ج22 - أحكام الوصية
المقصد الرابع
وفيه مسائل الاولى : من المقرر
في كلامهم أنه لا يشترط في الموصى به كونه موجودا بالفعل وقت الوصية ، بل لو أوصى
بما تحمله الدابة أو الشجرة في هذه السنة أو السنة المستقبلة ، فإنه يصح ، إلا أنه
لو أشار الى معين وأوصى بجملة الموجود ـ أو أوصى بالجمل الموجود لأمته أو بحملها
مطلقا في مقام تدل القرينة على ارادة الموجود ـ وبالجملة فإن الوصية تعلقت بما هو
موجود ، فإنه يشترط أن يكون موجودا حال الوصية ، ولو بمقتضى الظاهر شرعا فلو كان
الحمل لأمة ولدته لأقل من ستة أشهر وهي أقل الحمل من حين الوصية ، علم كونه موجودا
البتة ، ولو ولدته لأكثر من أقصى الحمل من حين الوصية تبين بطلانها ، لتبين عدم
كونه موجودا حين الوصية ، لأنه إذا كان المدة من حين الوصية قد انقضت ، ومضت من
حين الوطي المتولد منه الحمل قبل الوصية.
__________________
(1) سورة البقرة ـ الاية 180.
ولو ولدته فيما بين أقصى مدة الحمل وأقله ، احتمل وجوده
حال الوصية وعدمه ، قالوا : وينبغي أن ينظر حينئذ ، فإن كانت الأمة فراشا بحيث
يمكن تجددة بعد الوصية لم يحكم بصحتها ، لأن الأصل عدم تقدم حال الوصية ، وان لم
يكن فراشا بأن فارقها الواطئ المباح وطؤه لها من حين الوصية حكم بوجوده ، عملا
بالظاهر ، وأصالة عدم وطئ غيره فيحكم به للموصى له.
هذا مقتضى كلامهم كما صرح به في المسالك وغيره ، وربما
قيل : بأن الظاهر الغالب انما هو الولادة لتسعة أشهر تقريبا ، فما تولد قبلها يظهر
كونه موجودا ، وان كان لها فراش ، وان الخلية يمكن وطئها محللا بالشبهة ، ومحرما
لو كانت كافرة ، إذ ليس فيها محذور بعد الصيانة ، بخلاف المسلمة ، ودفعه في
المسالك بأن الحكم السابق مرتب على الأصل المقدم على الظاهر عند التعارض ، إلا
فيما شذ.
وبالجملة فالمسئلة حينئذ من باب تعارض الأصل والظاهر ،
فلو رجح مرجح الظاهر عليه في بعض مواردها كما يتفق في بعض نظائره لم يكن بعيدا ،
ان لم ينعقد الإجماع على خلافه ، وكيف كان فلا خروج عما عليه الجماعة ، انتهى.
أقول : أنت خبير بأن المسئلة خالية من النصوص ، والدليل
الشرعي بالعموم والخصوص ، فالحكم في هذه الصورة الثالثة محل الاشكال ، ثم انه
ينبغي أن يعلم أن فرض المسئلة المذكورة في ولد الأمة مبنى على كون الحمل مملوكا ،
وهو إما بكون الزوج مملوكا قد شرط مولى الجارية على مولاه رق الولد ، أو يكون
الزوج مملوكا للموضي ، وقد شرط على مولى الجارية رق الولد ، أو كون الزوج حرا على
القول بجواز شرط رقية الولد.
ولو كان الحمل لغير الأمة من البهائم قال في المسالك :
صح أيضا واشترط وجوده حال الوصية كحمل الأمة ، إلا أن العلم به لا يتقيد بولادته
قبل ستة أشهر ، ولا انتفاء وجوده حالتها يعلم بتجاوز العشرة ، لاختلاف الحيوان في
ذلك اختلافا
كثيرا ، والمرجع فيها إلى العادة
الغالبة لعدم ضبط الشارع حملها ، كالآدمي ويختلف العادة باختلاف أجناسه ، فان
للغنم مقدارا معلوما عادة ، وللبقر مقدارا زائدا عنه ، وكذا الخيل وغيرها من
الحيوان ، فيرجع فيه الى العادة ، لأنها المحكمة عند انتفاء الشرع ، وحيث يقع الشك
في الموجود حالة الوصية لا يحكم بصحتها ، ويشكل مع هذا حمل الآدمي على المتيقن ،
والحيوان على الغالب ، لاشتراكهما في المقتضي على التقديرين ، انتهى.
تنبيه :
قد عرفت أنه لا يشترط في الموصى به كونه موجودا حال
الوصية ، فتجوز الوصية بالجدد مما تحمله المملوكة أو الشجرة ، أعم من أن يكون
مضبوطا بمدة كالمتجدد في هذه السنة ، أو خمس سنين أو مضبوطا بعدد كأربعة ، أو يكون
مطلقا ، وعاما يتناول لجميع ما يتجدد من الأمة أو الشجرة مدة وجودهما ، كقوله كل
حمل متجدد وكل ثمرة يتجدد دائما ونحو ذلك ، وكذا لا فرق في المضبوط بين أن يتصل
بالموت أو يتأخر عنه ، كالسنة الفلانية مما يتجدد من السنين بعد الموت.
المسئلة الثانية : إذا أوصى له
بالمنافع كخدمة عبده ، أو غلة بستانه ، أو سكنى داره ، أو ثمرة شجرته ، على
التأبيد أو مدة معينة قيل : قومت المنفعة ، فإن خرجت من الثلث ، وإلا كان للموصى
له ما يحتمله الثلث.
أقول : أما ما يدل على جواز الوصية بالمنافع مضافا الى
الاتفاق على ذلك فمنه رواية جعفر بن حيان (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أوقف
غلة له على قرابة من أبيه وقرابة من أمه وأوصى لرجل ولعقبه من تلك الغلة ليس بينه
وبينه قرابة ، بثلاثمائة درهم كل سنة ، ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته
من أمه ، قال : جائز للذي أوصى له بذلك ، قلت : أرأيت ان لم
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 35 ح 29 ، الوسائل ج 13 ص 306 ح 8.
يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة
درهم ، فقال : أليس في وصيته أن يعطى الذي أوصى له من الغلة ثلاثمائة درهم ويقسم
الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أمه ، قلت : نعم ، قال : ليس لقرابته أن
يأخذوا من الغلة شيئا حتى يوفي الموصى له ثلاثمائة درهم ، ثم لهم ما بقي بعد ذلك»
الحديث.
وقال في كتاب الفقه الرضوي (1) : «وإذا أوصى
لرجل بسكنى دار فلازم للورثة أن تمضى وصيته ، وإذا مات الموصى له رجعت الدار
ميراثا لورثة الميت».
وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن سعد بن الأحوص (2) «قال سألت أبا
الحسن عليهالسلام عن رجل أوصى
الى رجل أن يعطى قرابته من ضيعته كذا وكذا جريبا من طعام ، فمرت عليه سنون لم يكن
في ضيعته فضل بل احتاج الى السلف والعينة أيجري على من أوصى له من السلف والعينة
أم لا؟ فإن أصابهم بعد ذلك يجرى عليهم لما فاتهم من السنين الماضية أم لا؟ فقال :
كأني لا أبالي أن أعطاهم أو أخر ، ثم يقضي» الحديث.
ولفظ «كأني» ليست في رواية الكافي ، وأما ما ذكره من
تقديم المنفعة إلى آخر ما تقدم ذكره فالغرض منه بيان كيفية احتساب المنفعة ،
وإخراجها من الثلث ، وهذا في المنفعة الموصى بها إذا لم تكن مؤبدا ظاهر ، لا خلاف
فيه ، لأن العين تبقى لها قيمة معتبرة بعد إخراج تلك المنفعة ، فتقوم المنفعة على
الموصى له ، والأصل بما بقي فيه من المنافع على الورثة ، فإذا أوصى بمنفعة العبد
مثلا خمس سنين ، قوم العبد بجميع منافعه ، وإذا قيل : قيمته مائة دينار ، قوم مرة
أخرى مسلوب المنفعة تلك المدة ، وإذا قيل : قيمته خمسون ، فالتفاوت خمسون حينئذ ،
وهي التي تخرج من الثلث ، وتجعل ثلثا بالنسبة الى ما في يدي الورثة ، فلا بد أن
يكون بيد الورثة حينئذ مائة منها ، رقبة العبد التي
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 515 الباب 3 من كتاب السكنى.
(2) الكافي ج 7 ص 64 ح 24 مع اختلاف يسير ، التهذيب ج 9 ص 237
ح 922 الوسائل ج 13 ص 481 ح 1.
قيمتها خمسون في المثال المذكور ،
وانما الخلاف في المنفعة المؤبدة ، وقد اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة ، والسبب في
هذا الاختلاف ـ مع عدم النص ـ خلو العين من المنافع عند بعض ، فالوصية بمنافعها في
قوة الوصية بها ، وثبوتها عند بعض كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى بيانه ، وقد نقل
هذه الأقوال الثلاثة الشيخ في المبسوط ومن تأخر عنه ، والظاهر أنها كلها للعامة.
أحدها ـ أن تقوم العين بمنافعها ويخرج مجموع القيمة من
الثلث ، فان خرجت من الثلث لزمت الوصية في منفعتها ، وان لم تخرج من الثلث وضاق
الثلث عنها لزمت الوصية في القدر الذي يخرج منه ، فيكون للموصى له من العبد بقدر
ما يخرج من الثلث ، والباقي للورثة.
احتج من قال بهذا القول : بأن استحقاق المنفعة على
التأبيد بمنزلة إتلاف الرقبة ، لأن الغرض من الأعيان انما هو المنافع ، فيجب أن
تقوم الرقبة ، ولأن تقويم المنفعة متعذر لأنها غير معلومة ، ولا محدودة لأن مدة
العمر غير معلومة فلا يمكن تقويمها إلا بتقويم العين ، وبالجملة فإنها لسلب جميع
منافعها قد خرجت عن التقويم ، فقد فات على الورثة جميع القيمة ، فكانت العين هي
الغاية.
وثانيها ـ تقويم المنفعة من الثلث على الموصى له ،
والرقبة على الورثة ، وان كانت مسلوبة المنافع ، ومرجعه الى أن المعتبر ما بين
قيمتها بمنافعها أو قيمتها مسلوبة المنافع ، وعلى هذا تحسب قيمة الرقبة عن التركة.
احتج القائل بهذا القول بأن الرقبة تنتقل إلى الورثة كما
تنتقل المنفعة الى الموصى له ، فوجب أن يقوم على من انتقلت اليه ، وبأن الوارث
يقدر على الانتفاع بها بالعتق لو كان مملوكا ، وبيعها عن الموصى له أو مطلقا ،
وهبتها ، والوصية بها ، فلا وجه لاحتسابها على الموصى له كما ادعاه القائل الأول ،
ويمكن الانتفاع من البستان بما ينكسر من جزوعه وييبس ، ومن الدار بآلاتها إذا خربت
وخرجت عن صلاحية السكنى ، ولم يعمرها الموصى له بمنفعتها ، فحينئذ
تقوم العين بما لها من المنافع مع
صلاحيتها لما ذكرناه من المنافع المعدودة في كل بنسبته ، فإذا قيمتها على الأول
مائة درهم ، وعلى الثاني عشرة دراهم ، علم أن قيمة المنفعة الموصى بها تسعون ،
فيجب أن يكون مع الورثة ضعفها ، ومن جملته الرقبة بعشرة ، قال في المسالك ، وهذا
هو الأصح.
وثالثها ـ تقويم المنفعة على الموصى له فتحتسب من الثلث
، وأما الرقبة فلا تقوم على الموصى له ، ولا على الورثة ، أما الموصى له فظاهر ،
لأنها ليست له وأما الوارث فللحيلولة بينه وبينها ، وسلب قيمتها بسلب منافعها
فكأنها تالفة.
ومنه يعلم وجه الاحتياج على القول المذكور ، ومرجعه الى
أن الرقبة لا قيمة لها من حيث سلب منافعها ، فتكون من قبيل الحشرات ونحوها مما لا
قيمة فيه ، وما لا قيمة له لا معنى لاحتسابه على أحد ، وفيه ما عرفت في توجيه
القول الثاني.
تذنيب :
يشتمل على مسئلتين : الاولى : قالوا : إذ
أوصى بخدمة عبد بعد مدة معينة ، فنفقته على الورثة ، لأنها تابعة للملك. ولا إشكال
في الحكم المذكور لو كانت المنفعة الموصى بها معينة بوقت ، ولا ريب ولا خلاف في
بقاء العين على ملك الورثة ، والنفقة تابعة للملك.
وانما الكلام فيما إذا كانت المنفعة الموصى بها مؤبدة ،
فمن الذي تلزمه نفقة العبد ، قيل : فيه وجوه.
أحدها ـ وهو اختياره في المسالك أنه الوارث ، لما ذكر من
أنها تابعة للملك ، والوارث هو المالك للرقبة ، وهذا القول يتفرع على القول الثاني
من الأقوال الثلاثة المتقدمة ، ولهذا انه في المسالك اختار هنا كونها على الوارث
الذي هو المالك ، لاختياره في ذلك القول بتقويم العين على الورثة ، وأنها تكون
ملكا لهم.
الثاني ـ أنه الموصى له ، لكونه مالكا للمنفعة مؤبدا ،
وهذا الوجه مما يتفرع على القول الأول من الأقوال المتقدمة ، فينبغي أن يعلل وجوب
النفقة على الموصى له بما علل به تقويم العين عليه ، وعلل هنا زيادة على ذلك بأنه
لما كان مالكا للمنفعة مؤبدا كان كالزوج ، ولأن نفعه له ، فكان ضرره عليه ،
كالمالك لهما جميعا ، ولأن إثبات المنفعة للموصى له ، والنفقة على الوارث إضرار به
منفي ، ورد هذا التعليل المذكور هنا بأن ملك المنفعة لا يستتبع النفقة شرعا
كالمستأجر ، والقياس على الزوج باطل مع وجود الفارق ، فإن الزوجة غير مملوكة ،
والنفقة في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، لا في مقابلة المنافع ، وثنوت الضرر
بإيجابها على الوارث ممنوع ، لانتفائه مع اليسار ، وانتفائها مع عدمه.
الثالث ـ انه من بيت المال.
أقول : وهذا مما يتفرع على القول الثالث ، حيث انه تضمن
أن الرقبة لا تقوم على الموصى له ، ولا على الورثة بالتقريب المتقدم ، ولهذا قالوا
هنا ان الوجه في هذا الاحتمال هو أن الوارث لا نفع له ، والموصى له غير مالك ،
وبيت المال معد للمصالح ، وهذا منها.
وأورد عليه بأن النفقة من بيت المال مشروطة بعدم المالك
المتمكن ، وهو هنا موجود ، ومجرد كونه لا نفع له لا يدفع الملك ، ولا يرفعه
والنفقة تابعة للملك كما عرفت.
ومنه تظهر قوة الوجه الأول وان كان أصل المسئلة لخلوها
من النص لا يخلو من الاشكال.
قال في المسالك : واعلم أنه لا فرق بين العبد وغيره من
الحيوانات المملوكة.
وأما عمارة الدار الموصى بمنافعها وسقي البستان وعمارته
من حرث وغيره إذا أوصى بثماره ، فان تراضيا عليه أو تطوع أحدهما به فذلك ، وليس
للآخر منعه ، وان تنازعا لم يجبر أحد منهما ، بخلاف نفقة الحيوان ، لحرمة الروح ،
ويحتمل طرو الخلاف في العمارة ، وسائر
المؤن ، بناء على وجوب ذلك على المالك حفظا للمال ، والفرق واضح.
نعم لو كانت المنفعة موقتة اتجه وجوبها على المالك ،
وإجباره عليها حفظا لماله عن الضياع ، لأن منفعته به مترقبة ان أوجبنا إصلاح
المال.
الثانية : قالوا :
وللموصى له التصرف في المنفعة ، وللورثة التصرف في الرقبة ، ببيع وعتق وغيره ، ولا
يبطل حق الموصى له بذلك.
أقول : فيه إشارة الى ما تقدم في القول الثاني من أن
الوصية بجميع المنافع لا تستلزم عدم نفع بالكلية ، بل هنا منافع تابعة للملك ـ مثل
العتق والهبة والبيع ونحوها ـ باقية ، والوصية بمنافع العبد من خدمته وغلة البستان
وسكنى الدار ، ونحو ذلك لا ينافي بقاء هذه المنافع للمالك ، وأنه يتصرف في العين
بذلك.
