ج22 - كتاب الوكالة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

كتاب الوكالة

قال في التذكرة : الوكالة عقد شرع للاستنابة في التصرف ، وهي جائزة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، أما الكتاب «فقوله سبحانه (1) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها)» فجوز العمل ، وذلك بحكم النيابة عن الشخص ، وقوله تعالى (2) «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ» وهذه وكالة ، وقوله تعالى (3) «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» ، فهذه وكالة وأما السنة فما رواه العامة ثم نقل جملة من أخبارهم ، ومنها حديث عروة البارقي (4) في شراء الشاة ، وحديث وكالته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمرو بن أمية الضيمرى (5) في قبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان ، ووكل أبا رافع (6) في قبول نكاح ميمونة ، ثم نقل حديثا من طرق الخاصة ، وأحال على الأحاديث الآتية في الكتاب ، الى أن قال : وقد اجتمعت الأمة في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوكالة ، ولأن اشتداد

__________________

(1) سورة التوبة ـ الاية 60.

(2) سورة الكهف ـ الاية 19.

(3) سورة يوسف ـ الاية 93.

(4 و 5 و 6) المستدرك ج 2 ص 462 الباب 18 ح 1 وص 510 الباب 20 ح 3.



الحاجة الى الوكالة ظاهرة ، إذ لا يمكن لكل أحد مباشرة ما يحتاج اليه من الأفعال فدعت الضرورة إلى الاستنابة ، انتهى كلامه.

والكلام في هذا الكتاب يقع في مطالب سبعة :

المطلب الأول في العقد وما يلحق به :

وتحقيق الكلام في ذلك يقع في مسائل الأولى : قال في التذكرة عقيب الكلام المتقدم : الوكالة عقد يتعلق به حكم كل واحد من المتعاقدين ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول ، كالبيع والأصل فيه عصمة مال المسلم ، ومنع غيره من التصرف فيه إلا بإذنه ، فلا بد من جهة الموكل من لفظ دال على الرضا بتصرف الغير له ، وهو كل لفظ يدل على الاذن ، مثل أن يقول وكلتك في كذا وفوضت إليك ، واستنبتك فيه ، وما أشبهه ، ولو قال : وكلتني في كذا فقال : نعم ، وأشار بما يدل على التصديق كفى في الإيجاب ، ولو قال : بع وأعتق ونحوهما حصل الاذن ، وهذا لا يكاد يسمى إيجابا بل هو أمر واذن ، وانما الإيجاب قوله وكلتك واستنبتك وفوضت إليك وما أشبهه وقوله أذنت لك في فعله ليس صريحا في الإيجاب ، بل اذن في الفعل ، الى أن قال : ولا بد من القبول لفظا ، وهو كل ما يدل على الرضا بالفعل أو قولا ، ويجوز القبول بقوله قبلت ، وما أشبهه من الألفاظ الدالة عليه ، وكل فعل يدل على القبول ، نحو أن يأمره بالبيع فيبيع أو بالشراء فيشتري ، لأن الذين وكلهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره ، ولأنه اذن في التصرف ، فجاز القبول فيه بالفعل ، كأكل الطعام انتهى.

أقول : قد تقدم في غير موضع ما يدل على سعة الدائرة في العقود وأن المعتبر فيها هو كل ما يدل على الرضا من الطرفين بذلك المعقود عليه ، بقي الكلام في قوله «ان قوله بع وأعتق لا يسمى إيجابا ، وانما هو أمر واذن ، وكذا في قوله أذنت لك في فعله ، ليس صريحا في الإيجاب.


ففيه أنه قد صرح أولا بأن الإيجاب عبارة عن كل لفظ يدل على الرضا بتصرف الغير له ، وهو كل لفظ يدل على الأذن ، وقال : أخيرا في تعليل صحة القبول الفعلي ، ولأنه اذن في التصرف ، فجاز القبول فيه بالفعل ، وتقدم في كلامه السابق عد الآية ، وهي قوله عزوجل (1) «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي» وقوله تعالى (2) «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» عن باب الوكالة ، وقال : أيضا بعد هذا الكلام الذي نقلناه وقد وكل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عروة البارقي (3) في شراء شاة بلفظ الشراء ، يعنى اشتر ، وهو مثل لفظ بع الذي منع منه هنا ، وقال : قال الله تعالى مخبرا عن أهل الكهف ، ثم ذكر الآية ثم قال : دل على الاذن فجرى مجرى قوله وكلتك ، ومقتضى ذلك كون المثالين المذكورين ، وقوله أذنت لك كذلك.

وبالجملة فإن المستفاد من كلامهم هو سعة الدائرة ، في هذا العقد زيادة على غيره من العقود من حيث أنه من العقود الجائزة ، فلا يختص بألفاظ مخصوصة ، بل يكفي كل ما دل على الرضا بالاستنابة.

قال في المسالك : لما كان عقد الوكالة من العقود الجائزة صح بكل لفظ يدل على الاستنابة وان لم يكن على نهج الألفاظ المعتبرة في العقود ، وينبه عليه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعروة البارقي «اشتر لنا شاة» وقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف (4) «فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» ومنه بع ، واشتر ، وأعتق ، وأذنت لك في كذا ، ونعم ، عقيب الاستفهام التقريري ، كو كلتني في كذا ، لأنها نائبة مناب وكلتك ، وكذا الإشارة الدالة على المراد الواقعة جوابا ، فإنها وان لم تفد جوابا صريحا ولم يحصل النطق به ، إلا أنه بمنزلته في الدلالة ، فيكفي فيه التوسع في مثل هذا العقد ، انتهى وهو جيد.

__________________

(1) سورة يوسف ـ الاية 93.

(2) سورة الكهف ـ الاية 19.

(3) المستدرك ج 2 ص 462 الباب 18 ح 1.

(4) سورة الكهف ـ الاية 19.


ثم ان ظاهر كلامهم هنا الاتفاق على الاكتفاء بالقبول الفعلي ، وان اختلفوا فيه في غيره من العقود سيما العقود اللازمة كما تقدم ذكره في جملة من العقود ، وذلك بأن يوكله في البيع أو الشراء ، فيبيع أو يشتري من غير لفظ يدل على القبول ، قالوا : والوجه في ذلك أن المقصود عن الوكالة الاستنابة ، والاذن في التصرف ، وهو اباحة ورفع حجر ، فأشبه إباحة الطعام ، ووضعه بين يدي الآكل ، فإنه لا يفتقر الى القبول اللفظي.

بقي الكلام في أن ظاهر ما قدمنا نقله عنه من قوله «وكل فعل يدل على القبول» الى آخره يدل على أن القبول الفعلي هو فعل ما تعلقت به الوكالة ، وهو الذي صرح به غيره من الأصحاب أيضا الا أنه قال بعد هذا الكلام والقبول يطلق على معنيين : أحدهما الرضا والرغبة فيما فوض اليه ، ونقيضه الرد ، والثاني اللفظ الدال عليه على النحو المعتبر في البيع ، وسائر المعاملات ، ويعتبر في الوكالة القبول بالمعنى الأول ، حتى لو رد وقال : لا أقبل أو لا أفعل ، بطلت الوكالة ولو ندم وأراد أن يفعل أو يرجع ، بل لا بد من استيناف اذن جديد مع علم الموكل ، لأن الوكالة جائزة من الطرفين ، يرتفع في الالتزام بالفسخ انتهى.

وظاهر هذا الكلام أنه لا يكفي مجرد الفعل لما تعلقت به الوكالة ، بل لا بد من اقترانه بالرضا والرغبة ووقوعه قبل أن يرد ، ومقتضى الكلام الأول هو صحة الوكالة متى فعل ما وكل به لأن بذلك يحصل القبول ، وينضم إلى الإيجاب المتقدم وان رد أولا ، وقال : لا أقبل ، والفسخ إنما يكون بعد تمام العقد بالقبول ، وما لم يفعل أو يقبل باللفظ فلا معنى للفسخ ، لعدم حصول العقد.

ويؤيد ما ذكرناه عموم أدلة الوكالة مثل قوله عليه‌السلام (1) «الوكالة ثابتة حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول». على أن انعزاله بعزله نفسه بعد تمام

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 1 ، الفقيه ج 3 ص 47 ح 3381 ، الوسائل ج 13 ص 285 ح 1.


العقد مع عدم عزل الموكل له محل منع ، كما سيأتي التنبيه عليه ان شاء الله تعالى في محله.

ثم ان ظاهر ما ذكروه من الاكتفاء في الإيجاب بما يدل على الوكالة ، ولو بالإشارة هو الاكتفاء بالكتابة أيضا ، قال في المسالك : وما ذكره المصنف والجماعة من الاكتفاء في الإيجاب بالإشارة اختيارا يقتضي الاكتفاء بالكتابة أيضا ، لاشتراكهما في الدلالة مع أمن التزوير انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من أخبارهم عليهم‌السلام في المقام ما رواه الصدوق عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل قال لآخر اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شي‌ء مما قاولت من صداق أو ضمنت من شي‌ء أو شرطت فذلك لي رضا وهو لازم لي ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له ، وبذل الصداق. الحديث وما رواه عن حماد عن الحلبي (2) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة فيقولون بع فما ازددت فلك. إلى أنه قال في امرأة ولت أمرها رجلا فقالت : زوجني فلانا. الحديث ، وفيه أنه بعد أن قاول الزوج على المهر زوجها من نفسه فأبطل عليه‌السلام التزويج ، وموثقة سماعة (3) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق ، وقد قوموا عليه قيمة فيقولون : بع فما ازددت فلك ، فقال لا بأس بذلك.

وفي صحيحة زرارة (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يعطي المتاع فيقول ما ازددت علي كذا فهو لك فقال : لا بأس».

وفي صحيحة محمد بن مسلم (5) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «انه قال في رجل

__________________

(1 و 2) الفقيه ج 3 ص 49 ح 4 و 50 ح 6 ، التهذيب ج 6 ص 216 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 288 ح 1 و ص 290 ح 1.

(3) الفقيه ج 3 ص 145 ح 29 ، الكافي ج 5 ص 195 ح 3 ، التهذيب ج 7 ص 54 ح 33. الوسائل ج 12 ص 381 ح 3.

(4 و 5) التهذيب ج 7 ص 54 ح 32 و 31.

وهذه الروايات في الوسائل ج 12 ص 381 ح 3 و 2 و 1


قال لرجل : بع ثوبا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك ، قال : ليس به بأس».

والعقود في هذه الأخبار كلها كما ترى من قبيل ما تقدم من قوله بع وأعتق واشتر ، ونحو ذلك مما يدل على الاذن والاستنابة ، وليس في شي‌ء منها ما يتضمن القبول لفظا وانما تضمنت المبادرة إلى امتثال ما أمر به ، لكنه في الحديث الثاني حيث خالف مقتضى الأمر وزوجها من نفسه أبطل عليه‌السلام التزويج.

ونحو ذلك في صحيحة هشام (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا قال لك الرجل اشتر لي فلا تعطه من عندك ، الحديث.

وقوله في موثقة إسحاق بن عمار (2) عنه عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يبعث الي الرجل فيقول : ابتع لي ثوبا فيطلب له في السوق الحديث.

وفي الثانية منهما دلالة على ثبوت الوكالة من الغائب بالمكاتبة أو الإرسال على لسان شخص آخر كما تقدم ذكره.

وفي رواية هشام بن سالم (3) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل وكل آخر على وكالة في إمضاء أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر» ، الحديث.

وهو ظاهر في الاكتفاء بالقبول الفعلي وإطلاق هذه الاخبار ظاهر فيما هو المشهور من حصول القبول الفعلي بالإتيان بما تعلقت به الوكالة ، خلافا لما تقدم نقله عن التذكرة من اشتراط الرضا والرغبة.

وفي رواية العلاء بن سيابة (4) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة وكلت رجلا أن يزوجها من رجل ، فقبل الوكالة وأشهدت له بذلك ، فذهب الوكيل فزوجها» الحديث.

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 6 ح 19 ، الوسائل ج 12 ص 288 ح 1.

(2) الوسائل ج 12 ص 289 ح 2.

(3 و 4) التهذيب ج 6 ص 213 ح 2 وص 214 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1 و 2.


وهذا الخبر مما يدل على القبول لكنه أعم من أن يكون بلفظ قبلت ونحوه ، أو بمجرد إظهار الرضا ، وفي صحيحة أبي ولاد الحناط (1) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أمر رجلا أن يزوجه امرأة بالمدينة ، وسما هاله ، والذي أمره بالعراق فخرج المأمور فزوجها إياه» الحديث.

ورواية الحذاء (2) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أمر رجلا أن يزوجه امرأة من البصرة من بني تميم ، فزوجه امرأة من أهل الكوفة من بني تميم ، قال : خالف أمره». الحديث.

وفي هذين الخبرين دلالة على ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من قوله : «زوجني أو اخطب لي» والقبول فيهما إنما وقع بالإتيان بما أمر به ، لكنه في الثاني أبطل الوكالة من حيث المخالفة. وفي رواية محمد بن عيسى (3) «أنه بعث إليه أبو الحسن الرضا عليه‌السلام بثلاثمائة دينار الى رحم امرأة كانت له ، وأمره أن يطلقها عنه ويمتعها بهذا المال». وفيها دلالة على ما قدمنا ذكره من ثبوت الوكالة عن الغائب بالكتابة أو الإرسال على لسان شخص ، الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، ولا يخفى على من تتبع الروايات الخاصة والعامة أن ما اشتملت عليه من عقود الوكالة ليس فيها أزيد من الأوامر بما يريده الموكل مما يدل على الاذن له في التصرف ، وليس فيها لفظ «وكلتك» ولا نحوه من تلك الألفاظ ، وكذا في جانب القبول ليس فيها أزيد من الرضا بذلك ، والمبادرة إلى فعل ما وكل فيه ، وكأنهم إنما أخذوا هذا اللفظ واشتقوه من لفظ الوكالة فعبروا به ، وعبروا بالقبول من حيث الدلالة على الرضا الذي هو الأصل في صحة العقد ، فسرى الوهم الى ترجيح الفرع على الأصل.

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 271 ح 75.

(2) التهذيب ج 7 ص 483 ح 152 ، الفقيه ج 3 ص 264 ح 44.

(3) التهذيب ج 8 ص 40 ح 40 ، وهذه الروايات في الوسائل ج 14 ص 230 ح 1 وص 228 ح 1 وج 10 ص 410 في تعليقة ح 6.


أقول : ويستفاد من موثقة إسحاق بن عمار ، وصحيحة أبي ولاد عدم فورية القبول في عقد الوكالة ، والظاهر أنه اتفاقي عندهم ، كما يفهم من التذكرة حيث أسنده إلى أصحابنا ، وجوز تراضيه إلى سنة ، ومما ذكر يعلم ضعف مناقشة المسالك للمصنف حيث ان المصنف استدل على جواز تأخير القبول ، بأن الغائب له أن يوكل ، والقبول متأخر ، وأورد عليه أن جواز توكيل الغائب فرع جواز التراخي في القبول ، إذ لو قلنا بفوريته لم يصح.

وفيه ان المصنف إنما استدل بتوكيل الغائب بناء على النص الدال على ذلك كما ذكرناه ، ومتى ثبت ذلك بالنص في الغائب ثبت في غيره بتنقيح المناط ، إذ لا خصوصية للغائب بذلك ، مع تأيد ذلك بإطلاق جملة من أخبار الوكالة أيضا والله سبحانه العالم.

الثانية لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط التنجيز في الوكالة ، فلو علقها على شرط يمكن وقوعه وعدم وقوعه ، مثل «ان قدم زيد» أو على صفة وهي ما لو كان وجوده في المستقبل محققا كطلوع الشمس ، ومجي‌ء رأس الشهر بطلت.

قال في التذكرة : لا يصح عقد الوكالة معلقا بشرط ، أو وصف ، فان علقت عليهما بطلت ، مثل أن يقول : «إن قدم زيد» أو «إن جاء رأس الشهر وكلتك» عند علمائنا ، وهو أظهر وجهي الشافعية ، انتهى.

والظاهر أن مرجع ذلك الى أنه لا يجوز توقيف حصول الوكالة على شي‌ء من هذين الأمرين ، سواء كان مقرونا بأداة الشرط مقدما أو مؤخرا ، مثل «إن كان كذا فأنت وكيل» أو «أنت وكيل إن كان كذا» أو غير مقرون بها مثل «وكلتك بشرط مجي‌ء زيد» هذا.

والظاهر أنه لا خلاف أيضا في أنه لو تنجز الوكالة وشرط تأخير التصرف كأن يقول «وكلتك في كذا ، ولا تتصرف إلا بعد شهر» ، فإنه يجوز ، ونقل الإجماع عليه في التذكرة أيضا ، وكذا الظاهر أنه لا نزاع عندهم في جواز التوقيت ، مثل أن


يقول : وكلتك شهرا ، وأنه لا يكون بعد تمامه وكيلا ، وأنت خبير بأنه لا فرق عند التأمل بعين التحقيق بين التعليق على الصفة ، وهو قولنا : وكلتك ان جاء رأس الشهر ، أو ان طلعت الشمس ، وبين التنجيز الذي ذكروه مع شرط التأخير كأن يقول وكلتك ، ولا تتصرف إلا بعد شهر ، فانا لا نعرف لهذا التنجيز هنا معنى ، ولا ثمرة مع هذا الشرط ، والمسئلة من أصلها عارية من النص.

وحينئذ فالظاهر أن الفارق إنما هو الإجماع المدعى في التذكرة في كل من الموضعين ، وأما ما ذكره في المسالك حيث قال بعد ذكر المسئلة الثانية : وهي ما لو نجز الوكالة ، وشرط تأخير التصرف جاز ، والوجه أن منعه من التصرف في الوقت المعين شرط زائد على أصل الوكالة المنجزة ، وهي قابلة للشروط السابغة ، وهذا وان كان في معنى التعليق الا أن العقود لما كانت متلقاة من الشارع نيطت بهذه الضوابط ، وبطلت فيما خرج عنها ، وان أفاد فائدتها ، انتهى.

ففيه أنه أي نص دل هنا على ما ذكروه من بطلان العقد بالتعليق على الشرط ، أو الصفة المذكورين في كلامهم ، وأي نص دل على اشتراط التنجيز الذي ذكروه.

وبالجملة فإنه لا مستند لكل من المسئلتين ، ولا للفرق بينهما إلا الإجماع المدعى ، والى ما ذكرنا يميل كلام المحقق الأردبيلي قال : ثم اعلم أن الأصل وعموم أدلة التوكيل ـ وكونه جائزا ، ومبناه على المساهلة ، دون الضيق ، وما تقدم في عبارة التذكرة من أنه اذن وأمر وأنه مثل الاذن في أكل الطعام ولا شك في جواز تعليقه مثل ان جئت فأنت مأذون في الأكل ونحوه مع عدم مانع ظاهر ـ يدل على جواز التعليق ، ويؤيده جواز التعليق في العقود الجائزة مثل القراض ، بل هو وكالة بجعل ، والعارية وغيرها ، انتهى.

وبالجملة فمقتضى إطلاق روايات الوكالة وعمومها هو الصحة مطلقا وتخصيصها يتوقف على الدليل ، وليس إلا الإجماع ، فمن ثبت عنده حجية الإجماع وأنه


دليل شرعي فله أن يخصص به عموم تلك الأخبار ، والا فالعمل على ما دلت عليه تلك العمومات ، بقي الكلام في أنه متى حكمنا ببطلان العقد بتعلقه على الشرط ، فهل يجوز له التصرف بعد حصول الشرط ، أم لا؟ قرب في التذكرة الجواز ، وجعله في القواعد احتمالا.

قال في التذكرة : قد بينا بطلان الوكالة المعلقة ، فلو تصرف الوكيل بعد حصول الشرط فالأقرب صحة التصرف ، لأن الإذن حاصل لم يزل بفساد العقد ، وصار كما لو شرط في الوكالة عوضا مجهولا ، فقال : بع كذا على أن لك العشر من ثمنه ، فإنه يفسد الوكالة ، ولكن ان باع يصح الشرط ، ثم اعترض على نفسه بعدم ظهور فائدة للفساد ، فقال : ان قيل لا فائدة حينئذ للفساد على تقدير صحة التصرف التي هي ثمرة صحة عقد الوكالة ، فإذا وجدت مع القول بالفساد فلا ثمرة في القول بالبطلان ، بل لا معنى للبطلان حينئذ ، إذ البطلان في المعاملات عدم ترتب الأثر ، وقد قيل : هنا بالترتيب مع الفساد ، ثم أجاب بأنه تحصل الفائدة في سقوط الجعل المسمى في عقد الوكالة ان كان ، والرجوع الى أجرة المثل كما في المضاربة الفاسدة ، فإنه تبطل الحصة المسماة ، ويرجع الى أجرة المثل ، وكذا الشرط الفاسد في النكاح يفسد الصداق ، ويوجب مهر المثل ، وان لم يؤثر في النكاح ، انتهى ملخصا.

واعترضه في المسالك بأن الوكالة ليست أمرا زائدا على الاذن ، والجعل المشروط ليس جزء منها ، وانما هو شرط زائد عليها لصحتها بدونه ، بخلاف المضاربة فإن اشتراط الحصة شرط في صحتها ، ولأنه لو تم ذلك لزم الحكم بصحة التصرف مع فسادها بوجه آخر ، كقول الوكيل نفسه مع علم الموكل به وسكوته ، فإن الإذن

حاصل منه ، فلا يرتفع بفسخ الوكيل ، ولأن العقد حينئذ فاسد قطعا ، ولا معنى للفاسد إلا ما لا يترتب عليه أثره ، ولأن الإذن المطلق انما وجد في ضمن الوجه المخصوص ، إذ لا وجود للكلي إلا في ضمن جزئياته ، ولم يوجد منها إلا هذا الجزئي فإذا ارتفع ارتفع الكلي ، ثم قال : وللتوقف في هذا الحكم مجال ، انتهى.


أقول : ويزيده تأييدا أن مقتضى كلام العلامة المذكور أن ثمرة ما ذكره انما تظهر في صورة ما إذا كان العقد مشتملا على جعل وإلا فمع عدم اشتماله على ذلك فإنه لا يظهر للحكم بالبطلان فائدة ، ولا أثر يترتب عليه ، وحينئذ لا يكون ما ذكره كليا ، ويتم ما أورده على نفسه ، وعلى هذا يجب القول بصحة العقد حينئذ ، وليس ذلك إلا من حيث بطلان اشتراط التنجيز الذي جعلوه شرطا في صحة الوكالة ، ولأنه إذا حكم بفساد الوكالة من حيث كون عدم التعليق شرطا في صحتها ، فمع التعليق المذكور يجب الحكم بالبطلان ، لفوات شرط الصحة ، فكيف يصح التصرف حينئذ الذي هو ثمرة الصحة ، ويحكم باستحقاق الأجرة ، وكيف تظهر الفائدة فيما ذكره ، مع أنه يرجع الى القول بعدم اشتراط التنجيز ، وعدم البطلان مع التعليق ، بل تصح فيها إذا لم يكن جعل ، بل معه أيضا ، وإنما يبطل الجعل خاصة ، على أن ما ادعاه من الصحة ـ استنادا الى الاذن وأنه لم يزل بفساد العقد ، ـ قد عرفت ما فيه من كلام المسالك ، وتوضيحه أن الاذن إنما علم على تقدير الشرط الذي اشتملت عليه عبارة العقد ، والحال أنه قد حكم ببطلانها ، وليس هنا ما يدل على الاذن غيرها ، ولزوم الأجرة على هذا أيضا ممنوع ، كما تقدمت الإشارة إليه ، لأنه إنما تلزم لو فعل ما وكل فيه على ما أمر ، والحال أن ذلك الأمر قد بطل.

وبالجملة فإن الحكم بالصحة لا يتجه ولا يتم إلا بناء على عدم اشتراط التنجيز ، وهو ليس ببعيد ، كما عرفت من أنه لا دليل على هذا الشرط غير الإجماع المدعى ، مع ما عرفت من المجازفة في أمثال هذه الإجماعات ، والله العالم.

الثالثة : اختلف الأصحاب في ما لو وكله في شراء عبد هل يفتقر الى وصفه لينتفي الغرر أم لا؟ وبالأول قال في المبسوط وجماعة منهم الشرائع ، قال في المبسوط :

إذا وكله في شراء عبد وجب وصفه ، ولو أطلق لم يصح لما فيه من الغرر ، ونحو عبارة الشرائع ، وقيل : بالعدم ، وهو اختيار المسالك والمختلف وغيرهما ، وحجة


الأولين ما عرفت من الغرر ، لأن العبد المطلق متوغل في الإبهام ، وصادق على أصناف مختلفة ، فلا بد من وصفه ببعض الأوصاف المزيلة للجهالة ، ولو في الجملة ككونه تركيا أو زنجيا ولا يجب استقصاء الأوصاف الرافعة للجهالة بالكلية.

وأجاب الآخرون بأن الغرر يندفع بمراعات الوكيل المصلحة في شرائه ، فإن الإطلاق محمول شرعا على الاستنابة في شراء عبد يكون شرائه مشتملا على مصلحة للموكل ، ويتخير الوكيل حيث توجد المصلحة في متعدد كذا ذكره في المسالك ، وفي المختلف أجاب بأن الإطلاق ينصرف الى شراء الصحيح بثمن المثل.

وظني أن شيئا من هذين الجوابين لا يفي بالمطلوب ، أما الأول : فلأن مراعاة مصلحة الموكل فرع العلم بغرضه ومطلوبه من شراء ذلك العبد ، والمفروض أعم من ذلك ، وأما الثاني فإن دفع الغرر لا ينحصر في ما ذكره ، وقد ذكروا في كتاب البيع ولا سيما في السلم من توقف صحة البيع على الوصف الرافع للغرر ما هو ظاهر في تأييد ما قلناه.

وبالجملة فالاحتياط يقتضي الوقوف على ما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أن الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين فيجوز لكل منها العزل والفسخ قال في التذكرة : العقود أربعة أضرب : الأول : عقد لازم من الطرفين لا ينفسخ بفسخ أحد المتعاقدين ، وهو البيع ، والإجارة ، والصلح ، والخلع ، والنكاح.

الثاني : عقد جائز من الطرفين وهو الوكالة ، والشركة ، والمضاربة ، والجعالة ، فلكل منهما فسخ العقد في هذه.

الثالث : عقد لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر كالرهن ، فإنه لازم من طرف الراهن ، جائز من طرف المرتهن ، والكتابة عند الشيخ جائزة من طرف العبد ، لأن له أن يعجز نفسه ، ولازمة من جهة المولى.


الرابع : المختلف فيه ، وهي السبق والرماية ان قلنا إنهما اجارة ، كان لازما ، وان قلنا إنهما جعالة ، كان جائزا ، ولا نعلم خلافا من أحد من العلماء في أن الوكالة عقد جائز من الطرفين ، لأنه عقد على تصرف مستقبل ، ليس من شرطه تقدير عمل ، ولا زمان ، فكان جائزا كالجعالة ، فان فسخها الوكيل انفسخت ، وبطل تصرفه ، وان فسخها الموكل فكذلك ، الى أن قال : ولا خلاف في أن العزل يبطل الوكالة ، انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مقامين الأول : في عزل الوكيل نفسه ، وقد عرفت أنه لا خلاف فيه ، قالوا : ولا فرق في بطلان الوكالة بعزله نفسه ، بين اعلام الموكل وعدمه ، بخلاف عزل الموكل له لما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ في المقام الثاني ، ومقتضى ذلك أنه لا ينفذ تصرفه بعد عزله نفسه ، وقبل علم المالك ، لأن مناط صحة التصرف هو العقد ، والمفروض أنه صار باطلا بعزله نفسه ، الا أنه قد صرح جملة منهم بأنه يحتمل توقف انعزاله على علم الموكل ، وحينئذ فيجوز له التصرف قبل بلوغه ، عملا بالاذن العام الذي تضمنه الوكالة ، بل يحتمل ذلك مع بلوغه أيضا ، لأصالة بقاء الاذن ، ومجرد علمه بالرد لا يدل على بطلانه من قبل الاذن ، قالوا : ولو اكتفينا في قبول الوكيل بفعله مقتضاها كيف كان ، قوي هذا الاحتمال جدا لأنها حينئذ تصير مجرد اذن واباحة ، ويجوز مع ذلك إطلاق العقد عليها ، بحيث أن قبولها بالقول يصح ، ويترتب عليه أثر في الجملة ، وبهذا الاحتمال قطع في القواعد مع جهل الموكل بالرد.

أقول : قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أنه ليس فيها ما يدل على ما ذكروه من القبول اللفظي الذي أدخلوا به الوكالة في باب العقود ، وإنما دلت تصريحا في بعض وتلويحا في آخر على القبول بالإتيان بالفعل المأمور به ، وان أدخلوها بذلك في باب الاذن والإباحة دون باب العقود ، كما أنه لا دلالة في شي‌ء منها على ما اعتبروه من صيغ الإيجاب التي ذكروها ، وعدوا بها الوكالة


من باب العقود كلفظ وكلتك ونحوه ، وإنما اشتملت على مجرد الاذن والأمر الذي هو عندهم أيضا من باب الإباحة.

وبذلك يظهر لك أن الأظهر والأقوى بالنظر الى مراجعة الأخبار والعمل بما دلت عليه هو أنه بعزله نفسه ـ علم المالك أو لم يعلم ـ لا تبطل الوكالة ، لبقاء الاذن المفهوم من تلك الأوامر التي اشتملت عليها الأخبار ما لم يعزله المالك ، ويصرح بعزله.

وبالجملة فإني لم أقف على دليل من النصوص يدل على البطلان بعزله نفسه ، غير ما يدعونه من الإجماع ، ومقتضى النصوص المذكورة وعموم أدلة الوكالة هو البقاء على مقتضاها ، حتى يثبت المخرج من ذلك ، والمانع منه ، وليس الأعزل الموكل ونحوه مما سيأتي ، وأما عزله نفسه وكونه مبطلا لها فلم أقف فيه على نص ، ومجرد كونها من العقود الجائزة لا يوجب ما ذكروه من بطلانها بعزله نفسه ، وانه فسخ لها ، بل غاية ما يوجبه أنه لا يلزمه شرعا ولا يجب القيام بذلك ، كما هو مقتضى العقود اللازمة ، بل ان شاء فعل وان شاء لم يفعل ، وعدم مشية الفعل في وقت عزله نفسه ورده لها ، لا يوجب منعه من الرجوع متى أراد ، الا أن يعزله الموكل.

قال في المسالك ـ في بيان تطبيق ما قدمنا نقله عنهم من الاحتمال الدال على جواز التصرف على ما ذكروه في أصل المسئلة ، من بطلان الوكالة وعدم جواز التصرف ما لفظه ـ : ويمكن الجمع بين كونها عقدا جائزا تبطل بالرد ، وعدم بطلان التصرف بالرد ، بأن يحكم ببطلان الوكالة الخاصة وما يترتب عليها من الجعل لو كان ، وبقاء الاذن العام.

أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، بل التحمل الغير السديد ، أما أولا فبما أشرنا إليه آنفا من أنه لا منافاة بين كونها عقدا جائزا وبين كونها صحيحة مع الرد ، وعزله نفسه ، لأن جوازها ليس الا بمعنى عدم وجوب القيام


بها ، وعدم ترتب المؤاخذة على تركها ، وهذا لا ينافي جواز الرجوع إليها بعد تركها والاعراض عنها.

وثانيا ان ما ذكره من الحكم ببطلان الوكالة الخاصة وبقاء الاذن العام مردود بما قدمنا نقله عنه في المسئلة الثانية في مقام الرد على كلام التذكرة ، من قوله ان الوكالة ليست أمرا زائدا على الاذن ، وهذا هو الذي عضدته الأخبار المتقدمة ، فإنه ليس فيها أزيد من الأوامر الدالة على طلب تلك الأشياء المذكورة من قوله اشتر ، وبع ، واخطب ، وطلق ، ونحو ذلك الراجع جميعه الى الاذن في مباشرة هذه الأمور ، وهذه صيغ الوكالة التي اضطرب فيها كلامهم ، وقبولها إنما هو عبارة عن امتثال تلك الأوامر والمسارعة إلى الإتيان بها ، وليس في شي‌ء منها لفظ وكلت وقبلت ولا نحوهما ، ولكنهم لعدم مراجعة الأخبار في هذه الأبواب والجري على أبحاث العامة تلبس عليهم كثير من الأحكام.

وبالجملة فإن كلامهم في هاتين المسئلتين لا يخلو من تناقض واضطراب ، ولا سيما شيخنا العلامة ، فإنه أطلق القول بالبطلان في المسئلتين في التحرير والإرشاد ، وهو ظاهر الشرائع أيضا ، وجزم في القواعد بصحة التصرف هنا ، وجعله احتمالا في مسئلة بطلان الوكالة بالتعليق على الشرط ، وعكس في التذكرة كما قدمنا نقله عنه في تلك المسئلة ، فاستقرب بقاء الإذن الضمني وجعل بقائه هنا احتمالا فصار في المسئلة ثلاثة أقوال.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسئلة الاولى التوقف ، كما مر في عبارته وربما ظهر منه هنا الترجيح لما ذهب إليه في القواعد ، حيث قال هنا ويمكن بناء هذا الحكم على ما تقدم من أن بطلان الوكالة هل يقتضي بطلان الاذن العام أو لا؟ وقد مر تحقيقه لاشتراكهما في بطلان الوكالة هناك ، لعدم التنجيز ، وهنا لعدم القبول ، الا أن الحكم هنا لا يخلو عن رجحان على ذلك ، من حيث أن الاذن صحيح جامع للشرائط ، بخلاف السابق فإنه معلق ، وفي صحته ما قد


عرفت ، ومن ثم جزم في القواعد ببقاء صحته هنا وجعل الصحة هناك احتمالا انتهى.

أقول : وأنت إذا تأملت فيما حققناه في المسئلتين بعين التحقيق ، وأطرحت ما ادعوه من هذه الإجماعات ورجعت الى الأخبار التي هي السبيل الواضح إلى الأحكام الشرعية والطريق ، ظهر لك المخرج من هذا الاشكال ، والنجاة من هذا المضيق ، والله سبحانه العالم.

المقام الثاني في عزل الموكل له : وقد اختلف الأصحاب في انعزال الوكيل بعزل الموكل له ، فذهب جمع منهم الشيخ في النهاية وأبو الصلاح ، وابن البراج ، وابن حمزة ، وابن إدريس إلى أنه لا ينعزل إلا بإعلامه بالعزل مشافهة ، أو اخبار ثقة ، ومع عدم إمكان الإعلام فيكفي الإشهاد على ذلك ، فالانعزال دائر بين الاعلام والاشهاد مع عدم إمكانه ، وبدون ذلك لا ينعزل والمشهور بين المتأخرين وهو قول الخلاف أنه لا ينعزل إلا بالإعلام ، وقيل : انه ينعزل بمجرد العزل ، وان لم يعلمه ولم يشهد على ذلك ، وهو قول القواعد.

