ج3 - غايات الجنابة

المقصد الثاني

في الغاية والمراد بها ما لا يستباح فعله الا بالغسل ، ومنها الواجب أصالة أو بعارض فيجب المغيا بها ، ومنها ما ليس كذلك فيكون شرطا في استباحته ، وهي أمور :

(الأول) ـ الصلاة وهي ان كانت واجبة فوجوب الغسل لها مما انعقد عليه الإجماع فتوى ودليلا آية ورواية.

لكن الوجوب هنا محتمل لمعنيين : (أحدهما) ـ ان المراد وجوب الغسل بمعنى أمر الشارع به امرا حتميا يترتب على مخالفته الإثم للصلاة ، وهذا انما يتم بقوله :


«اغتسل للصلاة» ونحوه مما يؤدي هذا المعنى.

و (ثانيهما) ـ ان المراد شرطيته لها بمعنى انها لا تصح بدونه.

وغاية ما يستفاد من الأدلة آية ورواية هو الثاني ، وهذا هو القدر الثابت بالضرورة من الدين.

اما الآية وهي قوله سبحانه : «... إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، الى قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (1) فدلالتها على المعنى الأول مبني على عطف قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً» على جزاء الشرط الذي هو جملة «فَاغْسِلُوا» ودخولها في حيز «إِذا قُمْتُمْ» الا انه يحتمل العطف على جملة «إِذا قُمْتُمْ» وحينئذ فلا دلالة فيها. وفيه (أولا) ـ ان العطف ب «ان» دون «إذا» يأبى ذلك. و (ثانيا) ـ ان قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى» وما بعده الواقع بعد قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً» مندرج تحت الشرط البتة ، فلو كان قوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً» الذي هو متوسط بينهما معطوفا على قوله : «إِذا قُمْتُمْ» أو كان مستأنفا لم يتناسق المتعاطفان ، وللزم ان لا يستفاد الارتباط بين الغسل والصلاة من الآية ، والمعلوم من الاخبار خلافه ، ومن هنا يستفاد من الآية الوجوب الغيري كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. الا انه قد تقدم في موثقة ابن بكير (2) تفسير القيام إلى الصلاة بالقيام من حدث النوم ، مع الإجماع المنقول عن المفسرين على هذا المعنى ، وحينئذ فوجوب الغسل للصلاة في غير الصورة المذكورة يرجع فيه الى السنة المطهرة ، أو يضم الى ذلك تنقيح المناط القطعي ، للجزم بعدم مدخلية النوم في ذلك الا من حيث أغلبية تأخير الغسل الواقع سببه ليلا الى الصبح ، وذلك لا مدخل له في ترتب وجوب الغسل على الصلاة.

ومما يدل من الاخبار على ذلك روايات متفرقة في جزئيات الأحكام المرتبطة

__________________

(1) سورة المائدة الآية 8 و 6.

(2) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء.


بذلك ، و (منها) ـ قوله (عليه‌السلام) في رواية زرارة (1) في من ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة حتى دخل في الصلاة : «... وان رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة.». و (منها) ـ قوله (عليه‌السلام) في رواية الحلبي (2) في من أجنب في شهر رمضان فنسي أن يغتسل حتى خرج الشهر : «عليه ان يغتسل ويقضي الصلاة والصيام». و (منها) ـ قوله (عليه‌السلام) في رواية الحسن الصيقل (3) في من تيمم وقام يصلى فمر به نهر وقد صلى ركعة : «فليغتسل وليستقبل الصلاة». الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.

(الثاني) ـ الطواف وسيأتي الكلام عليه بقسميه ان شاء الله تعالى في كتاب الحج

(الثالث) ـ مس كتابة القرآن ، وهو ان كان واجبا فالغسل له واجب والا فهو شرط في استباحته. وكل منهما مبني على تحريم المس على المحدث حدثا أكبر ، والظاهر انه إجماعي كما نقله غير واحد من معتمدي الأصحاب ، بل نقل في المعتبر والمنتهى انه إجماع علماء الإسلام ، ونقل عن العلامة في النهاية انه لا خلاف هنا في تحريم المس وان وقع الخلاف في الحدث الأصغر. ونقل الشهيد في الذكرى عن ابن الجنيد القول بالكراهة ، وذكر انه كثيرا ما يطلق الكراهة ويريد التحريم فينبغي ان يحمل كلامه عليه. وهو جيد فإن إطلاق الكراهة في كلام المتقدمين كما في الاخبار شائع. واما نقل ذلك عن المبسوط كما في المدارك فقد رده جمع ممن تأخر عنه بأنه سهو وانه انما صرح بذلك في الحدث الأصغر واما الأكبر فقد صرح فيه بالتحريم ، وجنح في المدارك بعد نقل القول بالكراهة عن ابن الجنيد والمبسوط الى ذلك زاعما ضعف الأدلة سندا ودلالة. وتحقيق البحث في هذه المسألة وفروعها قد تقدم مستوفى في المطلب الثاني من الباب الثاني (4)

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الجنابة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 39 من أبواب الجنابة.

(3) المروية في الوسائل في الباب 21 من أبواب التيمم.

(4) ج 2 ص 122.


الا انه نقل هنا عن السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) تحريم مس هامش القرآن للجنب والحائض ، ولم نقف له على دليل ، وربما استدل له على ذلك بحسنة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة.». ورواية إبراهيم بن عبد الحميد عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (2) قال : «المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمسه خطه ولا تعلقه.». ولا يخفى ما فيهما من قصور الدلالة على ذلك.