وبالجملة فإنه لما كانت الرقبة ملكه ، فإنه يجوز له
عتقها لو كان عبدا إذ لا مانع منه بوجه ، ولا يستلزم بطلان حق الموصى له من تلك
المنافع ، لأن حق المالك هو الرقبة ، ولا يملك إسقاط حق الموصى له من تلك المنافع
، وليس للعتيق الرجوع على الورثة بشيء في مقابلة تفويت منافعه عليه ، لأن تفويت
المنافع ليس من قبل الورثة ، وانما هو من قبل الموصي ، وهو متقدم على العتق ، وأما
بيعه فان كانت المنفعة الموصى بها محدودة بوقت ، فجوازه واضح ، لعدم المانع كما
يجوز بيع العبد الموجر ، وان كان المشتري إنما له التصرف بعد انقضاء مدة الإجارة.
وان كانت الإجارة مؤبدة ، ففي جوازه عندهم مطلقا أو على
الموصى له خاصة أو المنع مطلقا أوجه قال في المسالك : أجودها الجواز ، حيث تبقى له
منفعة كالمملوك لا مكان عتقه وتحصيل الثواب به أعظم المنافع ، ولأنه يتوقع استحقاق
الأرش بالجناية عليه ، أو الحصة منه وقد تقدم في بيع المعمر ما يحقق موضع النزاع
ويرجح الجواز له ولو لم تبق له منفعة كبعض البهائم ، فالمنع أجود ، لانتفاء
المالية عنه بسلب
المنافع كالحشرات ، نعم لو أوصى بنتاج
الماشية مؤيدا صح بيعها ، لبقاء بعض المنافع والفوائد كالصوف واللبن والظهر ،
وانما الكلام فيما استغرقت الوصية قيمته ، انتهى.
أقول : قد قدمنا في مسئلة بيع المعمر عنه (قدسسره) ما يؤذن
بالتوقف ، حيث ان جملة من الأصحاب صرحوا بالمنع ، ومنهم من استشكل ، وقد أوضحنا
قوة القول بالجواز بالنص الصريح في ذلك ، ومنه تظهر قوة القول بالجواز هنا أيضا ،
والله العالم.
المسئلة الثالثة : قال الشيخ
في المبسوط : إذا قال أعطوه قوسا من قسي ، وله قوس نشاب ، وهو قوس العجم ، وقوس
نبل ، وهو قوس العرب ، ويكون له قوس حسبان ، وهو الذي يدفع النشاب في مجرى ، وهو
الوتر مع المجرى ، ويكون له قوس جلاهق ، وهو قوس البندق ، ويكون له قوس الندف ،
فان هذا الإطلاق يحمل على قوس النشاب والنبل والحسبان ، فان كان له شيء منها ،
فالورثة بالخيار يعطون أي قوس من هذه الثلاثة شاؤا ، وان لم يكن له إلا الجلاهق
وقوس الندف فالورثة بالخيار ، يعطون أي القوسين شاؤا ، وتبعه ابن حمزة.
وقال ابن إدريس : الذي أرى أن الورثة بالخيار في إعطائهم
أي قوس شاؤا من الخمسة ، وتخصيص كلام الموصي العام يحتاج الى دليل.
قال في المختلف بعد نقل ذلك عن الشيخ وابن إدريس : أقول
: ولعل الشيخ (رحمة الله عليه) نقل عرفا لغويا أو عاميا في أن القوس انما يطلق
حقيقة على الثلاثة السابقة ، انتهى.
أقول : ما ذكره الشيخ هو الذي عليه المتأخرون ، قال
المحقق في الشرائع : ولو أوصى له بقوس انصرف الى قوس النشاب والنبل والحسبان إلا
مع القرينة تدل على غيرها.
وقال شيخنا في المسالك بعد نقل قولي الشيخ وابن إدريس ،
ونعم ما قال :
وفي كل واحد من القولين نظر ، لأن
الذاهب الى التخيير بين الثلاثة يعترف بإطلاق اسم القوس على الخمسة ، ولكن يدعى
غلبته في الثلاثة عرفا ، وبذلك يقتضي اتباع العرف في ذلك ، وهو يختلف باختلاف
الأوقات والأصقاع ، ولا ريب أن المتبادر في زماننا هو القوس العربية خاصة ، وقوس
الحسبان لا يكاد يعرفه أكثر الناس ، ولا ينصرف اليه فهم أحد من أهل العرف ،
فمساواته للأولين بعيد ، ونظر ابن إدريس إلى الإطلاق اللغوي جيد ، ولكن العرف مقدم
عليه.
والأقوى أنه ان وجدت قرينة تخصص أحدها حمل عليه ، مثل أن
يقول : أعطوه قوسا يندف به ، أو يعيش به وشبهه ، فينصرف الى قوس الندف ، أو قوس
يغزا به ، فيخرج قوس الندف والبندق ان لم يكن معتادا في الغزو ، وان انتفت القرائن
اتبع عرف بلد الموصي ، فإن تعدد تخير الوارث ، ولو قال : أعطوه ما يسمى قوسا ففي
تخيره بين الخمسة ، أو بقاء الاشكال كالأول وجهان : أجودهما الأول ، انتهى.
أقول : ومما يؤيد الاشتراك بين المعاني الخمسة لغة ما
ذكره في كتاب المصباح المنير حيث قال : وتضاف القوس الى ما يخصصها ، فيقال : قول
ندف ، وقوس جلاهق ، وقوس نبل وهي العربية ، وقوس النشاب وهي الفارسية ، وقوس
الحسبان.
بقي الكلام في أنه هل يدخل الوتر في إطلاقه ، فلو قال
أعطوه قوسا فهل يصدق مع عدم الوتر أم لا؟ اشكال ، قيل : بالدخول. فإنه لا يصدق إلا
به ، لأن المقصود منه لا يتم إلا به ، فهو كالفص بالنسبة إلى الخاتم ، والغلاف
بالنسبة الى السيف ، بل أولى ، لأنه بدونه بمنزلة العصا ، وقيل : بالعدم نظرا الى
أن الظاهر الصدق بدونه عرفا ، وعلى هذا فالأجود الرجوع الى العرف أو القرينة ،
وإلا فلا يدخل.
تنبيهات :
الأول : كل لفظ وقع
على أشياء وقوعا متساويا سواء كان بطريق الاشتراك ، أو التواطؤ ، فإن للورثة
الخيار في تعيين ما شاؤا من الأفراد ، وهي قاعدة كلية في هذا المقام وغيره مما
تقدم ، لان الموصى به لفظ يقع على أشياء وقوعا متساويا ، إما لكونه متواطئا ، بأن
تكون الوصية بلفظ له معنى ، وذلك المعنى يقع على أشياء متعددة كالعبد مثلا ، أو
لكون ذلك اللفظ مشتركا بين معان متعددة كالقوس ، فإن للورثة الخيار في تعيين ما
شاؤا ، أما في التواطؤ فلأن الوصية به وصية بالماهية الكلية ، وخصوصيات الأفراد
غير مقصودة أولا ، بل تبعا ، فيتخير الوارث في تعيين أي فرد شاء ، لوجود متعلق
الوصية في جميع الأفراد ، وأما المشترك فلأن متعلق الوصية هو الاسم ، وهو صادق على
المعاني المتعددة حقيقة ، فيتخير الوارث أيضا ، وربما قيل في المشترك بالقرعة ،
وهو بعيد.
الثاني : لو قال :
أعطوه قوسي بالإضافة إلى نفسه ، وليس له إلا قوس واحدة ، انصرفت الوصية إليها ،
لأن ما تقدم من التخيير بين الأفراد الثلاثة أو الخمسة انما هو مع إطلاقه إعطاء
القوس من غير أن يضيفه الى نفسه ، فإنه مشترك متعدد ، بخلاف ما لو قال : أعطوه
قوسي بالإضافة ، وليس له إلا أحدها ، فإنه تنصرف الوصية إليه من أي نوع كان
لتقييده بالإضافة.
بقي الكلام فيما لو قال : أعطوه قوسي وله قسي متعددة ،
فإن علم اختصاصه بواحد منها من أي نوع كان انصرفت الوصية إله ، كالمصحف والخاتم في
الحبوة ، وإلا فإشكال ، ويحتمل الرجوع الى ما تقدم من التخيير.
الثالث : لو أوصى
برأس من مماليكه ، كان الخيار في التعيين إلى الورثة ، بأن يعطوا صغيرا أو كبيرا
ذكرا أو أنثى صحيحا أو مريضا مسلما أو كافرا ، لأن اللفظ من الألفاظ المتواطئة
بالنظر الى ما تحت معناه من الأفراد المعدودة ، فيتخير
الوارث في إعطاء أيها شاء ، لوقوع
الاسم على كل واحد منها ، وانما يتخير مع وجود المتعدد في التركة ، وإلا تعين
الموجود ، ولو لم يوجد له مملوك بطلت الوصية.
وهل الاعتبار بالوجود عند الوصية أو الموت؟ وجهان :
استجود ثانيهما في المسالك ، قال : لأنه وقت الحكم بالانتقال وعدمه ، كما اعتبر
المال حينئذ ، ووجه الأول اضافة المماليك اليه المقتضية لوجود المضاف ، انتهى.
ولو ماتت مماليكه بعد وفاته إلا واحدا تعين للدفع في
الوصية ، فإن ماتوا كملا بطلت الوصية أما لو قتلوا لم تبطل ، وكان للورثة أن
يعينوا من شاؤا ، ووجه البطلان مع موت الجميع فوات متعلق الوصية ، بخلاف القتل ،
لبقاء المالية بثبوت القيمة على القاتل ، وهي بدل عن العين ، فيكون للموصى له ،
فكل فرد عينه الورثة يثبت له قيمته.
المسئلة الرابعة : لا خلاف ولا
إشكال في ثبوت الوصية بشهادة العدلين من المسلمين ، لان ذلك مما يثبت به جميع
الحقوق عدا ما استثنى مما يتوقف على أربعة ، بل دائرة حكم الوصية أوسع ، ومن ثم
تثبت بشهادة المرأة الواحدة على بعض الوجوه ، وشهادة عدول أهل الذمة كما دلت عليه
الآية ، واستفاضت به الرواية ، إلا أن ظاهر الآية اشتراط قبولها بالسفر ، وتحليفها
مع الريبة في شهادتهما بعد الصلاة ، قائلين ما دلت عليه الآية (1) «لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا
إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» وأنه متى عثر على بطلان شهادتهما فليس
له نقضها حتى يأتي بشاهدين يقومان مقام الشاهدين الأولين (2) «فَيُقْسِمانِ
بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً
لَمِنَ الظّالِمِينَ».
والأصل فيما ذكرناه من هذه القيود ما رواه ثقة الإسلام
في الكافي عن علي بن إبراهيم (3) عن رجاله رفعه
قال : «خرج تميم الداري وابن بيدي وابن
__________________
(1 و 2) سورة المائدة ـ الاية 105 و 106.
(3) الكافي ج 7 ص 5 ح 7 ، الوسائل ج 13 ص 394 الباب 21.
أبي مارية في سفر وكان تميم الداري
مسلما ، وابن أبي مارية وابن بيدي نصرانيين وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع ،
وآنية منقوشة بالذهب ، وقلادة أخرجها الى بعض أسواق العرب للبيع ، فاعتل تميم
الداري علة شديدة ، فلما حضره الموت دفع ما كان معه الى ابن بيدي وابن أبي مارية
وأمرهما أن يوصلاه الى ورثته ، فقدما المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة
، وأوصلا سائر ذلك الى ورثته ، فافتقد القوم الآنية والقلادة ، فقال أهل تميم لهما
: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا : لا ، ما مرض إلا أياما
قلائل ، قالوا : فهل سرق منه شيء في سفره هذا؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتجر
تجارة خسر فيها؟ قالا : لا ، قالوا : افتقدنا أفضل شيء ، كان معه آنية منقوشة
مكللة بالجواهر ، وقلادة ، فقالا : ما دفع إلينا فقد أدينا إليكم ، فقدموهما الى
رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فأوجب رسول
الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) عليهما
اليمين ، فحلفا فخلى عنهما ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم
الى رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فقالوا : يا
رسول الله قد ظهر على ابن بيدي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما ، فانتظر رسول
الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) من الله
تعالى الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى (1) «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ» ـ فأطلق الله
تعالى شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط ، إذا كان في سفر ، ولم يجد المسلمين ـ «فَأَصابَتْكُمْ
مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ
إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَلا
نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» فهذه الشهادة
الأولى التي جعلها رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (فَإِنْ
عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً) أي أنهما حلفا
على كذب (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) ، يعنى من
أولياء المدعي (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ
__________________
(1) سورة المائدة ـ الاية 105.
عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ، فَيُقْسِمانِ
بِاللهِ) ، يحلفان
بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما ، وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله (لَشَهادَتُنا
أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ) فأمر رسول
الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أولياء تميم
الداري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به ، فحلفوا فأخذ رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) القلادة
والآنية من ابن بيدي وابن أبي مارية وردهما إلى أولياء تميم الداري : (ذلِكَ
أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ
أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ)».
ورواه المرتضى (رضياللهعنه) في رسالة
المحكم والمتشابه ، نقلا من تفسير النعماني (1) بإسناده عن علي عليهالسلام نحوه إلا قال (تَحْبِسُونَهُما
مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يعني صلاة
العصر ، ورواه علي بن إبراهيم (2) في كتاب التفسير ، ونقل في المسالك
عن أكثر الأصحاب ومنهم المصنف أنهم لم يعتبروا في قبول شهادة الذميين السفر ، بل
جعلوه في الآية والأخبار انما خرج مخرج الغالب ، وكذا لم يعتبروا الحلف ، وتقل عن
العلامة أنه أوجب الحلف بعد العصر بصورة الآية ، واستحسنه في المسالك.
أقول : لا يخفى الخبر المذكور على اشتراط السفر لقوله عليهالسلام «فأطلق الله
شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ، ولم يجد المسلمين». وهو دال
بمفهوم الشرط الذي هو حجة شرعية عندنا بالأخبار ، وعند محققي الأصوليين بالاعتبار
على أنه لو لم يكن في سفر أو وجد أحدا من المسلمين لم تقبل شهادتهما.
ومن الأخبار الظاهرة بل الصريحة في ذلك ما رواه في
الكافي والتهذيب عن حمزة بن حمران (3) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : سألته
عن قول الله تعالى (4) «ذَوا
عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ»؟ قال : فقال :
اللذان منكم مسلمان ،
__________________
(1 و 2) الوسائل ج 13 ص 394 الباب 21.
(3) التهذيب ج 9 ص 179 ح 718 ، الكافي ج 7 ص 399 ح 8 ، الوسائل
ج 13 ص 392 ح 7.
(4) سورة المائدة ـ الاية 105.
واللذان من غيركم من أهل الكتاب ،
فقال : إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة ، فطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته ،
فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما».
وعن هشام بن الحكم في الصحيح (1) وبسند آخر في
الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام في قول الله عزوجل «أَوْ
آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» قال : إذا كان الرجل في أرض غربة لا
يوجد فيها مسلم ، جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية».
وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن
يحيى بن محمد (2) «قال سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن قول الله
تعالى (3) «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» قال : اللذان
منكم مسلمان ، واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فان لم تجدوا من أهل الكتاب فمن
المجوس ، لأن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) سن في المجوس
سنة أهل الكتاب في الجزية ، وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد
رجلين من أهل الكتاب ، يجلسان بعد العصر «فيقسمان بالله تعالى (لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ
إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) «قال : وذلك
إذا ارتاب ولي الميت في شهادتهما ، فان عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن
يبقض شهادتهما حتى يجيء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأولين ، «فَيُقْسِمانِ
بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً
لَمِنَ الظّالِمِينَ» فإذا فعل ذلك نقض شهادة الآخرين يقول
الله تعالى (4) (ذلِكَ
أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ
أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ».
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 398 ح 6 ، التهذيب ج 9 ص 180 ح 725. الوسائل
ج 13 ص 391 ح 4.