والذي وقفت عليه من الأخبار في المسئلة ما رواه في الفقيه والتهذيب عن العلاء بن سيابة (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة وكلت رجلا بأن يزوجها من رجل ، فقبل الوكالة وأشهدت له بذلك ، فذهب الوكيل فزوجها ، ثم إنها أنكرت ذلك الوكيل ، وزعمت أنها عزلته عن الوكالة ، فأقامت شاهدين أنها عزلته ، فقال : ما يقول من قبلكم في ذلك؟ قلت : يقولون : ينظر في ذلك ، فان كانت عزلته قبل أن يزوج فالوكالة باطلة ، والتزويج باطل ، وان عزلته وقد زوجها فالتزويج ثابت على ما زوج الوكيل وعلى ما اتفق معها من الوكالة إذا لم يتعد شيئا مما أمرت به واشترطت عليه في الوكالة ، قال : ثم قال : يعزلون الوكيل عن وكالتها ولا تعلمه بالعزل ، فقلت : نعم : يزعمون أنها : لو وكلت

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 48 ح 3 ، التهذيب ج 6 ص 214 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 286 ح 2.


رجلا وأشهدت في الملاء وقالت في الملاء اشهدوا أني قد عزلته بطلت وكالته ، بلا أن تعلم العزل ، وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصة. وفي غيره لا يبطلون الوكالة ، الا أن يعلم الوكيل بالعزل ، ويقولون : المال منه عوض لصاحبه والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد ، فقال عليه‌السلام سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده ، ان النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه ، وهو فرج ومنه يكون الولد ، ان عليا عليه‌السلام أتته امرأة مستعدية على أخيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين وكلت أخي هذا بأن يزوجني رجلا فأشهدت له ثم عزلته من ساعته تلك فذهب وزوجني ولي بينة أني قد عزلته قبل أن يزوجني ، فأقامت البينة ، وقال الأخ : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام انها وكلتني ولم تعلمني أنها عزلتني عن الوكالة حتى زوجتها كما أمرتني به ، فقال لها ما تقولين :؟ فقالت : قد أعلمته يا أمير المؤمنين فقال لها : ألك بينة بذلك؟ فقالت : هؤلاء شهود يشهدون بأني قد عزلته فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لهم ما تقولون؟ قالوا : نشهد أنها قد قالت اشهدوا أني قد عزلت أخي فلانا عن الوكالة بتزويجي فلانا واني مالكة لامري من قبل أن يزوجني فلانا فقال : أشهدتكم على ذلك بعلم منه ومحضر ، قالوا : لا ، قال فتشهدون أنها أعلمته العزل كما أعلمته الوكالة؟ قالوا : لا ، قال : أرى الوكالة ثابتة ، والنكاح واقعا أين الزوج فجاء فقال خذ بيدها بارك الله لك فيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين أحلفه أني لم أعلمه العزل وأنه لم يعلم بعزلي إياه قبل النكاح قال : وتحلف؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين فحلف وأثبت وكالته وأجاز النكاح.

وما رواه في الفقيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم (1) وطريقه الى ابن أبى عمير صحيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل وكل آخر على وكالة في أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال : اشهدوا أني قد عزلت فلانا عن الوكالة ، فقال : ان كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 49 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1.


عليه قبل العزل عن الوكالة فإن الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل ، كره الموكل أم رضي ، قلت : فان الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم بالعزل أو يبلغه أنه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال : نعم ، قلت : فان بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ، ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي‌ء؟ قال : نعم ، ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه ، أو يشافه بالعزل عن الوكالة».

ورواه الشيخ في التهذيب بسند فيه العبيدي (1). وما رواه في الفقيه عن ابن مسكان عن أبي هلال الرازي (2) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل وكل رجلا بطلاق امرأته إذا حاضت ، وطهرت ، وخرج الرجل فبدا له فأشهد أنه قد أبطل ما كان أمره به ، وأنه بدا له في ذلك ، قال : فليعلم أهله وليعلم الوكيل.

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن جابر بن يزيد ومعاوية بن وهب (3) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول ، فيها». وطريقه في الفقيه إلى معاوية بن وهب صحيح ، فتكون الرواية فيه صحيحة.

وأنت خبير بما في هذه الأخبار من الدلالة الصريحة على القول المشهور بين المتأخرين ، وقد اشتملت رواية العلاء بن سيابة على ما يؤذن ببطلان ما ذهب إليه في القواعد ، لقوله عليه‌السلام في الرد على العامة يعزلون الوكيل عن الوكالة ولا تعلمه بالعزل الى آخره ، وكذا بطلان قول النهاية ومن تبعه من الاكتفاء بمجرد الاشهاد مع عدم إمكان الاعلام ، كما يفهم من حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام في قضية المرأة المذكورة ونحوها صحيحة هشام بن سالم (4).

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 2.

(2 و 3) الفقيه ج 3 ص 48 ح 2 وص 47 ح 1 ، التهذيب ج 6 ص 214 ح 4 وص 213 ح 1، الوسائل ج 13 ص 288 باب 3 وص 285 باب 1.

(4) الفقيه ج 3 ص 49 ح 5 ، التهذيب ج 6 ص 213 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 286 ح 1.


بقي هنا شي‌ء وهو أن ظاهر عبارة الخلاف وجود الرواية بالانعزال بمجرد العزل ، كما ذهب إليه في القواعد ، حيث قال : إذا عزل الموكل وكيله من الوكالة في غيبة عن الوكيل ، لأصحابنا فيه روايتان إحديهما أنه ينعزل في الحال ، وان لم يعلم الوكيل وكل تصرف يتصرف فيه الوكيل بعد ذلك يكون باطلا ، وهو أحد قولي الشافعي ، والثانية أنه لا ينعزل حتى يعلم الوكيل ذلك ، وكل ما يتصرف فيه يكون واقعا موقعه الى آخره.

وأنت خبير بأن هذه الرواية لم تصل إلينا ولم ينقلها أحد غيره وبذلك اعترف في المختلف أيضا حيث قال : ولم نظفر بالرواية الأخرى التي نقلها في الخلاف ، ثم انه قال في المختلف : والظاهر عدم عزل الوكيل الا أن يعلم العزل لهذه الروايات ، ولأنه لو انعزل قبل علمه كان فيه ضرر ، لأنه قد يتصرف تصرفات تقع باطلة ، وربما باع الجارية فيطؤها المشتري ، والطعام فيأكله أو غير ذلك فيتصرف فيه المشتري ويجب ضمانه بتصرف المشتري والوكيل.

ثم قال : والقول الآخر ليس بردي ، لأن الوكالة من العقود الجائزة ، فللموكل الفسخ وان لم يعلمه الوكيل ، والا كانت لازمة حينئذ هذا خلف ، ولأن العزل رفع عقد ، لا يفتقر الى رضا صاحبه ، فلا يفتقر الى علمه كالطلاق ، والعتق ، وقول النهاية لا بأس به ، لأنه توسط بين الأقوال ، انتهى.

ونسج على منواله المحقق اردبيلى بالنسبة إلى تعليل هذين القولين ، سيما قول القواعد ، وأطال المناقشة والطعن في أسانيد الاخبار حتى أنه في آخر البحث قال : والمسئلة من المشكلات ، لما علمت مما تقدم.

وأنت خبير بان كل ذلك اجتهاد في مقابلة النصوص ، وجرأة تامة على أهل الخصوص ، سيما في الروايات المذكورة ما هو صحيح السند باصطلاحهم مع صراحة الدلالة بما لا يحوم حوله الشك ، والاشكال ، ولكنهم جرت عادتهم بالركون الى هذه التعليلات العقلية ، وترجيحها على الأدلة النقلية ، ويتفرع


على الخلاف المذكور صحة تصرف الوكيل بعد العزل ، وقبل الاعلام بناء على القول المختار ، وعلى القولين الأخيرين من الانعزال بمجرد العزل أو بمجرد الاشهاد يبطل جميع ما فعله بعد الأمرين المذكورين ، وهو الظاهر ، والله سبحانه العالم.

الخامسة : قد صرح الأصحاب بأن الوكالة تبطل بأمور منها ما تقدم من عزل الوكيل نفسه على ما قالوه ، وعزل الموكل كما عرفت ، ومنها التعليق بالشرط أو الصفة

، وقد عرفت الكلام فيه ، الا أن في عد هذا الفرد نوع تسامح.

ومنها موت كل من الوكيل أو الموكل ، أما موت الوكيل فظاهر ، وأما موت الموكل فلأن ما وكل فيه ينتقل الى غيره ، فلا يجوز التصرف فيه إلا بإذن من انتقل اليه ، ولأن العقد كان جائزا منوطا باذنه ، ورضاءهما غير متحققين بعد الموت.

وبالجملة فإنه لا خلاف ولا إشكال في البطلان في الصورة المذكورة وقد صرحوا بأنه لو مات الموكل فان تصرف الوكيل بعد الموت باطل ، وان لم يعلم الموت ، لأن ذلك هو الأصل وإنما خرجت مسألة العزل بالنص.

وعندي فيه توقف ، لعدم إيرادهم نصا على ما ادعوه من البطلان ، سيما مع ما عرفت من خروج النصوص بعدم انعزال الوكيل قبل بلوغ العزل له الجاري ذلك على خلاف قواعدهم ، حتى اضطربوا في التفصي عنها ، فمنهم من قال بها ، وألغى تلك القواعد ، ومنهم من ألغاها وقدم تلك القواعد ، فمن المحتمل قريبا أن يكون الحكم هنا كذلك أيضا ، وما ادعوه من الأصل هنا لا أعرف له أصلا ، وكأنهم أرادوا بالأصل أصل العدم.

وفيه أن الأصل بمعنى الاستصحاب لثبوت الوكالة حتى يقوم الدليل على الإبطال في الصورة المذكورة قائم ومرجع هذا الاستصحاب الى عموم الدليل ، حتى يثبت الرافع له ، ويعضده الأمر بالوفاء بالعقود ، وبالجملة فالحكم لعدم النص لا يخلو عن اشكال.


نعم يمكن أن يستدل لما ذكروه بما رواه في الكافي عن ابن بكير (1) في الموثق عن بعض أصحابنا عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل أرسل يخطب عليه امرأة وهو غائب ، فأنكحوا الغائب وفرضوا الصداق ، ثم جاء خبره بعد أنه توفي بعد ما سيق الصداق ، فقال : ان كان أملك بعد ما توفي فليس لها صداق ، ولا ميراث ، وان كان أملك قبل أن يتوفى فلها نصف الصداق ، وهي وارثة ، وعليها العدة».

فإنها ظاهرة في أنه وكل في حال الغيبة من يخطب له ويعقد عنه ويسوق المهر ثم مات ، وقد حكم عليه‌السلام بصحة العقد متى وقع قبل الموت ، وبطلانه متى كان بعده ، وحينئذ فيتم ما ذكروه من الحكم المذكور ، وان لم يتنبه أحد منهم لهذا الخبر الذي ذكرناه ، بل إنما بنوا الحكم على قواعدهم المتداولة بينهم ثم انهم نبهوا على أنه وان بطلت الوكالة في الصورة المذكورة ، لكن ما بيده يكون أمانة لأن الأمانة لا تبطل بالموت كما تبطل الوكالة الا أنه يجب المسارعة وردها على الوارث فإن أخر لا لعذر ضمن ، كما تقدم في الوديعة ، ولو تلف بغير تفريط فلا ضمان.

ومنها الجنون والإغماء من كل منهما والظاهر أن المستند فيه هو الإجماع كما في المسالك ، فقال : هذا موضع وفاق ، ولأنه من أحكام العقود الجائزة ، وكان مبناه على الخروج عن أهلية التصرف وقد صرحوا أيضا بأنه لا فرق بين أن يكون مطبقا أو أدوارا ولا في الإغماء بين طوله وقصره ، ولا فرق بين أن يعلم الموكل بعروض المبطل وعدمه.

ثم انهم صرحوا أيضا بأنه يجي‌ء في هذه المسئلة ما تقدم في مسئلة ما تقدم في مسئلتي بطلان الوكالة بالرد وبالتعليق ، من جواز التصرف وعدمه ، فإنه بعد زوال الجنون أو الإغماء الذين بهما بطلت الوكالة ، هل يجوز لهما التصرف بالاذن العام فكل من قال بالجواز ثمة ، فإن الحال فيه هنا كذلك.

وقد عرفت مما حققناه في تلك المسئلتين ، أن الحق هو جواز التصرف بل

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 415 ح 1 ، الوسائل ج 14 ص 230 ح 2.


عدم بطلان الوكالة بشي‌ء من ذينك الأمرين وان ادعوا الإجماع عليه فكذلك هنا لأنا لم نقف لهم على دليل يدل على ابطالها بما ذكروه ، سوى ما ادعي من الإجماع وحينئذ فيجوز التصرف فيما وكل فيه ، ولا يحتاج إلى تجديد عقد من الموكل بعد زوال ذلك عنه لو كان هو المصاب بأحد الأمرين ، بل يكفي استصحاب حكم العقد السابق ، أما عندنا فلعدم ثبوت الابطال بذلك كما عرفت ، وأما عندهم فلاستصحاب الاذن العام ، لانه وان بطل عقد الوكالة الا أن الاذن باق.

ويؤيد جواز التصرف هنا وان امتنع بوجود أحد هذين الأمرين جملة من النظائر ، كما صرحوا به من دخول الصيد الغائب في ملك المحرم ، بعد زوال الإحرام ، وأن من وكل محلا فصار محرما لم يحتج الى تجديد الوكالة بعد تحلله عن الإحرام ، ونحو ذلك مما يقف عليه المتبع ، وفي جميع ذلك تأييد لما ذكرناه من عدم بطلان الوكالة هنا.

ومنها الحجر على الموكل فيما يمنع الحجر من التصرف فيه ، فإنه إذا منع ذلك الموكل منع وكيله بطريق أولى ، ولان الحجر موجب لزوال أهلية التصرف المالي ، قالوا : وفي حكم الحجر طرو الرق على الموكل بأن كان كافرا فاسترق ، ولو كان هو الوكيل صار بمنزلة توكيل عبد الغير ، وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى ، ويأتي الكلام في التصرف بعد زوال الحجر كما تقدم.

ولا تبطل بالنوم وان طال لبقاء أهلية التصرف ، ومن ثم أنه لا تثبت الولاية عليه ، وقيد في اللمعة النوم المتطاول بأن لا يؤدى الى الإغماء ، وفيه كما أشار إليه الشارح خروج عن موضع فرض المسئلة ، لأن الإبطال انما هو بالإغماء ، لا بالنوم.

ومنها تلف ما تعلقت به الوكالة كتلف العبد الموكل ببيعه وموت المرأة الموكل بتزويجها أو طلاقها ، وتلف الدينار الموكل بأن يشري به شيئا ، قالوا : وفي حكم التلف انتقاله عن ملكه كما لو أعتق العبد الموكل في بيعه ، أو باع


العبد الموكل في عتقه.

ومنها ما لو فعل الموكل ما تعلقت به الوكالة كأن يوكله في بيع عبد ثم يبيعه هو ، وثبوت البطلان ظاهر ، إذ لا شك في ثبوت ذلك له قبل الوكالة ، والوكالة غير مانعة منه ، ولا منافية له ، سيما مع ثبوت كونها جائزة ، ومعلوم أنه بعد فعله لم يبق ما وكل فيه ، فلا تبقى الوكالة ، لعدم بقاء محلها فهو بمنزلة تلف ما وكل فيه ، كما في سابق هذا الموضع.

وبالجملة فالأمر في ذلك أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان ، وفي حكمه فعل الموكل ما ينافي الوكالة ، قال في المسالك وفي كون وطئ الزوجة الموكل في طلاقها والسرية الموكل في بيعها منافيا وجهان : من دلالة الوطي على الرغبة ظاهرا ولهذا دل فعله على الرجوع في المطلقة رجعية فرفعه للوكالة أولى ، ومن ثبوت الوكالة ومنافاة الوطي لها غير معلوم ، وثبوت الفرق بين الطلاق والوكالة ، فإن الطلاق يقتضي قطع علاقة النكاح فينافيه الوطي ، بخلاف التوكيل فإنه لا ينافيه انتفاع الموكل بالملك الذي من جملته الوطي بوجه نعم فعل مقتضى الوكالة ينافيه ، والأولوية ممنوعة ، وهذا أقوى وأولى بعدم البطلان فعل المقدمات.

وفي القواعد فرق بين الزوجة والسرية فقطع في الزوجة بالبطلان ، وفي السرية بخلافه ، وفي التذكرة توقف في حكم الوطي والمقدمات معا انتهى ، ونحوه كلام المحقق الثاني في شرح القواعد.

والتحقيق أن يقال : ان الوطي والمقدمات التي هي عبارة عن التقبيل والمباشرة دون الفرج ونحو ذلك الدال بظاهره على الرغبة ان وقع مقرونا بالندامة على التوكيل وقصد العزل ، فإنه لا إشكال في كونه عزلا ، وأنه تبطل الوكالة بذلك ، وان وقع مقرونا بعدم ذلك ، فالظاهر بقاء الوكالة وعدم العزل ، وان وقع مشتبها فإنه ينبغي استفسار ذلك من الموكل ، ويقبل قوله في ذلك ، وان لم يمكن مراجعته


واستعلام الحال منه فإن الأقرب عدم العزل وبقاء الوكالة ، لأن ما فعله من هذه الأشياء أعم من قصد الإمساك والعزل عن الوكالة والرغبة فيها ، ومن عدم ذلك ، فالأصل ثبوت الوكالة وبقائها حتى يعلم الرافع لها.

ويشير اليه ما تقدم في الأخبار المتقدمة من قوله عليه‌السلام في بعضها «الوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها» وفي آخر «الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه ، أو يشافه العزل» الدال جميع ذلك على أنه بعد ثبوت الوكالة ، فإنه يجب البقاء عليها الا مع العلم بالرافع لها ، ولهذا لو كان المبلغ للعزل غير ثقة لا يترتب على خبره العلم لم يوجب العزل ، فكذا هنا بمجرد وقوع هذه الأشياء على وجه لا يعلم به ارادة العزل لا توجب عزلا ، ويمكن إرجاع كلام الفاضلين المذكورين الى ما حققناه هنا ، فان ظاهر اعتراضهما على الوجه الأول ـ بأن منافاة الوطي لها غير معلوم ـ أنه لو كانت المنافاة معلومة لكان ذلك عزلا ، وحينئذ فإذا كان مقرونا بالمنافي من قصد الإمساك وقصد العزل عن الوكالة فلا ريب في كونه عزلا عندهما ، وأما ما نقله عن التذكرة من أنه توقف في حكم الوطي والمقدمات فالذي يظهر لي أن التوقف انما هو في المقدمات.

وأما حكم الوطي فالظاهر أنه الأقرب عنده ، وان عبر عنه بلفظ الاحتمال حيث قال في عد عبارات العزل والفسخ فإذا وكله في طلاق زوجته ثم وطئها احتمل بطلان الوكالة ، لدلالة وطئه لها على رغبته واختياره إمساكها ، وكذا لو وطئها بعد طلاقها رجعيا ، كان ذلك ارتجاعا لها ، فإذا اقتضى الوطي رجعتها بعد طلاقها ، فلأن يقتضي استبقاؤها على زوجيتها ومنع طلاقها أولى ، وان باشرها دون الفرج أو قبلها أو فعل ما يحرم على غير الزوج فهل يفسخ الوكالة في الطلاق؟ إشكال ، ينشأ من حصول الرجعة به ، وعدمه انتهى.

والتقريب فيما ذكرناه أنه ذكر الدليل على بطلان الوكالة بالوطء ولم يتعرض لرده ، بل جمد عليه بل جعله أولى من الرجعة ، فكيف ينسب له التوقف


مع الحكم بذلك عنده في الرجعة ، وعدم التوقف فيها وهو قد حكم بالأولوية من الرجعة.

نعم التوقف في المقدمات ظاهر حيث صرح بالإشكال في ذلك ، وجعل الإشكال في الإبطال بها تابعا للإشكال بحصول الرجعة بذلك ، والله سبحانه العالم.

السادسة :قالوا : إطلاق الوكالة يقتضي الابتياع بثمن المثل بنقد البلد حالا ، وان يبتاع الصحيح دون المعيب ، ولو خالف وقف على الإجازة.

أقول : الظاهر أن الوجه في اقتضاء الإطلاق هذه الأمور هو أن المتبادر من الإطلاق ذلك بحسب العرف والعادة ، لأن المرجع في مثل ذلك اليه كما صرحوا به في غير موضع ، وادعى في التذكرة الإجماع هنا على ذلك ، الا أنه في التذكرة قيد إطلاق الوكالة في البيع بثمن المثل ، بما إذا لم يكن هناك باذل بأزيد ، وإلا فلا يجوز ، بل لا يصح البيع حينئذ ، فإنه تجب رعاية المصلحة على الوكيل وصحة فعله موقوفة عليها ، قال في الكتاب المذكور : كما لا يجوز للوكيل أن ينقص عن ثمن المثل ، لا يجوز أن يقتصر عليه ، وهناك طالب بالزيادة ، بل يجب بيعه على باذل الزيادة ، لأنه منصوب لمصلحة الموكل ، وليس من مصلحته بيعه بالأقل مع وجود الأكثر ، انتهى ، وصرح أيضا بأنه لو باع بخيار ثم وجد باذلا يزيد في الثمن في زمن الخيار وجب عليه الفسخ ، تحصيلا لمصلحة المالك في ذلك والتزام البيع مناف لها فلا يملكه.

وزاد المحقق الأردبيلي أيضا أنه يمكن ذلك فيما لو عين الموكل الثمن أيضا ، قال : فان تعيينه إنما هو لظن عدم الزيادة عليه ، وهو المفهوم عرفا إذ المتعارف والغالب أن شخصا لم يبع بأنقص مع وجود الزائد ، والأمور محمولة على الغالب والعرف ، مع أن ذلك أيضا منوط بالمصلحة ، ولا مصلحة في البيع بالناقص مع وجود الزائد ، انتهى وهو غير بعيد ، واستثنى بعضهم أيضا من ثمن المثل النقصان اليسير الذي يتسامح الناس فيه ، ولا يناقشون فيه كدرهم أو درهمين في ألف درهم ،


ولا بأس به نظرا الى ما قدمنا ذكره من دوران هذه الأحكام مدار العرف والعادة.

وأما نقد البلد فان كان واحدا في تلك البلد ، لا تعدد فيه فمعلوم انصراف الإطلاق إليه في البيع والوكالة ، ومع التعدد فإنه ينصرف الى الغالب ، فان استوت تحرى ما هو الأنفع للموكل ، وإلا تخير.

وأما كونه حالا فإنه هو الغالب في العادة ، فيجب حمل الإطلاق عليه.

واما اقتضاء الإطلاق الصحيح دون المعيب ، فادعى عليه في التذكرة الإجماع ، قال : لأن الإطلاق في الشراء يقتضي سلامة المبيع ، حتى أن للمشتري الرد لو خرج معيبا ، ثم نقل عن أبي حنيفة جواز شراء المعيب ، وانه كالمضارب ثم رده بالفرق بين المضارب والوكيل ، وأن المضارب إنما يشترى للربح ، وقد يكون في المعيب ، بخلاف الوكيل فإنه قد يكون للغنية والانتفاع ، والعيب قد يمنع بعض المقصود ، وإنما يقتضي ويد خر السليم ، الى آخر كلامه رحمة الله عليه.

ثم أنه لو خالف الوكيل وشرى المعيب ، فان كان عالما كان فضوليا على القول بصحة الفضولي ، وباطلا على القول الآخر ، وهو المختار كما تقدم في البيع ، ومثله يأتي فيما لو اشترى بزيادة على ثمن المثل عالما ، فإنه للمخالفة يكون موقوفا أو باطلا ، وكذا الحكم عندهم فيما لو اشتراه جاهلا بالعيب.

وإن كان باطنا قالوا : يقع عن الموكل ، لأنه إنما يلزمه الشراء الصحيح بحسب الظاهر ، ولا يخاطب بالسلامة في الباطن ، لأنه يعجز عنه ، ولا يمكنه الوصول إليه إذ هو عيب لا يجوز التكليف به ، فيقع البيع للموكل ، كما لو شرى بنفسه جاهلا بالعيب.

بقي الكلام في خيار العيب بعد العلم به ، والرد به أو الإمساك ، والظاهر أنه للموكل دون الوكيل وبه صرح في التذكرة ، وظاهره الإجماع عليه ، قال : وحيث قلنا يقع عن الموكل وكان الوكيل جاهلا بالعيب فللموكل الرد إذا اطلع عليه ، لأنه المالك ، وهل يملك الوكيل الرد بالعيب ، أما عندنا فلا ، لأنه


إنما وكله في الشراء ، وهو مغاير للرد ، فلا يملكه ، انتهى.

ومنه يظهر أنه لو كانت الوكالة مطلقة أو كان وكيلا في الشراء والرد ، فان للوكيل الرد ، وهو ظاهر ، الا أنه سيأتي في كلامهم أيضا ما يؤذن بأن للوكيل الرد بالعيب.

ثم ان ظاهرهم فيما لو اشترى جاهلا بالغبن ، بأن شرى بما يزيد على ثمن المثل جاهلا ، فإنه لا يقع للموكل ، كما في العيب ، بل يكون حكمه حكم العالم ، كما تقدم ، قالوا : والفرق بين الجهل بالعيب ، والجهل بالغبن أن العيب قد يخفى فهو في شرائه معذور ، والوكالة شاملة له ، لأن التكليف بالصحيح إنما هو بالنظر الى الظاهر ، لا الباطن كما عرفت آنفا.

وبالجملة فهو لا يزيد على شرائه لنفسه ، بخلاف الجهل بالغبن فان الغبن لا يخفى ، ونقص القيمة أمر ظاهر ، مستند الى تقصيره في تحرير القيمة ، فلا يكون داخلا تحت الوكالة.

وفيه أن ما ذكروه لا يطرد كليا لأنه وان تم ذلك في بعض الأفراد الا أن الأمر في بعضها على خلاف ذلك ، فان من العيب ما يكون ظاهرا لا خفاء فيه كالعور والعرج ، ومن الغبن ما هو خفي بل أخفى على كثير من أهل الخبرة ، كما في كثير من العيوب ، كما في الجواهر ونحوها ، وعلى هذا فينبغي أن يجعل الضابط فيهما واحدا بأن يقال ان كلا من العيب والغبن ان كان مما يخفى غالبا ، فإنه يقع الشراء من الموكل مع الجهل بهما ، وإلا وقف على الإجازة ، كما ذكروه ، وبطل على المختار ، والله سبحانه العالم.

السابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أن إطلاق الوكالة بالبيع يقتضي بيع الوكيل على ولده الكبير وزوجته ، كما في غيرهما ، ولم ينقل فيه الخلاف الا عن بعض العامة ، محتجا بمظنة التهمة ، وأما على الولد الصغير فعن الشيخ القول بالمنع : للزوم اتحاد الموجب والقابل ، ولأنه تجب عليه رعاية المصلحة من


الجانبين والمماكسة مهما أمكن ، وذلك غير ممكن هنا.

أقول : ويلزم ذلك كل من قال بعدم جواز شراء الوكيل بنفسه ، قال في التذكرة : إذا منعنا من شراء الوكيل لنفسه لم يجز أيضا أن يشتري لولده الصغير ، ولا لمن يلي عليه لوصية ، لأنه يكون بيعا من نفسه ، وبه قال الشافعي ، وعندي فيه نظر ، أقربه الجواز في ذلك كله ، انتهى.

أقول : ويؤيد الصحة أيضا عموم أدلة البيع وأدلة الوكالة ، والمنع من بطلان الاتحاد ، وقد جوز الشيخ ذلك في الأب والجد بالنسبة إلى الصغير ، وهو ظاهر في عدم مانعية الاتحاد ، وفي عدم اشتراط المماكسة.

وأما البيع على نفسه أو الشراء لنفسه ، فقد تقدم الكلام فيه في الموضع الخامس من المسئلة الخامسة من المقام الأول في البيع (1) ويأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى في المطلب السادس ، والله سبحانه العالم.

الثامنة : قال في الشرائع : إطلاق الوكالة في البيع يقتضي تسليم المبيع ، لأنه من واجباته ، وعلله الشارح في المسالك بأنه إنما كان من واجباته ، لأن البيع يقتضي إزالة ملك البائع عن المبيع ، ودخوله في ملك المشتري ، فيجب على مدخل الملك التسليم ، لأنه من حقوقه.

وقال في الإرشاد : ووكيل البيع لا يملك تسليم المبيع قبل توفية الثمن ، ووجهه الشارح الأردبيلي بأن تسليم المبيع ليس بداخل في مفهوم البيع ، ولا يشترط في ذلك ، فلا يكون وكيله مالكا له ، إذ ما وكله إلا في البيع ، وأما إذا دفع الثمن إلى الموكل أو وكيله الجائز له قبضه ، أو أبرأه من الثمن فلا يجوز منعه ، لأنه صار ملكا خالصا للمشتري ، بحيث لا يجوز للموكل منعه ، فيجب عليه التسليم كالوكيل ، وان لم يكن وكيلا في التسليم صريحا ، انتهى.

وظاهر عبارة القواعد مثل الشرائع ، والظاهر أنه يجب تقييدهما بما ذكره

__________________

(1) ج 18 ص 416.


هنا من دفع الثمن أولا ، بناء على قاعدتهم من عدم الوجوب الا بالتقابض ، وكذا تقييد عبارة المسالك المذكورة ، فإنه وان دخل في ملك المشتري بمجرد عقد البيع كما ذكره ، الا أن ملكه له لا يستلزم وجوب تسليمه له قبل قبض الثمن منه ، حيثما صرحوا به فيما لو باع مال نفسه ، كما تقدم في البيع ، ولهذا انه في المسالك استدرك ذلك ، فقال في تتمة العبارة المتقدمة : لكن لا يسلمه حتى يقبض الثمن هو ، أو من يكون له قبضه.

قال في التذكرة : إذا وكله في البيع يملك تسليم المبيع إلى المشترى ان كان في يده ، وهو قول أكثر الشافعية ، لأن البيع يقتضي إزالة الملك ، فيجب التسليم ، ولأن تسليم المبيع إلى المشترى من تمامه وحقوقه ، وهذا عين ما علله في المسالك ، ثم قال في المسئلة التي بعدها : إذا وكله في البيع لم يملك قبض الثمن على ما تقدم ، ويملك تسليم العين إلى المشتري ، لكن لا يسلم قبل أن يقبض الموكل أو من نصبه الثمن ، فإن سلمه قبل قبضه كان ضامنا ، وقد قيد في هذه المسئلة ما أطلقه في المسئلة التي قبلها.

وبالجملة فإن رعاية قواعدهم في المسئلة توجب ذلك ، ولهذا انه في المسالك استدرك بالتقييد بذلك ، هذا بالنسبة إلى تسليم المبيع.

وأما قبضه الثمن فقد صرحوا بأن إطلاق الوكالة في البيع لا يقتضي قبض الثمن ، لأنه قد لا يؤمن على القبض والوكالة انما وقعت في البيع ، وقبض الثمن أمر زائد على ذلك ، إلا أن يكون هناك قرينة تدل عليه ، فيكون الاعتماد في ذلك عليها ، كما لو أمره بالبيع في سوق بعيدة أو بلد آخر بحيث أنه يضيع الثمن بترك قبضه ، ولا يمكن للموكل قبضه ، ففي مثل ذلك يجوز ، بل يجب قبضه حتى أنه لو تركه ولم يقبضه كان ضامنا ، لأن الظاهر من حال الموكل أنه انما أمره بالبيع للانتفاع بالثمن ، ولا يرضى بتضييعه ، ولهذا يعد من فعل ذلك مفرطا هذا في الوكيل في البيع.


وأما الوكيل في الشراء فإنهم قد صرحوا بأن إطلاق الوكالة في الشراء يقتضي الاذن في تسليم الثمن ، ولا يقتضي الاذن في تسلم المبيع ، قال في التذكرة : الوكيل بالشراء إذا اشترى ما وكل فيه ملك تسليم ثمنه ، لأنه من تتمته وحقوقه ، فهو كتسليم المبيع في الحكم ، والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في البيع ، الوجه عندنا أنه لا يملكه ، كما قلناه في البيع لا يملك الوكيل فيه قبض الثمن ، انتهى ، وعلى هذا النهج كلام الشرائع والإرشاد وغيرهما.

أقول : وينبغي تقييد إطلاقهم هنا عدم ملكه تسلم المبيع ، لعدم دخوله تحت إطلاق الوكالة بما قيد به عدم قبض الثمن في صورة الوكالة في البيع ، من أنه لو دلت القرائن على فوات المبيع وذهابه لو لم يتسلمه لكان الواجب عليه قبضه ، فضلا عن أن يكون جائزا لعين ما ذكروه ثمة ، كما لو وكله في شراء عين من مكان بعيد يتعذر على الموكل قبضها ، بحيث لو لم يقبضها ذهبت وفاتت ، فإنه يجب عليه قبضها ، وأنه يضمن بترك ذلك لعين ما تقدم ،

وينبغي أيضا تقييد إطلاقهم ملك تسليم الثمن هنا بما تقدم في الوكالة في البيع من تقييد ملكه لتسليم المبيع ، بما إذا قبض الموكل أو من يقوم مقامه الثمن لعين ما تقدم من الدليل في تلك الصورة ، ولعله الى ذلك يشير قوله في التذكرة : فهو كتسليم المبيع ، فان قياسه على تسليم المبيع وجعله مثله وعلى نهجه مع أنه كما عرفت قد صرح ثمة بأنه لا يسلم المبيع حتى يقبض الموكل أو من نصبه الثمن ، بمقتضى ما قلناه هنا من أنه لا يسلم الثمن إلا بعد قبض المبيع ، فمعنى قولهم أنه مأذون في دفع الثمن يعنى بعد تسليم المبيع.

وبالجملة فالظاهر عدم الفرق بين الوكيل البائع والوكيل المشتري ، في أنه ليس لهما دفع ما بيدها وإقباضه إلا بعد وصول عوضه الى الموكل أو من نصبه لقبضه ، حيثما تقدم في كلامهم في البيع في غير موضع من اشتراط التقابض ونحوه والله سبحانه العالم.


التاسعة : قد صرح جمع من الأصحاب منهم الفاضلان في الشرائع والإرشاد بأن للوكيل الرد بالعيب مع حضور الموكل وغيبته ، وعلله في الشرائع قال : لأنه من مصلحة العقد.

أقول : قد تقدم في عبارة التذكرة في المسئلة السادسة ما يؤذن بدعوى الإجماع على أن الوكيل لا يملك الرد بالعيب ، لأنه إنما وكله في الشراء وهو مغاير للرد فلا يملكه ، وعلل في المسالك كلام المصنف هنا بأن الموكل قد أقامه مقام نفسه في هذا العقد ، والرد بالعيب من لوازمه لأن التوكيل لما لم ينزل إلا على شراء الصحيح ، فإذا ظهر العيب كان له الرد وشراء الصحيح ، ثم اعترضه فقال : ويشكل الأول بأنه انما أقامه مقام نفسه في العقد ، لا في اللوازم ، إذ من جملتها القبض ، والإقالة وغيرهما ، وليس له مباشرتهما إجماعا ، والثاني بأن مقتضاه وقوف العقد على الإجازة كما مر لا ثبوت الرد ، الى أن قال : والأجود عدم جواز الرد مطلقا ، وفاقا للتذكرة ، لأن الوكالة في الشراء انما اقتضت إدخال المبيع في ملكه ، والرد يقابله ويضاده ، فلا يدخل فيها ، انتهى وهو جيد.

وكيف كان فإنه متى رضي به الموكل أو منعه عن الرد فإنه ليس له الرد ، أما على ما اخترناه فإنك قد عرفت أن الوكيل ليس له الرد ، وانما الخيار للموكل بين الرد والإمساك.