(الرابع) ـ مس ما عليه اسم الله تعالى من دراهم وغيرها ، وقد وقع في كلام جملة من الأصحاب التعبير بمثل ما ذكرنا الا ان الظاهر ان المراد من ذلك مس نفس الاسم كما هو صريح المحقق (رحمه‌الله تعالى) في المعتبر ، حيث قال : «ويحرم عليه مس اسم الله سبحانه ولو كان على درهم أو دينار أو غيرهما» والمعروف من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف هو التحريم.

واستدل عليه في المعتبر بموثقة عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «لا يمس الجنب درهما ولا دينارا عليه اسم الله».

وطعن جملة من متأخري المتأخرين في الخبر المذكور بضعف السند ومعارضته بما رواه في المعتبر من كتاب الحسن بن محبوب عن خالد عن ابي الربيع عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) «في الجنب يمس الدراهم وفيها اسم الله واسم رسوله؟ قال : لا بأس به ربما فعلت ذلك».

ومما يعضد موثقة عمار ظاهر القرآن من قوله سبحانه : «... وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» (5) الدال ظاهرا على ان عدم التعظيم صادر عن عدم التقوى

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الوضوء.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة.

(5) سورة الحج الآية 31.


لما قيل من ان علة النقيض نقيض العلة.

وظاهر حسنة داود بن فرقد عنه (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن التعويذ يعلق على الحائض. قال نعم لا بأس. قال وقال : تقرأه ولا تكتبه ولا تصيبه يدها».

ورواية منصور بن حازم (2) الدالة على ان جواز تعليق التعويذ على الحائض مشروط بما إذا كان في جلد أو فضة أو قصبة أو حديد لئلا يستلزم مس الكتابة.

ومما يعضد رواية أبي الربيع ايضا ما رواه في المعتبر من جامع البزنطي عن محمد ابن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته هل يمس الرجل الدرهم الأبيض وهو جنب. فقال : اي والله اني اوتى بالدرهم فآخذه واني لجنب. وما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا الا ان عبد الله بن محمد كان يعيبهم عيبا شديدا ، يقول جعلوا سورة من القرآن في الدرهم فيعطى الزانية وفي الخمر ويوضع على لحم الخنزير». وقوله : «وما سمعت أحدا. إلخ» يحتمل لان يكون من كلام الامام (عليه‌السلام) وان يكون من كلام محمد بن مسلم ، والأول أظهر ، وبه يقوى الاستدلال بالخبر على الجواز.

وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن الجنب والطامث يمسان بأيديهما الدراهم البيض. قال : لا بأس».

ويمكن الجمع بحمل موثقة عمار على مس نفس الاسم وان عبر عنه بمس الدرهم والدينار كما وقع في جملة من عبائر الأصحاب ، وخبر ابي الربيع على مس الدرهم من غير تعد الى الاسم الذي عليه. واما العمل بروايات الجواز لموافقتها الأصل وحمل ما دل على المنع على الكراهة فظني بعده ، إذ نسبته (عليه‌السلام) ذلك الى نفسه في رواية أبي الربيع مما يبعد ذلك. وكيف كان فسبيل الاحتياط واضح.

والحق جملة من الأصحاب تبعا للشيخين (قدس‌سرهما) باسمه سبحانه أسماء

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب الحيض.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 18 من أبواب الجنابة.


الأنبياء والأئمة (عليهم‌السلام) ولم نقف له على مستند ولعله مجرد التعظيم. والله اعلم.

(الخامس) ـ دخول المسجدين ولو اجتيازا ، ولا خلاف فيه بين الأصحاب (نور الله تعالى مراقدهم) فيما اعلم.

ويدل عليه حسنة جميل (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال : لا ولكن يمر فيها كلها إلا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله)». وروايته الأخرى (2) ورواية محمد بن حمران (3) وحسنة محمد بن مسلم (4).

ونقل في الذكرى عن الصدوقين والمفيد انهم أطلقوا المنع عن دخول المساجد الا اجتيازا ، وربما أشعر ذلك بجواز الاجتياز في المسجدين ، وهو ضعيف بما ذكرنا من الاخبار

بقي هنا شي‌ء لم يتنبه له لأصحاب (رضوان الله عليهم) فيما وقفت عليه من كتبهم وهو جواز دخول مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) له وللمعصومين من آله (صلوات الله عليهم) مع الجنابة بل اللبث فيه وان ذلك من جملة خصائصهم.

فمما وقفت عليه من الاخبار في ذلك ما رواه الصدوق في كتاب المجالس بسنده فيه عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) (5) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : لا يحل لأحد ان يجنب في هذا المسجد إلا انا وعلي وفاطمة والحسن والحسين ومن كان من أهلي فإنه مني».

وما رواه فيه ايضا وفي كتاب عيون اخبار الرضا (عليه‌السلام) (6) في حديث طويل عنه (عليه‌السلام) قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : ألا ان هذا المسجد لا يحل لجنب الا لمحمد وآله».

وما رواه في كتاب العلل (7) بسنده الى ابي رافع قال : «ان رسول الله (صلى

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.


الله عليه وآله) خطب الناس فقال : ايها الناس ان الله أمر موسى وهارون ان يبنيا لقومهما بمصر بيوتا وأمرهما ان لا يبيت في مسجدهما جنب ولا يقرب فيه النساء إلا هارون وذريته ، وان عليا مني بمنزلة هارون من موسى ، ولا يحل لأحد ان يقرب النساء في مسجدي ولا يبيت فيه جنب الا على وذريته.».

ورواه فيه (1) ايضا بسند آخر قريبا من ذلك وقال فيه : «ثم أمر موسى ان لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله جنب إلا هارون وذريته ، وان عليا مني بمنزلة هارون من موسى وهو أخي دون أهلي ، ولا يحل لأحد ان ينكح فيه النساء الا علي وذريته.».