(2) الكافي ج 7 ص 4 ح 6 ، التهذيب ج 9 ص 178 ح 715 ، الفقيه ج
4 ص 142 ح 487. الوسائل ج 13 ص 391 ح 6.
(3) سورة المائدة ـ الاية 105 و 108.
وما رواه في كتاب بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله بسنده
فيه عن المفضل بن عمر (1) «عن أبي عبد
الله عليهالسلام في كتابه إليه
، قال : وأما ما ذكرت أنهم يستحلون الشهادات بعضهم لبعض على غيرهم ، فان ذلك لا
يجوز ولا يحل ، وليس هو على ما تأولوا إلا لقوله عزوجل «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ
إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» وذلك إذا كان
مسافرا فحضره الموت أشهد بالله اثنين ذوي عدل من أهل دينه ، فان لم يجد فآخران ممن
يقرأ القرآن من غير أهل ولايته ، (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ، «فَيُقْسِمانِ
بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا
نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» فَإِنْ
عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ
الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) من أهل ولايته
(فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما
، وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ
يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ
أَيْمانِهِمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا)».
وهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة بل صريحه في اعتبار
السفر ، وأنه لا تقبل في السفر إلا مع فقد المسلمين ، وما ربما يوجد من الأخبار
المطلقة يجب حمله على هذه الأخبار الصريحة في الاشتراط.
وقال في المسالك بعد نقل القول الذي نقله عن الأكثر من
عدم اشتراط السفر : ويمكن استنادهم في عدم اشتراط السفر إلى موثقة هشام بن الحكم (2) عن أبى عبد
الله عليهالسلام في قوله تعالى
«أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» قال : إذا كان
الرجل في بلد ليس فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية ، قال : فإنها
متناولة بإطلاقها للسفر والحضر ، وأنه حيث قد دلت الأخبار التي ذكرناها على
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 393 الباب 20 ح 8.
(2) الكافي ج 7 ص 398 ح 6 ، الوسائل ج 13 ص 391 ح 4.
الاشتراط كما عرفت ، فوجه الجمع بين
هذه الرواية وبين تلك الأخبار بحمل هذه الرواية على ما إذا سافر المسلم إلا بلد
ليس فيها مسلم ، لأنه من سكانها وأهلها ، والقرينة فيما ذكرناه واضحة ، لأن سكنى
المسلم وحده في بلد الكفر اختيارا نادر ، بل غير جائز شرعا إلا من ضرورة.
وتستفاد من هذه الأخبار عدة فوائد الأولى ـ ما ذكرناه
وان كان خلاف ما صرح به الأكثرون اشتراط القبول بالسفر ، فلا تقبل في الحضر ،
والوجه فيه ما عرفت من وجود المسلمين في الحضر ، حيث ان المسلم لا يسكن إلا في
بلاد الإسلام.
الثانية ـ اشتراط الحلف وأن يكون بالكيفية التي دلت
عليها الآية ، كما يدل عليه خبر يحيى بن محمد المذكور ، ومثله مرفوع علي بن
إبراهيم ، وخبر المفضل ، وما تقدم نقله عن العلامة من أنه يحلف بعد العصر ، قد دل
عليه مرفوع علي بن إبراهيم برواية النعماني عن علي عليهالسلام كما تقدم ،
ورواية يحيى بن محمد كما في بعض نسخ المشايخ المذكورين ، وفي بعض آخر بلفظ الصلاة بقول
مطلق ، وينبغي حمل الإطلاق على العصر لما عرفت.
الثالثة ـ ان ظاهر أكثر الأخبار المذكورة هو قبول
الشهادة على الوصية ، أعم من أن يكون بمال أو ولاية ، إلا أن مورد الآية والقضية
التي نزلت فيها كما دل عليه مرفوع علي بن إبراهيم ، إنما هو المال ، وهو الظاهر أيضا
من كلامه في المسالك ، حيث قال بعد أن صرح بثبوت الوصية بشهادة عدلين مسلمين : ولا
فرق في قبولها بها بين كونها بمال أو ولاية ، ومع عدم وجود عدول المسلمين تقبل
شهادة عدول أهل الذمة بالمال ، للآية والرواية ، ودعوى نسخها لم يثبت ، وهو ظاهر
في أن الوصية تقبل بشهادة عدول المسلمين في المال والولاية ، وأما عدول أهل الذمة
ففي المال خاصة ، وعلى هذا فينبغي حمل إطلاق تلك الأخبار على مورد القصة.
الرابعة ـ لا خلاف بين الأصحاب (رحمهمالله) في اشتراط
العدالة في الذميين بالمعنى المعروف عندهم ، واليه يشير قوله عليهالسلام في رواية حمزة
بن حمران مرضيين عند أصحابهما.
الخامسة ـ ما دل عليه خبر يحيى بن محمد من أنه مع عدم
وجود أهل الكتاب فمن المجوس ، لم أقف عليه في غيره من الأخبار ، ولم يصرح به أحد
من أصحابنا فيما حضرني من كلامهم ، والخبر متى دل على حكم ولا معارض له وجب القول
به ، وان لم يقل به قائل كما هو مقتضى التحقيق في المسئلة.
السادسة ـ قال : في المسالك ولو وجد مسلمان فاسقان ،
والذميان العدلان ، فالذميان العدلان أولى للآية ، أما المسلمان المجهولان فيبني
على اعتبار ظهور العدالة ، كما هو المشهور أو الحكم بها ما لم يظهر خلافها ، كما
ذهب إليه جماعة من الأصحاب ، فعلى الثاني لا ريب في تقديم المستور من المسلمين
لأنه عدل ، وعلى الأول ففي تقديمه على عدل أهل الذمة وجهان : واختار العلامة تقديم
المسلمين بل قدم الفاسقين إذا كان فسقهما بغير الكذب والخيانة ، وفيه نظر ، انتهى.
أقول : أما ما ذكره من الفرد الأول فلا إشكال في أن
الحكم فيه كما ذكروا ، أما المسلمان المجهولان فالكلام فيهما مبني على أن العدالة
هل هي أمر زائد على مجرد الإسلام ، كما هو المشهور ، والمؤيد المنصور ، أو أنها
عبارة عن مجرد الإسلام كما هو اختياره في المسئلة؟ فعلى الثاني لا إشكال أيضا
لحصول العدالة المشروطة في الآية ، وعلى الأول فالأشهر الأظهر عدم الثبوت إلا بعد
الفحص وظهور العدالة ، وما نقل عن العلامة ضعيف لا يلتفت إليه ، لأن الآية
والرواية مصرحان باشتراط العدالة ، ووجود المسلم بدونها في حكم العدم ، والله
العالم.
وينبغي التنبيه على أمور :
الأول : لا ريب أنه
كما تثبت الوصية بالشاهدين تثبت أيضا فيما إذا كانت مالا بشاهد ويمين ، أو شاهد
وامرأتين ، وهو موضع وفاق في المال ، وصية كان
أو غيرها ، وقد دل قوله تعالى (1) «فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» على الاكتفاء
بالرجل والامرأتين والأخبار بذلك مستفيضة ، يأتي ان شاء الله تعالى في موضعها
اللائق بها ، وكذا تثبت فيما إذا كانت مالا بشهادة الواحدة ربع ما شهدت به ،
وبشهادة اثنتين ، النصف ، وبثلاث ثلاثة أرباع ، وبالأربع الجميع ، روى الشيخ في
التهذيب في الصحيح عن ربعي (2) عن أبي عبد
الله عليهالسلام في شهادة
امرأة حضرت رجلا يوصى ليس معها رجل؟ فقال : يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها».
وما رواه في الفقيه (3) في الصحيح عن حماد بن عيسى عن ربعي
مثله بأدنى تفاوت.
وعن محمد بن قيس (4) في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام : قال : قضى
أمير المؤمنين عليهالسلام في وصية لم
تشهدها إلا امرأة فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية».
ورواه بسند آخر عن محمد بن قيس (5) ايضا مثله إلا
انه «زاد إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها».
وعن أبان (6) عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه «قال في
وصية لم تشهدها إلا امرأة فأجاز شهادة المرأة في الربع من الوصية حساب شهادتها».
وأما ما رواه الشيخ في التهذيب عن إبراهيم بن محمد
الهمداني (7) قال : «كتب
أحمد بن هلال الى أبى الحسن عليهالسلام امرأة شهدت
على وصية رجل لم يشهدها غيرها ، وو في الورثة من يصدقها ، وفيهم من يتهمها فكتب عليهالسلام : لا ، إلا أن
يكون رجل وامرأتان ، وليس بواجب أن تنفذ شهادتها».
وما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع (8) في الصحيح قال
: «سألت الرضا عليهالسلام
__________________
(1) سورة البقرة ـ الاية 282.
(2 و 3 و 4 و 5 و 6) الكافي ج 7 ص 4 ح 4 و 5 ، التهذيب ج 9 ص
180 ح 719 و 723 ، الفقيه ج 4 ص 132 ح 486.
(7 و 8) التهذيب ج 6 ص 268 ح 719 وص 280 ح 771.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 395 ح 1 وص 396 ح 4 و 3 و 2 وص
397 ح 8 وج 18 ص 266 ح 40.
عن امرأة ادعى بعض أهلها أنها أوصت
عند موتها من ثلثها بعتق رقبة لها أيعتق ذلك وليس على ذلك شاهد إلا النساء؟ قال :
لا تجوز شهادة النساء في هذا». فحملهما الشيخ في التهذيبين على عدم نفاذها في
الجميع ، وان نفذت في الربع ، وجوز في الاستبصار الحمل على التقية أيضا.
أقول : وهو الظاهر ، فإن الأول بعيد عن سياق لفظ الخبرين
المذكورين ، وهل يتوقف بثبوت ما ذكر بشهادتهن على اليمين ، المشهور العدم ، لإطلاق
النصوص المذكور فإنها ظاهرة في ثبوت ذلك بمجرد الشهادة ، ولا بعد فيه ، وان كان
مخالفا لحكم غيره من الحقوق ، فإنها مختلفة بحسب الشهادة اختلافا كثيرا ، ونقل عن
العلامة في التذكرة توقف الحكم في جميع الأقسام على اليمين ، كما في شهادة الرجل
الواحد ، ورد بأن اليمين مع شهادة الواحد توجب ثبوت الجميع ، فلا يلزم مثله في
البعض ، ولو فرض انضمام اليمين الى الاثنتين والثلاث ثبت الجميع ، لقيامهما مقام
الرجل ، أما الواحدة فلا يثبت بها سوى
الربع مطلقا ، انضمت اليمين لها أم لا ، على أن في ثبوت
الجميع بانضمام اليمين الى الاثنتين أو الثلاث إشكالا أيضا ، لأن مقتضى النصوص
انما هو النصف في الأول ، وثلاثة أرباع في الثاني ، بمجرد الشهادة ، ووجود اليمين
حيث لم يعتبرها الشارع هنا في حكم العدم ، وقيام الاثنتين مقام الرجل في بعض
الموارد لا يستلزم قياس ما نحن فيه عليه ، حتى أنه يخرج عن مقتضى ظواهر النصوص
بذلك.
وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النصوص المذكورة
ولو شهد رجل واحد ففي ثبوت النصف بشهادته من غير يمين نظرا الى قيام شهادته مقام
اثنتين ، أو الربع خاصة ، لأنه متيقن ، من حيث انه لا يقصر عن المرأة ، أو سقوط
شهادته أصلا وقوفا فيما خالف الأصل على مورده أوجه ، قال في المسالك : أوسعها
الأوسط.
أقول : بل أظهرها الأخير لما ذكر ، واختياره الأوسط
باعتبار أنه لا يقصر
عن المرأة لمجرد خيال ، والأحكام
الشرعية لا تبنى على تقريبات العقول ، فكم من حكم يقربه العقل تحكم النصوص بخلافه
، وكم من حكم يبعده العقل تحكم به النصوص.
وهل يشترط في قبول شهادة المرأة في الوصية تعذر الرجال؟
المشهور العدم ، عملا بعموم النصوص المتقدمة ، ونقل عن إدريس وقبله ابن الجنيد
الاشتراط ، وهو ضعيف.
الثاني : المشهور في
كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه كما نقله في المسالك عدم قبول شهادة
النساء منفردات في الولاية ، وعلل بأنها ليست وصية بمال ، بل هي تسلط على تصرف فيه
، وليست أيضا مما يخفى على الرجال غالبا ، وذلك هو ضابط محل قبول شهادتهن منفردات.
والمشهور أيضا ـ بل الظاهر أنه لا خلاف فيه إلا ما يظهر
من المحقق في الشرائع حيث تردد في ذلك ـ هو أنه لا تثبت الوصية بالولاية بالشاهد
واليمين ، وذلك لأن ضابط الثبوت بالشاهد واليمين ما كان من حقوق الآدميين مالا أو
المقصود منه المال ، وولاية الوصاية لا تدخل في ذلك.
ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه قوى قبول الوصية بالولاية
بالمرأتين مع الشاهد ، ونقل عن ابن الجنيد أيضا ، وأورد عليه أن اللازم من ذلك
قبولها بالشاهد واليمين أيضا ، لأن كل ما ثبت بشاهد وامرأتين ، ثبت بشاهد ويمين ،
وقيل ـ في وجه تردد المحقق هنا ـ : أن منشأه مما ذكر ، ومن أن الوصية بالولاية قد
يتضمن المال ، كما إذا أراد أخذ الأجرة أو الأكل بالمعروف بشرطه ، ولما فيه من
الإرفاق ، والتيسير ، فيكون مرادا للآية والرواية.
قال في المسالك : ولا يخفى ما فيه ، وقد قطع الأصحاب
بالمنع من غير نقل خلاف في المسئلة ولا تردد ، ووافقهم المصنف في المختصر ، على
القطع ، وأبدل هذا التردد بالتردد في ثبوت الوصية بالمال بشاهد ويمين ، وكلاهما
كالمستغني
عنه ، للاتفاق على الحكم ، والقاعدة
المفيدة للحكم فيهما ، انتهى وهو جيد.
الثالث : قالوا : لو أشهد إنسان عبدين له على حمل أمته
وأنه منه ، ثم مات وأعتق المملوكان ثم شهدا بذلك ، فإنه تقبل شهادتهما ، وهل
يسترقهما المولود حينئذ؟ قيل : بالمنع ، وقيل : بالجواز على كراهة.
أقول الأصل في هذه المسئلة ما رواه الشيخ في الصحيح عن
الحلبي (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام في رجل مات
وترك جارية ومملوكين ، فورثه أخ له فأعتق العبدين ، وولدت الجارية غلاما فشهدا بعد
العتق أن مولاهما كان أشهدهما أنه كان يقع على الجارية وأن الحمل منه ، قال : تجوز
شهادتهما ، ويردان عبدين كما كانا».
وما رواه المشايخ الثلاثة عن داود بن فرقد في الموثق (2) «قال سئل أبو
عبد الله عليهالسلام عن رجل كان في
سفر ومعه جارية له وغلامان مملوكان فقال لهما : أنتما حران لوجه الله ، وأشهد أن
ما في بطن جاريتي هذه مني فولدت غلاما ، فلما قدموا على الورثة أنكروا ذلك
واسترقوهما ، ثم ان الغلامين عتقا بعد ذلك ، فشهدا بعد ما أعتقا أن مولاهما
أشهدهما أن ما في بطن جاريته منه ، قال تجوز شهادتهما للغلام ، ولا يسترقهما
الغلام الذي شهدا له ، لأنهما أثبتا نسبه».
قيل : والاستدلال بالخبرين مبني إما على قبول شهادة
المملوك مطلقا أو على مولاه ، لأنهما بشهادتهما للولد والحكم بها صارا رقا له ،
لتبين أن معتقهما لم يكن وارثا ، أو على أن المعتبر حريتهما حال الشهادة ، وان ظهر
خلافها بعد ذلك ، أو على أن الشهادة للمولى لا عليه ، فتقبل.
وأورد على الأخير بأن الحكم بكون الولد مولى موقوف على
شهادتهما
__________________
(1) التهذيب ج 6 ص 250 ح 642.
(2) التهذيب ج 9 ص 222 ح 870 ، الكافي ج 7 ص 20 ح 16 ، الفقيه
ج 4 ص 157 ح 544.
وهما في الوسائل ج 13 ص 460 ح 1 وص 461 ح 2.
على كونه مولى ، ليكون الشهادة له
دارا.