وأما على ما ذكروه هنا من أن للوكيل الرد فلأنه بمنعه عن الرد قد انعزل عن الوكالة في ذلك ، كما ذكره في المسالك بناء على ذلك ، حيث قال ـ بعد قول المصنف ولو منعه الموكل لم تكن له مخالفته ـ ما لفظه : لا شبهة في بطلان رده بالنهي المذكور ، لأنه إبطال للوكالة فيما تضمنه ، وعزل له فيه ، وإذا جاز عزله عن الوكالة فمن بعض مقتضياتها أولى وفي حكمه إظهار الرضا بالعيب ، فإنه في معنى النهي عن الرد وأراد بذلك الفرق بين الوكيل ، وعامل المضاربة ، حيث انه قد سلف أن ليس للمالك منعه من الرد بالعيب ، وان رضى به مع كون العامل في معنى الوكيل ، والفارق انحصار الحق هنا في الموكل ، واشتراكهما في العامل.


المطلب الثاني فيما تصح النيابة فيه وما لا تصح :

قال في التذكرة : البحث الرابع فيما فيه التوكيل والنظر في شرائطه ، وهي ثلاثة

الأول : أن يكون مملوكا للموكل ، الثاني : أن يكون قابلا للنيابة ، الثالث : أن يكون ما به التوكيل معلوما ولو إجمالا ، انتهى.

والكلام في هذا المطلب يقع في موارد : الأول : قال في التذكرة : يشترط فيما يتعلق الوكالة به أن يكون مملوكا للموكل ، فلو وكل غيره بطلاق زوجة سينكحها أو بشراء عبد سيملكه ، أو إعتاق رقبة يشتريه ، أو قضاء دين يستدينه ، أو تزويج امرأة إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها ، وما أشبه ذلك ، لم يصح ، لأن الموكل لا يتمكن من فعل ذلك بنفسه ، فلا تنتظم فيه اقامة غيره ، وهو أصح وجهي الشافعية.

الثاني : انه صحيح ، ويكتفى بحصول الملك عند التصرف ، وأنه المقصود من التوكيل ، وقال بعض الشافعية : الخلاف عائد الى أن الاعتبار بحال التوكيل أم حال التصرف ، انتهى.

أقول : ينبغي أن يعلم أن المراد بكون متعلق الوكالة مملوكا للموكل بمعنى كونه مما يمكن الموكل التصرف فيه ، ومباشرته بنفسه عقلا وشرعا ، ومثل هذه الأمور المعدودة لما لم يمكنه مباشرتها بشي‌ء من الوجهين المذكورين انتفت الوكالة فيها ، وأولى منها الأمور المستحيلة عقلا أو شرعا ، فلا يجوز التوكيل في الغصب والسرقة والقتل ونحوه ، وأحكامها انما تلزم المباشر لها ، وهل يعتبر الإمكان المذكور من حين التوكيل الى حين التصرف ، ظاهر جمع منهم ذلك على ما نقله في الكفاية ، وهو ظاهر عبارة التذكرة المتقدمة.

وقال المحقق الثاني في شرح القواعد على ما نقله بعض الأفاضل فمن شرط صحة الوكالة أن يكون التصرف مملوكا للموكل في وقت صدور عقد التوكيل والظاهر أن ذلك متفق عليه عندنا ، وللشافعية خلاف في ذلك.


أقول : ومنه يعلم أن الاكتفاء بحصول الملك وقت التصرف مختص بالعامة كما تقدم نقله عن بعض الشافعية ، وقد تلخص من ذلك أنه متى كان شرط الوكالة ذلك امتنع التوكيل في هذه الأفراد المعدودة ، الا أنه قد أورد المحقق الأردبيلي هنا عليهم اشكالا ، وهو انهم قد حكموا بجواز التوكيل للطلاق في طهر المواقعة وفي حال الحيض ، وانهم يجوزون التوكيل في تزويج امرأة وطلاقها قبل التزويج وكذا في شراء عبد وعتقه من غير نزاع ، ثم نقل عن التذكرة التصريح بذلك ، ثم قال : وأيضا يجوزون الطلقات الثلاث مع رجعتين بينهما ، ومعلوم جواز عقد القراض ، وهو مستلزم للبيوع المتعددة الواردة على المال مرة بعد أخرى ، وليس بموجود حال العقد.

وبالجملة لا شك في جواز التوكيل في أمر لا يكون بالفعل للموكل فعله بل بعد فعل آخر كما مثلناه ، وجميع ذلك مع قولهم بهذا الشرط مشكل ، الى أن قال : فهذا الشرط غير متحقق اعتباره لي ، سواء قلنا وقت التوكيل فقط ، أو يستمر الى وقت الفعل انتهى.

أقول : من المحتمل قريبا حصول الفرق بين ما قدمنا ذكره عن التذكرة من الأمثلة التي يمتنع التوكيل فيها لعدم الشرط المذكور ، وبين ما ذكره من الأمثلة بأن يقال : بالفرق بين ما وقع فيه التوكيل مستقلا كالأمثلة التي منعوا عن الصحة فيها ، وبين ما وقع التوكيل فيه تبعا لما يجوز التوكيل فيه اتفاقا كالأمثلة التي أوردها ، فيبطل في الأول ، ويصح في الثاني ، ويشير الى ذلك ، جمعه في التذكرة بين الكلام الذي اعترض به عليه ، وبين ما قدمنا نقله عنه في صدر المسئلة في موضع واحد ، فإنه قال : على أثر ما قدمناه في صدر المسئلة ما صورته : ولو وكله في شراء عبد وعتقه أو في تزويج امرأة وطلاقها ، أو في استدانة دين وقضاءه صح ذلك كله ، لأن ذلك مملوك للموكل ، انتهى.

وحينئذ فلو لم يكن الفرق حاصلا بما ذكرنا بل كان الجميع من باب


واحد كما ذكره ، لحصل التدافع بين كلاميه ، فكيف يصرح في محل واحد في بعض الأمثلة بأنه لا يصح التوكيل ، لأنه لا يملك التصرف ، ويقول في نظيره أنه يصح ، لأن ذلك مملوك للموكل.

وبالجملة فإن الفرق بين وقوع الشي‌ء أصالة وتبعا غير عزيز في الأحكام ، وقد تقدم في الضمائم الى ما لا يصلح بيعه منفردا ما هو ظاهر في ذلك ، ومنه أيضا عدم جواز الوقف على من لم يوجد أصالة ، وصحة الوقف عليه تبعا فلو وقف على من سيولد له بطل اتفاقا ، وعلى من ولد ومن سيولد صح اتفاقا.

نعم يبقى الكلام في الدليل الدال على هذا الشرط ، ولا أعلم لهم دليلا زيادة على ما يفهم من الاتفاق الذي ادعاه المحقق الشيخ علي ، وفيه ما عرفت في غير مقام مما تقدم فالمسئلة غير خالية من الاشكال ، كما في غيرها من مسائلهم الجارية على هذا المنوال.

الثاني : قد عرفت أن من الشروط قبول الفعل الموكل فيه للنيابة ، والأصحاب قد جعلوا لذلك ضابطا ، فقالوا : ان كلما تعلق قصد الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة فإنه لا يقبل التوكيل ، ولا تصح فيه النيابة ، فكلما جعل ذريعة إلى غرض لا يختص بالمباشرة تصح النيابة فيه.

قال في التذكرة ، الضابط فيما تصح فيه النيابة وما لا يصح أن نقول : كلما يتعلق غرض الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة لم تصح فيه الوكالة ، وأما مالا يتعلق غرض الشارع بحصوله من مكلف معين ، بل غرضه حصوله مطلقا ، فإنه تصح فيه الوكالة وذلك لان التوكيل تفويض وانابة ، فلا يصح فيما لا تدخله النيابة ، انتهى.

وعدوا من الأول الطهارة ، وان جازت النيابة في غسل الأعضاء عند الضرورة ، الا أن ذلك ليس وكالة ، والصلاة الواجبة ما دام حيا ، وكذا الصوم والاعتكاف والحج الواجب مع القدرة ، والايمان والنذور والغصب والقسم بين الزوجات لانه


يتضمن استمتاعا ، والظهار واللعان وقضاء العدة والجناية ، والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش ، واقامة الشهادة إلا على وجه الشهادة على الشهادة.

وعدوا من الثاني البيع ، وقبض الثمن ، والرهن والصلح ، والحوالة والضمان والشركة والعارية ، واختلفوا في جملة من الأفراد كما سيأتي التنبيه عليها إنشاء الله تعالى.

أقول : لا يخفى ان الظاهر أن بناء هذا الضابط إنما هو على التقريب في جملة من هذه المعدودات ، والا فإنه لا نص على هذا الضابط ، ولا دليل عليه من الأخبار.

أما العبادات فالتقريب فيها أنه لما كان المقصود منها الانقياد والخضوع والخشوع لله سبحانه ، وتهذيب النفس الأمارة وتذليلها كان مستلزما للمباشرة ، وفعل المكلف بنفسه ليترتب عليه الأغراض المذكورة ، ولا ينافي ذلك الاستنابة في غسل أعضاء الطهارة مع العجز في الطهارة المائية ، أو الترابية فإنه لا يسمى وكالة ، ولذلك تجوز الاستنابة فيه ، لمن لا يصح توكيله كالمجنون والصغير والنية في ذلك من المكلف إذ لا عجز فيها إلا مع زوال التكليف بالكلية ، وأما تطهير الثوب والبدن من النجاسة فليس في حد ذاته من العبادات ، ليمتنع التوكيل فيه ، وان ألحق بها من حيث استحباب النية ، ولهذا يحكم فيه بالطهارة بحصول الغسل كيف اتفق وان كان لا من قصد ولا نية بالكلية.

نعم قد استثنى من العبادات هنا مواضع : منها الصلاة الواجبة كركعتي الطواف حيث تجوز الاستنابة في الحج الواجب مع العذر ، ومنها الحج في الصورة المذكورة ، ومنها الحج المندوب وركعتا الطواف فيه ، والطواف المندوب حيث يناب فيه وصلاة الزيادة ، وأما غيرها من النوافل والصوم المندوب ففي جواز التوكيل فيه اشكال ، وإطلاق جمع من الأصحاب المنع من الاستنابة في العبادات يشملهما ، وان قيد الإطلاق في غيرهما لقيام الدليل عليه ، ويبقى ما عداه على


المنع ، ومنها عتق العبد عن كفارة وجبت عليه ، ومنها أداء الزكاة الواجبة والخمس فإنه يجوز التوكيل فيها بغير اشكال ، وكذا الزكوات المستحبة.

وأما الالتقاط والاحتطاب والاحتشاش فالكلام فيها مبني على ما تقدم تحقيقه في الشركة في المسئلة الثانية من الفصل الثالث اللواحق من الكتاب المذكور ، ومن ذلك يعلم أن هذه الأشياء مما قد اختلف فيه كلامهم.

وهنا مواضع قد وقع الخلاف في جواز التوكيل فيها ، منها الإقرار بأن يقول وكلتك لتقرعنى لفلان بكذا وكذا ، فذهب الشيخ الى جواز التوكيل فيه ، وهو أحد قولي الشافعية ، لأنه قول يلزم به الحق فأشبه الشراء وسائر التصرفات. وتردد في التذكرة ، ومن ذهب الى المنع علله بأن الإقرار إخبار بحق عليه ، ولا يلزم الغير إلا على وجه الشهادة ، ولا يليق التوكيل بالإنشاءات.

ومنها أيضا التوكيل في إثبات الحدود التي هي حق الله سبحانه ، وأما ما يتعلق بالآدميين فقد جوزوا الوكالة فيه ، ووجه المنع من التوكيل فيها أنه مبنية على التخفيف ، ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (1) «ادرأوا الحدود بالشبهات». والتوكيل يؤدي الى إثباتها ، والقول بذلك مذهب الفاضلين ، في غير التذكرة ، وأما في التذكرة فإنه قال : ويجوز التوكيل في إثبات حدود الله سبحانه ، وبه قال بعض العامة ، ثم نقل خبرا من أخبار العامة يدل على أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكل في إثبات الحد واستيفائه ، ثم قال : ولأن الحاكم إذا استناب نائبا في عمل فإنه يدخل في تلك النيابة الحدود وإثباتها فإذا دخلت في التوكيل بالعموم فبالتخصيص أولى ، ثم نقل عن الشافعي المنع من التوكيل في إثباتها ، محتجا بما تقدم ثم رده بأن للوكيل أن يدرء بالشبهة ، وإلى هذا القول قال في المسالك محتجا بما ذكره العلامة هنا ، وأجاب عن دليل المانع بما أجاب به هنا أيضا.

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 53 ح 12 ، الوسائل ج 18 ص 336 ح 4.


ومنها الجهاد قال في المبسوط : وأما الجهاد فلا تصح النيابة فيه على حال ، لأن كل من حضر الصف توجه فرض القتال اليه ، وكيلا كان أو موكلا ، وقد روى أنه تدخله النيابة ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : والمعتمد دخول النيابة فيه ، ولذا يصح الاستيجار عليه ، وهذا اختيار ابن البراج ، انتهى.

أقول : ما نقله الشيخ من وجود الرواية بالنيابة لا تحضرني الآن ، فان ثبت فلا معدل عن القول بها ، وبه يزول الاشكال ، ويضعف ما ذهب اليه ، وما استدل به العلامة قوى أيضا ان ثبت صحة الاستيجار عليه ، كما ادعاه.

ومنها وكالة الرجل لزوجته في طلاق نفسها منه ، قال في المبسوط : وأما المراءة فإنها تتوكل لزوجها في طلاق نفسها عند الفقهاء وفيه خلاف بين أصحابنا ، والأظهر أنه لا يصلح ، وتبعه ابن إدريس قال في المختلف : والوجه عندي الجواز ، لنا أنه فعل تدخله النيابة صدر من أهله في محله ، فكان واقعا ، عملا بالأصل ، ولا يخفى أن ما استدل به ، لا يخرج عن المصادرة ، وأنه عين المدعى ، واما التمسك بأصالة الصحة فهو أيضا لا يخلو من الاشكال.

ومنها توكيل الكافر في تزويج المسلمة ، منع عنه في المبسوط ، وجوزه ابن إدريس ، واختار في المختلف ما ذهب اليه الشيخ ، واستدل عليه بأنه نوع سلطنة ، وثبوت ولاية وسبيل على المسلم ، فلا يصح لقوله تعالى (1) «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً».

أقول : لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن ، ثم قال : احتج بالأصل والجواب المنع من التمسك به مع قيام منافيه.

ومنها من وكل غيره في طلاق زوجته وهو حاضر ، فذهب الشيخ وجماعة منهم ابن البراج وأبو الصلاح الى عدم جواز ذلك ، وذهب ابن إدريس ومن تأخر عنه الى الجواز ، وسيأتي تحقيق المسئلة في محلها ان شاء الله تعالى.

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 141.


ومنها أن يتوكل المسلم للذمي على المسلم ، وظاهر الخلاف المنع منه ، وكذا في النهاية ، وهو ظاهر الشيخ المفيد أيضا ، ومنع أبو الصلاح من ذلك ، وصرح ابن إدريس والعلامة في المختلف بالجواز ، قال في المختلف : لنا الأصل الدال على الجواز السالم عن المعارضة بإثبات السبيل للكافر على المسلم.

ومنها توكيل الحاضر في الخصومة من غير أن يلزمه الحضور ، رضي خصمه بذلك أم لا ، والمشهور الجواز ، وذهب ابن الجنيد إلى أنه مع حضوره لا يجوز إلا أن يرضى الخصم بمخاصمة وكيل خصمه.

ومنها أيضا قبض الزكاة والخمس ، فهل يجوز للفقير والسيد التوكيل في قبض ذلك له ممن عليه ذلك ، قولان : الجواز وهو قول المبسوط ، والمختلف والتذكرة ، والمنع وهو قول ابن إدريس ، وابن البراج ، إما إخراجهما فلا خلاف نصا وفتوى في ذلك.

قال ابن إدريس : قال بعض أصحابنا يجوز من أهل السهمين التوكيل في قبضها ، وقال ابن البراج : لا يجوز ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنه لا دلالة عليه ، فمن ادعى ذلك فقد أثبت حكما شرعيا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ولا دلالة ، وأيضا فالذمة مرتهنة بالزكاة ، ولا خلاف بين الأمة ان دفعها الى مستحقها يبرء الذمة بيقين ، وليس كذلك إذا سلمه الى الوكيل ، لأن الوكيل ليس هو من الأصناف الثمانية بغير خلاف ، لأن الزكاة والخمس لا يستحقهما واحد بعينه ، ولا يملكهما إلا بعد قبضه لهما ، فتعين له ملكهما ، والوكيل لا يستحق إلا ما تعين ملكه للموكل ، واستحق المطالبة به ، وكل واحد من أهل الزكاة والخمس لا يستحق المطالبة بالمال ، لأن الإنسان مخير في وضعه فيه ، أو في غيره ، فلا يجبر على تسليمه اليه ، انتهى.

واستدل في المختلف على ما ذهب اليه من الجواز ، فقال لنا : أنه عمل مباح يقبل النيابة ، فصحت الوكالة فيه ، أما إباحته فلا شك فيه ، وأما قبوله


النيابة فظاهر ، ولهذا وضع الشارع نصيبا للعامل ، ولا خلاف أنه يجب دفع الزكاة الى الامام والعامل ، ويبرأ ذمة الدافع ، وان تلف لأنهما كالوكيلين لأهل السهمين ، وأي استبعاد في أن يقول الفقير : وكلتك في قبض ما يدفعه المالك الي عن زكاته ، ولا يستلزم ذلك استحقان المطالبة ، بل إذا اختار المالك الدفع الى ذلك الفقير جاز الدفع الى وكيله ، انتهى.

أقول : والمسئلة لا يخلو عن شوب الاشكال ، وان كان قول ابن إدريس هو الأقرب الى جادة الاعتدال ، أما ما ذكره العلامة من أنه عمل مباح يقبل النيابة ، فإنه مصادرة ظاهرة ، لأن هذا هو عين المدعى ، إذ الخصم ينكر ذلك.

وما ذكره من الدفع الى الامام بيده أو يد عامله ، ففيه أنه ليس كون الامام هنا وكيلا عن المستحقين بأولى من كونه وكيلا عن المالك ، ويكون نائبا منابه في تفريقه على المستحقين ، ولهذا ان بعض الأصحاب صرح بكونه وكيلا عن المالك.

وكيف كان فهو مستثنى بالنصوص الدالة على ذلك ، حتى قيل : بوجوب الدفع اليه ، وان كان المشهور الاستحباب ونائبه عليه‌السلام في معناه.

وإنما يبقى الكلام فيما عداه ، ومما يتفرع على ذلك أنه لو تلف المال في يد الوكيل بتفريط أو غير تفريط فمقتضى كلام القائل بالجواز براءة ذمة المالك ، وهو مشكل ، لأنه مأخوذ عليه بظواهر النصوص في براءة ذمة الدافع الى المستحق ، والمتبادر منه كما هو الشائع المتعارف هو الدفع اليه بيده ، والحال أنه لم يدفع اليه بيده ، وكون الدفع الى وكيله دفعا اليه ، يتوقف على قيام الدليل على صحة الوكالة في هذه المسئلة.

ومما يتفرع على ذلك أيضا أنه لو تصرف الوكيل في المال المدفوع اليه صح ذلك ومضى ، لأن المستحق الذي وكله لا يستحق المطالبة به ، لأنه لا يصير ملكا له الا بعد قبضه ، فلا يستحق المطالبة به ، والدافع قد برئت ذمته كما هو المفروض


على هذا القول ، وهذا عين السفسطة ، ودعوى كون قبض الوكيل في حكم قبض الموكل ، يتوقف على صحة التوكيل بالدليل في الصورة المذكورة ، ويمكن أن يستدل لما ذكره العلامة بعموم أدلة الوكالة ، وليس هنا ما يصلح للمنع الا عدم تعيين الدفع الى ذلك الموكل ، وجواز العدول عنه الى غيره ، وهذا لا يصلح للمانعية ، إذ يكفي بناء على تسليمه أن يكون ذلك حقا له في الجملة ، وهو هنا كذلك ، ويمكن أن يؤيد ذلك بما صرحوا به من جواز الدفع إلى أطفال المؤمنين ، وأنه يدفع إلى وليهم ان كان ، أو عدل يقوم بإنفاقه عليهم ، وبالجملة فإن المسئلة لعدم الدليل الواضح باقية في قالب الاشكال ، والله سبحانه العالم.

الثالث : قد عرفت أن من جملة الشروط العلم بما فيه التوكيل ، ولو إجمالا قال في التذكرة : لا يشترط في متعلق الوكالة وهو ما وكل فيه أن يكون معلوما من كل وجه ، فإن الوكالة إنما جوزت لعموم الحاجة ، وذلك يقتضي المسامحة فيها ، ولكن يجب أن يكون مبينا من بعض الوجوه ، حتى لا يعظم الغرر ، ولا فرق في ذلك بين الوكالة العامة والخاصة ، فأما الوكالة العامة بأن يقول وكلتك في كل قليل وكثير ، فان لم يضف إلى نفسه فالأقوى البطلان ، لأنه لفظ مبهم بالغاية ، ولو ذكر الإضافة إلى نفسه ـ وقال : وكلتك في كل أمر هو لي أو في كل أموري أو في كل ما يتعلق بي ، أو في جميع حقوقي ، أو في كل قليل وكثير من أموري ، أو فوضت إليك جميع الأشياء التي تتعلق بي ، أو أنت وكيل مطلقا تصرف في مالي كيف شئت ، أو فصل الأمور المتعلقة به التي تجري فيها النيابة ، وفصلها فقال : وكلتك ببيع أملاكي وتطليق زوجاتي وإعتاق عبيدي أو لم يفصل على ما تقدم أو قال : وكلتك في كل أمر هو لي مما يناب فيه ، ولم يفصل أجناس التصرفات أو قال : أقمتك مقام نفسي في كل شي‌ء ـ فالوجه عندي الصحة في الجميع ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وقال الشيخ : لا تصح الوكالة العامة ، وهو قول العامة ، إلا ابن أبى ليلى لما فيه من الغرر العظيم ، والخطر الكثير ، لأنه


يلزمه فيه هبة ماله ، وتطليق نسائه ، وإعتاق رقيقه ، وأن يزوجه نساء كثيرة ، وتلزمه المهور الكثيرة ، والأثمان العظيمة فيلزم الغرر العظيم.

والجواب أنا نضبط جواز تصرف الوكيل بالمصلحة ، وكلما لا مصلحة فيه لم ينفذ تصرف الوكيل ، كما لو وكله في بيع شي‌ء وأطلق ، فإنه لا يبيع الا نقدا بثمن المثل من نقد البلد ، فكذا في الوكالة العامة ، انتهى.

أقول : ما نقل عن الشيخ هنا هو مذهبه في الخلاف ، وأما في النهاية فإنه قد وافق الأصحاب ، والقول بالصحة منقول أيضا عن الشيخ المفيد ، وسلار ، وابن البراج ، وابن إدريس ، وهو المشهور بين المتأخرين ، الا أن ظاهر الشرائع الميل إلى ما ذكره في الخلاف ، حيث قال : ولو وكل على كل قليل وكثير لا يصح لما يتطرق من الضرر ، وقيل : يجوز ، ويندفع الخبال باعتبار المصلحة ، وهو بعيد عن موضع الفرض ، نعم لو وكل على ما يملك صح ، لأنه يناط بالمصلحة.

قال في المسالك : والجواز مذهب الأكثر ، لاندفاع الغرر والضرر بمراعاة المصلحة في فعل الوكيل مطلقا ، والمصنف رد هذا القيد بأنه بعيد عن موضع الفرض ، فان الفرض كونه وكيلا في كل شي‌ء فيدخل فيه عتق عبيده ، وتطليق نسائه ، وهبة أملاكه ، ونحو ذلك مما يوجب الضرر ، والتقييد خروج عن الكلية.

وجوابه أن القيد معتبر وان لم يصرح بهذا العموم ، حتى لو خصص بفرد واحد تقيد بالمصلحة ، فكيف بمثل هذا العام المنتشر ، وفرق المصنف بين هذا العام وبين ما خصصه بوجه ، كقوله وكلتك على ما أملك ونحوه ، لاندفاع. معظم الغرر ، نظرا إلى أن رعاية المصلحة في الأمور المنتشرة أمر خفي جدا ، فإذا خصص متعلقها سهلت ، وهو غير واضح ، لأن رعاية المصلحة تضبط الأمرين ، وانتشار الأمور لا يمنع من ذلك ، فان مرجع المصلحة إلى نظر الوكيل ، فما علم فيه المصلحة يفعله ، وما اشتبه عليه يمتنع فعله ، ولأنه لو فصل ذلك العام المنتشر فقال : وكلتك في عتق عبيدي ، وتطليق زوجاتي وبيع أملاكي صح ،


لأن كل واحد منضبط برعاية المصلحة على ما اعترفوا به ، وذلك مشترك بين الأمرين ، فالأقوى الجواز مطلقا ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن العموم المستفاد من هذه الأمثلة التي ذكرها في التذكرة مما ينافي اعتبار المصلحة ، كما أن تقييد هذا العموم مناف أيضا ، فإن ظاهر هذا العموم أن للوكيل إخراجه من جميع ما يملكه من أموال عينية وحقوق شرعية وإثبات ما عليه ربما لا يمكنه الخروج عن عهدته ، وجميع ذلك خلاف المصلحة عرفا وعادة ، كما أنه لو فصل كان كذلك ، فكلام المحقق لا يخلو عن قرب ، الا أن يقال : انه قد رضي بذلك ، فهو في حكم ما لو فعل ذلك بنفسه ، «والناس مسلطون على أموالهم». فيصح بناء على ذلك ، ولا ثمرة هنا للتقييد بالمصلحة ، لأنه من الظاهر المعلوم عدم المصلحة ، لو فعل ذلك تفصيلا ، مع قولهم بالجواز ، فكذا في صورة الإجمال الذي هو بمعناه.

وبالجملة فالأمر دائر بين احتمال عدم الصحة من لزوم الضرر ، وبين احتمال الصحة بناء على رضاه بذلك ، لمعلومية ذلك عنده ، كما أنه لو فعله بنفسه كان كذلك ، وأما التقييد بالمصلحة وعدمها فلا مدخل له هنا.

نعم لقائل أن يقول : ان ما ادعيتموه من أن للإنسان أن يفعل بنفسه وماله ما شاء ممنوع ، فإنه متى تجاوز في التصرف إلى حد يوجب الإسراف وإدخال الضرر على نفسه ، كان ممنوعا بالآيات والروايات الدالة على تحريم الإسراف ، ووجوب دفع الضرر عن النفس والمال (1) ، وحينئذ فيرجع الأمر إلى اعتبار المصلحة في تصرفه بنفسه أو وكيله ، وعلى هذا فيمكن القول ببطلان الوكالة في صورة العموم على وجه المذكور ، لإدخاله الضرر على نفسه ، لأن مقتضى هذا العموم الضرر كما عرفت ، كما أنه لو فصل هذا العموم كان ضررا بينا ، فتبطل الوكالة في الموضعين ، ويمكن أن يقال : بالصحة نظرا إلى أنه وان كان مقتضى العموم ذلك ، الا أن تقييد تصرف الوكيل بالمصلحة يزيل ذلك.

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 52 عدة روايات باب فضل القصد ، الوسائل ج 15 ص 261 ب 27.


ومما يمكن أن يستدل به على جواز تصرف الإنسان في ماله كيف شاء وان أوجب الضرر صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (1) قال : «كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة إذ دخل عليه رجل من موالي أبي جعفر عليه‌السلام فسلم عليه ثم جلس وبكى ، ثم قال له : جعلت فداك إني كنت أعطيت الله تعالى عهدا ان عافاني الله من شي‌ء كنت أخافه على نفسي أن أتصدق بجميع ما أملك وان الله تعالى عافاني منه ، وقد حولت عيالي من منزلي إلى قبة من خراب الأنصار وقد حملت كل ما أملك ، فأنا بائع داري وجميع ما أملك فأتصدق به؟ فقال : أبو عبد الله عليه‌السلام انطلق وقوم منزلك وجميع متاعك وما تملك بقيمة عادلة واعرف ذلك ثم اعمد إلى صحيفة بيضاء فاكتب فيها جملة ما قومت ثم انظر الى أوثق الناس في نفسك فادفع إليه الصحيفة وأوصيه ومره ان حدث بك حدث الموت أن يبيع منزلك وجميع ما تملك فيتصدق به عنك ، ثم ارجع الى منزلك وقم في مالك على ما كنت فيه فكل أنت وعيالك مثل ما كنت تأكل ثم انظر بكل شي‌ء تصدق به فيما تستقبل من صدقة أو صلة قرابة أو في وجوه البر فاكتب ذلك كله وأحصه ، فإذا كان رأس السنة فانطلق الى الرجل الذي أوصيت إليه فمره أن يخرج إليك الصحيفة ، ثم اكتب فيها جملة ما تصدقت وأخرجت من صلة قرابة أو بر في تلك السنة ، ثم افعل ذلك في كل سنة ، حتى تفي لله بجميع ما نذرت فيه ويبقى لك منزلك ان شاء الله تعالى قال : فقال الرجل : فرجت عني يا بن رسول الله جعلني الله فداك».

وفيه أنه قد استفاضت الأخبار المعصومية وعضدتها الآيات القرانية بتحريم الإسراف. كقول أبي عبد الله عليه‌السلام في رواية حماد اللحام (2) المروية في الكافي وتفسير العياشي لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق أليس الله تبارك وتعالى يقول «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» وأحسنوا

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 458 ح 23 ، الوسائل ج 16 ص 236 ح 1.

(2) الكافي ج 4 ص 53 ح 7 ، الوسائل ج 15 ص 258 ح 7.


ان الله يحب المحسنين» يعنى المقتصدين.

وفي رواية هشام ابن المثنى (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام الواردة في تفسير قوله تعالى «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ، فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث ، فكان إذا أخذ يتصدق به يبقى هو وعياله بغير شي‌ء ، فجعل الله تعالى ذلك سرفا».

وفي صحيحة الوليد بن صبيح (2) قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه سائل فأعطاه ثم جاء آخر فأعطاه ، ثم جاء آخر فقال يسع الله تعالى عليك ثم قال :

لو أن رجلا كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألف درهم ثم شاء أن لا يبقى منها إلا وضعها في حق لفعل فيبقى لا مال له ، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاؤهم قلت من هم؟ قال : أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في غير وجهه ، ثم قال : يا رب ارزقني فيقال له : «ألم أرزقك».

ومن ذلك خبر الصوفية (3) المروي في الكافي الي غير ذلك من الأخبار الصريحة في تحريم ذلك ومن المقرر أن صحة نذر شي‌ء فرع مشروعيته ، فلو لم يكن مشروعا لم ينعقد نذره ، ومنه يعلم أن الرواية المذكورة واردة على خلاف القواعد الشرعية ، بل ربما يقال : أن دلالة هذه الرواية على ما ندعيه من بطلان النذر أقرب ، لأنه لو كان النذر صحيحا لأمره عليه‌السلام بالتصدق بأمواله حسبما نذره لأنه هو الواجب بالنذر ، ولما جاز نقلها إلى الذمة بالقيمة ثم التصدق بها تدريجا على وجه يندفع به الضرر الموجب لبطلان النذر لو لم يكن كذلك ، ولهذا ان الأصحاب قصروا العمل بالرواية على موردها لمخالفتها لمقتضى القواعد الشرعية كما عرفت والله سبحانه العالم.

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 55 ح 5 ، الوسائل ج 6 ص 323 ح 3.

(2) الفقيه ج 2 ص 39 ح 20 الكافي ج 4 ص 16 ح 1 وفيه ألم أجعل لك سبيلا الى طلب الرزق.

(3) الكافي ج 5 ص 65 ح 1.

وهما في الوسائل ج 6 ص 322 ح 1 وص 302 ح 8.


المطلب الثالث في الموكل :

وفيه مسائل الاولى : يشترط فيه التكليف بالبلوغ والعقل وعدم الحجر عليه بالنسبة الى ما حجر عليه التصرف فيه ، وجملة من الأصحاب انما عبروا هنا بأنه يشترط أن يملك مباشرة ذلك التصرف بملك أو ولاية.

قال في التذكرة : يشترط في الموكل أن يملك مباشرة ذلك التصرف ، ويتمكن من المباشرة لما وكل فيه ، اما بحق الملك لنفسه ، وبحق الولاية عن غيره ، فلا يصح للصبي ـ ولا المجنون ولا النائم ، ولا المغمى عليه ولا الساهي ولا الغافل ـ أن يوكلوا ، سواء كان الصبي مميزا أم لا ، وسواء كانت الوكالة في المعروف أم لا ، وعلى الرواية المقتضية لجواز تصرف المميز أو من بلغ خمسة أشبار في المعروف ووصيته في المعروف ينبغى القول بجواز توكيله ، وكذا كل من يعتوره الجنون حال جنونه ، ولو وكل حال إفاقته صحت الوكالة ، لكن لو طرء الجنون بطلت الوكالة ، انتهى.

أقول : لا ريب أنه وردت الروايات الكثيرة (1) الظاهرة في جواز تصرف الصبي المميز بالعتق والوصية والصدقة بالمعروف من غير معارض ، وبها قال جملة من الأصحاب ، وبذلك تثبت له جواز التوكيل ، وان كان خلاف المشهور بينهم لإعراض أكثرهم من العمل بتلك الروايات ، ولهذا أحال ذلك هنا على تقدير ثبوت الرواية ، ومن ثم أيضا قال في المسالك بعد ذكر عبارة المصنف المرادفة لهذه العبارة والأقوى المنع.

وأما ما ذكره من بطلان وكالة المجنون لو وكل حال الإفاقة ، وطرء الجنون ، ومثله لو طرء الإغماء والحجر عما وكل فيه ، فالظاهر أن دليله أنه لا يصح التصرف من نفسه ، لو كان كذلك فمن وكيله بطريق أولى ، وقد مر أن من

__________________

(1) الوسائل ج 13 ص 321 الباب 15 من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.


شرائط صحة التوكيل تملكه فعل ما وكل فيه ، ولا شك أنه ليس بما لك له في تلك الأحوال.

وفيه أنه ان أريد بطلان الوكالة بطرو هذه الأمور واستمرارها بحيث لا تحصل له الإفاقة من الجنون ولا من الإغماء ولا دفع الحجر فهو جيد ، وان أريد البطلان ولو مع زوال تلك الأمور كما هو الظاهر من كلامهم ، فإنه يمكن تطرق المناقشة إليه ، بأنه من الجائز أن اشتراط تملك الموكل لما وكل فيه انما هو باعتبار الابتداء ، بمعنى أنه لا يجوز له التوكيل الا فيما يملك التصرف فيه ، كما تقدم ذكره ، لا باعتبار الاستدامة ، فلو حصلت الوكالة في حال كونه مالكا للتصرف بحيث يصح وقوع ذلك الفعل منه ، فالوكالة صحيحة اتفاقا ، وبطلانها بمجرد عروض أحد هذه الأشياء يحتاج الى دليل ، ولا دليل على شرطية هذا الشرط في الاستدامة ، ولانتقاض ذلك بالنائم مع الاتفاق على عدم البطلان بالنوم ، ولعل دليلهم إنما هو الإجماع ، الا أنه لم يدعه أحد منهم فيما أعلم.

وبالجملة فإن أصالة صحة الوكالة ثابتة ، والبطلان يحتاج الى دليل ، والدليل الذي أوردوه قاصر ، كما عرفت.

والظاهر أن المراد بمن له حق الولاية هو الأب والجد والوصي والحاكم الشرعي ، أما الأب والجد فظاهر ، وأما الوصي إذا كان وصيا على الأطفال فإن له ولاية كولاية الأبوين ، وكذلك الوصي في إخراج الحقوق اليه ذلك ، فان معنى وصيته اليه بذلك جعله كنفسه.

قال في التذكرة : للوصي أن يوكل ، وان لم يفوض إليه الموصي ، ذلك بالنصوصية ، لأنه يتصرف بالولاية كالأب والجد ، لكن لو منعه الموصي من التوكيل وجب أن يتولى بنفسه ، وليس له أن يوكل حينئذ لقوله تعالى (1) «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ» الآية ويجوز للحاكم أن يوكل عن السفهاء والمجانين

__________________

(1) سورة البقرة ـ الاية 181.


والصبيان من يتولى الحكومة عنهم ، ويستوفي حقوقهم ، ويبيع عنهم ، ويشتري لهم ، ولا نعلم فيه خلافا ، انتهى.

وأما العبد على القول بملكه فإنه ليس له التوكيل على الأشهر الأظهر إلا بإذن الموصي ، لأنه وان ملك الا أنه محجور عليه ، كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع وفي كتاب الحجر.

نعم استثنى من ذلك الطلاق ، فإنه بيد من أخذ بالساق ، فله التوكيل فيه ولو أحلنا ملكه كما هو أحد القولين ، فوقوع التوكيل منه إنما يكون في حق مولاه ، فيتوقف على الاذن ، لأنه لا يجوز له التصرف مباشرة بدون الاذن ، ولا يملك التصرف.

وقد عرفت أن التوكيل في أمر فرع صحة تملك التصرف فيه ، ومثله سائر أفراد المحجور عليهم ، فإنه يجوز لهم التوكيل ، فيما لا يتعلق به الحجر ، قال في التذكرة : وللمحجور عليه بالفلس أو السفه أو الرق أن يوكلوا فيما لهم الاستقلال حيث شاؤا من التصرفات ، فيصح من العبد أن يوكل فيما يملكه من دون إذن سيده ، كالطلاق والخلع ، وطلب القصاص ، والمفلس له التوكيل في الطلاق والخلع وطلب القصاص ، والمعاملة بغير عين المال ، والتصرف في نفسه ، فإنه يملك ذلك ، وأما ماله فلا يملك التصرف فيه ، وأما مالا يستقل أحدهم بالتصرف فيه فيجوز فيه مع إذن الولي والمولى ، انتهى.

وما يشعر به كلامه من جواز توكيل السفيه مع إذن المولى قد تأمل فيه بعض المحققين ، قال : فإنه بمنزلة المجنون والصبي ، وقد منع منهما وما اعتبر بإيقاعه بحضور الولي أيضا وبرضاه لعدم الاعتداد بعبارته.

أقول : قد مر في كتاب الحجر نقل الخلاف فيما لو أذن الولي للسفيه في البيع فقيل : بالمنع وهو مذهب المبسوط وابن البراج ، وقيل : بالصحة ، ونقله العلامة في المختلف عن بعض علمائنا واختار ، فينبغي أن يكون الكلام هنا كذلك ،


الا أن الأقرب هو الصحة في الموضعين ، والفرق بينه وبين الصبي والمجنون ظاهر ، فان عبارتيهما مسلوبة الصحة ، لعدم التكليف الذي هو مناط ذلك بخلاف السفيه. فان الحجر عليه إنما هو من حيث خوف الإفساد والتبذير ، وعدم الإصلاح في تصرفاته ، وهذا مأمون بالإذن له فلا مانع حينئذ من الصحة ، ولو وكله إنسان في شراء نفسه من مولاه فالمشهور الصحة ، قالوا : والمراد وكالته باذن مولاه لتوقف تصرفاته على الاذن منه ، الا ما استثنى والظاهر أنه يكفى في الاذن المذكور إيجاب السيد للبيع مخاطبا به العبد ، وان كان ظاهر كلام جملة منهم الاذن الخاص في ذلك ، وربما قيل : بالمنع لاشتراط مغايرة المشتري للمبيع ، والمشترى والمبيع هنا واحد ، وهو العبد ، ورد بأن المغايرة الاعتبارية كافية ، وربما قيل. بلزوم كون السيد موجبا قابلا.

وفيه أيضا ما تقدم ، قال في المبسوط : إذا وكل رجل عبدا في شراء نفسه من سيده قيل : فيه وجهان : أحدهما يصح ، كما لو وكله في شراء عبد آخر باذن سيده ، والثاني لا يصح ، لأن يد العبد كيد السيد وإيجابه وقبوله بإذنه بمنزلة إيجاب سيده وقبوله ، فإذا كان كذلك وأوجب له سيده وقبله كان السيد هو الموجب القابل للبيع ، وذلك لا يصح ، فكذلك هيهنا ، ثم قال : والأول أقوى.

وقال ابن البراج : الأقوى عندي أنه لا يصح الا أن يأذن له سيده في ذلك ، فان لم يأذن له فيه لم يصح ، قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والحق ما قوية الشيخ ، لأن بيع مولاه رضا منه بالتوكيل ، انتهى.

أقول : ومن كلامه يفهم أن من أطلق من الأصحاب كالشيخ والمحقق والعلامة فإن مرادهم الاكتفاء بالإيجاب ، وما يدل عليه من الرضا بذلك عن الاذن الصريح ، وظاهر كلام ابن البراج تقدم الإذن أولا قبل العقد ، وهو ظاهر شراح كلام المحقق والعلامة ، والحق ما ذكره في المختلف ، والله سبحانه العالم.

الثانية : قالوا : ليس للوكيل أن يوكل إلا بإذن من الموكل ، لأن الوكيل


لا يملك مباشرة ما وكل فيه بنفسه قبل الوكالة ، ومن شرط صحة التوكيل تملك الموكل للتصرف بنفسه ولا ولاية له ، فلا بد من الاذن حينئذ ، الا أن يدل اللفظ بإطلاقه أو عمومه على ذلك ، كقوله اصنع ما شئت ، ونحوه من الأمثلة المتقدمة في كلامه في التذكرة ، وان لم يحصل ذلك صريحا ولا ضمنا ، لكن دلت القرائن على ترفع الوكيل عن مثل ذلك الفعل لشرفه وعلو منزلته ، وعدم لياقة مباشرة ذلك الفعل به أو عجزه عنه فكذلك أيضا ، لكن يجب علم الموكل بذلك.

تنبيهات :

الأول : قال في التذكرة : التوكيل على ثلاثة أقسام الأول : أن يوكل الموكل وكيله في التوكيل ، فيجوز أن يوكل إجماعا ، والثاني : أن ينهاه عن التوكيل ، فليس له أن يوكل ، الثالث : أطلق الوكالة ، وأقسامه ثلاثة : أحدها أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله ، كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن مثلها في العادة ، كما لو وكله في البيع والشراء ، والوكيل أمين لا يتبدل بالتصرف في الأسواق ، أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه ، فله التوكيل فيه ، لأن تفويض مثل هذا التصرف إلى مثل هذا الشخص لا يقصد منه إلا الاستنابة ، وهو قول علمائنا أجمع وأكثر الشافعية.

الثاني : أن يكون العمل مما لا يرتفع الوكيل عن مثله الا أنه عمل كثير منتشر لا يقدر الوكيل على فعل جميعه ، فيباشره بنفسه ، ولا يمكنه الإتيان بالكل ، فعندنا يجوز له التوكيل ، ولا نعلم فيه مخالفا ، وله أن يوكل فيما يزيد على قدر الإمكان قطعا ، وفي قدر الإمكان اشكال أقربه ذلك ، لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه ، فجازت في جميعه كما لو أذن له في التوكيل فيه بلفظ ، وللشافعية ثلاث طرق ، ثم ساق الكلام الى أن قال الثالث ما عدا هذين القسمين ، وهو ما أمكنه فعله بنفسه ، ولا يرتفع عنه ، وقد قلنا أنه لا يجوز له أن يوكل فيه الا بإذن الموكل ، إلى أن قال : إذا وكله بتصرف وقال : افعل ما شئت لم يقتض ذلك


الاذن في التوكيل ، لأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه ، وقوله اصنع ما شئت لا يقتضي التوكيل ، بل يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه ، وهو أصح قولي الشافعية ، والثاني أن له التوكيل وبه قال أحمد ، واختاره الشيخ في الخلاف ، لأنه أطلق الإذن بلفظ يقتضي العموم في جميع ما شاء فيدخل في عمومه التوكيل وهو ممنوع ، انتهى.

أقول : والنصوص هنا غير موجودة ، الا أن ما ذكره جيد بناء على الجري على مقتضى تعليلاتهم في أمثال هذه المقامات ، الا فيما ذكره من قوله وفي قدر الإمكان اشكال أقربه ذلك ، فان الظاهر أن ما قربه بعيد ، قوله «لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه» إلى آخره ممنوع ، بل إنما اقتضت جواز التوكيل فيما يعجز عنه من حيث العجز ، لاعترافه أخيرا بأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه ، وهو هنا بالنسبة إلى محل الاشكال عنده ممكن ، لأن المفروض أنه ممكن لا يتعلق به عجز ، فلا يجوز التوكيل فيه ، بل يجب عليه مباشرته بنفسه ، كما هو مقتضى الوكالة باعترافه.

والى ما أشرنا أشار في المسالك أيضا ، فقال بعد ذكر جواز التوكيل فيما يرتفع عنه التوكيل أولا ثم الجواز فيما يعجز عنه ما لفظه : ويقتصر في التوكيل في الأخير على ما يعجز عنه ، لأن توكيله خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على موضع الحاجة ، وهو جيد ، وكذا قوله : ان قوله افعل ما شئت لا يقتضي الاذن في التوكيل ، فان الظاهر هنا انما هو ما نقله عن الشيخ من الجواز حسبما قدمنا نقله عنهم.

ومن جملة من صرح بذلك شيخنا في المسالك فقال : فان أذن له في التوكيل صريحا فلا اشكال ، وكذا لو دل اللفظ بإطلاقه أو عمومه على ذلك ، كاصنع ما شئت أو مفوضا ونحوه ، وبما أوردناه عليه في هذين الموضعين اعترف في القواعد ، فقال : ولا يصح توكيل الصبي الى أن قال : ولا الوكيل إلا بإذن


موكله صريحا أو فحوى ، مثل اصنع ما شئت ، والأقرب أن ارتفاع الوكيل عن المباشرة واتساعه وكثرته بحيث يعجز عن المباشرة اذن في التوكيل معنى فحينئذ الأقرب أنه يوكل فيما زاد على ما يتمكن منه لا الجميع انتهى.

وبيان ذلك هنا أن إطلاق التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه ، كما صرح به ، فلا بد لزيادة هذا القيد ونحوه من فائدة تترتب عليه ، والا لكان لغوا من القول ولا ريب أن من جملة ما يشاء توكيل الغير إذا شاء ، ولو حمل هذا اللفظ على ما دل عليه أصل الوكالة من غير أن يكون له فائدة تترتب عليه لكان اللازم ما قلناه ، ولا شك أنه هو المتبادر من اللفظ ، الا أن يكون ثمة قرائن حالية توجب الخروج عن ذلك.

ثم ان ما ذكره من جواز التوكيل في صورة الترفع والعجز ينبغي تقييده بما أشرنا إليه آنفا من علم الموكل بذلك ، لأنه لو لم يعلم الموكل بشي‌ء من هذين العذرين المانعين من القيام بما وكل فيه لم يجز لذلك الوكيل توكيل غيره ، لانتفاء القرينة من جانب الموكل التي هي مناط الإذن ، لأن معرفة الموكل بكونه يرتفع أو يعجز في قوة الإذن له بالتوكيل ، كما عرفت من عبارة القواعد المذكورة ، وأنه انما وكله ، والحال كذلك إلا مع رضاه واذنه بالتوكيل ، بخلاف ما لو لم يعلم بذلك ، وهو ظاهر.

الثاني : قال في التذكرة ، إذا أذن له أن يوكل فأقسامه ثلاثة : الأول : أن يقول له : وكل عن نفسك ، ففعل كان الثاني وكيلا للوكيل ، ينعزل بعزل الأول إياه ، لأنه نائبه وهو قول الشافعي ، ثم ذكر الخلاف في ذلك من العامة وأقوالهم الى أن قال : والثاني : لو قال : وكل عني فوكل عن الموكل ، فالثاني وكيل للموكل وليس لأحدهما عزل الآخر ، ولا ينعزل أحدهما بموت الأخر ، ولا جنونه وانما ينعزل أحدهما بعزل الموكل ، فأيهما عزله انعزل.

الثالث : لو قال : وكلتك بكذا وأذنت لك في توكيل من شئت ، أو في أن توكل وكيلا ولم يقل عني ولا عن نفسك ، بل أطلق فللشافعية وجهان : أحدهما


أنه كالصورة الأولى ، وهي أن يكون وكيلا عن الوكيل ، لأن المقصود من الاذن في التوكيل تسهيل الأمر على الوكيل ، وأصحهما عندهم أنه كالصورة الثانية يكون وكيلا للموكل ، فان التوكيل تصرف يتولاه باذن الموكل ، فيقع عنه إذا جوزنا للوكيل أن يوكل في صورة سكوت الموكل عنه ، فينبغي ان يوكله عن موكله ، ولو وكل عن نفسه ، فللشافعية وجهان ، انتهى.

أقول : ظاهر كلامه هو التوقف في القسم الثالث حيث لم يذكر فتواه في ذلك ، وإنما اقتصر على نقل الوجهين من كلام الشافعية ، وذكر تعليلاتهم ، ويحتمل أن يكون عدم رده لما ادعوه من الأصحية ولا رد دليلها مؤذنا باختياره ذلك ، ورجحه بعض محققي متأخري المتأخرين ، قال : لأن صاحب المال إذا أذن بتوكيل من يوكل في بيع ماله أنه يوكله عن نفسه ، ولأنه ثبت بذلك توكيله وبإذنه في فعل الثاني ذلك الموكل فيه فعزله ومنعه من ذلك يحتاج إلى دليل ، والأصل عدمه والاستصحاب يفيده ، انتهى.

أقول : والمراد من قوله يوكل في صورة سكوت الموكل يعنى مع فهم الجواز من القرائن كما تقدم لا مطلقا ، فإنه لا قائل به.

الثالث : قال في التذكرة أيضا : كل وكيل جاز له التوكيل فليس له ان يوكل الا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين فيفيد جواز التوكيد فيما فيه الخطر والضرر كما أن الاذن في البيع يقتضي الإذن بثمن المثل ، الا أن يعين له الموكل فيجوز سواء كان أمينا أو لا ، اقتصارا على ما نص عليه المالك ، ولأن المالك قطع نظره بتعيينه ، ولو وكل أمينا فصار خائنا فعليه عزله ، لأن تركه يتصرف في المال مع خيانته تضييع وتفريط على المالك ، وللشافعية وجهان : في أن يحل له عزله ، انتهى.

أقول : الظاهر من كلامهم من غير خلاف يعرف هو عدم اشتراط العدالة في الوكيل ، وغاية ما ذكروه في شروطه هو البلوغ والعقل ، والإسلام ان كان


الغريم مسلما ، بل صرح في الشرائع بجواز كونه فاسقا أو كافرا أو مرتدا ، والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين الوكيل عن المالك ، والوكيل عن وكيله ، لأن الحكم في الوكيل لا يزيد على الحكم في المالك فكل من جاز للمالك توكيله ، جاز لوكيله كذلك ، لأنه قائم مقام المالك وفي حكمه ، إلا أن يقوم دليل على الفرق بينهما ، ولا أعرف لذلك دليلا ، والأصل العدم في الموضعين ، وما ذكره هنا من التعليل بقوله لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين إنما يتم لو قلنا : باشتراط الوثاقة والأمانة فيمن يوكله الموكل.

وقد عرفت أنه غير شرط ولم يصرح به أحد منهم بل إنما صرحوا بخلافه ، وكيف يتم ما ذكره من أنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين بمعنى أنه ليس يرضى بذلك ولا يجيزه ، والحال أنه يوكل الفاسق المقطوع بكونه غير أمين كما عرفت ، فلو كان نظر الموكل مقصورا على الأمين ، وان ذلك من شروط الوكالة لامتنع توكيله الفاسق ، وكيف يراعى هذا النظر في وكيل وكيله ، ولا يراعى في وكيله هو.

وبالجملة فإنه إذا صحت وكالته للفاسق والكافر. المعلوم عدم أمانتهم ، والجائز وقوع الخطر والضرر بوكالتهم ، فلم لا يجوز فيمن يوكله الوكيل والخطر والضرر في الموضعين متدارك بفسخ الموكل الوكالة ، وقياسه ذلك على الاذن في البيع المقتضى لثمن المثل قياس مع الفارق ، فإن البيع لما كان الغالب فيه هو البيع بثمن المثل حمل عليه الإطلاق ، لما عرفت في غير موضع مما تقدم أن الإطلاق إنما يحمل على الأفراد الغالبة الشائعة ، بخلاف التوكيل ، لما عرفت من أن للموكل توكيل الفاسق والكافر والمرتد ونحوهم ممن لا أمانة لهم ، فإطلاق توكيل الوكيل لغيره إنما ينصرف إلى ذلك ، لا إلى خلافه وعكسه من اشتراط الأمانة فيه ، وبما صرح به هنا صرح في القواعد أيضا ، فقال : وكل موضع للوكيل أن يوكل فيه فليس له أن يوكل الا أمينا الا أن يعين الموكل


غيره ، على أن ما ذكره من التعليل بقوله لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين لا يخرج عن المصادرة ، لأن هذا عين المدعى كما هو الظاهر.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه صحة لما ذكره ، ولعله لسوء فهمي القاصر وضعف بصيرتي الحاسر ، وبذلك يظهر أن ما أطال به المحقق الأردبيلي هنا الكلام بعد نقل العبارة المذكورة من أن المراد بالأمانة العدالة بالمعنى المشهور بين الأصحاب أو مجرد اطمينان النفس به في عدم الخيانة لا أعرف له وجها لأن هذا البحث فرع صحة هذا الشرط ، وقد عرفت ما فيه وانه لا وجه له ، ولا دليل عليه الا أن يقال بذلك في الوكيل : ولا قائل بذلك بل القول إنما هو بخلافه كما عرفت ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : لا يجوز للموكل أن يوكل فيما لا يجوز له مباشرته كما تقدم في صدر هذا المطلب ومن فروع ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا في شراء خمر أو خنزير ، لأنه لا يجوز شراءه ، وإن جاز ذلك للذمي ، ومنها أنه لا يجوز للمحرم أن يوكل في عقد النكاح ولا ابتياع الصيد ، ولا يجوز له أيضا أن يتوكل فيما ليس للمحرم فعله كابتياع الصيد وإمساكه وعقد النكاح ، وهذا الحكم قد ذكره الأصحاب في أحكام الموكل فعبروا بالعبارة الأولى ونحوها ، وفي أحكام الوكيل فعبروا بالعبارة الثانية ونحوها ، والوجه في ذلك ظاهر ، فإنه كما يشترط في الموكل أن لا يوكل إلا فيما يجوز له مباشرته ، كذلك يشترط في الوكيل أن لا يكون وكيلا إلا فيما يكون قادرا على الإتيان به بنفسه ، وحينئذ فكما لا يجوز للمحرم أن يوكل في العقد فكذلك لا يجوز له أن يتوكل فيه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في الحج ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا إشكال في تحريم إيقاع العقد فيهما في حال الإحرام ، وكذا التوكيل فيه.

وانما الكلام فيما لو وقع التوكيل في حال الإحرام لإيقاع العقد بعد الإحلال ، فإن ظاهر إطلاقهم هنا هو البطلان ، مع أن الذي صرح به جملة منهم


في كتاب الحج هو الجواز ، تمسكا بالأصل السالم عن المعارضة.

وكذا الكلام في أنه هل يخص التحريم بما إذا كان العقد للموكل ، أو أعم من ذلك؟ اشكال ، وان كان المتبادر من كلامهم الأول.

قال في المسالك : وهل التحريم مشروط بكون العقد للموكل كما هو ظاهر الكلام والنص ، أو هو أعم من ذلك حتى يحرم على الأب والجد ، وشبههما التوكيل حال الإحرام في إيقاع عقد المولى عليه ، وكذا الوكيل الذي يسوغ له التوكيل كل محتمل ، وطريق الاحتياط واضح ، انتهى والله سبحانه العالم.

الرابعة : قالوا : يستحب أن يكون الوكيل تام البصيرة فيما وكل فيه عارفا باللغة التي يحاور بها ، وعن ابن البراج ان ذلك واجب ، وكذا عن ظاهر أبي الصلاح ، ثم ردوا ذلك بأنه ضعيف ، قالوا : ويكره لذوي المروات بان يتولوا المنازعة بأنفسهم ، والمراد بأهل المروات يعني أهل الشرف والخطر والمناصب الجليلة الذين لا يليق بهم الامتهان.

ونقل الأصحاب في كتب الفروع أنه روي (1) «أن عليا عليه‌السلام وكل عقيلا في خصومة ، وقال ، ان للخصومة قحما ان الشيطان ليحضرها وأني لأكره أن أحضرها». وفي الصحاح القحمة بالضم المهلكة ، والمراد بأن للخصومة قحما أي انه تقحم بصاحبها الى ما لا يريده.

أقول : لم أقف على هذا الخبر فيما حضرني من كتب أخبارنا بل الموجود فيها إنما هو ما يدل على خلافه «من تحاكم علي عليه‌السلام (2) مع من رأى درع طلحة أخذت غلولا عنده ، فقال عليه‌السلام درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ، فأنكر من هي بيده ، فدعاه المنكر إلى المحاكمة إلى شريح القاضي فحاكمه اليه». والقضية

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 511 ، النهاية لابن الأثير ج 4 ص 19 ، لسان العرب ج 12 ص 463 وفيه وكل عبد الله بن جعفر.

(2) التهذيب ج 6 ص 273 ح 152 ، الوسائل ج 18 ص 194 ح 6.


مشهورة مروية «وتحاكم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (1) مع صاحب الناقة إلى رجل من قريش ، ثم الى علي عليه‌السلام. والرواية بها متعددة ، وتحاكم علي بن الحسين عليهما‌السلام (2) الى قاضي المدينة مع زوجته الشيبانية لما طلقها وادعت عليه المهر». وهذه كلها كما ترى ظاهرة في عدم الكراهة ، إذ لا ريب في أنهم عليهم‌السلام سادات أرباب الشرف ، بل لا شرف فوق شرفهم.

نعم ما ذكروه باعتبار العرف الذي عليه الناس الآن مما لا شك فيه ، ومن الطرائف المناسبة للمقام أنه ادعى رجل من عامة الناس على رجل من أهل الشرف في بلادنا البحرين ، وكان من عادة ذلك الرجل الشريف لعلو مقامه أن يجلس بجنب الحاكم ، فلما ادعى عليه ذلك ، قال له الحاكم : قم واجلس إلى جنب خصمك ما دامت الخصومة ، فإن هذا هو مقتضى الشرع ، فإذا فرغت الخصومة عد الى مكانك ، فقال الرجل : انى لا أبيع مقامي هذا بأضعاف ما يدعيه هذا المدعى وأني أشهدكم أني قد سلمت اليه دعواه ، ولا أقوم من مجلسي هذا ، وهو غاية في المحافظة على شرف النفس وعزتها ، وعدم امتهانها ومذلتها والله سبحانه العالم.

المطلب الرابع في الوكيل :

وفيه أيضا مسائل الاولى : كلما يشترط في الموكل من البلوغ والعقل ، ونحوهما ، وضابطه ما تقدم من التمكن من التصرف يشترط في الوكيل أيضا ، قال في الشرائع : الوكيل يعتبر فيه البلوغ وكمال العقل ، ولو كان فاسقا أو كافرا أو مرتدا ، ولو ارتد المسلم لم تبطل وكالته ، لأن الارتداد لا يمنع الوكالة ابتداء ، فكذا استدامة.

وقال في التذكرة : كما يشترط في الموكل التمكن من مباشرة التصرف في الموكل فيه بنفسه ، يشترط في الوكيل التمكن من مباشرته بنفسه ، وذلك بأن يكون صحيح العبارة فيه فلا يصح للصبي ولا للمجنون أن يكونا وكيلين في

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 60 ح 1 ، الوسائل ج 18 ص 200 ح 1.

(2) الكافي ج 7 ص 435 ح 5 ، الوسائل ج 16 ص 142 ح 1.


التصرفات ، سواء كان مميزا الى آخر ما قدمنا نقله عنه في سابق هذا المطلب من الأفراد المعدودة ثمة ، وعلى هذا النهج كلام غيرهما.

وهو كما ترى ظاهر بل صريح فيما قدمنا ذكره من عدم اشتراط الوكيل وعدم اشتراط كونه أمينا كما ذكره العلامة فيما قدمنا نقله عنه في وكيل الوكيل وكان ذكر المرتد في عبارة الشرائع ـ بعد ذكر الكافر الشامل له ، لدفع توهم بطلان تصرفاته بعد الردة ، فإن البطلان مخصوص بما كان من أمواله ، فإنه يمنع منها دون مال الغير الذي وكل فيه ، فإنه لا يدخل في ذلك ولا يمنع من تصرفه فيه بحسب الوكالة.

وما ذكره في التذكرة من الشرط المذكور ، بمنزلة الضابط الكلي للوكيل ، ولكنه يحتاج أيضا الى قيد زائد على ما ذكره ، كما نبه عليه المحقق في عبارة الشرائع بقوله : وكلما له أن يليه بنفسه وتصح النيابة فيه صح أن يكون فيه وكيلا ، والأول احتراز عما لا يصح أن يليه بنفسه ولا يتمكن من مباشرته بنفسه ، كتوكيل المحرم في عقد النكاح إيجابا وقبولا ، وتوكله في حفظ الصيد وشرائه ، إذ ليس للمحرم أن يلي ذلك بنفسه كما تقدم ذكره.

ومنه الصبي والمجنون كما ذكره في التذكرة فإنهما لا يليان ذلك ، ومنه الكافر لا يجوز له تزويج المسلمة ففي جميع هذه المواضع التي لا يملك فيها التصرف لنفسه لا يجوز له أن يكون وكيلا فيها ، الا أن ظاهر ابن إدريس الجواز في الأخير.

والثاني احتراز عما لا تصح النيابة فيه وان صح أن يليه بنفسه ، كالعبادات ونحوها مما تقدم ذكره مما يليه الإنسان بنفسه من صلاة وصوم ونحوهما ، فإنه لا تصح النيابة فيها ، لكونها مطلوبة من المكلف مباشرة ، ويدخل في هذا الضابط المحجور عليه لسفه أو فلس من جهة ، ويخرج من جهة ، فمن جهة ما حجر عليه التصرف فيه يخرج ، ومن جهة ما خرج عن موضع الحجر مما له التصرف فيه يدخل ، لأنهما يليان لأنفسهما بعض الأفعال ، فتصح وكالتهما فيها.

الثانية : يجوز ، للمرئة أن تتولى طلاق غيرها بلا خلاف ولا إشكال ، لأن


الطلاق مما يقبل النيابة ، ولا فرق بين نيابة الذكر والأنثى ، أما نيابتها في طلاق نفسها فمحل خلاف ، وقد تقدمت اشارة اليه في المورد الثاني من المطلب الثاني.

وكذا يجوز وكالتها في عقد النكاح عندنا ، ولم ينقل فيه الخلاف الا عن الشافعي ، حيث منع من توكيلها فيه إيجابا وقبولا كالمحرم ، قال في التذكرة :

يجوز للمرأة أن يتوكل في عقد النكاح إيجابا وقبولا عندنا ، الى آخره وقال فيها أيضا : بجواز توكيلها في رجعة نفسها ، وتوكيل امرأة أخرى.

أقول : أما الحكم الأول مما ذكره فظاهر ، وأما الثاني فلا يخلو من توقف لأن أصالة صحة الطلاق ثابتة الى أن يحصل الرافع لها بيقين ، ولم يثبت من الشارع زوالها بتوكيلها في الرجعة ، والظاهر أن الكلام هنا كالكلام في توكيلها في طلاق نفسها وسيأتي تحقيق الحال فيه في موضعه إنشاء الله.

ويجوز وكالة العبد باذن مولاه لانه لا مانع من ذلك الا كون منافعه مملوكة للمولى ، وحينئذ فإذا حصل الاذن زال المانع ، وظاهر إطلاق كلام أكثر الأصحاب هو توقف ذلك على الاذن ، أعم من يكون ما وكل فيه مما يمنع شيئا من حقوق المالك أولا ، بأن يوكله في إيجاب عقد أو قبوله في حال خلوه عن أمر المولى له بشي‌ء أو في حال اشتغاله بأمره حيث لا منافاة بين القيام بالأمرين.

ويدل على ذلك ما تقدم من أن منافعه بأسرها مملوكة لسيده ، فلا يجوز التصرف في شي‌ء منها قليلا أو كثيرا إلا باذنه وذهب في التذكرة إلى جواز توكيله بغير إذنه ، إذا لم بمنع شيئا من حقوقه ، واليه يميل كلام جملة ممن تأخر عنه ، كالمسالك والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، نظرا إلى شهادة الحال ، وانتفاء الضرر.

وأما وكالته في شراء نفسه ، فقد تقدم الكلام فيها ، وفي حكمها وكالته في عتق نفسه ، بأن يوكله مولاه في عتق نفسه ، ووجه المنع هنا من حيث أنه يعتبر مغايرة المعتق اسم الفاعل ، للمعتق اسم المفعول ، والجواب الاكتفاء بالمغايرة


الاعتبارية ، كما تقدم نظيره.

أقول : وينبغي أن يعد من هذا القبيل أيضا ما لو وكله سيده في بيع نفسه على الغير ، فان الكلام في هذا الموضع كالكلام في الموضعين المذكورين صحة وبطلانا والله سبحانه العالم.

الثالثة : قال في التذكرة : مدار الوكالة بالنسبة إلى الإسلام والكفر على ثمان مسائل ، تبطل منها وكالة الذمي على المسلم ، وهو صورتان ، توكل الذمي للمسلم أو للكافر على المسلم عند علمائنا أجمع لقوله تعالى (1) «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» ويكره أن يتوكل المسلم للذمي عند علمائنا أجمع.

أقول : أما ما ذكره من الصور الثمان هنا فإنه باعتبار أن الموكل اما مسلم ، أو كافر ، وعلى التقديرين فالوكيل اما مسلم ، أو كافر ، وعلى التقادير الأربعة فالموكل عليه اما مسلم ، أو كافر ، فهذه ثمان صور المسئلة ، وظاهره دعوى الإجماع على البطلان في صورتين منها ، وهو كون الكافر وكيلا على المسلم ، سواء كان الموكل مسلما أو كافرا وفي الشرائع نسب هذا القول إلى الشهرة ، فقال بعد ذكره : على المشهور ، وربما كان فيه إيذان بالطعن في دليله.

وأما الاستدلال بالآية المذكورة فهو وان اشتهر بينهم في أمثال هذه المواضع ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في ما تقدم في غير موضع ، من ورود النص (2) عن الرضا عليه‌السلام بأن ذلك إنما هو من جهة الحجة والدليل ، وقد تقدم تحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في المسئلة السادسة من المقام الثاني في المتعاقدين من الفصل الأول في البيع في كتاب التجارة (3).

وظاهره الجواز فيما عدا ذلك من غير كراهة ، إلا في صورة واحدة من الست الباقية ، وهي أن يتوكل المسلم للذمي على المسلم ، وادعى الإجماع على

__________________

(1) سورة النساء ـ الاية 141.

(2) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 203 ح 5.

(3) ج 18 ص 425.


الكراهة ، مع أنه في النهاية على ما نقل عنه ، قال : بعدم الجواز ، ونقله في المختلف أيضا عن الخلاف والنهاية وأبى الصلاح ، وهو ظاهر الشيخ المفيد أيضا ، وقد تقدم ذكر ذلك في المورد الثاني من المطلب الثاني ، والظاهر أنه لذلك تردد في الشرائع ، وان استوجه بعد ذلك الجواز على الكراهة.

ثم أنه لا يخفى أن أكثر الأصحاب إنما عبروا بالذمي ولا يظهر له وجه ، مع أنه متى ثبت ذلك في الذمي ثبت في غيره بطريق أولى ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : قد عرفت مما قدمنا نقله عن الشرائع في المسئلة الأولى جواز أن يكون الوكيل فاسقا أو كافرا أو مرتدا ، وقال في المسالك في مسئلة عدم اشتراط عدالة الولي ولا الوكيل في عقد النكاح ما لفظه : وكذا الوكيل في عقد النكاح ، لا يشترط أن يكون عدلا بل يصح توكيل الفاسق فيه إيجابا وقبولا لقبوله النيابة وأصالة عدم اشتراط العدالة ، إذ لا يتضمن ذلك استئمانا على أمر خفي كالمال ، خلافا لبعض الشافعية ، حيث اشترط العدالة فيهما.

وأما اشتراط عدالة الولي في ولاية المال ففيه خلاف بين أصحابنا ، وفي التذكرة قطع بأن الفاسق لا ولاية له ، حتى لو كان عدلا ففسق انتزع المال منه ، واستشكل في القواعد في باب الوصايا ، انتهى.

أقول : ما نقله عن التذكرة لم أقف عليه في كتاب الوكالة بعد التتبع لأبحاث الكتاب المذكور ، والذي وقفت عليه إنما هو خلاف ما نقله ، حيث قال في الكتاب المذكور : لو فسق الوكيل لم ينعزل عن الوكالة إجماعا ، لأنه من أهل التصرف إلا أن تكون الوكالة مما ينافي الفسق ، كالإيجاب في عقد النكاح عند العامة ، فإنه ينعزل عندهم ، بمجرد فسقه ، أو فسق موكله لخروجه عن أهلية التصرف فيه عندهم ، وعندنا لا ينعزل بالفسق ، إذ لا يشترط العدالة في ولي النكاح ، وأما في القبول وان فسق الموكل لم ينعزل وكيله بفسقه ، لأنه لا ينافي في جواز قبوله ، وهل ينعزل الوكيل بفسق نفسه ، فيه للعامة وجهان : ولو كان وكيلا


فيما يشترط فيه الأمانة كوكيل ولي اليتيم وولي الوقف على المساكين ، ونحوه انعزل بفسقه ، وفسق موكله لخروجهما بذلك عن أهلية التصرف ، وان كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه ، لأنه ليس للوكيل أن يوكل فاسقا ، ولا ينعزل بفسق موكله ، لأنه وكيل لرب المال ، ولا ينافيه الفسق ، انتهى.

أقول : وأنت خبير بما فيه من الصراحة في صحة كون الوكيل فاسقا ، وظاهره دعوى الإجماع عليه ، لأن عدم انعزاله بالفسق إنما هو من حيث عدم منافاة الفسق ، لصحة الوكالة كما هو المذكور في آخر عبارته ، وأن المدار في الوكيل وصحة كونه وكيلا إنما هو على أهلية التصرف ، كما قدمنا نقله عنه في المسئلة الأولى ، وان هذا هو الضابط في صحة الوكالة ، وكأن الوجه فيه أن المالك إذا رضي بذلك وسلم اليه ماله وأمره بالتصرف فيه على الوجه الذي أمره «والناس مسلطون على أموالهم».

ولا مانع من الصحة ، ولهذا استثنى من ذلك وكيل ولي اليتيم ، ووكيل ولي الوقف الذين قد علم من الشارع أن ولاية موكليهما على ذينك الأمرين إنما هو لأجل المحافظة على ذلك ، ومراعاة المصلحة ، فلا بد من أن يكون عدلا ، إذ لا وثوق بغيره ، بخلاف مال الإنسان نفسه ، فإنه مخير في دفعه الى من شاء كيف شاء.

وأما عده من ذلك وكيل الوكيل ، فقد تقدم الكلام فيه ، وتطرق المناقشة اليه ، ويظهر من ابن إدريس في السرائر أيضا دعوى الإجماع على عدم اعتبار عدالة الوكيل كما سمعت من كلام العلامة هنا ، حيث قال في مسئلة وكالة الكافر في التزويج : والذي يقوى في نفسي أنه لا يمنع من وكالة الكافر مانع في التزويج المذكور ، لأنا لا نعتبر العدالة في الوكيل ، بغير خلاف ، لأنه لا مانع منه من كتاب ولا إجماع ولا سنة متواترة ، انتهى.

ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم في المسئلة الثالثة في بيان مدار الوكالة ، وما


ذكروه بالنسبة إلى المرتد من أنه لا تبطل وكالة المسلم بردته ، لأن الردة غير مانعة من صحة الوكالة ابتداء ، فكذا الاستدامة ، كما صرح به في التذكرة وغيره من غير نقل خلاف الا من بعض العامة ، وبما ذكرنا يظهر ما في دعوى شيخنا المتقدم ذكره أن المسئلة في وكالة المال خلافية ، وأن بعضهم ذهب الى اشتراط العدالة فيها ، ومما يؤيد ما قلناه أيضا ظاهر قوله سبحانه (1) «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» وبالجملة فإنه يجب القطع بعدم اشتراط العدالة في الوكيل في كلامهم ، والأصل العدم حتى يقوم الدليل على خلافه ، والله سبحانه العالم.

الخامسة : قال في التذكرة : يجب على الوكيل اعتماد ما عين الموكل وقرره معه ، ولا يجوز له المخالفة في شي‌ء مما رسمه له ، فيصح تصرف الوكيل فيما وافق الموكل ، ويبطل فيما يخالفه مع صحة الوكالة ، والموافقة والمخالفة قد يعرفان بالنظر الى اللفظ تارة ، وبالقرائن التي تنضم إليه أخرى ، وأن القرينة قد تقوى فينزل عليها إطلاق اللفظ.

أقول : هذا من جملة الضوابط في الوكالة أيضا ، ومرجعه إلى أنه لا يجوز له المخالفة عما رسمه الموكل ، الا أن تدل القرائن على إرادته ، ورضي الموكل به أو تشهد العادة بذلك ، ولكن لا بد من اطرادها بما دلت عليه ، فإنه يكون حينئذ في حكم المعين ، والمرسوم من جهة الموكل.

ويتفرع على ذلك فروع : منها ـ ما لو أذن له في البيع نسية فباع نقدا أو عين له ثمنا فباع بأزيد منه ، فإنه داخل في المأذون فيه بطريق أولى ، لأنه قد زاد خيرا ، والعرف والعادة يشهدان بذلك ، إلا أنه يجب تقييده بما إذا لم يعلم له غرض في التعيين بذلك وإلا لم يجز التعدي عما رسمه ، وان لم يصرح بالنهي ، لأن الأغراض تختلف في ذلك والمصالح لا تنضبط ، ولو صرح له بالمنع فأولى بعدم الجواز.

__________________

(1) سورة آل عمران ـ الاية 75.


قال في التذكرة لو أمره بالبيع بمأة ، ونهاه عن البيع بالأزيد لم يكن له البيع بالأزيد قطعا ، لاحتمال تعلق غرضه بذلك ، فلا يجوز له التخطي ، ومنها ما لو أمره بالبيع في سوق معين ، بثمن معين ، فباع في غيرها بذلك الثمن ، أو أطلق ولكن باع بثمن المثل الذي ينصرف إليه الإطلاق صح أيضا : بناء على أن الغرض تحصيل الثمن الا أنه يجب تقييده بما قدمنا ذكره ، من عدم العلم بالغرض من ذلك التعيين ، فلو علم الغرض منه كما لو كان الراغبون بذلك السوق أكثر ، أو النقد فيها أجود ، أو المتعاملون فيها أسمح ، أو نحو ذلك لم يجز له التخطي ، وعن التذكرة ، أنه اشترط هنا العلم بعدم الغرض ، وعليه فلا يصح في صورة الجهل ، ولا يجوز التخطي.

وكيف كان فإنه مع صحة البيع في غير ما عين ، فالظاهر من كلام بعضهم أنه لا يجوز النقل له الى غير ذلك المكان الذي عدل اليه ، والظاهر أنه لخروجه عن الاذن يكون ضامنا بالنقل اليه ، ويكون ضامنا للثمن بعد البيع أيضا لعين ما ذكر ، وإنما تظهر الفائدة في الحكم بصحة البيع خاصة.

وقال في التذكرة بعد ذكر مسئلة البيع في السوق ـ وعدم تعرضه فيها للضمان وعدمه ـ : ولو قال بعه في بلد كذا احتمل أن يكون كقوله بعه في السوق الفلاني ، حتى لو باعه في بلد آخر جاء فيه التفصيل ، ان كان له غرض صحيح في التخصيص لم يجز التعدي ، وإلا جاز ، لكن يضمن هنا الوكيل بالنقل إلى غير البلد للعين ، وكذا الثمن يكون مضمونا في يده ، بل لو أطلق التوكيل في بلد يبيعه في ذلك البلد فلو نقله صار ضامنا ، انتهى.

وعندي في كل من هذين الكلامين إشكال ، أما الأول وهو الضمان مع النقل إلى تلك البلد الأخرى ، فلانه لا يجامع ما ذكروه من أنه يصح البيع ، لأن الغرض تحصيل الثمن الا أن يعلم غرضه في التعيين ، فان مقتضى هذا الكلام جواز المخالفة والنقل ، وان هذا الغرض مع عدم المانع المذكور قرينة على جواز المخالفة في


تعيين السوق ، فكأنه بالنظر إلى هذا الغرض وعدم المانع قال له بع بهذا الثمن ان شئت ، فإذا حكم بجواز المخالفة كيف يتعقبه الضمان.

وبالجملة فإن المانع من جواز النقل إنما هو العلم بالغرض من التعيين ، وأما مع عدمه فيجوز كما هو ظاهر عبارة التذكرة المذكورة ، وعليه فلا يتم القول بالضمان ، لأنه مأذون في ذلك بمفهوم الكلام المتقدم.

وأما الثاني وهو ما ذكره في التذكرة فإن ظاهره كما عرفت أنه مع عدم العلم بالغرض الصحيح في التخصيص يجوز التعدي ، ثم انه فرق بين الاذن بالبيع في السوق وفي البلد ، فأوجب الضمان في الثاني دون الأول ، ولا أعرف له وجها ظاهرا ، وبيان ذلك أنه ذكر مسئلة البيع في السوق أولا ، ولم يتعرض للضمان بالمخالفة ، ثم ذكر مسئلة البيع في البلد كما نقلناه عنه ، وقال : لكن يضمن هنا ، وهو ظاهر فيما قلناه من تخصيصه الضمان بهذه الصورة ، دون تلك ، وفيه ما ذكرناه.

وبالجملة فإنه ان فهم الاذن في المخالفة من الكلام المذكور في كل من هذين الموضعين فإنه تجوز المخالفة ، ولا يتعقب ذلك ضمان ، وان لم يفهم لم يجز النقل وتعقبه الضمان ، لأنه تصرف في مال الغير بغير اذن ، وفي صحة البيع أيضا إشكال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام كثير منهم الفرق بين السوق وغيرها مما يعينه الموكل ، وتخصيص جواز المخالفة بالسوق خاصة ، إلا مع العلم بالغرض مع التعيين ، وأما غيرها فلا ، وهو مشكل لعدم ظهور الفرق.

قال في التذكرة : يجب على الوكيل تتبع تخصيصات الموكل ، ولا يجوز. له العدول عنها ، ولا التجاوز إلا في صورة السوق على ما يأتي ، بل يجب النظر الى تقييدات الموكل في الوكالة ، ويشترط على الوكيل رعاية المفهوم منها بحسب العرف الى آخره ، ويشير الى ما ذكرناه أيضا ما صرح به المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) ، ثم ان الأصحاب ذكروا هنا جملة من الفروع في مطولات كتبهم ومرجعها الى ما عرفت في الضابط المتقدم ، والله سبحانه العالم.


السادسة : قد صرحوا : بأن كل موضع يبطل الشراء للموكل إما للمخالفة كما أشير إليه في سابق هذه المسئلة ، أو لإنكار الموكل التوكيل ، فان كان سمى الموكل في العقد لم يقع العقد عن الموكل لعدم الوكالة ، أو للمخالفة ، ولا عن الوكيل ، لأن المذكور في العقد غيره ، كما هو المفروض ، وان لم يكن سماه وقع عن الوكيل بحسب الظاهر ، وأما في نفس الأمر فإن كان قصده ونواه لنفسه فهو له ، وإن نواه للموكل لم يقع له أيضا لما تقدم ، والمخرج عن ذلك إما بالمصالحة ، أو بأن يقول الموكل إن كان لي فقد بعته من الوكيل.

أقول : وان أردت زيادة توضيح لهذا المقال فاعلم أن ذلك يقع في موضعين أحدهما أن يكون بطلان الشراء مستندا إلى المخالفة لأمر الموكل ، ولا ريب أنه مع تسمية الموكل في العقد ، والحال أنه قد خالفه فيما وكله فيه فإنه لا يقع عنه وإن سماه بل يكون فضوليا يتوقف صحته على الإجازة بناء على المشهور في عقد الفضولي ، ولا يقع عن الوكيل أيضا لأن المسمى في العقد غيره ، وأما مع عدم ذكر الموكل في العقد فإنه يقع بحسب الظاهر عن الوكيل ، حيث أن الخطاب معه ، وعلى هذا فللبائع أن يأخذ منه الثمن ، ويلحقه جميع الأحكام المترتبة على البيع بناء على ذلك الظاهر ، فإن الأحكام إنما تبنى عليه دون نفس الأمر ، ولكن يجب تقييد الحكم بكون الشراء للوكيل كما ذكرنا بأن لا يكون قد شرى بعين مال الموكل ، وإلا فإنه يقع فضوليا عن الموكل ، موقوفا على إجازته ، فان لم يجز بطل ، لأنه يصير كظهور استحقاق أحد العوضين المعينين في العقد ، وإن جازه صح.

وكذا يجب الحكم بالبطلان في هذه الصورة إذا علم البائع أن الثمن ملك الموكل ، أو قامت به البينة ، ويجب على البائع رد الثمن حينئذ ، وان لم يعلم البائع بذلك ، ولا بينة ثبت البيع ظاهرا كما تقدم ، ووجب على الوكيل دفع عوض ذلك الثمن للموكل ، وانما كان الواجب هو العوض ، لتعذر استرجاع عين الثمن ، فان البيع صحيح بحسب الظاهر كما ذكرنا ، واعترافه بالتفريط بسبب


المخالفة ، وللموكل إحلاف البائع لو ادعى عليه العلم بأن الثمن له وإلا فلا.

وثانيهما أن يكون بطلان الشراء لإنكار الموكل التوكيل ، ولا يخلو إما أن يكون الاشتراء بعين مال الموكل بناء على دعواه الوكالة ، أو في الذمة ، وعلى الأول يكون الشراء فضوليا ، سواء ذكر الموكل لفظا أو قصده نية أو لا فيهما فان أجازه الموكل صح على المشهور في عقد الفضولي ، وان لم يجزه والحال أنه ذكره لفظا أو كان للموكل بينة بأن العين له أو كان البائع عالما بذلك ، فلا يخلو إما أن يكون الوكيل صادقا في دعوى الوكالة ، فإنه يكون العقد صحيحا بحسب الواقع ، فاسدا بحسب الظاهر ، وان كان الوكيل كاذبا بحسب الواقع بطل الشراء بالعين في الواقع والظاهر.

وعلى الثاني وهو الشراء في الذمة فإن ذكر الموكل لفظا أو نية وقع الشراء له باطنا ان كان صادقا في دعوى الوكالة ، وبطل بحسب الظاهر من حيث إنكار الموكل الوكالة ، وان لم يذكره بالكلية لا لفظا ولا نية فالشراء للوكيل ظاهرا وباطنا ، وان كان الوكيل مبطلا في دعوى الوكالة وذكر الموكل بطل البيع مطلقا ، إذ لا يصح عن الموكل وان سماه ، لأنه مبطل في دعوى الوكالة ، ولا عن نفسه لأن المسمى في العقد غيره ، وان لم يذكره وقع الشراء للوكيل.

قالوا : وطريق التخلص في مواضع الاشتباه باحتمال كونه لأيهما أن يقول الموكل : إن كان لي فقد بعته من الوكيل : ولا يضر التعليق هنا على الشرط في صحة هذا البيع ، لأن الشرط المبطل إنما هو ما أوجب توقف العقد على أمر يمكن حصوله ، وعدم حصوله ، والأمر المعلق عليه هنا واقع ، بعلم المكلف حاله فلا يضر جعله شرطا.

وكذا القول في كل شرط علم وجوده كقول البائع ان كان اليوم الجمعة فقد بعتك كذا مع علمه بكون ذلك اليوم الجمعة ، ولو امتنع الموكل عن البيع جاز للموكل أن يستوفي عوض ما أداه إلى البائع عن موكله من المبيع ، ويرد


عليه ما يفضل ان كان في المبيع زيادة على ما استوفاه ، ويرجع اليه بما يزيد له ان نقص المبيع مما استوفاه ، والرجوع عليه هنا بطريق المقاصة بمعنى أنه إن ظفر بمال الموكل وأمكنه وضع يده عليه ، وكما يحصل التخلص بما ذكر يحصل أيضا بالمصالحة ، ويحصل أيضا بإبراء الذمة من الثمن أو يقول ، وهبتك إياه هذا ملخص ما ذكروه في المقام ، والله سبحانه العالم.

السابعة : قالوا : لو وكل اثنين وشرط الاجتماع أو أطلق لم يكن لأحدهما الانفراد ، ولا القسمة ، ولو مات أحدهما بطلت ، وليس للحاكم أن يضم اليه ، ولو شرط الانفراد جاز.

أقول : لا ريب في أنه إذا صرح بالانفراد فان كل واحد منهما وكيل على حده ، وإذا صرح بالاجتماع لم يكن لأحدهما الانفراد ، والمراد باجتماعهما صدور الأمر الموكل فيه عن رأيهما واتفاقهما على ذلك ، فان كان عقدا فينبغي أن يأذن أحدهما للآخر في إيقاع العقد أو يتفقا على ثالث ، فيوقع الصيغة ، إذ الظاهر جواز الاذن هنا في مثله كما رجحه بعض المحققين ، وقيده آخرون باقتضاء الوكالة جواز التوكيل ، والا فلا ، وبالجملة فإن قصد الموكل أن يكون العاقد واحدا لا إيقاع كل منهما الصيغة.

وظاهره في المسالك أيضا جواز إيقاع كل منهما الصيغة ، واستشكله بعض المحققين بأنه يلزم أن يكون العقد الصحيح غير مؤثر للمطلوب المترتب عليه ، بل يكون موقوفا على عقد آخر غير معهود في الشرع ، وفي صدق تعريف العقد الصحيح عليه تأمل وتكلف ، انتهى.

وأما مع الإطلاق فإن وجدت قرينة تدل على الافراد أو الاجتماع وجب العمل بمقتضاها ، والا فإن ظاهر الأصحاب هو الحكم بالاجتماع ، وعلى هذا فشرط الاجتماع على الخصوص انما يفيد مجرد التأكيد ، لأن مقتضى الإطلاق هو الاجتماع كما عرفت ، والوجه في اقتضاء الإطلاق الاجتماع أن قوله وكلتكما


موجها الخطاب إليهما معا يقتضي كونهما وكيلين ، والأصل في كل منهما على حدة عدم الوكالة. وعدم جواز التصرف إلا بإذن الموكل ، والاذن انما حصل لهما معا والمعية يقتضي الاجتماع ، ولو مات أحدهما بطلت الوكالة من أصلها ، كما إذا ماتا معا ، لأن توكيلهما على جهة الاجتماع يؤذن بعدم رضاه برأي أحدهما ، وتصرفه منفردا ، وليس للحاكم ضم آخر اليه ، وتنفيذ الوكالة ان كان الموكل غائبا ، بخلاف الوصاية ، فإنه متى مات أحد الوصيين المجتمعين فان للحاكم نصب آخر يشاركه في تنفيذ الوصايا ، والفرق بين الموضعين أنه لا ولاية للحاكم هنا على الموكل ، بخلاف الوصي فإن النظر في حق الميت واليتيم اليه ، فإذا مات أحد الوصيين صار وجود الأخر كعدمه ، فان الموصى لم يرض برأيه منفردا وحيث كان الحاكم له النظر في أمور الميت واليتيم كان عليه أن ينصب شريكا للوصي في تنفيذ الوصايا.

ومما ذكرنا يعلم بطريق أولى أنه لو غاب أحد الوكيلين المشروط اجتماعهما فليس للحاكم نصب أخر عوضه ، وبذلك صرح في التذكرة أيضا ، وعلله بأن الموكل رشيد جائز التصرف ، ليس للحاكم عليه ولاية ، وأنت خبير ، بأن هذا التعليل إنما يجري في حضور الموكل ، لا في غيبته ، واحتمال جواز ضم الحاكم في صورة الموت والغيبة قائم ، سيما في مقام تطرق الضرر على الموكل ببطلان الوكالة ، وبقاء أموره وما وكل فيه في معرض التلف ، وتطرق الضرر ، والله سبحانه العالم.

الثامنة : قالوا : لو وكل زوجته أو عبده ثم طلق الزوجة وأعتق العبد لم تبطل الوكالة ، أما لو أذن لعبده في التصرف في ماله ثم أعتقه بطل الإذن ، لأنه ليس على حد الوكالة ، بل هو اذن تابع للملك.

أقول : الوجه في الحكم الأول هو عدم مدخليته للزوجية والمملوكية في صحة الوكالة ، فلا منافاة بين الطلاق أو العتق وبينها ، فيستصحب حكمها في الحالين


المذكورين ، ويأتي مثل ذلك في العبد لو باعه بعد أن وكله ، وقلنا بصحة وكالته فيما إذا لم يمنع شيئا من حقوق المولى كما هو أحد القولين المتقدمين في المسئلة الثانية من مسائل هذا المطلب ، فتستصحب صحة الوكالة قبل البيع الى دخوله في ملك المشترى في هذه الصورة.

نعم لو منع ذلك شيئا من حقوق المولى أو قلنا بالتوقف على الاذن مطلقا كما هو المشهور اشترط في صحتها اذن المشتري ورضاه بذلك.

وأما الوجه في الحكم الثاني فقد عرفته من قوله لأن الإذن ليس على حد الوكالة ، بل هو اذن تابع للملك ، والظاهر أن مرجع ذلك الى الفرق بين الأذن والوكالة ، والعبد هنا انما تصرف بالاذن من حيث وجوب الخدمة عليه لسيده ، فهو مأذون من حيث أنه خادم فمنشأ التصرف انما هو ذلك ، لا الوكالة فإن الوكالة أمر مستقل.

وبالجملة فإن النظر هنا يرجع الى قصد الموكل لا الى مجرد وقوع اللفظ بالإذن ، فإن كان قصده فيه الوكالة المستقلة كغيره من الوكلاء الأحرار كان ذلك وكالة ، انما هو من حيث وجوب الخدمة عليه كسائر الخدمات التي يؤمر بها ، فليس ذلك وكالة ، بل اذن ، ويترتب على كل منهما ما يلحقه من الأحكام ومن جملة ما يترتب على الأذن هنا هو بطلانه بعد البيع والعتق ، لانه تابع للملك ، وقد زال بكل من السببين المذكورين ، قال في المسالك بعد قول المصنف في الاذن بنحو ما ذكرنا من أنه ليس على حد الوكالة ما لفظه : قد عرفت في أول الوكالة أن صيغتها لا تنحصر في لفظ ، بل تصح بكل ما دل على الأذن في التصرف ، وحينئذ فيشكل الفرق بين توكيل العبد ، والاذن له في التصرف حيث لا تبطل الوكالة بعتقه ، ويبطل الإذن الا أن يستفاد ذلك من القرائن الخارجة الدالة على أن مراده من الأذن انما هو ما دام في رقه ، ومراده من الوكالة كونه مأذونا مطلقا ، وحينئذ فلا فرق بين كون الإذن بصيغة الوكالة وغيرها ، مع احتمال الفرق ، فيزول


مع الاذن المجرد ، لا مع التوكيل بلفظها ، حملا لكل معنى على لفظه : ويضعف بما مر ، فإن الوكالة ليست أمرا مغايرا للإذن ، بل تتأدى بكل ما دل عليها ، ولا فرق بين الصيغتين ، انتهى.

أقول : لا ريب في صحة ما ذكره من أن الوكالة ليست إلا مجرد الأذن للوكيل فيما وكل عليه على النحو المتقدم ، ويترتب أحكام الوكالة على ذلك ، كما تقدم تحقيقه ، الا أن الكلام هنا بالنسبة إلى أوامر السيد لعبده ، فإنها لما كانت انما تقع غالبا على جهة الاستخدام المطلوب منه ، فالإذن المفهوم من هذه الأوامر ليس على حد الأذن المفهوم من تلك الأوامر الواردة في الأخبار ، مثل قول شخص لآخر بع لي هذا أو اشتر لي كذا ونحو ذلك ، فان المفهوم من الأخبار أن ذلك الاذن هنا وكالة شرعية ، يترتب عليه ما يترتب على الوكالة من الأحكام ، بخلاف أوامر السيد على عبده ، من حيث أن الغالب أن تلك الأوامر انما تقع على جهة الاستخدام ، لأنها وكالة شرعية في كل مقام ، والفرق بين الأمرين أظهر من أن يخفى على ذوي الأفهام ، فحمل بعض أوامر السيد لعبده على الوكالة يحتاج إلى قرينة ظاهرة في قصد الوكالة ليترتب عليها ما يترتب على الوكالة ، والا فهي أعم من ذلك كما لا يخفى ، والله سبحانه العالم.

التاسعة : قالوا لو قال : وكلتك على قبض حقي من فلان لم تكن له مطالبة الورثة بعد موته وقبل قبضه الحق ، ولو قال له : وكلتك على قبض حقي الذي على فلان كان له ذلك ، والفرق بين الصيغتين أن الجار والمجرور في الصورة الأولى وهو قوله من فلان متعلق بلفظ قبض ، ففيه تعيين للمقبوض منه ، وهو المديون ، ولا يتعدي الى الوارث ، فإنه غير المديون.

نعم يتعدى الى وكيل المديون ، فيجوز القبض ، لأن يده كيده ، وهو نائب عنه والفرق بينه وبين الوارث ، ان الملك لم ينتقل الى الوارث بحق النيابة عن المورث وانما انتقل اليه بالملك أصالة بخلاف الوكيل ، فان يده عليه انما هي بطريق النيابة.


وأما في الصورة الثانية فإن جملة الصلة والموصول فيها وقعت صفة للحق ، وليس فيه تعيين للمقبوض منه بوجه ، بل الاذن معلق بقبض الحق الذي في ذمة زيد مثلا ، فالوكيل يتبع الحق حيثما كان ، وأينما كان ، قال في التذكرة : لو وكله في قبض دينه من فلان فمات نظر في لفظ الموكل ، فان قال : اقبض حقي من فلان بطلت الوكالة ، ولم يكن له القبض من وارثه ، لأنه لم يؤمر بذلك ، وانما وكله في قبض مبدأه من المديون ، وقد مات وان قال : اقبض حقي الذي على فلان أو الذي في قبل فلان فله مطالبة وارثه ، والقبض منه ، لأن قبضه من الوارث قبض للحق الذي على مورثه ، فإذا قبض من الوارث لم يكن قبضا من فلان ، لا يقال : لو قال اقبض حقي من زيد فوكل زيد إنسانا في الدفع اليه كان له القبض منه فكذا ينبغي أن يقبض من الوارث لأن الوارث نائب الموروث ، كما أن الوكيل نائب الموكل ، لأنا نقول : الوكيل إذا دفع عنه بإذنه جرى مجرى تسليمه ، لأنه أقامه مقام نفسه ، وليس كذلك هنا ، فان الحق انتقل إلى الورثة ، فاستحقت المطالبة عليهم لا بطريق النيابة عن الوارث ، ولهذا لو حلف ان لا يفعل شيئا حيث يفعل وكيله ، ولا يحنث بفعل وارثه ، انتهى.

فان قيل : وصف الحق بكونه من فلان يشعر بحصر القبض فيه ، لأن الصفة إذا زالت بموته لم يكن الحق المتعلق بالوارث موصوفا بكونه في ذمة فلان ، ولا يكون هو الموكل فيه.

فالجواب أن الوصف انما يفيد الاحتراز به عن دين آخر له في ذمة شخص آخر ، ولا اشعار فيه بتخصيص القبض ، ومع فرض أنه لا يكون له دين آخر على غيره فالصفة هنا لمجرد التوضيح ، فيكون كما لو قال : بع عبدي النائم ، أو الآكل أو ما شاكلهما من الأوصاف ، فإن له بيعه وإن انتبه أو ترك الأكل ، كذا حققه في المسالك ، والله سبحانه العالم.


المطلب الخامس فيما تثبت به الوكالة :

وفيه مسائل الأولى : قالوا لا يحكم بالوكالة بدعوى الوكيل ولا موافقة الغريم ما لم يقم بذلك بينة وهي شاهدان ، ولا تثبت بشهادة النساء ولا بشاهد وامرأتين ، ولا بشاهد ويمين.

أقول : وتثبت أيضا بإقرار الموكل على نفسه ، ويظهر من التذكرة أن المستند ـ في عدم ثبوتها بشهادة النساء وشهادة رجل وامرأتين أو شاهد ويمين ـ هو الإجماع ، قال : وتثبت الوكالة بإقرار الموكل على نفسه أنه وكله ، وبشهادة عدلين ذكرين ، ولا تثبت بشهادة رجل وامرأتين ، ولا بشهادة رجل ويمين عند علمائنا أجمع.

وظاهر كلام المحقق هنا حيث نسب الحكم بذلك إلى قول مشهور التوقف ، فان مرمى هذه العبارة ذلك ، وقال في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المشعرة بما ذكرنا هذا هو المذهب ، ولا نعلم فيه مخالفا ، ولأن متعلق الشاهد واليمين والشاهد والمرأتين الحقوق المالية ، والغرض من الوكالة الولاية على التصرف ، والمال قد يترتب عليها ، ولكنه غير مقصود بالذات هيهنا ويشكل الحكم فيما لو اشتملت الدعوى على الجهتين ، كما لو ادعى شخص على آخر وكالة بجعل ، وأقام شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه ، والظاهر أنه يثبت المال ، لا الوكالة ، ولا يقدح في ذلك تبعض الشهادة ، ومثله ما لو أقام ذلك بالسرقة ، فإنه يثبت المال لا القطع ، ولان المقصود بالذات هنا هو المال لا الولاية نعم لو كان ذلك قبل العمل اتجه عدم الثبوت ، لأن إنكار الوكالة أبطلها ، والمال لم يثبت بعد ، ويمكن أن يكون نسبة المصنف القول إلى الشهرة حينئذ المشعر بتوقفه فيه ، لأجل ذلك ، فيكون التوقف في عموم الحكم لا في أصله ، انتهى.

ويمكن تطرق النظر والاشكال إلى بعض مواضع هذا المقال ، منها ما استظهره


من ثبوت المال دون الوكالة فيما لو ادعى الوكيل الجعالة عليها وأقام شاهدا وحلف معه ، أو ضم إليه امرأتين ، فإن فيه أنه لا ريب أن الجعالة فرع على الوكالة ، تابعة لها كما هو المدعى ، فكيف يثبت الفرع مع عدم ثبوت الأصل ، والتابع مع عدم وجود المتبوع ، بل هذا مما تنكره بديهة العقول.

ومنها قوله في السرقة أنه يثبت بذلك المال لا القطع ، يعنى لو أقام شاهدا وامرأتين أو شاهدا مع اليمين على أن زيدا سرق يثبت المال المسروق ، ولم يثبت القطع على السارق ، مع أن هذين أعنى ثبوت المال والقطع معلولا علة واحدة ، وهي السرقة فإن ثبتت ثبتتا ، وإلا فلا ، فكيف يثبت بالبينة المذكورة أحدهما دون الآخر.

وبذلك يظهر بقاء الإشكال الذي ذكره لما عرفت من ضعف ما استظهره فإنه لا ينطبق على القواعد والأصول بل هو مما تنكره بديهة العقول.

ومنها جملة عبارة المصنف المشعرة بتوقفه على هذه الصورة الخاصة ، وهي إنكار الموكل الوكالة قبل عمل الوكيل ، فإنه بعيد غاية البعد ، أما أولا فلأنها صورة نادرة ، لا يحسن أن يحمل عليها الإطلاق ، واما ثانيا ، فإنه متى كان الإنكار في الصورة المذكورة من مبطلات الوكالة ، فلا معنى لفرض المسئلة بإقامة الشهادة واليمين معه ، أو ضم المرأتين ، فإنه إقامة بينة على أمر قد حصل بطلانه ، بل لا يحسن فرضه ، والتمثل به بالكلية كما لا يخفى على ذوي الذوق السليم.

وكيف كان فإنه لا مندوحة عن الحمل على ذلك وان بعد ، لاتفاق الأصحاب المعتضد بالأخبار الدالة على اختصاص الثبوت بهذين الأمرين بالمال ، والوكالة ليست مالا ، وإنما هي ولاية كما عرفت.

بقي الكلام هنا في شيئين أحدهما ما قدمنا نقله عنهم من قولهم أنه لا يحكم بالوكالة بدعوى الوكيل ولا بموافقة الغريم ما لم يقم بينة ، ينبغي تخصيصه بحصول المنازع في الوكالة ، بأن ينكرها الموكل ، والا فإن الظاهر أنه لو ادعاها ولا منازع له فإنه يصح تصرفه ، والشراء منه ، لأن هذا أحد أفراد القاعدة الكلية ، وهي من ادعى


ولا منازع له فإنه يسمع دعواه ، وعلى هذا عمل كافة الناس في ارسالهم الوكلاء بأموالهم إلى البلدان البعيدة التي يتعذر فيها إقامة البينة على الوكالة ، ويبيعون ويشترى الناس منهم من غير نكير ولا توقف. وكان الأئمة عليهم‌السلام يفعلون كذلك يرسلون الوكلاء للتجارة لهم في مصر ونحوها فلو لم يقبل دعوى الوكيل الوكالة في ذلك لزم الحرج الشديد ، والضيق ، ويؤيده قبول قول المرأة في الخروج من العدة ، وموت الزوج (1) وأنها حللت نفسها بتزويج محلل ، ثم طلاقه لها ، وخبر الكيس (2) ، الذي بين أولئك الجالسين فقال أحدهم لمن هذا الكيس الدراهم أو الدنانير؟ فقال : أحدهم هو لي فقال عليه‌السلام هو له وبالجملة فالظاهر أن الحكم المذكور لا اشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد أشبعنا الكلام في تحقيق هذه القاعدة في كتاب الزكاة في مسئلة ما لو ادعى الفقير الفقر هل يسمع دعواه أم لا؟ ثم ان ظاهر كلامهم أنه في صورة التوقف بالإثبات على الشاهدين ، لا بد من ضم حكم الحاكم بذلك في باب الوكالة وغيرها ، الا ما استثني من رؤية الهلال ، فإنه يكفي فيه مجرد السماع عن الشاهدين ، كما هو ظاهر جملة من أخبار تلك المسئلة ، وقد تقدم تحقيقه في كتاب الصيام.

قال في التذكرة : ولو قال يعنى الوكيل الذي شهد عدلان على وكالته ما أعلم صدق الشاهدين لم تثبت وكالته ، لقدحه في شهادتهما على اشكال ، أقربه ذلك ، ان طعن في الشهود ، والا فلا ، لأن الاعتبار بالسماع عند الحاكم ، وجهله بالعدالة مع علم الحاكم بها بنفسه أو بالتزكية لا يضر في ثبوت حقه ، انتهى.

وربما أشعر هذا الكلام بأنه مع معرفته عدالتهما ، فإنه لا يحتاج إلى ضم حكم الحاكم ، وكيف كان فهذا الفرض المذكور إنما يكون في غير صورة النزاع بإنكار الموكل الوكالة وادعاء الوكيل لها ، وقد عرفت أنه لا تتوقف الوكالة

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 462 باب أنها مصدقة على نفسها ح 1 و 2 ، الوسائل ج 14 ص 456 ح 1.

(2) التهذيب ج 6 ص 292 ح 17 ، الوسائل ج 18 ص 200 ح 1.


هنا على البينة بل يقبل مجرد دعوى الوكيل لها من غير راد لدعواه ، ولا منازع.

وثانيهما أن الظاهر من كلامهم عدم ثبوتها بالاستفاضة حيث خصوا الثبوت بالإقرار والعدلين ، ويحتمل أن يكون الحصر إضافيا بالنسبة إلى رجل وامرأتين أو رجل ويمين ، ونحوهما من شهادة النساء ، وشهادة رجل وحده ، فلا ينحصر في الأمرين المذكورين ويؤيده أنهم جمعوا بين العدلين ، والاستفاضة في مواضع.

والظاهر عدم الفرق بين هذه المواضع ، الا أن الظاهر الوقوف على ما ثبت بالدليل ، فإن الأحكام الشرعية صحة وبطلانا وجوازا وتحريما يدور مدار الأدلة الشرعية ، وقد ثبت هنا ثبوته بالإقرار ، للأدلة الدالة على (1) «أن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». والعدلين للروايات الدالة على الثبوت بهما في جميع أبواب الدعاوي فغيرهما يتوقف على الدليل.

وما ربما يتوهم من كون الاستفاضة ربما كانت أقوى من الشاهدين مدفوع بأن العمل بالشاهدين ليس من حيث افادة الظن ، وحصول الظن بهما ، كما قيل فإذا حصل ما هو أقوى منه ثبت به بطريق الأولوية بل إنما ذلك من حيث كونه تعبدا محضا فإنه كثيرا ما يحصل الظن الأقوى منهما بغيرهما من الأسباب ، ومع ذلك فلا يجوز الحكم به ، ولهذا ان بعض الأصحاب جعل شهادة الشاهدين إنما هي من قبيل الأسباب الموجبة للحكم على الحاكم الشرعي لا من حيث افادة الظن ، والله سبحانه العالم.

الثانية : المشهور في عبارات الأصحاب وكذا غيرهم أن شاهدي الوكالة إذا اختلفا في تاريخ ما شهدا به لم تثبت الوكالة ، وكذا لو اختلفا في اللغة عربية وفارسية ، وكذا في العبارة بأن يقول : أحدهما بلفظ وكلتك ، ويقول الآخر : بلفظ استنبتك ، بل لا بد من اتفاقهما في كل من هذه الأمور المذكورة ، أما لو كانت

__________________

(1) التهذيب ج 8 ص 235 ح 79 و 80 ، الكافي ج 7 ص 219 باب ما يجب على من أقر على نفسه بحد ومن لا يجب عليه الحد ، الوسائل ج 16 ص 133 ح 2 الباب 3 من أبواب الإقرار.


الشهادة على الإقرار بها فإنها لا يضر ذلك.

قال في التذكرة : من شرط قبول الشهادة اتفاق الشاهدين على الفعل الواحد ، فلو شهد أحدهما أنه وكله يوم الجمعة ، وشهد الآخر أنه وكله يوم السبت لم تثبت البينة ، لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت ، فلم تكمل شهادتهما على فعل واحد ، ولو شهد أحدهما أنه أقر بتوكيله يوم الجمعة وشهد أنه أقر يوم السبت ، تثبتت الشهادة ، لأن الإقرارين اخبار عن عقد واحد ، ويشق جمع الشهود على إقرار واحد ليقر عندهم في حالة واحدة ، فجوز له الإقرار عند كل واحد وحده رخصة للمقر ، وكذا لو شهد أحدهما أنه أقر عنده بالوكالة بالعربية ، وشهد الآخر أنه أقر بها بالعجمية تثبتت الوكالة ، ولو شهد أحدهما أنه وكله بالعربية ، وشهد الآخر أنه وكله بالعجمية لم تثبت ، لأن الإنشاء هنا متعدد ولم يشهد بأحدهما شاهدان ، وكذا لو شهد أحدهما أنه قال : وكلتك ، وشهد الآخر أنه قال : أذنت لك في التصرف ، أو قال : جعلتك وكيلا أو شهد أنه قال جعلتك جريا أي وكيلا لم يتم الشهادة ، لاختلاف اللفظ ، ولو شهد أحدهما أنه وكله ، وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف ، ثبتت الشهادة لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل ، وانما عبرا عنه بلفظهما واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه ، انتهى وعلى هذا النهج كلامه في سائر كتبه وغيره.

الا أن ظاهر كلام الشرائع هو صحة الشهادة في صورة الاختلاف في الوكالة كما في الإقرار وظاهره عدم الفرق بين الوكالة والإقرار في صحة الشهادة حيث قال : ولو شهد أحدهما بالوكالة في تاريخ ، والآخر في تاريخ آخر ، قبلت شهادتهما نظرا إلى العبارة في الإشهاد ، إذ جمع الشهود لذلك في الموضع الواحد قد يعسر ، وكذا لو شهد أحدهما أنه وكله بالعجمية ، والآخر بالعربية ، لأن ذلك يكون إشارة إلى المعنى الواحد ، ولو اختلفا في لفظ العقد بأن يشهد أحدهما أن الموكل قال : وكلتك ، ويشهد الآخر أنه قال : استنبتك لم تقبل ، لأنها شهادة على عقدين


إذ صيغة كل واحد منهما مخالفة للأخرى ، وفيه تردد ، إذ مرجعه إلى أنهما شهدا في وقتين ، أما لو عدلا من حكاية لفظ الموكل واقتصرا على إيراد المعنى جاز ، وان اختلفت عبارتهما ، انتهى.

أقول : الظاهر أن القول الأول هو الأنسب بالقواعد والأصول ، والأقرب عند التأمل في هذه النقول ، لما تقدم في كلام التذكرة ، وتوضيحه أن الصيغة الواقعة في أحد اليومين غير الواقعة في اليوم الآخر ، وكل واحدة من الصيغتين المذكورتين لم يقم عليها شاهدان ، بل شاهد واحد ، وقول المحقق هنا في تعليل ما ادعاه من الصحة ، نظرا إلى العادة في الإشهاد الى آخره لا معنى له ، الا أن يحمل الاشهاد في اليوم الثاني على الإقرار ، لا على التوكيل ، وهو خارج عن محل البحث والمدعى ، لأن الصيغة متى حصلت في اليوم الأول فقد تم العقد بها ، وما تأخر انما يكون إقرارا واعترافا بها ، والمدعى انما هو الشهادة على الوكالة وانها هل تثبت مع اختلاف التاريخ أم لا؟ لا الإقرار ، فيكون كلامه خروجا عن محل البحث ان حمل على إرادة الإقرار ، والا فهو لا معنى له بالكلية لما عرفت ، والفرق بين الشهادة على التوكيل والشهادة على الإقرار في أنه تصح الشهادة في الثاني مع الاختلاف في التاريخ ونحوه مما تقدم ، دون الأول ، أن الوكالة إنشاء لا خارج له يقصد مطابقته ، والإقرار له خارج نفس أمري يقصد بالأخبار مطابقته ، ولا يلزم من تعدد الخبر تعدد الخارج ، فإن الإنسان يفعل فعلا ، ويخبر بذلك الفعل مرارا متعددة في أوقات متعددة بألفاظ مختلفة أو متحدة ، والأمر الخارج لا دخل له في ذلك ، ولا يتعلق به تعدد ، ولا اختلاف بتعدد الاخبار واختلافه. بخلاف الوكالة التي هي إنشاء لا واقع له يقصد مطابقته ، فان تعدد زمانه ومكانه واختلاف صيغته توجب اختلافه ، ومع هذا الاختلاف فإنه لم يقم البينة الشرعية ، وهي العدلان على فرد من هذه الأفراد المختلفة ، بل انما قام بها شاهد واحد ، كما هو المفروض ، ومن أجل ذلك يثبت الإقرار مع الاختلاف دون الوكالة.


وأما قول المحقق الأردبيلي انتصارا لما ذكره المحقق هنا حيث قال بعد كلام في المقام : أيضا لم نجد لهم دليلا على عدم اعتبار اتحاد الشاهد للقبول على كل عقد من العقل والنقل ، بل نجده مجرد الدعوى ، فلم لا يجوز الاكتفاء بشاهد واحد في كل عقد إذا كان مما يقبل التعدد ، ولا يضره ، فإنه من الجائز أن يقول عند شاهد عدل يوم الجمعة وكلتك ، وفي يوم السبت عند آخر (وكيل كردم شما را) ، لغرض من الأغراض مثل الاشهاد كما في الإقرار الى آخره ، ففيه أنه لا ريب أنه بالتوكيل في يوم الجمعة قد حصلت الوكالة الشرعية المترتب عليها أحكامها المقررة ، وهذا التوكيل الثاني في يوم السبت ان قصد به التوكيل ، والإنشاء كما هو المفهوم من كلامه فهو لا يخرجه عن اللغو في القول ، لما عرفت من ثبوت التوكيل وحصوله ، وترتب أحكام التوكيل عليه بلا خلاف ، وان أريد الإقرار والاعتراف تم ما ذكره ولكنه خلاف ما أراده ، وبذلك يظهر لك ما في قوله ، فلم لا يجوز الاكتفاء بشاهد واحد في كل عقد إذا كان مما يقبل التعدد ، فاني لا أعرف لقبول عقد الوكالة هنا التعدد دون غيره من العقود وجها ، فإنه ان ثبت الوكالة بما يترتب عليها بالعقد الأول ، فلا معنى لهذا التعدد ، والا فلا تورد ، بل الثاني في الحقيقة إنما يرجع الى الإقرار والاعتراف كما هو ظاهر لمن تأمل بعين الإنصاف.

أقول : ومما يمكن أن يؤيد به القول المشهور ما هو المفهوم من جملة من قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفريق الشهود متى حصلت الريبة في شهادتهم من الأخذ بالمشخصات الزمانية والمكانية والقولية ونحو ذلك ، وانه متى اختلفت الشهود في ذلك أبطل شهادتهم ونقل عليه‌السلام مثله عن داود ودانيال عليهما‌السلام والأخبار المشار إليها مشهورة (1) ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : لو ادعى الوكالة عن غائب في قبض ماله ، وكان لذلك الغائب مال عند أحد فإن كان ثمة بينة على الوكالة وجب تسليم ذلك اليه ، وان لم تكن

__________________

(1) الوسائل ج 18 ص 202 ح 1.


بينة فلا يخلو اما أن ينكر الغريم الوكالة ، أو يصدقه ، وعلى الثاني فاما أن يكون الحق عينا أو دينا فهنا صور أربع ، الأولى : أن يقيم الوكيل البينة على دعوى الوكالة وقد عرفت أنه لا إشكال في وجوب الدفع إليه ، في هذه الصورة دينا كان أو عينا.

الثانية : أن ينكر الغريم الوكالة ولا بينة فإنه لا يكلف بالدفع اليه لعدم البينة وعدم تصديقه ، وقيل : لا يمين أيضا على الغريم ، ومن عنده المال هنا ، لأن اليمين عندهم إنما يتوجه على من لو صدق يلزم بمقتضى تصديقه ، كذا قيل ، وفيه نظر سيأتي إنشاء الله ذكره ، فلو دفع بناء على الظاهر مع كونه غير مكلف بالدفع ثم حضر الموكل وأنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه ، فإذا حلف على نفي الوكالة رجع على الدافع ويرجع الدافع على مدعى الوكالة ، لأنه إنما دفع اليه بناء على الظاهر ، فإذا تبين خلافه وقد غرم للمالك رجع بذلك عليه بلا إشكال.

الثالثة : أن يصدق الغريم مدعى الوكالة ، والحق الموكل فيه عين في يده ، والحكم أنه لا يؤمر بالتسليم اليه لجواز كذبهما معا ، وهذا الإقرار إنما تعلق بحق المالك فلا يسمع ، لأن له أن يكذبهما معا ، لكن لو دفع والحال هذه جاز بناء على علمه بصحة الوكالة وتصديقه له فيها ولأنه لا منازع غيرهما الآن ويبقى الموكل على حجته ، فإذا حضر وصدق الوكيل برئت ذمة الدافع ، وان كذبه فالقول قوله مع يمينه ، فان كانت العين موجودة أخذها ، وله مطالبة من شاء منهما بالرد ، لترتب أيديهما عليها وان تعذر ردها لتلف أو غيره ، تخير في الرجوع على من شاء منهما ، لما عرفت من ترتب الأيدي عليها ، فان رجع على الوكيل لم يرجع على الغريم مطلقا لاعترافه ببرائته بدفعها اليه ، وان رجع على الغريم لم يرجع على الوكيل ان تلفت في يديه بغير تفريط لأنه عنده أمين حيث صدقه في دعوى الوكالة ، وإلا رجع عليه ومنه يظهر أنه لا رجوع للغارم منهما على الآخر لو تلفت بغير تفريط منهما ، لما عرفت ، ولأنه مظلوم بزعمه ، والمظلوم لا يرجع الا على ظالمة.

الرابعة : الصورة بحالها ويكون الحق دينا ، وهل الحكم هنا كما تقدم في


تقدم في سابق هذه الصورة أو أنه يجب الدفع اليه؟ وجهان : للأول منهما أن تسليمه إنما يكون عن الموكل ، ولا يثبت إقرار الغريم عليه استحقاق غيره لقبض حقه ، ولأن التسليم لا يؤمر به إلا إذا كان مبرءا للذمة ، ومن ثم يجوز لمن عليه الحق الامتناع من تسليمه لمالكه حتى يشهد عليه وليس هنا كذلك ، لأن الغائب يبقى على حجته ، وله مطالبة الغريم بالحق لو أنكر الوكالة ، وللثاني ان هذا التصديق انما اقتضى وجوب التسليم من مال المقر نفسه ، لا من مال الموكل ، وإنكار الغائب لا يؤثر في ذلك ، فلا مانع من نفوذه ، ولعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز.

أقول : ومن أجل ذلك تردد في الشرائع ، وفي التذكرة ذكر الوجه الثاني احتمالا ، ولم يتعرض لذكر الوجه الأول ، فقال : وان كان دينا احتمل وجوب الدفع اليه ، لاعترافه بأنه مستحق للمطالبة ، والفرق بين الدين والعين ظاهر ، فان المدفوع في الدين ليس عين مال الموكل ، وأما العين فإنه عين مال الغير ، ولم يثبت عند الحاكم أنه وكيل ، فلم يكن له أمره بالدفع ، انتهى.

وظاهر المسالك هنا اختيار الوجه الثاني حيث أجاب عن أدلة الوجه الأول بعد ذكر ما نقلناه من أدلة الوجه الثاني المتضمنة للجواب أيضا عن بعض تلك الأدلة ، فقال : وتوقف وجوب التسليم على كونه مبرءا مطلقا ممنوع ، والبراءة هنا بزعمه حاصلة ، والاحتجاج بجواز الامتناع للإشهاد إنما يقتضيه على المدفوع اليه ، وهو ممكن بالنسبة إلى مدعى الوكالة ، فوجوب الدفع هنا أوجه ، انتهى.

ثم إنه لو حضر المالك وأنكر الوكالة فالقول قوله بيمينه ، ويطالب الغريم وان كان ما دفعه الغريم إلى الوكيل موجودا بعينه ، لأن ذلك ليس مال المالك كما تقدمت الإشارة اليه ، وإنما هو من مال الدافع ، لأن الدين لا يتعين إلا بتعيين مستحقة ، أو من يقوم مقامه والحال أن هذا القابض ليس أحدهما

نعم للغريم الرجوع على الوكيل بما دفعه مع بقاء العين أو تلفها بتفريط لا بدونه ، لأنه من حيث تصديقه له على الوكالة فهو أمين عنده ، والأمين لا يضمن


بدون تفريط ، ويأتي بناء على الوجه الثاني من وجهي هذه الصورة أن الغريم لو لم يصدق المدعي كما تقدم في الصورة الثانية ، وكان الحق دينا أنه لو ادعي عليه الوكيل العلم بالوكالة ، فله عليه اليمين بعدم العلم ، لأنه لو أقر لزمه التسليم ، وهي قاعدة كلية عندهم.

قال المحقق : وكل موضع يلزم الغريم التسليم لو أقر يلزمه اليمين إذا أنكر ، فإطلاق عدم اليمين كما تقدم عن جملة منهم ثمة ليس في محله ، بل إنما يتم في العين حيث أنه لا يلزم بدفعها بمجرد التصديق كما تقدم ، والله سبحانه العالم.

المطلب السادس في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى : المشهور في كلام الأصحاب بل ادعي عليه الإجماع أن الوكيل أمين لا يضمن الا مع التعدي أو التفريط ، وقال في شرح القواعد : أنه يلوح من كلامهم أنه لا خلاف في ذلك بين علماء الإسلام.

أقول : ان أريد بكونه أمينا هو قبول قوله بيمينه في كل ما يدعيه من تلف المبيع والثمن بعد قبضه ، ورده على الموكل مثلا ، وقبول قوله في فعل ما وكل فيه ونحو ذلك فكلامهم لا يساعد عليه ، وان أريد أن ذلك في بعض هذه الأفراد فالأولى التخصيص بتلك الأفراد المرادة ، إلا أن تعليلاتهم في المقام يقتضي العموم كما ستقف عليه ، وها نحن نسوق لك جملة من عبائرهم في المقام.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف لو اختلفا في التلف فالقول قول الوكيل لأنه أمين ، ولأنه يتعذر إقامة البينة بالتلف غالبا فاقتنع بقوله دفعا لالتزام ما تعذره غالب ، ما لفظه ـ : المراد تلف المال الذي بيده على وجه الأمانة لتدخل فيه العين الموكل في بيعها قبله ، وثمنها حيث يجوز له قبضه بعده ، والعين الموكل في شرائها كذلك ، ووجه القبول مع مخالفته للأصل بعد الإجماع ما ذكره


المصنف ، ولا فرق بين أن يدعي تلفها بسبب ظاهر كالحرق والغرق ، أو خفي كالسرق عندنا ، وفي حكمه الأب والجد والحاكم وأمينه والوصي ، وقد تقدم الخلاف في قبول قول بعض الأمناء ، انتهى.

وقال في التذكرة : الوكيل أمين ، ويده يد أمانة لا يضمن ما يتلف في يده الا بتعد أو تفريط ، فان تلف ما قبضه من الديون والأثمان أو الأعيان من الموكل أو غرمائه فلا ضمان عليه ، سواء كان وكيلا بجعل أو بغير جعل ، فان تعدي فيه كما لو ركب الدابة أو لبس الثوب أو فرط في حفظه ضمن إجماعا ، وكذا باقي الأمانات كالوديعة وشبهها ، وبالجملة الأيدي على ثلاثة أقسام : يد أمانة كالوكيل والمستودع والشريك ، وعامل المضاربة ، والوصي والحاكم وأمين الحاكم ، والمرتهن والمستعير على وجه يأتي ، ويد ضامنة كالغاصب والمستعير على وجه ، والمساوم والمشتري شراء فاسدا ، والسارق ، ويد مختلف فيها ، وهي يد الأجير المشترك كالقصار والصائغ والحائك والصناع وما أشبه ذلك ، وفيها للشافعية قولان ، وعندنا أنها يد أمانة ، إذا عرفت هذا فكل يد أمانة لا ضمان على صاحبها الا بتعد أو تفريط ، لأنه لو كلف الضمان لامتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها ، فيلحقهم الضرر ، فاقتضت الحكمة زوال الضمان عنهم ، انتهى.

وقال في موضع آخر : إذا ادعى الوكيل تلف المال الذي في يده للموكل أو تلف الثمن الذي قبضه بثمن متاعه ، وأنكر المالك قدم قول الوكيل مع يمينه ، وعدم البينة ، لأنه أمينه ، فكان كالمودع ، ولأنه قد يتعذر إقامة البينة عليه ، فلا يكلف ذلك ، ولا فرق بين أن يدعى التلف بسبب ظاهر ، إلى آخر كلامه.

وقال في موضع آخر : إذا اختلفا في الرد فادعاه الوكيل وأنكره الموكل ، فان كان وكيلا بغير جعل احتمل تقديم قول الوكيل ، لأنه قبض المال لنفع مالكه ، فكان القول قوله مع اليمين كالودعي ، ويحتمل العدم ، لأصالة عدم الرد ، والحكم في الأصل ممنوع ، وان كان وكيلا بجعل ، فالوجه أنه لا يقبل قوله ،


لأنه قبض المال لنفع نفسه ، فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير ، وهو أحد قولي العامة.

والثاني أن القول قول الوكيل ، لأنه وكيل ، فكان القول قوله كالوكيل بغير جعل ، لاشتراكهما في الأمانة ، وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها ، وجملة الأمناء على ضربين : أحدهما ـ من قبض المال لنفع مالكه لا غير ، كالمودع والوكيل بغير جعل ، فيقبل قولهم في الرد عند بعض الفقهاء من علمائنا وغيرهم لأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس عن قبول الأمانات ، ولحق الناس الضرر ، والثاني ـ من ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل بجعل ، والمضارب ، والأجير المشترك والمستأجر ، والمرتهن ، فالوجه أنه لا يقبل ، وهذا الكلام مؤذن بأن الوكيل ليس أمينا مطلقا ، وإلا لقبل قوله في الرد ، وسيأتي مزيد تحقيق لهذا الحكم إنشاء الله تعالى في مسائل النزاع.

وقال في مواضع آخر إذا ادعى الوكيل الرد الى الموكل ، فالأقوى أنه يفتقر إلى البينة ، ثم نقل عن الشافعي تقسيم الأمناء إلى ثلاثة أقسام : قسم يقبل قوله في الرد بيمينه ، وهم المودعون ، والوكلاء بغير جعل ، ومنهم من لا يقبل إلا ببينة وهم المرتهن والمستأجر ، ومنهم من اختلف فيه على وجهين ، وهم الوكلاء بجعل والشريك ، والمضارب ، والأجير المشترك الى آخره.

وهذا الكلام يؤذن بأنه لا فرق بين الوكيل بجعل وغيره في عدم قبول قوله إلا بالبينة ، مع أن ظاهره في الكلام الأول التردد فيما إذا لم يكن الوكالة بجعل ، وقال في موضع آخر : إذا وكله في بيع أو هبة أو صلح أو طلاق أو عتق أو إبراء أو غير ذلك ، ثم اختلف الوكيل والموكل فادعى الوكيل أنه تصرف كما أذن له ، وأنكر الموكل وقال : لم يتصرف بعد ، فإن جرى هذا النزاع بعد عزل الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة ، لأن الأصل العدم ، وبقاء الحال كما كان وان جرى قبل العزل فالأقرب أنه كذلك ، وأن القول قول الموكل ، لأن الأصل


العدم الى آخره ، وسيأتي الكلام في هذه المسئلة أيضا ، وتصريح غيره بخلاف ما صرح به ، ومرجعه الى الخلاف في قبول قول الوكيل وعدمه ، وبذلك يظهر لك أن ما ادعى من الإجماع المتقدم ذكره غير تام إلا في صورة دعوى التلف ، حيث أن ظاهرهم الاتفاق على قبول قول الوكيل فيه.

وأما دعوى الرد ودعوى التصرف فهو محل خلاف واشكال عندهم ، مع أن التعليل الذي ذكروه في قبول دعوى التلف زائدا على الإجماع ، وهو لزوم امتناع الناس عن قبول الأمانات مع إلجاء الحاجة إلى ذلك ، جار في هذين الأمرين.

وبالجملة فإن المسئلة لعدم النص في هذه الأفراد المعدودة ، بل في أصل مسئلة الوكالة لا يخلو من الاشكال ، والإجماع المدعي لو سلم حجيته غير تام ، والتعليلات المذكورة في كلامهم لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية كما تقدم ذكره في غير مقام ، والأصالة متعارضة في بعض هذه المواضع ، فإن أصالة العدم في دعوى الوكيل التصرف فيقدم قول الموكل ، معارضة بأصالة براءة الذمة ، وعدم الغرم وحمل أفعال المسلمين على الصحة مهما أمكن ، كما يشير اليه كثير من الأخبار الا أنه يمكن أن يقال : لا يخفى أن مقتضى الأخبار التي تقدمت في كتاب الوديعة دالة على النهي عن اتهام من ائتمنه ، المشعر ذلك بقبول قوله في جميع ما يدعيه ، كون الوكيل كذلك وأن كان بجعل ، لأن الجعل إنما هو في مقابلة السعي والعمل ، وهو غير مناف للايتمان ، ولا ريب أن الايتمان في الوكالة أشد وأبلغ منه في الموادعة ، لأنه في الوكالة مؤتمن على الحفظ والتصرف بجميع أنواع التصرفات المأذون فيها ، بخلاف الودعي فإنه مأمون على الحفظ خاصة ، ولا ريب أيضا أن الايتمان الذي رتبت عليه هذه الأحكام في الوديعة ليس إلا عبارة عن الوثوق بالمدفوع إليه في عدم الخيانة ، والمخالفة لأمر المالك ، ولهذا وردت الأخبار (1)

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 299 ح 4 ، الوسائل ج 13 ص 228 ح 8 المنقول مضمون الأحاديث.


«ما خانك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن». ، بمعنى أنه متى حصلت الخيانة من المدفوع اليه فالتقصير إنما هو منك ، حيث لم تثبت في الفحص عن حال المدفوع اليه ، وكونه أمينا والا فمتى ثبت عندك أمانته والوثوق به ، فإنه لا يحصل منه خيانة ، والايتمان بهذا المعنى مشترك بين جميع الأمناء ودعيا كان أو وكيلا أو مستعيرا أو مرتهنا.

وبه يظهر أن الفرق الذي ذكروه بين هذه الافراد ـ باعتبار مصلحة تعود على الأمين ولا يقبل قوله ، وعدمها فيقبل ـ ليس بموجه ، نعم قد استثنى بعض المواضع في مسئلة الإعارة من هذه القاعدة ، فيقتصر فيه على مورد النص ، وهذا هو الظاهر عندي من الأخبار المشار إليها ، وان كان كلامهم على ما عرفت من الاختلاف والاضطراب في جميع هذه الأبواب ، والله سبحانه العالم.

الثانية : يجب على الوكيل تسليم ما في يده إلى الموكل مع المطالبة وعدم العذر ، بل يجب على كل من في يده مال لغيره ، أو في ذمته ذلك ، فلو امتنع والحال كذلك ضمن ، الا أن له الامتناع حتى يشهد صاحب الحق له بالقبض.

وتفصيل هذا الإجمال يقع في مواضع ـ الأول : لا ريب في وجوب الدفع مع الطلب وإمكان الدفع ، وأنه لو امتنع والحال هذه ضمن ، قالوا : وليس المراد به القدرة العقلية ، بحيث يدخل فيها فعل ما يمكنه فعله من المبادرة ، وان كان على خلاف العادة ، بل يرجع ذلك إلى العرف شرعا ، ثم إلى العرف العام ، ويعذر بما عد عذرا فيهما ، وان كان مقدورا كإكمال الصلاة عند الطلب في أثنائها ، وان كانت نقلا ، والتشاغل بها عند ضيق الوقت وان كان الطلب قبل الشروع فيها عذر شرعي ، والفراغ من الحمام وأكل الطعام ونحو ذلك من الأعذار العرفية ، كذا صرح به في التذكرة ، مع أنه في باب الوديعة من الكتاب المذكور حكم بأنه لا يعذر في ردها مع الطلب الا بتعذر الوصول إلى الوديعة ، وإكمال الصلاة الفرض دون النفل ، وغيره من الأعذار العرفية فضيق الأمر في الوديعة ،


ووسعه في الوكالة ، والحال أن العكس كان هو الأنسب ، لأن الأمر في الوديعة أسهل حيث أنها مبنية على الإحسان المحض والأنسب بالسهولة ، والوكالة قد يتعلق بها أغراض للوكيل ، كالجعل فيها ونحوه ، فلا أقل من المساواة.

قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : الظاهر أنه لا خلاف في وجوب تسليم مال الغير إلى مالكه مع طلبه ، والقدرة على التسليم مطلقا ، وجوبا فوريا وكيلا كان أو غريما ، أو مستعيرا أو ودعيا وكذا في خروج الأمين عن الأمانة فيصير ضامنا بالتأخير كالغاصب ، وإنما الخلاف في بطلان ما ينافي الدفع من العبادات ، والقوانين الأصولية تقتضي البطلان على تقدير بقاء الوجوب ، لوجوب الفورية في الدفع ، وعدم استثناء وقت العبادة ، وعدم كون العبادات مضيقة ، وهو ظاهر بل نجد الاتفاق في ذلك بعد التأمل ، حيث نجد أن القائل بالعدم يقول به ، وكذا الحكم في كل الفوريات كالزكاة والخمس والمال الموصى به للفقراء ، بل ما دفع للصرف في مصرف ، الا أنه لا يشترط هنا المطالبة إذا كان المصرف عاما مثل الزكاة والخمس ، فإنه لا يتوقف على الطلب ، إذ ليس له مطالب معين ، صرح به في الدروس ، انتهى.

أقول : ما ذكروه من الاختلاف في الحكم ببطلان ما ينافي الدفع من العبادات مبنى على العمل بالقاعدة الأصولية المشهورة ، وهي أن الأمر بالشي‌ء هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أم لا؟ وحيث انه كان من القائلين باقتضاء الأمر ذلك ، بل المبالغين في تشييد هذا القول ، حكم بالبطلان في جميع هذه المواضع المعدودة.

وفيه أولا ما قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة (1) من أن الأظهر عدم العمل بهذه القاعدة ، وما يترتب عليها من الفائدة ، ولا بأس بذكره هنا وان استلزم التكرار لدفع ثقل المراجعة على النظار ، سيما مع عدم حضور ذلك الكتاب المشار اليه بيد من أراد الوقوف عليه.

__________________

(1) ج 1 ص 59.


فأقول : التحقيق عندي وان أباه من ألف بالقواعد الأصولية إنا متى رجعنا في الأحكام الشرعية إلى الأدلة العقلية التي لا تقف على حد ولا ساحل ، ولو طويت لها المراحل ، ولهذا كثرت في هذه المسئلة الأبحاث ، وصنفت فيها الرسائل ، أو تصادمت فيها من الطرفين الدلائل واضطربت فيها أفهام الأفاضل أشكل الأمر ، أي إشكال وصار الداء عضالا وأى عضال ، والحق أن الأحكام الشرعية توقيفية من الشارع لا مسرح للعقول فيها ، ولو كان لهذه المسئلة أصل مع عموم البلوى بها لخرج عنهم عليهم‌السلام ما يدل عليها أو يشير إليها ، وحيث لم يخرج عنهم عليهم‌السلام فيها شي‌ء سقط التكليف بها ، إذ لا تكليف الا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة الحجة والبرهان ، وهذا يرجع في التحقيق إلى ما قدمنا ذكره في غير موضع من كتب العبادات ، وبه صرح الأمين الأسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية ، والعمل بها فيما يعم به البلوى من الأحكام ، هذا مع أن القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين بالآية والرواية ، والإجماع ، فإنه لا يخفى أنه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة من واجب من الواجبات البدنية أو المالية ، واللازم على هذا القول الذي ذكروه بطلان عباداتهم وصلواتهم في غير ضيق الوقت ، وبطلان نوافلهم ومستحباتهم ، وعدم الترخص في أسفارهم ولزوم الإثم والمؤاخذة في جملة أفعالهم من أكل وشرب ونوم ونكاح ، ومغدا ومجي‌ء ، ونحو ذلك ، لأن الغرض أنهم منهيون عن هذه الأضداد الخاصة ، والنهي حقيقة في التحريم ، فأي حرج وضيق أعظم من ذلك.

ومن أظهر ما يدل على عدم التكليف بهذه الأمور التي لم يرد فيها حكم بنفي ولا إثبات ، قول مولانا الصادق عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمار (1) أن عليا عليه‌السلام كان يقول : أبهموا ما أبهم الله».

وما رواه الشيخ المفيد (2) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «قال

__________________

(1) البحار ج 2 ص 272 ح 5 الباب 33 من أبواب كتاب العلم.

(2) المستدرك ج 3 ص 217 ح 4 الباب 3 ، البحار ج 2 ص 263 ح 11 الباب 33 من أبواب كتاب العلم.


رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن الله تعالى حد لكم حدودا فلا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وسن لكم سننا فاتبعوها ، وحرم عليكم حرمات فلا تنهكوها ، وعفى لكم عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا تتكلفوها». وما رواه الفقيه (1) في خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيها : ان الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفونها ، رحمة من الله تعالى فاقبلوها».

ولا ريب أن هذه المسئلة داخلة فيما سكت الله تعالى عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا تبعا للعامة العمياء في كتبهم الأصولية ، رد على ما دلت عليه هذه الاخبار ، وكم لهم مثل ذلك ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار.

ومما يؤكد ذلك ما تكاثرت به الأخبار عنهم عليهم‌السلام (2) من النهي عن القول بما لم يسمع منهم ، ولا يرد عنهم ، والكف والتثبت حتى يسأل».

ومنه حديث صاحب البريد (3) المروي في الكافي قول الصادق عليه‌السلام فيه «أما انه شر عليكم أن تقولوا بشي‌ء ما لم تسمعوه منا».

وفي معناه أخبار عديدة ، وبذلك يظهر لك ما في قوله ان القوانين الأصولية يقتضي البطلان ، فان فيه كما عرفت أن القوانين الشرعية الثابتة عن أهل العصمة عليهم‌السلام تقتضي الصحة ، وهي الأولى والأحق بالاتباع ، وان كانت قليلة الاتباع من حيث عدم التأمل فيها ، والرجوع في ذلك إليها ، والظاهر أن من وقف على ما شرحناه لا يخالف في صحة ما اخترناه.

وثانيا أنه من المعلوم الذي لا يداخله الشك والريب أن أصل هذا العلم الذي هو علم الأصول انما هو من العامة وقد كانت العامة زمن الأئمة عليهم‌السلام كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأضرابهم عاكفين على هذا العلم ، وصنفوا فيه الكتب

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 53 ح 15 ، الوسائل ج 18 ص 129 ح 61.

(2) الكافي ج 1 ص 42 ح 50 ، الوسائل ج 18 ص 112 ح 3.

(3) أصول الكافي ج 2 ص 402 في ضمن ح 1 ، الوسائل ج 18 ص 47 ح 25.


ويستدلون به على مطالبهم ، ويستنبطون به أحكامهم ، ولم يكن لهذا العلم رواج في الأحكام بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام من الشيعة ، لاستغنائهم بالسؤال من أئمتهم في جملة أحكامهم ، ولو كان هذا العلم كما يدعيه من سماه بعلم الأصول أصل أصيل في الأحكام الشرعية كيف غفل الأئمة عليهم‌السلام عن تعليمه للشيعة في زمانهم ، ونشره لهم حيث أنه لم يبق نقير ولا قطمير من الأحكام والسنن والآداب وجميع ما يمر بالإنسان ويعرض له إلا خرجت به الأخبار ، وتكاثرت به من أكله وشربه ونومه ، ويقظته ، وتزويجه ونكاحه ، وسفره ولبس الثياب وضرب الخلا ونحو ذلك ، فكيف ينبهون على هذه الأمور ويتركون أهم الأشياء وأشدها حاجة ، وهي الأصول التي يبنى عليها الأحكام الشرعية ، وتستنبط منها ، ما هذا الأعجب عجاب عند ذوي الألباب وذيل الكلام واسع في الباب ، يوجب التطويل به الخروج عن موضوع الكتاب ، والله سبحانه العالم.

وثالثا : أنه ما ذكره من الفورية في الزكاة والخمس والمال الموصى به للفقراء ونحو ذلك لا أعرف عليه دليلا ، إذ ليس الا مجرد الأمر بالإخراج والأمر لا يستلزم الفور ، كما هو المشهور بين محققيهم ، على أنه قد دلت الاخبار على تأخير الزكاة الشهر والشهرين ، وفي بعض الأخبار (1) قيد ذلك بعزلها وإثباتها ، وقد ورد جواز حمل الخمس الى الامام (2) من البلدان البعيدة مع وجود المستحق ، وكل ذلك ينافي الفورية.

الثاني : أن ما ذكر من أن له الامتناع حتى يشهد له صاحب الحق بالقبض أحد القولين في المسئلة ، وقيل : بالتفصيل بأنه ان كان مما يقبل قول الدافع فيه ، ولا يتوجه عليه ضرر ، بترك الإشهاد كالوديعة ، وشبهها ، فليس له الامتناع ، والا فله الامتناع إلى الإشهاد ، كالدين والغصب ونحوهما وربما قيل بتفصيل آخر أيضا بالنسبة إلى هذا القسم الأخير ، بأنه ان كان هناك بينة بالحق فله الامتناع

__________________

(1) الكافي ج 3 ص 522 ح 3 ، الوسائل ج 6 ص 213 ح 2.

(2) الوسائل ج 6 ص 375 الباب 3 من أبواب الأنفال.


حتى يشهد ، والا فلا ، مثلا المديون ان كان عليه بينة بالدين ، فلا يدفعه الى صاحبه حتى يشهد له على القبض ، وان لم يكن عليه بينة بذلك ، فإنه وان لم يقبل قوله بالدفع لو أقر بالدين ، إلا أنه يمكنه التخلص بوجه آخر ، وهو أن ينكر أصل الحق بأن يقول : لا يستحق عندي شيئا ، فيقبل قوله بيمينه كالأول لأنه منكر.

أقول : والذي وجدته في فتاوى من حضرني كلامه هو القول الأول ، وهذه التفاصيل لم أقف على قائل بها منا وان نقلت مجملة في كتب أصحابنا نعم نسبها في التذكرة إلى الشافعية ، واحتج من ذهب من أصحابنا إلى القول الأول بأن تكلف اليمين ضرر عظيم ـ وان كان صادقا وأذن الشارع فيها ، ويترتب الثواب عليها ـ خصوصا في بعض الناس من ذوي المراتب فان ضرر الغرامة عليهم أسهل من ضرر اليمين.