وفيها زيادة على ما ذكرنا حل النكاح لهم فيه فضلا عن الدخول بالجنابة وما رواه في تفسير الامام (عليه‌السلام) (2) روى عن آبائه (عليهم‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حديث سد الأبواب انه قال : «لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان ببيت في هذا المسجد جنبا الا محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والمنتجبون من آلهم الطيبون من أولادهم.

(السادس) ـ اللبث فيما عدا المسجدين من المساجد ، والظاهر ان الحكم موضع وفاق بين الأصحاب ما عدا سلار حيث نقل عنه القول بالكراهة.

ويدل على المشهور قوله سبحانه : «... وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ ...» (3) المفسر في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) المروية في كتاب العلل (4) بذلك حيث قالا : «قلنا له : الحائض والجنب يدخلان المسجد أم لا؟ فقال : الجنب والحائض لا يدخلان المسجد الا مجتازين ، ان الله تبارك وتعالى يقول : ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا. الحديث».

ورواه العياشي في تفسيره عن الباقر (عليه‌السلام) والثقة الجليل علي بن إبراهيم

__________________

(1 و 2 و 4) رواه في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.

(3) سورة النساء الآية 43.


القمي في تفسيره عن الصادق (عليه‌السلام) وبه يظهر لك ضعف كلام بعض فضلاء متأخري المتأخرين حيث قال : «واما الاستدلال بالآية فمشكل ، لعدم تعين هذا المعنى فيه واحتمال غير ذلك كما عرفت سابقا» انتهى. وفيه ان الاحتمالات المذكورة في كلام سائر المفسرين لا تعارض تفسير أهل البيت (عليهم‌السلام) سيما مع صحة سند الرواية وتعدد الناقل لها عنهم (عليهم‌السلام) إذ القرآن عليهم انزل وإليهم يرجع فيما أبهم منه وأجمل.

ويدل على ذلك أيضا الأخبار المستفيضة ، ومنها ـ حسنة جميل المتقدمة (1) والروايات الأخر التي بعدها واخبار أخر طوينا ذكرها.

ولم نقف لسلار على دليل سوى التمسك بالأصل ، ولا ريب في ضعف التمسك به بعد ما عرفت.

وربما يستدل له بصحيحة محمد بن القاسم (2) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال : يتوضأ ولا بأس ان ينام في المسجد ويمر فيه».

وفيه (أولا) ـ انها أخص من المدعى. و (ثانيا) ـ انها مخالفة للآية والرواية المستفيضة فيجب طرحها ، قال في المعتبر بعد نقلها : «انها متروكة بين أصحابنا لأنها منافية لظاهر التنزيل» واحتمل بعض الأصحاب حملها على التقية لموافقتها لمذهب بعض العامة. وهو جيد فإنه منقول عن احمد بن حنبل (3) حيث قال : «إذا توضأ الجنب جاز ان يقيم في المسجد كيف شاء» بل لو لم ينقل القول بذلك عن أحد منهم فالحمل على التقية متعين كما نبهنا عليه غير مرة.

__________________

(1) ص 49.

(2) المروية في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.

(3) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 146 «إذا توضأ الجنب له اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق ، وقال أكثر أهل العلم لا يجوز للآية والخبر» ثم استدل على ذلك بالإجماع المستفاد من حديث زيد بن أسلم وانه مخصص للعموم وبوجه اعتباري.


واما حمل المحدث الكاشاني في الوافي ـ التوضؤ المأمور به على تطهير البدن بالغسل ـ فظني بعده.

وظاهر الصدوق (قدس‌سره) في الفقيه القول بمضمون الرواية المذكورة ، حيث قال : «ولا بأس ان يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب ، الى ان قال : وينام في المسجد ويمر فيه» ومثله في المقنع ، وظاهره تخصيص الإباحة بالنوم من افراد اللبث ، ولم يذكر التوضؤ الذي في الرواية.

وكيف كان فهو محجوج بالآية والرواية المستفيضة ، فروايته مطروحة لمخالفتها القرآن الذي هو المحكم في الاخبار عند تعارضها ، بل مع عدم التعارض ايضا كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب ، وضعفها عن معارضة ما ذكرنا من الاخبار.

وبذلك يظهر لك ما في كلام بعض محققي متأخري المتأخرين ، حيث قال ـ بعد نقل الرواية المذكورة ونقل كلام المعتبر واحتمال الحمل على التقية ـ ما صورته : «ولا يذهب عليك انه لو لم تكن الشهرة العظيمة بين الأصحاب لأمكن الجمع بين الروايات بحمل ما تقدم على الكراهة وبحمل هذه الرواية على نفي الحرمة ، لكن الاولى اتباع الشهرة» انتهى.

ولا أراك في شك من ضعف هذا الكلام ان أحطت خبرا بالقواعد المقررة عن أهل الذكر (عليهم‌السلام) والعجب منه (قدس‌سره) ومن أمثاله انهم يعتمدون على الشهرة بين الأصحاب ويلتجؤون إليها في جميع الأبواب ، ويتركون الشهرة في الأخبار التي هي أحد المرجحات المروية في هذا المضمار ، ويبنون في الجمع بين الاخبار على ارتكاب المجاز في الأمر والنهى. وفيه ـ مع انه لا مستند له في الشريعة ـ انه لا قرينة ثمة لتكون الوسيلة الى ذلك والذريعة ، وقد تقدم لك في مقدمات الكتاب ما في البناء على هذه القاعدة من الاضطراب.

بقي هنا شي‌ء وهو ان المحرم هنا انما هو اللبث اما الاجتياز فهو جائز بالآية


والرواية ، لكن هل المراد بالاجتياز ان يدخل من باب ويخرج من آخر ، أو يشمل الدخول والخروج من باب واحد من غير لبث ولا تردد ، أو يشمل التردد مغدا ومجيئا في نواحي المسجد؟ المقطوع به من ظاهر الآية والرواية الواردة في تفسيرها هو الأول ، وفي شمولها للثاني احتمال ليس بذلك البعيد ، واما الثالث فالظاهر القطع بعدمه ، وبه صرح العلامة على ما نقل عنه ، لكن في رواية العلل المشار إليها آنفا (1) قال : «للجنب ان يمشي في المساجد كلها ولا يجلس فيها الا المسجد الحرام ومسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله)». والظاهر ان إطلاقها يحمل على ما افاده غيرها من التقييد.

وألحق جملة من متأخري أصحابنا بالمساجد الضرائح المقدسة والمشاهد المشرفة ، ورده جملة من متأخري المتأخرين بعدم المستند الموجب للتحريم.

أقول : ويمكن الاستدلال عليه بظاهر آية تعظيم شعائر الله (2) وبالأخبار الدالة على عدم جواز دخول الجنب بيوتهم احياء ، ولا ريب ان حرمتهم أمواتا كحرمتهم احياء

ومن تلك الاخبار ما رواه الصفار في كتاب بصائر الدرجات (3) في الصحيح عن بكر بن محمد قال : «خرجنا من المدينة نريد أبا عبد الله (عليه‌السلام) فلحقنا أبو بصير خارجا من زقاق وهو جنب ونحن لا نعلم حتى دخلنا على أبي عبد الله (عليه‌السلام) فرفع رأسه الى ابي بصير فقال : يا أبا محمد أما تعلم انه لا ينبغي لجنب ان يدخل بيوت الأنبياء؟ قال : فرجع أبو بصير ودخلنا». ومثله روي في كتاب قرب الاسناد.

وروى الكشي في كتاب الرجال (4) بسنده عن بكير قال : «لقيت أبا بصير فقال اين تريد؟ فقلت : أريد مولاك. قال انا أتبعك. فمضى فدخلنا عليه ، واحد

__________________

(1) ما ذكره انما هو نص رواية جميل المشار إليها ص 49 بقوله : وروايته الأخرى. ولعل لفظ (العلل) من غلط النساخ.

(2) سورة الحج الآية 33.

(3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 16 من أبواب الجنابة.


النظر اليه وقال : هكذا تدخل بيوت الأنبياء وأنت جنب؟ فقال أعوذ بالله من غضب الله وغضبك وقال استغفر الله ولا أعود». وروى نحوه الشيخ المفيد في الإرشاد ورواه في كشف الغمة نقلا عن دلائل الحميري.

وظاهر الاخبار المذكورة تحريم مجرد الدخول وان كان لا مع اللبث ، الا ان يقال ان إنكاره (عليه‌السلام) على ابي بصير لعلمه بإرادته اللبث ، والأول أقرب.

(السابع) ـ وضع شي‌ء في المساجد دون الأخذ منها ، وهو موضع وفاق ايضا ما عدا سلار ، فإنه نقل عنه القول بالكراهة ، ويضعف بالأخبار الدالة على المنع :

و (منها) ـ صحيحة عبد الله بن سنان (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب والحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال : نعم ولكن لا يضعان في المسجد شيئا».

وصحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المنقولة آنفا من كتاب العلل (2) حيث قال (عليه‌السلام) بعد ذكر ما قدمنا نقله منها : «ويأخذان من المسجد ولا يضعان فيه شيئا قال زرارة فقلت له : فما بالهما يأخذان منه ولا يضعان فيه؟ قال : لأنهما لا يقدران على أخذ ما فيه الا منه ويقدران على وضع ما بأيديهما في غيره. الحديث».

ونقل عن بعض المتأخرين تخصيص التحريم بالوضع المستلزم للبث في سائر المساجد والدخول في المسجدين ، ونقل عنه الاستدلال بأنه قد تعارض إطلاقا تحريم الوضع وتجويز المشي والمرور فيتساقطان ويرجع الى حكم الأصل خصوصا مع أغلبية اقتران الوضع باللبث. ورد بان ظاهر النص تعليق التحريم على الوضع مطلقا ولو كان من خارج والا لم يبق لتعلق التحريم على الوضع معنى ، لان فيه أخذ ما ليس بعلة ولا مستلزم للعلة مكانها ، ومنه يظهر ان إطلاق تحريم الوضع لا ينافي إطلاق تجويز المرور والمشي ليتساقطا ويرجع الى حكم الأصل كما احتج به ، إذ تحريم أحد المتقارنين اللذين لا تلازم بينهما

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 17 من أبواب الجنابة.


يجامع تجويز الآخر كما لا يخفى ، وأيضا فإن الخبر المذكور الذي هو مستند الحكم في تحريم الوضع دل على اباحة التناول وتحريم الوضع ، فلو خص تحريمه بما ذكر لم يظهر للفرق بينه وبين التناول وجه ، إذ إباحة التناول مقيدة بما إذا لم يستلزم لبثا كما هو الظاهر فتوى ودليلا (فان قيل) : ان التناول من حيث هو مباح وان كان مقارنه محرما (قلنا) : ان الوضع من حيث هو محرم وان كان مقارنه مباحا ، بل ما نحن فيه أولى ، إذ مقارنة المباح للحرام ان لم توجب حرمة المباح فان لا توجب اباحة الحرام اولى ، هذا كله مع قطع النظر عن ظاهر التعليل الذي في رواية العلل ، والا فمع النظر اليه لا يبقى لاعتبار القول المذكور ما يوجب النقل في السطور.

(الثامن) ـ قراءة إحدى العزائم الأربع وهي سجدة «ألم السجدة» و «حم السجدة» و «النجم» و «اقرأ» ومن العجب سهو جملة من المتقدمين : منهم ـ الصدوق (رحمه‌الله) في المقنع والفقيه وجرى عليه جملة من تأخر عنه من عد سجدة «لقمان» عوض «الم السجدة» مع ان سورة «لقمان» ليس فيها سجدة وانما السجدة في السورة التي تليها وهي «الم».

