ج18 - مايحرم لغيره ومايكره
المقام الرابع
كآلات اللهو ، مثل العود والزمر. وهياكل العبادة (1) المبتدعة ،
كالصليب (2) والصنم. وآلات
القمار كالنرد والشطرنج. واجارة المساكن والسفن للمحرمات. وبيع العنب ليعمل خمرا.
وبيع الخشب ليعمل صنما. ويكره بيع ذلك لمن يعملها.
وتحقيق الكلام في هذا المقام يتوقف على بسطه في مواضع :
الأول : لا خلاف بين
الأصحاب في تحريم عمل آلات اللهو والتكسب بها وبيعها. مثل العود والدفوف والطبول
والمزامير ونحوها مما ذكر.
__________________
(1) الهيكل في الأصل : بيت الصنم. كما نص عليه الجوهري وغيره.
واما إطلاقه على نفس الصنم ، كما وقع في كلام الأصحاب في هذا المقام : فالظاهر :
انه من باب المجاز ، إطلاقا لاسم المحل على الحال. منه قدسسره.
(2) قال في مجمع البحرين : صليب النصارى : هيكل مربع يدعون
النصارى ان عيسى ـ ع ـ صلب على خشبة ، على تلك الصورة. وفي المغرب : هو شيء مثلث
كالتماثيل تعبده النصارى. انتهى. منه قدسسره.
قال في المنتهى : ويحرم عمل الأصنام وغيرها من هياكل
العبادة المبتدعة وآلات اللهو ، كالعود والزمر وآلات القمار كالنرد والشطرنج
والأربعة عشر ، وغيرها من آلات اللعب ، بلا خلاف بين علمائنا في ذلك. انتهى.
أقول : وقد تقدمت جملة من الاخبار المتعلقة بآلات اللهو
، في المسألة الثانية من المقام المتقدم (1) ، دالة على الأحكام المذكورة.
وبالجملة فلا ريب في تحريم البيع بقصد تلك الأغراض
المحرمة ، بل مطلقا ايضا ، حيث انه لا غرض يترتب على هذه الأشياء إلا ذلك.
اما لو أمكن الانتفاع بها في غير ذلك ، فيحتمل الجواز ،
الا انه فرض نادر ، فيمكن التحريم مطلقا ، بناء على ان الغرض المتكرر المترتب على
تلك الآلات انما هو ما ذكرنا ، فلا يلتفت الى الافراد النادرة الوقوع.
نعم لو كان الغرض من البيع كسرها مثلا وبيعت لأجل ذلك ،
فالظاهر انه لا ريب في الجواز إذا كان المشترى ممن يوثق به في ذلك.
قال في المسالك : ولو كان لمكسورها قيمة ، وباعها صحيحة
للكسر ، وكان المشترى ممن يوثق بديانته ، ففي جواز بيعها وجهان. وقوى في التذكرة
جوازه مع زوال الصفة ، وهو حسن. والأكثر أطلقوا المنع. انتهى.
أقول : الظاهر ان إطلاق الأكثر المنع انما هو من حيث
ندور هذا الفرض ، والا فمع وقوعه على الوجه المذكور فإنه لا مانع من صحة البيع
شرعا كما لا يخفى.
قال في المسالك : وهل الحكم في أواني الذهب والفضة كذلك؟
يحتمل ، بناء على تحريم عملها والانتفاع بها في الأكل والشرب. وعدمه ، لجواز
اقتنائها للادخار وتزيين المجالس والانتفاع بها في غير الأكل والشرب ، وهي منافع
مقصودة. وفي تحريم عملها مطلقا نظر. انتهى.
أقول : وقد تقدم في آخر كتاب الطهارة : ان المشهور بين
الأصحاب هو تحريم
__________________
(1) راجع صفحة 101 فما بعد من هذا الجزء.
اتخاذها ، وان كان للقنية والادخار.
وعليه تدل ظواهر جملة من الاخبار المذكورة ثمة (1) وبذلك يظهر كونها من قبيل ما نحن
فيه.
الثاني : المشهور في
كلام الأصحاب : تحريم اجارة السفن والدابة للمحرمات ، مثل حمل الخمر ، والبيت
ليباع فيه الخمر ، والخشب ليعمل صلبانا ، أو شيئا من آلات اللهو ، والعنب ليعمل
خمرا.
بمعنى ان البيع أو الإجارة وقع لهذا الغايات ، أعم من ان
يكون قد وقع شرطها في متن العقد ، أو حصل الاتفاق عليها. صرح بذلك غير واحد من
الأصحاب. بل في المنتهى : انه موضع وفاق.
اما لو كانت الإجارة أو البيع لمن يعمل ذلك ولم يعلم انه
يعملها ، فإنه يجوز على كراهية. ومع العلم قولان. فقيل بالجواز على كراهية ، وقيل
بالتحريم. واختاره في المسالك. قال : والظاهر ان غلبة الظن به كذلك. والى هذا
القول ايضا مال المقدس الأردبيلي رحمهالله عليه.
والاخبار لا تخلو من اختلاف واضطراب في المقام ، فلا بد
أو لا من نقلها ، ثم الكلام فيها :
ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن
أذينة ، قال : كتبت الى ابى عبد الله عليهالسلام : أسأله عن
الرجل يؤاجر سفينته ودابته ممن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنازير؟ قال : لا بأس (2).
وما رواه فيه ايضا ، وفي التهذيب عن صابر ، قال : سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل
يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ قال : حرام أجرته (3).
وما رواه في الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن ،
قال : كتبت الى ابى
__________________
(1) راجع الجزء الخامس ص 509 ـ 510 من هذه الطبعة.
(2) الوسائل ج 12 ص 126 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 12 حديث : 1.
عبد الله عليهالسلام : أسأله عن
رجل له خشب فباعه ممن يتخذه برابط؟ فقال : لا بأس به. وعن رجل له خشب فباعه ممن
يتخذه صلبانا؟ قال : لا (1).
وعن عمرو بن حريث ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، عن التوت
أبيعه ممن يصنع الصليب والصنم؟ قال : لا (2).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن احمد بن محمد بن ابى نصر
، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن بيع العصير
فيصير خمرا قبل ان يقبض الثمن ، فقال : لو باع ثمرته ممن يعلم انه يجعله حراما لم
يكن بذلك بأس ، فاما إذا كان عصيرا فلا يباع الا بالنقد (3).
وعن محمد الحلبي ، قال سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن بيع عصير
العنب ممن يجعله حراما ، قال : لا بأس به ، تبيعه حلالا ليجعله حراما فأبعده الله
وأسحقه (4).
وما رواه في الكافي عن ابن أذينة في الصحيح أو الحسن ،
قال : كتبت الى ابى عبد الله عليهالسلام : أسأله عن
رجل له كرم أيبيع العنب والتمر ممن يعلم انه يجعله خمرا أو سكرا؟ فقال : انما باعه
حلالا في الإبان الذي يحل شربه أو أكله فلا بأس ببيعه (5).
وعن ابى كهمس ، قال : سأل رجل أبا عبد الله عليهالسلام ـ الى ان قال
ـ : ثم قال عليهالسلام : هو ذا نحن
نبيع تمرنا ممن نعلم انه يصنعه خمرا (6).
وما رواه في التهذيب عن رفاعة بن موسى في الصحيح ، قال :
سئل الصادق عليهالسلام ـ وانا حاضر ـ
عن بيع العصير ممن يخمره ، قال : حلال. ألسنا نبيع تمرنا ممن يجعله
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 127 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 12 ص 127 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 169 حديث : 1.
(4) الوسائل ج 12 ص 169 حديث : 4.
(5) الوسائل ج 12 ص 169 حديث : 5.
(6) الوسائل ج 12 ص 170 حديث : 6.
شرابا خبيثا!؟ (1) ،.
وعن الحلبي في الصحيح عن الصادق عليهالسلام : انه سئل عن
بيع العصير ممن يصنعه خمرا ، فقال : بعه ممن يطبخه أو يصنعه خلا أحب الى ، ولا أرى
بالأول بأسا (2).
وعن يزيد بن خليفة الحارثي ، عن الصادق عليهالسلام ، قال : سأله
رجل ـ وانا حاضر ـ قال : ان لي الكرم. قال تبيعه عنبا! قال : فإنه يشتريه من يجعله
خمرا ، قال فبعه إذا عصيرا. قال : فإنه يشتريه منى عصيرا فيجعله خمرا في قربتي ،
قال : بعته حلالا ، فجعله حراما فأبعده الله (3) الحديث.
هذه جملة ما وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمقام.
والشيخ قد حمل الخبر الثاني على من يعلم انه يباع فيه
الخمر ، ولهذا حرم الأجرة. والأول على من لا يعلم ما يحمل عليها.
وفيه : ان اخبار العصير كلها متفقة على جواز البيع مع
العلم بأنه يعمله خمرا.
ومقتضى كلام أصحاب الذي قدمنا نقله عنهم : حمل الخبر
الثاني على ان يكون الإجارة لهذه الغاية ، بحيث ذكرت وشرطت في أصل العقد أو وقع
الاتفاق عليها. والخبر الثاني على ما لم يكن كذلك.
وجمع في الوافي بين الخبرين المذكورين ، فقال : لا
منافاة بين الخبرين ، لان البيع غير الحمل ، والبيع حرام مطلقا ، والحمل يجوز ان
يكون للتخليل.
وفيه ـ أولا ـ : ما عرفت من عدم تحريم البيع مطلقا ،
لاخبار العصير المذكورة ، الا ان يقيد بما ذكره الأصحاب.
وثانيا : ان الحمل للتخليل ، وان احتمل في الخمر ، لكن
لا مجال لهذا الاحتمال في الخنزير الذي ذكر معه في الخبر.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 170 حديث : 8.
(2) الوسائل ج 12 ص 170 حديث : 9.
(3) الوسائل ج 12 ص 170 حديث : 10.
فالأولى انما هو حمل الخبر الثاني على ما ذكره الأصحاب
من الاشتراط أو الاتفاق.
وعلى هذا ايضا تحمل اخبار بيع الخشب ليعمل صلبانا أو
أصناما.
ويمكن ان تحمل اخبار المنع على الكراهة ، جمعا بينها
وبين ما دل على الجواز.
ويشير الى ذلك صحيحة ابن أذينة أو حسنته الثانية ، حيث
نفى البأس فيها عن بيع الخشب ليعمل برابط ، ومنع من البيع ليعمل صلبانا ، مع ان
الأمرين من باب واحد. بان يقال بشدة الكراهة في عملها صلبانا فنهى عنه وان كان
جائزا.
والمقدس الأردبيلي ـ هنا ـ قد استدل ـ على تحريم البيع
والإجارة ممن يعلم بترتب تلك الغاية المحرمة على البيع أو الإجارة ، وان لم يحصل
الاشتراط ، على الوجه الذي ذكره الأصحاب ـ بأن فيه معاونة على الإثم والعدوان ، مع
وجوب النهى عن المنكر ، وإيجاب كسر الهياكل ، وعدم جواز الحفظ ، وكسر آلات اللهو ،
ومنع الشرب ، والحديث الدال على لعن حامل الخمر وعاصرها ، المذكور في الكافي ،
ومنع بيع السلاح لأعداء الدين ، فإنه يحرم للإعانة ، وهو ظاهر.
وفيه : ان ما ذكره جيد في حد ذاته ، لو سلم من المعارضة
بأخبار العصير المذكورة ، فإنها ما بين صريح وظاهر في صحة البيع في الصورة
المذكورة ، مع كثرتها وصحة كثير منها.
واما قوله ـ رحمهالله ـ : ويمكن
حملها على وهم البائع ان المشترى يعمل هذا المبيع خمرا لكونه ممن يجعله خمرا ، أو
يكون الضمير راجعا الى مطلق العصير والتمر لا المبيع ، ولا صراحة في الاخبار ببيعه
ممن يعلم بجعل هذا المبيع خمرا ، بل لا نعلم فتوى المجوز بذلك. وبالجملة فالظاهر :
التحريم مع علمه بجعل هذا المبيع خمرا بل ظنه أيضا فتأمل. انتهى.
فلا يخفى ما فيه من التعسف والتكلف ، والخروج عن ظاهر
الاخبار بل صريحها ،
فإنها مطابقة المقالة ، واضحة الدلالة
على ان البائع يعلم ان المشترى يصنع ذلك المبيع من العنب والتمر خمرا ، ولا سيما
قوله في خبري محمد الحلبي ويزيد بن خليفة ـ : بعته حلالا فجعله حراما. فان ظاهره
ينادي بأن المدار في التحريم والتحليل انما هو بالنسبة الى حال المبيع ، فان كان
المبيع مما يحل بيعه في ذلك الوقت وتلك الحال صح البيع ، والا فلا ، ولا تعلق لصحة
البيع بما يؤل اليه حال المبيع بعد البيع ، علمه أم لم يعلمه. وما ذكره من الحمل
على توهم البائع أو رجوع الضمير الى مطلق العصير والتمر لا المبيع ، عجيب من مثله!
وكيف لا وهو عليهالسلام يقول : انا
نبيع تمرنا ممن نعلم انه يصنعه خمرا وشرابا خبيثا. اى يصنع ذلك التمر الذي نبيعه
إياه ، كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم والفهم القويم. وبالجملة فإنه لو قامت
هذه الاحتمالات البعيدة لانغلق باب الاستدلال.
وقد تلخص من ذلك : ان الظاهر من هذه الاخبار ـ بعد ضم
بعضها الى بعض ـ هو : قصر التحريم على ما إذا وقع الاشتراط في العقد أو الاتفاق
على البيع أو الإجارة لتلك الغاية المحرمة ، وحل ما سوى ذلك. وما ذكره الأصحاب من
الكراهة في موضع التحليل ، وان كان جيدا في حد ذاته ، الا ان ظواهر الاخبار لا
تساعده ، لا سيما اخبار بيع التمر والعنب ليعمل خمرا. والله العالم.
الثالث : المشهور بين
الأصحاب بل الظاهر انه لا خلاف فيه : تحريم بيع السلاح على أعداء الدين
والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام : ما رواه في
الكافي والتهذيب عن ابى بكر الحضرمي ، في الحسن قال : دخلنا على ابى عبد الله عليهالسلام ، فقال له حكم
السراج : ما تقول فيمن يحمل الى الشام السروج وأداتها؟ فقال : لا بأس ، أنتم اليوم
بمنزلة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، انكم في
هدنة ، فإذا كانت المبانية حرم عليكم ان تحملوا إليهم السروج والسلاح (1).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 69 حديث : 1.
والظاهر : ان المراد بقوله «بمنزلة أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» اى الباقين
على صحبته ودينه بعد موته ، كما يشير اليه قوله «انكم في هدنة» أي سكون من الفتن
بالصلح مع أعداء الدين.
وما رواه المشايخ الثلاثة عن هند السراج ، قال : قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : أصلحك الله
، انى كنت أحمل السلاح الى أهل الشام فأبيعه منهم ، فلما عرفني الله هذا الأمر ضقت
بذلك ، وقلت : لا أحمل إلى أعداء الله. فقال لي : احمل إليهم وبعهم ، فان الله
يدفع بهم عدونا وعدوكم ، يعنى الروم ، فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا ، فمن حمل
الى عدونا سلاحا يستعينون به علينا فهو مشرك (1).
وما رواه في الكافي عن محمد بن قيس في الصحيح ، قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الفئتين
تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال : بعهما ما يكنهما ، الدرع والخفين
ونحو هذا (2) ،.
وعن السراد عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : قلت
له : انى أبيع السلاح ، قال : لا تبعه في فتنة (3).
وفي التهذيب رواه عن السراد عن رجل عنه. وهو الظاهر ،
حيث ان السراد المذكور انما يروى عن ابى عبد الله عليهالسلام بالواسطة (4) ، هذا ان حمل
انه الحسن بن محبوب المشهور بهذا اللقب (5) والا فلا ، ويكون الرجل مهملا.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 70 حديث : 2.
(2) الوسائل ج 12 ص 70 حديث : 3.
(3) الوسائل ج 12 ص 70 حديث : 4 والحديث في الوسائل : «عن
السراج». لكنه في الكافي والتهذيب «عن السراد» كما في المتن.
(4) لانه ولد بعد وفاة الامام الصادق ـ ع ـ (148) بسنة. (149 ـ
224).
(5) وهو : «السراد» ويقال له : «الزراد» ايضا. وهما بمعنى واحد
، وهو صانع الزرد والسرد وهما بمعنى الدرع.
وما رواه في التهذيب عن ابى القاسم الصيقل ، قال : كتبت
اليه انى رجل صيقل اشترى السيوف وأبيعها من السلطان ، أجائز لي بيعها؟ فكتب ـ عليهالسلام ـ لا بأس به (1).
وما في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن
جعفر ، ورواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى ـ عليهالسلام ـ ، قال :
سألته عن حمل المسلمين الى المشركين التجارة ، قال : إذا لم يحملوا سلاحا فلا بأس (2).
وما رواه في الفقيه بإسناده عن حماد بن انس وانس بن محمد
عن أبيه عن جعفر بن محمد عن آبائه ـ عليهمالسلام ـ في وصية
النبي صلىاللهعليهوآله لعلى عليهالسلام ، : يا على
كفر بالله العظيم من هذه الأمة عشرة ـ الى ان قال : ـ وبايع السلاح من أهل الحرب (3).
* * *
والكلام في هذه الاخبار يقع في مواضع :
(الأول): ان المستفاد من الخبر الأول والثاني : تخصيص
تحريم حمل السلاح إلى الأعداء بوقت المباينة دون وقت الصلح والهدنة. وكلام الأصحاب
ـ كما قدمنا نقله عنهم ـ مطلق. فالواجب تقييده بما ذكرنا من الخبرين. والى ذلك
أشار في المسالك ـ بعد ذكر عبارة المصنف الدالة بإطلاقها على العموم ـ فقال :
وانما يحرم مع قصد المساعدة أو في حال الحرب أو التهيؤ له.
(الثاني): لا فرق في أعداء الدين بين كونهم مشركين أو
مسلمين كالمخالفين.
ويدل عليه الخبران الأولان ، لاشتراكهما في الوصف وهو
العداوة للدين ، بل
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 70 حديث : 5.
(2) الوسائل ج 12 ص 70 ـ 71 حديث : 6.
(3) الوسائل ج 12 ص 71 حديث : 7.