أقول : الوجه عندي هو الأول ، فإن الروايات وان اختلفت
في قبول شهادة المملوك إلا أن ما دل على المنع محمول على التقية ، والأظهر هو
الجواز ، فلا ضرورة إلا ارتكاب ما ذكر من التعليلات في الوجوه الباقية.
ونقل عن الشيخ أنه خص الحكم بالوصية ، فإن أمرها أخف من
غيرها من الحقوق ، كما قبلت فيها شهادة أهل الكتاب ، وفيه أنه لا ضرورة إلى
التخصيص ، فإن إطلاق الخبرين المذكورين مع صحة الأول بالاصطلاح المحدث» وعد الثاني
في الموثق إنما هو بواسطة الحسن بن فضال الذي لا يقصر حديثه عندهم عن الصحيح ،
مضافا الى اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور ـ مع عدم معارض ولا مخالف ـ أقوى دليل
على العموم.
بقي الكلام في استرقاقهما للولد الذي شهدا له ، وبذلك
صرحت صحيحة الحلبي ، وبالعدم صرحت موثقة ، حيث نهى عن استرقاقهما ، وطريق الجمع
حمل النهي على الكراهة ، كما يؤذن به التعليل المذكور ، وملخصه أنه يكره له
استرقاقهما ، لأنهما كانا سببا في حريته بعد الرقية ، فلا يكون سببا في رقيتهما
بعد الحرية.
والمحقق في الشرائع قد فرض المسئلة كما دلت عليه صحيحة
الحلبي ، والعلامة في القواعد قد فرضها بما دلت عليه موثقة داود ، وكيف كان
فشهادتهما بعتق المولى لهما في رواية داود شهادة لأنفسهما ، فلا تسمع كما هو مقتضى
القاعدة.
وأنت خبير بأن هذه المسئلة لا مناسبة لذكرها في هذا
المقام إلا من حيث أن الشيخ قد خصها بالوصية ، كما قدمنا نقله عنه ، والظاهر ان
الأصحاب انما ذكروها هنا تبعا له في ذلك ، وان خالفوه في العمل بإطلاق الخبر من
المذكورين كما ذكرنا ، والله العالم.
الرابع : قالوا : لا
تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ، ولا ما يجر فيه
نفعا أو يستفيد به ولاية ، قالوا :
والضابط أنه متى كان لنفسه حظ في الشهادة لم تقبل.
وعدوا من ذلك أمورا : منها ـ أن يشهد بما هو وصي فيه بأن
يجعله الموصي وصيا على مال معين ، فينازعه فيه منازع فيشهد به للموصي.
ومنها أن يجر به نفعا بأن جعله وصيا في تفرقة ثلثه ،
فشهد بمال للمورث ، فإنه يجر به نفعا باعتبار زيادة الثلث.
ومنها أن يجعله وصيا على ولده الصغير ، فيشهد للولد بمال
، فإنه يستفيد بها ولاية على المال.
وأنت خبير بما في ذلك من تطرق المناقشة ، لعدم ورود نص
بشيء مما ذكروه ، والى ما ذكرناه يميل كلام ابن الجنيد حيث نقل عنه أنه قال : «شهادة
الوصي جائزة لليتيم في حجره وان كان هو المخاصم للطفل ، ولم يكن بينه وبين الشهود
عليه ما يرد شهادته عليه» ومال اليه المقداد في شرحه.
قال في المسالك بعد نقله ذلك : ولا بأس بهذا القول ،
لبعد هذه التهمة من العدل ، حيث انه ليس بمالك ، وربما لم تكن له أجرة على عمله في
كثير من الموارد ، إلا أن العمل بالمشهور متعين ، انتهى.
أقول : ان كان تعين العمل بالمشهور من حيث الشهرة فهي
ليست بدليل شرعي ، بل الإجماع لو ادعي كما اعترف به في غير موضع من شرحه هذا ،
وتقدم نقله عنه ، وسيأتي ان شاء الله في بعض مسائل هذا الكتاب ، وان كان لدليل آخر
، فليس في الباب ما يدل على ذلك ، وإلا لذكره واستند اليه ، هذا مع أن الأحكام
منوطة بالنصوص ، ومقيدة بها على العموم أو الخصوص ، ولا نص في المقام سوى هذه
التعليلات العليلة ، وقد عرفت ما فيها ، وبالجملة فكلامه (قدسسره) لا يخلو من
المجازفة.
ثم ان مما فرعوا على ذلك أيضا أنه لو كان وصيا في إخراج
مال معين ،
فشهد للميت بما يخرج به ذلك المال من
الثلث لم تقبل ، كما لو أوصى بإخراج ألف درهم والتركة ظاهرا ألفان ، فشهد الوصي أن
للميت على أحد ألفا مثلا ، فان قبول هذه الشهادة يستلزم إخراج الألف المجعول وصيا
فيها من الثلث ، ونفوذ الوصية ، فلا تقبل ، وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما
ذكرناه.
نعم ربما يقال : انه قد وردت هنا أخبار فيمن ترد شهادتهم
، وعد منها المتهم ، فمن ذلك رواية عبد الله بن سنان (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام ما يرد من
الشهود؟ قال : فقال : الظنين والمتهم».
وفي رواية أبي بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الذي يرد
من الشهود؟ قال : الظنين والمتهم والخصم».
ومثلها غيرهما ، والوصي في هذه الصور المفروضة يدخل في
المتهم بالتقريب الذي ذكروه.
وفيه أنه لا يخفى أن التهمة عرفا إنما تتحقق بما يوجب جر
النفع الى نفسه ، لا الى غيره ، كما هو المفروض في هذه الفروض ، ومجرد صرفه
الوصايا عن الميت والقيام بأطفاله ونحو ذلك لا يتحقق له به نفع دنيوي ، بل ربما
أوجب الضرر الدنيوي له بما يوجبه من اشتغاله بذلك ، عن قضاء حوائجه ، والسعى في
مطالبه وأموره ، وكلما كثرت الوصايا واتسعت الدائرة فيها ـ وفي أموال الأطفال ـ كان
الضرر أعظم ، والمنع له عن السعي في أموره أتم ، ولهذا ان الشارع جوز له الأكل
بالمعروف من أموالهم في مقابلة القيام بأحوالهم.
قال في كتاب المصباح المنير : والتهمة ـ بسكون الهاء
وفتحها ـ : الشك والريبة ، واتهمته : ظننت به سوء ، ولا يخفى أن هذا كله انما
يترتب على ما يحصل به جر النفع الى نفسه ، وايثارها ، وإلا فأي سوء وأي ريبة في
قيامه بوصايا
__________________
(1 و 2) الكافي ج 7 ص 395 ح 1 و 3، التهذيب ج 6 ص 242 ح 601 و
598 ، الوسائل ج 18 ص 274 ح 1 وص 275 ح 3.
الغير ، وصرفة لها في مصارفها ما لم
يتعد فيها الحدود الشرعية ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ناظر ، ومن وراء جميع
ذلك اتصافه بالعدالة المانعة من تطرق ما ينافيها.
وبالجملة فإن الأقرب عندي هو ما نقل عن ابن الجنيد ومن
تبعه ، ولا اشكال عندهم في القبول لو كان المشهود عليه خارجا عما هو وصي فيه ، كما
لو جعله وصيا على غلة أطفاله ، فيشهد لهم بدين أو جعله وصيا على تفريق مال معين ،
فيشهد للورثة بحق آخر لمورثهم ، ونحو ذلك ، والله العالم.
المسئلة الخامسة : في الوصية
بالعتق ، ولذلك صور عديدة. منها ـ من أوصى بعتق عبيده وليس له سواهم ، فان رتبهم
في الوصية أعتق الأول فالأول حتى يتم الثلث ، ولو بجزء عبد فيعمل فيه ما يأتي ذكره
، وتبطل الوصية فيمن بقي وإلا أعتق ثلثهم بالقرعة ، بأن يجعلهم أثلاثا ولو
بتعديلهم بالقيمة ، ثم يقرع بين تلك السهام الثلاثة ، ويعتق الثلث الذي أخرجته
القرعة.
وروي (1) «أن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فعل ذلك في
ستة عبيد أعتقهم مولاهم عند موته ، ولم يكن له غيرهم ، فجزاهم أثلاثا ثم أقرع
بينهم» ، نقل ذلك الأصحاب في كتب الفروع ، والظاهر أن الرواية عامية ، فإنها غير
موجودة في كتب أخبارنا ، إلا أن الظاهر أن الحكم لا اشكال فيه ، لأن القرعة لكل
أمر مشكل ، وهذا من جملتها ، ولو توقف التعديل على إدخال جزء من أحدهم ، فإن خرجت
القرعة على الثلث الذي فيه ذلك الجزء أعتق من العبد بحسابه ، وسرى العتق في الباقي
، وسعى في باقي قيمته ، كما في كل مبعض.
قالوا : وانما لم يحكم بعتق ثلث كل واحد مع ان كل واحد
منهم بمنزلة الموصى له ، وقد قرروا أن الوصايا إذا وقعت دفعة قسط عليها الثلث
بالنسبة للحديث النبوي المتقدم ذكره ، فإنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) انما جزى
العبيد أثلاثا ، وأعتق
__________________
(1) سنن البيهقي ج 6 ص 272.
الثلث الذي خرجت فيه القرعة ، ولم
يحكم في ثلث كل واحد واحد ، وأيضا فإن العتق على هذا الوجه موجب للإضرار بالورثة ،
لانعتاق الجميع حينئذ ، فإنه متى انعتق ثلث كل واحد ووجب السعي في قيمته صار حرا
فيصير الجميع أحرارا.
أقول : ومن هنا يعلم أن المسئلة غير خالية من شوب
الإشكال ، لأن الخبر غير ثابت كما عرفت ، والإضرار بالورثة غير مسموع إذا اقتضته
القواعد الشرعية ان ثبت ما ذكروه من تلك القاعدة المذكورة ، والظاهر ثبوتها كما
سيأتي ان شاء الله تعالى في محله ، هذا كله إذا لم يجز الورثة ، وإلا فلا اشكال.
ومنها ـ ما لو أوصى بعتق عدد مخصوص من عبيده ، وفيه
قولان : فقيل : انه يستخرج ذلك العدد بالقرعة ، وقيل : انه يتخير الوارث في ذلك
المقدار ، فيعينه فيمن أراد ، وجه الأول أن العتق للمعتق ، ولا ترجيح فيه لبعضهم
على بعض ، فوجب التوصل إليه بالقرعة.
ووجه الثاني أن متعلق الوصية متواطئ ، فيتخير الوارث في
تعيينه كغيره ولأن المتبادر من اللفظ الاكتفاء بأي عدد كان من الجميع وهو اختيار
المحقق في الشرائع : والشارح في المسالك قال : وهذا أقوى ، وان كانت القرعة أعدل.
ومنها ـ ما لو أعتق مملوكه عند الوفاة منجزا وليس له
غيره ، قيل : عتق كله ، وقيل ينعتق ثلثه ، ويسعى للورثة في باقي قيمته ، ولو أعتق
ثلثه سعى في باقيه ان لم يكن للمعتق مال غيره ، فاضل من مستثنيات الدين ، وإلا سرى
العتق عليه في ثلث المال الفاضل.
أقول : أما المسئلة الأولى فهي أحد جزئيات مسئلة منجزات
المريض ، والخلاف فيها بين كون ذلك من الأصل أو الثلث مشهور ، وسيأتي تحقيق الحال
فيها ان شاء الله تعالى في المسائل الآتية.
وأما المسئلة الثانية فالوجه في سعي العبد في باقي قيمته
بالشرط المذكور ،
ان ذلك قاعدة كلية في كل موضع يصير
بعضه حرا ، فإنه يجب عليه السعي في فك رقبته من جميع ما يكتسبه فاضلا عن مؤنته ،
لا أنه يختص بنصيب الحر خاصة ، كما صرحوا به.
وأما الوجه في فك العتق له كان له مال فاضلا عما ذكرناه
، فلان سبب السراية هو العتق الذي وقع المال ، وقد وقع في حال المرض كما هو
المفروض ، واعتبر من الثلث ، فيكون مسببه وهو السراية كذلك ، يكون من الثلث ، هذا
خلاصة ما ذكروه في المقام.
ومنها ـ ما لو أوصى بعتق رقبة مؤمنة وجب ، فان لم يجد
أعتق من لا يعرف بنصب ، والمراد بالمؤمنة هو الايمان الخاص ، وهو القول بإمامة
الأئمة الاثني عشر عليهمالسلام وأنه مع تعذر
ذلك يعتق من لا ينصب ، والمراد بهم المستضعفون ، والجاهلون بأمر الإمامة ، وهم
أكثر الناس في زمان الأئمة عليهمالسلام كما استفاضت
به الأخبار من تقسيم الناس يومئذ إلى الأصناف الثلاثة ، مؤمن ، وضال ، وهو من لا
يعرف ولا ينكر ، وكافر ، وهو من أنكر الولاية ، وقد تقدم تحقيق ذلك في مواضع ، ولا
سيما في كتاب الطهارة ، وهذا القسم أعنى أهل الضلال مما صرحت الأخبار بأنهم من
المسلمين ، وليسوا بالمؤمنين ، ولا الكافرين ، وأنهم في الدنيا يعاملون بمعاملة
المسلمين ، وتجري عليهم أحكام الإسلام ، وفي الآخرة من المرجئين لأمر الله ، إما
يعذبهم ، وإما يتوب عليهم ، بل ربما دلت بعض الأخبار على دخولهم الجنة بسعة الرحمة
الإلهية ، وأما المنكرون للإمامة وهم المشار إليهم في الأخبار بالنصاب ، فهم من
الكفار الحقيقيين ، خلافا للمشهور بين علمائنا المتأخرين ، ولتحقيق المقام محل
آخر.
وكيف كان فمما يدل على الحكم المذكور ما رواه ثقة
الإسلام في الكافي عن علي بن أبي حمزة (1) قال : «سألت عبدا صالحا عن رجل هلك
فأوصى بعتق
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 18 ح 10 بزيادة كلمة مسلمة ، الوسائل ج 13 ص
462 ح 2.
نسمة بثلاثين دينارا فلم يوجد له
بالذي سمى؟ قال : ما أرى لهم أن يزيدوا على الذي سمى ، قلت : فان لم يجدوا؟ قال :
يشترون من عرض الناس ما لم يكن ناصبا».
وما رواه الصدوق في الفقيه عن على بن أبي حمزة (1) عنه عليهالسلام أنه قال «فليشتروا
من عرض الناس ما لم يكن ناصبيا».
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن الى على بن
أبي حمزة (2) «قال سألت أبا
الحسن عليهالسلام عن رجل أوصى
بثلاثين دينارا يعتق بها رجل من أصحابنا فلم يوجد بذلك قال : يشترى من الناس فيعتق».
وشيخنا في المسالك لم يورد دليلا على القول المذكور إلا
الرواية الأخيرة ، ثم اعترضها بضعف السند بعلي بن أبي حمزة ، قال فالحكم بها مع
مخالفة مقتضى الوصية ضعيف ، ثم قال : ومع ذلك فليس في الرواية تقييد بعدم النصب ،
لكن اعتبره الجماعة نظرا الى أن الناصبي كافر ، وعتق الكافر غير صحيح ، فالقيد من
خارج ، الى أن قال : والأقوى أنه لا يجزى غير المؤمنة مطلقا ، فيتوقع المكنة ،
انتهى.
أقول : أما الرد بضعف السند فليس بمسموع عندنا ، ولا عند
المتقدمين ، ولا معتمد مع أن أصحاب هذا الاصطلاح متى اتفق الأصحاب على العمل
بالخبر تلقوه بالقبول ، والأمر كذلك إذ لا مخالف في الحكم فيما أعلم ، على أنه قد
تقدم منه قريبا في مسئلة عدم قبول شهادة الوصي مع التهمة ، ما يدل على تمسكه بالشهرة
وان كانت خالية من الدليل بالكلية ، فإنه بعد أن استحسن مذهب ابن الجنيد عدل عنه
الى المشهور من حيث الشهرة لا غير ، كما تقدم إيضاحه.
وأما طعنه في الرواية بأنها خالية من التقييد بعدم النصب
، ففيه أن الروايتين
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 159 ح 554.
(2) الكافي ج 7 ص 18 ح 9 ، التهذيب ج 9 ص 220 ح 863 ، الفقيه ج
4 ص 159 ح 355 ، وهما في الوسائل 13 ص 462 ح 2 و 1.
الأخيرتين قد صرحتا بما ذكره الأصحاب
من الشرط المذكور.
فان قيل : ان الروايتين لا دلالة لهما على كون الرقبة
الموصى بها مؤمنة كما هو المدعى ، ولعله لهذه الجهة لم يورد شيخنا المذكور هذين
الخبرين.
قلنا : هذا غلط محض ، فإن المسئول عنه وان كان مجملا ،
لكن الحمل على المؤمنة معلوم من جوابه عليهالسلام ، وهو قرينة
على أن المسئول عنه يومئذ إنما هو الرقبة المؤمنة ، وذلك فإن الأمر بالشراء بعد
تعذر المأمور به بتلك القيمة لمن كان من عرض الناس ، إلا أن يكون ناصبيا ، ظاهر في
كون المأمور به رقبة مؤمنة ، والتفصيل فيه جار على ما قدمناه من تقسيم الناس الى
تلك الأقسام الثلاثة في وقتهم عليهمالسلام ، وان المراد
بهذا الذي هو من عرض الناس هم الضلال الذين لا يعرفون ولا ينكرون ، فانا قد أشرنا
سابقا الى أن المفهوم من الأخبار أن جل الناس في وقتهم كانوا من هذا الصنف.
وبالجملة فإن الحكم بما هو مشهور صحيح ، ولا يعتريه فتور
ولا قصور ومما يدل على جواز عتق المستضعفين المشار إليهم في هذه الأخبار بعرض
الناس اختيارا لأنهم من المسلمين ، فتجري عليهم أحكام الإسلام التي من جملتها
العتق.
صحيحة الحلبي (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : الرقبة تعتق
من المستضعفين؟ قال : نعم». إلا أن الظاهر تقييده بما إذا لم تكن الرقبة مشروطا
فيها أن تكون مؤمنة.
ومنها أنه لو أوصى بعتق رقبة بثمن معين فلم يجدها بذلك
الثمن ، بل وجدها بأكثر منها لم يجب شراؤها ، ولم تجب عليه الزيادة ، ويدل عليه ما
تقدم في رواية علي بن أبي حمزة ، حيث قال السائل «فلم توجد بالذي سمى ، فقال عليهالسلام : ما أرى لهم
أن يزيدوا على الذي سمي». وحينئذ فيجب عليه الصبر ، وتوقع
__________________
(1) الكافي ج 6 ص 182 ح 3 ، الوسائل ج 16 ص 23 ح 1.
وجودها بما عين له ، فإن يئس من ذلك
ففي بطلان الوصية أو صرفه في البر أو شراء شقص به ، فان تعذر فأحد الأمرين أوجه ،
استجود في المسالك شراء الشقص قال : لأنه أقرب الى مراد الموصي من عدمه ، ولعموم «فأتوا
منه ما استطعتم».
أقول : لا يخفى أن الأظهر بناء على ما تقدم في نظائر هذه
المسئلة هو الصرف في وجوه البر ، إلا أن يجعل ما ذكره من شراء الشقص داخلا في وجوه
البر ، وتكون هذه الوجوه التي ذكرها مؤيدة.
وكيف كان فالظاهر هو الصرف في وجوه البر كيف كان ، ونقل
عن التذكرة الميل الى القول بالبطلان ، حيث نفى عنه البأس ، وفيه ما عرفت في أصل
المسئلة المتقدمة من صون هذا القول ، لأن هذه الصورة أحد جزئيات تلك المسئلة ، ولو
وجدت بأقل اشتراها وأعتقها ، ورفع إليها ما بقي من الموصى به.
ويدل على الحكم المذكور ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر
الله مراقدهم) في الصحيح إلى سماعة ، فيكون الموثق (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أوصى
أن يعتق عنه نسمة بخمسمائة درهم من ثلثه ، فاشترى الوصي نسمة بأقل من خمسمائة درهم
، وفضلت فضلة ، فما ترى؟ قال : تدفع الفضلة إلى النسمة من قبل أن تعتق ، ثم تعتق
عن الميت».
قال في المسالك : والرواية مع ضعف سندها بسماعة دلت على
اجزاء الناقصة وان أمكنت المطابقة ، لأنه لم يستفصل فيها ، هل كانت المطابقة ممكنة
أم لا؟ وترك الاستفصال من وجوه العموم ، إلا أن الأصحاب نزلوها على تعذر الشراء
بالقدر ، ولا بأس بذلك مع اليأس من العمل بمقتضى الوصية ، لوجوب تنفيذها بحسب
الإمكان ، وإعطاء النسمة الزائد صرف له في وجوه البر ، وهو في محله حينئذ ، وتبقى
الرواية شاهدا ان لم تكن حجة ، لأن سماعة وان كان واقفيا
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 19 ح 13 ، التهذيب ج 9 ص 221 ح 868 ، الفقيه
ج 4 ص 159 ح 557 ، الوسائل ج 13 ص 465 الباب 77.
لكنه ثقة ، فتبني حجيتها على قبول
الموثق ، أو على جبر الضعف بالشهرة ، وعلى ما بيناه لا ضرورة الى ذلك ، لموافقة
مضمونها للقواعد إذا قيدت باليأس من تحصيل النسمة بالشرط ، انتهى.
أقول : الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه أعلم ـ أن الموصي
أوصى بشراء نسمة تكون مما يساوى هذا الثمن عرفا ، واتفق حصول بعض أفراد هذا النوع
بأقل من هذا الثمن ، فان الحكم فيه ما ذكر من صحة الشراء وإعطاء الزائد النسمة.
أما صحة الشراء فلأن المفروض أنه من النوع الذي أمر به ،
وان اتفق حصوله بأقل من الثمن المعين ، لأن الموصي إنما قصد بتعيين الثمن بيان
النوع الذي يريده ، بمعنى أنه يكون من الأنواع التي تكون قيمتها بحسب العرف
والعادة خمسمائة درهم ، فالغرض إنما هو بيان النوع ، والذي اشتراه الوصي من هذا
النوع ، إلا أنه اتفق له بأقل من الثمن المحدود ، وحينئذ فزيادة الثمن ونقصانه غير
ملحوظ في الأمر بالشراء ، وانما الملحوظ تعيين النوع ، وقد حصل ، فلا مخالفة في
الرواية بوجه من الوجوه ، ولا يحتاج الى تنزيلها على تعذر الشراء بالقدر ، كما
نقله عن الأصحاب ، ولا الى الحمل على اليأس من العمل بمقتضى الوصية كما ذكره ، لأن
العمل بمقتضى الوصية قد حصل بشراء تلك النسمة ، حيث انها من النوع الذي أراده
الموصي ، والثمن لا مدخل له في ذلك حيث انه انما ذكر لبيان ذلك النوع ومعرفته ، لا
أنه ملحوظ له أولا وبالذات كما توهمه حتى أنه بالنقصان عنه قد خالف مقتض الوصية ،
وما ذكرناه بحمد الله سبحانه صحيح ، لا قصور فيه ولا ريب يعتريه.
وأما صرف الزائد فهو يرجع الى صرفه في وجوه البر ، كما
هو المقرر في مثله.
بقي الكلام في أن الرواية دلت على أن المعتق بعد إعطاء
الزائد النسمة والمفهوم من كلام الأصحاب عدم التقييد بذلك ، وأنه لا فرق في دفع الزائد
إلى النسمة بين كونه قبل العتق أو بعده ، والله العالم.
ومنها أنه لو أعتق رقبة بظن أنها مؤمنة ، ثم بانت بخلاف
ذلك ، قالوا : أجزأت عن الموصى له ، وعلله في المسالك بأنه متعبد في ذلك بالظاهر ،
لا بما في نفس الأمر ، إذ لا يطلع على السرائر إلا الله ، فقد امتثل الأمر ، وهو
يقتضي الإجزاء ، انتهى وهو جيد.
أقول : ويدل عليه أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر
الله تعالى مراقدهم) عن عمار بن مروان (1) عن أبى عبد الله عليهالسلام في حديث قال
فيه «قلت : وأوصى بنسمة مؤمنة عارفة فلما أعتقناه بان لنا أنه لغير رشدة ، فقال :
فقد أجزأت عنه».
وزاد في الكافي الفقيه «إنما ذلك مثل رجل اشترى أضحية
على انها سمينة فوجدها مهزولة ، فقد أجزأت» ، والمراد بقوله «لغير رشدة» يعنى ولد
الزنا وفي الخبر إشارة واضحة الى عدم ايمان ولد الزنا كما هو حق عندي في المسئلة ،
وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الطهارة.
المقصد الخامس في الموصى له :
وفيه مسائل الاولى : الظاهر أنه
لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يشترط في الموصى إليه الوجود حال
الوصية ، فلو أوصى لميت بطلت ، وكذا لو أوصى لمن يظن وجوده ، ثم تبين أنه قد مات
حال الوصية ، قالوا ، والوجه في ذلك أن الوصية لما كانت عبارة عن تمليك عين أو
منفعة كما تقدم من تعريفها بذلك ، فلا بد من أن يكون الموصى له قابلا للتمليك ،
ليتحقق مقتضاها ، فلا تصح الوصية للميت ولا لما تحمله المرأة ، ولا لمن علم موته
حين الوصية ، للعلة المذكورة.
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 62 ح 17 ، التهذيب ج 9 ص 236 ح 920 ، الفقيه
ج 4 ص 172 ح 604 ، الوسائل ج 13 ص 481 ح 2.
قال في المسالك : وأما الوصية لمن سيوجد ، فقد أطلق
الأصحاب وغيرهم المنع منه ، ولو بالتبعية للموجود ، مع أنه قد تقدم جواز الوقف على
المعدوم تبعا للموجود ، ودائرة الوقف أضيق من دائرة الوصية ، كما يعلم من أحكامها
، ويمكن الفرق بينهما لافتراقهما في هذا الحكم بأن الغرض من الملك في الوقف ملك
العين على وجه الحبس ، وإطلاق الثمرة ، والموقوف حقيقة هو العين ، وملكها حاصل
للموقوف عليه الموجود ، ثم ينتقل منه الى المعدوم ، وان كان يتلقى الملك من الواقف
، ففائدة الملك المقصودة منه متحققة فيهما ، بخلاف الوصية فإنه لو أوصى الى موجود
، ثم الى معدوم بذلك الموصى به أولا ، فإن مقتضى الوصية تمليك الموصى له ، فيكون
الموصى به ملكا لذلك الموجود يتصرف فيه كيف يشاء ، ولو ببيعه وإخراجه عن ملكه ،
وهذا مما ينافي الوصية للمعدوم بها ، لأن الوصية له يقتضي تمليكه أيضا ، والحال أن
العين الموصى بها قد صارت ملكا للأول ، ويلزم أيضا أنه بالوصية إلى المعدوم من أول
الأمر ينتقل العين الموصى بها اليه ، كما هو مقتضى الوصية ، مع أنه معدوم في ذلك
الوقت ولا يصلح للتملك.
نعم لو كانت الوصية بثمرة بستان لزيد ، ولأولاده
المتجددين من بعده وهذا موضع شبهة في المقام ، فإنه وان لم يأت فيه ما تقدم من
المحذور الأول ، إلا أن الثاني آت فيه ، لأنه بالوصية الى زيد ولأولاده ينتقل
الموصى به الى كل منهما ، وكل منهما يوصى له بطريق الاستقلال لأن الثمرة التي
تملكها الأول بالوصية غير الثمرة التي تملكها الأخر في زمانه ، ومقتضى الوصية
التمليك ، فيلزم بمجرد الوصية تملك المعدوم ، مع أنه غير قابل للتملك ، ولو
بالتبعية ، بخلاف الوقف ، لأن الملك متحقق للموجود في الأصل ابتداء ، ومنه ينتقل
الى المعدوم بعد وجوده ، ويزيد ذلك تأييدا أو تعليلا وتشييدا أن الوصية كما عرفت
من المملكات موجبة لنقل الملك من الموصى الى الموصى له ، فلا بد من الدليل الشرعي
على صحة تملك الوصية ، ليترتب عليها الأثر المذكور ، والذي علم من الأدلة والأخبار
الواردة في
باب الوصية هو تخصيص ذلك بالوصية إلى
الموجود ، والحكم بالصحة في المعدوم يتوقف على الدليل ، وليس فليس.
الثانية : الظاهر أنه
لا خلاف بين الأصحاب (رضياللهعنهم) في صحة
الوصية للوارث والأجنبي وغير الوارث من الأقارب ، والخلاف هنا إنما هو من الجمهور
، فإن أكثرهم على عدم جوازها للوارث ، ورووا في ذلك عنه (1) (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أنه قال : «لا
وصية لوارث». ويدل على ما ذكره الأصحاب الآية ، وهي قوله عزوجل (2) «كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» ومن الظاهر أن
الوالدين يكونان وارثين البتة ، فهي صريحة في جواز الوصية للوارث ، والأقارب قد
يكونوا وارثين أيضا فتدل الآية أيضا على ذلك بإطلاقها ، فالمراد بقوله في الآية «كُتِبَ» ليس للوجوب ،
بل المراد التأكيد والحث على ذلك.
وقد اضطرب كلام العامة في المقتضى عن الآية والجواب عنها
، فقيل : بأنها منسوخة بآية المواريث وقد رواه العياشي في تفسيره عن ابن مسكان (3) عن أبى جعفر عليهالسلام في قوله تعالى
«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» قال : هي
منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث. وجملة من أصحابنا حملوا هذه الرواية
على التقية ، لما عرفت من أن المنع مذهب العامة.
ويحتمل قريبا حمل النسخ فيها على نسخ الوجوب ، فان ظاهر
الآية الوجوب وأنه قد نسخ بآية المواريث ، فلا ينافي الجواز بل الاستحباب.
ومنهم من حمل الوالدين على الكافرين ، وباقي الأقارب على
غير الوارث
__________________
(1) الجامع الصغير ج 2 ص 204 الطبعة الرابعة ـ دار الكتب
العلمية.
(2) سورة البقرة ـ الاية 180.
(3) تفسير العياشي ج 1 ص 77 ح 167 ، الوسائل ج 13 ص 376 الباب
15 ح 15.
منهم جمعا ، ومنهم من جعلها منسوخة
فيما يتعلق بالوالدين خاصة.
قال في المسالك : ويبطل الأول بأن الشيء إنما ينسخ غيره
إذا لم يمكن الجمع بينهما ، وهو هنا ممكن بحمل الإرث على ما زاد عن الثلث ، كغيرها
من الوصايا ، وبه يبطل الباقي ، قال : والخبر على تقدير تسليمه يمكن حمله على نفي
وجوب الوصية الذي كان قبل نزول الفرائض ، أو على نفي الوصية مطلقا ، بمعنى إمضائها
، وان زادت عن الثلث ، كما يقتضيه إطلاق الآية ، والمراد نفي الوصية عما زاد عن
الثلث.
ثم ان مما يدل على الوصية للوارث الأخبار المتكاثرة ،
ومنها ما رواه في الكافي عن أبى بصير (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الوصية
للوارث ، فقال : تجوز.
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي ولاد
الحناط (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الميت يوصى
للوارث بشيء؟ قال : نعم ، أو قال جائز له».
وما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح «عن
أبى جعفر عليهالسلام قال : الوصية
للوارث لا بأس بها».
وعن محمد بن مسلم (4) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الوصية
للوارث؟ قال : تجوز».
وما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن مسلم (5) في الموثق عن
أبى جعفر عليهالسلام قال : «سألته
عن الوصية للوارث؟ فقال : تجوز ، قال : ثم تلا هذه الآية «إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ».
وفي هذا الخبر ما يؤذن بحمل خبر العياشي على المعنى
الثاني ، وهو أن
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الكافي ج 7 ص 9 ح 1 و 2 و 3 وص 10 ح 4 و 5
، التهذيب ج 9 ص 199 ح 791 و 798 ، الفقيه ج 4 ص 144 ح 493. الوسائل ج.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 374 ح 3 وص 373 ح 1 وص 374 ح
4 و 5 وص 373 ح 2
المراد نسخ الوجوب ، فإن الإمام عليهالسلام قد استدل بها
على جواز الوصية للوارث ، وما دان إلا باعتبار حمل قوله «كُتِبَ» على تأكيد
الاستحباب.