هذا ، والظاهر ان الحكم موضع وفاق كما نص عليه في المعتبر والمنتهى ، الا ان جل المتأخرين ناطوا الحكم بمجموع السورة حتى البسملة إذا قصد بها احدى السور الأربع ، وظاهر الاخبار لا يساعدهم على ذلك.

فمن الأخبار الدالة على الحكم المذكور حسنة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) المتقدمة في حكم مس كتابة القرآن (1).

وموثقة زرارة ومحمد بن مسلم عنه (عليه‌السلام) (2) قال : «الحائض والجنب يقرءان شيئا؟ قال : نعم ما شاء الا السجدة ويذكران الله على كل حال».

وروى ذلك في المعتبر عن جامع البزنطي عن الصيقل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3).

__________________

(1) ص 47.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.


وأنت خبير بان الظاهر من هذه الاخبار هو قصر الحكم على نفس السجدة دون سورتها. ووجهه شيخنا المحقق في كتاب رياض المسائل بأن السجدة في الأصل مصدر للمرة من السجود ، وليس المراد به هنا حقيقته بل معناه المجازي وهو سبب السجدة أو محلها ، وليس شي‌ء من أبعاض السورة المذكورة سوى موضع الأمر بالسجود سببا ولا محلا. ومن ذلك يظهر ان لا مستند لعموم الحكم سوى الإجماع المدعى في المسألة. وقد عرفت في المقدمة الثالثة ما في هذه الإجماعات المتناقلة في أمثال هذه المقامات ، سيما مع معارضة الأصل له هنا والعمومات من الكتاب والسنة الدالة على استحباب قراءة القرآن ، وحينئذ فالأظهر ـ كما استظهره جملة من متأخري المتأخرين ـ قصر الحكم بالتحريم على موضع ذكر السجود.

الا انه قد ورد في جملة من الاخبار ـ منها الصحيح وغيره ـ جواز ان يقرأ الجنب من القرآن ما شاء :

فمن ذلك صحيحة الفضيل بن يسار عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (1) قال : «لا بأس ان تتلو الحائض والجنب القرآن».

وفي صحيحة الحلبي (2) «في النفساء والحائض والجنب والمتغوط يقرأون القرآن؟ فقال يقرأون ما شاءوا».

ومن أجل هذه الاخبار مضافا الى عموم ظاهر الكتاب لم يعتمد شيخنا المحقق صاحب كتاب رياض المسائل الا على الإجماع المدعى في المقام ، مؤيدا ذلك بالطعن في دلالة تلك الاخبار على المدعى بأنه كما يحتمل الاستثناء في قوله : «نعم ما شاءا إلا السجدة» ان يكون استثناء من أصل جواز قراءة القرآن يحتمل ان يكون استثناء من استحبابها ولا يفيد الا رفع الاستحباب ولا يقتضي التحريم. وفيه ان اخبار السجدة مقيدة وتلك مطلقة والمقيد يحكم على المطلق ، وعمومات الكتاب وإطلاقاته تخصص بالسنة كما وقع

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.


في غير موضع ، وقد مر تحقيق القول فيه في مقدمات الكتاب ، واحتمال الاستثناء من الاستحباب بعيد من سياق الأخبار ، إذ سياق ما فيها من الأحكام المشتملة عليها في غير موضع النزاع كله بالنسبة إلى الجواز وعدمه من دخول المساجد واللبث فيها ودخول مسجدي الحرمين والوضع في المسجد والأخذ منه ، على انه لا معنى هنا للاستثناء من الاستحباب بعد ثبوت أصل الجواز ، إذ بعد ثبوت الجواز يلزم الاستحباب الذي هو عبارة عما يوجب ترتب الثواب على ذلك ، إذ قراءة القرآن من جملة العبادات البتة فالمناسب هو السؤال عن أصل الجواز وعدمه.

ونقل عن الشيخ في التهذيب انه استدل على الحكم المذكور بان في هذه السور سجودا واجبا ولا يجوز السجود الا لطاهر من النجاسات بلا خلاف ، مع انه قال بعيد هذا باستحباب السجود للطامث.

(التاسع) ـ الصوم ، ووجوب الغسل للواجب منه وشرطيته للمستحب هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) ونقل عن الصدوق (رضي‌الله‌عنه) القول بعدم الوجوب ، واليه مال المحقق الأردبيلي ، واختاره العلامة الفيلسوف العماد مير محمد باقر الداماد كما صرح به في رسالته الموضوعة في مسائل التنزيل. والاخبار من الطرفين متعارضة الا أن الاخبار الدالة على القول المشهور أكثر عددا وأصرح دلالة ، وسيجي‌ء نشر الاخبار في المسألة ان شاء الله تعالى في كتاب الصوم.

والأظهر العمل على المشهور (اما أولا) ـ فلاعتضاد اخباره بعمل الطائفة قديما وحديثا بذلك ، ولم ينقل الخلاف في ذلك عن أحد من متقدمي الأصحاب إلا عن الصدوق وفي ثبوت النقل إشكال ، فإنه لم يصرح بذلك في فقيهه ولا في شي‌ء من كتبه ، وانما نسب اليه القول بذلك برواية رواها في المقنع (1) حيث قال : «وسأل حماد بن عثمان أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل أجنب في شهر رمضان من أول الليل فاخر الغسل

__________________

(1) رواها في الوسائل في الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.


الى ان يطلع الفجر. فقال : قد كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يجامع نساءه من أول الليل ويؤخر الغسل الى ان يطلع الفجر ، ولا أقول كما يقول هؤلاء الأقشاب يقضي يوما مكانه». قالوا : ومن عادته في الكتاب المذكور الإفتاء بمتون الاخبار. وفي ثبوت نسبة القول المذكور له بذلك تأمل ، سيما مع نقله في فقيهه جملة من الاخبار الدالة على القضاء بترك الغسل وان كان نسيانا المؤذن بموافقة القول المشهور. والمعهود منه عدم الاختلاف في الفتوى في كتبه كما هو الطريق الذي عليه غيره من المحدثين.

و (اما ثانيا) ـ فلان من القواعد المقررة عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) عرض الاخبار عند اختلافها على مذهب العامة والأخذ بخلافه ، والاخبار المخالفة للمشهور موافقة لهم ، وفي بعض منها ما يؤذن بذلك كإسناد الإمام (عليه‌السلام) النقل إلى عائشة في رواية إسماعيل بن عيسى (1) واشعار ظاهر رواية حماد المتقدمة بمداومته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) على ذلك ، ومن البعيد مداومته على المكروه ان لم نقل بالتحريم وما ربما يقال ـ من ان اخبار المشهور وان ترجحت بمخالفة العامة إلا ان اخبار القول الآخر معتضدة بظاهر القرآن ، وهو قوله سبحانه : «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ ... الآية» (2) الدال بإطلاقه على التحليل في كل جزء من اجزاء الليل التي من جملتها الجزء الأخير ـ

فالجواب عنه ـ بعد تسليم جواز الاستدلال بالظواهر القرآنية بغير تفسير وارد فيها عن أهل العصمة (سلام الله عليهم) ـ بأنه قد تقدم في المقدمة السادسة الإشارة إلى انه لا يصح الاختلاف بين هاتين القاعدتين. بمعنى ان كل ما خالف العامة من الاخبار الخارجة عنهم (عليهم‌السلام) فهو موافق للقرآن العزيز وان لم يهتدوا الى وجه الموافقة ولا يجوز ان يكون مخالفا له ، وذلك لان الأحكام الواقعية الخارجة لا على جهة التقية

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 13 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

(2) سورة البقرة الآية 187.


لا يجوز مخالفتها للقرآن كما تقدم بيانه ثمة ، وما عليه العامة فهو خلاف الحنيفية ، لما استفاض من انهم ليسوا من الحنيفية على شي‌ء ، وانه لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة وانهم ليسوا الا مثل الجدر المنصوبة ، ونحو ذلك مما تقدم ذكره ثمة أيضا ، وحينئذ فنقول فيما نحن فيه ان إطلاق الآية مخصوص بالأخبار الدالة على وجوب الغسل ، وقد حققنا في المقدمة المشار إليها آنفا انه لا منافاة بين المطلق والمقيد ولا بين العام والخاص حتى يتجه الترجيح بالآية في هذا المقام.

ثم ان وجوب الغسل للصوم على القول به هل يختص بما إذا بقي من الليل مقدار ما يغتسل خاصة ، فعلى هذا لا يكون الصوم غاية للغسل الا مع تضيق الليل بحيث لا يبقى منه الا قدر فعله علما أو ظنا ، فلو أوقعه المكلف قبل ذلك لم يكن الصوم غاية له لعدم المخاطبة به حينئذ ، أو يجوز إيقاعه بنية الوجوب من أول الليل وان قيل بوجوبه لغيره؟ قولان ، وظاهر الأكثر الأول ونقل السيد السند في المدارك عن بعض مشايخه ـ والظاهر انه المولى الأردبيلي (قدس‌سره) ـ الثاني ، الا انه في المدارك تأوله بالحمل على الوجوب الشرطي زاعما انتفاء الوجوب بالمعنى المصطلح عليه قطعا على هذا التقدير ، ويظهر من كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في كتاب الحبل المتين ان الوجوب هنا على تقدير القول به هو الوجوب المصطلح ، حيث قال ـ في جواب استدلال القائلين بوجوب الغسل لنفسه بأنه لو لم يجب لنفسه لم يجب قبل الفجر للصوم لعدم وجوب المغيا قبل وجوب الغاية ـ ما لفظه : «واما وجوب غسل الجنابة قبل الفجر للصوم فلوجوب توطين النفس على ادراك الفجر طاهرا والغاية واجبة» انتهى.

أقول : والأظهر في بيان الوجوب هنا ان يقال انه لا شك ان الغسل مما يتوقف عليه الصوم الواجب ولا يتم الا به ، وقد تقرر في الأصول ان ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب ، كما قالوا ان قطع المسافة واجب للحج مع انه لا يقع الا قبل الحج ، وبالجملة فإنه إذا علم أو ظن وجوب الغاية في وقتها فإنه لا مانع من وجوب المقدمة وان لم تجب


الغاية بعد لكن وجوبا موسعا لا يتضيق إلا بتضيق الغاية ، والى ذلك يشير كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على المدارك ، حيث قال ـ بعد نقل كلام السيد (قدس‌سره) وتأويله كلام بعض مشايخه ـ ما صورته : «قلت : مقصوده بالوجوب المعنى المصطلح عليه فإنه صالح للنزاع والترجيح ، وان شئت تحقيق المقام فاستمع لما نتلو عليك من الكلام والله الموفق ، فنقول : مقدمات الواجب المضيق كالصوم يجب تحصيلها قبل وقته ، وبعض مقدمات الواجب الموسع وهو ما لا يسعه وقته كذلك ، ومنه وجوب معرفة الصلاة واجزائها قبل دخول وقتها ، والغسل كالنية من شرائط صحة الصوم ومقدماته فيجب من الليل وجوبا موسعا ، لان الوجوب من باب المقدمة انما يكون بحسبه وهو لا يقتضي إلا الوجوب الموسع ، وما ثبت من انه إذا كان من عادته استمرار نومه الى طلوع الفجر لا يجوز له النوم اختيارا قبل الغسل يدل على وجوبه وجوبا موسعا ، وايضا تعلق تكليف الشارع بأمر في وقت غير منضبط غير مستقيم. والله أعلم بحقائق أحكامه. وبعد ما عرضت ذات ليلة في خير البلاد هذه الدقيقة على الأستاذ العلامة والحبر الفهامة مجتهد زمانه ووحيد أو انه ميرزا محمد باقر الأسترآبادي (أطال الله بقاءه) سمعت منه انه في عنفوان الشباب تفطن لهذه الدقيقة وذكرها للعالم الرباني مولانا أحمد الأردبيلي (رحمه‌الله) فلم يرض بها وطال البحث بينهما من غير فيصل ، ثم رجع العالم المذكور الى قوله وذكرها في بعض تصانيفه» انتهى كلامه زيد مقامه. وهو جيد الا انه سيأتي في مسألة وجوب الغسل لنفسه أو لغيره من ظاهر كلامهم ما يدل على الغفلة عن هذه المسألة.

واما شرطية الغسل للصوم المستحب فهو قول الأكثر من أصحابنا (رضوان الله عليهم) ومال جملة من متأخري المتأخرين إلى العدم ، وتحقيق المسألة مع ما يتعلق بها من الاخبار سيأتي في موضعه ان شاء الله تعالى.


تكملة

تقييد وجوب الغسل بوجوب الغاية هو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) وقيل بوجوبه في نفسه ، اختاره القطب الراوندي ، وذهب إليه العلامة ونقله عن والده سديد الدين يوسف بن المطهر ، ومال اليه من متأخري المتأخرين الفاضل الخراساني في الذخيرة وقبله السيد السند في المدارك ، والبحث في المسألة وان كان قليل الجدوى عندنا لانحصار فائدة الخلاف في وجوب نية الوجوب قبل الوقت وعدمه ، مع انك قد عرفت مما قدمنا في مبحث نية الوضوء عدم الدليل على ذلك ، إلا أنا جريا على منوالهم (قدس الله أرواحهم وطيب مراحهم) قد قدمنا لك في البحث عن غاية الوضوء ما يفي بتحقيق الحال وازالة الإشكال ، من ذكر ما يدل على الوجوب الغيري والجواب عما يدل على الوجوب النفسي ، الا انه بقي مما يدل على الوجوب الغيري في خصوص هذه المسألة مما لم نتعرض له آنفا الآية الكريمة أعني قوله سبحانه : «... وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (1) وقد تقدم في أول هذا المقصد بيان دلالتها على ذلك. واما ما أجاب به الفاضل الخراساني في الذخيرة عن ذلك ـ من ان غاية ما يلزم منه وجوبه لأجل الصلاة وذلك لا ينافي وجوبه لنفسه ايضا ، فيجوز ان يجتمع فيه الوجوبان ، ولا يفهم منه التخصيص ولا يراد البتة ، لوجوبه لغير الصلاة كالطواف ومس كتابة القرآن وغيرها بالاتفاق ـ فمدخول بما قدمنا تحقيقه في مبحث غاية الوضوء.

واستدل جملة من متأخري المتأخرين على ذلك أيضا بأخبار الجنب إذا فاجأها الحيض قبل الغسل :

و (منها) ـ حسنة عبد الله بن يحيى الكاهلي عن الصادق (عليه‌السلام) (2)

__________________

(1) سورة المائدة الآية 9.

(2) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب الحيض.


«في المرأة يجامعها الرجل فتحيض وهي في المغتسل؟ قال : قد جاءها ما يفسد الصلاة فلا تغتسل».

ورواية سعيد بن يسار عنه (عليه‌السلام) (1) «في المرأة ترى الدم وهي جنب أتغتسل من الجنابة أم غسل الجنابة والحيض واحد؟ فقال : قد أتاها ما هو أعظم من ذلك».

وموثقة حجاج الخشاب (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل وقع على امرأته فطمثت بعد ما فرغ ، أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرتين؟ قال تجعله غسلا واحدا عند طهرها». ومثلها موثقات زرارة وابي بصير وعبد الله بن سنان (3)

و (منها) ـ موثقة عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن المرأة بواقعها زوجها ثم تحيض قبل ان تغتسل؟ قال : ان شاءت ان تغتسل فعلت وان لم تفعل ليس عليها شي‌ء ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة».

وجه الاستدلال بها انها قد اشتركت ما عدا الأخيرة في الدلالة على تأخير غسل الجنابة الى بعد الطهر من الحيض وجعل الغسلين غسلا واحدا ، وهو مؤذن لا أقل بمرجوحية المبادرة إلى الفعل حينئذ مع ان قضية الوجوب النفسي لا أقل رجحان المبادرة إلى الواجب وان كان موسعا ، سيما مع قوله (عليه‌السلام) في الرواية الأولى : «قد جاءها ما يفسد الصلاة» مفرعا عليه قوله : «فلا تغتسل» وقوله في الثانية : «قد أتاها ما هو أعظم من ذلك» المشعر بطريق الإيماء والتنبيه بأن العلة في وجوب غسل الجنابة رفع المفسد للصلاة الذي هو حدث الجنابة ، فإذا حصل ما يفسدها واتى ما هو أعظم من ذلك في الإفساد قبل الغسل انتفت العلة في وجوبه ، فإنه (عليه‌السلام) نفى الغسل معللا بفساد الصلاة ، فحاصل كلامه (عليه‌السلام) ان الغرض من الغسل الصلاة ولما جاء ما يفسدها فلا غسل حينئذ.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 22 من أبواب الحيض.

(2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الجنابة.


ورد باحتمال حمل الرواية على ان المراد مجي‌ء مفسد الصلاة مانع من الوجوب ، إذ شرط تأثير المؤثر ارتفاع المانع.

وأجيب بأن حمل الكلام على هذا المعنى مما يكاد يلحقه بالمعميات والألغاز ، بل الإغراء بالجهل والخطاب بما له ظاهر مع ارادة خلاف ظاهره من غير نصب قرينة عليه ، وقد ثبت استحالته على الحكيم في الأصول. فلا يليق نسبته الى سادات الأنام وأبواب الملك العلام (عليهم أفضل الصلاة والسلام).

والتحقيق عندي هو ما افاده بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ، من ان الرواية المشار إليها لا دخل لها في البين ولا تعلق لها بشي‌ء من القولين ، وذلك فان الغرض اللازم من الغسل هو رفع الحدث أو الاستباحة ، والرواية قد دلت على سقوط الغسل بطرو الحدث الذي لا يمكن رفعه ولا استباحة الصلاة مع وجوده ، إذ التكليف به والحال كذلك تكليف بما لا يطاق ، وهو خارج عن حيز الوفاق ولا دخل للوجوب الذاتي أو الغيري فيه ، وحينئذ فكما ان الرواية المذكورة ترد القول بالوجوب النفسي باعتبار عدم صحة الغسل في تلك الحال مع ان قضية الوجوب النفسي ذلك ، كذلك ترد القول بالوجوب الغيري باعتبار ما اتفق عليه القائلون بذلك من صحة الغسل قبل وقت الغاية واجزائه عن الواجب بعده ، مع انه في تلك الحال غير صحيح ولا مجزئ عن الواجب ، وأيضا فإنه بعد زوال المانع المذكور يرجع السبب الى مقتضاه ويعود الخلاف بحذافيره ، ومن ذلك يعلم الكلام في باقي الأخبار. نعم ربما أوهم قوله في موثقة عمار : «ان شاءت ان تغتسل فعلت» صحة الإتيان بالغسل حينئذ وارتفاع حدث الجنابة. وفيه (أولا) ـ ان ما عدا هذه الرواية مما هو أكثر عددا وأصرح دلالة قد دل على تأخير الغسل وجعله مع الحيض غسلا واحدا. و (ثانيا) ـ ان الفريقين متفقون على عدم حصول الرفع والاستباحة بالغسل في تلك الحال ، فلا ثمرة حينئذ لهذه الصحة ولا اثر يترتب عليها في ذلك المجال ، مع ان قوله فيها : «فإذا طهرت


اغتسلت غسلا واحدا للحيض والجنابة» دال على ان الغسل الأول لم يكن مجزئا عن غسل الجنابة ، فيتعين ان يكون المراد بالغسل المذكور مجرد رفع الأوساخ البدنية وازالة الأدناس الحسية ، ومن ثم احتمل بعض انه يستنبط من الخبر المشار إليه صحة الغسل لذلك على الإطلاق أو عند تعذر قصد رفع الحدث ، وأيده بشرعية غسل الاستحاضة ، وكون الأغسال الواجبة والمستحبة إذا علم من الشارع ان أصل مشروعيتها لذلك كغسل الجمعة والإحرام لا تتوقف على الطهارة من الحدث وان كانت بحيث لو خلت منه لأفادت رفعه ، كما قدمنا بيانه في بحث نية الوضوء وينبه على ذلك ما ورد من أمر الحائض بغسل الإحرام. واما ما ورد في موثقة سماعة عن ابي عبد الله وابي الحسن (عليهما‌السلام) (1) : «في الرجل يجامع المرأة فتحيض قبل ان تغتسل من الجنابة؟ قال : غسل الجنابة عليها واجب». فغاية ما يدل عليه ان غسل الجنابة لا يسقط عنها بعروض الحيض بل يجب عليها الغسل إذا طهرت من الحيض وأرادت عبادة وان اتحد الغسلان كما دلت عليه الأخبار المتقدمة. واما حملها على استحباب غسل الجنابة في تلك الحال ـ كما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار مستندا إلى موثقة عمار الآنفة ، فيستفاد منها حينئذ استحباب الغسل في نفسه وان كان واجبا لغيره كما ذكره بعضهم ـ فتكلف لا ضرورة تلجئ اليه بعد ما ذكرنا ، وكيف يتم الحمل على الاستحباب وقد صرح في الرواية بالوجوب ، وأي ثمرة لهذا الاستحباب مع وجوب إعادته كما عرفت من موثقة عمار. وبالجملة ان ما ذكرناه هو المتبادر من حاق اللفظ والمراد مع سلامته من الطعن والإيراد. نعم يبقى الكلام هنا في ان جملة من القائلين بالوجوب الغيري صرحوا باستحباب الغسل قبل اشتغال الذمة بالغاية الواجبة ، حتى أورد عليهم الغسل لأجل الصوم ، فأجاب بعضهم بأن الغاية انما هي توطين النفس على ادراك الفجر متطهرا كما عرفته آنفا من كلام شيخنا البهائي (عظم الله مرقده) وأجاب آخر بالتخصيص بما عدا الصوم

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 43 من أبواب الجنابة.


وأنت قد عرفت آنفا ان قضية توقف الواجب عليه وكونه مما لا يتم الواجب إلا به هو وجوبه متى علم وجوب الغاية في وقتها كما عرفت ، ومن الظاهر ان الصلاة متوقفة على الغسل فيكون واجبا لأجلها ، وهو كما يحصل بعد دخول الوقت وتستباح به العبادة حينئذ يحصل ايضا قبل دخوله وتحصل به الاستباحة أيضا ، فكل من الأمرين فرد للواجب ، فيكون الغسل قبل الوقت واجبا وان قلنا بأنه واجب لغيره ، وحينئذ تضمحل فائدة الخلاف من البين بناء على وجوب نية الوجه والا فقد عرفت انه لا ثمرة ايضا للبحث في المقام ، وكذا لو قلنا بوجوبها وقلنا ان قصد الوجوب في المندوب غير ضائر كما اختاره الشهيد (رحمه‌ الله تعالى).

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *