغارمين ، ولم أقف فيه على نص
من طرقنا والرواية التي ذكرها الشيخ الظاهر أنها من طرق المخالفين ، ولو أريد
الدفع من سهم سبيل الله ـ بناء على ما هو الأشهر الأظهر من أن مصرفه جميع الطاعات
وإصلاح ذات البين من أعظمها ـ فهو جيد.
وروى ابن إدريس في مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد
بن علي بن محبوب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (2) أن محمد بن خالد
قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الصدقات
فقال اقسمها في من قال الله عزوجل ولا تعطين من
سهم الغارمين الذين ينادون بنداء الجاهلية شيئا. قلت وما نداء الجاهلية؟ قال هو
الرجل يقول يا لبني فلان فيقع بينهم القتل والدماء فلا تؤدوا ذلك من سهم الغارمين
، ولا الذين يغرمون من مهور النساء ، ولا أعلمه إلا قال ولا الذين لا يبالون ما
صنعوا في أموال الناس». وفي هذا الحديث إيماء إلى ما ذكره الأصحاب.
__________________
(1) سنن أبي داود ج 1 ص 259.
(2) الوسائل الباب 48 من المستحقين للزكاة وفيه (يا بني فلان).
وخامسها ـ قد صرح الأصحاب بأنه لو كان له دين على فقير
جاز له مقاصته به من الزكاة ، وهو من ما لا خلاف فيه.
ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الكليني في
الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «سألت أبا الحسن الأول عليهالسلام عن دين لي على
قوم قد طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة هل لي أن أدعه
وأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال نعم».
وعن عقبة بن خالد (2) قال : «دخلت أنا والمعلى وعثمان بن
عمران على أبي عبد الله عليهالسلام فلما رآنا قال
مرحبا بكم وجوه تحبنا ونحبها جعلكم الله معنا في الدنيا والآخرة فقال له عثمان
جعلت فداك فقال له أبو عبد الله عليهالسلام نعم مه. قال
إني رجل موسر فقال له بارك الله لك في يسارك قال فيجيئني الرجل فيسألني الشيء
وليس هو إبان زكاتي؟ فقال له أبو عبد الله عليهالسلام القرض عندنا
بثمانية عشر والصدقة بعشر وما ذا عليك إذا كنت كما تقول موسرا أعطيته فإذا كان
إبان زكاتك احتسبت بها من الزكاة ، يا عثمان لا ترده فإن رده عند الله عظيم ، يا
عثمان إنك لو علمت ما منزلة المؤمن من ربه ما توانيت في حاجته ، ومن أدخل على مؤمن
سرورا فقد أدخل على رسول الله صلىاللهعليهوآله وقضاء حاجة المؤمن
يدفع الجنون والجذام والبرص».
وروى الكليني في الموثق عن سماعة عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة؟ فقال إن كان الفقير
عنده وفاء بما كان عليه من الدين من عرض من دار أو متاع من متاع البيت أو يعالج
عملا يتقلب فيه بوجهه فهو يرجو أن يأخذ منه ما له عنده من دينه فلا بأس أن يقاصه
بما أراد أن يعطيه من الزكاة أو يحتسب بها ، وإن لم يكن عند
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 46 من المستحقين للزكاة.
(2) الفروع ج 1 ص 163 باب القرض ، وفي الوسائل الباب 49 من
المستحقين للزكاة و 25 من فعل المعروف.
الفقير وفاء ولا يرجو أن يأخذ منه
شيئا فليعطه من زكاته ولا يقاصه بشيء من الزكاة».
وذكر شيخنا الشهيد الثاني أن المقاصة احتساب الزكاة على
الفقير ثم أخذها مقاصة من دينه ، وقيل هي القصد إلى إسقاط ما في ذمة الفقير للمزكي
من الدين على وجه الزكاة ، وهو أظهر.
قال في المدارك : وفي معنى الفقير الغني أعني مالك قوت
السنة إذا كان بحيث لا يتمكن من أداء الدين.
ولا يخفى ما فيه : أما أولا ـ فلأنه خلاف ما اتفقت عليه
الأخبار وكلمة الأصحاب من غير خلاف يعرف في الباب من اشتراط الفقر في المستحق وأن
الغنى وهو المالك مئونة سنة لا يجوز أن يعطى منها ، والفرق بين الإعطاء ابتداء
والمقاصة من ما لا دليل عليه فلا وجه له.
والظاهر أن منشأ الشبهة عنده هو ما تقدم في الموضع الأول
من أنه بأداء ما عليه من الدين يكون فقيرا محتاجا إلى الزكاة لفقره فلا معنى لأن
يعطي ما عليه من الدين ثم يأخذ الزكاة.
وفيه ما عرفت وأنه ليس كل فقير يحتاج في الحاضر إلى
الزكاة وإن احتاج إليها في وقت آخر ، فلو فرضنا أن شخصا عنده ألف درهم جنسا أو
نقدا وهي مئونة سنته وعليه مائة درهم دينا فلو أعطى تلك المائة نقص ما عنده عن
مئونة سنته وصار فقيرا يحل له أخذ الزكاة ، ولا ريب أن الواجب عليه إعطاء ما عليه
من الدين لكونه مقتدرا عليه فهو داخل تحت الأوامر الدالة على وجوب الوفاء بالدين
ولا يحل له حبسه مع المطالبة ، واحتساب ما عليه من الدين من وجه الزكاة غير جائز
لكونه غنيا كما عرفت.
وأما ثانيا ـ فلما عرفت من الأخبار المتقدمة فإنها ظاهرة
بل صريحة في عدم ملك مئونة السنة بل عدم القدرة على أداء الدين ، أما صحيحة عبد
الرحمن بن الحجاج فلقوله فيها «لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة» وأما
رواية عقبة بن
خالد فلقوله «يجيئني الرجل فيسألني»
ومالك مئونة سنة لا يسأل ، وأما موثقة سماعة فالفرق بين الموضعين فيها لا يخلو من
إجمال ، وتوضيحه بتوفيق الله وعونه سبحانه أنه لما كان الفقير هو الغير المالك
لمئونة سنة فعلا أو قوة فقد يملك أشياء وإن كانت لا تفي بمئونة السنة وإن وفت
بدينه وزيادة وقد لا يملك شيئا بالكلية ، فأمره عليهالسلام بالاحتساب في
الحالة الأولى من حيث الفقر وإن أمكنه أداء الدين ومنعه من الاحتساب في الحالة
الثانية وذلك لأنه معسر فيجب إنظاره كما دلت عليه الآية (1) والاحتساب
استيفاء وقبض للدين وهو غير جائز شرعا بالنسبة إلى المعسر لوجوب إنظاره إلى ميسرة
فلذا منعه من الاحتساب عليه وأمره بإعطائه من الزكاة.
وسادسها ـ لو كان الدين على ميت جاز أن يقضى عنه من هذا
السهم وإن يقاص به ، وهو من ما لا خلاف فيه وعليه تدل الأخبار :
ومنها ـ ما تقدم (2) من صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
ورواية صباح بن سيابة وهما دالتان على القضاء.
ورواية يونس بن عمار (3) قال : «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول قرض
المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك وإن مات قبل ذلك احتسبت به من الزكاة».
ورواية إبراهيم بن السندي عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) قال : «قرض
المؤمن غنيمة وتعجيل خير ، إن أيسر أدى وإن مات احتسب به من زكاته». ونحوهما
غيرهما وهما دالتان على الاحتساب.
وروى زرارة في الصحيح أو الحسن على المشهور (5) قال : «قلت
لأبي عبد الله
__________________
(1) وهي قوله تعالى «وَإِنْ
كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» سورة البقرة الآية 281.
(2) ص 188 و 189.
(3 و 4) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة.
(5) الوسائل الباب 18 من المستحقين للزكاة.
عليهالسلام رجل حلت عليه
الزكاة ومات أبوه وعليه دين أيؤدي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير؟ فقال إن كان
أبوه أورثه مالا ثم ظهر عليه دين لم يعلم به يومئذ فيقضيه عنه قضاه من جميع
الميراث ولم يقضه من زكاته ، وإن لم يكن أورثه مالا لم يكن أحد أحق بزكاته من دين
أبيه فإذا أداها في دين أبيه على هذه الحال أجزأت عنه».
إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله
عليهم) في أنه هل يشترط في جواز الأداء عن الميّت من الزكاة قصور تركته عن الوفاء
بالدين أم لا؟ قولان ذهب إلى الأول الشيخ في المبسوط وابن الجنيد على ما نقل عنهما
وإلى الثاني الفاضلان.
ويدل على الأول حسنة زرارة المذكورة أو صحيحته على
المختار ، وموردها وإن كان الأب إلا أن الظاهر أنه لا خصوصية له فيتعدى إلى غيره
كما في سائر الأحكام.
واستدل العلامة في المختلف على الثاني بعموم الأمر
باحتساب الدين على الميّت من الزكاة (1) ولأنه بموته انتقلت التركة إلى ورثته
فصار في الحقيقة عاجزا ولا يخفى ما في هذا الاستدلال : أما العموم فإنه يجب تخصيصه
بالصحيحة المذكورة كما هو القاعدة المطردة. وأما انتقال التركة فإنه في موضع
النزاع ممنوع لصريح قوله عزوجل في غير موضع «مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» (2) فإنها صريحة في عدم الانتقال مع
الدين والوصية النافذة كما لا يخفى.
ثم إنه لا يخفى أنه لا فرق في جواز قضاء الدين عن الميّت
أو مقاصته به بين أن يكون أجنبيا أو واجب النفقة وهو موضع وفاق بينهم ، ويدل عليه
حسنة زرارة المتقدمة أو صحيحته.
وكذا لو كان الدين على من تجب نفقته مع كونه حيا فإنه
يجوز القضاء عنه
__________________
(1) الوسائل الباب 9 من أبواب الدين.
(2) سورة النساء الآية 13 و 17.
أو مقاصته من غير خلاف.
ويدل عليه موثقة إسحاق بن عمار (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل على
أبيه دين ولأبيه مئونة أيعطي أباه من زكاته يقضي دينه؟ قال نعم ومن أحق من أبيه».
وسابعها ـ أنه لو صرف الغارم ما دفع إليه في غير وجه
الغرم فهل يجب استعادته أم لا؟ قولان ذهب إلى الأول المحقق في المعتبر والشرائع ،
وإلى الثاني الشيخ ، وعلله بأنه ملكه بالقبض فلا يحكم عليه بوجوب الإعادة. وأجاب
في المعتبر بأنه ملكه ليصرفه في وجه مخصوص لا يسوغ له غيره. واستحسنه في المدارك
والمسألة محل توقف لعدم النص وإن كان ما ذكره لا يخلو من قرب.
السابع ـ من الأصناف المتقدمة سبيل الله ، وهل هو الجهاد
خاصة أو ما يشمل جميع القرب والخيرات والمصالح؟ قولان صرح بالأول الشيخ في النهاية
والشيخ المفيد في المقنعة والصدوق في الفقيه ، والمشهور الثاني وهو الظاهر من
الأدلة.
ويدل عليه ما نقله الثقة الجليل علي بن إبراهيم في
تفسيره (2) في تتمة
الحديث المتقدم ذكره في الأصناف المتقدمة عن العالم عليهالسلام قال : «وفي
سبيل الله قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما يتقوون به أو قوم مؤمنون ليس عندهم
ما يحجون به أو في جميع سبل الخير ، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى
يقووا على الحج والجهاد».
وما رواه ابن بابويه في الصحيح عن علي بن يقطين (3) «أنه قال لأبي
الحسن الأول عليهالسلام يكون عندي
المال من الزكاة فأحج به موالي وأقاربي؟ قال لا بأس».
وما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أبي
عبد الله عليهالسلام (4)
__________________
(1) الوسائل الباب 18 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة رقم 7.
(3 و 4) الوسائل الباب 42 من المستحقين للزكاة.
قال : «سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام وأنا جالس
فقال إني أعطى من الزكاة فأجمعه حتى أحج به؟ فقال نعم يأجر الله من يعطيك». واحتمال
الدفع هنا من حيث الفقر ممكن بل هو الظاهر.
وما رواه ابن إدريس في مستطرفات السرائر من نوادر أحمد
بن محمد بن أبي نصر عن جميل عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الصرورة أيحجه الرجل من الزكاة؟ قال نعم».
ويدل على ذلك أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحسن بن
راشد (2) قال : «سألت
أبا الحسن العسكري عليهالسلام بالمدينة عن
رجل أوصى بمال في سبيل الله قال سبيل الله شيعتنا».
وبأسانيدهم عن الحسين بن عمر (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام إن رجلا أوصى
إلي بشيء في سبيل الله؟ فقال لي اصرفه في الحج. قال قلت أوصى إلي في السبيل قال
اصرفه في الحج فإني لا أعلم شيئا في سبيل الله أفضل من الحج» وفي رواية أحدهم (4) لا أعلم سبيلا
من سبله أفضل من الحج.
وجمع بينهما في الفقيه فقال : وهذان الحديثان متفقان
وذلك أنه يصرف ما أوصى به في السبيل إلى رجل من الشيعة يحج به. ونقل ذلك الشيخ عنه
ثم قال وهذا وجه حسن.
ولا يخفى ما في كلاميهما (طاب ثراهما) فإن سبيل الله إما
أن يخص بالجهاد كما هو أحد القولين أو يفسر بما هو أعمّ من جميع القربات والطاعات
، والمعنى الأول لا مجال لاعتباره هنا ، وعلى الثاني فلا تنافي ليحتاج إلى الجمع
بين الخبرين.
ثم إنه يفهم من جملة من الأخبار أن حمل سبيل الله على
الجهاد إنما هو تقية حيث إن مذهبهم تفسير سبيل الله بذلك (5) وهي في باب
الوصايا :
__________________
(1) الوسائل الباب 42 من المستحقين للزكاة.
(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 33 من الوصايا.
(5) المحلى ج 6 ص 151 ونيل الأوطار ج 4 ص 236.
ومنها ـ ما رواه في الكافي عن يونس بن يعقوب (1) «أن رجلا كان
بهمذان ذكر أن أباه مات وكان لا يعرف هذا الأمر فأوصى بوصية عند الموت وأوصى أن يعطى
شيء في سبيل الله فسئل عنه أبو عبد الله عليهالسلام كيف يفعل به
وأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر؟ فقال لو أن رجلا أوصى إلي أن أضع في يهودي أو
نصراني لوضعته فيهما؟ إن الله عزوجل يقول «فَمَنْ
بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» (2) فانظروا إلى من يخرج إلى هذا الوجه ـ
يعني بعض الثغور ـ فابعثوا به إليه».
ثم إنه هل يشترط في الدفع من هذا السهم الحاجة أم لا؟
ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بل صريحه الأول ، حيث قال : ويجب تقييده بأن
لا يكون فيه معونة لغني مطلق بحيث لا يدخل في شيء من الأصناف الباقية فيشترط في
الحاج والزائر الفقر أو كونه ابن سبيل أو ضيفا ، والفرق بينهما حينئذ وبين الفقير
أن الفقير لا يعطى الزكاة ليحج بها من جهة كونه فقيرا ويعطى لكونه في سبيل الله.
انتهى.
وقال العلامة في التذكرة بعد أن ذكر أنه يدخل في سهم
سبيل الله مئونة الزوار والحجيج : وهل يشترط حاجتهم؟ إشكال ينشأ من اعتبار الحاجة
كغيره من أهل السهام ومن اندراج إعانة الغنى تحت سبيل الخير. انتهى.
وقال السيد السند في المدارك بعد نقل كلام جده (قدسسرهما) : وهو مشكل
لأن فيه تخصيصا لعموم الأدلة من غير دليل ، والمعتمد جواز صرف هذا السهم في كل
قربة لا يتمكن فاعلها من الإتيان بها بدونه ، وإنما صرنا إلى هذا القيد لأن الزكاة
إنما شرعت بحسب الظاهر لدفع الحاجة فلا تدفع مع الاستغناء عنها ومع ذلك فاعتباره
محل تردد. انتهى.
__________________
(1) الوسائل الباب 33 من أبواب الوصايا.
(2) سورة البقرة الآية 178.
أقول : لا يخفى أن هاهنا ثلاث صور : إحداها ـ أن يكون
فقيرا لا مال له بالكلية أو له مال لا يتمكن منه كابن السبيل والضيف ، وهذا من ما
لا إشكال في جواز الدفع إليه من هذا السهم.
الثانية ـ أن يكون غنيا متمكنا من كل ما يريد من أبواب
القربات والطاعات وهذا محل الإشكال في جواز الدفع إليه من هذا السهم ، وهو الذي
منع من الدفع إليه شيخنا الشهيد في المسالك ، وهو أحد وجهي الإشكال في كلام
العلامة.
الثالث ـ من كان مالكا مئونة سنة بالفعل أو القوة لكنه
لا يتمكن بذلك من الحج ونحوه ، وظاهر عبارة شيخنا الشهيد الثاني المنع أيضا من
الدفع إليه لصدق الغني ، وكذا ظاهر كلام العلامة باعتبار الإشكال فيه ، وظاهر كلام
السيد السند جواز الدفع إليه لأن ظاهر عبارته أنه يدفع هذا السهم إلى كل من لا
يتمكن من تلك القربة إلا بالإعانة من ذلك السهم أعمّ من أن يكون فقيرا لا مال له
أو له مال لكن لا يقوم بالتمكن منه.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن الحاجة إلى الحج لا تنافي
الغنى الذي هو عبارة عن ملك مئونة السنة أو الحرفة أو الصنعة الموجبة للغنى ولكن
لا يتمكن من الحج منها ، وفيه جمع بين إطلاق الأدلة وبين ما ذكروه من أن الزكاة
إنما شرعت لدفع الحاجة وسد الخلة. والله العالم
الثامن من الأصناف المذكورة ـ ابن السبيل ، وفي عبائر
جمع من الأصحاب تفسيره بالمنقطع به والضيف ، وفي بعض بالأول ونسبة الثاني إلى
الرواية.
قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة : وابن
السبيل وهم المنقطع بهم في الأسفار وقد جاءت رواية (1) أنهم الأضياف
يراد به من أضيف لحاجته إلى ذلك وإن كان له في موضع آخر غنى ويسار ، وذلك راجع إلى
ما قدمناه. انتهى وظاهر كلامه بل صريحه التخصيص بالمعنى الأول حيث تأول الرواية
بالإرجاع إليه
__________________
(1) المقنعة ص 29 وفي الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة.
ويدل على ذلك حديث علي بن إبراهيم (1) المتقدم نقله
في الأصناف المتقدمة حيث قال : «وابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار
في طاعة الله فيقطع بهم ويذهب مالهم فعلى الإمام أن يردهم إلى أوطانهم من مال الصدقات».
وظاهر الخبر اعتبار كون السفر طاعة والمشهور بين الأصحاب
اشتراط الإباحة فلا يعطى من كان سفره معصية ، ولم أر من قال بمضمون الرواية إلا
ابن الجنيد على ما نقل عنه حيث قيد الدفع بالمسافرين في طاعة الله والمريدين لذلك.
وليس في الباب خبر غير الرواية المذكورة ، والمسألة لا تخلو من شوب الإشكال.
وما أجاب به في المختلف عن الرواية المذكورة ـ من أن
الطاعة تصدق على المباح بمعنى أن فاعله معتقدا لكونه مباحا مطيع في اعتقاده
وإيقاعه الفعل على وجهه ـ لا يخفى ما فيه فإن الطاعة والمعصية عبارة عن موافقة
الأمر ومخالفته وذلك لا يتعلق بالمباح ، وأما اعتقاد الإباحة فأمر خارج عن الفعل.
والله العالم.
البحث الثاني ـ في أوصاف المستحقين وهي على ما ذكره
الأصحاب (رضوان الله عليهم) أمور الأول ـ الإيمان الذي هو عبارة عن الإسلام مع
اعتقاد إمامة الأئمّة الاثني عشر (عليهمالسلام) واعتبار هذا
الوصف مجمع عليه نصا وفتوى.
واستدل عليه في المنتهى بأن الإمامة من أركان الدين
وأصوله وقد علم ثبوتها من النبي صلىاللهعليهوآله ضرورة فالجاحد
لها لا يكون مصدقا للرسول صلىاللهعليهوآله في جميع ما
جاء به فيكون كافرا فلا يستحق الزكاة ، وبأن الزكاة معونة وإرفاق فلا يعطى غير
المؤمن ، ولأنه محاد لله ولرسوله والمعونة والإرفاق مودة فلا يجوز فعلها مع غير
المؤمن لقوله تعالى «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ» (2) انتهى. وهو جيد متين بل جوهر ثمين.
وما ذكره في المدارك ـ حيث قال بعد نقله : وفي الدليلين
بحث ـ ضعيف
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من المستحقين للزكاة رقم 7.
(2) سورة المجادلة الآية 23.
لا يعول عليه وباطل لا يرجع إليه ،
وذلك فإنه وإن اشتهر بين المتأخرين الحكم بإسلام المخالفين ولا سيما السيد المذكور
وجده (قدسسرهما) حتى انجر
بهما الأمر إلى الحكم بعدالة النصاب الذين هم أشد نجاسة من الكلاب كما أوضحناه في
شرحنا على كتاب المدارك إلا أن مقتضى أخبار أهل البيت (عليهمالسلام) ـ وهو
المشهور بين متقدمي أصحابنا ـ هو الحكم بكفرهم ونصبهم ونجاستهم كما أوضحنا ذلك بما
لا مزيد عليه في كتابنا الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب وفي مواضع من كتابنا
سلاسل الحديد في تقييد ابن أبي الحديد. ولا ريب أن حديث الغدير من ما تواتر بين
الفريقين وأجمع على نقله رواة الطرفين بل تواتره من طرق المخالفين أشهر كما ذكرناه
في ذينك الكتابين (1) وارتكاب بعض
متعصبي المخالفين فيه التأويلات الباردة والتمحلات الشاردة تعصبا وعنادا على الله
ورسوله لا يخرجه عن الدلالة ولا سيما مع اعتراف جمع منهم بالدلالة على ذلك.
وبالجملة فذيل البحث في المسألة واسع ومن أراد الوقوف على صحة ما ذكرناه فليرجع
إلى الكتابين المذكورين.
وأما كون الزكاة معونة وإرفاقا فهو ظاهر من الأخبار
الواردة في العلة في وضع الزكاة (2) وأما كون المخالفين داخلين في آية
المجادلة لله ورسوله فهو معلوم من كفرهم ونصبهم للشيعة الذي هو أظهر من الشمس في
دائرة النهار ، بل للأئمة (عليهمالسلام) كما صرحت به
جملة من الأخبار التي استوفيناها في كتابنا الشهاب الثاقب.
ثم إن من الأخبار الدالة على أصل المسألة صحيحة بريد بن
معاوية العجلي (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل حج وهو
لا يعرف هذا الأمر. إلى أن قال : وقال كل عمل عمله وهو في حال نصبه وضلالته ثم من
الله عليه وعرفه الولاية فإنه يؤجر عليه إلا الزكاة فإنه يعيدها لأنه وضعها في غير
مواضعها لأنها لأهل الولاية».
__________________
(1) راجع الغدير ج 1 ص 14 إلى 151 و 294 إلى 313 الطبعة
الثانية.
(2) تقدمت ص 10 و 11.
(3) الوسائل الباب 23 من وجوب الحج و 3 من المستحقين للزكاة.
وما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن على المشهور وابن
بابويه في الصحيح عن زرارة وبكير والفضيل ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي عن
أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهماالسلام) (1) «أنهما قالا في
الرجل يكون في بعض هذه الأهواء الحرورية والمرجئة والعثمانية والقدرية ثم يتوب
ويعرف هذا الأمر ويحسن رأيه أيعيد كل صلاة صلاها أو صوم أو زكاة أو حج أو ليس عليه
إعادة شيء من ذلك؟ قال ليس عليه إعادة شيء من ذلك غير الزكاة لا بد أن يؤديها
لأنه وضع الزكاة في غير موضعها وإنما موضعها أهل الولاية».
وفي رواية أبي بصير (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام الرجل يكون له
الزكاة وله قرابة محتاجون غير عارفين أيعطيهم من الزكاة؟ قال لا ولا كرامة لا يجعل
الزكاة وقاية لماله يعطيهم من غير الزكاة إن أراد».
وروى في التهذيب عن إبراهيم الأوسي عن الرضا عليهالسلام (3) قال : «سمعت
أبي يقول كنت عند أبي يوما فأتاه رجل فقال إني رجل من أهل الري ولي زكاة فإلى من
أدفعها؟ فقال إلينا. فقال أليس الصدقة محرمة عليكم؟ فقال بلى إذا دفعتها إلى
شيعتنا فقد دفعتها إلينا. فقال إني لا أعرف لها أحدا؟ فقال فانتظر بها سنة. قال
فإن لم أصب لها أحدا؟ قال انتظر بها سنتين. حتى بلغ أربع سنين. ثم قال له إن لم
تصب لها أحدا فصرها صرارا واطرحها في البحر فإن الله عزوجل حرم أموالنا
وأموال شيعتنا على عدونا». إلى غير ذلك من الأخبار التي يطول بنقلها الكلام.
بقي الكلام هنا في مواضع أحدها ـ ظاهر كلام جملة من
الأصحاب أنه مع تعذر المؤمن فإنه لا يعطى غيره ناصبا كان أو مستضعفا ، ونقل بعض
أفاضل متأخري المتأخرين قولا بجواز إعطاء المستضعف والحال هذه.
__________________
(1) الوسائل الباب 3 من المستحقين للزكاة. والصدوق يرويه في
العلل ص 131.
(2) الوسائل الباب 16 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 5 من المستحقين للزكاة.
ويدل على المشهور الأخبار المتقدمة وغيرها من ما دل على
التخصيص بأهل الولاية.
ويدل على القول المشار إليه رواية يعقوب بن شعيب الحداد
عن العبد الصالح عليهالسلام (1) قال : «قلت له
الرجل منا يكون في أرض منقطعة كيف يصنع بزكاة ماله؟ قال يضعها في إخوانه وأهل
ولايته. فقلت فإن لم يحضره منهم فيها أحد؟ قال يبعث بها إليهم. قلت فإن لم يجد من
يحملها إليهم؟ قال يدفعها إلى من لا ينصب. قلت فغيرهم؟ فقال ما لغيرهم إلا الحجر».
ورد هذه الرواية في المعتبر بضعف السند ، وردها في
المنتهى بأنها شاذة ، وكيف كان فالخروج عن مقتضى تلك الروايات الكثيرة الصريحة ولا
سيما رواية إبراهيم الأوسي بهذه الرواية مشكل.
نعم يبقى الإشكال في جملة من عوام الشيعة الضعفة العقول
ممن لا يعرفون الله سبحانه إلا بهذه الترجمة حتى لو سئل عنه من هو؟ لربما قال محمد
أو علي ، ولا يعرف الأئمّة (عليهمالسلام) كملا ولا
يعرف شيئا من المعارف الخمس أصلا فضلا عن التصديق بها ، والظاهر أن مثل هؤلاء لا
يحكم بإيمانهم وإن حكم بإسلامهم وإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا ، وأما في
الآخرة فهم من المرجئين لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم. وفي إعطاء هؤلاء من
الزكاة إشكال لاشتراط ذلك بالإيمان وهو غير ثابت ، وليس كذلك النكاح والميراث
ونحوهما فإن الشرط فيها الإسلام وهو حاصل. وبالجملة فالأقرب عندي عدم إجزاء
إعطائهم. والله العالم.
وثانيها ـ أنه قد صرح جمع من الأصحاب باستثناء المؤلفة
من هذا الحكم ، وهو مبني على أمرين : أحدهما ـ تفسير المؤلفة بمن يتألف للجهاد من
الكفار أو المسلمين كما تقدم نقله عنهم ، وثانيهما ـ على أن الجهاد في زمان الغيبة
جائز ، وفي كل من الحكمين إشكال ولهذا إن الشيخ في النهاية صرح بسقوطه وكذا صرح
__________________
(1) الوسائل الباب 5 من المستحقين للزكاة.
بسقوط سهم السعاة وسهم الجهاد ، قال
وإذا لم يكن الإمام ظاهرا ولا من نصبه حاصلا فرقت الزكاة في خمسة أصناف من الذين
ذكرناهم وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب والغارمين وابن السبيل وسقط سهم المؤلفة
قلوبهم وسهم السعاة وسهم الجهاد ، لأن هؤلاء لا يوجدون إلا مع ظهور الإمام ، لأن
المؤلفة إنما يتألفهم الإمام ليجاهدوا معه والسعاة أيضا إنما يكونون من قبله عليهالسلام في جمع
الزكوات والجهاد أيضا إنما يكون به أو بمن نصبه فإذا لم يكن هو ظاهرا ولا من نصبه
فرق في من عداهم. انتهى.
هذا. وقد عرفت سابقا أن المستفاد من الأخبار التي
قدمناها أن المراد من التأليف ليس إلا لأجل البقاء على الإسلام بعد الدخول فيه
وبينا أن ذلك ساقط في زمن الغيبة.
واستثنى في المدارك أيضا وقبله جده في المسالك بعض أفراد
سبيل الله ووجهه غير ظاهر.
وثالثها ـ أنه لا خلاف بين الأصحاب في أن أطفال المؤمنين
يعطون من الزكاة دون أطفال غيرهم.
ويدل عليه أخبار عديدة : منها ـ رواية أبي بصير (1) قال : «قلت
أبي عبد الله عليهالسلام الرجل يموت
ويترك العيال أيعطون من الزكاة؟ فقال نعم حتى ينشئوا ويبلغوا ويسألوا من أين كانوا
يعيشون إذا قطع ذلك عنهم. فقلت إنهم لا يعرفون؟ فقال يحفظ فيهم ميتهم ويحبب إليهم
دين أبيهم فلا يلبثون أن يهتموا بدين أبيهم ، فإذا بلغوا وعدلوا إلى غيركم فلا
تعطوهم».
ورواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «ذرية
الرجل المسلم إذا مات يعطون من الزكاة والفطرة كما كان يعطى أبوهم حتى يبلغوا فإذا
بلغوا وعرفوا ما كان أبوهم يعرف أعطوا وإن نصبوا لم يعطوا».
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 6 من المستحقين للزكاة.
ورواية عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «قلت
لأبي الحسن عليهالسلام رجل مسلم
مملوك ومولاه رجل مسلم وله مال يزكيه وللمملوك ولد صغير حر أيجزئ مولاه أن يعطي
ابن عبده من الزكاة؟ فقال لا بأس به».
وروى عبد الله بن جعفر في كتاب قرب الإسناد عن محمد بن
الوليد عن يونس بن يعقوب (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام عيال المسلمين
أعطيهم من الزكاة فأشتري لهم منها ثيابا وطعاما وأرى أن ذلك خير لهم؟ قال فقال لا
بأس».
وظواهر هذه الأخبار تدل على أن الدفع إليهم أعمّ من أن
يدفع إلى وليهم أو إليهم إذا كانوا ممن يمكنهم التصرف في الأخذ والعطاء والبيع
والشراء.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه صرح بأنه لا يجوز دفع
الزكاة إلى الصغير وإن كان مميزا ، واستدل عليه بأنه ليس محلا لاستيفاء ماله من
الغرماء فكذا هنا. وفيه ما عرفت.
قال : ولا فرق بين أن يكون يتيما أو غيره فإن الدفع إلى
الولي فإن لم يكن له ولي جاز أن يدفع إلى من يقوم بأمره ويعتني بحاله.
قال في المدارك بعد نقل هذا عنه : ومقتضى كلامه (رحمهالله) جواز الدفع
إلى غير ولي الطفل إذا لم يكن له ولي ، ولا بأس به إذا كان مأمونا بل لا يبعد جواز
تسليمها إلى الطفل بحيث يصرف في وجه يسوغ للولي صرفها فيه. انتهى. وهو جيد وفيه
تأييد لما أشرنا إليه آنفا.
ثم إن ظواهر الأخبار المتقدمة جواز إعطاء الأطفال وإن
ثبت اشتراط العدالة في المستحق فإن حكم الأطفال مستثنى بهذه الأخبار ، وأخبار
اشتراط العدالة على تقدير ثبوتها لا دلالة فيها على دخول الأطفال في ذلك ، فما
ذكره شيخنا الشهيد الثاني ـ من أن إعطاء الأطفال إنما يتم إذا لم تعتبر العدالة في
المستحق أما لو
__________________
(1) الوسائل الباب 45 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 6 من المستحقين للزكاة.
اعتبرناها أمكن عدم جواز إعطاء
الأطفال مطلقا لعدم اتصافهم بها ، والجواز لأن المانع الفسق وهو منفي عنهم. انتهى
ـ لا وجه له.
الثاني من أوصاف المستحقين ـ العدالة عند جملة من
الأصحاب : منهم ـ الشيخ والمرتضى وابن البراج وابن حمزة وغيرهم ، ونقل عن ابن
الجنيد اعتبار مجانبة الكبائر خاصة.
ونقل عن ابن بابويه أنه اقتصر على اعتبار الإيمان وكذا
سلار ولم يشترطا شيئا يزيد على ذلك وهو الذي عليه المتأخرون.
وهو الظاهر من إطلاق الأدلة آية ورواية ، وخصوص ما رواه
في العلل عن محمد بن الحسن عن أحمد بن إدريس ومحمد بن يحيى جميعا عن محمد بن أحمد
بن يحيى عن علي بن محمد عن بعض أصحابنا عن بشر بن بشار (1) : قال «قلت
للرجل ـ يعني أبا الحسن عليهالسلام ـ ما حد
المؤمن الذي يعطى من الزكاة؟ قال يعطى المؤمن ثلاثة آلاف ، ثم قال أو عشرة آلاف ،
ويعطى الفاجر بقدر لأن المؤمن ينفقها في طاعة الله والفاجر ينفقها في معصية الله».
نعم روى الشيخ عن داود الصرمي (2) قال : «سألته
عن شارب الخمر يعطى من الزكاة شيئا؟ قال لا».
والجمع بينها وبين ما ذكرنا بالاقتصار على استثناء شارب
الخمر وقوفا على ظاهر الخبر وإن رده جملة من المتأخرين بضعف السند بناء على
الاصطلاح المشهور وأما ما نقل عن المرتضى (رضياللهعنه) ـ من
الاحتجاج على ذلك بإجماع الطائفة والاحتياط ويقين براءة الذمة ، قال : ويمكن أن
يستدل على ذلك بكل ظاهر من قرآن أو سنة مقطوع عليها يقتضي النهي عن معونة الفساق
والعصاة وتقويتهم وذلك كثير ـ
فلا يخفى ما فيه : أما الإجماع فمع الإغماض عن الطعن في
الاستدلال به ممنوع
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 17 من أبواب المستحقين للزكاة.
هنا بوجود الخلاف في المسألة. وأما
الاحتياط فإنما يكون في مقام اختلفت فيه الأدلة ولا اختلاف في المقام بل الأدلة
على القول المختار واضحة ولا معارض لها سوى رواية داود الصرمي وقد قلنا بمضمونها
فأي معنى لهذا الاحتياط؟ ولو تم هذا الاحتياط هنا لجرى في جميع ما اتفقت عليه
الأدلة من الأحكام وهو من ما لا يقول به أحد من الأعلام بل ولا أحد من الأنام.
وأما يقين البراءة فإنه حاصل بما ذكرناه من الأدلة عموما وخصوصا كما عرفت. وأما
النهي عن معونة الفساق فإنما هي من حيث الفسق كما يشعر به تعليق الوصف والأمر هنا
ليس كذلك ، مع ما عرفت من صراحة رواية العلل في جواز الدفع وإن كان يعلم أنه يصرفه
في معصية الله.
وأما القول باشتراط مجانبة الكبائر فلم أقف له على دليل
إلا رواية داود الصرمي وهي أخص من المدعى فلا تصلح للدلالة.
الثالث من الأوصاف المتقدمة ـ أن لا يكون من واجبي
النفقة على المالك كالأبوين وإن علوا والأولاد وإن نزلوا والزوجة والمملوك ، وهذا
الحكم من ما لا خلاف فيه بين الأصحاب.
ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد
الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «خمسة
لا يعطون من الزكاة شيئا : الأب والأم والولد والمملوك والمرأة ، وذلك أنهم عياله
لازمون له».
وما رواه الكليني في الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي
الحسن موسى عليهالسلام (2) قال : «قلت له
لي قرابة أنفق على بعضهم وأفضل بعضهم على بعض فيأتيني إبان الزكاة أفأعطيهم منها؟
قال مستحقون لها؟ قلت نعم قال هم أفضل من غيرهم أعطهم. قال قلت فمن ذا الذي يلزمني
من ذوي قرابتي حتى لا احتسب الزكاة عليهم؟ فقال أبوك وأمك. قلت أبي وأمي؟ قال
الوالدان والولد».
__________________
(1) الوسائل الباب 13 من المستحقين للزكاة ، والشيخ يرويه عن
الكليني.
(2) الوسائل الباب 15 و 13 من المستحقين للزكاة.
ورواية زيد الشحام عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال في الزكاة
: «يعطى منها الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة ولا يعطى الجد ولا الجدة».
وما رواه الصدوق في كتابي الخصال والعلل في الصحيح عن
أبي طالب عبد الله ابن الصلت عن عدة من أصحابنا يرفعونه إلى أبي عبد الله عليهالسلام (2) أنه قال : «خمسة
لا يعطون من الزكاة : الولد والوالدان والمرأة والمملوك لأنه يجبر على النفقة
عليهم».
فأما ما رواه الكليني في الكافي عن إسماعيل بن عمران
القمي (3) ـ قال : «كتبت
إلى أبي الحسن الثالث عليهالسلام إن لي ولدا
رجالا ونساء أفيجوز أن أعطيهم من الزكاة شيئا؟ فكتب أن ذلك جائز لك». ـ فحمله
الشيخ في التهذيبين على اختصاصه بالسائل ومن حاله كحاله في أن ماله لا يفي بنفقة
عياله. وهو جيد.
وأما ما رواه أيضا مرسلا عن محمد بن جزك (4) ـ قال : «سألت
الصادق عليهالسلام ادفع عشر مالي
إلى ولد ابني؟ فقال نعم لا بأس».
فيحتمل وجوها : منها ـ أن لا يكون العشر من الزكاة
الواجبة بل من زكاة التجارة ونحوها ، ومنها ـ أن يحمل على حال الضرورة ، ومنها ـ أن
يحمل على أن المراد إنما هو المشاورة في هبة عشر ماله أو الصدقة به على ابن ابنه
وليس سؤالا عن الزكاة. واحتمل في الوافي أيضا أنه مبني على إن ولد الولد ممن لا
تجب نفقته قال فإن في ذلك اشتباها.
ورواه في كتاب الوسائل بلفظ «ولد ابنتي» وحمله على قيام
الأب أو الجد لأبيه بنفقته فيكون ما يدفعه إليه جده لأمه على جهة التوسعة لا
القيام بالنفقة الواجبة.
وتنقيح البحث في المسألة تتوقف على بيان مسائل الأولى ـ المستفاد
من بعض الأخبار أنه يجوز لمن وجبت نفقته على غيره الأخذ من الزكاة من غير المنفق
للتوسعة إذا كان من يقوم به لا يوسع عليه أما لعدم سعته أو معها :
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 13 من المستحقين للزكاة.
(3 و 4) الوسائل الباب 14 من المستحقين للزكاة.
وهو صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن الأول عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الرجل يكون أبوه أو عمه أو أخوه يكفيه مئونته أيأخذ من الزكاة فيتوسع به إن
كانوا لا يوسعون عليه في كل ما يحتاج إليه؟ قال لا بأس».
وظاهر جملة من الأصحاب : منهم ـ العلامة في المنتهى
والشهيد في الدروس والبيان الجواز مطلقا معللين ذلك بصدق الفقر عرفا وعدم خروج من
لم يملك قوت السنة بوجوب النفقة عن وصف الفقر عرفا ، فيندرج تحت الآية والعمومات
الدالة على جواز أخذ الفقير الزكاة.
ولا يخفى ما في هذا التعليل في مقابلة الأخبار المتقدمة
المتفقة على أنهم لا يعطون من الزكاة. أقول : ولعله لما ذكرناه قطع العلامة في
التذكرة بعدم الجواز على ما نقل عنه.
وما ادعوه من الاندراج ممنوع فإن لقائل أن يقول إنهم
بكونهم واجبي النفقة وإن المنفق يجري عليهم ذلك فإنهم داخلون تحت الغنى الموجب
لتحريم أخذ الزكاة. نعم دلت صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج على جواز الأخذ للتوسعة
إذا كانوا لا يوسعون عليه فيجب الوقوف عليها وتخصيص تلك الأخبار بها.
واستدلوا أيضا بالصحيحة المذكورة وقد عرفت أن موردها خاص
بالتوسعة فلا تنهض دليلا على عموم الجواز.
ثم إنهم بناء على ما نقلناه عنهم من القول بالجواز مطلقا
استثنى بعضهم الزوجة من هذا الحكم ، قال لأن نفقتها كالعوض. وزاد بعضهم المملوك ،
وقد تقدم في صدر الكتاب من الأخبار ما يدل عليه.
الثانية ـ أنه يجوز للمالك صرف زكاته إلى واجبي النفقة
عليه للتوسعة عليهم متى كان عاجزا عن ذلك إلا أن ظاهرها أن تلك الزكاة إنما هي
زكاة التجارة ، فاستدلال بعض أفاضل متأخري المتأخرين بها على جواز ذلك من الزكاة
الواجبة لا يخلو من نظر.
__________________
(1) الوسائل الباب 11 من أبواب المستحقين للزكاة.
قال في الدروس : وروى أبو بصير جواز التوسعة بالزكاة على
عياله (1) وروى سماعة
ذلك بعد أن يدفع منها شيئا إلى المستحق (2) كل ذلك مع الحاجة.
وظاهره أن ذلك من الزكاة الواجبة مع أن ظاهر الروايتين
المشار إليهما كما قدمناهما إنما ذلك من زكاة التجارة ، على أن جملة منها ربما يدل
بظاهره على نقصان المئونة وأن هذه الزيادة التي يأخذها من هذه الزكاة إنما هي
لتتمة المئونة لا للتوسعة الزائدة على المئونة الواجبة كما لا يخفى على من لاحظها
، كرواية أبي بصير المذكورة في كلامه بالتقريب الذي ذكرناه في ذيلها ثمة.
قال في المدارك : يجوز للمالك أن يصرف إلى قريبه الواجب النفقة
غير النفقة من الحقوق اللازمة له إذا كان مستحقا كنفقة الزوجة والمملوك ، لعدم
وجوب ذلك عليه ، ولقوله عليهالسلام في صحيحة عبد
الرحمن (3) «وذلك أنهم
عياله لازمون له». فإن مقتضى التعليل أن المانع لزوم الإنفاق وهو منتف في ما
ذكرناه. انتهى.
ويرد عليه عموم المنع في الأخبار المتقدمة لاتفاقها على
أنهم لا يعطون من الزكاة أعمّ من أن يكون للنفقة أو غيرها ، نعم خرج منه ما دلت
عليه صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وبقي ما عداه. وما استند إليه من التعليل المذكور
فيمكن أن يكون المقصود منه كما ذكره بعض الأصحاب إنما هو أنهم لكونهم لازمين له
بناء على وجوب نفقتهم عليه بمنزلة الأغنياء فلا يجوز الدفع إليهم ، وعلى هذا فلا
يقتضي التخصيص بما ذكره من النفقة الواجبة وعدم دخول ما يكون للتوسعة. نعم لو
استند في ذلك إلى مفهوم صحيحته التي ذكرناها من حيث دلالتها على ذلك وإن كان
ظاهرها الأخذ من الغير لم يبعد الجواز.
وبالجملة فإن ظاهر كلام الأصحاب أن هنا مسألتين : الأولى
منهما وهي التي
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من المستحقين للزكاة رقم 4.
(2) الوسائل الباب 14 من المستحقين للزكاة.
(3) ص 210.
قدمناها أنه يجوز لواجبي النفقة تناول
الزكاة من غير المالك واستدلوا على ذلك بما قدمنا نقله عنه من التعليل والرواية
وقد عرفت ما فيهما. والثانية جواز صرف المالك زكاته عليهم في غير النفقة الواجبة
عليه وقد عرفت ما فيه. والمفهوم من الروايات المتقدمة هو المنع مطلقا واستثناء
الأخذ للتوسعة. هذا كله مع إجراء المنفق عليهم النفقة الواجبة وإلا فإنه يجوز لهم
الأخذ قولا واحدا.
الثالثة ـ قد صرح جملة من الأصحاب بعدم جواز الدفع إلى
الزوجة وإن كانت ناشزة لو كانت فقيرة لتمكنها من الطاعة في كل وقت فتكون غنية في
الحقيقة ، قال في المعتبر : لا تعطى الزوجة من سهم الفقراء والمساكين مطيعة كانت
أو عاصية إجماعا لتمكنها من النفقة.
الرابعة ـ يجوز الدفع إلى الزوجة المستمتع بها لعدم وجوب
الإنفاق عليها ، وربما قيل بالمنع لإطلاق النص وهو ضعيف ، فإن النص باعتبار ما
اشتمل عليه من التعليل بوجوب الإنفاق في معنى القيد كما لا يخفى.
الخامسة ـ المشهور بين الأصحاب أنه يجوز للزوجة أن تدفع
زكاتها إلى الزوج مع استحقاقه وإن أنفق عليها منها لعموم الأدلة وانتفاء المعارض ،
ونقل عن ابن بابويه المنع من إعطائه مطلقا ، وعن ابن الجنيد الجواز لكن لا ينفق
عليها منها ولا على ولدها. ولم نقف لهما على دليل.
السادسة ـ الظاهر أنه لا خلاف في جواز إعطاء من يعول من
القرابة وغيرهم إذا لم يكن من الأفراد المتقدمة عملا بعموم الأدلة وخصوص موثقة
إسحاق ابن عمار المتقدمة.
وأما ما رواه الشيخ في الموثق عن أبي خديجة عن أبي عبد
الله عليهالسلام (1) ـ قال «لا تعط
من الزكاة أحدا ممن تعول». ـ فمحمول على واجبي النفقة جمعا بين الأخبار.
السابعة ـ لو كان من تجب نفقته من بعض الأصناف الأخر كأن
يكون عاملا
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من المستحقين للزكاة.
أو غازيا أو غارما أو من الرقاب فلا
إشكال في جواز الدفع إليه من سهام هذه الأصناف ، لعموم الآية (1) السالم من
المعارض ، ولأن ظاهر الأخبار المانعة من الدفع إلى هؤلاء إنما هو من حيث كون
المدفوع من سهم الفقراء ، ولأن ما يأخذه العامل والغازي كالأجرة ولهذا جاز لهما
الأخذ مع العسر واليسر ، والمكاتب إنما يأخذ لفك رقبته والغارم لوفاء دينه وهما لا
يجبان على القريب إجماعا ، وللأخبار المتقدمة في قضاء الدين عن الأب من سهم
الغارمين ومن اشترى أباه من سهم الرقاب.
الرابع من الأوصاف المشار إليها آنفا ـ أن لا يكون
هاشميا ويكون المعطي من غير قبيله ، وهو محل إجماع من علماء الخاصة والعامة (2).
والأخبار بذلك مستفيضة : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم
وزرارة وأبي بصير أو حسنتهم على المشهور بإبراهيم بن هاشم عن أبي جعفر وأبي عبد
الله (عليهماالسلام) (3) قالا : «قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله إن الصدقة
أوساخ أيدي الناس وإن الله قد حرم على منها ومن غيرها ما قد حرمه وإن الصدقة لا
تحل لبني عبد المطلب. ثم قال أما والله لو قد قمت على باب الجنة ثم أخذت بحلقته
لقد علمتم أني لا أؤثر عليكم فارضوا لأنفسكم بما رضي الله ورسوله لكم قالوا قد
رضينا».
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) قال : «لا تحل
الصدقة لولد العباس ولا لنظرائهم من بني هاشم». وصحيحة العيص بن القاسم وقد تقدمت
في الصنف الثالث من أصناف المستحقين (5).
__________________
(1) وهي قوله تعالى : «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...» سورة التوبة الآية 61.
(2) المغني ج 2 ص 655 والمحلى ج 6 ص 146 والمهذب ج 1 ص 174
ونيل الأوطار ج 4 ص 240 وبدائع الصنائع ج 2 ص 49.
(3) الفروع ج 1 ص 179 وفي الوسائل الباب 29 من المستحقين
للزكاة.
(4) الوسائل الباب 19 من المستحقين للزكاة.
(5) ص 174.
ورواية المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سمعته
يقول لا تحل الصدقة لأحد من ولد العباس ولا لأحد من ولد علي عليهالسلام ولا لنظرائهم
من ولد عبد المطلب».
إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة. وأما ما رواه الصدوق عن
أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) ـ قال : «أعطوا
الزكاة من أرادها من بني هاشم فإنها تحل لهم وإنما تحرم على النبي صلىاللهعليهوآله وعلى الإمام
الذي من بعده وعلى الأئمّة عليهمالسلام». ـ فمحمول
على الضرورة وأن النبي والأئمّة (صلوات الله عليهم) لا يضطرون إلى ذلك.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن البحث في هذه المسألة يقع في
مواضع الأول ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أن تحريم الصدقة الواجبة
مختص بأولاد هاشم ، ونقل عن الشيخ المفيد (قدسسره) في الرسالة
الغرية تحريم الزكاة على بني المطلب وهو عم عبد المطلب بن هاشم وهو منقول عن ابن
الجنيد أيضا.
ويدل على المشهور عموم الآية (3) خرج منه من
انتسب إلى هاشم بالأخبار المتقدمة ونحوها فيبقى ما عداه.
احتج الشيخ المفيد على ما نقل عنه بما رواه زرارة في
الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) أنه قال : «لو
كان العدل ما احتاج هاشمي ولا مطلبي إلى صدقة إن الله جعل لهم في كتابه ما كان فيه
سعتهم».
وأجاب عنه في المعتبر بأنه خبر واحد نادر فلا يخص به
عموم القرآن. قال في المدارك : وهو جيد مع أنه مروي في التهذيب بطريق فيه علي بن
الحسن بن فضال ولا تعويل على ما ينفرد به. انتهى.
أقول : والأظهر في الجواب عن هذه الرواية هو ما ذكره بعض
مشايخنا
__________________
(1) التهذيب ج 2 ص 378 وفي الوافي باب إن الزكاة لا تحل لبني
هاشم.
(2) الوسائل الباب 29 من المستحقين للزكاة.
(3) وهي قوله تعالى : «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ...» سورة التوبة الآية 61.
(4) الوسائل الباب 33 من المستحقين للزكاة.
المحققين من متأخري المتأخرين حيث قال
: ويمكن أن يكون المراد بالمطلبي في الخبر من ينتسب إلى عبد المطلب ، فإن النسبة
إلى مثله قد تكون بالنسبة إلى الجزء الثاني حذرا من الالتباس كما قالوا «منافي» في
عبد مناف ، وقد صرح بذلك سيبويه كما نقله عنه نجم الأئمّة (قدسسره) واختاره ،
ونقل عن المبرد أنه قال إن كان المضاف يعرف بالمضاف إليه والمضاف إليه معروف بنفسه
فالقياس حذف الأول والنسبة إلى الثاني وإن كان المضاف إليه غير معروف فالقياس
النسبة إلى الأول ، وعلى هذا يقوى ما ذكرناه من الاحتمال إذ من المعلوم أن ما نحن
فيه من ذلك القبيل كما اعترف به نجم الأئمّة (قدسسره) وعلى هذا فلا
يكون في الخبر دلالة على مذهب المفيد (قدسسره) (فإن قلت)
فعلى هذا يلزم عطف الشيء على مرادفه أو ما شاكله (قلت) لا بأس بذلك فإن العطف
التفسيري شائع لا ترى فيه عوجا ولا أمتا ، ومعلوم أن هاشما لم يعقب إلا من عبد
المطلب كما هو مصرح به في كتب الأصحاب وغيرهم ، ففائدة العطف التنبيه على هذا
المعنى والتقرير له. انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.
الثاني ـ ظاهر كلام جملة من الأصحاب الاتفاق على جواز
أخذ الهاشمي للصدقة المندوبة ، ونقل عن العلامة في المنتهى أنه نسبه إلى علمائنا
وأكثر العامة (1).
ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد
الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) أنه قال : «لو
حرمت علينا الصدقة لم يحل لنا أن نخرج إلى مكة لأن كل ماء بين مكة والمدينة فهو
صدقة».
وفي الصحيح عن جعفر بن إبراهيم الهاشمي عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قلت له
أتحل الصدقة لبني هاشم؟ قال إنما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا فأما
غير ذلك فليس به بأس ، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكة
__________________
(1) في نيل الأوطار ج 4 ص 242 نقل الخلاف في ذلك ، وفي المغني
ج 2 ص 658 فيه روايتان عن أحمد ، وفي المحلى ج 6 ص 147 عدم جواز المندوبة أيضا.
(2 و 3) الوسائل الباب 31 من المستحقين للزكاة.
هذه المياه عامتها صدقة».
وعن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الصدقة
التي حرمت على بني هاشم ما هي؟ فقال هي الزكاة. قلت فتحل صدقة بعضهم على بعض؟ قال
نعم».
وعن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن الصدقة التي حرمت عليهم؟ فقال هي الزكاة المفروضة».
والعجب من العلامة (قدسسره) في التذكرة
مع نقله القول بالجواز عن علمائنا وأكثر العامة ذهب في الكتاب المشار إليه إلى
التحريم وقال : وما روي عن الإمام الباقر عليهالسلام ـ أنه كان
يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له أتشرب من الصدقة؟ فقال إنما حرم علينا
الصدقة المفروضة ـ من ما تفردت بروايته العامة (3) انتهى.
والعجب أنه نسب ذلك إلى العامة وغفل عن هذه الروايات ،
وأعجب منه موافقة شيخنا البهائي له في كتاب أربعين الحديث وجموده على كلامه من غير
مراجعة لهذه الأخبار.
وبالجملة فإن ظاهر الأخبار المذكورة كما ترى هو الدلالة
على ما قدمنا نقله عن الأصحاب ، إلا أنه قد روى الصدوق (قدسسره) في كتاب الخصال
عن محمد بن عبد الرحمن العزرمي عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهماالسلام) (4) قال : «لا تحل
الصدقة لبني هاشم إلا في وجهين : إذا كانوا عطاشا فأصابوا ماء فشربوا وصدقة بعضهم
على بعض».
وروى عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد عن أحمد
بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليهالسلام (5) قال : «سألته
عن الصدقة تحل
__________________
(1 و 2 و 4 و 5) الوسائل الباب 32 من المستحقين للزكاة.
(3) المغني ج 2 ص 659 عن الصادق عن أبيه (ع).
لبني هاشم؟ فقال لا ولكن صدقات بعضهم
على بعض تحل لهم. فقلت جعلت فداك إذا خرجت إلى مكة كيف تصنع بهذه المياه المتصلة
بين مكة والمدينة وعامتها صدقة؟ قال سم فيها شيئا. قلت عين ابن بزيع وغيره. قال
وهذه لهم».
وظاهرهما من ما ينافي الأخبار الأولة إلا أن تلك الأخبار
مع كثرتها معتضدة بفتوى الأصحاب بل اتفاقهم في الظاهر كما عرفت وإن من خالف إنما
خالف سهوا عن ملاحظة تلك الأخبار ، وللأصحاب أن يحملوا التحريم في ظاهر هذين
الخبرين على الكراهة المؤكدة.
الثالث ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) على ما
نقله غير واحد في جواز إعطائهم من الصدقة الواجبة عند قصور الخمس عن كفايتهم.
ويدل على ذلك قوله في موثقة زرارة (1) المتقدمة في
الموضع الأول بعد ذكر ما قدمنا نقله : «ثم قال عليهالسلام إن الرجل إذا
لم يجد شيئا حلت له الميّتة والصدقة لا تحل لأحد منهم إلا أن لا يجد شيئا ويكون
ممن تحل له الميّتة».
إنما الخلاف في القدر الذي يجوز لهم أخذه في تلك الحال ،
فقيل إنه لا يقدر بقدر ونسبه في المختلف إلى الأكثر ، واحتج عليه بأنه أبيح له
الزكاة فلا يتقدر بقدر للأخبار الدالة على أن الزكاة لا تتقدر بقدر وأنه يجوز أن
يعطى الفقير ما يغنيه (2) وضعفه يظهر من
ما يأتي. وقيل إنه لا يتجاوز قدر الضرورة واستقربه العلامة في المنتهى والشهيد في
الدروس على ما نقل عنهما واختاره غير واحد من المتأخرين ، إلا أنهم فسروا قدر
الضرورة بقوت يوم وليلة ، والمفهوم من الخبر وجعله من قبيل أكل الميّتة أن القدر
المذكور أقل من ذلك. وبالجملة فالأدلة المتقدمة قد صرحت بالتحريم خرج منه ما وقع
عليه الاتفاق نصا وفتوى من القدر الضروري ، وبذلك يظهر بطلان القول الأول.
__________________
(1) الوسائل الباب 33 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 24 من المستحقين للزكاة.
أقول : ويمكن أن يقال إن قوله عليهالسلام «إن الرجل إذا
لم يجد شيئا حلت له الميّتة» إنما أريد به بيان تحليل الزكاة في هذه الحال بعد أن
كانت محرمة ، بمعنى أن الزكاة وإن كانت محرمة عليهم لكنهم متى لم يجدوا شيئا حلت
لهم كما أن من لم يجد شيئا تحل له الميّتة المحرمة عليه قبل ذلك ، وأما أن أخذهم
من الزكاة يتقدر بقدر الأكل من الميّتة فلا دلالة في الكلام عليه ، وبالجملة
فالغرض من التمثيل إنما هو بيان الانتقال من التحريم إلى التحليل لمكان الاضطرار ،
وحينئذ متى حل لهم تناول الزكاة جاز الأخذ منها وإن زاد على قدر الضرورة ، بل يمكن
إدخالهم تحت العمومات الدالة على الإعطاء إلى أن يستغني (1) وبذلك يظهر
قوة القول الأول ، والظاهر أن من قال بذلك إنما بنى على ما ذكرناه وهو احتمال قريب
إلا أن تقييد الحل في آخر الخبر بأن يكون ممن تحل له الميّتة من ما يشعر ببعده.
والاحتياط لا يخفى.
الرابع ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
جواز أخذ الهاشمي الزكاة من هاشمي مثله في حال الاختيار.
ويدل عليه روايات عديدة : منها ـ رواية إسماعيل بن الفضل
الهاشمي المتقدمة (2)
وموثقة زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «قلت له
صدقات بني هاشم بعضهم على بعض تحل لهم؟ فقال نعم صدقة الرسول صلىاللهعليهوآله تحل لجميع
الناس من بني هاشم وغيرهم ، وصدقات بعضهم على بعض تحل لهم ولا تحل لهم صدقات إنسان
غريب».
ورواية جميل عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) وفيها «ولا
تحل لهم إلا صدقات بعضهم على بعض». إلى غير ذلك من الأخبار التي لا ضرورة إلى
التطويل بنقلها مع الاتفاق على الحكم المذكور.
الخامس ـ الظاهر أنه لا خلاف في جواز إعطاء الصدقة
لموالي بني هاشم
__________________
(1) الوسائل الباب 24 من المستحقين للزكاة.
(2) ص 218.
(3) الوسائل الباب 32 من المستحقين للزكاة.
(4) الوسائل الباب 34 من المستحقين للزكاة رقم 4.
والمراد بهم كما صرح به في المنتهى
عتقاؤهم ، لعموم الأدلة خرج منها ما خرج بدليل وبقي الباقي.
وخصوص رواية جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «سألته
هل تحل لبني هاشم الصدقة؟ قال لا. قلت تحل لمواليهم؟ قال تحل لمواليهم ولا تحل لهم
إلا صدقات بعضهم على بعض».
وصحيحة سعيد بن عبد الله الأعرج (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام أتحل الصدقة
لموالي بني هاشم؟ فقال نعم».
ومرسلة حماد بن عيسى الطويلة الآتية إن شاء الله تعالى
في كتاب الخمس عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح عليهالسلام (3) وفيها : «وقد
تحل صدقات الناس لمواليهم وهم والناس سواء».
ورواية ثعلبة بن ميمون (4) قال «كان أبو
عبد الله عليهالسلام يسأل شهابا من
زكاته لمواليه وإنما حرمت الزكاة عليهم دون مواليهم».
وأما ما رواه زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليهالسلام (5) في حديث ـ قال
: «مواليهم منهم ولا تحل الصدقة من الغريب لمواليهم ولا بأس بصدقات مواليهم عليهم».
ـ فقد أجاب عنه الشيخ في التهذيب بحمل الموالي هنا على المماليك.
واستبعده المحدث الكاشاني في الوافي لعدم جريان ذلك في
قوله في بقية الخبر : «ولا بأس بصدقات مواليهم عليهم» قال لأن المملوك لا يجد شيئا
يتصدق به فالأولى أن يحمل على الكراهة كما في الإستبصار. انتهى. وهو جيد. والمراد
بقوله «صدقات مواليهم عليهم» أي بعضهم على بعض.
البحث الثالث ـ في كيفية الإخراج ومن المتولي له وما
يلحق ذلك من الأحكام ، وفي هذا البحث مسائل :
الأولى ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولا
سيما المتأخرين
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 34 من المستحقين للزكاة.
جواز تولي المالك أو وكيله لتفريق
الزكاة ، ونقل عن الشيخ المفيد وأبي الصلاح وابن البراج القول بوجوب حملها إلى
الإمام عليهالسلام مع حضوره وإلى
الفقيه الجامع الشرائط مع غيبته.
والظاهر هو القول المشهور للأخبار المستفيضة في جملة من
المواضع التي مرت وتأتي ، ومنها الأخبار الدالة على الأمر بإيصال الزكاة إلى
المستحقين (1) والأخبار
الدالة على نقل الزكاة من بلد إلى آخر مع عدم وجود المستحق (2) والأخبار
الدالة على التوكيل في تفريق الزكاة وأنه يجوز للوكيل أن يأخذ لنفسه حصة من ذلك
إذا كان فقيرا ويكون كأحدهم (3) والأخبار
الدالة على اشتراء العبيد منها كما تقدم (4) إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة
المتكررة في الكتاب في غير باب.
احتج القائلون بالوجوب على ما نقل عنهم بقوله عزوجل «خُذْ
مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (5) قالوا : إن وجوب الأخذ يستلزم وجوب
الدفع.
وأجيب بأنه لا نزاع في وجوب الدفع مع طلبه عليهالسلام إنما الكلام
في وجوب الحمل ابتداء وحينئذ فتحمل الآية على الاستحباب جمعا بينها وبين الأخبار
المتقدمة.
أقول : والذي يقرب بالبال أن يقال لا ريب في أن ظاهر
الآية وجوب الأخذ عليه صلىاللهعليهوآله الموجب لطلبه
ذلك ونقل ذلك إليه وهو المعلوم من سيرته صلىاللهعليهوآله.
ومن ما يدل على ذلك صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (6) الدالة على
أنه لما نزلت آية الزكاة «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها» (7) أمر رسول الله صلىاللهعليهوآله مناديه فنادى
في الناس أن الله تعالى فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة. إلى أن قال : ثم
تركهم حولا ثم وجه عمال الصدقة وعمال الطسوق. ومثل ذلك الأخبار المتقدمة الدالة
على أنه كان يأمر بخرص النخيل وأن الناس كانوا ينقلون
__________________
(1) الوسائل الباب 4 و 52 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 37 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 40 من المستحقين للزكاة.
(4) ص 181 إلى 183.
(5 و 7) سورة التوبة الآية 105.
(6) ص 3.
إليه زكاتهم (1) وكذا من سيرة
أمير المؤمنين عليهالسلام كما تدل عليه
صحيحة بريد بن معاوية (2) المتضمنة
لإرساله عليهالسلام مصدقا من
الكوفة إلى باديتها وأمره بقبض الصدقات ونقلها ، ونحوها رواية ابن مهاجر (3) وغيرها. ومن
أجل ذلك صرح الشيخ ومن تبعه كما هو المشهور بأنه يجب على الإمام أن ينصب عاملا
للصدقات.
وجميع ذلك من ما يدل على وجوب طلب الإمام لذلك ووجوب
النقل إليه ، ولا يخفى ما فيه من المنافاة للأخبار المشار إليها أولا لدلالتها
صريحا على جواز تولي المالك لذلك بنفسه أو وكيله.
ولعل وجه التوفيق بينها هو تخصيص ما دل من الأخبار على
وجوب طلب الإمام لذلك ووجوب الدفع إليه بزمان بسط يده عليهالسلام وقيامه بالأمر
كزمانه صلىاللهعليهوآله وزمان خلافة
أمير المؤمنين عليهالسلام وما دل على
جواز تولي المالك لذلك بزمانهم (عليهمالسلام) لقصر يدهم عن
القيام بأمر الولاية (4) وما يترتب
عليها فرخصوا للشيعة في صرفها ولم يوجبوا عليهم حملها ونقلها لهم لمقام التقية
ودفع الشناعة والشهرة ، وحينئذ فلا منافاة في هذه الأخبار لظاهر الآية ولا يحتاج
إلى حمل الآية على الاستحباب كما صرح به الأصحاب لدفع التنافي بينها وبين الأخبار
في هذا الباب.
ومن ما يعضد ما قلناه ما رواه الصدوق (قدسسره) في كتاب
العلل عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن الحسن بن علي الكوفي عن عبد الله بن المغيرة
عن سفيان ابن عبد المؤمن الأنصاري عن عمر بن شمر عن جابر (5) قال : «أقبل
رجل إلى أبي جعفر عليهالسلام وأنا حاضر
فقال رحمك الله اقبض مني هذه الخمسمائة درهم فضعها في مواضعها فإنها زكاة مالي.
فقال أبو جعفر عليهالسلام بل خذها أنت
وضعها في جيرانك
__________________
(1) ص 132 إلى 136.
(2) ص 51.
(3) الوسائل الباب 14 من زكاة الأنعام.
(4) في الخطية «بأمر الإمامة».
(5) الوسائل الباب 36 من المستحقين للزكاة.
والأيتام والمساكين وفي إخوانك من
المسلمين ، إنما يكون هذا إذا قام قائمنا عليهالسلام فإنه يقسم
بالسوية ويعدل في خلق الرحمن البر منهم والفاجر. الحديث».
الثانية ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ـ بل
الظاهر أنه لا خلاف فيه بينهم ـ بأنه يستحب حمل الزكاة إلى الإمام ومع عدم وجوده
فإلى الفقيه الجامع الشرائط وأنه يتأكد الاستحباب في الأموال الظاهرة كالمواشي
والغلات وعللوا استحباب نقلها إلى الإمام عليهالسلام بأنه أبصر
بمواقعها وأعرف بمواضعها ولما في ذلك من إزالة التهمة عن المالك بمنع الحق وتفضيل
بعض المستحقين بمجرد الميل الطبيعي.
وأنت خبير بأن الاستحباب حكم شرعي وفي ثبوت الأحكام
الشرعية بمثل هذه التعليلات العقلية والمناسبات الذوقية إشكال سيما مع ما عرفت من
رواية جابر المتقدمة وعدم قبول الإمام عليهالسلام لذلك وأمره
السائل بتفريقها بنفسه.
وأما تأكد الاستحباب في الأموال الظاهرة فقد قال في
المدارك أنا لم نقف على حديث يدل عليه بمنطوقه ، ولعل الوجه فيه ما يتضمنه من
الإعلان بشرائع الإسلام والاقتداء بالسلف الكرام. انتهى. وفيه ما في سابقه.
ثم أنه لو كان الأمر كما يدعونه من استحباب حمل ذلك إلى
الإمام فكيف غفل أصحاب الأئمّة (عليهمالسلام) عن ذلك مع
تهالكهم على التقرب إليهم (صلوات الله عليهم) حتى أن الصادق عليهالسلام كان يسأل شهاب
بن عبد ربه من زكاته لمواليه كما تقدم الخبر بذلك (1) وما دل من
الأخبار على أن أصحابهم كانوا يفرقون زكاتهم بأنفسهم أو وكلائهم كثير متفرق في ضمن
أخبار هذا الكتاب (2).
الثالثة ـ الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في عدم وجوب
البسط على الأصناف وأنه يجوز تخصيص جماعة من كل صنف أو صنف واحد بل شخص واحد من
بعض الأصناف ، قالوا نعم يستحب بسطها على الأصناف
__________________
(1) ص 221.
(2) ص 208 و 210 و 211 و 212.
أقول : أما ما ذكروه من الحكم الأول فلا ريب فيه
والأخبار به مستفيضة ومنها ـ حسنة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «كان
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقسم صدقة أهل
البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسمها بينهم بالسوية
إنما يقسمها على قدر من يحضرها منهم وما يرى ليس في ذلك شيء موقت».
وصحيحة أحمد بن حمزة (2) قال : «قلت لأبي الحسن عليهالسلام رجل من مواليك
له قرابة كلهم يقول بك وله زكاة أيجوز أن يعطيهم جميع زكاته؟ قال نعم».
وحسنة زرارة بل صحيحته بإبراهيم بن هاشم (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام رجل حلت عليه
الزكاة ومات أبوه وعليه دين أيؤدي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير؟ فقال عليهالسلام إن كان أبوه
أورثه مالا. إلى أن قال وإن لم يكن أورثه مالا لم يكن أحد أحق بزكاته من دين أبيه
فإذا أداها في دين أبيه على هذه الحال أجزأت عنه».
ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام المتقدمة في
صنف الرقاب (4) المتضمنة
لجواز شراء نسمة يعتقها إذا كان عبدا مسلما في ضرورة بمال زكاته.
وصحيحة علي بن يقطين المتقدمة أيضا (5) المتضمنة
لجواز أن يحج مواليه وأقاربه بمال الزكاة. إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ،
وبالجملة فالحكم اتفاقي نصا وفتوى
وما ربما يتوهم من مخالفة ظاهر الآية (6) لذلك كما تمسك
به بعض العامة (7) فقد أجاب عنه
في المعتبر بأن اللام في الآية الشريفة للاختصاص لا للملك كما تقول : «الباب للدار»
فلا تقتضي وجوب البسط ولا التسوية في العطاء. وأجاب عنه في المنتهى بأن المراد
بالآية الشريفة بيان المصرف أي الأصناف
__________________
(1) الوسائل الباب 28 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 15 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 18 من المستحقين للزكاة.
(4) ص 181.
(5) ص 199.
(6) وهي قوله تعالى «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ ...» سورة التوبة الآية 61.
(7) المحلى ج 6 ص 144 ، والمغني ج 2 ص 669 ، والمهذب ج 1 ص
171.
التي تصرف الزكاة إليهم لا إلى غيرهم
كقوله «إنما الخلافة لقريش».
وأما ما ذكروه من استحباب البسط فلم أقف فيه على نص ،
وغاية ما عللوه به كما ذكره في المدارك بما فيه من شمول النفع وعموم الفائدة ،
ولأنه أقرب إلى امتثال ظاهر الآية. ولا يخفى ما فيه من الوهن والضعف.
واستدل عليه في التذكرة والمنتهى بما فيه من التخلص من
الخلاف وحصول الإجزاء يقينا. والظاهر أنه أشار بذلك إلى خلاف العامة (1) لأنه صرح قبل
ذلك بإجماع علمائنا على عدم وجوب البسط ، وهو أضعف من سابقه.
الرابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) باستحباب
ترجيح بعض المستحقين على بعض لأسباب تقتضي ذلك ككونه أفضل أو كونه ممن يستحي من السؤال
أو كونه رحما ونحو ذلك.
وعلى ذلك دلت الأخبار أيضا كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن الزكاة أيفضل
بعض من يعطى ممن لا يسأل على غيره؟ قال نعم يفضل الذي لا يسأل على الذي يسأل».
وما رواه الكليني عن عتيبة بن عبد الله بن عجلان السكوني
(3) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام إني ربما قسمت
الشيء بين أصحابي أصلهم به فكيف أعطيهم؟ فقال أعطهم على الهجرة في الدين والعقل
والفقه».
وما رواه إسحاق بن عمار في الموثق عن أبي الحسن موسى عليهالسلام (4) قال : «قلت له
لي قرابة أنفق على بعضهم وأفضل بعضهم على بعض فيأتيني إبان الزكاة أفأعطيهم منها؟
قال مستحقون لها؟ قلت نعم. قال هم أفضل من غيرهم. الحديث».
__________________
(1) في المهذب ج 1 ص 171 الوجوب ، وفي البداية ج 1 ص 266 نسبه
إلى الشافعي أيضا وإلى مالك وأبي حنيفة العدم ، وفي المحلى ج 6 ص 144 نقل الخلاف ،
وفي البدائع ج 2 ص 47 اختار العدم.
(2 و 3) الوسائل الباب 25 من المستحقين للزكاة.
(4) الوسائل الباب 15 من المستحقين للزكاة.
ولا ينافي هذا الخبر ما رواه الكليني في الحسن بإبراهيم
بن هاشم الذي هو صحيح عندي عن زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «إن
الصدقة والزكاة لا يحابى بها قريب ولا يمنعها بعيد». لحمل الأول على استحباب تفضيل
الرحم بالزيادة على غيره وحمل هذا الخبر على المنع من دفع الجميع إلى القريب
وحرمان البعيد بالكلية بل يقسم ذلك على القريب والبعيد وإن فضل القريب لقربه بالزيادة
وقد تقدم في بعض الأخبار (2)
«لا تعطين قرابتك الزكاة كلها ولكن أعطهم بعضا واقسم
بعضا في سائر المسلمين».
وبالجملة فإن أصل الحكم من ما لا إشكال فيه ولا خلاف بين
الأصحاب إلا أنه قد روى الشيخ في التهذيب بسنده عن حفص بن غياث (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول وسئل عن
قسمة بيت المال فقال أهل الإسلام هم أبناء الإسلام أسوي بينهم في العطاء وفضائلهم
بينهم وبين الله أجعلهم كبني رجل واحد لا يفضل أحد منهم لفضله وصلاحه في الميراث
على آخر ضعيف منقوص ، قال وهذا هو فعل رسول الله صلىاللهعليهوآله في بدو أمره ،
وقد قال غيرنا أقدمهم في العطاء بما قد فضلهم الله تعالى بسوابقهم في الإسلام إذا
كانوا بالإسلام قد أصابوا ذلك فأنزلهم على مواريث ذوي الأرحام بعضهم أقرب من بعض
وأوفر نصيبا لقربه من الميّت وإنما ورثوا برحمهم ، وكذلك كان عمر يفعله».
ولا يخفى ما في هذا الخبر من الإشكال فإنه ظاهر في أن ما
كان مالا لله سبحانه كمال الخراج والزكاة فإنه يقسم على السوية والتفضيل إنما يكون
في الصدقات المستحبة التي هي من مال الإنسان.
ولم أر بمضمونه قائلا إلا ما يظهر من المحدث الكاشاني في
الوافي حيث قال بعد نقل خبر عبد الله بن عجلان المذكور : بيان ـ إنما رخص له
التفضيل على الفقه والدين لأنه إنما يصلهم بماله وليس له ذلك في قسمة حق الله فيهم
كما يأتي. ثم أورد
__________________
(1) الوسائل الباب 4 من المستحقين للزكاة.
(2) هذا اللفظ في حديث أبي خديجة المتقدم بعضه ص 214 ولم يتقدم
هو.
(3) الوسائل الباب 29 من أبواب جهاد العدو.
رواية حفص المذكورة ثم قال بعدها : قد
مضى في كتاب الحجة أن القائم عليهالسلام إذا ظهر قسم
المال بين الرعية بالسوية ، وفي باب سيرتهم بين الناس أن ذلك حقهم على الإمامة.
انتهى.
والمسألة لا تخلو من الإشكال لما عرفت من اتفاق الأصحاب
سلفا وخلفا على جواز التفضيل حتى أن الكليني (قدسسره) في الكافي (1) عقد له بابا
على حدة فقال : «باب تفضيل أهل الزكاة بعضهم على بعض» وأورد فيه أولا حديث عبد
الله بن عجلان المذكور ثم رواية عبد الرحمن بن الحجاج.
والشيخ المفيد على ما نقل عنه في المختلف ذهب إلى وجوب
التفضيل حيث قال : يجب تفضيل الفقراء في الزكاة على قدر منازلهم في الفقه والبصيرة
والطهارة والديانة. انتهى.
والظاهر حمل الخبر المذكور على التخصيص بمال الخراج وهو
الذي علم من النبي صلىاللهعليهوآله وعلي عليهالسلام في زمن خلافته
تسوية الناس في قسمته.
وقد ورد أيضا استحباب صرف صدقة المواشي إلى المتجملين
وصرف صدقة غيرها إلى الفقراء المدقعين كما رواه الكليني عن عبد الله بن سنان (2) قال «قال أبو
عبد الله عليهالسلام إن صدقة الخف
والظلف تدفع إلى المتجملين من المسلمين وأما صدقة الذهب والفضة وما كيل بالقفيز من
ما أخرجت الأرض فللفقراء المدقعين. قال ابن سنان قلت وكيف صار هذا هكذا؟ فقال لأن
هؤلاء متجملون يستحيون من الناس فيدفع إليهم أجمل الأمرين عند الناس ، وكل صدقة».
وروى الشيخ المفيد في المقنعة عن عبد الكريم بن عتبة
الهاشمي عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال «تعطى
صدقة الأنعام لذوي التجمل من الفقراء لأنها أرفع من صدقة الأموال وإن كان جميعها
صدقة وزكاة ولكن أهل التجمل يستحيون أن يأخذوا صدقات الأموال».
__________________
(1) الفروع ج 1 ص 155.
(2 و 3) الوسائل الباب 26 من المستحقين للزكاة.
الخامسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز
تأخير الزكاة بعد حول الحول وإمكان الدفع ، فالمشهور أنه لا يجوز التأخير إلا لعذر
كعدم وجود المستحق ونحوه.
قال الشيخ المفيد في المقنعة : الأصل في إخراج الزكاة
عند حلول وقتها دون تقديمها عليه وتأخيرها عنه كالصلاة ، وقد جاء عن الصادقين عليهمالسلام (1) رخص في
تقديمها شهرين قبل محلها وتأخيرها شهرين عنه ، وجاء ثلاثة أشهر أيضا وأربعة عند
الحاجة إلى ذلك وما يعرض من الأسباب ، والذي أعمل عليه هو الأصل المستفيض عن آل
محمد (عليهمالسلام) من لزوم
الوقت (2).
وقال الشيخ في النهاية : وإذا حال الحول فعلى الإنسان أن
يخرج ما يجب عليه على الفور ولا يؤخره ، قال : وإذا عزل ما يجب عليه فلا بأس أن
يفرقه ما بين شهر وشهرين ولا يجعل ذلك أكثر منه.
وظاهر الشهيدين جواز التأخير بل جزم الشهيد الثاني بجواز
تأخيرها شهرا وشهرين خصوصا للبسط ولذي المزية ، واختاره في المدارك.
أقول : لا يخفى أن أكثر الأخبار صريحة الدلالة في جواز
التأخير ، ومنها صحيحة حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «لا بأس
بتعجيل الزكاة شهرين وتأخيرها شهرين».
وصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليهالسلام (4) «أنه قال في الرجل
يخرج زكاته فيقسم بعضها ويبقى بعض يلتمس لها المواضع فيكون بين أوله وآخره ثلاثة
أشهر؟ قال لا بأس».
وموثقة يونس بن يعقوب (5) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام زكاتي تحل علي
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة.
(4) الوسائل الباب 53 من المستحقين للزكاة.
(5) الوسائل الباب 52 من المستحقين للزكاة.
في شهر أيصلح لي أن أحبس منها شيئا
مخافة أن يجيئني من يسألني؟ فقال إذا حال الحول فأخرجها من مالك ولا تخلطها بشيء
ثم أعطها كيف شئت. قال قلت فإن أنا كتبتها وأثبتها أيستقيم لي؟ قال نعم لا يضرك».
وصحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «قلت له
الرجل تحل عليه الزكاة في شهر رمضان فيؤخرها إلى المحرم؟ قال لا بأس. قال قلت
فإنها لا تحل عليه إلا في المحرم فيعجلها في شهر رمضان؟ قال لا بأس». هذا ما وقفت
عليه من الأخبار الدالة على جواز التأخير.
إلا أنه قد ورد في بعض الأخبار أيضا ما يدل على التعجيل
وعدم جواز التأخير مثل صحيحة سعد بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا عليهالسلام (2) قال «سألته عن
الرجل تحل عليه الزكاة في السنة في ثلاثة أوقات أيؤخرها حتى يدفعها في وقت واحد؟
قال متى حلت أخرجها».
ورواية أبي بصير المروية في آخر كتاب السرائر نقلا من
نوادر محمد بن علي بن محبوب (3) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام إذا أردت أن
تعطي زكاتك قبل حلها بشهر أو شهرين فلا بأس ، وليس لك أن تؤخرها بعد حلها».
وظاهر عبارة الشيخ المفيد (قدسسره) المتقدمة
استفاضة الأخبار عنده بالإخراج في وقتها حتى أنه جعل التأخير من قبيل الرخصة ومع
هذا عدل عنه وقوفا على ما ذكره من الأخبار المشار إليها ، ولعلها وصلت إليه ولم
تصل إلينا.
ولعل الأظهر في الجمع بين هذه الأخبار هو أن يقال إن
الواجب هو إخراجها متى وجبت إلا أن يعزلها أو يثبتها فيجوز له التأخير شهرين
وثلاثة وإخراجها شيئا فشيئا ، وإلى هذا يشير كلام الشيخ في النهاية ، والظاهر أنه
جعله وجه جمع بين أخبار المسألة.
__________________
(1) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة.
(2 و 3) الوسائل الباب 52 من المستحقين للزكاة.
وقال الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه (1) : وقد روي في
تقديم الزكاة وتأخيرها أربعة أشهر وستة أشهر ، إلا أن المقصود منها أن تدفعها إذا
وجبت عليك ، ولا يجوز لك تقديمها ولا تأخيرها لأنها مقرونة بالصلاة ولا يجوز تقديم
الصلاة قبل وقتها ولا تأخيرها إلا أن تكون قضاء وكذلك الزكاة ، فإن أحببت أن تقدم
من زكاة مالك شيئا تفرج به عن مؤمن فاجعله دينا عليه فإذا حلت عليك فاحسبها له
زكاة ليحسب لك من زكاة مالك ويكتب لك أجر القرض. ولا يخفى ما في هذا الكلام من
الغموض بل التدافع.
مع أن هذه العبارة مأخوذة من كتاب الفقه الرضوي على
النحو الذي قدمنا ذكره في غير مقام.
حيث قال عليهالسلام (2) وإني أروي عن
أبي في تقديم الزكاة وتأخيرها أربعة أشهر وستة أشهر ، إلا أن المقصود منها أن
تدفعها إذا وجبت عليك ، ولا يجوز لك تقديمها ولا تأخيرها لأنها مقرونة بالصلاة ولا
يجوز لك تقديم الصلاة قبل وقتها ولا تأخيرها إلا أن تكون قضاء وكذلك الزكاة ، وإن
أحببت أن تقدم من زكاة مالك شيئا تفرج به عن مؤمن فاجعلها دينا عليه فإذا حلت عليك
وقت الزكاة فاحسبها له زكاة فإنه يحسب لك من زكاة مالك ويكتب لك أجر القرض
والزكاة. انتهى.
والذي يظهر لي في معنى هذا الكلام ورفع ما يوهم التناقض
هو أنه بعد أن نقل عن أبيه عليهالسلام جواز التقديم
والتأخير أراد تأويله ـ بناء على ما أفتى به من وجوب دفعها متى وجبت وأنه لا يجوز
التقديم فيها ولا التأخير كالصلاة المقيدة بوقت مخصوص ـ بحمل التقديم على أن يكون
على جهة القرض وحمل التأخير على العذر المانع من الدفع وقت الوجوب كالصلاة التي
تكون قضاء بالعذر الموجب لتأخيرها عن وقتها.
__________________
(1) الفقيه ج 2 ص 10 وفي الوسائل الباب 49 من المستحقين
للزكاة.
(2) ص 22.
ومن هذا يظهر مستند ما ذهب إليه الشيخ المفيد وغيره من
المتقدمين من وجوب الإخراج وقت الوجوب وعدم جواز التأخير ويكون من قبيل ما تقدم في
غير موضع من اختصاص المستند بهذا الكتاب.
وكيف كان فالاحتياط بإخراجها متى وجبت إلا لعذر من ما لا
ينبغي تركه. والله العالم.
السادسة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه
لا يجوز تعجيل الزكاة قبل وقتها إلا أن يكون المدفوع دينا على جهة القرض ثم يحتسب
به بعد الوجوب مع بقاء الشرائط ، ونقل عن ظاهر ابن أبي عقيل وسلار جواز التعجيل
والظاهر هو القول المشهور ويدل عليه أولا ما تقدم من الأخبار الدالة على أن حول
الحول شرط في الوجوب (1) فلم يجز تقديم
الواجب عليه كما لا يقدم على النصاب.
وأورد عليه بأنه يجوز أن يكون الوجوب في الوقت عند
استجماع الشرائط مقيدا بعدم الإتيان بها سابقا عليه ويكون التقديم جائزا لا بد
لنفيه من دليل. كذا أورده الفاضل الخراساني في الذخيرة.
وفيه أن من جملة أخبار الحول قولهما (عليهماالسلام) في صحيحة
الفضلاء (2) «وكل ما لم يحل
عليه الحول عند ربه فلا شيء عليه فيه فإذا حال عليه الحول وجب عليه». ولا ريب في
دلالة صدر الكلام على نفي الزكاة قبل حول الحول ، وكلامه هذا وإن أمكن إجراؤه في
قوله : «فإذا حال عليه الحول وجب عليه» بمعنى تقييد الوجوب بما إذا لم يخرجها
سابقا بعنوان الزكاة إلا أنه لا يستقيم في صدر الكلام لدلالته على نفي الزكاة قبل
أن يحول عليه الحول ومتى انتفى ثبوت الزكاة قبل الحول انتفى الإخراج بعنوان الزكاة
البتة ، وفي صحيحة علي بن يقطين (3) «كل ما لم يحل
عليه
__________________
(1) الوسائل الباب 8 من زكاة الأنعام و 15 من زكاة الذهب
والفضة.
(2) الوسائل الباب 8 من زكاة الأنعام.
(3) الوسائل الباب 15 من زكاة الذهب والفضة.
عندك الحول فليس عليك فيه زكاة». والتقريب
ما تقدم ، ونحو ذلك في الأخبار غير عزيز.
وثانيا ـ ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن بإبراهيم
بن هاشم عن عمر ابن يزيد (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام الرجل يكون
عنده المال أيزكيه إذا مضى نصف السنة؟ قال لا ولكن حتى يحول عليه الحول ويحل عليه
، إنه ليس لأحد أن يصلي صلاة إلا لوقتها وكذلك الزكاة ، ولا يصومن أحد شهر رمضان
إلا في شهره إلا قضاء ، وكل فريضة إنما تؤدى إذا حلت».
وصحيحة زرارة (2) قال : «قلت لأبي جعفر عليهالسلام أيزكي الرجل
ماله إذا مضى ثلث السنة؟ قال لا ، أيصلي الأولى قبل الزوال؟».
ويدل على القول الآخر صحيحتا حماد بن عثمان ومعاوية بن
عمار المتقدمتان (3)
وما رواه الكليني في الصحيح إلى أبي بصير عن أبي عبد
الله عليهالسلام (4) قال : «سألته
عن رجل يكون نصف ماله عينا ونصفه دينا فتحل عليه الزكاة؟ قال يزكي العين ويدع
الدين. قلت فإنه اقتضاه بعد ستة أشهر؟ قال يزكيه حين اقتضاه. قلت فإن هو حال عليه
الحول وحل الشهر الذي كان يزكي فيه وقد أتى لنصف ماله سنة ولنصفه الآخر ستة أشهر؟
قال يزكي الذي مرت عليه سنة ويدع الآخر حتى تمر عليه سنة. قلت فإن اشتهى أن يزكي
ذلك؟ قال ما أحسن ذلك».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحسين بن عثمان عن رجل عن
أبي عبد الله عليهالسلام (5) قال : «سألته
عن الرجل يأتيه المحتاج فيعطيه من زكاته في أول السنة؟
فقال إن كان محتاجا فلا بأس».
وما رواه عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليهالسلام (6) قال : «سألته
عن الرجل
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 51 من المستحقين للزكاة.
(3) ص 229 و 230.
(4) الوسائل الباب 6 ممن تجب عليه الزكاة و 49 من المستحقين
للزكاة.
(5) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة.
(6) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة ، وفي الإستبصار ج 2
ص 32 والتهذيب ج 1 ص 361 «ثمانية أشهر» نعم في الطبعة الحديثة من التهذيب ج 4 ص 44
: في بعض المخطوطات «خمسة أشهر».
يعجل زكاته قبل المحل؟ قال إذا مضت
خمسة أشهر فلا بأس».
ويدل على ذلك أيضا رواية أبي بصير المتقدمة في سابق هذه
المسألة (1) بنقل ابن
إدريس من كتاب نوادر محمد بن علي بن محبوب.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الشيخ في كتابي الأخبار قد أجاب
عن صحيحتي حماد ابن عثمان ومعاوية بن عمار وما في معناهما بالحمل على أن التقديم
على سبيل القرض لا أنه زكاة معجلة.
واستدل على هذا التأويل بما رواه في الصحيح عن الأحول عن
أبي عبد الله عليهالسلام (2) «في رجل عجل
زكاة ماله ثم أيسر المعطى قبل رأس السنة؟ قال يعيد المعطي الزكاة».
واعترضه المحقق في المعتبر بأن ما ذكره الشيخ ليس حجة
على ما ادعاه إذ يمكن القول بجواز التعجيل مع ما ذكره ، مع أن الرواية تضمنت أن
المعجل زكاة فتنزيله على القرض تحكم. انتهى. وهو جيد.
ومن ما يضعف هذا الحمل إن الروايات قد دلت على أنها زكاة
معجلة كما دلت على جواز تأخيرها شهرين وثلاثة ، فالتقديم إنما هو بعنوان الزكاة لا
القرض كما أن التأخير كذلك وإلا لم يصدق أنه عجل زكاته بل يقال أقرض. وأيضا لو كان
المراد إنما هو بمعنى القرض لكان الاقتصار على الشهرين أو الثلاثة أو نحو ذلك من
ما ورد في تلك الأخبار لا معنى له ، مع أن جمعا من محققي الأصوليين يذهبون إلى
حجية مفهوم العدد ، بل قال شيخنا الشهيد الثاني في تمهيده أنه مذهب أكثر الأصوليين
، ولا ريب أن ذلك لا يجري في ما كان على سبيل القرض وإنما يجري في ما لو كان زكاة
معجلة فيكون جواز تقديمها مقيدا بتلك المدة المذكورة في الأخبار. وبالجملة فالروايات
المذكورة ظاهرة
__________________
(1) ص 230.
(2) الوسائل الباب 50 من المستحقين للزكاة.
في جواز تعجيل الزكاة كما هو المدعى
منها وتأويلها بما ذكر تعسف ظاهر.
وبذلك يظهر ما في كلام السيد السند في المدارك حيث قال :
وما ذكره الشيخ في الجمع جيد إلا أن جواز التعجيل على سبيل القرض لا يتقيد
بالشهرين والثلاثة فلا يظهر للتخصيص على هذا التقدير وجه ، لكن ليس في الروايتين
ما يدل على التخصيص بالحكم صريحا ، والتخصيص بالذكر لا يقتضي التخصيص بالحكم خصوصا
الرواية الأولى ، فإن التخصيص فيها وقع في كلام السائل وليس في الجواب عن المقيد
المسئول عنه دلالة على نفي الحكم عن ما عداه. انتهى.
فإن فيه أولا ـ أن كلامه هذا إنما يتجه على القول بعدم
حجية مفهوم العدد وأما على القول بذلك كما قدمناه فيجب تقييد الجواز بذلك البتة.
وثانيا ـ أنه قد جزم بذلك بالنسبة إلى التأخير كما تقدم
في كلامه تبعا لجده (قدسسره) كما قدمنا
نقله عنه ، والكلام في المقامين واحد فإن كانت الأخبار المذكورة لا دلالة فيها على
التخصيص بالحكم كما ذكره هنا ففي الموضعين وإلا فلا معنى لكلامه هنا مع اعتباره
التخصيص بالحكم في صورة التأخير ، وبالجملة فإن تخصيص الحكم إنما يتجه على تقدير
القول بحجية مفهوم العدد فكيف يكون مفهوم العدد حجة في المسألة الأولى ولا يكون في
هذه المسألة والتحديد بالشهرين فيهما معا.
ثم إنه في المدارك أيضا استشهد لهذا الجمع بما ورد من
الأخبار الدالة على استحباب القرض قبل إبان الزكاة والاحتساب به بعد الوجوب (1) ومثله الفاضل
الخراساني في الذخيرة.
وفيه ما عرفت من أن ظواهر تلك الأخبار كونها زكاة معجلة
مقيدة بأوقات مخصوصة لا كونها قرضا ، وحمل أحدهما على الآخر تعسف محض كما عرفت.
ولهذا إن شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) حمل هذه
الروايات على الرخصة
__________________
(1) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة.
فقال : وقد جاءت رخص عن الصادقين (عليهمالسلام) في تقديمها
شهرين قبل حلها وجاء ثلاثة أشهر وأربعة أشهر عند الحاجة إلى ذلك. وإليه يميل كلام
المحقق في المعتبر أيضا حيث قال على أثر الكلام المتقدم نقله عنه : وكأن الأقرب ما
ذكره المفيد من تنزيل الرواية على ظاهرها في الجواز فيكون فيه روايتان. انتهى. ولا
ريب أن هذا أقرب في الجمع بين الأخبار من ما ذكره الشيخ (قدسسره).
ولعل الأقرب منها هو حمل هذه الأخبار على التقية التي هي
في اختلاف الأخبار أصل كل بلية ، فإن القول بالجواز مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد
(1) كما نقله في
المعتبر لما روي (2) «أن العباس سأل
رسول الله صلىاللهعليهوآله في تعجيل
صدقته فرخص له». ورووا عن علي عليهالسلام (3) «أن النبي صلىاللهعليهوآله قال لعمر قد
أخذنا زكاة العباس عام أول للعام». وظاهر النقل عنهم يعطي القول بجواز التقديم
مطلقا غير مخصص بعدد ، ولعل ذكر الشهر والشهرين ونحوهما في أخبارنا إنما خرج مخرج
التمثيل فلا يدل على التخصيص كما يشير إليه اختلاف الأخبار في ذلك.
ورجح بعض مشايخنا المعاصرين حمل أخبار الجواز على العذر
والضرورة المانع من التمكن من إعطائها بعد حلول وقت الوجوب كما يقدم غسل الجمعة
لخوف إعواز الماء ، قال : وهذا جمع حسن تتلاءم به الأخبار ، وحينئذ فالاقتصار على
الشهرين كالاقتصار على يوم الخميس وما بعده بالنسبة إلى غسل الجمعة. انتهى.
ولا يخفى بعده بل عدم استقامته ، وكأنه بنى في ذلك على
رواية حماد بن عثمان المتضمنة للشهرين (4) وإلا فالأخبار التي قدمناها منها ما
يدل على التقديم في أول السنة كمرسلة حسين بن عثمان ومنها بعد ستة أشهر كرواية أبي
بصير أو خمسة أشهر كروايته الثانية (5) ومعلومية العذر عن إخراج الزكاة في
هذه المدد كمعلومية العذر
__________________
(1) نيل الأوطار ج 4 ص 214.
(2 و 3) سنن البيهقي ج 4 ص 111.
(4) ص 229.
(5) ص 233.
في يوم الخميس بعوز الماء قياس مع
الفارق وتنظير غير مطابق كما لا يخفى على الخبير الحاذق.
وأما الروايات الدالة على احتساب القرض من الزكاة بعد
حلول وقتها كما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فهي كثيرة :
منها ـ ما تقدم في هذا المقام نقلا من كتاب الفقه الرضوي
(1) ومنها ـ رواية
عقبة بن خالد المتقدمة في صنف الغارمين (2).
ومنها ـ رواية يونس بن عمار (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول قرض
المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك وإن مات قبل ذلك احتسبت به من الزكاة».
ورواية موسى بن بكر عن أبي الحسن عليهالسلام (4) قال : «كان
علي عليهالسلام يقول قرض
المال حمى الزكاة». ونحوه في كتاب الفقه الرضوي (5).
فرعان
الأول ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو دفع
له مالا على سبيل القرض فحضر وقت الوجوب جاز احتسابه من الزكاة بشرط بقاء القابض
على صفة الاستحقاق وبقاء الوجوب في المال ، وللمالك أيضا المطالبة بعوضه ودفعه إلى
غيره ودفع غيره إليه ودفع غيره إلى غيره وإن بقي على صفة الاستحقاق لأن حكمه حكم
الديون. ولو كان المدفوع زكاة معجلة وقلنا بجواز ذلك فالظاهر أيضا اعتبار بقاء
الشرط المذكور لأن الدفع يقع مراعى في جانب الدافع اتفاقا فكذا في جانب القابض
خلافا لبعض العامة في الثاني (6).
وظاهر الفاضل الخراساني في الذخيرة هنا التوقف في اعتبار
المراعاة في جانب القابض أيضا ، حيث قال : ولو قلنا إن المدفوع زكاة معجلة ففي
اعتبار بقاء
__________________
(1) ص 231.
(2) ص 195.
(3 و 4) الوسائل الباب 49 من المستحقين للزكاة.
(5) ص 23.
(6) المغني ج 2 ص 636 والإنصاف ج 3 ص 212.
الشرط في القابض نظر لإطلاق أدلة جواز
التقديم. انتهى.
وفيه نظر لما تقدم في صحيحة الأحول (1) من الدلالة
على أنه لو عجل زكاة ماله ثم أيسر المعطى قبل رأس السنة فإنه يعيد المعطي الزكاة ،
وكأنه (قدسسره) غفل عن
مراجعة الخبر المذكور.
ثم إنه على تقدير كون المدفوع زكاة فإنه لا يجوز
استعادته مع بقاء الشرائط في المال والقابض بخلاف القرض كما عرفت.
الثاني ـ لو دفع إليه مالا فاستغنى بعين ذلك المال ثم
حال الحول عليه كذلك ، فإن قلنا بجواز الدفع زكاة معجلة وقصد به ذلك فإنه ليس له
استعادته لما عرفت.
ولو دفعه على سبيل القرض والحال كذلك فهل له احتسابه
عليه ولا يكلف أخذه وإعادته عليه أم لا؟ المشهور الأول نص عليه الشيخ وأكثر
الأصحاب ، وبه قطع المحقق والعلامة في جملة من كتبه من غير نقل خلاف.
واستدل عليه في المنتهى بأن العين إنما دفعت إليه
ليستغني بها وترتفع حاجته وقد حصل الغرض فلا يمنع الإجزاء ، وبأنا لو استرجعنا منه
لصار فقيرا فجاز دفعها إليه بعد ذلك وذلك لا معنى له.
ونقل عن ابن إدريس أنه لا يجوز الدفع إليه مع الغنى وإن
كان بعين المدفوع ، لأن الزكاة لا يستحقها غني والمدفوع إليه غني بالدفع إليه مع
الغنى وإن كان قرضا لأن المستقرض يملك ما استقرضه.
وأجاب عنه في المختلف بأن الغنى هنا ليس مانعا إذ لا
حكمة ظاهرة في أخذه ودفعه.
واعترضه في المدارك بأن عدم ظهور الحكمة لا يقتضي عدمها
في نفس الأمر ثم قال : نعم لو قيل إن من هذا شأنه لا يخرج عن حد الفقر عرفا لم يكن
بعيدا من الصواب. انتهى.
__________________
(1) ص 234.
أقول : وكلام ابن إدريس هو الأوفق بمقتضى الأصول ، والمسألة
غير منصوصة والاحتياط فيها مطلوب. وأما ما ذكره في المدارك ـ من أن من هذا شأنه لا
يخرج عن حد الفقر عرفا ـ فقد تقدم الكلام عليه في مثل هذه المسألة في صنف
الغارمين.
هذا في ما لو استغنى بعين ذلك المال أما لو استغنى بغيره
ولو بنمائه وربحه أو زيادة قيمته على قيمته حين القبض استعيد منه القرض لتحقق
الغنى المانع من استحقاقه. وكذا لو كان المدفوع زكاة معجلة ، لأنها كما عرفت
مراعاة ببقاء الشروط إلى وقت الوجوب ، ولما عرفت من صحيحة الأحول المتقدمة (1).
السابعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في جواز نقل
الزكاة من البلد مع وجود المستحق فيها ، فالمشهور التحريم وأسنده في التذكرة إلى
علمائنا أجمع ، ونقل في المنتهى عن الشيخ المفيد والشيخ في بعض كتبه القول بالجواز
واختاره في المنتهى ، واختار في المختلف القول بالجواز على كراهة ونقله عن ابن
حمزة ، ونقل عن الشيخ الجواز بشرط الضمان.
والمفهوم من الأخبار الواردة في هذا المضمار هو أنه مع
عدم وجود المستحق في البلد فلا إشكال في الجواز بل الوجوب ولا ضمان لو تلفت في
الطريق ، ومع وجوده فإنه يجوز النقل أيضا ولكن يكون ضامنا وإن كان الأفضل صرفها في
البلد
ومن ما يدل على الأول صحيحة ضريس (2) قال : «سأل
المدائني أبا جعفر عليهالسلام فقال إن لنا
زكاة نخرجها من أموالنا ففي من نضعها؟ فقال في أهل ولايتك. فقال إني في بلاد ليس
فيها أحد من أوليائك؟ فقال ابعث بها إلى بلدهم تدفع إليهم. الحديث».
ورواية يعقوب بن شعيب الحداد عن العبد الصالح عليهالسلام (3) قال : «قلت له
__________________
(1) ص 234.
(2 و 3) الوسائل الباب 5 من المستحقين للزكاة.
الرجل منا يكون في أرض منقطعة كيف
يصنع بزكاة ماله؟ قال يضعها في إخوانه وأهل ولايته. قلت فإن لم يحضره منهم فيها
أحد؟ قال يبعث بها إليهم. الحديث».
ومن ما يدل على الثاني حسنة هشام بن الحكم بإبراهيم بن
هاشم عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) «في الرجل يعطى
الزكاة يقسمها أله أن يخرج الشيء منها من البلدة التي هو فيها إلى غيره؟ قال لا
بأس».
ورواية درست بن أبي منصور عن رجل عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) «أنه قال في
الزكاة يبعث بها الرجل إلى بلد غير بلده؟ فقال لا بأس أن يبعث بالثلث أو الربع. الشك
من أبي أحمد».
ورواية أحمد بن حمزة بل صحيحته عند بعض (3) قال : «سألت
أبا الحسن الثالث عليهالسلام عن الرجل يخرج
زكاته من بلد إلى بلد آخر ويصرفها في إخوانه فهل يجوز ذلك؟ فقال نعم».
ومن ما يدل على عدم الضمان في الأول والضمان في الثاني صحيحة
محمد بن مسلم (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام رجل بعث بزكاة
ماله لتقسم فضاعت هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها
إليه فهو لها ضامن حتى يدفعها ، وإن لم يجد من يدفعها إليه فبعث بها إلى أهلها
فليس عليه ضمان لأنها قد خرجت من يده. وكذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامنا لما
دفع إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه ، وإن لم يجد فليس عليه ضمان».
وحسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم (5) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل بعث
إليه أخ له زكاته ليقسمها فضاعت؟ فقال ليس على الرسول ولا على المؤدي ضمان قلت
فإنه لم يجد لها أهلا ففسدت وتغيرت أيضمنها؟ قال لا ولكن إن عرف لها أهلا فعطبت أو
فسدت فهو لها ضامن حتى يخرجها».
ومن ما يدل على ذلك بإطلاقه حسنة بكير بن أعين (6) قال : «سألت
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 37 من المستحقين للزكاة.
(4 و 5 و 6) الوسائل الباب 39 من المستحقين للزكاة.
أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يبعث
بزكاته فتسرق أو تضيع؟ قال ليس عليه شيء».
وعن وهيب بن حفص في الموثق (1) قال : «كنا مع
أبي بصير فأتاه عمرو ابن إلياس فقال له يا أبا محمد إن أخي بحلب بعث إلي بمال من
الزكاة أقسمه بالكوفة فقطع عليه الطريق فهل عندك فيه رواية؟ قال نعم سألت أبا جعفر
عليهالسلام عن هذه
المسألة ولم أظن أن أحدا يسألني عنها أبدا فقلت لأبي جعفر عليهالسلام جعلت فداك
الرجل يبعث بزكاة ماله من أرض إلى أرض فيقطع عليه الطريق؟ فقال قد أجزأت عنه ولو
كنت أنا لأعدتها». ونحوها غيرها. وإطلاقها مقيد بالخبرين الأولين. وظاهر هذا الخبر
الأخير استحباب إعادة الإخراج في الصورة المذكورة.
ومن ما يدل على الثالث صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي
عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «كان
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقسم صدقة أهل
البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر. الحديث».
وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «لا تحل
صدقة المهاجرين للأعراب ولا صدقة الأعراب للمهاجرين».
وأورد هذين الخبرين في الكافي في باب (بعث الزكاة من بلد
إلى آخر) وهو مؤذن بما قلناه وإن احتمل حملهما على ما هو أعمّ. والله أعلم.
تنبيهات
الأول ـ الظاهر أنه لا خلاف بناء على القول بتحريم النقل
في أنه لو خالف ووصلت إلى الفقراء فإنها تجزئ عنه لصدق الامتثال وإن أثم باعتبار
المخالفة ، إلا أنك قد عرفت أنه لا دليل على التحريم بل الدليل قائم على خلافه.
الثاني ـ قد صرحوا بأنه لو أخر الدفع مع وجود المستحق
أثم وضمن ، فأما
__________________
(1) الفروع ج 1 ص 157 وفي الوسائل الباب 39 من المستحقين
للزكاة.
(2 و 3) الوسائل الباب 38 من المستحقين للزكاة.
الضمان فلا ريب فيه لما عرفت من
الأخبار المتقدمة ، وأما الإثم فهو مبني على القول بالفورية وعدم جواز التأخير عن
وقت الوجوب ، وأما على القول بجواز التأخير شهرين أو أكثر فلا. وقد تقدم تحقيق
القول في المسألة.
الثالث ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه إذا لم
يجد المالك لها مستحقا فالأفضل عزلها ، بل صرح العلامة في التذكرة باستحبابه متى
حال الحول وإن كان المستحق موجودا.
ويدل على ذلك موثقة يونس بن يعقوب المتقدمة في المسألة
الخامسة وصحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ثمة أيضا (1).
وحسنة عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) : «أنه قال
إذا أخرجها من ماله فذهبت ولم يسمها لأحد فقد برئ منها».
ورواية أبي بصير عن أبي جعفر عليهالسلام (3) قال : «إذا
أخرج الرجل الزكاة من ماله ثم سماها لقوم فضاعت أو أرسل بها إليهم فضاعت فلا شيء
عليه».
والمراد بالعزل هو تعيينها في مال خاص وبذلك تصير من
قبيل الأمانة في يده لا يضمنها إلا بالتفريط أو تأخير الإخراج مع التمكن منه كما
تقدم.
والظاهر أن النماء تابع لها منفصلا كان أو متصلا ، لما
رواه الكليني عن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر عليهالسلام (4) قال : «سألته
عن الزكاة تجب علي في موضع لا يمكنني أن أؤديها؟ قال اعزلها فإن اتجرت بها فأنت
ضامن لها ولها الربح. إلى أن قال وإن لم تعزلها واتجرت بها في جملة مالك فلها
بقسطها من الربح ولا وضيعة عليها». وبذلك يظهر ضعف ما ذهب إليه في الدروس من أن
النماء مع العزل للمالك.
الثامنة ـ إذا أدركته الوفاة وعليه زكاة وجب عليه
إخراجها أو الوصية بها
__________________
(1) ص 229.
(2 و 3) الوسائل الباب 39 من المستحقين للزكاة.
(4) الوسائل الباب 52 من المستحقين للزكاة.
على وجه تثبت شرعا لتوقف الواجب عليه.
ويدل على ذلك الأخبار المستفيضة بوجوبها وأن تاركها معذب
مؤاخذ بها حتى تؤدى عنه (1)
وفي حسنة زرارة بإبراهيم التي هي صحيحة عندي (2) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام رجل لم يزك
ماله فأخرج زكاته عند موته فأداها كان ذلك يجزئ عنه؟ قال نعم. قلت فإن أوصى بوصية
من ثلثه ولم يكن زكى أيجزئ عنه من زكاته؟ قال نعم تحسب له زكاة ولا تكون له نافلة
وعليه فريضة».
والظاهر ـ والله سبحانه أعلم ـ حمل الخبر على أن تلك
الوصية التي أوصى بها من ثلثه داخلة تحت أحد مصارف الزكاة ومن جملتها وأنه متى
صرفت الوصية في ذلك المصرف حسبت له زكاة وإن لم ينوها زكاة لعدم صحة التبرع مع اشتغال
الذمة بالواجب.
وروى الكليني والشيخ في التهذيب عن عباد بن صهيب عن أبي
عبد الله عليهالسلام (3) «في رجل فرط في
إخراج زكاته في حياته فلما حضرته الوفاة حسب جميع ما كان فرط فيه من ما لزمه من
الزكاة ثم أوصى به أن يخرج ذلك فيدفع إلى من تجب له؟ قال جائز يخرج ذلك من جميع
المال إنما هو بمنزلة دين لو كان عليه ليس للورثة شيء حتى يؤدوا ما أوصى به من
الزكاة».
وفي صحيحة شعيب ـ والظاهر أنه العقرقوفي ـ (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام إن على أخي
زكاة كثيرة أفأقضيها أو أؤديها عنه؟ فقال لي وكيف لك بذلك؟ فقلت أحتاط؟ قال نعم
إذا تفرج عنه».
والظاهر أن معنى قوله : «وكيف لك بذلك» أي بالعلم بجميع
ما عليه فقال أحتاط بالزيادة. وفيه دلالة على براءة الذمة بالتبرع بدفع الواجب عن
الميّت.
__________________
(1) الوسائل الباب 1 و 3 من ما تجب فيه الزكاة و 21 و 22 من
المستحقين للزكاة.
(2 و 3) الوسائل الباب 22 من المستحقين للزكاة.
(4) الوسائل الباب 22 من المستحقين للزكاة.
وفي صحيحة علي بن يقطين (1) قال : «قلت
لأبي الحسن الأول عليهالسلام رجل مات وعليه
زكاة فأوصى أن تقضى عنه الزكاة وولده محاويج إن دفعوها أضر ذلك بهم ضررا شديدا؟ قال
يخرجونها فيعودون بها على أنفسهم ويخرجون منها شيئا فيدفع إلى غيرهم».
أقول : الظاهر أنه لا إشكال في جواز صرفها عليهم لأنهم
في تلك الحال غير واجبي النفقة على صاحب الزكاة ، وحينئذ فالأمر بإخراج شيء منها
إلى غيرهم ينبغي حمله على الاستحباب ، مع أنه قد تقدم في الأخبار وكلام الأصحاب ما
يدل على جواز صرفها عليهم في حال حياة الأب أيضا للتوسعة مع الأمر بإخراج شيء
منها لغيرهم
وفي حسنة معاوية بن عمار (2) قال : «قلت له
رجل يموت وعليه خمسمائة درهم من الزكاة وعليه حجة الإسلام وترك ثلاثمائة درهم
وأوصى بحجة الإسلام وأن يقضى عنه دين الزكاة؟ قال يحج عنه من أقرب ما يكون ويخرج
البقية في الزكاة».
وفي رواية أخرى له أيضا عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) «في رجل مات
وترك ثلاثمائة درهم وعليه من الزكاة سبعمائة درهم فأوصى أن يحج عنه؟ قال يحج عنه
من أقرب المواضع ويجعل ما بقي في الزكاة».
وظاهر هذين الخبرين التوزيع كالديون المتعددة مع قصور
التركة وتقديم الحج على الزكاة وأنه يحج عنه من أقرب المواقيت وما بقي يصرف في
الزكاة حتى لو لم يبق شيء بعد الحج.
التاسعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أقل ما
يعطى الفقير من الزكاة ، فقيل إنه لا يعطى أقل من ما يجب في النصاب الأول وهو عشرة
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من المستحقين للزكاة.
(2) الوسائل الباب 21 من المستحقين للزكاة.
(3) الوسائل الباب 42 من الوصايا.
قراريط أو خمسة دراهم ، ونقل عن الشيخ
المفيد والشيخ في جملة من كتبه والسيد المرتضى في الإنتصار ، وهو اختيار المحقق في
المعتبر والشرائع ، ونسبه في المعتبر ـ بعد أن نقله عن الشيخين وابني بابويه ـ إلى
أكثر الأصحاب ، وقيل بجواز الاقتصار على ما يجب في النصاب الثاني وهو درهم أو عشر
دينار قيراطان ، ونسب إلى ابن الجنيد وسلار ونقل أيضا عن المرتضى في المسائل
المصرية ، وقيل لا يجزئ أن يعطى أقل من نصف دينار ، ونقل عن الشيخ علي بن الحسين
بن بابويه وعن ابنه في المقنع أنه يجوز أن يعطى الرجل الواحد الدرهمين والثلاثة
ولا يجوز في الذهب إلا نصف دينار ، وعن المرتضى في الجمل وابن إدريس عدم التحديد
بحد لا يجزئ ما دونه ، وهو المشهور بين المتأخرين.
وأما الأخبار المتعلقة بالمسألة : فمنها ـ صحيحة محمد بن
أبي الصهبان (1) قال : «كتبت
إلى الصادق عليهالسلام هل يجوز لي يا
سيدي أن أعطي الرجل من إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة فقد اشتبه ذلك علي؟
فكتب ذلك جائز». والمراد بالصادق في هذا الخبر أحد العسكريين (عليهماالسلام) فإن الرجل
المذكور من أصحابهما ولعل التعبير وقع تقية.
ومنها ـ صحيحة محمد بن عبد الجبار عن بعض أصحابنا (2) قال : «كتبت
على يدي أحمد بن إسحاق إلى علي بن محمد العسكري عليهالسلام أعطي الرجل من
إخواني من الزكاة الدرهمين والثلاثة؟ فكتب أفعل إن شاء الله تعالى».
ومنها ـ صحيحة أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «سمعته
يقول لا يعطى أحد من الزكاة أقل من خمسة دراهم وهو أقل ما فرض الله من الزكاة في
أموال المسلمين فلا تعطوا أحدا أقل من خمسة دراهم فصاعدا».
ومنها ـ رواية معاوية بن عمار وعبد الله بن بكير عن أبي
عبد الله عليهالسلام (4) قال : «لا
يجوز أن يدفع من الزكاة أقل من خمسة دراهم فإنها أقل الزكاة». والظاهر أنه
__________________
(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 23 من المستحقين للزكاة.
بهذين الخبرين أخذ القائلون بالقول
الأول.
ومنها ـ حسنة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي عن أبي عبد
الله عليهالسلام (1) قال : «كان
رسول الله صلىاللهعليهوآله يقسم صدقة أهل
البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بالسوية وإنما
يقسمها على قدر ما يحضرها منهم وما يرى ليس في ذلك شيء موقت».
ومنها ـ حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «قلت له
ما يعطي المصدق؟ قال ما يرى الإمام ولا يقدر له شيء».
أقول : والمصدق هو الذي يجبي الصدقات بأمر الإمام عليهالسلام وهو أحد
الأفراد التي تصرف فيها الزكاة.
وأنت خبير بأن جملة من متأخري المتأخرين ـ ومنهم السيد
السند في المدارك والفاضل الخراساني في الذخيرة حيث اختاروا القول الأخير ـ حملوا
الخبرين الدالين على أنه لا يجوز أقل من خمسة دراهم على الفضل والاستحباب ، وقد
عرفت ما في هذا الجمع في ما تقدم في غير باب.
ولا يخفى أن الخبرين المذكورين ظاهران بل الثاني صريح في
أنه لا يجوز أن يدفع أقل من ذلك فإخراجهما عن ذلك يحتاج إلى دليل ، ومجرد وجود
المعارض من الأخبار ليس بدليل ولا قرينة توجب ارتكاب التجوز في إخراج الخبرين عن
ظاهريهما.
مع أن المحقق في المعتبر قد نقل أن القول بعدم التقدير
مذهب الجمهور (3) وبذلك أيضا
صرح السيد المرتضى (رضياللهعنه) في كتاب
الإنتصار حيث اختار فيه القول الأول فقال : ومن ما انفردت به الإمامية القول بأنه
لا يعطى الفقير الواحد
__________________
(1) الوسائل الباب 28 من المستحقين للزكاة رقم 1.
(2) الوسائل الباب 23 من المستحقين للزكاة.
(3) البداية ج 1 ص 269 والمجموع شرح المهذب ج 6 ص 189.
من الزكاة المفروضة أقل من خمسة دراهم
، ويروى أن الأقل درهم واحد ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك ويجيزون إعطاء القليل
والكثير من غير تحديد ، وحجتنا على ما ذهبنا إليه إجماع الطائفة وطريقة الاحتياط
وبراءة الذمة. انتهى.
وحينئذ فلقائل أن يقول إن مقتضى القاعدة المقررة عن أهل
العصمة (عليهمالسلام) في اختلاف
الأخبار هو حمل ما دل على عدم التحديد على التقية وهما صحيحة محمد بن أبي الصهبان
وصحيحة محمد بن عبد الجبار.
وأما حمل الشيخ (قدسسره) لهما ومثله
المحقق في المعتبر ـ على أن المعطى من النصاب الثاني والثالث فإنه يجوز إذا أدى ما
في النصاب الأول إلى الفقير أن يعطي ما وجب في النصاب الثاني غيره أو إليه بحيث لا
يعطي أقل من ما وجب في النصاب الذي أخرج منه الزكاة. كذا ذكر في المعتبر ـ فقد رده
المتأخرون عنه بالبعد وهو كذلك ، بل الأظهر هو ما قلناه من الحمل على التقية ،
ولكنهم (رضوان الله عليهم) كما أشرنا إليه في غير موضع من ما تقدم قد أعرضوا عن
العمل بهذه القاعدة المروية فوقعوا في أمثال هذه التكلفات البعيدة.
وأما حسنة عبد الكريم فليست ظاهرة الدلالة في المدعى
لإمكان حملها على عدم البسط ، فإن سياق الرواية من أولها إنما هو الرد على عمرو بن
عبيد المعتزلي ومن معه من العامة القائلين بوجوب البسط (1).
حيث إن صورة الخبر هكذا في احتجاجه عليهالسلام على عمرو بن
عبيد مع من معه (2) قال له «ما
تقول في الصدقة؟ فقرأ عليه : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ...) إلى آخر
الآية. قال عليهالسلام نعم فكيف
تقسمها؟ فقال أقسمها على ثمانية أجزاء فأعطي كل جزء واحدا. قال وإن كان صنف منهم
عشرة آلاف وصنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد ما جعلت
للعشرة آلاف؟ قال نعم. قال
__________________
(1) ارجع إلى التعليقة 1 ص 226.
(2) الوسائل الباب 28 من المستحقين للزكاة.
وتجمع صدقات أهل الحضر وأهل البوادي
فتجعلهم فيها سواء؟ قال نعم. قال فقد خالفت رسول الله صلىاللهعليهوآله في كل ما قلت
في سيرته : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يقسم صدقة أهل
البوادي في أهل البوادي وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر ولا يقسم بينهم بالسوية
وإنما يقسمه على قدر ما يحضره منهم وما يرى ، وليس في ذلك شيء موقت موظف ، وإنما
يصنع ذلك بما يرى على قدر ما يحضره منهم. الحديث».
ومن الجائز بل هو الأنسب بالمقام والسياق أن المراد
بقوله : «ليس في ذلك شيء موقت موظف» إنما هو بالنسبة إلى البسط الذي يدعي الخصم
أنه موقت موظف لا يجوز مخالفته كما يدل عليه قوله بعده «وإنما يصنع ذلك بما يرى»
من التوفير لبعض على بعض بالمرجحات المتقدمة وتقسيمه على من حضر من صنف واحد أو
صنفين أو نحو ذلك.
ولكن الأصحاب في كتب الاستدلال نقلوا من الخبر هذه
العبارة المنقولة في كلامهم وهي بحسب الظاهر موهمة لما يدعونه ، إلا أن سياق الخبر
كما ذكرناه وقرينة المقام ترجح ما اخترناه ، ولا أقل من تساوي الاحتمالين فيسقط
الاستدلال بالخبر من البين.
وأما حسنة الحلبي فهي وإن أوردها جملة من متأخري
المتأخرين في أدلة هذا القول إلا أن فيه أنك قد عرفت أن أصل المسألة التي وقع
الخلاف فيها وجعلوها محلا للنزاع إنما هو الفقير والدفع إليه من حيث الفقر دون
غيره من الأصناف كما هو المفروض في عباراتهم ، ومورد هذه الرواية إنما هو العاملون
الساعون في جمع الصدقات.
على أنه لا يخفى أن إجراء هذا الخلاف بالدرهم والأقل
والأكثر بالنسبة إلى عمال الصدقات والمؤلفة والغارمين والرقاب ونحوهم من ما لا
معنى له بالكلية ، لأنه من الظاهر المعلوم أن هؤلاء من ما لا يقوم بحقوقهم
واستحقاقهم الأضعاف مضاعفة من ما وقع الخلاف فيه كما لا يخفى على المنصف.
وبالجملة فالقول المشهور بين المتقدمين لا يخلو من قوة
ورجحان لما ذكرناه والاحتياط لا يخفى. والله العالم.
وهاهنا فوائد الأولى ـ ظاهر عبارات أكثر الأصحاب (رضوان
الله عليهم) أن هذه التقديرات على سبيل الوجوب وهو ظاهر الخبرين المتقدمين ، وظاهر
كلام العلامة في جملة من كتبه بل صريحه أنه على جهة الاستحباب حتى أنه قال في
التذكرة بعد أن حكم بأنه يستحب أن لا يعطى الفقير أقل من ما يجب في النصاب الأول :
وما قلناه على سبيل الاستحباب لا الوجوب إجماعا. انتهى.
أقول : الظاهر أن ما ذكره (قدسسره) لا يخلو من
نظر فإن مقتضى كلام المتقدمين ودليلهم الذي ذكرناه هو الوجوب ، والاستحباب إنما
صرح به من ذهب إلى القول بعدم التحديد حملا للدليل. المشار إليه على الاستحباب
جمعا كما قدمنا نقله عنهم.
الثانية ـ قد عرفت أن القائلين بالتحديد في القول الأول
حددوا الأقل من نصاب الدراهم بالخمسة دراهم والأقل من نصاب الذهب بنصف دينار وهو
عشرة قراريط ، ولم يصل إلينا في الأخبار ما يتعلق بنصاب الذهب وإنما الموجود فيها
ما تقدم من الدراهم ، والظاهر أن مثل ابني بابويه إنما ذكروا ذلك لخبر وصلهم فيه
ثم إنه على تقدير ما وصل إلينا من الأخبار فيحتمل سقوط
التحديد في غير الدراهم مطلقا كما هو مقتضى الأصل ، ويحتمل اعتبار بلوغ قيمة
المدفوع ذلك ذهبا كان أو غيره ، واختاره شيخنا الشهيد الثاني (قدسسره) وهو الأحوط.
ولو فرض نقص قيمة الواجب عن ذلك كما لو وجب عليه شاة
واحدة لا تساوي خمسة دراهم دفعها إلى الفقير وسقط اعتبار التقدير قطعا.
الثالثة ـ إنما يستحب أو يجب إعطاء الخمسة دراهم إذا بلغ
الواجب ذلك ، فلو أعطى ما في النصاب الأول لواحد ثم وجبت عليه الزكاة في النصاب
الثاني
أخرج زكاته وسقط اعتبار التقدير فيه
كما تقدم في كلام المحقق.
ولو كان عند المالك نصابان أول وثان قال شيخنا الشهيد
الثاني وغيره أنه يجوز إعطاء ما في الأول لواحد وما في الثاني لآخر من غير كراهية
ولا تحريم على القولين.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهم : وهو مشكل لإطلاق
النهي عن إعطاء أقل من الخمسة وإمكان الامتثال بدفع الجميع إلى الواحد. انتهى.
أقول : والذي يقرب بالبال العليل والفكر الكليل أن
الخبرين الواردين بالتحديد بالخمسة دراهم إنما خرجا بناء على ما هو الغالب المتكرر
في الزكوات من اجتماع مبلغ يعتد به يراد قسمته على الفقراء والمساكين ، فينبغي أن
يقسم عليهم على وجه لا ينقص أحد منهم عن خمسة دراهم التي هي أول ما تجب في الزكاة
لا باعتبار نصاب واحد أو نصابين ونحو ذلك من الفروض النادرة. والله العالم.
العاشرة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب
الدعاء على الإمام عليهالسلام والساعي لصاحب
الزكاة بعد قبضها منه واستحبابه ، فقيل بالوجوب وبه صرح العلامة في الإرشاد ،
والمحقق في المعتبر اختار الوجوب إلا أنه خص ذلك بالإمام وهو المنقول عن الشهيد في
الدروس ، وقيل بالاستحباب وبه صرح جمع من الأصحاب.
ومن قال بالوجوب استند إلى ظاهر الآية وهي قوله عزوجل «خُذْ
مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ» (1).
ولا يخفى أن البحث عن ذلك بالنسبة إلى النبي صلىاللهعليهوآله والإمام عليهالسلام قليل الجدوى
فإنهم (عليهمالسلام) أعرف بما يجب
أو يستحب ، وإنما الكلام في الساعي والفقيه والمستحق ، والآية المذكورة غير ظاهرة
الدلالة في شمولهم ولا دليل سواها في الباب ، والأصل العدم ، ويؤيده خلو الرواية
الواردة عن أمير المؤمنين
__________________
(1) سورة التوبة الآية 105.
عليهالسلام (1) بإرسال ساعيه
لأخذ الزكاة من ذلك مع اشتمالها على كثير من الآداب والسنن والأحكام ، وظاهر
الأصحاب استحباب ذلك. وفيه أنه من حيث التوقيف في المقام مشكل لعدم الدليل وإن كان
الدعاء للمؤمنين مستحبا بقول مطلق
الحادية عشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه
لو اجتمع للمستحق أسباب توجب الاستحقاق مثل كونه فقيرا وغارما ومكاتبا فإنه يجوز
أن يعطى بكل سبب نصيبا.
ولم أقف لهم على دليل إلا أن يكون دعوى صدق هذه
العنوانات عليه من كونه فقيرا وغارما ونحو ذلك فيدخل تحت عموم الآية (2).
وفيه أنه لا يخفى أن المتبادر من الآية إنما هو الشائع
المتكثر من تعدد هذه الأفراد ولهذا صارت أصنافا ثمانية باعتبار مقابلة كل منها
بالآخر. وأيضا فإنه متى أعطي من حيث الفقر ما يغنيه ويزيده على غناه فكيف يعطى من
حيث الغرم والكتابة المشروطين ـ كما تقدم ـ بالعجز عن الأداء؟ وبالجملة فالحكم
عندي محل توقف لعدم الدليل عليه.
الثانية عشرة ـ الظاهر أنه لا خلاف فيما لو دفع إليه مال
من الزكاة ليفرقه في المستحقين وكان من جملتهم أنه يجوز له أن يأخذ كنصيب أحدهم ما
لم يعلم التخصيص بغيره.
وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار : منها ـ صحيحة سعيد بن
يسار (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام الرجل يعطى
الزكاة يقسمها في أصحابه أيأخذ منها شيئا؟ قال نعم».
وحسنة الحسين بن عثمان بإبراهيم بن هاشم عن أبي إبراهيم عليهالسلام (4) «في رجل أعطي
مالا يفرقه في من يحل له أله أن يأخذ منه شيئا لنفسه وإن لم يسم له؟ قال يأخذ
__________________
(1) وهي صحيحة بريد المتقدمة ص 51.
(2) وهي قوله تعالى «إِنَّمَا
الصَّدَقاتُ ...» سورة التوبة الآية 61.
(3 و 4) الوسائل الباب 40 من المستحقين للزكاة.
منه لنفسه مثل ما يعطي غيره».
وموثقة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليهالسلام (1) «في رجل أعطاه
رجل مالا ليقسمه في المساكين وله عيال محتاجون أيعطيهم منه من غير أن يستأمر صاحبه؟
قال نعم».
وأما ما رواه في التهذيب بهذا الإسناد (2) ـ قال : «سألته
عن رجل أعطاه رجل مالا ليقسمه في محاويج أو مساكين وهو محتاج أيأخذ منه لنفسه ولا
يعلمه؟ قال لا يأخذ منه شيئا حتى يأذن له صاحبه». ـ فحمله الشيخ على محامل أقربها
الكراهة واحتمل بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) حمله أيضا على ما إذا علم أن مراده
غيره أو الأخذ زيادة على غيره.
وهذه المحامل وإن كانت لا تخلو من بعد إلا أنها لا
مندوحة عنها في مقام الجمع إذ ليس بعدها إلا طرح الخبر لرجحان ما عارضه بالكثرة ،
مضافا إلى اتفاق الأصحاب ظاهرا على ذلك.
ختام به الإتمام
اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ميراث العبد
المشترى من الزكاة إذا مات ولا وارث له هل يكون ميراثه للإمام عليهالسلام أو لأرباب
الزكاة؟ قولان المشهور الثاني وقيل بالأول وهو منقول عن بعض القدماء إلا أنه مجهول
القائل ، واختاره العلامة في الإرشاد والقواعد وولده في الشرح.
حجة المشهور موثقة عبيد بن زرارة (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أخرج
زكاة ماله ألف درهم فلم يجد لها موضعا يدفع ذلك إليه فنظر إلى مملوك يباع في من
يزيد فاشتراه بتلك الألف التي أخرجها من زكاته فأعتقه هل يجوز له ذلك؟ قال نعم لا
بأس بذلك : قلت فإنه لما أن أعتق وصار حرا اتجر
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 84 من ما يكتسب به.
(3) الوسائل الباب 43 من المستحقين للزكاة.
واحترف فأصاب مالا ثم مات وليس له
وارث فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال يرثه الفقراء المؤمنون الذين يستحقون
الزكاة لأنه إنما اشترى بمالهم».
حجة القول الآخر على ما نقل أن الرقاب أحد مصارف الزكاة
فيكون سائبة ، قال المحقق في المعتبر بعد الحكم بأن ميراثه لأرباب الزكاة وإسناد
ذلك إلى علمائنا : ويمكن أن يقال لا يرثه الفقراء لأنهم لا يملكون العبد المبتاع
بمال الزكاة لأنه أحد مصارفها فيكون كالسائبة. وتضعف الرواية لأن في طريقها ابن
فضال وهو فطحي وعبد الله بن بكير وفيه ضعف ، غير أن القول بها عندي أقوى لمكان
سلامتها من المعارض وإطباق المحققين منا على العمل بها. انتهى.
وتوقف العلامة في المختلف في المسألة من أجل ما ذكر هنا.
أقول : والتحقيق في المقام بما لم يسبق إليه سابق من
علمائنا الأعلام إن يقال : لا ريب أن كلا من القولين المذكورين لا يخلو من النظر
والإشكال ، وذلك لأنهم متفقون على أن الشراء في الصورة المذكورة من سهم الرقاب ،
فإنهم كما تقدم في المسألة فصلوا صنف الرقاب إلى ثلاثة أقسام : أحدها المكاتبون.
وثانيها العبيد تحت الشدة. وثالثها العبيد مع عدم وجود المستحق ، واستدلوا على
القسم الثالث بموثقة عبيد المذكورة.
وحينئذ فوجه الإشكال في القول المشهور هو أنه إذا كان
المفروض الشراء من سهم الرقاب الذي هو أحد الأصناف الثمانية التي اشتملت عليها
الآية ـ وليس فيه مدخل ولا تعلق للفقراء بالكلية وإلا فلا معنى لقسمة الزكاة في
الآية على الأصناف الثمانية المؤذن بمغايرة كل منها للآخر كما هو ظاهر ـ فكيف ترثه
الفقراء لأنه اشترى من مالهم ، وأي مال للفقراء في سهم الرقاب كما هو ظاهر لذوي
الأفهام والألباب فاللازم إما كون الشراء ليس من سهم الرقاب كما زعموه وإنما هو من
الزكاة بقول مطلق كما هو أحد القولين في المسألة على ما تقدم ذكره ، وهذا هو ظاهر
الرواية المذكورة وغيرها من الروايات المتقدمة في تلك المسألة ، أو كون الشراء من
سهم
الرقاب كما ادعوه ، ولكن لا دليل عليه
فإن هذه الرواية لا تنطبق على ذلك كما عرفت
ويؤيد ما قلناه قوله عليهالسلام في رواية أبي
بصير (1) التي استدلوا
بها أيضا على القسم الثاني وهو شراء العبيد تحت الشدة «إذا يظلم قوما آخرين حقوقهم»
وأي ظلم في إعطاء أهل هذا الصنف من سهمهم على أولئك الآخرين الذين هم باقي الأصناف
مع أن البسط غير واجب عندنا بل يجوز صرف الزكاة كملا في صنف واحد بل في واحد من أي
الأصناف.
وبالجملة فإن الاستدلال بهذين الخبرين على هذين الفردين
وأنهما من سهم الرقاب تعسف محض وخروج عن مقتضى الأصول المقررة عندهم.
ووجه الإشكال في القول الثاني أنه لا ريب في صحة ما ذكره
ذلك القائل من كونه متى اشتري من سهم الرقاب فإنه يكون سائبة ويكون ميراثه للإمام عليهالسلام كما هو مقتضى
القواعد الشرعية والضوابط المرعية ، إلا أن استدلال هذا القائل المذكور على هذا
الحكم بهذه الموثقة الدالة على أن ميراثه للفقراء لا يوافق مدعاه كما عرفت ،
فالواجب عليه تحصيل دليل يدل على أنه يجوز أن يشترى العبد من سهم الرقاب ويعتق
ليتم له ما ذكره وإلا فالقول بذلك من غير دليل باطل مردود عند ذوي التحصيل ، ونحن
لم نقف لهم على دليل إلا ما يدعونه من هاتين الروايتين وفيهما من الإشكال ما قد
عرفت رأي العين.
وقد عرفت من ما قدمنا في تلك المسألة أن الذي وردت به
النصوص عن أهل الخصوص (عليهمالسلام) في تفسير
الرقاب في الآية إنما هو المكاتبون أو قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ أو في
الظهار أو في الأيمان أو في قتل الصيد كما في رواية علي بن إبراهيم (2) وأما هذه
الأخبار فلا دلالة فيها على أزيد من أنه يشترى من الزكاة بقول مطلق ، وحمل ذلك على
سهم الرقاب ـ مع كونه لا دليل في
__________________
(1) الوسائل الباب 43 من المستحقين للزكاة وقد تقدمت ص 181.
(2) ص 181 و 182.
تلك الأخبار عليه بل ولا أدنى إشارة
إليه ـ مدافع لما دل عليه بعضها من مسألة الميراث كما ذكرناه وما دل عليه الآخر من
كونه يظلم قوما آخرين حقوقهم كما أوضحناه ، بل التحقيق كما قدمنا ذكره في تلك
المسألة أن جملة هذه الأخبار الدالة على شراء العبد من الزكاة وعتقه كخبر أبي بصير
وخبر عبيد بن زرارة وخبر أيوب وخبر الوابشي المتقدم جميع ذلك (1) إنما خرجت
مخرج الرخصة في جواز ذلك من غير أن يكون ذلك داخلا تحت شيء من الأصناف الثمانية
كما ذهب إليه جملة من الأصحاب المتقدم ذكرهم ثمة ، وهذه الأخبار ظاهرة الدلالة على
هذا القول.
والعجب من صاحب المعتبر وما في كلامه من التناقض الذي
أغمض عنه النظر ، فإنه لا ريب في أن ما ذكره ـ من أن العبد المبتاع بسهم الرقاب
كالسائبة وأن الفقراء لا مدخل لهم فيه بوجه هو الموافق للقواعد الشرعية ، وبمقتضى
ذلك فميراثه للإمام عليهالسلام فمن أين جاز
له الخروج عن ذلك والرواية لا دلالة فيها على أزيد من كونه اشتري من مال الزكاة
بقول مطلق؟ نعم ما زعموه من كون العبد يجوز ابتياعه من سهم الرقاب لا دليل عليه
كما عرفت ولكن مع الإغماض عن الدليل فإن القول بذلك يلزم منه ما ذكرناه. وقول
المحققين بمضمون الرواية إن قصدوا به كون ذلك من سهم الرقاب فهم محجوجون بما ذكرنا
، وإن أرادوا به من الزكاة مطلقا كما هو القول المشار إليه آنفا فلا حجة له فيه كما
عرفت.
وبالجملة فإن كلامهم في هذه المسألة لا يخلو من تناقض
واضطراب ومنه يظهر وجه توقف العلامة في المختلف في هذه المسألة ولنعم ما فعل.
نعم يبقى الكلام في أن الميراث هل هو مخصوص بالفقراء
والمساكين كما تدل عليه رواية عبيد بن زرارة أو يكون لجميع أرباب الزكاة كما تدل
عليه صحيحة أيوب بن الحر المروية في كتاب العلل وقد تقدمت في تلك المسألة (2)؟ إشكال وعبائر
الأصحاب أيضا في هذا المقام بعضها اشتمل على كونه للفقراء والمساكين
__________________
(1) ص 181 و 182 و 183.
(2) ص 182.
وبعضها اشتمل على كونه لأرباب الزكاة.
والعلامة في المختلف بعد أن نقل عبارة الشيخ المفيد الدالة على التخصيص بالفقراء
والمساكين من المؤمنين ، قال : والظاهر أن مراده ليس تخصيص الفقراء والمساكين بل
أرباب الزكاة أجمع لأن التعليل يعطيه.
ووجه الجمع بين الخبرين المذكورين ممكن بأحد وجهين :
أولهما ـ أن يقال إن الميراث إنما هو لجميع أرباب الزكاة كما هو ظاهر كلام الأكثر
وإن ذكر الفقراء في موثقة عبيد بن زرارة إنما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، فإنه
لما كان أصل مال الزكاة مشتركا بين الأصناف الثمانية ـ وكان الشراء على هذا الوجه
خارجا عن الأصناف المذكورة كما عرفت ـ كان ما اشتري بذلك من مال الأصناف المذكورة
، فميراثه حينئذ يرجع إليهم بالولاء لأنه من مالهم.
وثانيهما ـ ولعله الأظهر ـ أن يقال إن ظاهر رواية عبيد
المذكورة كون المال المشترى به إنما هو من سهم الفقراء خاصة ، لحكمه عليهالسلام بكون ميراثه
للفقراء خاصة وتعليله ذلك بأنه اشتري بمالهم ، وإلا فلو كان إنما اشترى بالمال
المشترك بين الأصناف الثمانية لم يكن لتخصيصه بالفقراء وجه ظاهر لأن نسبته إلى
الأصناف بالسوية ، وحينئذ فيمكن بمعونة ما ذكرناه أن يقال إن المراد من صدر الخبر
أن صاحب الزكاة قد خص هذه الألف الدرهم التي أخرجها زكاة ماله بالفقراء لأنها أحد
الأصناف والبسط عندنا غير واجب ولما لم يجدهم كما تضمنه الخبر اشترى بها العبد
المذكور وأعتقه ثم سأل الإمام عليهالسلام عن ذلك
فأجازه. هذا هو الذي ينطبق عليه عجز الخبر بلا تمحل وإشكال.
وحينئذ فوجه الجمع بين الخبرين المذكورين هو حمل الشراء
في موثقة عبيد على الشراء من سهم الفقراء بالتقريب الذي ذكرناه ، وبذلك يكون
الميراث للفقراء لأنه من مالهم ، وحمل صحيحة أيوب على أن الشراء وقع بالمال
المشترك من غير قصد لتخصيصه بصنف من الأصناف ، فإنه يكون الميراث حينئذ لجميع
أرباب الزكاة لأنه قد اشتري بمالهم ،
والفارق في المقامين هو قصد المشتري ونيته ولا بعد في ذلك فإن العبادات بل الأفعال
كملا تابعة للقصود والنيات صحة وبطلانا وثوابا وعقابا وتعددا واتحادا ونحو ذلك ، ألا
ترى أنه لو قصد صرف زكاته كملا في سبيل الله الذي هو عبارة عن جميع الطاعات والقربات
كما هو الأشهر الأظهر ثم إنه اشترى بها عبدا وأعتقه فإنه لا إشكال في كونه سائبة
وأن ميراثه للإمام عليهالسلام ولا ريب في
قوة هذا الاحتمال وعليه تجتمع الأخبار بلا إشكال.
بقي الكلام في أنه على تقدير كون الشراء بمال الزكاة لا
بقصد صنف مخصوص وكون الميراث حينئذ لأرباب الزكاة كما ذكره عليهالسلام في خبر أيوب
فهل يكون قسمة هذا الميراث بينهم على حسب قسمة المواريث من وجوب بسطه عليهم كملا
أو يكون حسب قسمة الزكاة من جواز تخصيص بعض الأصناف به؟ إشكال ينشأ من احتمال كونه
في حكم الزكاة لأنه فرع عليها والشركة في الزكاة ليست باعتبار وجوب البسط وإنما هي
باعتبار التخيير بين تلك الأصناف وأفرادها ، ومن أن الأصل في الشركة لغة وعرفا
وشرعا هو وجوب التقسيط والبسط بين الشركاء ، قام الدليل بالنسبة إلى الزكاة على
عدم وجوب البسط وبقي ما عداه على حكم الأصل وهذا ليس زكاة ، وقيام الدليل في
الزكاة لا يستلزم إجراءه في ما نحن فيه.
وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف وإشكال وإن كان للاحتمال الأخير نوع رجحان. ولم أقف على من تعرض لذلك ولا نبه عليه أحد من أصحابنا (رضوان الله عليهم) والله العالم بحقائق أحكامه.