لا يبعد ـ كما ذكره جملة من المتأخرين
ـ دخول مثل قطاع الطريق ونحوهم من الظالمين ، لما تقدم من تحريم اعانة الظالمين
ولو بالمباحات ، بل الطاعات ، فضلا عما في الإعانة على الظلم. ويعضده ظاهر الآية
من النهى عن الإعانة على الإثم والعدوان. وحديث السراد المتقدم (1)
(الثالث): محل البحث في كلام الأصحاب وكذا في اخبار
تحريم السلاح هو السيف والرمح ونحوهما. أما ما يتخذ جنة كالدرع والبيضة ولباس
الفرس المسمى بالتجفاف ـ بكسر التاء ـ فالظاهر عدم دخوله في الحكم المذكور. وبذلك
صرح في المسالك ايضا.
ويدل عليه صحيحة محمد بن قيس المتقدمة ، الا ان ظاهر
رواية أبي بكر الحضرمي : دخول السروج فيما يحرم بيعه ، وهي ليست من السلاح. فلو
قيل بالعموم لما يحصل به المساعدة ، من سلاح وغيره ، لكان أوجه ، فإنه لا شك ان
الإعانة بالدرع والبيضة التي تقي لابسها عن القتل أشد وأعظم من الإعانة بالسرج
الذي قد صرحت الرواية المشار إليها بتحريمه.
ويمكن الجواب عن الصحيحة المذكورة بأنها لم تتضمن
المعونة لأعداء الدين على المسلمين ، وانما دلت على المعونة على مثلهم من أهل
الباطل ، والظاهر ان الفرقتين من أعداء الدين. الا انه يشكل ذلك بتخصيص التجويز
بالجنة دون السلاح وبالجملة فإدخال نحو السرج في الحكم المتقدم وإخراج نحو الدرع
لا يخلو عن اشكال.
(الرابع): لو باع على تقدير التحريم ، هل يصح البيع
ويملك الثمن وان أثم ، أم يبطل؟ قولان ، استظهر في المسالك الثاني ، قال : لرجوع
النهي إلى نفس المعوض. واليه مال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، قال : لان
الظاهر ان الغرض من النهى هنا عدم التملك وعدم صلاحية المبيع لكونه مبيعا ، لا
مجرد الإثم ،
__________________
(1) في ص 207 رقم : 3.
فكان المبيع لا يصلح لان يكون مبيعا
لهم كما في بيع الغرر انتهى. ولا يخلو من قرب ، وان كان للمناقشة فيه مجال ،
لإمكان رجوع النهي إلى المعونة ، والا فالعوض من حيث هو صالح للنقل ، فيكون توجه
النهى انما هو لأمر خارج كالبيع وقت النداء في يوم الجمعة ، وقد تقدم تحقيق هذه
المسألة في بعض مجلدات هذا الكتاب (1) بما يكشف عن وجهها نقاب الشك
والارتياب.
(الخامس): ظاهر خبر هند السراج (2) : جواز حمل
السلاح إلى أعداء الدين وقت الهدنة لأجل الاستعانة به على دفع الكفار ، وعليه يحمل
خبر القاسم الصيقل ، مع انك قد عرفت في الموضع الأول جواز الحمل في حال الهدنة
مطلقا.
__________________
(1) في الجزء العاشر ص 177 من هذه الطبعة.
(2) تقدم في ص 207 رقم : 1.
المقام الخامس
في حكم أخذ الأجرة على ما يجب على الإنسان فعله ، كتغسيل
الموتى وتكفينهم ودفنهم.
ويلحق بذلك أخذ الأجرة على الأذان ، وبيع القرآن ، وكذا
أخذ الأجرة على الصلاة بالناس ، والقضاء والحكم بين الناس.
وتفصيل هذه الجملة يقع في موارد : ـ
الأول : المشهور في
كلام الأصحاب ـ من غير خلاف يعرف ـ ان تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم
، من الواجبات الكفائية ، على من علم بالموت من المسلمين ، فلا يجوز أخذ الأجرة
على شيء من ذلك.
قال في المنتهى : يحرم أخذ الأجرة على تغسيل الموتى
وتكفينهم ودفنهم والصلاة عليهم ، لان ذلك واجب عليهم ، فلا يجوز لهم أخذ الأجرة على
فعله ، كالفرائض انتهى.
ونحن قدمنا البحث معهم في هذه المسألة في فصل غسل
الأموات من كتاب الطهارة (1) وكذا في كتاب
الصلاة (2) في باب الصلاة
على الأموات. وذكرنا
__________________
(1) في الجزء الثالث ص 359 من هذه الطبعة.
(2) في الجزء العاشر ص 382 فما بعد.
ان الخطابات الواردة من الشارع في هذه
المواضع انما توجهت إلى الولي بأن يفعل ذلك أو يأمر من يفعله ، الا ان لا يكون
للميت ولى ، وعلى ما ذكرنا لا يتجه تحريم أخذ الأجرة على الإطلاق كما ذكروه ، وان
كان ظاهرهم الاتفاق على ما نقلناه عنهم.
الا ان يقال : انه إذا أذن الولي وجب عليه حينئذ وهو
بعيد ، لعدم الدليل عليه فانا لم نقف لهم في دعوى الوجوب الكفائي في هذا المقام
على دليل يعتمد عليه من الاخبار ، وليس الا ظاهر اتفاقهم عليه.
والأصحاب قد نقلوا في هذا المقام عن المرتضى جواز أخذ
الأجرة بالتقريب الذي ذكرناه.
قال في المسالك ـ بعد ذكر المصنف لأصل الحكم ـ : هذا هو
المشهور بين الأصحاب ، وعليه الفتوى ، وذهب المرتضى الى جواز أخذ الأجرة على ذلك
لغير الولي بناء على اختصاص الوجوب به ، وهو ممنوع ، فان الوجوب الكفائي لا يختص
به ، وانما فائدة الولاية توقف الفعل على اذنه ، فيبطل منه ما وقع بغيره ، مما
يتوقف على النية. انتهى.
وفيه : ان ما ادعاه ـ رحمهالله ـ وغيره من
الوجوب الكفائي عار عن الدليل كما عرفت.
واما قوله : ان فائدة الولاية توقف الفعل على اذنه ، فان
فيه : ان النصوص الدالة على ذلك ظاهرة بل صريحة في توجه الأمر بالإتيان بتلك الأفعال
إلى الولي ، كقول أمير المؤمنين عليهالسلام ـ فيما رواه
في الفقيه ـ : يغسل الميت اولى الناس به أو من يأمره الولي بذلك (1). وبمضمونه خبر
آخر في الغسل (2).
__________________
(1) الوسائل ج 1 ص 718 باب : 26 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 2 ص 718 باب : 26 حديث : 2.
وقول الصادق عليهالسلام : يصلى على
الجنازة أولى الناس بها أو يأمر من يحب (1). ونحوه أخبار ولاية الزوج لزوجته ، وانه
اولى الناس بالصلاة عليها والغسل بها (2). وهكذا في سائر ما يتعلق بالميت ،
فان الخطاب بإيقاع ذلك الفعل انما توجه إلى الولي خاصة ، اما بان يوقعه بنفسه أو
يأذن لغيره. وأين هذا من الوجوب الكفائي ، الذي يدعونه؟!
وبذلك يظهر : ان فائدة الولاية هو اختصاص الفعل به ، بان
يغسله ويصلى عليه ويكفنه ونحو ذلك ، أو يأذن لغيره في هذه الأمور.
وحينئذ فلو فرضنا ان الغير امتنع من امتثال أمر الولي
إلا بالأجرة جاز له ذلك ، لانه غير مخاطب بهذه الأمور ، ولا مكلف بها حتى يحرم
عليه أخذ الأجرة كما ادعوه.
نعم لو سلمنا صحة ما ادعوه من الوجوب الكفائي ، صح ما
رتبوه عليه من تحريم أخذ الأجرة.
ثم ان مقتضى تخصيص الأصحاب الحكم بالواجب من هذه الأمور
، جواز أخذ الأجرة على المستحب ، مثل زيادة الحفر على ما يستر ريحه عن الشياع ،
ويكن جثته عن السباع ، بمقدار الترقوة ، ونقله الى المشاهد المشرفة ، وتثليث
الغسلات في التغسيل ، ووضوء الميت على تقدير القول باستحبابه ، وتكفينه بالقطع
المندوبة ونحو ذلك.
وقيل بالمنع. نقله في المسالك عن بعض الأصحاب ، محتجا
بإطلاق النهى! وأنت خبير بانا لم نقف على نهى في هذا الباب ، ولا ذكره أحد من
الأصحاب ، بل ذكر المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ايضا ، انه لم يقف عليه ، قال ـ
بعد نقل القول المذكور ـ : ووجهه غير ظاهر ، ولعله انها عبادة وهي تنافي الأجرة
ومنعه ظاهر ، الا ترى جواز أخذ الأجرة على الحج وسائر العبادات بالإجماع والأدلة.
قيل : لإطلاق النهى ، وما رأيت النهى. انتهى.
__________________
(1) الوسائل ج 2 ص 801 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 2 ص 802 باب : 24.
الثاني : المشهور بين
الأصحاب تحريم أخذ الأجرة على الأذان.
واستدل عليه بما رواه الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن
الصفار عن عبد الله المنبه عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن على عن
أبيه عن آبائه عن على عليهالسلام ، انه أتاه
رجل فقال : يا أمير المؤمنين والله انى أحبك لله ، فقال له : لكني أبغضك لله. قال
: ولم؟ قال : لأنك تبغي في الأذان أجرا ، وتأخذ على تعليم القرآن اجرا ، وسمعت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : من أخذ
على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم القيامة (1).
وذهب المرتضى الى جواز أخذ الأجرة عليه ، تسوية بينها
وبين الارتزاق.
والى هذا القول يميل كلام المقدس الأردبيلي ، استضعافا
للخبر المذكور ، لان رجاله من العامة الزيدية. قال : والشهرة ليست بحجة ، وأيد ذلك
باشتمال الخبر على النهى عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، مع كون ذلك على الكراهة
عند الأصحاب. قال : ويبعد كون أحدهما مكروها والأخر حراما. والأصل ، وجواز أخذ
الأجرة في المندوبات ، يؤيد عدم التحريم. انتهى.
أقول : ما ذكره وان أمكن تطرق المناقشة اليه (2) الا ان الخبر
المذكور مع الإغماض عن المناقشة في سنده لا ظهور له في التحريم ، فإنهم كثيرا ما
يزجرون عن المكروهات بما يكاد يدخلها في حيز المحرمات ، ويحثون على المستحبات بما
يكاد يلحقها بالواجبات ، وهذا ظاهر لمن تتبع موارد الأحكام الواردة في أخبارهم
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 114 باب : 30 حديث : 1.
(2) بان يقال : ان من قواعدهم جبر الخبر الضعيف بالشهرة بين
الأصحاب ، بمعنى انه بانضمام أحدهما إلى الأخر يصير كالدليل الواحد ، وهو لا يقصر
عن خبر صحيح.
واشتمال
الخبر على النهى عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، يمكن إبقاؤه على ظاهره من
التحريم ايضا.
وكون
المشهور بينهم حمله على الكراهة لا يوجب ثبوت ذلك ولا يعين حمله على الكراهة هنا
كما لا يخفى منه قدسسره.
ـ عليهمالسلام.
وعلى تقدير القول بالتحريم ، هل يحرم الأذان أيضا بذلك
أم لا؟
قال ابن البراج : يحرم ورجحه العلامة في المختلف ، قال :
الأذان على هذا الوجه غير مشروع ، فيكون بدعة.
والظاهر : بعده ، لأن النهي هنا انما توجه إلى أخذ
الأجرة ، لا إلى الأذان ، فالقول بعدم مشروعيته وانه بدعة مع دخوله تحت الأخبار
العامة الدالة على صحة الأذان ومشروعيته مشكل.
نعم يكون ما فعله من أخذ الأجرة عليه محرما ، هذا مقتضى
قواعدهم وأصولهم.
* * *
ثم ان الظاهر من كلام الأصحاب : انه لا خلاف في جواز
الارتزاق من بيت المال ، وهو ما أعد لمصالح المسلمين من مال الخراج والمقاسمة.
وهل يشترط ان يكون ذلك بإذن الإمام عليهالسلام أو نائبه ، أم
يجوز ولو كان من الجائر؟ قولان. المشهور : الثاني. وسيأتي تحقيق المسألة إنشاء
الله تعالى في محلها.
* * *
والظاهر ايضا : جواز أخذ ما وقف للمؤذنين أو نذر لهم ،
لان للمالك ان يفعل في ماله ما يشاء ، ويعينه لمن يشاء ، والظاهر انه لا يحرم وان
قصد بالأذان ذلك.
قال في المسالك : والفرق بين الأجرة والارتزاق ان الأجرة
تفتقر الى تقدير العمل والعوض ، وضبط المدة والصيغة الخاصة ، واما الارتزاق فمنوط
بنظر الحاكم ، لا يتقدر بقدر. انتهى.
وهو يشعر بان ما يأخذه من الأجرة بغير القيود المذكورة
لا تسمى اجرة ولا تكون محرمة وانه لا يكون الأمن بيت المال ، لانه من قبيل
الارتزاق دون الأجرة. والظاهر : بعده ، فان الظاهر من الأجرة في هذا المقام : انما
هو ما يعطى لأجل الأذان ، بحيث
لو لم يعط لم يؤذن ، بأن يقال له :
أذن ونعطيك كذا وكذا ، فيؤذن لذلك ، سواء عينت مدة الأذان أم لا ، وقعت بالصيغة
المخصوصة أم لا ، وسواء كان ما يعطى من بيت المال أو من شخص معين أو من أهل البلد
كملا.
وبما ذكرنا صرح المحقق الأردبيلي أيضا. ويؤيده خلو أخبار
البيوع والإجارات ونحوهما من أكثر هذه القيود والشروط المذكورة في كلامهم في هذه
الأبواب ، وانما العمدة وقوع التراضي بالألفاظ ، مع معلومية ما يقع عليه العقد ،
ولو في الجملة.
الثالث : اختلف
الأصحاب في جواز أخذ الأجرة على القضاء والحكم بين الناس.
فقال الشيخ في النهاية : لا بأس بأخذ الأجرة والرزق على
الحكم والقضاء بين الناس من جهة السلطان العادل.
وقال المفيد : لا بأس بالأجرة في الحكم والقضاء بين
الناس. والتبرع بذلك أفضل ، وأقرب الى الله سبحانه.
وقال أبو الصلاح : يحرم الأجر على تنفيذ الأحكام من قبل
الامام العادل.
وقال ابن إدريس : يحرم الأجر على القضاء ، ولا بأس
بالرزق من جهة السلطان العادل ، ويكون ذلك من بيت المال ، دون الأجرة ، على كراهية
فيه.
وقال في المختلف : الأقرب ان نقول : ان تعين القضاء عليه
اما بتعيين الامام عليهالسلام أو بفقد غيره
أو بكونه الأفضل وكان متمكنا ، لم يجز الأجر عليه ، وان لم يتعين أو كان محتاجا
فالأقرب الكراهة. قلنا : الأصل الإباحة على التقدير الثاني ، وانه فعل لا يجب عليه
فجاز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات الواجبة.
وقال في المنتهى : يحرم الأجر على القضاء ، ويجوز الرزق
فيه من بيت المال. واستدل على الأول بصحيحة عبد الله بن سنان الاتية. وقال المحقق
في الشرائع ـ على ما نقله في المسالك ـ : ان تعين عليه بتعيين الإمام ، أو بعدم
قيام أحد غيره ، حرم
عليه أخذ الأجرة مطلقا ، لأنه حينئذ
يكون واجبا عليه ، والواجب لا يصح أخذ الأجرة عليه ، وان لم يتعين عليه ، فان كان
له غنى عنه لم يجز ايضا ، والا جاز.
قال في المسالك ـ بعد نقل كلام المحقق المذكور ـ : وقيل
: يجوز مع عدم التعيين مطلقا. وقيل : يجوز مع الحاجة مطلقا ومن الأصحاب من جوز أخذ
الأجرة عليه مطلقا. والأصح المنع مطلقا ، الا من بيت المال على جهة الارتزاق ،
ويتقدر بنظر الامام. ولا فرق في ذلك بين أخذ الأجرة من السلطان ومن أهل البلد
والمتحاكمين ، بل الأخير هو الرشوة التي ورد في الخبر «انها كفر بالله ورسوله». انتهى.
والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام : ما رواه المشايخ
الثلاثة في الصحيح عن عبد الله بن سنان ، قال : سئل أبو عبد الله عليهالسلام عن قاض بين
قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ، فقال : ذلك السحت. (1). وما تقدم في
صدر هذا البحث من الاخبار الدالة على ان الرشا في الحكم هو الكفر بالله العظيم.
ونحوها : ما رواه في الكافي عن سماعة ـ في الموثق ـ عن
ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : الرشا
في الحكم هو الكفر بالله. (2).
وما رواه الشيخ عن جابر ، قال : قال أبو جعفر عليهالسلام : لعن رسول
الله صلىاللهعليهوآله : من نظر الى
فرج امرأة لا تحل له ، ورجلا خان أخاه في امرأته ، ورجلا احتاج الناس اليه لتفقهه
فسألهم الرشوة. (3).
وظاهر الأصحاب ـ حيث جوزوا الارتزاق ـ : حمل الخبر الأول
على الأجر. ولا يخلو من اشكال ، لعدم المعارض ، مع ظهور اللفظ في الارتزاق.
نعم يمكن ان يقال : ان الارتزاق لما كان جائزا لجملة
المسلمين المحتاجين من بيت
__________________
(1) الوسائل ج 18 ص 162 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 18 ص 162 حديث : 3.
(3) الوسائل ج 18 ص 163 حديث : 5.
المال ، فلا وجه للفرق فيه بين القاضي
وغيره ، الا انه يمكن دفعه بأنه لما كان أخذه هنا انما هو في مقابلة القضاء ، كما
يدل عليه ظاهر الخبر الأول ، كان حراما لهذه الجهة ، ولا ينافي لما حله له من حيث
كونه من جملة المسلمين أو المحتاجين.
والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد اختار القول بالتحريم
مطلقا ، استنادا الى اخبار تحريم الرشا ، والى انه مع تعينه عليه بأحد الوجوه
المتقدمة يكون واجبا ، والواجب لا يجوز أخذ الأجرة عليه.
وفيه : ان اخبار الرشا أخص من المدعى ، لان الرشوة ما
يؤخذ من المتحاكمين على الحكم لصاحب الرشوة ، فتكون الرشوة في مقابلة الحكم له ،
والمدعى : تحريم الأجر بقول مطلق.
والأظهر هو الاستدلال بصحيحة عبد الله بن سنان المذكورة
، بحمل الرزق فيها على ما هو أعم من الارتزاق من بيت المال أو الأجرة.
* * *
وظاهر جملة من الأصحاب : عد الصلاة بالناس فيما تحرم
الأجرة عليه ، ونقل في المختلف عن ابن البراج : انه عد في أقسام المحرمات ، الأذان
والإقامة والصلاة بالناس ، وتغسيل الموتى وحملهم والصلاة عليهم ودفنهم ، فإنه لا
يحل أخذ الأجرة عليها.
ولم يحضرني الان خبر في هذا الحكم.
ومن جملة من صرح بذلك صاحب الوسائل ، مع انه لم يورد في
الباب ما يدل عليه ، وانما أحال على ما قدمه من أحاديث التظاهر بالمنكرات ،
واختتال الدنيا بالدين ، وجهاد النفس ، وفي استفادة الدلالة على ذلك منها نظر ، لا
سيما مع ورود الاستيجار على العبادات ومشروعيته ، وكيف كان فالاحتياط : فيما
ذكروه.
الرابع : صرح جملة من
الأصحاب بأنه لا يجوز بيع المصحف ، وانما يباع الورق والجلد ونحوهما من الآلات
التي اشتمل عليها ذلك الكتاب.
وعليه تدل الأخبار المتكاثرة : فروى في الكافي عن عبد
الرحمن بن سليمان عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : سمعته
يقول : ان المصاحف لن تشترى ، فإذا اشتريت فقل : انما اشترى منك الورق وما فيه من
الأديم وحليته ، وما فيه من عمل يدك ، بكذا وكذا (1).
وعن عثمان بن سعيد عن الصادق عليهالسلام ، قال سألته
عن بيع المصاحف وشرائها؟ قال : لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والورق والدفتر
، وقل : اشتريت منك هذا بكذا وكذا ، (2).
وعن عنبسة الوراق ، قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام ، فقلت له :
انا رجل أبيع المصاحف ، فإن نهيتني لم أبعها ، فقال : ألست تشترى ورقا وتكتب فيه؟
قلت : بلى ، وأعالجها ، قال : لا بأس بها (3).
وروى في التهذيب عن عثمان بن عيسى عمن سمعه (4) ، قال : سألته
عن بيع المصاحف وشرائها. فقال : لا تشتر كتاب الله ولكن اشتر الحديد والجلود
والدفتين ، وقل : اشترى منك هذا بكذا وكذا (5).
وعن عبد الله بن سليمان ، قال : سألته عن شراء المصاحف ،
فقال : إذا أردت ان تشترى فقل : اشترى منك ورقه وأديمه وعمل يدك بكذا وكذا (6).
وعن سماعة قال : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لا
تبيعوا المصاحف ، فان بيعها حرام. قلت : فما تقول في شرائها؟ قال : اشتر منه
الدفتين والحديد و
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 114 حديث : 1 باب : 31.
(2) الوسائل ج 12 ص 114 حديث : 3.
(3) الوسائل ج 12 ص 115 حديث : 5.
(4) وفي الكافي : «عن سماعة» ج 5 ص 121.
(5) الوسائل ج 12 ص 114 حديث : 2.
(6) الوسائل ج 12 ص 115 حديث : 6.
الغلاف ، وإياك ان تشترى منه الورق
وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراما ، وعلى من باعه حراما (1).
أقول : «قوله : وإياك ان تشترى الورق وفيه القرآن». يعنى
: تجعله المقصود بالشراء فيلزمه التحريم.
فوائد
الأولى : قد صرح
الأصحاب بكراهة تعشيره بالذهب ، واستدلوا على ذلك بما رواه في التهذيب عن سماعة ـ في
الموثق ـ قال : سألته عن رجل يعشر المصاحف بالذهب ، فقال : لا يصلح. فقال : إنها
معيشتي : فقال : انك ان تركته لله جعل الله تعالى لك مخرجا (2).
وروى في الكافي ـ ومثله في التهذيب ـ عن محمد الوراق ،
قال : عرضت على ابي عبد الله عليهالسلام كتابا فيه
قرآن مختم معشر بالذهب ، وكتب في آخره سورة بالذهب ، فأريته إياه فلم يعب فيه شيئا
إلا كتابة القرآن بالذهب ، فإنه قال : لا يعجبني أن يكتب القرآن الا بالسواد كما
كتب أول مرة (3).
وفي هذا الخبر : ما يدل على حمل الخبر الأول على الكراهة
، وفيه أيضا دلالة على كراهة كتابة القرآن بغير السواد.
الثانية : جواز أخذ
الأجرة على كتابته.
والظاهر : انه لا خلاف فيه. ويدل عليه ايضا : ما رواه الشيخ
عن روح بن عبد الرحيم ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ـ في حديث ـ قال
: قلت : ما ترى ان اعطى على
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 116 حديث : 11.
(2) الوسائل ج 12 ص 117 حديث : 1.
(3) الوسائل ج 12 ص 117 حديث : 2.
كتابته اجرا؟ قال : لا بأس. الحديث (1).
وعن عبد الرحمن بن ابى عبد الله ، عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال : ان أم
عبد الله بنت الحسن أرادت أن تكتب مصحفا فاشترت ورقا من عندها ، ودعت رجلا فكتب
لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا. وانه لم تبع المصاحف الا حديثا (2).
وفي هذا الخبر : إشارة إلى كراهة اشتراط الأجرة على
كتابة القرآن ، كما سيأتي إنشاء الله تعالى في مسألة تعليم القرآن ، وأخذ الأجرة
على التعليم.
الثالث : يكره محو شيء
من كتابة القرآن بالبزاق ، لما رواه في الفقيه في حديث المناهي ، المذكور في آخر
الكتاب ، عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عن
رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : ونهى ان
يمحى شيء من كتاب الله العزيز بالبزاق أو يكتب به (3).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 116 حديث : 9.
(2) الوسائل ج 12 ص 116 حديث : 10.
(3) الوسائل ج 12 ص 117 حديث : 3.
البحث الثاني
فيما يكره التكسب به ، وهي أمور :
الأول : الصرف. لان
صاحبه لا يكاد يسلم من الربا.
ويدل عليه من الاخبار : ما في الكافي والتهذيب ، عن
إسحاق بن عمار قال : دخلت على ابى عبد الله عليهالسلام ، فأخبرته أنه
ولد لي غلام. فقال : ألا سميته محمدا! قال. قلت : قد فعلت. قال : فلا تضرب محمدا
ولا تشتمه ، جعله الله قرة عين لك في حياتك ، وخلف صدق بعدك. قلت : جعلت فداك في
أي الأعمال أضعه؟ قال : إذا عدلت عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت ، لا تسلمه صيرفيا ،
فإن الصيرفي لا يسلم من الربا ولا تسلمه بياع الأكفان فإن صاحب الأكفان يسره
الوباء إذا كان. ولا تسلمه نخاسا فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر
الناس من باع الناس. ولا تسلمه بياع الطعام ، فإنه لا يسلم من الاحتكار. ولا تسلمه
جزارا ، فان الجزار تسلب منه الرحمة (1).
وروى في الكافي والفقيه عن سدير الصيرفي ، قال : قلت
لأبي جعفر عليهالسلام : حديث بلغني
عن الحسن البصري ، فإن كان حقا فانا لله وانا إليه راجعون! قال :
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 97 حديث : 1 مع تقديم وتأخير لبعض فقراته
الأخيرة.
وما هو؟ قلت : بلغني ان الحسن كان
يقول : لو غلى دماغه من حر الشمس ما استظل بحائط صيرفي. ولو تفرثت كبده عطشا لم
يستسق من دار صيرفي ماء!
وهو عملي وتجارتي ، وفيه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجى
وعمرتي! فجلس عليهالسلام ثم قال : كذب
الحسن ، خذ سواء وأعط سواء. فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك ، وانهض الى الصلاة ،
اما علمت ان أصحاب الكهف كانوا صيارفة (1)؟.
ومن هذين الخبرين يعلم ما ذكرناه من جواز التصريف على
كراهية.
واما قوله ـ في آخر الخبر الثاني ـ : اما علمت ان أصحاب
الكهف كانوا صيارفة ، ففيه بحث قد استوفينا الكلام فيه في كتابنا الدرر النجفية.
ويمكن ان يقال : ان الجواز على كراهة ، مخصوص بمن لم يكن
يتمكن من التحرز من الوقوع في تلك الأشياء ، للنهي عنها ، وعليه يحمل الخبر الأول.
واما من تمكن من ذلك فلا يكره في حقه ، وعليه يحمل الخبر الثاني.
ويؤيده ان إسحاق المذكور في الخبر الأول من أعاظم
الصيارفة ، وهو بالمحل الأدنى (2) عندهم ، وهو إسحاق بن عمار بن حيان
التغلبي ، المذكور في كتاب النجاشي ، من بيت كبير من الشيعة.
ويؤيد ما قلناه ـ ايضا ـ انه قد تقدم في الخبر الأول
النهي عن كونه نخاسا ، مع انه قد روى في الموثق عن ابن فضال ، قال : سمعت رجلا
يسأل أبا الحسن الرضا عليهالسلام فقال : إني
أعالج الرقيق فأبيعه ، والناس يقولون : لا ينبغي. فقال له الرضا عليهالسلام : وما بأسه؟
كل شيء مما يباع إذا اتقى الله فيه العبد فلا بأس به (3).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 99 ـ 100 حديث : 1 باب : 22.
(2) من الدنو وهو القرب. اى كان من التقرب الى الأئمة ـ عليهمالسلام ـ في المنزلة القربى.
(3) الوسائل ج 12 ص 96 حديث : 5.
وعلى هذا الوجه حمل الشيخ الرواية الأولى ، كذا رواية
إبراهيم بن عبد الحميد الاتية فقال في التهذيب : هذان الخبران محمولان على من لا
يتمكن من أداء الامانة ، ولا يحترز في شيء من هذه الصنائع ، فاما من تحفظ فليس
عليه في شيء منها بأس ، وان كان الأفضل غيرها. ثم ذكر رواية ابن فضال المذكورة.
الثاني : بيع الأكفان
، وبيع الطعام ، وبيع الرقيق ، والذبح ، والصياغة ، والحياكة ، والحجامة.
وعلى ذلك تدل جملة من الاخبار : منها : خبر إسحاق بن
عمار المتقدم. ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عليهالسلام ، قال : قال
رسول الله عليهماالسلام : انى أعطيت
خالتي غلاما ونهيتها ان تجعله قصابا أو حجاما أو صائغا (1).
وعن إسماعيل الصيقل الرازي ، قال : دخلت على ابى عبد
الله عليهالسلام ومعى ثوبان ،
فقال لي : يا أبا إسماعيل ، تجيئني من قبلكم أثواب كثيرة وليس يجيئني مثل هذين
الثوبين الذين تحملهما أنت : فقلت : جعلت فداك تغزلهما أم إسماعيل وأنسجهما أنا.
فقال لي : حائك؟ قلت : نعم فقال : لا تكن حائكا : قلت : فما أكون؟ قال : كن صيقلا.
وكانت معي مائتا درهم ، فاشتريت بها سيوفا ومرايا عتقا. وقدمت بها الى الري فبعتها
بربح كثير (2).
وروى في الكافي عن احمد بن محمد عن بعض أصحابه ، رفعه
الى ابى عبد الله ـ عليهالسلام ـ ، قال : ذكر
الحائك عند ابى عبد الله عليهالسلام انه ملعون.
فقال : انما ذلك الذي يحوك الكذب على الله وعلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم (3).
وما رواه المشايخ الثلاثة عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن
ابى الحسن موسى
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 97 حديث : 2.
(2) الوسائل ج 12 ص 100 حديث : 1 باب 23.
(3) الوسائل ج 12 ص 101 حديث : 2.
ابن جعفر عليهالسلام ، قال : جاء
رجل الى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا
رسول الله ، قد علمت ابني هذا الكتاب ، ففي أي شيء أسلمه؟ فقال : أسلمه ـ لله
أبوك ـ ولا تسلمه في خمس : لا تسلمه سباء ، ولا صائغا ، ولا قصابا ، ولا حناطا ،
ولا نخاسا. قال : فقال : يا رسول الله ما السباء؟ قال : الذي يبيع الأكفان ،
ويتمنى موت أمتي. والمولود من أمتي أحب الى مما طلعت عليه الشمس. واما الصائغ فإنه
يعالج غبن أمتي. واما القصاب فإنه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه ، واما الحناط
فإنه يحتكر الطعام على أمتي. ولان يلقى الله العبد سارقا أحب الى من ان يلقاه قد
احتكر الطعام أربعين يوما. واما النخاس فإنه أتاني جبرئيل ، فقال : يا محمد ان
شرار أمتك الذين يبيعون الناس (1).
أقول : قال بعض مشايخنا : اتفقت نسخ أخبارنا في قوله
سباء ـ بالباء الموحدة ـ وقال في الوافي : والسباء في النسخ التي رأيناها من الكتب
الثلاثة ، بالباء الموحدة المشددة.
أقول : وهذا الخبر قد روته العامة ـ بالياء المثناة من
تحت ـ كما ذكره ابن الأثير في النهاية ، وجعله من السوء والمسائة (2).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 98 حديث : 4.
(2) أقول : قال في النهاية : لا تسلم ابنك سياء. جاء تفسيره في
الحديث : انه الذي يبيع الأكفان ويتمنى موت الناس ولعله من السوء والمسائة أو من
السيئ ـ بالفتح ـ وهو اللبن الذي يكون في مقدم الضرع. يقال : سيأت الناقة إذا
اجتمع السيء في ضرعها ، وسيأتها : حلبت ذلك منها. فيجوز ان يكون فعالا من سيأتها
إذا حلبتها. كذا قال أبو موسى ، انتهى. منه قدسسره.
*
* *
قلت
: ولعل الصحيح هي رواية الباء الموحدة ، مأخوذة من قولهم : «تفرقوا أيادى سبأ» اى
يتمنى بائع الأكفان ابادة الناس بالموت الذريع ، كما جاء في رواية
وقوله : يعالج غبن أمتي ، قيل : معناه : انه يفسد عليهم
الدينار والدرهم ، فيكون منشأ الكراهة فيه ذلك.
وفي التهذيب : زين أمتي ـ بالزاي ـ والمراد : انه يلهيهم
بذلك عن الآخرة فيكون ذلك وجه الكراهة في هذه الصناعة.
ونقل بعض مشايخنا في حواشيه على التهذيب : انه بالمهملة
بخط الشيخ ـ رحمهالله ـ وانه كتب في
الحاشية «والرين : الذنب». وفي اللغة : الرين : الطبع والختم ، كما قال تعالى «بَلْ
رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» اى غلب على
قلوبهم حب الدنيا بحيث لا يستطيعون الخروج منها.
ثم قال شيخنا المشار اليه : وأكثر النسخ بالزاي ، كما في
العلل ، وهو انسب. انتهى.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابى بصير عن ابى جعفر عليهالسلام ، قال : سألته
عن كسب الحجام؟ فقال : لا بأس به إذا لم يشارط (1).
وما رواه في الكافي عن حنان بن سدير ، قال : دخلنا على
ابى عبد الله عليهالسلام ، ومعنا فرقد
الحجام ، فقال له : جعلت فداك انى اعمل عملا وقد سألت عنه غير واحد ولا اثنين.
فزعموا انه عمل مكروه ، وانا أحب ان أسألك عنه فان كان مكروها انتهيت عنه وعملت
غيره من الأعمال ، فإني منته في ذلك الى قولك. قال : وما هو؟ قال : حجام. قال : كل
من كسبك يا ابن أخي ، وتصدق به ، وحج ، وتزوج ،
__________________
إسحاق بن عمار عن الصادق عليهالسلام «فان صاحب الأكفان يسره
الوباء إذا كان». الوسائل ج 12 ص 97 حديث : 1 ، فالسباء ، بالباء الموحدة المشددة
، هو الذي يتوقع ابادة الناس بكثرة الموت وتفشيه بين الأنام ، لان حرفته الخاصة
تدعوه ـ لا شعوريا ـ الى هذا الأمل الذميم ومن ثم كانت مكروهة شرعا ، والله
العالم. م ـ ه ـ معرفة.
(1) الوسائل ج 12 ص 71 حديث : 1.
فإن نبي الله تعالى قد احتجم واعطى
الأجر ، ولو كان حراما ما أعطاه. قال : جعلني الله فداك ان لي تيسا (1) أكريه ، ما
تقول في كسبه؟ قال : كل كسبه ، فإنه لك حلال ، والناس يكرهونه ، قال حنان : لأي شيء
يكرهونه وهو حلال؟ قال : لتعيير الناس بعضهم بعضا (2).
وما رواه في الكافي والفقيه عن جابر عن ابى جعفر عليهالسلام قال : احتجم
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حجمه مولى
لبني بياضة وأعطاه. ولو كان حراما ما أعطاه ، فلما فرغ قال له رسول الله صلىاللهعليهوآله : اين الدم؟
قال : شربته يا رسول الله : فقال : ما كان ينبغي لك ان تفعل وقد جعله الله عزوجل لك حجابا من
النار فلا تعد (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة ـ في الموثق ـ قال
: سألت أبا جعفر عليهالسلام عن كسب الحجام
، فقال : مكروه له ان يشارط ، ولا بأس عليك ان تشارطه وتماكسه ، وانما يكره له ولا
بأس عليك (4).
وما رواه المشايخ الثلاثة ـ في الصحيح من بعض طرقه ـ عن
معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن كسب الحجام
، فقال : لا بأس به (5).
وما رواه في الكافي في الصحيح عن الحلبي عن ابى عبد الله
عليهالسلام ، ان رجلا سأل
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن كسب الحجام
، فقال : لك ناضح (6)؟ قال : نعم.
قال : اعلفه إياه ولا تأكله (7).
__________________
(1) التيس : الذكر من المعز. وجمعه : تيوس. وكان يكريه للضراب.
(2) الوسائل ج 12 ص 72 حديث : 5 وص 77 حديث : 1.
(3) الوسائل ج 12 ص 72 حديث : 7.
(4) الوسائل ج 12 ص 73 حديث : 9.
(5) الوسائل ج 12 ص 72 حديث : 6.
(6) الناضح : البعير الذي يستقى عليه الماء من البئر.
(7) الوسائل ج 12 ص 71 حديث : 2.
وما رواه في التهذيب عن رفاعة ، قال ، سألته عن كسب
الحجام ، فقال : ان رجلا من الأنصار كان له غلام حجام ، فسأل رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : هل
لك ناضح قال : نعم ، قال : فاعلفه ناضحك (1).
وما رواه في الكافي عن سماعة ، قال : قال أبو عبد الله عليهالسلام : السحت أنواع
كثيرة ، منها : كسب الحجام إذا شارط (2).
وما رواه في التهذيب عن سماعة ، قال ، السحت أنواع كثيرة
، منها كسب الحجام (3).
تنبيهات
(أحدها): ينبغي ان
يعلم : ان كراهة هذه الأشياء التي قدمنا ذكرها ، مخصوصة بما إذا كانت صناعة للعامل
بها ، كما هو المستفاد من ظاهر هذه الاخبار ، وقد صرح به الأصحاب ـ رضوان الله
عليهم ـ أيضا. فإما المرة والمرتان والثلاث ونحوها ، فالظاهر : انه ليس كذلك.
(ثانيها): قد اختلفت
الاخبار ـ كما ترى ـ في الحجامة. والمفهوم من كلام الأصحاب : الكراهة مع الاشتراط
، وعدمها مع عدمه.
قال في المنتهى : كسب الحجام إذا لم يشترط حلال طلق ،
واما إذا اشترط فإنه يكون مكروها ، وليس بمحظور ، عملا بأصل الإباحة انتهى وهو جيد
وعليه يمكن جمع الأخبار المتقدمة بعد تقييد مطلقها بمقيدها ، فان منها ما هو مطلق
في الحل ونفى البأس.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 71 حديث : 3.
(2) الوسائل ج 12 ص 62 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 62 حديث : 2.
ومنها : ما قيد فيه النهى بالشرط ،
وعلق نفى البأس على عدم الشرط.
واما ما دل على ان يعلفه ناضحة ولا يأكله ، فهو مع
معارضته بما هو أكثر عددا وأصرح دلالة على جواز الأكل منه ، يجب حمله على تغليظ
الكراهة مع الشرط وهو ظاهر في الحل ، لانه لو كان حراما لم يجز أخذه لعلف دابته أو
غيره.
واما أمره بالتنزه عن أكله ، فيحمل على وقوع الشرط فيه
الذي دلت تلك الاخبار على المنع منه على جهة الكراهة.
وبالجملة فإنه لا إشكال في عدم التحريم ، وانما الكلام
في الكراهة وعدمها ، وقضية الجمع بين الاخبار ثبوت الكراهة مع الشرط ، واما ما
تضمنه موثق زرارة من كراهة اشتراط الحجام وجواز المماسكة والاشتراط ، فلعل المراد
به : انه يجوز لك المماسكة والاشتراط بأجرة مخصوصة. وينبغي له الرضا بذلك ولا
يماكس ولا يشترط.
(ثالثها): ان ما تضمنه
خبر فرقد الحجام من كسب التيس ، بمعنى انه يواجره للضراب ، مما يدل على جواز ذلك
من غير كراهة ، والأصحاب قد عدوا ذلك في جملة المكروهات من هذا الباب ، مع انه عليهالسلام نسب الكراهة
إلى الناس ، بعد حكمه بالحل.
وفي المسالك نسب المنع منه الى العامة.
ومثل هذه الرواية ، ما رواه في الكافي والتهذيب في تتمة
صحيحة معاوية ابن عمار المتقدمة ـ بعد ذكر ما تقدم منها ـ قال : فقلت : أجر التيوس
، قال : ان كانت العرب لتعاير به ، ولا بأس به (1). وهي ـ ايضا ـ ظاهرة في الجواز بلا
كراهة ، الا انه روى في الفقيه مرسلا ، قال ، نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله عن عسيب الفحل
، وهي
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 77 حديث : 2.
اجرة الضراب (1). والظاهر ان
هذا التفسير من كلام الصدوق ، الذي يدخله غالبا في الاخبار.
لكن بعض متأخري مشايخنا المحققين ، وهو المحقق الأردبيلي
في شرح الإرشاد أسند هذا الخبر الى الجمهور ، قال : ويدل عليها ـ ايضا ـ خبر مروي
من طريق الجمهور : ان النبي صلىاللهعليهوآله نهى عن عسيب
الفحل ، وحينئذ فيضعف الاعتماد عليه في تخصيص الخبرين المتقدمين.
والمحقق المتقدم ذكره ، قال ـ بعد ذكر الخبرين المشار
إليهما ـ : كأنه يفهم منهما كراهة أجر الضراب ، فان التيس قيل فحل العنز. انتهى.
أقول : لعل هذا التشبيه بالنظر الى قوله عليهالسلام ، ان الناس أو
العرب لتعاير به. ولا يخفى ما فيه من الغموض وعدم الظهور ، بل ظهوره في العدم
أقرب.
وبالجملة فإني لا أعرف للكراهة وجها وجيها.
نعم لو ثبت الحديث النبوي المذكور من طرقنا لتم ما ذكروه
والله العالم.
الثالث : المشهور بين
الأصحاب كراهية أخذ الأجرة على تعليم القرآن. قال في المنتهى : ويكره الأجر على
تعليم القرآن وليس بمحظور ، عملا بالأصل الدال على الإباحة ، وبأنها طاعة فيكره
أخذ الأجرة عليها.
وظاهره : انه لا فرق بين الاشتراط وعدمه.
وقال الشيخ في النهاية : يكره أخذ الأجرة على تعليم شيء
من القرآن ونسخ المصاحف وليس بمحظور ، وانما يكره إذا كان هناك شرط فان لم يكن
هناك شرط فلا بأس. وكذا قال ابن البراج.
وقال المفيد : لا بأس بالأجرة على تعليم القرآن والحكم
كلها ، والتنزه أفضل.
وقال أبو الصلاح : يحرم اجرة تعليم المعارف والشرائع
وكيفية العبادة ـ الى ان قال ـ وتلقين القرآن.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 77 حديث : 3.
وقال في الاستبصار : يحرم مع الشرط ويكره بدونه.
وقال ابن إدريس : يكره مع الشرط ولا بأس بدونه.
وقال في المختلف ـ : الأقرب إباحته على كراهية ، لنا
الأصل الإباحة ، ولان فيه منفعة تعليم القرآن وتعميم إشاعة معجزة النبي صلىاللهعليهوآله ولانه يجوز
جعله مهرا فجاز أخذ الأجرة عليه ، ولو حرمت الأجرة لحرم جعله مهرا. انتهى.
أقول : والاخبار الواردة في هذه المسألة ظاهرة التنافي.
فمنها : ما رواه المشايخ الثلاثة عن الفضل بن أبي قرة ،
قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ان هؤلاء
يقولون : ان كسب المعلم سحت. فقال : كذبوا ـ أعداء الله ـ انما أرادوا ان لا
يعلموا أولادهم القرآن ، ولو ان المعلم أعطاه رجل دية ولده لكان للمعلم مباحا (1).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن حسان المعلم ، قال :
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن التعليم ،
قال : لا تأخذ على التعليم اجرا. قلت : الشعر والرسائل وما أشبه ذلك ، أشارط عليه
، قال : نعم ، بعد ان يكون الصبيان عندك سواء في التعليم ، لا تفضل بعضهم على بعض (2).
وما رواه في التهذيب عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن على ،
عن أبيه عن آبائه عن على عليهالسلام ـ ورواه في
الفقيه مرسلا عن على عليهالسلام ـ انه أتاه
رجل فقال : يا أمير المؤمنين والله انى لأحبك لله : فقال له : والله انى لأبغضك
لله. قال : ولم؟ قال : لأنك تبغي على الأذان كسبا ، وتأخذ على تعليم القرآن اجرا (3).
وزاد في التهذيب : وسمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : من أخذ
على تعليم القرآن اجرا كان حظه يوم القيامة (4).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 112 حديث : 2.
(2) الوسائل ج 12 ص 112 حديث : 1.
(3) الوسائل ج 12 ص 114 حديث : 1.
(4) نفس المصدر.
وفي الفقيه : وقال على عليهالسلام : من أخذ على
تعليم القرآن. الحديث.
وما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار عن العبد الصالح ،
قال : قلت له : ان لي جارا يكتب ، وقد سألني أن أسألك عن عمله ، قال : مره إذا دفع
اليه الغلام ان يقول لأهله : إني إنما أعلمه الكتاب والحساب واتجر عليه بتعليم
القرآن حتى يطيب له كسبه (1).
وعن جراح المدائني عن ابى عبد الله عليهالسلام ، قال :
المعلم لا يعلم بالأجر ، ويقبل الهدية إذا اهدى اليه (2).
وعن قتيبة الأعشى ، قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : انى أقرئ
القرآن فيهدى إلي الهدية فأقبلها؟ قال : لا قلت : انى لم أشارطه ، قال : أرأيت لو
لم تقرئ كان يهدى إليك؟ قال : قلت : لا. قال : فلا تقبله (3).
وعن جراح المدائني قال : نهى أبو عبد الله عليهالسلام عن أجر القاري
الذي لا يقرء إلا بأجرة مشروطة. ورواه في الفقيه مرسلا عنه عليهالسلام قال نهى النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم عن أجر
القاري. الحديث (4).
وفي الفقه الرضوي : واعلم ان اجرة المعلم حرام إذا شارط
في تعليم القرآن. أو معلم لا يعلم الا قرآنا فقط ، فحرام أجرته إن شارط أم لم
يشترط. وروى عن ابن عباس في قوله تعالى «أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ» قال : اجرة
المعلمين الذين يشارطون في تعليم القرآن. وروى ان عبد الله بن مسعود جاء إلى النبي
صلىاللهعليهوآله فقال : يا
رسول الله ، أعطاني فلان الأعرابي ناقة بولدها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لم يا بن
مسعود؟ فقال : انى كنت علمته اربع سور من كتاب الله. فقال : رد عليه يا ابن مسعود
، فإن الأجرة على القرآن
__________________
(1) نفس المصدر ص 112 حديث : 3.
(2) الوسائل ج 12 ص 113 حديث : 5.
(3) الوسائل ج 12 ص 112 حديث : 4.
(4) الوسائل ج 112 ص 113 حديث : 6 و 7.
حرام. انتهى ما ذكره في الرضوي (1).
والشيخ جمع بين الاخبار بحمل الرواية الأولى على عدم
الاشتراط ، والروايات المطلقة في المنع على الاشتراط.
قال : لا تنافي بين هذا الحديث وبين الخبر الدال على
إباحة أخذ الأجرة ، لأن الدال على التحريم محمول على انه لا يجوز له ان يشارط في
تعليم القرآن اجرا معلوما ، والخبر الأخر محمول على انه إذا أهدي إليه فإنه يكون
مباحا ، لما رواه جراح المدائني ـ ثم ذكر الرواية المتقدمة ـ ثم نقل ما عارضها من
رواية قتيبة الأعشى ، وحملها على الكراهة.
وهذا الكلام منه مؤذن بالتحريم مع الشرط ، والكراهة مع
عدمه.
قال في المنتهى ـ بعد نقل مجمل كلام الشيخ ـ : وهذا
التأويل من الشيخ يعطي انه يرى التحريم مع الشرط. ونحن نتوقف في ذلك.
وأنت خبير بان توقفه هنا مؤذن بالعدول عما صرح به في صدر
المسألة ، مما قدمنا نقله عنه.
والمفهوم من كلام الأصحاب : هو العمل بالخبر الأول الدال
على الجواز ، وحمل الأخبار الأخر على الكراهة ، اشترط أو لم يشترط.
ولا يبعد عندي حمل جملة الأخبار الناهية عن الأجرة ،
والمبالغة في تحريمها ، وانها سحت ، على التقية. كما هو ظاهر الخبر الأول ، بل
صريحه.
ويؤيده ما ذكره الأصحاب هنا من أصالة الحل ، وإشاعة
معجزته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فان القرآن
هو أظهر معاجزه صلىاللهعليهوآله ولزوم اندراسه
، فإنك لا تجد أحدا ينصب نفسه ويترك معاشه ، وتحصيل الرزق له ولعياله ، ويجلس
لتعليم القرآن لأولاد الناس بغير اجرة تعود اليه.
والى ما ذكرنا يشير قوله ـ عليهالسلام ـ في الخبر
الأول «انما أرادوا ان لا يعلموا
__________________
(1) مستدرك الوسائل ج 2 ص 435 باب : 26.
أولادهم القرآن».
ومما يعضد ما ذكرنا كلام الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه
، واستدلاله على ما ذكره ، وتأييده بما نقله عن ابن عباس وابن مسعود ، مما يدل على
التحريم ، فإنه عليهالسلام في الكتاب
المذكور كثيرا ما يجرى على ذلك ، حيث ان أكثر من يحضره كان من المخالفين ، كما نبه
عليه بعض مشايخنا المتأخرين. وهذان المذكوران من المعتمدين عند العامة ، والا فهو عليهالسلام لا يرجع الى غير
آبائه ـ عليهمالسلام.
وبالجملة فإن ظواهر الأدلة المانعة هو التحريم ، والحمل
على الكراهة ، وان كان احدى القواعد التي جرى عليها الأصحاب في الجمع بين الاخبار.
الا انك عرفت في غير مقام مما قدمناه في مجلدات كتاب
الطهارة والصلاة ، انه لا دليل عليه.
فاللازم اما القول بالتحريم ، كما هو ظاهر هذه الاخبار ،
ورد الخبر الأول وطرحه مع تأيده بفتوى الأصحاب قديما وحديثا ، وهذا مما لا يلزمه
محصل.
واما العمل بذلك الخبر المؤيد بفتوى الأصحاب ، وطرح هذه
الاخبار ، أو حملها على ما ذكرناه من التقية. وهو الظاهر الذي عليه العمل.
ولا بأس بالقول بالكراهة كما ذكروه (رضوان الله عليهم).
واليه يشير قوله عليهالسلام ـ في رواية
عمرو بن خالد ـ «وسمعت رسول الله. إلخ» فإنه لو كان الأجر محرما لم يقتصر على كونه
حظه يوم القيامة ، الذي هو عبارة عن عدم إيصال الثواب اليه ، بل يكون مستحقا
للعقاب لارتكابه فعلا محرما.
فوائد
الأولى : ما تضمنه
خبر قتيبة الأعشى (1) ، من النهى عن
الأجرة للقرآن ، ولو مع عدم الشرط ، المؤذن بالتحريم ، لم أقف على قائل به من
الأصحاب. والموجود
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 112 حديث : 4.
في كلامهم هو الكراهة مع الشرط ، كما
صرح به الشيخ وغيره.
وقال في الدروس : فلو استأجره لقراءة ما يهدى الى ميت أو
حي لم يحرم ، وان كان تركها أفضل. ولو صرفه اليه بغير شرط فلا كراهة. انتهى. وهو
ظاهر خبر جراح المدائني الأخير.
والظاهر : انهم بنوا في الصحة على العمومات الدالة على
جواز الإجارة ، لا سيما في العبادات ، مثل الصوم والصلاة ونحوهما ، كما مر تحقيقه
في كتاب الصلاة في باب القضاء. وهو قوى.
وحينئذ فالواجب حمل خبر الأعشى على تأكد الكراهة مع
الشرط ، والكراهة في الجملة مع عدمه ، ولا ينافي ذلك خبر جراح المدائني المذكور ،
ولان غايته الجواز مع عدم الشرط ، ولا ينافيه كون ذلك على كراهية ، مما دل عليه
خبر قتيبة المذكور.
وبه يظهر ان ما ذكروه من نفى الكراهة بالكلية مع عدم
الشرط ليس في محله.
والظاهر انهم بنوا ما ذكروه على خبر جراح المدائني
المذكور وغفلوا عما دل عليه خبر قتيبة من النهى ، ولو مع عدم الشرط.
الثانية : ما تضمنه
خبر حسان المعلم ، من جواز أخذ الأجرة على تعليم الشعر والرسائل ونحوها من الآداب
والحكم ، كالعلوم الأدبية من النحو والصرف والمنطق وعلم المعاني والبيان ونحوها ،
فالظاهر : انه لا اشكال ولا خلاف في جواز أخذ الأجرة عليه ، مع الشرط وعدمه ، عملا
بالعمومات. ويخرج هذا الخبر شاهدا.
واما العلوم الفقهية ففيها تفصيل بين الواجب منها وغيره
، فتحرم الأجرة في الواجب من حيث الوجوب كما تقدم ، للأخبار الدالة على وجوب
التعليم (1) ، ومنها : ما
أخذ الله العهد على الجهال بان يتعلموا حتى أخذ على العلماء بان يعلموا.
الثالثة : ما تضمنه
الخبر المذكور من انه ينبغي مع الشرط ان يكون الصبيان عند المعلم سواء في التعليم
، لا يفضل بعضهم على بعض ، فينبغي تقييده بما إذا استوجر على تعليمهم على الإطلاق
، اما لو تفاوتت الأجرة بالزيادة في التعليم و
__________________
(1) راجع : الكافي ج 1 ص 41.
عدمها ، فالظاهر : انه لا إشكال في
جواز الزيادة لبعضهم على بعض ، باعتبار ما زاده من الأجرة.
وكذا لو وقعت الإجارة على تعليم مخصوص لهذا ، وتعليم
مخصوص للآخر ، وهكذا. فإنه لا بأس بزيادة بعضهم على بعض ، عملا بما وقع عليه
التراضي في الإجارة.
هذا ، وقد تقدم جملة من المكروهات ، ويأتي منها أنشأ
الله تعالى في مواضعها.
* * *
وما عدا ما ذكر من المحرمات والمكروهات المتقدمة والمشار
إليها ، يكون من المباحات. وحيث كانت غير منحصرة في العد طوينا البحث (1) عنها ، اكتفاء
بما ذكرناه مما عداها ، فإن الشيء يعرف بمعرفة ما عداه وضبط ما نافاه. والله
العالم.
__________________
(1) وهو البحث الثالث من البحوث التي وعد التكلم فيها في صدر المقال في ص 71. فقد تكلم عن المكاسب المحرمة. وعن المكاسب المكروهة. وطوى الكلام عن المكاسب المباحة ، لعدم الحاجة إليه ، بعد معرفة البحثين ، فما عداهما هو من المباح ، وهذا المقدار كاف من التكلم في شأنه. لأن الشيء يعرف بضده.