أقول : ويعضد ما ذكره من تحمل ذوي المراتب ضرر الغرم تفاديا من اليمين حديث على بن الحسين عليه‌السلام (1) مع زوجته الشيبانية الخارجية لما طلقها وادعت عليه مهرها عند قاضي المدينة فأنكر عليه‌السلام فألزمه القاضي اليمين فأمر ابنه الباقر عليه‌السلام بدفعه إياها إجلالا لله سبحانه أن يحلف به ، وان كان صادقا.

قال المحقق الأردبيلي بعد الكلام في توقف التسليم على الاشهاد كما ذكره الأصحاب : واعلم أن في فتح هذا إشكالا ، إذ قد يتعذر وجود عدلين مقبولين خصوصا في زماننا هذا ، وفي أكثر البلدان فإن أهلها يمتنعون عن الصلاة جماعة بل صارت معدومة بالكلية ، لعدم العدل مع سهولة الأمر في ذلك ، وأن يرتكبوا الطلاق مع صعوبة الأمر فيه بالنص والإجماع ، وكذا في بعضها عن الطلاق أيضا حتى قال الشهيد الثاني والسيد المعاصر تلميذه انه لو قيل : بعدم جواز التقصير للعاصي بسفره ، لم يجز لأحد التقصير الا نادرا لتركهم الواجبات العينية ، وعدم إمكان تحصيلها في السفر ، فهو معصية وان كان فيه بحوث قد مضت ، منها أنه

__________________

(1) الكافي ج 7 ص 435 ح 5 ، الوسائل ج 16 ص 142 ح 1.


مبنى على أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، وهو لا يقول به ، فلا يبعد عدم الجواز مع التعذر أو التعسر المستلزم لمنع صاحب المال عن ماله الذي يدل العقل والنقل على قبحه ، خصوصا إذا استلزم فوت المصالح مع أنا ما نعرف دليلا واضحا على جواز ذلك المنع ، الا ما أشير وهو احتمال لزوم اليمين ، وهو لا يعارض العقل والنقل ، على أنه قد لا يلزم ، بل قد تعلم من صاحب المال انتفاء ذلك وأنه لا محذور فيه ، وعلى تقديره ليس بأشد من منع المال عن مالكه ، مع أنه لا يعانده في تكليفه أيضا بذلك ، لعدم حضور الحاكم في ذلك البلد ، والشهود إنما تنفع مع الحاكم على ما قالوه ، وأنه قد يسد أبواب المعاملة مثل الديون ، والعارية ، والإجارة ، وغيرها فالمنع عن مثله ـ لاحتمال بعيد ـ اعتمادا على أمر غير متحقق ، إذ قد لا يكون الحاكم أو يموت الشهود ، أو يخرج عن شرط القبول بعيد ، خصوصا ممن يقبل قوله ، ولهذا خص البعض بما عليه البينة.

وبالجملة الحكم الكلى مشكل جدا ، الا أن يكون عليه نص أو إجماع والله يعلم ، انتهى وهو جيد لعدم الدليل عليه ، والأصل العدم ، ويخرج ما ذكره مؤيدا لذلك.

وأما الإجماع فلم ينقل في المقام ، بل ظاهر عبارة التذكرة إنما هو العدم ، حيث جعل القول بالإشهاد مطلقا هو الأقرب ، إيذانا باحتمال غيره وبالجملة فإن التمسك بالأصل أصل رزين حتى يقوم الدليل على خلافه ، وليس الا هذه التعليلات العليلة كما عرفت في غير موضع.

الثالث : قد عرفت أنه إذا امتنع من الرد بعد المطالبة من غير عذر كان ضامنا ، لكن لو ادعى تلف المال قبل الامتناع أو ادعى الرد قبل المطالبة فهل تسمع دعواه وبينته بذلك؟ أم لا ، وتفصيل ذلك أن الامتناع من الرد ان كان مجرد تقصير ومطل ، فالظاهر أن هذا لا يمنع من قبول قوله وسماع بينته بدعوى التلف قبل الامتناع ، أو الرد قبل المطالبة ، إذ لا منافاة بينهما ، وهو وان كان


يضمن بالامتناع ، الا أن هذه الدعوى متقدمة على وقت الامتناع والرجوع إلى الضمان ، وحصول أحد الأمرين المذكورين قبل الامتناع بهذا المعنى ممكن ، وحينئذ يقبل الدعوى بذلك ، وتسمع البينة ، وان كان الامتناع بالجحود فلا يخلو اما أن يرجع إلى نفي الحق عن نفسه ، بأن يقول : لا حق لك عندي أو لا يلزمني دفع شي‌ء إليك ، أو يرجع إلى إنكار قبضه وتسلمه منه بالكلية ، بأن يقول : ما قبضت منك شيئا وعلى الأول منهما ، فالحكم كما تقدم ، بل أوضح ، لأنه متى ادعى التلف قبل الامتناع أو الرد قبل المطالبة ، فامتناعه بهذا المعنى لا يكذب تلك الدعوى ، بل يؤكدها فإنه متى تلف منه أورده صدق أنه لا حق لك عندي ولا يلزمني دفع شي‌ء إليك ، وأما على الثاني فهو محل الخلاف في المسئلة ، فقيل بعدم قبول دعواه ، وان أقام البينة وهو مذهب العلامة في أكثر كتبه ، قال في التذكرة لو أنكر الوكيل قبض المال ، ثم ثبت ذلك ببينة أو اعتراف ، فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لثبوت خيانته ، لجحوده ، فإن أقام بينة بما ادعاه من الرد والتلف ، لم يقبل بينته ، وللعامة وجهان : أحدهما لا يقبل كما قلناه ، لأنه كذبهما لجحوده ، فان قوله ما قبضت يتضمن أنه لم يرد شيئا ، والثاني يقبل لأنه يدعي الرد والتلف قبل وجود خيانته ، وان كان صورة جحوده ذلك لا تستحق على شيئا أو مالك عندي شي‌ء سمع قوله مع يمينه ، لأن جوابه لا يكذب ذلك ، لأنه إذا كان قد تلف أورده فليس له عنده شي‌ء ، فلا تنافي بين القولين ، الا أن يدعى أنه رد أو تلف بعد قوله مالك عندي شي‌ء ، فلا يسمع قوله ، لثبوت كذبه وخيانته ، انتهى.

وقيل بقبول قوله وسماع بينته ، وهو اختيار الشرائع قال في المسالك :

ووجه ما اختاره المصنف من القبول جواز استناد إنكاره إلى سهو ونسيان ، وعموم (1) «البينة على المدعى واليمين على من أنكر». ويقوى ذلك ان أظهر لإنكاره هذا التأويل ونحوه ، انتهى.

__________________

(1) المستدرك ج 3 ص 199 ح 5 الباب 3.


وظاهر المحقق الأردبيلي التردد هنا حيث قال : ولكن لو أظهر لجحوده وإنكاره القبض أولا وجها ، مثل أن قال : كنت نسيت أو خفت أن لا تسمع دعوى التلف ، فيلزمني المال فأنكرت هل يسمع ذلك أم لا؟ فيه تردد ، من حيث إمكانه ، والحمل على الصحة ، وأنه أمين ، ومن حيث أن فتح هذا الباب يصير سببا لبطلان كثير من الحقوق ، فتأمل ، ولعل الأول أقرب.

هذا كله فيما لو كانت الدعوى بالتلف أو الرد قبل الجحود ، أما لو كانت بعده بأن قال : إني قبضت بعد ذلك الزمان الذي جحدت فيه ، ورددته إليك أو تلف ، فإنه وان لم يصدق ولم يقبل قوله بمجرده ، لظهور خيانته لكن يقبل دعواه ، وتسمع بينته ، لإمكان ذلك وعدم المنافاة ، وغايته أن يكون بجحوده متعديا ضامنا ، وذلك لا ينافي قبول دعواه وسماع بينته ، فإذا أقام البينة على الرد الذي ادعاه ثبت الحكم ، وسقطت المطالبة.

وأما دعوى تلف العين فإنه وان برئت ذمته من رد العين بالبينة أو اليمين الا أنه يلزمه المثل أو القيمة من حيث الضمان المترتب على الخيانة ، وبالفرق بين صورتي القبلية والبعدية هنا صرح العلامة في الإرشاد ، وفي غيره أطلق عدم سماع دعواه ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : قال في التذكرة : لو دفع الى وكيله عينا وأمره بايداعها عند زيد فأودعها ، وأنكر زيد فالقول قوله مع اليمين ، فإذا حلف بري‌ء ، وأما الوكيل فان كان قد سلمها بحضرة الموكل لم يضمن ، وان كان بغيبته ففي الضمان اشكال وللشافعية وجهان : أحدهما انه يضمن كما في الدين ، لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة والثاني لا يضمن ، لأن الودعي إذا ثبت عليه ـ بالبينة ـ الإيداع ، كان القول قوله في التلف والرد فلم تفد البينة شيئا ، بخلاف الدين ، لأن القضاء لا يثبت إلا بها ، انتهى.

أقول : المشهور في كلامهم هو الفرق بين الوكالة في قضاء الدين ، والوكالة في الإيداع ، بأنه في الأول لو لم يشهد الوكيل على القضاء ضمن ، وفي الثاني


لا يضمن ، وعلى هذا فيجب الاشهاد في الأول دون الثاني ، ووجه الأول أن برأيه الذمة ظاهرا وباطنا الذي هو مطلوب الموكل ـ انما يتحقق بالإشهاد ، وكذا الأمر الموكل فيه انما يتحقق بالإشهاد ، فإنه متى أنكر صاحب الدين القبض من الوكيل ولا بينة ، فكأنه لم يأت الوكيل بما وكل فيه ، ولم يأت بما أمر به الموكل فيكون ضامنا بخلاف الإيداع ، فإنه لا يلزمه الاشهاد ، ولا يضمن لو تركه ، لأن الودعي أمين ، وقوله مقبول ، أشهد عليه أو لم يشهد ، فلا يظهر للإشهاد فائدة.

الا أنه يمكن أن يقال : ان الأصل العدم في الموضعين ، ومطلق الأمر في كل من الموضعين لا يدل على الاشهاد ، ويؤيده أن الوكالة مطلقة لا تقييد فيها بالإشهاد ، ويؤيده أن الوكالة قد حصل الامتثال بإنفاذ ما وكل فيه ، فيجوز من دون الإشهاد ، إلا أن يقوم دليل من خارج على الإشهاد ، كالوكالة في الطلاق مثلا ، والظاهر أنه لا إجماع في القضاء ، ولهذا ان ظاهر المحقق في الشرائع التردد في ذلك ، ويؤيده ما تقدم في كلام المحقق ذكره ، ويؤيده أيضا أن فيه سد باب قبول الوكالة لما يتطرق اليه من الضرر الا أن يكون جاهلا فيعذر.

وبالجملة فالمسئلة كغيرها لا يخلو من الاشكال لعدم النصوص القاطعة لمادة القيل والقال في أمثال هذا المجال ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : قالوا : لو تعدى الوكيل في مال الموكل ضمنه ، كلبس الثوب ، وركوب الدابة الموكل ببيعهما ، ولكن لا تبطل وكالته بذلك ، ولو باع ما تعدى فيه وسلمه الى المشتري بري‌ء من ضمانه.

أقول : أما الحكم الأول فالظاهر انه لا خلاف فيه إلا من بعض العامة كما ذكره في المسالك ، وفيه أن العلامة في المختلف قد نقل ذلك عن ابن الجنيد أيضا حيث قال : تعدى الوكيل فيما وكل فيه بما يلزمه الغرم والضمان مبطل للوكالة.

وكيف كان فهو ضعيف ، والوجه في بقاء الوكالة وعدم بطلانها وان ضمن بالتعدي أن الوكالة تضمنت شيئين ، الأمانة ، والاذن في التصرف ، فإذا تعدى زالت


الأمانة ، وبقي الإذن بحاله ، ونظيره الرهن ، فإنه متضمن لشيئين الأمانة والتوثيق فإذا بطل الأول بالتعدي لا يلزم منه بطلان الثاني ، وهذا بخلاف الوديعة ، حيث أنها أمانة محضة ، فبالتعدي تزول وتبقى مضمونة.

وأما الحكم الثاني فالوجه فيه أنك قد عرفت بقاء الوكالة وعدم زوالها بالتعدي ، وحينئذ فإذا باع تلك العين وسلمها إلى المشتري زال الضمان عنه إجماعا كما نقله في التذكرة ، لاستقرار ملك المشتري عليه ، وزوال ملك الموكل عنه ، لأنه تسليم مأذون فيه ، فيجري مجرى قبض المالك.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول : هل يخرج من الضمان بمجرد البيع قبل التسليم أم لا؟ وجهان : يلتفتان إلى أنه قد خرج عن ملك المالك ، ودخل في ملك المشتري وضمانه ، فلا ضمان على الوكيل حينئذ ، والى أنه ربما بطل العقد بتلفه قبل قبض المشترى ، فيكون التلف على ملك الموكل ، قال في المسالك وهذا أقوى.

وفي التذكرة بعد أن قرب هذا الوجه أولا وذكر أنه أصح وجهي الشافعية ذكر الوجه الأول وعلته ، وقال بعد : ونحن فيه من المترددين.

الثاني إذا باع ما فرط فيه وقبض الثمن في صورة الجواز كان الثمن أمانة في يده ، غير مضمون عليه ، وان كان أصله مضمونا ، لانه لم يتعد فيه وقد قبضه باذن الموكل ، فيخرج عن العهدة.

الثالث : لو تعدى في هذا الثمن بعد قبضه أو دفع اليه نقدا يشترى به شيئا فتعدي فيه صار ضامنا له ، فإذا اشترى به وسلمه الى البائع زال الضمان بالتقريب المتقدم ، وهل يزول بمجرد الشراء؟ الوجهان المتقدمان.

الرابع : قد عرفت أنه إذا تعدى في العين ثم باعه وسلمها إلى المشتري بري‌ء من الضمان إجماعا ، لكن لو ردها المشتري عليه ، بعيب قال في التذكرة : عاد الضمان ، وقال في المسالك : وفي عود الضمان وجهان : أجودهما العدم ، لانتقال الملك إلى المشتري بالعقد ، وبطلان البيع من حينه لا من أصله ، انتهى.


أقول : مقتضى ما ذكره من الانتقال إلى المشتري بالعقد أن الانتفاعات بالمبيع والنماء مدة الخيار للمشتري ، وان فسخ العقد ورد المبيع بالعيب بعد ذلك ، الا أنه قد تقدم في كتاب المبيع أن الاخبار في ذلك مختلفة ، وأخبار خيار الحيوان متفقة على أن تلفه في زمن الخيار من مال البائع وهو مؤذن بعدم الانتقال للمشتري ، ولهذا نقل عن بعض الأصحاب أن منفعة المبيع في زمن الخيار والنماء انما هو للبائع ، وحينئذ فلا استبعاد في أن الفسخ هنا يبطل البيع من أصله والله سبحانه العالم.

الخامسة : المشهور بين الأصحاب أنه إذا أذن الموكل للوكيل في بيع ماله من نفسه أو الشراء له من نفسه جاز ونقل عن الشيخ ومن تبعه المنع للتهمة ، ولأنه يصير موجبا قابلا ، ورد بمنع التهمة مع الاذن ، ومراعاة المصلحة المعتبرة في كل وكيل ، وجواز تولى الواحد من الطرفين عندنا كذا في المسالك.

وعندي فيه نظر ، فان ظاهر كلام الشيخ وخلافه في هذه المسئلة انما هو في صورة الإطلاق ، لا في صورة التصريح بالاذن ، وبذلك صرح في التذكرة ، فقال : إذا وكله في بيع شي‌ء فان جوز له أن يشتريه هو ، جاز أن يبيعه على نفسه ، ويقبل عن نفسه ، وان منعه من ذلك لم يجز أن يشتريه لنفسه إجماعا ، وان أطلق منع الشيخ من ذلك ، لأنه قال : جميع من يبيع مال غيره وهم ستة أنفس ، الأب والجد ووصيهما ، والحاكم وأمينه والوكيل ، لا يصح لأحد منهم أن يبيع المال الذي في يده من نفسه إلا لاثنين ، الأب والجد ، ولا يصح لغيرهما الى آخره وهو ظاهر كما ترى في أن خلاف الشيخ إنما هو في صورة الإطلاق ، لا الاذن كما ذكره.

ومنه يعلم أنه لا خلاف مع الاذن ، وإنما الخلاف مع الإطلاق ، ثم ان ظاهرهم أنه لا فرق في ذلك بين الوكالة في بيع أو عقد نكاح أو غيرهما في أنه يصح مع الاذن ، مع أنه قد روى عمار (1) في الموثق قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 378 ح 5 ، الوسائل ج 14 ص 217 ح 4.


المرأة تكون في أهل بيت وتكره أن يعلم بها أهل بيتها أيحل لها أن توكل رجلا يريد أن يتزوجها؟ تقول له : قد وكلتك فاشهد على تزويجي؟ قال : لا ، قلت : جعلت فداك وان كانت أيما؟ قال : وان كانت أيما ، قلت : وان وكلت غيره يزوجها ، قال : نعم» ، وأنت خبير بأن هذه الرواية صريحة في المنع مع الاذن والظاهر أنه ليس إلا من حيث تولي طرفي العقد ، ولكن موردها النكاح خاصة ، فيمكن أن يقال : بذلك في غيره أيضا نظرا إلى أن الأصل عصمة مال المسلم وعصمة الفروج ، حتى يقوم الدليل على صحة العقد ، ومجرد الأذن كما ادعوه لا يوجب الصحة ، إذ يمكن أن يكون المانع هو تولى طرفي العقد ، وان جاز ذلك في الأب والجد مع الإغماض عن المناقشة فيه أيضا.

وجملة أدلتهم التي استندوا إليها في جواز تولي الواحد طرفي العقد لا يخلو عن خدش ، كما نبهنا عليه في ما تقدم من كتاب البيع في المسئلة الخامسة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع (1) فليراجع اليه من أحب الوقوف عليه ، إلا أن المفهوم من بعض الاخبار الواردة في هذا المقام كما ستظهر لك ان شاء الله هو أن المنع إنما هو من حيث خوف التهمة والخيانة ، وهو مشعر ، بأنه مع الاذن الموجب لارتفاع ذلك فإنه يصح ، وحينئذ فينبغي الفرق في ذلك بين البيع والنكاح ، ويخص المنع بالنكاح ، للخبر المذكور ، هذا كله مع الاذن.

أما مع الإطلاق فالمشهور بين أكثر الأصحاب من المتقدمين والمتأخرين هو المنع ، وهو مذهب العلامة في غير التذكرة والمختلف ، وذهب في الكتابين المذكورين إلى الجواز على كراهية ، ونقل عن أبى الصلاح وهو مذهب الدروس ، والأظهر هو القول المشهور ، ويدل عليه أن الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير عقلا ونقلا الا مع الاذن ، والمفروض عدمه ، فإن الإطلاق لا يدل عليه.

والظاهر أن من قال بالجواز إنما قال ذلك من حيث دعوى فهم الأذن من

__________________

(1) ج 18 ص 417.


الإطلاق ، وحينئذ فمطرح النزاع في أنه هل يفهم الاذن من الإطلاق أم لا؟ والا فالظاهر أنه لا نزاع مع عدم فهمه ، وحينئذ فالذي يدل على عدم فهمه زيادة على الأصل المتقدم عدم ظهور الدلالة ، لأن المتبادر من قوله بع هذا الشي‌ء هو البيع على الغير عرفا وعادة ، يدل على ذلك جملة من الأخبار ، وقد تقدمت في المقدمة الثانية في آداب التجارة في مسئلة ما لو قال انسان للتأجر : اشتر لي متاعا (1) ومنها موثقة إسحاق بن عمار (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبعث إلى الرجل يقول : ابتع لي ثوبا فيطلب له في السوق ، فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده ، قال : لا يقربن هذا ، ولا يدنس نفسه ، ان الله عزوجل يقول (3) «إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً» وان كان عنده خير مما يجد في السوق فلا يعطيه من عنده».

ورواية علي بن أبي حمزة (4) قال : «سمعت عمر الزيات يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام قال : جعلت فداك إني رجل.

أبيع الزيت يأتيني من الشام فآخذ لنفسي مما أبيع؟ قال : ما أحب لك ذلك ، قال : إني لست أنقص لنفسي شيئا مما أبيع ، قال بعه من غيرك ، ولا تأخذ منه شيئا أرأيت لو أن الرجل قال لك : لا أنقصك رطلا من دينار ، كيف كنت تصنع لا تقربه.

فظاهر هذا الخبر أن بيع الرجل من نفسه أو شرائه لنفسه لا يدخل تحت الإطلاق الذي اقتضته الوكالة ، والا فإن مقتضى إطلاق الوكالة صحة البيع والشراء بما يراه الوكيل وفعله ، فلا معنى لقوله عليه‌السلام بالنسبة إليه لو أن الرجل قال لك :

__________________

(1) ج 18 ص 32.

(2) التهذيب ج 6 ص 352 ح 120 ، الوسائل ج 12 ص 289 ح 2.

(3) سورة الأحزاب ـ الاية 72.

(4) التهذيب ج 7 ص 128 ح 29 ، الوسائل ج 12 ص 290 ح 2.


لا أنقصك رطلا من دينار لو كان داخلا تحت الإطلاق ، ونحوها الموثقة المتقدمة ، فإنه لا معنى لكونه يدنس نفسه ، ويخوفه في الأمانة مع كونه داخلا تحت إطلاق الوكالة.

وفي رواية ميسر (1) قال : قلت له يجئنى الرجل فيقول لي اشتر لي فيكون ما عندي خيرا من متاع السوق قال : إذا أمنت أن لا يتهمك فأعطه من عندك ، وان خفت أن يتهمك فاشتر له من السوق».

وفي هذا الخبر دلالة على أن المنع من ذلك في هذه الأخبار إنما هو من حيث خوف التهمة ، وفيه اشعار بالجواز بل دلالة ظاهرة على ذلك مع الأمن من التهمة ، وحينئذ فمع الاذن صريحا كما تقدم ، فالجواز بطريق الأولى كما تقدمت الإشارة إليه ، إلى غير ذلك من الأخبار المتقدمة في الموضع المتقدم ذكره.

ومنه يعلم أنه ليس المنع فيما دل على المنع من حيث تولي طرفي الإيجاب والقبول ، وقد تقدم مزيد توضيح لذلك في المسئلة الخامسة من المقام الثاني من فصل البيع (2) على أنه ان أريد بطرفي الإيجاب والقبول ، هو قول البائع بعتك مثلا ، وقول المشتري قبلت كما هو ظاهر هذه العبارة ، وهو مرادهم فهذا ليس عليه دليل ولا أثر في الأخبار وان اشتهر بينهم ، وإنما الموجود فيها الإيجاب بلفظ الأمر كقوله اشتر لي أو بع هذا ، ونحو ذلك ، والقبول إنما هو فعل ما أمر به ، وهو القبول الفعلي بمعنى أنه أمره بالبيع فباع أو الشراء فيشتري ونحو ذلك وحينئذ فبيعه على نفسه إنما هو عبارة عن أن يأخذ ذلك الشي‌ء المأمور ببيعه لنفسه ، ويدفع ثمنه من ماله ، كما هو المستفاد من هذه الأخبار المذكورة هنا ونحوها ، وقد عرفت أن هذا النهي إنما هو من حيث خوف التهمة ، وحينئذ فمع تسليم صدق تولى الطرفين على هذه الصورة فإنه لا مانع من هذه الجهة ، وإنما ، المنع من الجهة المذكورة ، وان اختص ذلك بالصورة المذكورة الأولى كما هو ظاهر كلامهم ،

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 121 ح 17 ، الوسائل ج 12 ص 289 ح 4.

(2) ج 18 ص 417.


وقد عرفت أنه لا وجود له في الأخبار بالكلية.

واستدل في المختلف على ما ذهب إليه من الجواز بأدلة ذكرناها في مسئلة ما لو قال : انسان للتأجر اشتر لي من المقدمة الثانية في آداب التجارة (1) وبينا بطلانها فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه ، وقد تلخص مما ذكرناه أنه مع الاذن فالظاهر الصحة في البيع أو الشراء ، ومع الإطلاق فالظاهر المنع إلا مع أمن التهمة ، وأما تعليل المنع بتولي طرفي العقد فلا دليل عليه إلا في النكاح ، كما عرفت من الرواية المتقدمة ، وباقي ما يتعلق بالمسئلة المذكورة من الفروع والتحقيق يرجع فيه إلى الموضعين المتقدمين المشار إليهما ، والله سبحانه العالم.

المطلب السابع في التنازع :

وفيه أيضا مسائل الاولى : في الاختلاف في الوكالة ولو أحقها وفيه صور :

منها الاختلاف في أصل الوكالة ، فيحلف المنكر لها ان لم يكن بينة ، لأن القول قوله بيمينه ، حيث أن الأصل العدم ، وهذا فيما إذا ادعى العامل الوكالة ، وأنكرها المالك ، ظاهر.

أما إنكار الوكيل فإنه بحسب الظاهر لا معنى له ، حيث أن الموكل لا حق له يدعيه ليتحقق إنكاره ، الا أنه يمكن فرض ذلك فيما لو كان التوكيل في شي‌ء مشروطا في عقد لازم ، وشرط إيقاعه في وقت معين ، كيوم الجمعة مثلا ، ثم حصل الاختلاف في الوكالة بعد انقضاء ذلك الوقت ، فادعى الموكل الوكالة ليتم له العقد ، وأنكرها الوكيل ليتزلزل العقد ، ويتسلط على الفسخ ، وكما أن القول قول الموكل لو أنكر الوكالة كذلك ، لو اتفقا على أصل الوكالة ، واختلفا في بعض الكيفيات أو المقادير ، كما إذا قال الوكيل : وكلتني في بيعه كله أو بيعه نسيئة أو شرائه بعشرين ، وقال الموكل : بل ببيع بعضه أو بيعه نقدا أو شرائه بعشرة فالقول قول الموكل ، لأن الأصل عدم الاذن فيما يدعيه الوكيل ، ولأن

__________________

(1) ج 18 ص 32.


الاذن صادر عن الموكل ، وهو أعرف بحال الاذن ومقاصده الصادرة منه ، ولأنه كما كان القول قوله في أصل العقد ، كذلك في صفته ، والظاهر أنه لا خلاف فيه.

ومنها الاختلاف في التلف ، وظاهر كلامهم الاتفاق على أن القول قول الوكيل بيمينه ، لأنه أمين ، ويتعذر عليه إقامة البينة بالتلف غالبا ، وقد تقدم نقل جملة من عبائرهم في المسئلة الاولى من سابق هذا المطلب ، بل ظاهر عبارة المسالك دعوى الإجماع على ذلك ، الا أن فيه ما عرفت في الموضع المشار اليه من أن الإجماع المدعى ان كان على حكم التلف خاصة ، فإن أحدا لم يدعه ، وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك ، وان كان على كونه أمينا وترتب أحكام الأمين عليه ، فكلامهم واختلافهم في بعض الأحكام المتفرعة على ذلك ينافي دعوى الإجماع المذكور.

وكيف كان فالقول قول الوكيل بيمنه في دعوى التلف بالنسبة إلى العين الموكل في بيعها ، وثمنها لو كان وكيلا في قبضه ، أعم من أن يكون التلف بسبب ظاهر أو خفي.

ومنها الاختلاف في الرد ، والمشهور أنه ان كان وكيلا بجعل فعليه البينة ، ولا يقبل قوله ، والا فالقول قوله بيمينه كالودعي ، والوجه في هذا التفصيل أنه مع عدم الجعل أمين ، وقد قبض المال لمجرد مصلحة المالك ، فكان محسنا محضا ، وكل ما يدل على قبول قول الودعي ـ من قولهم ان عدم قبول قوله يؤدي إلى الاعراض عن قبول النيابة في ذلك ، وهو ضرر عظيم ـ يدل عليه هنا.

وأما مع الجعل ، فإنه قبض المال لمصلحة نفسه ، فجرى مجرى المرتهن والمستعير ، فلم يقبل قوله ، وللخبر المتفق عليه (1) «البينة على المدعي واليمين

__________________

(1) المستدرك ج 3 ص 199 ح 5 الباب 3.


على المنكر». خرج منه الأول من حيث أنه أمين وبقي ما عداه.

وقيل : ان القول قول الموكل ، بيمينه مطلقا ، سواء كان الوكيل بجعل أو بدونه ، ووجهه أن الأصل عدم الرد ، والخبر المتفق عليه ، وأجيب عن الوجوه المتقدمة فيما إذا لم تكن بجعل أن كونه أمينا لا يستلزم القبول ، كمن قبضه لمصلحة نفسه مع كونه أمينا ، والضرر يندفع بالإشهاد ، والتقصير في تركه إنما هو منه ، وكونه محسنا لا ينافي عدم قبول قوله في الرد ، وكونه من جملة السبيل المنفي عنه ، يندفع بأن اليمين عليه سبيل أيضا ، وليس بمندفع.

أقول : وهذه الوجوه المستدل بها وأجوبتها لا يخلو من المناقشات التي ليس في التعرض لها مزيد فائدة بعد ما عرفت في غير موضع مما تقدم من أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، وإنما المدار فيها على النصوص المعصومية ، والمستفاد منها كما تقدم تحقيقه ـ في ذيل المسئلة الاولى (1) من مسائل سابق هذا المطلب ـ هو أن الأمين وكيلا كان أو غيره بجعل كان أو بغير جعل ، يقبل قوله فيما ادعاه من تلف أورد أو غيرهما ، وأن هذه الاخبار الدالة على ذلك أخص من الاخبار الدالة على ما ذكروه من تلك القاعدة وهي «أن البينة على المدعي واليمين على المنكر» التي استندوا إليها هنا في تقديم قول الموكل ، ومقتضى القواعد الشرعية تقديم العمل بهذه الأخبار ، لأنها أخص ، ويخصص ما استندوا إليه من تلك القاعدة بها.

وبذلك يظهر لك بطلان الوجه العقلي الذي استندوا إليه في الفرق بين الودعي والوكيل بغير جعل ، وبين غيرهما ممن له مصلحة في تلك المعاملة ، وأن الأول محسن محض فلا يضمن ، بخلاف الثاني ، فإنه مجرد تخريج لا دليل عليه ، كما اعترف بذلك في المسالك في كلام قدمنا نقله عنه في كتاب العارية قال فيه : وهذه العلة ليست منصوصة وإنما هي مناسبة ، وهو جيد.

__________________

(1) ص 83.


وبالجملة فالعمل على الأخبار وهي كما حققناه دالة على ما ذكرنا ، ولكنهم لغفلتهم عن ملاحظة الأخبار ، وعدم الاطلاع عليها انجرت بهم المناقشة إلى الوديعة أيضا ، حيث أن ظاهرهم أن المستند فيها انما هو الإجماع.

قال في المسالك في هذا المقام بعد البحث في المسئلة : والحق أن قبول قول الودعي ان كان خارجا بالإجماع الفارق فهو الفارق ، والا فلا فرق ، وفي الإجماع بعد وقد تقدم الكلام فيه ، انتهى.

وهو ظاهر فيما قلناه ، حيث انهم نظروا الى أخبار (1) «البينة على المدعى واليمين على المنكر ،». خاصة ، ولم يطلعوا على تلك الأخبار التي خصصنا بها هذه القاعدة ، وهي كما عرفت ظاهرة في المدعي ، والله سبحانه العالم.

ومنها ما إذا ادعى الوكيل التصرف فيما وكل فيه ، مثل قوله : بعت ما وكلتني في بيعه أو قبضت ما وكلتني في قبضه ، وأنكر الموكل ذلك ، فقيل : القول قول الوكيل ، وبه جزم العلامة في الإرشاد من غير خلاف ، وقربه في القواعد وجزم في التذكرة بتقديم قول الموكل ان كان النزاع بعد عزل الوكيل ، واستقرب كون الحكم كذلك أيضا قبل عزله ، وقد قدمنا عبارته بذلك في المسئلة الاولى (2) من مسائل سابق هذا المطلب ، وتوقف في التحرير ، وقال في الشرائع ان القول قول الوكيل ، لأنه أقر بماله أن يفعله ، ولو قيل : القول قول الموكل أمكن ، لكن الأول أشبه.

قال في المسالك : وجه الأشبهية انه أمين ، وقادر على الإنشاء ، والتصرف اليه ، ومرجع الاختلاف الى فعله ، وهو أعلم به ووجه تقديم قول الموكل ظاهر لأصالة عدم الفعل.

أقول : والأقرب عندي الرجوع الى ما قدمناه من التحقيق في المقام ،

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 229 ح 4 ، الفقيه ج 3 ص 20 ح 1 ، المستدرك ج 3 ص 199 ح 5 الباب 3.

(2) ص 85.


ومقتضاه أن القول قول الوكيل ، لأنه أمين ، وقضيته ذلك قبول قوله في التصرف وغيره والله وسبحانه العالم.

ومنها ما لو اختلفا في قدر الثمن المشترى به ، فقال في المبسوط : ان القول قول الوكيل ، لأنه أمين ، فيقبل قوله كما يقبل في التسليم والتلف ، وقال الفاضلان ان القول قول الموكل ، لأنه غارم ومنكر ، ولأصالة عدم الزيادة ، واحتمل الشهيد في شرح نكت الإرشاد أن القول قول الموكل ان كان الشراء في الذمة وقول الوكيل ان كان الشراء بالعين ونقله عن القواعد.

وقال في المسالك ـ بعد فرض المسئلة في كلام المصنف بما إذا كان وكله في ابتياع عبد فاشتراه بمائة ، فقال الموكل اشتريته بثمانين ، وذكر القولين في المسئلة ما صورته ـ : التقدير أن المبيع يساوي بمائة كما ذكره في التحرير ، وإلا لم يكن الشراء صحيحا لما تقدم من حمل إطلاق الاذن على الشراء بثمن المثل ، ووجه تقديم قول الوكيل ، أن الاختلاف في فعله وهو أخبر ، وأن الظاهر ان الشي‌ء انما يشترى بقيمته ، وهو قوي ، ووجه تقديم قول الموكل أصالة برأيه الذمة من الزائد ، ولأن في ذلك إثبات حق للبائع على الموكل ، فلا تسمع ، ولا فرق في ذلك بين كون الشراء بالعين أو في الذمة ، لثبوت الغرم على التقديرين ، انتهى.

أقول : ومقتضى ما ذكرناه من التحقيق المتقدم العمل لقول الشيخ والله سبحانه العالم.

ومنها ما لو ادعى الوكيل أنه قبض الثمن وتلف في يده ، فأنكر الموكل القبض ، فان كان الدعوى بعد تسليم المبيع للمشتري فالقول قول الوكيل بيمينه مع عدم البينة ، لأنه أمين ، والأصل عدم الغرامة ، ولأنه لو لم يقبل يلزم سد باب التوكيل ، ولأن دعوى الموكل يتضمن خيانته مع كونه أمينا ، وقد عرفت من الأخبار المتقدمة النهي عن تهمته ، ووجه تضمن دعوى الموكل عدم القبض الخيانة هو أن الدعوى بعد تسليم المبيع للمشتري كما هو المفروض ، فيلزم على دعواه


أن يكون قد سلم المبيع قبل أن يتسلم الثمن ، مع أنه لا يجوز تسليم المبيع إلا بعد قبض الثمن كما تقرر بينهم وان كان الدعوى قبل تسليم المبيع ، بل هو باق في يد الوكيل قالوا : القول قول الموكل ، لأن الأصل عدم الأخذ ، ولا يلزم الخيانة ولا يلزم سد الباب ، كذا قيل وفيه تأمل.

تذنيب : قد صرحوا بأن القول قول الوصي في الإنفاق ، دون تسليم المال الى الموصى له ، وكذا القول في الأب والجد والحاكم مع اليتيم ، إذا أنكر القبض بعد بلوغه ورشده ، قال في المسالك : وظاهرهم هنا عدم الخلاف في تقديم قول الموصى له أو اليتيم في عدم القبض ، وهو يؤيد تقديم قول الموكل فيه ، للاشتراك في العلة ، بل ربما كان الإحسان هنا أقوى.

أما الإنفاق فخرج من ذلك ، مع أن الأصل عدم ما يدعيه المنفق لعسر إقامة البينة عليه في كل وقت يحتاج اليه ، فيلزم العسر والحرج المنفيين ، بخلاف تسليم المال ، انتهى.

أقول : لما كان المستند عندهم في عدم تضمين الأمين من وكيل وغيره ، وقبول قوله إنما هو آية (1) «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» وأن الودعي والوكيل بغير جعل فعلا إحسانا محضا ، فلا يلحقهما الضمان ، بل يقبل قولهما استدل بعدم الخلاف في تقديم قول الموصى له أو اليتيم على تقديم قول الموكل في إنكار الدفع اليه ، وان لم يكن الوكالة بجعل ، لأنه مع الجعل كما عرفت ، فالقول قول الموكل عندهم ، بل ربما كانت العلة الموجبة لقبول قوله وهو الإحسان أقوى في جانب الوكالة ، لأنه يتصرف له ويبيع ويشترى ويسعى بغير جعل ، ولا ريب أن الإحسان في هذه الحال أزيد منه في حفظ الوصي ، والولي الشرعي مال الموصى

__________________

(1) سورة التوبة ـ الاية 91.


اليه ، واليتيم ، والدفع إليهما.

وأنت خبير بأنك إذا رجعت الى الأخبار التي قدمناها في الوديعة دليلا على ما ذكرناه من كون الأمين مقبول القول فيما يدعيه ، بل لا يمين عليه وان كان خلاف المشهور بينهم ، وجدت أن موردها أنما هو من دفع ماله الى غيره بعنوان الوديعة ، أو الوكالة ، أو نحوهما ، لا من كان عنده مال لغيره بعنوان الوصاية أو الولاية الشرعية ، لأن موردها النهي عن اتهام من ائتمنه ، بمعنى تصديقه فيما يدعيه ، ونحوها أخبار (1) «ما خانك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن». بالتقريب الذي تقدم ذيلها.

وبالجملة فإن الخطاب بقبول قول الأمين إنما توجه للذي دفع اليه المال بمعنى أنك ائتمنته ، ووثقت بديانته وأمانته ، فلا تتهمه بعد ذلك ، بل صدقه فيما يدعيه ويقوله ، وما ذكر هنا من الوصي والأب والجد والحاكم وان كانوا أمناء ، إلا أنهم لا يدخلون في عنوان تلك الأخبار ، بحيث يلحقهم الحكم المتفرع على الأمين فيها من سماع قوله ، فاستدلاله غير تام ، وهو نظر الى صدق الأمين في الموضعين واعتمد على التعليل العقلي الذي اعتمدوه ، ولم يطلع على الأخبار المذكورة ، فالواجب حينئذ في هذه المسئلة هو الرجوع الى القاعدة الكلية الدالة (2) على «أن البينة على المدعى واليمين على المنكر». وهي تقتضي تقديم قول الموصى له واليتيم لأنهما منكران ، وأما الوكيل ونحوه فقد عرفت أن مستنده تلك الأخبار الخاصة التي خصصنا بها تلك القاعدة ، فافترق الأمران ، والله سبحانه العالم.

تذنيب آخر :

قالوا : لو اشترى إنسان سلعة وادعي أنه وكيل في ذلك الشراء الآخر ،

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 232 ح 33 ، الكافي ج 5 ص 299 ح 4 ، الوسائل ج 13 ص 234 ح 4.

(2) التهذيب ج 6 ص 229 ح 4 ، الفقيه ج 3 ص 20 ح 1 ، المستدرك ج 3 ص 199 ح 5 الباب 3.


فأنكر ذلك الآخر ، فان القول قوله بيمينه ، فإذا حلف اندفع عنه الشراء ، وحكم به للمشتري ، وحكم عليه بالثمن ، سواء اشترى بعين أم في الذمة ، ولكن يجب تقييده بعدم اعتراف البائع بكونه وكيلا أو كون العين التي اشترى بها ملكا للمنكر ، أو قيام البينة بذلك ، وإلا يبطل البيع ، كما لو ظهر استحقاق أحد العوضين المعينين ، والله سبحانه العالم.

لثانية : اختلف الأصحاب فيما لو وكله على أن يزوجه امرأة ، فعقد له على امرأة ثم أنكر الموكل الوكالة بذلك ، فقيل : القول قول الموكل بيمينه ، لأنه منكر ، ويلزم الوكيل مهرها ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، قال : ويجوز للمرأة أن تتزوج بعد ذلك ، غير أنه لا يحل للموكل فيما بينه وبين الله تعالى الا أن يطلقها ، لأن العقد قد ثبت عليه ، وبه قال ابن البراج.

وقال في المبسوط : ان الذي على الوكيل إنما هو نصف المهر ، قال في المسالك : وهو المشهور بين الأصحاب ، وبه قال ابن الادريس ، ثم قوي بعد ذلك مذهب النهاية.

وقيل : ببطلان العقد نقله في المختلف عن بعض علمائنا ، قال بعض علمائنا : إذا أنكر الموكل الوكالة كان القول قوله مع اليمين ، فإذا حلف بطل العقد ظاهرا ، ولا مهر ، ثم الوكيل ان كان صادقا وجب على الموكل طلاقها ونصف المهر ، قال في المختلف : وفيه قوة.

احتج الشيخ على القول الأول بأن المهر قد ثبت بالعقد ، ولا ينتصف الا بالطلاق ، ولم يحصل فيجب الجميع ، استدل على ما ذهب إليه في المبسوط برواية عمر بن حنظلة (1) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل قال لآخر : اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شي‌ء مما قاولت من صداق أو ضمنت من شي‌ء أو شرطت فذلك رضا لي ، وهو لازم لي ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له ، وبذل عنه الصداق

__________________

(1) التهذيب ج 6 ص 213 ح 3 ، الفقيه ج 3 ص 49 ح 4 ، الوسائل ج 13 ص 288 ح 1.


وغير ذلك مما طالبوه وسألوه ، فلما رجع إليه أنكر ذلك ، قال يغرم لها نصف الصداق عنه ، وذلك أنه هو الذي ضيع حقها ، فلما أن لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له ، حل لها أن تتزوج ولا يحل للأول فيما بينه وبين الله تعالى الا أن يطلقها فان الله تعالى (1) يقول «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فان لم يفعل فإنه مأثوم فيما بينه وبين الله تعالى ، وكان الحكم الظاهر حكم الإسلام قد أباح الله لها أن تتزوج». رواه في التهذيب والفقيه.

وظاهر الشرائع والمختلف كما سلف تقوية القول بالبطلان ، وهو ظاهره في المسالك أيضا ، حيث قال بعد نقل الخبر المذكور : وفي سند الحديث ضعف ، ولو صح لم يمكن العدول عنه ، والقول الثالث الذي اختاره المصنف قوي ، ووجهه واضح ، فإنه إذا أنكر الوكالة وحلف على نفيها انتفى النكاح ظاهرا ، ومن ثم يباح لها أن تتزوج ، وقد صرح به في الرواية ، فينتفى المهر أيضا ، لأن ثبوته يتوقف على لزوم العقد ، ولأنه على تقدير ثبوته إنما يلزم الزوج ، لأنها عوض البضع ، والوكيل ليس بزوج ، نعم لو ضمن الوكيل المهر كله أو بعضه لزمه حسب ما ضمن ، ويمكن حمل الرواية عليه ، وأما وجوب الطلاق على الزوج مع كذبه في نفس الأمر ووجوب نصف المهر فواضح ، انتهى.

ومرجع ردهم الخبر الى ما اشتمل عليه من إيجاب نصف المهر على الوكيل ، مع أنه ليس هو الزوج مع بطلان العقد بعد حلف الموكل ، فلا يترتب عليه مهر ، ولهذا جوز لها أن تتزوج ، بناء على ذلك ، ولا شك في قوته بالنظر الى العقل ، الا أنه من الجائز كون إلزام الوكيل بنصف المهر إنما هو عقوبة له حيث ضيع حقها بعدم الاشهاد ، والأحكام الشرعية لا مسرح للعقول في الاطلاع عليها ، وأسبابها ، ويؤيد هذه الرواية صحيحة أبي عبيدة الحذاء (2) المروية في الفقيه والتهذيب «عن __________________

(1) سورة البقرة الآية 229.

(2) التهذيب ج 7 ص 483 ح 152 ، الفقيه ج 3 ص 264 ح 44 ، الوسائل ج 14 ص 228 ح 1.


أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أمر رجلا أن يزوجه امرأة من أهل بصرة من بنى تميم ، فزوجه امرأة من أهل الكوفة من بنى تميم ، قال : خالف أمره ، وعلى المأمور نصف الصداق لأهل المرأة ، ولا عدة عليها ، ولا ميراث بينهما ، قال فقال له بعض من حضر : فإن أمره أن يزوجه امرأة ولم يسم أرضا ولا قبيلة ، ثم جحد الأمر أن يكون قد أمره بذلك بعد ما زوجه؟ قال : فقال : ان كان للمأمور بينة أنه كان أمره أن يزوجه ، كان الصداق على الآمر لأهل المرأة ، وان لم يكن له بينة فان الصداق على المأمور لأهل المرأة ، ولا ميراث بينهما ، ولا عدة ، ولها نصف الصداق ان كان فرض لها صداقا» ، وزاد في الفقيه «فان لم يكن سمى لها صداقا فلا شي‌ء لها» ، والرواية كما ترى صحيحة صريحة فيما دلت عليه الرواية الأولى ، ويؤكده السؤال الأول من هذه الرواية أيضا ، والمفهوم من جملة هذه الروايات أن المرأة بالعقد عليها استحقت المهر على الزوج ، لكن لما أنكر الزوج الوكالة ولا بينة ، وحلف انتفى النكاح ، ولكن جعل حقها من المهر على الوكيل ، حيث ضيع حقها بعدم الاشهاد على الوكالة ، وإذا كان وجوب ذلك على الوكيل إنما هو لما ذكرناه ، فلا ينافيه بطلان العقد ، ألا ترى ان العقد في السؤال الأول من الصحيحة المذكورة باطل ، حيث انه ليس هو المأمور به ، مع أنه عليه‌السلام حكم على الوكيل بنصف المهر عقوبة له.

وبالجملة فإن الحكم المذكور بعد دلالة هذين الخبرين لا مجال للمنازعة فيه ، سيما بعد اعترافه في المسالك بأنه لو صح لم يمكن العدول عنه ، وهذه الرواية الثانية التي ذكرناها صحيحة السند ، لأن الشيخين المذكورين روياها عن الحسن بن محبوب عن مالك بن عطية عن أبي عبيدة الحذاء ، والثلاثة المذكورون ثقات ، والطريق إلى الحسن بن محبوب صحيح في الكتابين ، فلا مجال للتوقف فيها.

قال في المسالك : واعلم أن المرأة إنما يجوز لها التزويج مع حلفه إذا لم


تصدق الوكيل عليها ، والا لم يجز لها التزويج قبل الطلاق ، لأنها باعترافها زوجة ، بخلاف ما إذا لم تكن عالمة بالحال ، فلو امتنع من الطلاق لم يجبر عليه ، لانتفاء النكاح ظاهرا ، وحينئذ ففي تسلطها على الفسخ دفعا للضرر ، أو تسلط الحاكم على الطلاق ، لأن له ولاية الإجبار على الممتنع أو بقائها كذلك حتى يطلق ، أو يموت أوجه ، انتهى والله سبحانه العالم.

الثالثة : لو ادعى الوكيل الاذن في البيع بثمن معين فأنكر المالك الاذن في ذلك القدر ، فالمشهور وهو قول الشيخ في المبسوط أن القول قول الموكل بيمينه ، لأنه كما أن القول قوله في أصل الوكالة فكذا في صفتها ، لأنها فعله ، وهو أعرف بحاله ومقاصده الصادرة عنه ، ولأن الأصل عدم صدور التوكيل على الوجه الذي يدعيه الوكيل ، وحينئذ فإذا حلف الموكل بطل البيع ، ووجب أن يستعاد العين ان كانت باقية ، ومثلها أو قيمتها ان تلفت.

وقيل : انه يلزم الدلال إتمام ما حلف عليه المالك ، صرح به الشيخ في النهاية ، ورد بأنه ضعيف لا مستند له ، وحمله في المختلف على تعذر استعادة العين عن المشترى والقيمة ، وتكون القيمة مساوية لما ادعاه المالك ، ولا يخلو عن بعد ، وحيث علم بطلان البيع بحلف الموكل على عدم ما ادعاه الوكيل ، فلا يخلو إما أن تكون العين باقية أو تالفة ، وعلى كل منهما فإما أن يصدق المشترى الوكيل في الوكالة وصحة البيع أم لا ، وعلى فرض التلف فإما أن يرجع الموكل على المشترى أو على الوكيل ، فهذه خمس صور :

الأولى : أن تكون العين باقية ، ولم يصدق المشترى الوكيل ، فان الموكل يسترجع العين من كل من كانت في يده ، ويرجع المشترى على الوكيل بالثمن الذي دفعه اليه ان دفع اليه ذلك.

الثانية : الصورة بحالها ولكن صدق المشترى الوكيل ، والحكم بالنسبة إلى استرجاع العين كما تقدم ، وأما بالنسبة إلى رجوع المشترى على الوكيل بالثمن ، فإنه


بتصديقه للوكيل وحكمه بصحة البيع ، وأن الموكل ظالم بإبطاله ، فإنه انما يرجع على الوكيل بأقل الأمرين من الثمن الذي دفعه وقيمة المبيع ، لأن الثمن إن كان هو الأقل فليس في يد الوكيل من مال الموكل الذي هو ظالم للمشتري في أخذ العين بزعمه ، سواه فيأخذه قصاصا ، لأن هذا الثمن بزعم الوكيل والمشترى انما هو مال الموكل كما عرفت ، وان كان الثمن المدفوع أكثر من القيمة فالمشتري ليس له أكثر من القيمة ، لأن حقه شرعا بزعمه انما هي العين ، إلا أنه بأخذ الموكل لها وحيلولته بينه وبينها ، يرجع الى قيمتها ، فليس له شرعا إلا القيمة خاصة ، وعلى هذا فالزائد من الثمن في يد الوكيل مجهول المالك ، لأن الوكيل ليس له شي‌ء من ذلك ، والمشترى ليس له إلا قيمة ماله ، والموكل لا يدعيه.

الثالثة : تلف العين مع التصديق ، ولا خلاف في أن للموكل الرجوع بالقيمة مع التصديق على أيهما شاء ، أما المشتري فلتلف المال في يده ، وأما الوكيل فلعدوانه ظاهرا ، فيدهما يد ضمان إلا أنه متى رجع الموكل على المشترى بالقيمة مع تصديقه لم يرجع المشترى على الوكيل ، لتصديقه له في صحة البيع وزعمه أن المالك ظالم في رجوعه عليه فلا يرجع على غير ظالمة ، هذا مع عدم قبض الوكيل الثمن من المشترى.

وأما لو قبضه منه ، والحال أنه لا يستحقه ، والموكل لا يدعيه ، فإنه يرجع به المشترى عليه ، لكن إذا كان المدفوع بقدر القيمة أو أقل ، فالرجوع به ظاهر ، وإلا رجع بمقدار ما غرمه للمالك من قيمة العين ، فلو كان المدفوع أزيد كان الزائد في يد الوكيل مجهول المالك ، لأن المشتري لتصديقه وصحة البيع عنده فحقه شرعا إنما هو البيع الذي تلف عنده ، لكن لما أغرمه الموكل القيمة فالذي له إنما هو ما غرمه يرجع به على ما دفعه الى الوكيل ، فإذا كان الثمن الذي دفعه أولا زائدا على القيمة ، وعلى ما أغرمه الموكل فتلك الزيادة لا يستحقها بوجه ، والوكيل لا يستحقها ، والمالك لا يطلبها ، لإنكاره البيع. فتصير


مجهولة المالك ، إلا أنه يحتمل وجوب دفعها الى المالك ، لأنه بمقتضى زعمهما صحة البيع تكون مال المالك ، فيجب عليهما بمقتضى ما يزعمانه أن يدفعاها له ، ويأتي هذا الاحتمال في زيادة الثمن في الصورة الثانية أيضا.

الرابعة : الصورة بحالها مع عدم التصديق ، قالوا : يرجع على الوكيل بما غرمه أجمع لغروره ، ولو كان الثمن الذي دفعه الى الوكيل أزيد مما غرمه رجع به عليه لفساد البيع ظاهرا عنده.

الخامسة : رجوع الموكل على الوكيل مع التلف ، فإنه في هذه الصورة يرجع الوكيل على المشترى بالأقل من ثمنه ، وما اغترمه ، لأنه ان كان الثمن هو الأقل فهو يزعم أن الموكل لا يستحق سواه ، وأنه ظالم يأخذ الزائد من القيمة فلا يرجع به على المشترى ، وان كانت القيمة التي اغترمها الأقل فإنه لم يغرم سواها ، لكن يبقى الزائد مجهول المالك ظاهرا ، مثلا ثمنه الذي باع به ثمانون درهما ، والذي اغترمه للمالك مائة درهم ، فإنه انما يرجع بالثمانين ، خاصة للعلة المذكورة أو ان الثمن مائة درهم ، والذي اغترمه ثمانون درهما ، فإنه انما يرجع بما اغترمه.

بقي الكلام في هذه العشرين الزائدة ، فإنها مجهولة المالك ، لأن الموكل لا يستحقها بزعمه ، وموافقة الظاهر له ، والوكيل قد خرج عن الوكالة بإنكار الموكل ، فليس له قبضه ، وينتزعه الحاكم الشرعي ، ويتوصل الى تحصيل مالكه ، هذا خلاصة كلامهم في المقام.

ولو قيل : بالتصدق بهذا الزائد المجهول في جميع هذه الصور عن صاحبه ، كما في المال المجهول الصاحب ، كان وجها لدخوله تحت عموم أخبار تلك المسئلة ، والله سبحانه العالم.

المسئلة الرابعة : قيل : إذا اشترى الوكيل لموكله كان البائع بالخيار ، ان شاء طالب الوكيل ، وان شاء طالب الموكل ، وعلل بأن الحق على الموكل ،


والعقد على الوكيل ، فيتخير في مطالبة أيهما شاء والظاهر ضعفه ، وقيل : باختصاص المطالبة بالموكل مع العلم بالوكالة ، والاختصاص بالوكيل مع الجهل بذلك وعلل أما مع الجهل ، فلان العقد وقع معه ، والثمن لازم له ظاهرا فله مطالبته وأما مع العلم بكونه وكيلا فلأنه يكون نائبا عن غيره ، فلا حق له عنده ، بل عند الموكل ، والى هذا القول مال في الشرائع.

وأورد عليه بأن الحكم بمطالبة الموكل مع العلم ، والوكيل مع الجهل لا يتم على إطلاقه ، لأن الثمن لو كان معينا لم يكن له مطالبة غير من هو في يده ، وقيل : إذ اشترى الوكيل بثمن معين ، فان كان في يده طالبه البائع به وإلا طالب الموكل ، لأن الملك يقع له ، وان اشترى في الذمة ، فإن كان الموكل قد سلم اليه ، ما يصرفه الى الثمن ، طالبه البائع أيضا ، وان لم يسلم فإن أنكر البائع كونه وكيلا أو قال لا أدري هل هو وكيل أم لا ، ولا بينة طالبه وان اعترف بوكالته ، فالمطالب بالثمن الموكل لا غير ، لوقوع الملك له ، والوكيل سفير بينهما ومعين للموكل ، فلا يغرم شيئا ، والقول المذكور للتذكرة ، قال وهو أحد وجوه الشافعية.

والثاني : أن البائع مع تصديق الوكالة يطالب الوكيل لا غير ، لأن أحكام العقد يتعلق به ، والالتزام وجد منه.

والثالث : أنه يطالب من شاء منهما نظرا الى الظاهر والمعتمد الأول انتهى.

أقول : وما اعتمده هو أقرب الأقوال ، إلا أنه لا يخلو من الخدش في بعض هذه الترديدات ، والظاهر هو ما فصله في المسالك قال : والاولى أن يقال في المسئلة ان الحق اما أن يكون معينا أو مطلقا ، وعلى التقديرين فاما أن يسلم الى الوكيل أم لا ، وعلى التقادير فاما أن يكون البائع عالما بوكالته أو غير عالم ، وحكمها أنه متى كان الثمن معينا فالمطالب به من هو في يده ، سواء في ذلك الوكيل أو الموكل وان كان في الذمة ودفعه الموكل إلى الوكيل تخير البائع في مطالبة


أيهما شاء مع علمه بالوكالة ، أما الوكيل فلأن الثمن في يده ، وأما الموكل فان الشراء له ، وما دفع لا ينحصر في الثمن بعد ، وان لم يكن دفعه الى الوكيل ، فله مطالبة الوكيل مع جهله بكونه وكيلا ، وعدم البينة عليها ، والموكل مع علمه ، انتهى.

ومنه يعلم أن ما أطلقه في التذكرة من أنه متى كان في الذمة وقد سلمه الموكل الى الوكيل ، فإنه يطالب الوكيل ليس كذلك ، بل الأظهر كما ذكره في المسالك هو التخيير مع العلم بالوكالة.

الخامسة : قالوا : إذا طالب الوكيل بحق موكله فأجابه من عليه الحق بأنك لا تستحق المطالبة لم يلتفت الى هذا الجواب ، لانه مكذب للبينة القائمة على الوكالة ، فإن مقتضى البينة ثبوت الوكالة ، وقضية ثبوت الوكالة استحقاق المطالبة ، وأورد عليه بأن نفي استحقاق المطالبة لا يستلزم تكذيب البينة ، لأنه يجوز ثبوت الوكالة ثم عزله عنها ، أو الإبراء من الحق المدعى ، أو الأداء الى الموكل أو وكيل آخر ، وفي جميع هذه الوجوه لا يستحق المطالبة وان ثبت كونه وكيلا ، ولهذا نقل عن القواعد أنه استشكل الحكم المذكور ، وأجيب عن هذا الإشكال بأن نفي الاستحقاق لما كان مشتركا بين ما يسمع وما لا يسمع لم يسمع الا بعد التحرير لأنه لا تعد دعوى شرعية إلا بعد تحريرها ، ولو أجاب من عليه الحق بأن قال عزلك الموكل ، أو أن الموكل أبرأه من الحق لم يسمع ، الا أن يدعى العلم على الوكيل ، فله عليه اليمين بعدم العلم.

السادسة : لا خلاف بين المسلمين في قبول شهادة الوكيل على موكله ، لحصول الشرائط وانتفاء الموانع ، وكذا لا خلاف في قبولها له فيما لا ولاية له عليه مطلقا ، وأما فيما له ولاية ووكالة فيه ، فتقبل عند الأصحاب فيه أيضا إذا كانت الشهادة بعد العزل ، ما لم يكن أقام الشهادة حين الوكالة ، فإنه بإقامتها حين الوكالة ترد للتهمة ، وكذا ترد فيما لو لم يكن عزله بعد شروعه في المنازعة والمخاصمة.


قال في التذكرة : تقبل شهادة الوكيل مع الشرائط على موكله مطلقا ، وتقبل لموكله في غير ما هو وكيل فيه ، كما لو وكله في بيع دار فشهد له بعد ، ولو شهد فيما هو وكيل فيه ، فان كان ذلك قبل العزل لم تقبل ، لأنه متهم حيث يجر إلى نفسه نفعا ، وهو ثبوت ولاية التصرف لنفسه ، وان كان بعد العزل ، فان كان قد خاصم الغريم فيه حال وكالته لم تقبل منه أيضا ، لأنه متهم أيضا ، حيث يريد تمشية قوله ، وإظهار الصدق فيما ادعاه أولا وان لم يخاصم سمعت شهادته عندنا ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات من الإشكال في ابتناء الأحكام الشرعية عليها ، بعد ثبوت العدالة في الشاهد ، ثم أنه أي نفع هنا في ثبوت ولاية التصرف له ، بل ربما كان الضرر أظهر باشتغاله بذلك عن القيام بأموره ، ونظم معاشه ومعاده ونحو ذلك.

وإلى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي حيث قال : وأما وجه العدم على أحدهما فهو التهمة ، ووجه عدم القبول حين الوكالة فيما وكل فيه جر النفع وفيهما تأمل ، إذ قد لا يكون جر نفع ، ولا نسلم كون مطلق الولاية والوكالة نفعا ، بل قد يكون مضرا ، وكذا التهمة وكون مثلها مانعا ـ من قبول الشاهد المقبول ـ يحتاج إلى الدليل ، بعد الدليل على قيام شهادة العدل المتصف بالشرائط سوى هذا المتنازع ، فتأمل انتهى وهو جيد.

السابعة : قالوا : لو وكله في قبض دين من غريم له ، فأقر الوكيل بالقبض ، وصدقه الغريم ، وأنكر الموكل فالقول قول الموكل ، وتردد فيه في الشرائع.

وقال في التذكرة إذا وكل وكيلا باستيفاء دين له على انسان ، فقال : قد استوفيته فأنكر الموكل نظر ، فان قال : قد استوفيته وهو عندي فخذه فعليه أخذه ، ولا معنى لهذا الاختلاف ، وان قال : استوفيته وتلف في يدي فالقول قوله مع يمينه على نفي العلم باستيفاء الوكيل ، لأصالة بقاء الحق ، فلا يقبل قول


الوكيل والمديون إلا ببينة ، لأن قولهما على خلاف الأصل ، انتهى.

أما لو أمره ببيع سلعة وتسليمها وقبض ثمنها فتلف الثمن من غير تفريط فأقر الوكيل بالقبض وصدقه المشتري وأنكر الموكل فالقول قول الوكيل.

قالوا : والفرق بين الصورتين أن الدعوى في الصورة الثانية على الوكيل من حيث سلم المبيع ولم يقبض الثمن ، بناء على زعم الموكل ، وهو موجب للضمان ، لأنه نوع خيانة كما تقدم ذكره في آخر المسئلة الأولى من هذا المطلب ، وفي الصورة الأولى الدعوى على الغريم ، والأصل بقاء ماله عليه ، وتنظر في الفرق المذكور في الشرائع.

أقول : والظاهر من النصوص الدالة على قبول قول الأمين هو تقديم قول الوكيل في الصورتين المذكورتين ، لاشتراكهما في كون محل النزاع هو تصرف الوكيل ، وقد عرفت فيما تقدم أن قوله مقبول في ذلك ، والظاهر أنه من أجل ذلك تردد المحقق في الصورة الأولى حيث حكموا فيها بتقديم قول الموكل ، وتنظر في الفرق المذكور في الثانية ، وبالجملة فالظاهر هو تقديم قول الوكيل في الموضعين.

قال في التذكرة : لو وكله في البيع وقبض الثمن أو البيع مطلقا ، وقلنا أن الوكيل يملك بالوكالة في البيع ، قبض الثمن واتفقا على البيع ، واختلفا في قبض الثمن ، فقال الوكيل قبضته وتلف في يدي ، وأنكر الموكل ، أو قال الوكيل : قبضته ودفعته إليك ، وأنكر الموكل القبض ، فالأقوى عدم قبول قول الوكيل في ذلك ، وللشافعية في ذلك طريقان : أحدهما أنه على الخلاف المذكور في البيع وسائر التصرفات وأظهرهما عندهم أن هذا الاختلاف ان كان قبل تسليم المبيع فالقول قول الموكل ، لما في المسئلة السابقة ، وان كان بعد تسليمه فوجهان : أحدهما أن الجواب كذلك ، لأن الأصل بقاء حقه ، وأصحهما أن القول قول الوكيل ، لأن الموكل ينسبه إلى الخيانة بالتسليم قبل قبض الثمن ، ويلزمه الضمان والوكيل ينكره فأشبه ما إذا قال الموكل ، طالبتك برد المال الذي دفعته إليك ،


أو بثمن المبيع الذي قبضته ، فامتنعت مقصرا إلى أن تلف ، وقال الوكيل لم تطالبني بذلك ، ولم أكن مقصرا ، فان القول قوله ، انتهى.

أقول : قوله فالأقوى عدم قبول قول الوكيل في ذلك في نسختين عندي من نسخ الكتاب ، وهو خلاف ما صرح به الأصحاب من أن القول هنا قول الوكيل ، كما عرفت من كلامهم في الفرق بين الصورتين المتقدمتين ، ولم أقف أيضا على من نقل الخلاف عن التذكرة في ذلك ، فليتأمل في ذلك ، والأصحاب إنما حكموا بتقديم قول الوكيل هنا بناء على كون الدعوى بعد تسليم العين إلى المشتري ، بالتقريب الذي نقله هنا عن أصح قولي الشافعية.

وأما لو كانت الدعوى قبل تسليم العين بل هي باقية في يد الوكيل فان القول عندهم قول الموكل لما ذكره ، وما تقدم في المسئلة الاولى ، وان كان الحكم في ذلك عندي هنا لا يخلو عن اشكال بالنظر إلى ظواهر الأخبار الدالة على قبول قول الأمين مطلقا والوكيل أمين كما عرفت ، فلا معنى لترجيح قول الموكل بأصالة عدم القبض ونحو ذلك ، لأن مقتضى العمل بالأخبار المذكورة تخصيص هذا الأصل والخروج عنه ، فإن الأصل العدم في كل ما يدعيه الأمين ، فلا معنى للعمل بها في موضع وإطراحها في آخر بل الواجب العمل بها في الجميع ، إلا أن العذر لهم انهم إنما استندوا في قبول قوله إلى الإجماع ، والدليل العقلي الذي تقدم نقله عنهم ، ولم يذكروا الأخبار أو لم يطلعوا عليها بالكلية ، والإجماع لا يقوم حجة في موضع النزاع والخلاف.

بقي الكلام هنا في مواضع ـ الأول : قال في التذكرة على أثر الكلام المتقدم : وهذا التفصيل فيما إذا أذن في المبيع مطلقا أو حالا فان أذن في التسليم قبل قبض الثمن ، أو أذن في البيع بثمن مؤجل ، وفي القبض بعد الأجل ، فهيهنا لا يكون خائنا بالتسليم قبل القبض ، والاختلاف كالاختلاف قبل التسليم ، انتهى.

أقول : مراده أن تقديم قول الوكيل إنما هو في موضع يستلزم نسبته إلى


الخيانة ، والحال أنه أمين ، فيقدم قوله ، والموضع الذي يستلزم ذلك هو كل موضع يتوقف التسليم فيه على القبض ، أما لو لم يكن كذلك بأن يأذن له في التسليم قبل قبض الثمن ، أو أذن له في البيع بثمن مؤجل ، والقبض بعد الأجل ، فإن مرجع الاختلاف بينهما في هذه الحال إلى صورة الاختلاف قبل تسليم المبيع ، بمعنى أن القول قول الموكل ، وفيه ما تقدمت الإشارة إليه من أن مرجع ذلك إلى دعوى الوكيل التصرف بقبض الثمن والتلف ، وقد عرفت أن قوله مقدم فيها ، الا أنه يمكن أن يقال أيضا : ان دعوى التلف الذي يقبل قوله فيه إنما هو بعد القبض ، والحال أنه منتف هنا كما هو المفروض ، وبالجملة فالحكم هنا لا يخلو عن شوب الإشكال.

الثاني : إذا قلنا أن القول قول الوكيل في قبض الثمن من المشتري ، فحلف الوكيل على قوله ، فهل يحكم ببراءة ذمة المشترى أم لا؟ وجهان : قوى أولهما في التذكرة واستظهره في المسالك ، وعلل بأن الحق واحد ، فإذا قبل قول الوكيل في قبضه ، فكيف يتوجه إيجابه على المشتري.

وثانيهما أنه لا يبرئ ذمة المشتري لأصالة عدم الأداء ، وإنما قبلنا من الوكيل في حقه لا يتمانه إياه ، بمعنى أن قبول قول الوكيل في قبضه إنما هو من حيث كونه أمينا يقبل قوله ، وهذا المعنى مفقود في المشتري ، إذ لا يقبل قوله في ذلك لو كان النزاع معه ابتداء ، واستحسن هذا الوجه في التذكرة أيضا ، والوجهان المذكوران للشافعية كما نقله في التذكرة ، والتعليلات المذكورة لهم.

الثالث ـ إذا حلف الوكيل وقلنا ببراءة المشتري بذلك ثم وجد المشتري بالمبيع عيبا ، فان رده على الموكل وغرمه الثمن لم يكن له الرجوع على الوكيل ، لاعترافه بأن الوكيل لم يأخذ شيئا ، وان رده على الوكيل وغرمه لم يرجع على الموكل ، والقول قول الموكل بيمينه في أنه لم يأخذ منه شيئا ، ولا يلزم من تصديقنا الوكيل في الدفع عن نفسه بيمينه ان نثبت بها حقا على غيره ولو خرج


المبيع مستحقا رجع المشتري بالثمن على الوكيل ، لأنه دفعه إليه ، ولا رجوع له على الموكل لما مر ، كذا ذكره في التذكرة ، والظاهر أنه أشار بقوله لما مر إلى ما قدمه من أن القول قول الموكل بيمينه في أنه لم يأخذ من الوكيل شيئا.

وكيف كان فظاهر كلامه هنا هو الفرق بين صورة ظهور العيب ، وصورة خروج كونه مستحقا ، وأنه في الصورة الثانية انما يرجع على الوكيل خاصة ، ولا رجوع له على الموكل ، وأما في الصورة الأولى فإن له الرجوع على كل منهما كما ذكره في رجوع كل منهما على الآخر ما عرفت.

والمفهوم من كلام الأصحاب هو الخلاف في هذه الصورة أعني الأولى ، فعن الشيخ وبه صرح جمع منهم ، بل الظاهر أنه الأشهر هو أنه يرجع المشتري على الوكيل خاصة ، دون الموكل ، وعلل بأنه لم يثبت وصول الثمن الى الموكل ، واختار في الشرائع الرجوع على الموكل ، قال بعد نقل القول الأول : ولو قيل برد المبيع على الموكل كان أشبه ، وهو مؤذن بأنه لا قائل بذلك قبله واختار ذلك في المسالك أيضا ، قال : والأقوى ما اختاره المصنف ، لان الملك له ، والوكيل نائب عنه ، والبائع في الحقيقة هو الموكل ، ووصول الثمن اليه ، وعدمه لا مدخل له في هذا الحكم أصلا ، بل لا يجوز رده على الوكيل ، لانه ينعزل بالبيع ان لم يكن وكيلا في قبض المبيع على تقدير رده بالعيب ، وكيف كان فقول الشيخ ضعيف ، وكذا تعليله ، انتهى والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وإله الطاهرين.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *