ج22 - كتاب السبق والرماية
السبق بسكون الباء مصدر سبق ، وفي الصحاح مصدر سابق ،
قال في المسالك : وكلاهما صحيح ، إلا أن الثاني أوفق بالمطلوب هنا ، لأن الواقع في
معاملته بين كون العمل بين اثنين فصاعدا فباب المفاعلة به أولى ، والسبق بالتحريك
ما يبذل للسابق عوض سبقه ، ويقال له الخطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة
المفتوحتين.
قال في كتاب المصباح المنير : «والسبق بفتحتين الخطر» ،
وهو ما يتراهن عليه المتسابقان ، وسبقته بالتشديد ، أخذت منه السبق ، وسبقته
أعطيته إياه ، قال الأزهري : وهذا من الأضداد ، انتهى.
قالوا : وفائدته بعث النفس على الاستعداد للقتال
والهداية لممارسة النضال ، لكونه من أهم الفوائد الدينية في الجهاد للأعداء الذي
هو معظم أركان الإسلام ، وبهذه الفائدة خرج عن اللهو واللعب المنهي عنهما ، وعن
المعاملة عليهما ، وأنا أذكر أولا ما وقفت عليه من الأخبار الواردة عنهم عليهمالسلام في هذا المقام
ثم اشفعه بما ذكره علمائنا الأعلام (رفع الله تعالى درجاتهم في دار المقام).
الأول ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (1)» عن أبى عبد
الله عليهالسلام أن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أجرى الخيل
التي أضمرت من الحفياء الى مسجد بنى زريق وسبقها من ثلاث نخلات فأعطى السابق عذقا
وأعطى المصلي عذقا وأعطى الثالث عذقا». قوله عليهالسلام «التي أضمرت»
إضمار الخيل بعلفها القوت بعد السمن يقال : ضمر البعير ضمورا ـ من باب قعد ـ : دق
وقل لحمه ، قيل ـ والضمار بالكسر ـ : الموضع الذي تضمر فيه الخيل ، ويكون وقيا
للأيام التي تضمر فيها ، وتضمر الخيل أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ، ثم لا تعلف
إلا القوت لتخف ، وذلك في مدة أربعين يوما وهذه المدة تسمى الضمار ، والموضع الذي
تضمر فيه الخيل أيضا يسمى مضمار وقيل : هي أن تشد عليها سروجها وتجلل بالأجلة حتى
تعرق تحتها ، فيذهب زهلها ويشتد لحمها ، والحفيا بالحاء المهملة ثم الفاء يمد
ويقصر ، موضع بالمدينة على أميال ، وبعضهم يقدم الياء على الفاء كذا في النهاية ،
وبنوا زريق بتقديم الزاء حي من الأنصار ، قوله «وسبقها من ثلاث نخلات» هو ما تقدم
بفتحتين ، وهو الخطر الذي يقع الراهن عليه ، والعذق بفتح العين المهملة وسكون
الذال المعجمة النخلة بحملها.
الثاني ـ ما رواه في الكافي أيضا عن غياث بن إبراهيم (2) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام عن أبيه عن
علي بن الحسين عليهالسلام أن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أجرى الخيل
وجعل سبقها أواقي من فضة». والأواقى بتشديد الياء وتخفيفها جمع أوقية ، وهي أربعون
درهما ، ويقال : أيضا لسبعة مثاقيل.
الثالث ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (3) قال : «قد
سابق رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أسامة بن زيد
وأجرى الخيل» فروي أن ناقة النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) سبقت ، فقال عليهالسلام : انها بغت
وقالت : فوقي رسول الله (صلى الله عليه
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 48 ح 5 ، الوسائل ج 13 ص 350 ح 1.
(2) الكافي ج 5 ص 49 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 350 ح 2.
(3) الفقيه ج 4 ص 42 ح 137 ، الوسائل ج 13 ص 347 ح 6.
وآله وسلم) وحق على الله أن لا يبغى
شيء على شيء إلا أذله الله ، ولو أن جبلا بغى على جبل لهد الله الباغي منهما».
الرابع ـ ما رواه في الكافي عن أبى بصير (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : ليس شيء
تحضره الملائكة إلا الرهان وملاعبة الرجل بأهله».
قيل المراد بالشيء الأمر المباح الذي فيه تفريح ولذة ،
والرهان المسابقة على الخيل ، ونحوها كما يدل عليه الخبر الآتي.
الخامس ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (2) قال : قال
الصادق عليهالسلام ان الملائكة
لتنفر عن الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنه يحضره
الملائكة وقد سابق رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أسامة بن زيد
وأجرى الخيل.
السادس ـ ما رواه في التهذيب عن العلاء بن سيابة (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن شهادة من
لعب بالحمام؟ قال : لا بأس إذا لم يعرف بفسق ،. ثم قال : وبهذا الاسناد قال :
سمعته يقول : لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام ، ولا بأس بشهادة صاحب السباق
المراهن عليه ، فان رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) قد أجرى
الخيل وسابق ، وكان يقول : ان الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش وما
عدا ذلك قمار حرام».
السابع ـ ما رواه في الفقيه عن العلاء بن سيابة (4) قال : «سألت
أبى عبد الله عليهالسلام عن شهادة من
يلعب بالحمام؟ قال : لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق ، قلت : فان من قبلنا يقولون قال
عمر : هو شيطان ، فقال : سبحان الله أما علمت أن رسول الله
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 49 ح 10.
(2) الفقيه ج 4 ص 42 ح 136.
وهما
في الوسائل ج 13 ص 347 ح 6 و 1.
(3) التهذيب ج 6 ص 284 ح 785.
(4) الفقيه ج 3 ص 30 ح 23.
وهما
في الوسائل ج 18 ص 305 ح 2 و 3.
(صلىاللهعليهوآلهوسلم) قال : ان
الملائكة لتنفر عند الرهان ، وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنها
تحضره ، وقد سابق رسول الله أسامة بن زيد وأجرى الخيل».
الثامن ـ ما رواه في التهذيب عن عبد الله بن عبد الرحمن (1) عن ابى الحسن عليهالسلام قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : اركبوا
وارموا وان ترموا أحب الي من أن تركبوا ثم قال : كل لهو المؤمن باطل ، إلا ثلاثة :
في تأديبه الفرس ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته امرأته ، فإنهن حق ، إلا ان الله
تعالى ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة : عامل الخشبة ، والمقوي به في سبيل الله
، والرامي به في سبيل الله».
التاسع ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (2) «عن أبي عبد
الله عن آبائه عليهمالسلام قال : الرمي
سهم من سهام الإسلام».
العاشر ـ ما رواه فيه أيضا عن حفص بن البختري (3) في الحسن «عن
أبى عبد الله عليهالسلام أنه كان يحضر
الرمي والرهانة».
الحادي عشر ـ ما رواه فيه أيضا بهذا الاسناد (4) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام أنه قال : لا
سبق إلا في الخف أو حافر أو نصل يعنى النضال». والمراد بالنضال بالضاد المعجمة
المرماة ، والسبق يحتمل أن يكون بالتسكين مصدرا فيفيد الخبر المنع من الرهان في
غير الثلاثة المذكورة ، ويحتمل أن يكون بالتحريك بمعنى الخطر فيفيد الخبر المنع من
الأخذ والإعطاء في غيرها ، دون أصل المسابقة.
الثاني عشر ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (5) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «أغار
المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناديا يا سوء صباحاه ،
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 50 ح 13 ، التهذيب ج 6 ص 175 ح 348. الوسائل
ج 14 ص 83 ح 2.
(2 و 3) الكافي ج 5 ص 49 ح 11 وص 50 ح 15.
(4 و 5) الكافي ج 5 ص 50 ح 14 و 16.
وهذه الروايات في الوسائل ج 14 ص 83 ح 2 وج 13 ص 348 الباب 2 ح
2 و 4 وص 348 ح 1 وص 346 ح 2.
فسمعها رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في الخيل
فركب فرسه في طلب العدو وكان أول أصحابه لحقه أبو قتادة على فرس له ، وكان تحت
رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) سرج دفتاه
ليف ، ليس فيه أشر ولا بطر ، فطلب العدو فلم يلق أحدا وتتابعت الخيل ، فقال : أبو
قتادة يا رسول الله ان العدو قد انصرف ، فإن رأيت أن نستبق؟ فقال : نعم فاستبقوا
فخرج رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) سابقا ، ثم
أقبل عليهم فقال : أنا ابن العواتك من قريش ، انه لهو الجواد البحر ، يعنى فرسه». والمراد
بالسرح هو المال السائم ، قوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) «أنا ابن
العواتك» هو جمع عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب ، وكان هذا الاسم لثلاث نسوة من
أمهاته (صلىاللهعليهوآلهوسلم) إحداهن عاتكة
بنت هلال أم عبد مناف بن قصي ، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال أم هاشم بن عبد
مناف ، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب أبى آمنة أم النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فالأولى من
العواتك عمة الثانية ، والثانية عمة الثالثة ، قيل : وبنوا سليم كانوا يفتحزون
بهذه الولادة ، وقيل العواتك في جدات النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) تسع ثلاث من
بنى سليم ، وهن المذكورات ، والبواقي من غيرهم.
الثالث عشر ـ ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن الحسين
بن علوان (1) «عن جعفر عن
أبيه عليهماالسلام أن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) سابق بين
الخيل وأعطى السوابق من عنده».
الرابع عشر ـ ما رواه في الكتاب المذكور عن أبي البختري (2) «عن جعفر بن
محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عليهمالسلام أن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أجرى الخيل
وجعل لها سبع أواقي من فضة ، وأن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أجرى الإبل
مقبلة من تبوك فسبقت الغضباء وعليها أسامة ، فجعل الناس يقولون :
__________________
(1 و 2) قرب الاسناد ص 42 و 63، الوسائل ج 13 ص 350 ح 3 وص 351
ح 4.
سبق رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ، ورسول الله
(صلىاللهعليهوآلهوسلم) يقول : سبق
أسامة». هذا ما حضرني من الأخبار.
والكلام فيما ذكره الأصحاب (رحمة الله عليهم) فهو يقع في
موارد :
الأول : لا خلاف بين
أصحابنا (رضوان الله عليهم) وغيرهم في ثبوت المسابقة والمراماة وشرعية الجعل
عليها.
قال في التذكرة : جواز هذا العقد بالنص والإجماع ، ولا
خلاف بين الأمة في جوازه ، وان اختلفوا في تفصيله ، وفي المسالك : لا خلاف بين
جميع المسلمين في شرعية هذا العقد ، وفائدته من أهم الفوائد الدينية ، لما يحصل
بها من غلبة العدو في جهاد أعداء الله تعالى الذي هو أعظم أركان الإسلام.
وانما الخلاف عندهم وعند غيرهم أيضا في لزوم هذا العقد
وجوازه ، فذهب جماعة منهم ابن إدريس بل الظاهر أنه أولهم والمحقق إلى الأول ، وذهب
الشيخ والعلامة في المختلف وغيرهما الى الثاني ، وأنه من العقود الجائزة كالجعالة
، لا اللازمة كالإجارة احتج الأولون بقوله (1) «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» و «المؤمنون عند شروطهم» (2).
أجاب في المختلف عن الآية حيث اقتصر على الاستدلال لهم
بها ، بأنا نقول بالموجب فان الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضاه ، فان كان لازما كان
الوفاء به العمل بمقتضاه على سبيل اللزوم ، وان كان جائزا كان الوفاء به العمل
بمقتضاه على سبيل الجواز ، قال : أيضا ليس المراد مطلق العقود ، وإلا لوجب الوفاء
بالوديعة والعارية وغيرهما من العقود الجائزة ، وهو باطل بالإجماع ، فلم يبق إلا
العقود اللازمة ، والبحث وقع فيه ، انتهى.
وأما حديث المشروط فيمكن الجواب عنه بما تقدم في الجواب
عن الآية ، من أنه أعم من اللزوم وعدمه ، بمعنى أنه مأمور بالوفاء بالشرط ، أعم من
أن
__________________
(1) سورة المائدة ـ الاية 1.
(2) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4.
يكون أمرا إيجابيا أو استحبابيا.
نعم يكون لازما إذا وقع في عقد لازم ، وأورد على ما أجاب
به في المختلف بأن الأمر بالعقود عام في جانب المأمور والمأمور به ، فيشمل بعمومه
سائر العقود ثم تخصيصه ببعضها ، وإخراج العقود الجائزة ، يبقى العموم حجة في
الباقي ، كما هو محقق في الأصول.
وأما قوله ان الوفاء بالعقد العمل بمقتضاه من لزوم وجواز
، فهو خلاف الظاهر منه ، فان مقتضى الوفاء بالشيء التزامه والعمل بمقتضاه مطلقا ،
انتهى وهو جيد.
وهكذا يقال : بالنسبة إلى حديث الشرط فإن الأمر بالوفاء
بالشرط يقتضي وجوب الوفاء ، لأن الأصل في الأمر الوجوب ، واشتراكه من الوجوب
والاستحباب لا يثمر نفعا ، فان العمل على ما يقتضيه الأصل حتى يقوم دليل على خلافه
قال في المسالك ومنشأ هذا الخلاف انها عقد يتضمن عوضا على عمل ، وهو مشترك بين
الإجارة والجعالة ثم انها مشتملة على اشتراط العمل في العوض ، وكونه معلوما وهو من
خواص الإجارة وعلى جواز إبهام العامل في السبق ، وعلى ما لا يعلم حصوله من العامل
، وعلى جواز بذل الأجنبي ، وهو من خواص الجعالة فوقع الاختلاف بسبب ذلك ، فعلى
القول بأنها جعالة يلحقها أحكامها من الاكتفاء بالإيجاب تكون جائزة ، وعلى القول
بالإجارة يفتقر معه الى القبول وتكون لازمة ، ويمكن أن يجعل عقدا برأسه ، نظرا الى
تخلف بعض خواصها عن كل من الأمرين على حديه ، كما عرفت ، ويقال حينئذ بلزومها
لعموم الآية ، وهذا أجود ، اللهم إلا أن يناقش في أن الجعالة ليست عقدا فلا يتناول
الآية لها ولنظائرها ، ويرجع الى أصالة عدم اللزوم حيث يقع الشك في كون المسابقة
عقدا أم لا؟ انتهى.
أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار التي قدمناها وهي
أخبار المسئلة التي وردت فيها وليس غيرها في الباب ، أنه لا دلالة في شيء منها
على وقوع عقد
ولا إيجاب ولا قبول بالكلية ، وغاية
ما دلت جملة منها على أن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أجرى الخيل
وسابق وأعطى السابق كذا وكذا ، والمفهوم منه هو حل ما يؤخذ من المال على هذه
المعاملة وأما كونه على جهة اللزوم والوجوب فلا ، إلا إن يقال : بوجوب الوفاء
بالشرط ، وأن إعطاء المال لا يلزم أن يكون من المسبوق ، فان الظاهر أن إعطاءه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ذلك ليس من
حيث كونه مسبوقا ، وانما هو متبرع منه ، لمن حصل له مزية السبق.
وظاهر الأخبار المذكورة بل صريحها أن هذه معاملة برأسها
، وهي من قبيل الرهان ، الا أنه غير محظور كسائر أفراد الرهان ، كما ينادى به
الخبر الرابع والخامس والسادس والسابع والعاشر (1) حيث سمي هذه المعاملة فيها رهانا
وأنه رهان حق جائز شرعا ، يحل ما أخذ عليه قال في القاموس : والمراهنة والرهان :
المخاطرة والمسابقة على الخيل ، انتهى وهو ظاهر في المراد.
وحينئذ فقد اتفقت الأخبار وكلام أهل اللغة على هذه
التسمية ، وتجعل معاملة برأسها كما في أفراد الرهان إلا أنها حق ، وما يؤخذ عليها
حلال ، وما عداها باطل ، وما يؤخذ عليه حرام.
وأما الكلام في لزوم ما يجعل خطرا فالظاهر ذلك ، لما
عرفت من وجوب الوفاء بالوعد والوفاء بالشروط ، هذا ما يفهم من الأخبار المذكورة ،
وما أطالوا به في هذا المقام من الاختلاف في كونها اجارة فيتفرع عليها ما يتفرع
على الإجارة أو جعالة فكذلك ، كله تطويل بغير طائل ، وتحصيل لغير حاصل ، كما لا
يخفى على من لاحظ الأخبار المذكورة ، وانما كلامهم هنا جرى على مجرى بحث العامة في
المسئلة ، وهذه التفريعات والاختلافات كلها تبعا لهم ، كما عرفته في غير مقام مما
سبق ، ومن رجع الى الأخبار الواردة في المسئلة عرف صحة ما قلناه ، ووضوح ما فصلناه
، والله العالم.
__________________
(1) ص 355 و 356.
المورد الثاني : قد صرح
الأصحاب (رضياللهعنهم) بأنه يقتصر
في جواز المسابقة على النصل والخف والحافر وقوفا على مورد الشرع ، وأنه يدخل تحت
النصل السهم والنشاب والحراب والسيف ، وأن الخف يتناول الإبل والفيلة اعتبارا
باللفظ وأنه لا تجوز المسابقة بالطيور ولا على القدم ، ولا بالسفن ولا المصارعة.
أقول : وتحقيق الكلام فيما ذكروه يقع في مقامات أحدها ـ أن
ظاهر قولهم أنه يقتصر على هذه الثلاثة وقوفا على مورد الشرع هو أن هذه المعاملة على
خلاف الأصل ، بمعنى القواعد الشرعية ، لاشتمالها على اللهو واللعب والقمار في بعض
الوجوه ، وهذه الأشياء مما نهت منها الشريعة المحمدية ، فالأصل أن لا يصح منها إلا
ما ورد الشرع بالاذن فيه ، وهو كلام حق ، إلا أنك قد عرفت أن ما قدمناه من الأخبار
قد اشتمل على زيادة الريش والمراد به الحمام ، فيجوز المسابقة بها أيضا ، وعليه
يدل الخبر الخامس والسادس والسابع (1) ، فهذه الأخبار الثلاثة كلها دالة
على جواز المسابقة بالحمام ، والثلاثة التي خصوا الجواز بها لم ترد إلا في الخبر
الحادي عشر (2) خاصة ، والعجب
هنا من قول شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد قول المصنف أنه لا يجوز المسابقة
بالطيور الى آخر ما قدمنا ذكره ، وجه المنع من هذه الأمور الحصر المستفاد من الخبر
السابق المقتضي لنفي مشروعية ما عدا الثلاثة ، والنهي عنه الشامل لهذه الأمور
وغيرها ، انتهى.
وعلى هذا النهج كلام غيره وظاهرهم الاتفاق على الحصر في
الثلاثة المذكورة ، وأن غيرها غير منصوص في الأخبار ، وحملهم على عدم الوقوف على
شيء من هذه الأخبار ـ من الصدر السابق منهم كالشيخ الذي هو أول من صرح بهذا الحكم
الى أن وصلت النوبة إلى هؤلاء المتأخرين ـ لا يخلو من بعد ، وأبعد منه أنهم يقفون
عليها ولا يقولون بها ، ولا يتعرضون للجواب عنها بوجه من الوجوه.
__________________
(1) ص 355.
(2) ص 356.
وأما ما استدل به من الحصر في الخبر المذكور فيمكن الجمع
بينه وبين هذه الأخبار الدالة على جواز المسابقة بها على الحمل على الفرد الضروري
منه الذي يعتد به من حيث يحتاج اليه الجهاد ، ونحوه ، أو يراد باعتبار الغالب ،
فان الغالب من أفراد المسابقة هو هذه الثلاثة ، للعلة المذكورة ، وان جاز السبق في
غيرها والأخبار المذكورة لا يمكن حملها على التقية ، ليتم ما ذكروه ، فان ظاهر
قوله في الحديث السابع قال عمر : هو الشيطان بعد قوله عليهالسلام لا بأس باللعب
بالحمام الظاهر في إرادة المسابقة بها ، يشعر بأن العامة تنكر جواز اللعب
والمسابقة بها ولهذا استدل عليهالسلام على رد كلامهم
بالخبر الذي نقله عن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) الصريح في
جواز المسابقة بها ، ولم أقف لأحد من أصحابنا حتى من متأخري متأخريهم على الجواب
عن هذه الأخبار التي ذكرناها ، ولا على قول أحد منهم بها.
وبالجملة فالظاهر هو القول بما دلت عليه الأخبار
المذكورة ويؤيده ما اشتملت عليه من عدم منافاة ذلك للعدالة وعدم كونه مستوجبا
للفسق ، فان المراد باللعب بالحمام فيها إما المسابقة ، كما هو ظاهر الخبر السابع
، أو الأعم ، وإذا ثبت أن ذلك لا ينافي العدالة وجب الحكم بجوازه ، وأنه لا يكون
من قبيل اللعب واللهو المنهي عنه المخل بالعدالة ، والموجب للفسق اتفاقا ، وهذا
بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ،
ومما يدل على ما قلنا ما رواه زيد النرسي (1) في كتابه «عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : سمعته
يقول إياكم والرهان ، إلا رهان الخف والحافر والريش فإنه يحضره الملائكة».
وثانيها ـ أن ما ذكر
من أنه يدخل تحت النصل الأربعة المعدودة ، ففيه أن ظاهر الصحاح هو اتحاد السهام
والنشاب ، حيث قال : النشاب السهام ، وحينئذ فالعطف هنا يصير من قبيل عطف المرادف.
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 516 الباب 3 ح 1.
وظاهر كلام الشيخ أن هذه التسمية بهذين الاسمين مع كون
المسمى واحدا إنما هو باعتبار اللغات ، فيقال : للنصل نشابة عند العجم ، وسهم عند
العرب ، وحينئذ فيكون العقد دائما هو بهذا الاعتبار ، وزاد الشيخ المرازيق قال وهي
الرد بنيات والرماح والسيوف.
قال في المسالك : اعلم أن حصر النصل فيما ذكر هو المعروف
لغة وعرفا ، فلا يدخل فيه مطلق المحدد كالدبوس وعصى المدافق ، إذا جعل في رأسها
حديدة ونحو ذلك عملا بالأصل السابق ، قال في الصحاح : النصل نصل السهم والسيف
والسكين والرمح ، ويحتمل الجواز بالمحدد المذكور ، اما بادعاء دخولها في النصل أو
لإفادتها فائدة النصل في الحرب ، وقد كان بعض مشايخنا المعتمدين يجعل وضع الحديدة
في عصى المدافق حيلة على جواز الفعل ، نظرا الى دخوله بذلك في النصل ، انتهى.
وثالثها ـ أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم)
فيما ذكر من دخول الإبل والفيلة تحت الخف ، والفرس والبغل والحمار تحت الحافر ،
وانما نقل الخلاف عن بعض العامة في الفيل؟ قال : لأنه لم يحصل به الكر والفر فلا
معنى للمسابقة عليها ، ورد بعموم الخبر ، وكذا نقل الخلاف عن بعضهم في جواز
المسابقة على البغل والحمار ، قال : لأنهما لا تقاتل عليهما غالبا ، ولا يصلحان
للكر والفر ، ورد أيضا بما رد به سابقة.
أقول : لا يخفى أنه بالنظر الى ما قدمنا نقله عنهم ، من
أن فائدة هذا العقد وتعلم السبق والرماية هو الممارسة لذلك ، لأجل جهاد أعداء
الدين ، فان قول هذين القائلين من العامة هنا لا يخلو من قرب ، فان الجهاد لا يقع
على هذه المذكورات لا سابقا ولا لا حقا ، ويؤيده أن الإطلاق في الأخبار انما يحمل
على الأفراد الشائعة المتكثرة الوقوع ، دون الشاذة النادرة الوقوع ، فضلا عن غير
الواقعة بالكلية ، ولهذا ان أمير المؤمنين عليهالسلام كان يركب في
الحرب بغلة رسول الله
(صلىاللهعليهوآلهوسلم) فعوتب على
ذلك ، فقال : اني لا أوفر عن من أقبل ، ولا أتبع من أدبر ، والبغلة يكفني ، وهو
ظاهر فيما قلناه من أنها لا تصلح للجهاد عليها ، ويؤكده أن الأخبار المتقدمة وهي
أخبار المسئلة كملا لا يشمل على غير الخيل ، والنوق من ذوات الحافر والخف ، وليس
فيها تعرض ولا اشارة لمثل الفيل والبغال والحمير بالكلية.
وبالجملة فإنه لولا الاتفاق على الحكم المذكور لكان
القول بما ذكره هؤلاء قويا ، فإن الأخبار إذا ضم مطلقها الى مقيدها علم منه حمل
الحافر على الخيل خاصة ، والخف على البعير خاصة ، وهكذا القول في البغل أيضا ، فإن
ما ذكروه من تعدية الحكم الى ما يصدق عليه النصل من تلك المعاني ، مع كون الوارد
في الأخبار المتقدمة انما هو السهام والنشاب التي ترمى عن القوس بعيد غاية البعد ،
ويؤيد ما قلناه تفسيره في الخبر الحادي عشر الذي هو مستندهم في الحصر في الثلاثة
النصل بالنضال وهي المراماة بالسهام كما تقدم ذكره ، وحينئذ فلو قيل بالتخصيص بذلك
لكان في غاية الجودة.
ورابعها ـ ما ذكر من أنه لا يجوز المسابقة بغير ما تقدم
من الطيور الى آخره.
أقول : أما الكلام في الطيور موضع وفاق عندنا ، وفيه
تأييد لما قدمنا ذكره من عدم المسابقة على الفيلة والبغال والحمير ، لأنها ليست
مما يقع الحرب عليها ، كما قدمنا ذكره.
وأما السبق على القدم فقد روى العامة عن عائشة أنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) سابقها
بالقدم مرتين ، سبق في إحديهما وسبق في الأخرى ، ورواه ابن الجنيد في كتابه
الأحمدي واستدل به على جوازها بغير عوض ، حيث لم يذكر العوض ، ورووا عنه (1) (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أنه صارع
ثلاث مرات في كل مرة على
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 517 الباب 4 ح 2 بتفاوت.
شاة ، فصرع خصمه في الثلاث وأخذ ثلاث
شياه ، ولم يثبت شيء من ذلك في أخبارنا ولم يقل به إلا ابن الجنيد من أصحابنا
قالوا والخبر السابق المتفق عليه يدفعه ، وأشاروا به الى الخبر الحادي عشر (1) وهو خبر الحصر
في الثلاثة ، ثم انهم اختلفوا في جواز هذه الأمور لو خلت من العوض ، فقيل بجوازها
لأصالة الجواز ، وأنها قد يراد بها غرض صحيح ، وقيل : بالعدم لعموم النفي السابق
الشامل للعوض وعدمه.
والذي وقفت عليه في هذا المقام من الأخبار ما رواه الصدوق
في الأمالي عن ابن المتوكل عن السعدآبادي عن البرقي عن أبيه عن فضالة عن زيد
الشحام (2) «عن الصادق عن
آبائه عليهمالسلام قال : دخل
النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ذات ليلة بيت
فاطمة عليهاالسلام ومعه الحسن
والحسين عليهماالسلام فقال له النبي
(صلىاللهعليهوآلهوسلم) قوما فاصطرعا
فقاما ليصطرعا وقد خرجت فاطمة عليهاالسلام في بعض
حاجاتها فدخلت فسمعت النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وهو يقول :
أبه يا حسن شد على الحسين ، فأصرعه ، فقالت يا أبه وا عجباه أتشجع الكبير على
الصغير؟ فقال : يا بنية أما ترضين أن أقول أنا يا حسن شد على الحسين ، فأصرعه وهذا
حبيبي جبرئيل عليهالسلام يقول : يا
حسين شد على الحسن فأصرعه».
وما رواه علي بن جعفر (3) في كتاب
المسائل عن أخيه موسى عليهالسلام قال : سألته
عن المحرم هل يصلح أن يصارع؟ قال : لا يصلح مخافة أن يصيبه جرح أو يقع بعض شعره.
وما رواه في كتاب بشارة المصطفى لشيعة المرتضى للشيخ
الفقيه محمد بن أبى القاسم علي الطبري بسنده فيه عن أبي رافع (4) قال : كنت
ألاعب الحسن
__________________
(1) ص 356.
(2) المستدرك ج 2 ص 517 الباب 4 ح 1.
(3) الكافي ج 4 ص 367 ح 10 ، الوسائل ج 9 ص 180 الباب 94 ح 2.
(4) المستدرك ج 2 ص 517 الباب 4 ح 3.
بن علي (صلوات الله عليهما) وهو صبي
بالمداحي (1) فإذا أصابت
مدحاتي مدحاته قلت : احملني فيقول : ويحك أتركب ظهرا حمله رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فأتركه فإذا
أصاب مدحاته مدحاتي ، قلت له : لا أحملك كما لم تحملني فقال : أما ترضى أن تحمل
بدنا حمله رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فأحمله».
وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في الجواز فيما اختلفوا فيه
، ولم أقف فيما حضرني من كتب اللغة على المعنى المراد من المدحاة هنا ، وبعض
الأصحاب قد فرع الكلام على لفظ السبق في الخبر الحادي عشر ، فان قرئ بفتح الباء
وهو المشهور في الرواية على ما نقله في المسالك فإنه يفيد عدم مشروعية العوض إلا
في الثلاثة المذكورة ، ولا تعرض في الخبر حينئذ لما عدا صورة الخطر والعوض ، فيبقى
على أصالة الجواز ، وان قرئ بالسكون على أن يكون مصدرا فإنه يفيد نفي المصدر مطلقا
، فيدل على المنع عدا المستثنى مطلقا.
وأنت خبير ، بأنه باعتبار تعارض الاحتمالين المذكورين لا
يمكن الاستدلال بالخبر على المنع ، فتبقى أصالة الجواز خالية من المعارض ، وتخرج
الأخبار المذكورة شاهدا على ذلك ، مضافا الى ما ذكر من الفوائد المترتبة عليها.
المورد الثالث : في أسماء خيل
الحلبة وأسماء السهام وما يتبع ذلك ويلحق به ، والكلام هنا يقع في مواضع أيضا :
الأول ـ ينبغي أن يعلم ان الحلبة وزان سجدة هي الخيل
تجمع للسباق وقد جرت عادتهم بتسمية غيره من خيل الحلبة ، وليس لما بعد العاشر منها
اسم ، إلا أن الذي يجيء في آخر الخيل كلها يسمى الفسكل.
فأول العشرة ، المجلى بالجيم وهو السابق أولا قيل سمى
بذلك لأنه جلي عن
__________________
(1) النهاية الأثيرية ج 2 ص 106 ومنه حديث أبى رافع «كنت الاعب
الحسن والحسين (عليهماالسلام) بالمداحي وهي أحجار أمثال القرصة ،
كانوا يحفرون حفيرة ويدحون فيها بتلك الأحجار ، فإن وقع الحجر فيها قد غلب صاحبها
، وان لم يقع غلب ، والدحو : رمى اللاعب بالحجر والجوز وغيره.
نفسه أي أظهره أو جلي همه حيث سبق ،
والمشهور أن السبق يحصل بالتقدم بعنق دابته ، وكتدها يفتح التاء المثناة من فوق
وكسرها ، وهي العالي بين أصل العنق والظهر ، ويعبر عنه بالكاهل ، وقال في الروضة :
والكتد بفتح الفوقانية أشهر من كسرها مجمع الكتفين بين أصل العنق والظهر ، نقل عن
ابن الجنيد أنه يكتفى في التقدم بالاذن
لقوله (1) (صلىاللهعليهوآلهوسلم) «بعثت والساعة
كفرسي رهان».
كاد أحدهما أن يسبق الآخر بأذنه ، وأجيب مع تسليم ثبوت
الخبر بالحمل على المبالغة ، وأن ذلك خرج مخرج ضرب المثل على حد
قوله من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في
الجنة ، (2).
مع امتناع مسجد كذلك.
ثم المصلي ، وسمى بذلك لأنه يحاذي برأسه صلوي المسابق ،
والصلوان عبارة عن العظمين النابتين عن يمين الذنب وشماله.
ثم الثالث ، ووجه التسمية فيه ظاهر ، ثم البارع لأنه برع
المتأخر عنه ، أي فاقة ، ثم المرتاح ، وهو الخامس قيل : سمي به لأن الاتاح النشاط
، فكأنه نشط فلحق بالسوابق ، ثم الخطى وهو السادس لانه خطى عند صاحبه حتى لحق
السوابق أي صار ذا خطوة عنده الى نصيب أو في مال الرهان ، ثم العاطف وهو السابع ،
لأنه عطف الى السوابق أي مال إليها ، وكر عليها ليلحقها ، ثم المؤمل وهو الثامن
لأنه يؤمل اللحوق بالسوابق ، ثم اللطيم وهو التاسع ، وزان فعيل بمعنى مفعول ، لأنه
يلطم إذا أراد الدخول إلى الحجرة الجامعة للسوابق ، ثم السكيت مصغرا مخففا ، ويجوز
تشديده ، وهو العاشر سمى به لسكوت صاحبه إذا قيل لمن هذا أو لانقطاع العدد ، وقيل
: ان السكيت هو الفسكل وهو آخر فرس يجيء في الرهان.
قالوا : والمحلل وهو الذي يدخل بين المتراهنين ، ولا
يبذل معهما عوضا بل
__________________
(1) مسند احمد بن حنبل ج 5 ص 331 وفيه مثلي ومثل الساعة كمثل
فرسي رهان وفي الجامع الصغير ج 1 ص 126 «بعثت أنا والساعة كهاتين» وما عثرنا على
نص الرواية المنقولة في المتن.
(2) الوسائل ج 2 ص 486 ح 2.
يجرى فرسه بينهما أو على أحد الجانبين
على وجه يتناوله العقد ، وحكمه أنه ان سبق أخذ العوض المبذول للسابق ، وان سبق لم
يغرم شيئا ، وسمى محللا لأن العقد لا يحل بدونه عند ابن الجنيد والشافعي ، أو يحل
به إجماعا بخلاف ما إذا خلى عنه ، فان فيه خلافا ، وسيأتي الكلام فيه ، ان شاء
الله تعالى.
قالوا : والغاية مدى السباق ، ولا ريب أن غاية الشيء
منتهاه ، ومد السباق وان كان المتبادر منه مسافة السباق التي تجري فيها الخيل إلا
أن المراد به لغة وعرفا انما هو بمعنى الغاية كما ذكروه ، فالمراد من مد السباق
منتهاه وغايته ، لا مسافته ، فان في القاموس المدى كالفتى الغاية ، وقال في كتاب
المصباح المنير :
والمدى بفتحتين الغاية ، وبلغ مدى البصر : أي منتهاه
وغايته.
ثم اعلم أنه قد عنون أكثرهم هذا الكتاب بكتاب السبق
والرماية ، ومنهم المحقق في الشرائع ، وهو ظاهر في اختصاص السبق بالخيل والإبل ،
والرماية بالسهام ، مع أنه قال بعد ذلك والمناضلة المسابقة ، والمراماة والمناضلة
لغة انما هي الرمي ، قال الجوهري : ناضله أي راماه ، ويقال : ناضلت فلانا فنضلته ،
إذا غلبته ، وانتضل القوم وتناضلوا أي رموا للسبق.
وقال في كتاب المصباح المنير : «ناضلته مناضلة ونضالا راميته
، فنضلته نضلا من باب قتل غلبته في الرمي» ، وهو ظاهر في تخصيص المناضلة بالرمي ،
ولهذا قال في المسالك : وأما إطلاق المناضلة على ما يشمل المسابقة فليس بمعروف لغة
ولا عرفا ، ولعل المصنف ومن تبعه في ذلك تجوزوا في الإطلاق ، وبعض الفقهاء عنون
الكتاب بالمسابقة والمناضلة ، وهو الموافق لما نقلناه عن أهل اللغة ، ويشير الى
ذلك كلامه في التذكرة حيث قال : والسباق اسم يشمل المسابقة بالخيل حقيقة وعلى
المسابقة بالرمي مجازا ، ولكل واحد منهما اسم خاص ، فيختص الخيل بالرهان ويختص
الرمي بالنضال ، وهو ظاهر في أن المناضلة حقيقة انما هي بمعنى الرمي.
الثاني ـ اعلم أن الفقهاء من الخاصة والعامة ذكروا في هذا الكتاب جملة من الاصطلاحات في أسماء السهام ، وما يتعلق بالرمي وهو مؤيد لما قدمناه من أن المراد بالنصل في الخبر المتقدم إنما هو هذا الفرد ، لا ما يطلق عليه لغة كما ذكروه.
قالوا : والرشق بفتح الراء الرمي ، وهو مصدر رشقه يرشقه
رشقا ، إذا رماه بالسهام ، وبالكسر عدد ما يرمى به من السهام ، يقال : رمى رشقا
بكسر الراء أي رمى بسهامه التي يريد رميها كلها.
قال في المصباح المنير : رشقته بالسهم رشقا من باب قتل ،
وأرشقته بالألف لغة رميته به ، والرشق بالكسر الوجه من الرمي إذا رمى القوم
بأجمعهم جميع السهام وحينئذ يقال : رمى القوم رشقا ، قال ابن دريد : الرشق السهام
نفسها التي ترمي والجمع ارشاق مثل حمل وأحمال ، انتهى.
ولو حصل الاتفاق على رمي خمسة خمسة فكل خمسة يقال لها
رشق ، ونقل عن بعض أهل اللغة أنه خصه ما بين العشرين والثلاثين ، ويقال رشق وجه
ويد بكسر الراء ، ويراد به الرمي ولاء حتى يفرغ الرشق ، قال في المسالك : بمعنى
أنه مشترك بين العدد الذي يتفقان عليه ، وبين الوجه من الرمي لذلك العدد ، فكما
يقال : رموا رشقا أو عددا اتفقوا عليه ، كذلك يقال : رموا رشقا إذا رموا بأجمعهم
في جهة واحدة.
قال الجوهري : الرشق الاسم ، وهو الوجه من الرمي ، فإذا
رمى القوم بأجمعهم في جهة واحدة قالوا : رمينا رشقا ، والمراد برشق اليد هذا
المعنى أيضا ، وإضافته إلى اليد ، كاضافته الى الوجه ، فيقال : رشق يد ورشق وجه
إذا كانت جهة الرمي واحدة ، ويمكن مع ذلك إضافته إليهما كما يظهر من كلامهم.
الثالث ـ قد ذكر الفقهاء للسهم عند الإصابة للغرض أو صافا فنقل عن التذكرة أنه ذكر فيها أحد عشر اسما : وفي التحرير ستة عشر اسما ، ونقل في المسالك عن كتاب فقه اللغة تسعة عشر اسما ، وذكر المحقق في الشرائع منها ستة ، لكن ذكر الخمسة الأول جازما بالتسمية ، وأما السادس فنسبه إلى القول بذلك فقال : ويقال المزدلف ، وفي المسالك أنه ذكر ستة أوصاف وأردفها بسابع ، والمذكور انما هو خمسة ، كما سنذكره ان شاء الله تعالى واحدا واحدا وأردفها بسادس.
قال في المسالك : والغرض من ذلك اعتبار صفة في عقد
الرماية ، فلا يستحق العوض المشروط أن يصيبه بما هو أبلغ منه.
أقول : ومما ذكره المحقق المشار اليه من الأسماء أحدها –
الحابي بالياء أخيرا ، قال في كتاب المصباح : حبا الصبي يحبو حبوا إذا أدرج على
بطنه وحبا الشيء دنا ، ومنه حبا السهم الى الغرض وهو الذي يزحف الأرض ثم يصيب
الهدف فهو حاب وسهام حواب ، انتهى.
والمراد أنه يقع دون الهدف ثم يحبو الى الغرض فيصيبه ،
وقوله زلج على على الأرض أي زلق قال في القاموس الزلج محركة الزلق ويسكن ، وفي
الصحاح مكان زلج بسكون اللام وتحريكها أى زلق والزلج الزلق وسهم زالج أي يزلج عن
القوس.
وثانيها – الخاصر بالخاء المعجمة ثم الصاد المهملة ، وهو
الذي يصيب أحد جانبي الغرض ، مأخوذ من الخاصرة ، لأنها في أحد جانبي الإنسان ، فهو
بإصابته أحد جانبي الغرض كأنه أصابه في الخاصرة ، ولم أقف فيما حضرني من كتب اللغة
على هذه التسمية ، سيما القاموس المحيط بجميع المعاني ، وان كانت موجودة في كتب
الفقهاء ، قيل ويسمى أيضا جابرا ، وقيل : الجابر ما سقط من وراء الهدف ، وقيل : ما
وقع في الهدف من أحد جانبي الغرض ، فعلى هذا ان كانت الإصابة مشروطة في الغرض
فالجابر مخطئ ، وان كانت مشروطة في الهدف فهو مصيب.
أقول : ولم أقف أيضا على هذا الاسم أي نحو كان من هذه
المعاني في القاموس ولا غيره مما حضرني من كتب اللغة.
وثالثها – الخازق بالخاء والزاي المعجمتين ، قالوا : وهو ما يخدش الغرض ، وظاهره أنه يثقب فيه ، وبذلك صرح في القواعد فقال : الخازق ما خدشه ، ثم وقع بين يديه ، وفي التحرير أنه ما خدشه ولم يثقبه ، الا أن كلام أهل اللغة على خلاف ذلك فإنهم صرحوا بأنه الذي ينفذ في الغرض ، قال في كتاب المصباح المنير وخزق السهم القرطاس : نفذ منه فهو خازق ، وجمعه خوازق ، والمراد بالقرطاس هنا الغرض ، أعم من أن يكون قرطاسا أو غيره ، مما ستقف عليه ان شاء الله تعالى.
وفي النهاية الأثيرية خزق السهم ، وخسق : إذا أصاب
الرمية ونفذ فيها ، وسهم خازق وخاسق.
وظاهر الصحاح والقاموس هو مجرد الإصابة ، وهو أعم
الأقوال الثلاثة ، قال في الصحاح في باب السين يسمى الغرض قرطاسا ، يقال : رمى
مقرطس إذا أصابه ، وفي القاموس خزقه يخزقه طعنه ، والخازق السنان ، ومن السهام
المقرطس ، وقال في الصحاح أيضا الخازق من السهام المقرطس ، والخاسق لغة في الخازق
، وهو موافق لما تقدم نقله من النهاية من ترادف هذين اللفظين ، ونقل في المسالك عن
الثعالبي في كتاب سر العربية إذا أصاب الهدف فهو مقرطس ، وخازق ، وخاسق وصائب وهذا
أيضا أعم من أن يخدشه أم لا ، ويثبت فيه أم لا ، وهو موافق لما تقدم نقله عن
الصحاح والقاموس.
ورابعها – الخارق بالخاء المعجمة والراء المهملة ، وهو الذي يخرج من الغرض نافذا وهذا المعنى موافق لما هو المفهوم من حاق هذا اللفظ عرفا ولغة ، لأن الخرق الثقوب والشق ، سواء نفذ فيه أو سقط منه ، الا أن هذا الاسم غير موجود في جملة الأسماء المعدودة للسهام في غير هذا الكلام ، كما اعترف به في المسالك حيث قال بعد ذكر المصنف له وكلام في البين : لكنه ليس من أسمائه لغة ولم يذكره أحد من أصحاب الكتب الأربعة اللغوية السابقة ، ولا غيرهم ممن وقفت على كلامه ، وفي بعض نسخ الكتاب المارق بالميم بدل الخارق ، وهو الصواب الموافق لكلام أهل اللغة لقبا وتعريفا وفي التحرير جعل الخارق بمعنى الخاسق ، وقد تقدم وجعل الخازق بالزاي المعجمة مغايرا له كما مر خلاف ما ذكره أهل اللغة ، ولو حمل في كلامه الخارق بالراء المهملة على الخازق بالزاء المعجمة ليكون مرادفا للخاسق كان موافقا لكلام أهل اللغة ، لكن ذكره بعد ، ذلك الخازق وتعريفه بأنه ما خدشه ولم يثقبه ، يوجب تعيين كونه بالزاء المعجمة لا الراء إذ لم يحصل فيما ذكره خرق ، والذي يظهر أنه وقع في التحرير ضرب من التصحيف والسهو عن تحرير كلام أهل اللغة ، لأن جعله الخازق مرادفا للخاسق موافق لكلام أهل اللغة ، لكن بشرط كونه بالزاء المعجمة ، ثم لما ذكر الخازق بعد ذلك كان حقه أن يكون بالمهملة فعرفه بما ينافي ذلك ، ويوافق تعريف المصنف في الخازق بالمعجمة ، فوقع الاضطراب ، وفي التذكرة جعل الخارق ما أثر فيه ولم يثبت ، والخاسق ما ثقبه وثبت فيه ، كما ذكره المصنف هنا في الخازق بالمعجمة ، فجعلهما متغايرين ، ولم يتحقق منه ضبط الراء ، ولا ذكر الأمرين ، فالالتباس فيه أشد لأنه ان جعل بالراء وافق كلام التحرير وخالف مفهومه لغة ، وان جعل بالزاء وافق كلامه في القواعد ، وكلام المصنف هنا ، وخالف كلامه أهل اللغة ، انتهى كلامه (زيد مقامه).
وخامسها – الخارم بالخاء المعجمة وهو الذي يخرم حاشية
الغرض بأن يصيب طرفه فلا يثقبه ولكن يخرمه.
قال في المسالك أيضا : وهذا الاسم لم يذكره أيضا أهل
اللغة ، وان كان مناسبا له ، وقد ذكروا للسهم أسماء أخر غير ما ذكر ، فتركنا ذكرها
تبعا لاختصاره ، هذا ما ذكره المحقق في الشرائع.
ثم قال : ويقال المزدلف الذي يضرب الأرض ، ثم يثيب الى
الغرض ، ونسبته الى القول المجهول ـ وعدم نظمه في سلك الخمسة المتقدمة ـ يؤذن بنوع
توقف فيه ، وهذا هو السادس الذي أشرنا إليه آنفا ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا
في المسالك الذي قدمنا ذكره ، من أن المصنف ذكر هنا ستة ، وأردفها بسابع ، بل
المذكور فيه انما هو خمسة ، مردفة بالسادس كما ذكرناه ، وأصل الازدلاف
التقدم ، وخصه هنا بما يقع على الأرض
ثم يتقدم الى الغرض ، وعلى هذا يكون مرادفا للحابى ، وبذلك صرح في القواعد أيضا ،
فقال بعد تعريف الحابى : وهو المزدلف ، إلا أن المفهوم من كلام المحقق حيث ذكر
الحابى أولا جازما به ، وذكر المزدلف أخيرا ناسبا له الى قيل : هو المغايرة ، ولعل
ذلك بقوة الوقوع على الأرض في المزدلف أخيرا ناسبا له الى قيل : هو المغايرة ،
ولعل ذلك بقوة الوقوع على الأرض في المزدلف للتعبير عنه بالضرب المقتضى لقوة
اعتماده ، وضعفه في الحابي حيث اقتصر على مجرد زلفه على الأرض ، وبذلك يحصل
التباين ، وهو الظاهر من التذكرة على ما نقل فيها حيث قال : فيها ان المزدلف أشد ،
والحابى أضعف.
الرابع ـ قال : الغرض ما يقصد اصابته وهو الرقعة والهدف
ما يجعل فيه الغرض من تراب وغيره ، وذلك فإنهم يرتبون ترابا أو حائطا ينصب فيه
الغرض فيسمون ذلك التراب أو الحائط هدفا وما يصنعونه فيه من جلد أو قرطاس أو نحو
ذلك لأجل الرمي يسمونه غرضا ، وبعضهم كما عرفت آنفا يسمى المنصوب في الهدف قرطاسا
، سواء كان كاغذا أو غيره ، وهو ظاهر في مرادفة الغرض والقرطاس ، وقد تقدم نقل ذلك
عن المصباح المنير والصحاح.
وقد يجعل في الغرض نقش كالهلال يقال له الدائرة ، وفي وسطها شيء آخر يقال له الخاتم ، والغرض من بيان الغرض والهدف والدائرة هو أن كلا من هذه الأشياء المذكورة محل للإصابة ، وربما كان شرط الإصابة وغرضها يتعلق بكل واحد من هذه المذكورات ، فان الإصابة في الهدف أو في الدائرة أضيق ، وفي الخاتم أدق ، وهذه المذكورات اصطلاح الرماة ، وعليها جرى الفقهاء في هذا الكتاب وأما المذكور في اللغة فإنه ظاهر في المرادفة بين الغرض والهدف ، قال في كتاب المصباح المنير : الغرض : الهدف الذي يرمي اليه ، والجمع أغراض وقال في القاموس : الغرض محركة الهدف يرمى فيه ، وفي الصحاح : الغرض : الهدف الذي يرمي فيه ، ثم انهم قالوا : المراماة قسمان مبادرة ومحاطة ، والمراد من المبادرة أن يتفقا على رمي عدد معين كعشرين سهما مثلا ، فمن بدر إلى إصابة عدد معين منها كخمسة ، فهو ناضل ، لمن لم يصيب أو أصاب ما دونه ، والمراد من المحاطة بتشديد الطاء أن يقابل أصابتهما من العدد المشترطة ويطرح المشترك من الإصابات : فمن زاد فيها بعدد معين كخمسة مثلا فناضل للآخر فيستحق المال المشروط في العقد.
أقول : والظاهر أن هذا أيضا من اصطلاح الرماة ، وعليه جرى الفقهاء ، فإنه لا وجود له في كلام أهل اللغة ، ولا في الأخبار التي قدمناها ، ولو بالإشارة ، وحيث أن جميع ما ذكر في هذا الكتاب زيادة على ما قدمناه كله من هذا القبيل ، فليس في ذكره إلا مجرد التطويل ، رأينا الاعراض عن التعرض له ، أوفق بالوقوف على الدليل ، والاشتغال بما هو أهم أولى وأتم ، سيما مع ندور وقوع المسابقة والمراماة في هذه الأوقات ، بل عدمها لعدم ما يترتب عليها من الفائدة في جملة الأزمان والإناث ونحن قد ذكرنا منها ما يتعلق بالأخبار التي قدمناها في المقام ، وما عداه مما لا نص عليه فهو عندنا في قالب الاعدام ، والله الهادي لمن يشاء.