وأما ما رواه الشيخ عن القاسم بن سليمان (1) «قال سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن رجل اعترف
لوارث بدين في مرضه ، فقال : لا تجوز وصية لوارث ولا اعتراف». فقد أجاب عنه الشيخ
في التهذيبين بالحمل على التقية ، قال لموافقته مذاهب العامة ومخالفته للقرآن ،
وحمله في الفقيه على أكثر من الثلث.
الثالثة : اختلف
الأصحاب في جواز الوصية للذمي على أقوال : فقيل : بالصحة مطلقا رحما كان أو غيره ،
وهو قول ابن إدريس ومن تبعه ، ومنهم المحقق والعلامة.
وقيل : بالعدم مطلقا وهو القاضي ابن البراج ، وقيل : تصح
إذا كان رحما ، ولا تصح ان كان أجنبيا ، نقله الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا.
ويدل على الأول قوله عزوجل (2) «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ. الى قوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ» والوصية بر.
ومن الأخبار ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم)
عن محمد بن مسلم (3) في الصحيح قال
: «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أوصى
بماله في سبيل الله فقال : أعطه لمن أوصى به له ، وان كان يهوديا أو نصرانيا ، أن
الله تبارك وتعالى يقول (4) (فَمَنْ
بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)».
وما رواه في الكافي والتهذيب بسند صحيح غير الأول عن
محمد بن مسلم (5)
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 200 ح 799 ، الوسائل ج 13 ص 375 ح 12.
(2) سورة الممتحنة ـ الاية 8.
(3) التهذيب ج 9 ص 203 ح 808 ، الكافي ج 7 ص 14 ح 1 ، الفقيه ج
4 ص 48 ح 514 ، الوسائل ج 13 ص 411 الباب 32.
(4) سورة البقرة ـ الاية 181.
(5) الكافي ج 7 ص 14 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 201 ح 804 ، الوسائل
ج 13 ص 411 الباب 32 ذيل الرواية الأولى.
عن أحدهما عليهماالسلام مثله بأدنى
تفاوت.
وما رواه المشايخ الثلاثة أيضا عن يونس بن يعقوب (1) «أن رجلا كان
بهمدان ذكر أن أباه مات ، وكان لا يعرف هذا الأمر ، فأوصى بوصية عند الموت وأوصى
أن يعطى شيء في سبيل الله فسئل عنه أبو عبد الله عليهالسلام كيف يفعل به؟
فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر ، فقال : لو أن رجلا أوصى الي أضع في يهودي أو
نصراني لوضعته فيهما ، أن الله عزوجل يقول «فَمَنْ
بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» فانظروا الى من
يخرج الى هذا الوجه يعنى «بعض الثغور» فابعثوا به اليه».
واستدل للثاني ـ بأن الوصية تستلزم المودة ، وهي محرمة
بالنسبة إلى الكافر ، بقوله تعالى (2) «لا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ
اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ» وهي متناولة
للأرحام وغيرهم.
ورده في المسالك فقال : ويضعف بمعارضته بقوله تعالى (3) «لا
يَنْهاكُمُ اللهُ» الآية والذمي مطلقا داخل فيها ، وبما
تقدم من الأخبار ، وبقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (4) «على كل كبد
حرى أجرا» ، وينتقض بجواز هبته وإطعامه ويمنع كون مطلق الوصية له موادة ، لأن
الظاهر أن المراد منها موادة المحاد لله من حيث هو محاد لله بقرينة ما ذكر من جواز
صلته ، وهو عين المتنازع ، لأنا لا نسلم أنه لو أوصى للكافر من حيث انه كافر لا من
حيث أنه عبد لله وذو روح من أولاد آدم المكرمين لكانت الوصية باطلة ثم انه اختار
القول بالصحة مطلقا
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 14 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 201 ح 804 ، الوسائل
ج 13 ص 414 ح 4.
(2) سورة المجادلة ـ الاية 22.
(3) سورة الممتحنة ـ الاية 8.
(4) الكافي ج 4 ص 57 ح 2 وفيه «أفضل الصدقة إبراد كبد حرى» وفي
هامش الجامع الصغير ج 2 ص 68 عن صحيح الترمذي لك بكل ذات كبد حرى أجر الوسائل ج 6
ص 330 الباب 49.
للآية المتقدمة ، والأخبار المذكورة
معها.
أقول : لقائل أن يقول : ان الأخبار المذكورة لا دلالة
فيها على أزيد من وجوب تنفيذ الوصية كما أوصى به الموصي ، وهو لا يستلزم جواز ذلك
، بل من الممكن أن يكون ما فعله محرما يأثم عليه وان وجب تنفيذه على الوصي ، واليه
تشير الأخبار المذكورة ، فإن الظاهر من الأخبار أن معنى سبيل الله هو جميع وجوه
البر كما تقدم بيانه ، وان تفسيره بالجهاد إنما هو مذهب العامة ، ولهذا انه عليهالسلام في خبر يونس
بن يعقوب أمر بصرفه في ذلك لكون الموصي مخالفا.
وبالجملة فإن النهي عن موادة الذمي وصلته التي من جملتها
الوصية له لا ينافي وجوب تنفيذها بالآية المذكورة ، ألا ترى أن البيع بعد النداء
يوم الجمعة محرم يأثم فاعله مع أنه صحيح لو وقع ، ومرجع ذلك الى أن الآية قد دلت
على أنه يجب تنفيذ ما أوصى به حسبما أوصى به ، سواء كان ما فعل من الوصية جائزا أو
محرما ، واثم تحريمه انما يتعلق به ، لا بالموصي ، نعم تبقى المعارضة بين الآيتين
المذكورتين ، والجمع بينهما مشكل ، وقد مر في كتاب الوقف مزيد كلامه في ذلك : وأما
استناده فيما ذكره الى الخبر النبوي المذكور ، والى أنه تجوز هبته وإطعامه فهو ناش
من الغفلة عن مراجعة النصوص الواردة في هذا الباب ، وذلك فإنه قد روى ثقة الإسلام
في الكافي النهي عن إطعام الكافر ، عن أبي يحيى (1) عن بعض
أصحابنا «عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : من أشبع
مؤمنا وجبت له الجنة ، ومن أشبع كافرا كان حقا على الله أن يملأ جوفه من الزقوم ،
مؤمنا كان أو كافرا».
وروى الصدوق قدسسره في كتاب معاني
الأخبار بسنده فيه عن النهيكي (2) رفعه الى أبي عبد الله عليهالسلام «أنه قال من
مثل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من الإسلام فقلت له : هلك إذا كثير من الناس ،
فقال : انما عينت بقولي «من مثل
__________________
(1) أصول الكافي ج 2 ص 200 ح 1 ، الوسائل ج 16 ص 523 ح 1.
(2) معاني الأخبار ص 181 ، الوسائل ج 16 ص 523 ح 2.
مثالا» من نصب دينا غير دين الله ودعى
الناس اليه ، وبقولي «من اقتنى كلبا مبغضا لأهل البيت اقتناه فأطعمه وسقاه من فعل
ذلك فقد خرج عن الإسلام».
وعن معلى بن الحسين (1) عن أبى عبد الله عليهالسلام في حديث قال :
«من أشبع عدوا لنا فقد قتل وليا لنا».
وفي وصيته (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لأبي ذر
المنقولة في كتاب مجالس الشيخ (2) : «يا أبا ذر لا يأكل طعامك إلا تقي.
الى أن قال : أطعم طعامك من يحب في الله ، وكل طعام من يحبك في الله».
وروى في التهذيب عن عمر بن يزيد (3) «قال سألته عن
الصدقة على النصاب وعلى الزيدية ، فقال : لا تصدق عليهم بشيء ولا تسقهم من الماء
ان استطعت ، وقال : الزيدية هم النصاب».
وعن ابن أبى يعفور (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : جعلت فداك
ما تقول في الزكاة؟ الى أن قلت : فيعطى السؤال منها شيئا؟ قال : فقال : لا والله
إلا أن ترحمه فان رحمته فأعطه كسرة ثم أو مى بيده فوضع إبهامه على أصول أصابعه».
وفي رواية أبي بصير (5) «عن الصادق عليهالسلام قال : أبو عبد
الله عليهالسلام أترون أنما في
المال الزكاة وحدها ، ما فرض الله في المال من غير الزكاة أكثر ، تعطى منه القرابة
والمتعرض لك ممن يسألك فتعطيه ما لم تعرفه بالنصب ، فإذا عرفته بالنصب فلا تعطه
إلا أن تخاف لسانه فتشترى دينك وعرضك منه».
الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدلالة على ذلك ، وهي
مؤيدة لما دلت
__________________
(1) معاني الأحبار ص 365.
(2) أمالي الشيخ الطوسي ج 2 ص 148 ط النجف الأشرف.
(3 و 4) التهذيب ج 4 ص 53 ح 141 و 142.
(5) الكافي ج 3 ص 551 ح 2.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 16 ص 524 ح 3 و 4 وج 6 ص 288 ح 2 وص 153 ح 6 وص 170 ح 1.
عليه الآية المذكورة أعني قوله تعالى (1) «لا
تَجِدُ قَوْماً» الآية ويعضده هذه الآية أيضا قوله عزوجل (2) «يا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» الى أن قال «وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا
لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ».
وأنت خبير بما فيها من التسجيل على النهي عن الموادة لهم
على أبلغ وجه وأكده ، ولا ريب أن الوصية لهم نوع محبة كما لا يخفى ، وبما ذكرناه
من الاعتضاد بهذه الآية والأخبار المذكورة يظهر ترجيح العمل بآية «لا
تَجِدُ قَوْماً» على الآية الأخرى وهي (3) «لا
يَنْهاكُمُ اللهُ» الآية.
ومن المحتمل قريبا تخصيص هذه الآية بمعنى لا ينافي ما
دلت عليه تلك الآيات والأخبار ، كما ذكره الطبرسي في كتاب مجمع البيان ، قال : أي
ليس ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد الذين عاهدوكم على ترك القتال ، وبرهم
ومعاملتهم بالعدل ، وهو قوله (4) «أَنْ
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» أي وتعدلوا
فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد ، نقل ذلك عن الزجاج ، وإذا قام هذا الاحتمال
فلا دلالة في الآية على المخالفة ، ثم نقل قولا بأنها منسوخة بآية (5) «فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» عن ابن عباس
والحسن وقتادة وعلى هذا فلا إشكال أيضا إلا أن ظاهر كلامه الأخير يؤذن بالمخالفة ،
وقد تقدم نقله في كتاب الوقف.
والمراد بالناصب في هذه الأخبار هو المخالف الغير
المستضعف ، ولا الجاهل بالإمامة لا ما يتوهمه متأخر وأصحابنا من المعلن بعداوة أهل
البيت عليهمالسلام كما
__________________
(1) سورة المجادلة ـ الاية 22.
(2) سورة الممتحنة ـ الاية 1.
(3 و 4) سورة الممتحنة ـ الاية 8.
(5) سورة التوبة ـ الاية 5.
تقدم تحقيقه في غير مقام ، ولا سيما
في كتب العبادات.
وبذلك يظهر لك ما في قوله «انا لا نسلم أنه لو أوصى للكافر
من حيث انه كافر لكانت الوصية باطلة» ، فإن فيه ما عرفت من أنه لا منافاة بين
إنفاذ الوصية بعد وقوعها ، وعدم جواز الوصية له ، ومحل البحث إنما هو جواز الوصية
، وقد دلت الأخبار التي سردناها على عدم جواز صلة الكافر ، والوصية من جملة ذلك ،
فلا يجوز حينئذ ، ولكن بعد وقوعها وإن أثم الموصي بذلك لا تجوز مخالفته لمقتضى
الأخبار المذكورة المعتضدة بالآية الدالة على النهي عن التبديل والمخالفة لما أوصى
به.
واستدل للقول الثالث بما ورد من الحث على صلة الرحم
مطلقا ، فيتناول الذمي ، ورد بأن ذلك غير مناف لما دل على صلة غيره.
أقول : هذا الجواب انما يتم لو دل الدليل على صلة غيره
ممن هو محل البحث ، وأما على ما ذكرناه من عدم جواز ذلك كما عرفته ، فالقول
المذكور وما علل به جيد لا بأس به ، إلا أنه يمكن أن يقال : انه قد تعارض هنا
عمومان : أحدهما ـ ما دل على صلة الرحم متدينا كان أو غيره ، وثانيهما ـ ما دل على
المنع من صلة الكافر مطلقا رحما كان أو غيره ، كما عرفت من الأخبار التي ذكرناها ،
وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج الى دليل ، ومن ذلك يظهر أن الأظهر هو القول
بالمنع مطلقا ، ويؤيده أنه الأحوط من هذه الأقوال ، والاحتياط أحد المرجحات الشرعية
في مقام التعارض بين الأدلة ، هذا بالنسبة إلى الذمي.
وأما الحربي والمراد به ما هو أعم من الوثني أو الذمي
الذي لا يقوم بشرائط الذمة ، والظاهر أن المشهور بينهم هو عدم صحة الوصية له ،
واستدل عليه بقوله تعالى (1) «إِنَّما
يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ» الآية ،
والحربي ناصب نفسه لذلك.
__________________
(1) سورة الممتحنة ـ الاية 9.
قال في المسالك : وفيه نظر ، لأن الحربي قد لا يكون
مقاتلا بالفعل بل ممتنعا من التزام شرائط الذمة ، فلا يدخل في الآية ، وقوله عليهالسلام في الخبر
السابق «أعطه لمن أوصى له ، وان كان يهوديا أو نصرانيا» ، واستشهاده بالآية يتناول
بعمومه الحربي ، لأن «من» عامة في المتنازع وكذلك اليهودي والنصراني شامل للذمي
وغيره ، حيث لا يلتزم بشرائط الذمة ، انتهى.
أقول : من المحتمل قريبا ـ بل الظاهر أنه هو المراد ـ أن
المراد بالقتال في الدين انما هو بعد طلبهم الى الدخول في الدين ، أو القيام
بالجزية ان كانوا من أهل الكتاب ، بمعنى انكم إذا طلبتموهم الى ذلك قاتلوكم ، ولم
يجيبوا دعوتكم ، ونصبوا لكم القتال ، لا أن المراد أنهم يبتدءونكم بالقتال ،
وينصبون لكم الحرب ، وان لم تدعوهم إلى الإسلام ، إذ من الظاهر أن أهل مكة الذين
هم مورد الآية وغيرهم انما قاتلوا رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بعد الدعوة
الى الإسلام ، وطلبهم الى الدخول فيه ، وإلا فلو كف عنهم لكفوا عنه ولم يقاتلوه
بالكلية.
وأما الاستناد إلى ما ذكره من قوله عليهالسلام في الخبر
السابق «أعطه لمن أوصى له وان كان يهوديا» ، فان فيه ما قدمنا تحقيقه من أنه لا
يلزم من وجوب التنفيذ صحة الوصية ، بل يجب على الوصي إنفاذ ما أوصى به وان كان أصل
الوصية منهيا عنه ، جمعا بين الآيات والأخبار الدالة على النهي عن صلة الكافر
وموادته ، والوصية من قبيل ذلك ، وبين الأخبار المشار إليها الدالة صريحا على وجوب
تنفيذ ما أوصى به ، وليس فيما ذكرناه من هذا القول ما يطعن به عليه ، إلا كونه
خلاف المشهور بينهم ، وإلا فالقواعد الشرعية لا تنافيه بل تعضده ، كما تقدمت
الإشارة إليه.
ثم ان ما استدل به على عدم صحة الوصية للحربي وكذا الوقف
عليه أن مال الحربي فيء للمسلمين ، فلا يجب دفعه إليه لأنه غير مالك ، فلو جازت
الوصية له لكان إما أن يجب على الوصي
دفعه اليه وهو باطل لما تقدم ، أو لا يجب وهو المطلوب ، إذ لا معنى لبطلان الوصية
إلا عدم وجوب تسليمها الى الموصى له.
واعترضه في المسالك بأن فيه منع استلزام عدم وجوب دفع
الوصية إليه بطلانها ، لأن معنى صحتها ثبوت الملك له إذا قبله فيصير حينئذ ملكا من
أملاكه يلزمه حكمه ، ومن حكمه جواز أخذ المسلم له ، فإذا حكمنا بصحة وصيته ، وقبضه
الوصي ثم استولى عليه من جهة أنه مال الحربي ، لم يكن منافيا لصحة الوصية ، وكذا
لو منعه الوارث لذلك ، وان اعترفوا بصحة الوصية.
وتظهر الفائدة في جواز استيلاء الوصي على العين الموصى
بها الحربي ، فيختص بها دون الورثة ، وكذا لو استولى عليها بعض الورثة دون بعض ،
حيث لم يكن في أيديهم ابتداء ، ولو حكمنا بالبطلان لم يأت هذا ، بل يكون الموصى به
من جملة التركة ، لا يختص بأحد من الورثة.
أقول : يمكن أن يقال : أن مراد المستدل المذكور هو أنه
لما أباح الشارع ماله وجعله فيئا للمسلمين ، دل ذلك على كونه غير أهل للملك ،
بمعنى أنه لا يدخل شيء في ملكه ، بأي نحو كان ، وأن هذا المال الذي كان عنده انما
هو بمنزلة الأشياء المباحة للناس ، كل من سبق اليه وحازه ملكه دون غيره ، وكونه في
يده قبل الاستيلاء عليه بالقهر والغلبة من المسلمين ، لا يدل على الملك ، وعلى هذا
فلا يجوز إدخال شيء في ملكه بوصية أو غيرها ، حتى أنه بعد الدخول في ملكه ، يصير
فيئا للمسلمين ، كما ذكره (قدسسره) بل تصبر
الوصية إليه باطلة ، ويكون الموصى به من جملة التركة كما ذكره أخيرا ، وهو احتمال
قريب وجيه لا بد لنفيه من دليل.
الرابعة : قالوا : لا
تصح الوصية لمملوك الأجنبي ولا لمدبره ، ولا لأم ولده ، ولا لمكاتبة المشروطة ، أو
الذي لم يؤد من مكاتبته شيئا ، وان أجاز مولاه.
أقول : أما عدم جواز الوصية لمملوك الغير قنا كان أو
مدبرا أو أم ولد ،
فاستدلوا عليه بانتفاء أهلية الملك
بالنسبة إلى هؤلاء ، وهو شرط في صحة الوصية.
وفيه أن هذا إنما يتم على القول بأن المملوك لا يملك شيئا
مطلقا ، كما هو أحد الأقوال في المسئلة ، وأما على القول بأنه يملك وان كان في
التصرف محجورا إلا بإذن المولى ، فإنه لا مانع من صحة الوصية له ، فيعتبر قبوله
كغيره ، وربما استدل على عدم الصحة برواية عبد الرحمن بن الحجاج (1) عن أحدهما عليهماالسلام قال : «لا
وصية لمملوك».
وفيه أن الخبر كما يحتمل نفي الوصية من الغير له ، كذلك
يحتمل نفى أن يوصى المملوك لغيره ، لاحتمال أن يكون الإضافة هنا الى الفاعل ، أو
المفعول.
وأما بالنسبة إلى مكاتب الغير إذا كان مشروطا أو مطلقا
ولم يؤد شيئا بالكلية ، فالمشهور أن الحكم فيه كما في سابقه ، لبقاء المملوكية.
وقيل : بصحة الوصية للمكاتب مطلقا ، لانقطاع سلطنة
المولى عنه ، ولهذا يصح بيعه واكتسابه ، وقبول الوصية نوع من الاكتساب.
أقول : والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بالمكاتب
ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (2) عن أبى جعفر عليهالسلام في مكاتب كذا
في كتابي الكافي والتهذيب وفي الفقيه «عن أبى جعفر عليهالسلام قال : قضى
أمير المؤمنين عليهالسلام في مكاتب كانت
تحته امرأة حرة ، فأوصت له عند موتها بوصية فقال : أهل الميراث لا نجيز وصيتها له
، انه مكاتب لم يعتق ولا يرث ، فقضى أنه يرث بحساب ما أعتق منه ، ويجوز له من
الوصية بحساب ما أعتق منه ، وقضى في مكاتب أوصى له بوصية وقد قضى نصف ما عليه
فأجاز له نصف الوصية وقضى في مكاتب قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز ربع
الوصية ، وقال في رجل حر أوصى لمكاتبة ، وقد قضت سدس ما كان عليها وأجاز بحساب ما
أعتق منها».
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 216 ح 852.
(2) الكافي ج 7 ص 28 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 223 ح 874 ، الفقيه ج
4 ص 160 ح 558.
وهما في الوسائل ج 13 466 ح 2 وص 468 الباب 80.
وشيخنا في المسالك بناء على ما حصل له من الوهم في محمد
بن قيس في أمثال هذا السند من كونه مشتركا ، والحديث به ضعيف. رد هذه الرواية بذلك
، بعد أن أوردها دليلا للقول الأول ، واختار القول الثاني وجعله الأقوى ، وهو ضعيف
، فان محمد بن قيس في هذا السند وأمثاله هو الثقة ، كما قطع به جملة من تأخر عنه ،
ومنهم سبطه السيد السند في شرح النافع ، فتكون الرواية صحيحة بحسب العمل بمقتضى
هذا الاصطلاح ، هذا مع تأيدها بجملة من الأخبار الدالة على أن المكاتب إذا أوصى
صحت وصيته بقدر ما أعتق منه خاصة ، ومقتضى كلامه المتقدم صحة وصيته مطلقا ،
لانقطاع سلطنة المولى عنه الى آخر ما ذكره ، مع أن الأخبار قد قصرت الصحة على قدر
ما انعتق منه.
ومنها صحيحة محمد بن قيس (1) «عن أبى جعفر عليهالسلام قال قضى أمير
المؤمنين عليهالسلام في مكاتب قضى
بعض ما كوتب عليه أن يجاز من وصيته بحساب ما أعتق عنه ، وقضى في مكاتب قضى نصف ما
عليه فأوصى بوصية فأجاز نصف الوصية ، وقضى في مكاتب قضى ثلث ما عليه ، وأوصى بوصية
فأجاز ثلث الوصية».
وصحيحة أبان (2) عمن حدثه «عن أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : في
مكاتب أوصى بوصية ، قد قضى الذي كوتب عليه الأشياء يسيرا فقال : تجوز بحساب ما
أعتق منه».
ورواية محمد بن قيس (3) «عن أبى جعفر عليهالسلام في حديث قال :
قضى أمير المؤمنين عليهالسلام في وصية مكاتب
قد قضى بعض ما كوتب عليه أن تجاز من وصيته بحساب ما أعتق منه». وبذلك يظهر لك مزيد
ضعف القول المذكور.
تنبيهان :
الأول : قال في
المختلف : المشهور أنه لا تصح الوصية لعبد الغير ولا لمكاتبة المشروط وغير المؤدي
، وقال الشيخ في المبسوط وتبعه ابن البراج : إذا أوصى
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 223 ح 876 و 875 ، الوسائل ج 13 ص 268 ح
1 وص 469 الباب 81 ح 2 وص 468 الباب 81 ح 1.
(3) هذه الرواية تكرار منه (قدسسره).
لعبد نفسه أو لعبد ورثته كان ذلك
صحيحا ، لأن الوصية للوارث عندنا تصح ، وكذا ان أوصى لمكاتبة أو لمكاتب ورثته كانت
الوصية صحيحة ، ولو أوصى لعبد الأجنبي لم تصح الوصية ، لما ورد في الخبر في ذلك ،
وفي كلامه نظر ، فإن الوصية للعبد ان كانت وصية لمولاه صحت ، وان كان العبد لأجنبي
، لأنه تصح الوصية له وان لم يكن لم يبق فرق بين الوارث والأجنبي ، وبالجملة فهذا
التفصيل مشكل ، انتهى.
الثاني : قال في
المختلف : قال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) إذا أوصى لعبد له كاتبه جاز مما أوصى
له بحساب ما أعتق عنه ، ويرجع الباقي الى مال الورثة ، وكذا قال سلار ، وقال ابن
البراج : يصح أن يوصى لمكاتبة ، وهو المشهور ، فان قصد المفيد برجوع الباقي الى
الورثة من غير أن يسقط من مال الكتابة بقدره بل يكون لهم مجانا ، لزم إبطال الوصية
للمكاتب ، سواء كان الموصى المالك أو غيره ، وهو مخالف لظاهر فتوى الأصحاب ، وان
قصد رجوعه إليهم وإسقاط ما يقابله من مال الكتابة ، فهو حسن ، على أن إبطال الوصية
للمكاتب الغير المشروط لا يخلو عندي من نظر ، انتهى.
أقول : ما نقله عن الشيخ المفيد (قدس الله روحه) هو
القول الأول الذي دلت عليه صحيحة محمد بن قيس المتقدمة ، وهي الاولى من رواياته ،
وما نقله عن ابن البراج هو القول الثاني ، وظاهره أنه المشهور بينهم ، وقد عرفت
اختيار صاحب المسالك له ، وعرفت ما فيه.
وأما ما أورده على الشيخ المفيد من أن حكمه برجوع الباقي
من الوصية على الورثة مجانا يعنى من غير احتساب ذلك من مال الكتابة الذي يستحقونه
يلزم منه إبطال الوصية.
ففيه أنه يجب أولا تحقيق البحث في المسئلة كما قدمنا
ذكره من أنه هل الوصية للمكاتب مطلقا صحيحة ، أم لا؟ بل تكون مراعاة بأنه في
المطلق ان لم
ينعتق منه شيء فهي غير صحيحة ، وان
انعتق منه شيء فيصح بنسبة ما انعتق منه ، وأنت قد عرفت أنه لا دليل للقول بالصحة
مطلقا ، إلا ما ذكره في المسالك من ذلك التعليل الاعتباري العليل ، وأن القول
الثاني هو مدلول الصحيحة المتقدمة كما عرفت المعتضدة بما ذكرناه من الأخبار الأخر
، وما ذكره من لزوم إبطال الوصية لا ضير فيه إذا اقتضته الأدلة الشرعية ، على أن
الإبطال بالكلية انما يتجه لو لم ينعتق منه شيء بالكلية ، وإلا فإنه يكون العتق
بالنسبة.
وبالجملة فقول الشيخ المفيد هو الموافق للاخبار كما عرفت
، وما ذكره من أن كلام الشيخ المذكور مخالف لفتوى الأصحاب فلا ضير فيه إذا اعتضدته
الأدلة الشرعية ، خلا ما ذكره الأصحاب كما عرفت في الباب.
الخامسة : اختلف
الأصحاب (رحمهمالله) في صحة وصية
الإنسان لمملوكه فقال الشيخ المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية : إذا أوصى
الإنسان لعبده بثلث ماله ينظر في قيمة العبد قيمة عادلة ، وان كانت قيمته أقل من
الثلث أعتق وأعطى الباقي ، وان كانت مثله أعتق وليس له شيء ، ولا عليه شيء ، وان
كانت القيمة أكثر من الثلث بقدر السدس أو الربع أو الثلث أعتق بمقدار ذلك ،
واستسعى في الباقي لورثته ، وان كانت قيمته على الضعف من ثلثه ، كانت الوصية باطلة
، وتبعهما ابن البراج في كتابي الكامل والمهذب.
وقال الشيخ في الخلاف إذا أوصى لعبد نفسه صحت الوصية ،
وقوم العبد وأعتق إذا كان ثمنه أقل من الثلث ، وان كان ثمنه أكثر من الثلث استسعى
العبد فيما يفضل للورثة ، وأطلق ، وكذا قال أبو الصلاح.
وقال سلار : ان كانت أقل من الثلث عتق وأعطى ما فضل ،
وان كانت أكثر بمقدار الربع والثلث من الثلث عتق بمقدار الثلث ، واستسعى في
الباقي.
وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه : إذا أوصى لمملوكه
بثلث ماله ، قوم المملوك قيمة عادلة ، فإن كانت أكثر من الثلث استسعى في الفضل ثم
أعتق وان كانت قيمته أقل من الثلث أعطى ما فضلت قيمته عليه ، ثم أعتق.
وقال ابن الجنيد : لو أوصى للمملوك بثلث ماله ، فقد روي (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام أنه قال : فان
كانت الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع القيمة ، وان
كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ، ودفع اليه ما فضل من الثلث بعد القيمة».
ويخرج الثلث من جميع التركة ، ولو كانت الوصية للمملوك
بمال مسمى لم يكن لعتاقه يجوز إخراج ذلك من غير رقبته ، ولو كانت جزء من التركة
كعشر أو نحوه كان العبد بما يملكه من ذلك الجزء من رقبته متحررا ، أو باقية كما
قلنا ، واختار ابن إدريس مذهب الشيخ في الخلاف.
قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والمعتمد أن نقول
ان كانت الوصية بجزء مشاع كثلث أو نصف أو ربع قوم العبد وأعتق عن الوصية ، فإن فضل
من قيمته شيء استسعى في الفاضل للورثة ، سواء كان الفاضل ضعف قيمته أو أقل أو
أزيد ، وان قضى عتق وأخذ الفاضل ، فان ساواه عتق ، ولا شيء له ولا عليه ، وان
كانت الوصية بعين بطلت ولا شيء له ، ولا يعتق منه شيء.
وقال المحقق في الشرائع : ويعتبر ما أوصى به المملوك بعد
خروجه من الثلث ، فان كان بقدر قيمته أعتق ، وان كان قيمته أقل أعطى الفاضل ، وان
كانت أكثر سعى للورثة فيما بقي ما لم يبلغ قيمته ضعف ما أوصى له به ، فان بلغت ذلك
بطلت الوصية ، وقيل : تصح ويسعى في الباقي كيف كان وهو حسن ، انتهى.
أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه
المسئلة ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسن بن صالح الثوري (2) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام في رجل أوصى
لمملوك له بثلث ماله ، قال : فقال : يقوم المملوك بقيمة عادلة ، ثم ينظر ما يبلغ
ثلث الميت ، فان كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع
القيمة ، وان كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ودفع اليه
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 216 ح 851 ، الوسائل ج 13 ص 467 ح 2.
ما فضل من الثلث بعد القيمة».
وما ذكره الرضا عليهالسلام في كتاب الفقه
الرضوي (1) حيث قال : «وان
أوصى لمملوكه بثلث ماله قوم المملوك قيمة عادلة ، فإن كانت قيمته أكثر من الثلث
استسعى في الفضلة ثم أعتق». وهذه عين عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة ، إلا
أنه عليهالسلام لم يذكر ما
إذا كانت قيمته أقل ، ولعل هذه الزيادة كانت في نسخة الكتاب الذي عند الشيخ
المزبور ، ويحتمل أنها من كلامه (رحمهالله) تتميما لمعنى
الكلام.
وكيف كان فينبغي أن يعلم أن الكلام هنا في مقامين الأول
ـ أن مقتضى الروايتين ـ وهو صريح العلامة في المختلف وابن الجنيد ، وظاهر الشيخين
فيما تقدم نقله عنهما ، وكذا الشيخ علي بن بابويه ـ هو الفرق بين ما إذا كانت
الوصية بجزء مشاع كثلث أو نصف أو ربع ، فان الحكم فيه ما ذكر من التفصيل ، وبينما
إذا كانت الوصية بعين ، فإنه تبطل الوصية من رأس ، لأن المملوك لا يملك ، وعلى
تقدير ملكه فإنه لا يجوز التخطي الى غير ما أوصى به ، لأنه يكون تبديلا للوصية
فالتخطى الى رقبته تبديل للوصية حينئذ ، فلا يجرى فيه الحكم المذكور في الخبرين.
وحكم الوصية بالمعين وان كان غير مذكور في كلام المشايخ
الثلاثة المذكورين ، إلا أن تخصيصهم هذا التفصيل بالوصية بالمشاع ، ظاهر في أنه لا
يجري في المعين ، وليس بعده إلا البطلان ، وظاهر كلام الأكثر كالشيخ في الخلاف
وابن إدريس والمحقق فيما نقلناه عنه وغيرهم هو العموم ، ولهم في تعليل ذلك كلمات
عليلة ، والظاهر هو القول الأول عملا بالخبرين المذكورين.
وانما يبقى الكلام في صحة الوصية له بالمعين وعدمها ،
وهو مبني على صحة تملك العبد وعدمه ، وإلا فالتخطى إلى الرقبة على تقدير الصحة
مشكل
__________________
(1) فقه الرضا (عليهالسلام) ص 40.
لما عرفت ، ونحن انما صرنا إلى التخطي
إلى الرقبة فيما إذا كانت الوصية بجزء مشترك ، للخبرين المتقدمين ، وبيان الوجه
فيما دلا عليه ، ما ذكره في المختلف وهو أن الجزء المشاع يتناول نفسه. أو بعضها ،
لأنه من جملة الثلث الشائع ، والوصية له بنفسه صحيحة ، والفاضل قد استحقه بالوصية
، لأنه يصير جزء ، فيملك بالوصية ، فيصير كأنه قال أعتقوا عبدي من ثلثي ، وأعطوه
ما فضل منه ، انتهى ، وهذا كله مفقود في صورة التعيين.
الثاني ـ أن المفهوم من كلام الشيخين المتقدم أنه في
صورة ما إذا كانت قيمته أكثر من الثلث الموصى له بقدر ضعف ما أوصى به ، كما لو
كانت قيمته مائتين الموصى له به يبلغ مائة. فإنه تبطل الوصية في هذه الصورة ،
وانما تصح فيما إذا كانت أقل من الضعف ولو يسيرا فيعتق منه بقدر الوصية ان خرجت من
الثلث ، وإلا فبقدر الثلث ، ويستسعى للورثة في الباقي كما لو أوصى له بمائة وخمسين
، وقيمته مائتان ، فإنه ينعتق منه بالوصية ثلاثة أرباعه ، ويسعى للورثة في ربع
قيمته ، وهو خمسون.
وظاهر كلام المحقق وهو اختياره في المسالك أيضا ، أنه لا
فرق بين الأمرين بأن يكون قيمته بقدر ضعف ما أوصى له به أو أقل ، فإنه ينعتق بحساب
ما أوصى له به مطلقا ، ما لم يزد عن الثلث ، فان زاد فبحساب الثلث ، وهذا هو ظاهر
كلام الشيخ في الخلاف ، وأبى الصلاح والشيخ علي بن بابويه وابن إدريس ، ونقله
الشهيد في نكت الإرشاد عن المحقق في النكت ، قال : واستدل عليه الشيخ بإجماع
الفرقة.
قال في المسالك ـ بعد إيراد رواية حسن بن صالح المتقدمة
دليلا للشيخين فيما ذهب اليه ـ : ووجه دلالة الرواية من جهة مفهوم الشرط في قوله
فيها «فان كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع
القيمة» فإن مفهومه أنه لو لم يكن أقل بقدر الربع لا يستسعى ، وانما يتحقق عدم
الاستسعاء مع البطلان ، ولا يخفى عليك
ضعف هذا التنزيل ، فان مفهومهما أن الثلث ان لم يكن أقل من قيمة العبد بقدر ربع
القيمة لا يستسعى في ربع القيمة ، لا أنه لا يستسعى مطلقا ، وهذا مفهوم صحيح لا
يفيد مطلوبهم ، فلا ينافي القول بأنه يستسعى بحسابه ، فان كان أقل بقدر الثلث
يستسعى في الثلث أو بقدر النصف ، فيستسعى في النصف ، وهكذا وأيضا فلو كان المفهوم
الذي زعموه صحيحا لزم منه أنه متى لم يكن الثلث أقل من قيمته بقدر الربع لا يستسعى
بل تبطل الوصية ، وهذا شامل لما لو كانت القيمة قدر الضعف وأقل من ذلك الى أن يبلغ
النقصان قدر الربع فمن أين خصصوا البطلان بما لو كانت قيمته قدر الضعف؟ ما هذا إلا
عجيب عجاب من مثل هذين الشيخين الجليلين ، انتهى وهو جيد وجيه.
السادسة : إذا كان على الإنسان دين وأوصى بعتق مملوكه ،
وليس له سواه أو أعتقه منجزا فقد اختلف كلام الأصحاب (رضياللهعنهم) في ذلك فقال
الشيخ المفيد (قدسسره) في كتاب
المقنعة إذا كان على الإنسان دين ، ولم يخلف إلا عبدا أو عبيدا فأعتقهم عند الموت
، نظر في قيمة العبد أو العبيد وما عليه من الدين فان كان أكثر من قيمة العبد بطل
العتق ، وبيع العبيد وتحاص الغرماء بثمنهم ، وكذا ان استوت القيمة والدين ، فان
كانت قيمة العبد أكثر من الدين السدس أو الثلث ونحو ذلك بيع العبد ، وبطل العتق ،
وان كان قيمة العبد ضعف الدين ، كان للغرماء النصف منهم ، وللورثة الثلث ، وعتق
منهم السدس ، لأن لصاحبهم الثلث من تركته يضع به ما يشاء ، فوصيته نافذة في ثلث
مماليكه ، وهو السدس ، بهذا جاء الأثر من آل محمد عليهمالسلام.
وقال الشيخ في النهاية : إذا أوصى لإنسان بعتق مملوك له
، وكان عليه دين فان كان قيمة العبد ضعف الدين استسعى العبد في خمسة أسداس قيمته ،
ثلاثة أسهم للديان ، وسهمان للورثة ، وسهم له ، وان كانت قيمته أقل من ذلك بطلت
الوصية وبذلك قال ابن البراج.
وقال ابن إدريس : الذي يقتضيه المذهب أنه لا وصية قبل
قضاء الدين ، بل الدين مقدم على الوصية ، والتدبير عندنا وصية ، فلا تمضى الوصية
إلا بعد قضاء الدين ، فان عمل عامل بهذه الرواية يلزمه أن يستسعى العبد ، سواء
كانت قيمته ضعفي الدين أو أقل من ذلك ، لأنه متى كانت قيمته أكثر من الدين بأي شيء
كان فان الميت الموصى قد استحق في الذي فضل عن الدين ثلثه ، فتمضى وصيته في ذلك
الثلث ، ويعتق العبد ، ويستسعى في دين الغرماء وما فضل عن ثلثه الباقي للورثة ،
ولي في ذلك نظر ، فإن أعتقه في الحال ، وبت عتقه قبل موته ، مضى العتق وليس لأحد
من الديان ، ولا الورثة عليه سبيل ، لأنه ليس بتدبير ، وانما هو عطية منجزة في
الحال ، وعطاياه المنجزة صحيحة ، على الصحيح من المذهب ، لا تحسب من الثلث بل من
الأصل.
وقال العلامة في المختلف : والمعتمد أن تقول ان أحاط
الدين بقيمة العبد بطل العتق ، سواء كان قد نجزه من مرض موته أو أوصى به ، وان قصر
الدين عن قيمته عتق ثلث الفاضل ، واستسعى في الباقي.
وقال المحقق في الشرائع : ولو أوصى بعتق مملوكه وعليه
دين ، فان كانت قيمة العبد بقدر الدين مرتين أعتق المملوك ، وسعى في خمسة أسداس
قيمته ، وان كانت قيمته أقل بطلت الوصية بعتقه ، والوجه أن الدين يقدم على الوصية
فيبدأ به ، ويعتق منه الثلث فيما فضل عن الدين ، أما لو نجز عتقه عند موته كان
الأمر كما ذكر أولا ، عملا برواية عبد الرحمن عن أبى عبد الله عليهالسلام.
أقول : والواجب أولا نقل ما وصل الي من الأخبار في
المسئلة المذكورة ، ثم الكلام فيها بما وفق الله سبحانه لفهمه منها ، فمن ذلك ما
رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) في الصحيح قال
: «سألني أبو عبد الله عليهالسلام
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 26 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 217 ح 854 ، الوسائل
ج 13 ص 423 ح 5.
هل يختلف ابن أبى ليلى وابن شبرمة؟
فقلت : بلغني أنه مات مولى لعيسى بن موسى وترك عليه دينا كثيرا وترك مماليك يحيط
دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت فسألهما عيسى بن موسى عن ذلك ، فقال ابن شبرمة :
أرى أن يستسعيهم في قيمتهم ، فتدفعها الى الغرماء ، فإنه قد أعتقهم عند موته ،
وقال ابن أبى ليلى : أرى أن أبيعهم وادفع أثمانهم إلى الغرماء ، فإنه ليس له أن
يعتقهم عند موته ، وعليه دين يحيط بهم ، وهذا أهل الحجاز اليوم يعتق الرجل عبده
وعليه دين كثير ، فلا يجيزون عتقه إذا كان عليه دين كثير ، فرفع ابن شبرمة يده الى
السماء فقال : سبحان الله يا ابن أبى ليلى متى قلت هذا القول؟ والله ما قلته إلا
طلب خلافي ، فقال أبو عبد الله عليهالسلام : فعن رأي
أيهما صدر الرجل؟ قال : قلت : بلغني أنه أخذ برأي ابن أبى ليلى ، وكان له هوى في
ذلك ، فباعهم وقضى دينه ، قال : فمع أيهما من قبلكم ، قلت له : مع ابن شبرمة ، وقد
رجع ابن أبى ليلى إلى رأي ابن شبرمة بعد ذلك ، أما والله ان الحق لفي الذي قال ابن
أبى ليلى ، وان كان قد رجع عنه ، قلت : هذا ينكسر عندهم في القياس فقال : هات
قايسني فقلت : أنا أقايسك؟ فقال : لتقولن بأشد ما يدخل فيه من القياس ، فقلت له : رجل
ترك عبدا لم يترك مالا غيره ، وقيمة العبد ستمائة درهم ، ودينه خمسمائة درهم
فأعتقه عند الموت ، كيف يصنع؟ قال : يباع العبد ويأخذ الغرماء خمسمائة درهم ،
ويأخذ الورثة مائة درهم ، فقلت : أليس قد بقي من قيمة العبد مائة درهم عن دينه؟
فقال : بلى ، فقلت : أليس للرجل ثلثه يصنع به ما شاء ، قال : بلى ، قلت : أليس قد
أوصى للعبد بالثلث من المائة حين أعتقه ، فقال : ان العبد لا وصية له ، انما ماله
لمواليه ، فقلت له : فإذا كان قيمة العبد ستمائة درهم ، ودينه أربعمائة ، قال :
كذلك يباع العبد ، فيأخذ الغرماء أربعمائة درهم ، ويأخذ الورثة مائتين ، فلا يكون
للعبد شيء ، قلت له : فإن قيمة العبد ستمائة درهم ودينه ثلاثمائة درهم فضحك وقال
: من هيهنا أتى أصحابك فجعلوا الأشياء شيئا واحدا ،
ولم يعملوا السنة ، إذا استوى مال
الغرماء ومال الورثة أو كان مال الورثة أكثر من مال الغرماء لم يتهم الرجل على
الوصية ، وأجيزت وصيته على وجهها ، فالآن يوقف هذا ، فيكون نصفه للغرماء ويكون
ثلاثة للورثة ، ويكون له السدس».
وما رواه في الكافي عن زرارة (1) في الحسن أو
الصحيح عن أحدهما عليهماالسلام في رجل أعتق
مملوكه عند موته ، وعليه دين ، قال : ان كان قيمته مثل الدين الذي عليه ومثله ،
جاز عتقه ، وإلا لم يجز».
ورواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن عن زرارة
الحديث مقطوعا ، ورواه في الفقيه عن ابن أبى عمير عن جميل عن أبى عبد الله عليهالسلام مثله.
وما رواه في التهذيب عن حفص بن البختري (2) في الصحيح «عن
أبى عبد الله عليهالسلام قال : إذا ملك
المملوك سدسه استسعى وأجيز».
قال في الوافي : لعل الحكم مختص بما إذا كان العتق عند
الموت أو بعده وكان على مولاه دين كما يظهر من سائر أخبار الباب وإلا يلزم تقييد
أخبار السراية الماضية كلها بذلك ، وهو مشكل ، انتهى.
وما رواه في التهذيب عن زرارة (3) في الصحيح «عن
أبى عبد الله عليهالسلام قال : إذا ترك
الدين عليه ومثله أعتق المملوك واستسعى».
وما رواه في الكافي عن الحسن بن الجهم (4) في الموثق قال
: «سمعت أبا الحسن عليهالسلام يقول : في رجل
أعتق مملوكا له وقد حضره الموت ، وأشهد له بذلك وقيمته ستمائة درهم ، وعليه دين
ثلاثمائة درهم ولم يترك شيئا غيره ، قال :
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 27 ح 2 ، التهذيب ج 9 ص 218 ح 856 ، الفقيه ج
4 ص 166 ح 580.
(2 و 3) التهذيب ج 9 ص 169 ح 689 و 688.
(4) الكافي ج 7 ص 27 ح 3 ، التهذيب ج 9 ص 218 ح 855.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 425 ح 6 وص 422 ح 1 وح 2 وص
423 ح 4.
يعتق منه سدسه ، لأنه إنما له منه
ثلاثمائة درهم ، ويقضى منه ثلاثمائة درهم فله من الثلاثمائة درهم ثلثها وله السدس
من الجميع». ورواه الشيخ في التهذيب مثله ، «الا أن الذي فيه «لأنه إنما له منه
ثلاثمائة وله السدس من الجميع» وما بينهما لم يذكره.
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن الحلبي (1) في الصحيح «عن
أبى عبد الله عليهالسلام أنه قال : في
الرجل يقول : ان متّ فعبدي حر وعلى الرجل دين قال : ان توفي وعليه دين قد أحاط
بثمن العبد بيع العبد ، وان لم يكن أحاط بثمن العبد استسعى العبد في قضاء دين
مولاه ، وهو حر إذا وفاه».
والشيخ في التهذيبين قيده بما إذا كان الدين أنقص من ثمن
العبد بمقدار النصف جمعا بينه وبين الأخبار المذكورة قبله.
أقول : وتحقيق الكلام في المقام هنا يقع في موضعين الأول
: لا يخفى أنه من القواعد المقررة بينهم كما تقدم ذكره أن الوصية المتبرع بها إنما
تنفذ من ثلث المال ، وأن الدين يقدم أولا ، ثم تعتبر الوصية من ثلث ما بقي بعد
الدين ، وأن المنجزات المتبرع بها في مرض الموت بحكم الوصية في خروجها من الثلث
عند الأكثر ، ولا ريب أن العتق من جملة التبرعات.
وعلى هذا فإذا أوصى بعتق مملوكه تبرعا أو أعتقه منجزا
بناء على أن المنجزات من الثلث ، وكان عليه دين ، فان كان الدين يحيط بالتركة بطل
العتق والوصية به ، وهو مما لا خلاف فيه ، ولا اشكال نصا وفتوى ، وان فضل من
التركة فضل بعد الدين وان قل ، فمقتضى القواعد المذكورة صرف ثلث الفاضل في الوصايا
فيعتق من العبد بحساب ما يبقى من الثلث ، ويسعى في باقي قيمته سواء كانت قيمته
بقدر الدين مرتين أو أقل ، لأن العتق تبرع محض ، فيخرج من الثلث والمعتبر منه ثلث
ما يبقى من المال بعد الدين على تقديره ، كغيره من التبرعات.
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 218 ح 857 ، الفقيه ج 3 ص 70 ح 22 ، الوسائل
ج 13 ص 423 ح 3.
وبهذا قال جماعة من الأصحاب ، بل أكثر المتأخرين كما
ذكره في المسالك ، ومنهم العلامة في المختلف وابن إدريس على ما ذكره من التردد ،
والمحقق بالنسبة إلى الوصية والقول الثاني ـ وهو أنه انما يصح العتق إذا كانت
قيمته ضعفي الدين ، وسعى في خمسة أسداس قيمته ، ثلاثة للديان وسهمان للورثة ـ للشيخ
المفيد والشيخ في النهاية والقاضي استنادا الى ما قدمناه من الروايات الصحيحة
الصريحة في ذلك ، والأصحاب لم يوردوا منها إلا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فمنهم
من وقف عليها ، وخص الحكم بتنجيز العتق ، كما هو مورد الرواية دون الوصية ، وقوفا
فيما خالف الأصل على مورده.
ومنهم من رده ، واطرحها لمخالفتها للرواية الدالة على
تلك القواعد ، قال : في المسالك بعد ذكر صحيحة عبد الرحمن : وروي عن زرارة في
الحسن مثله ، إلا أن الرواية به مقطوعة ، فلذا لم يذكرها المصنف هنا ، واقتصر على
رواية عبد الرحمن لصحتها.
أقول : عذره في ذلك واضح ، وهو أنه اقتصر على مراجعة
التهذيب وهي في بعض مواضعه كما ذكره حسبما قدمنا ذكره ، وإلا فهي في الكافي بسنده
الى الامام عليهالسلام ونحوها
الروايات الأخر ، وهي صريحة صحيحة ، ولكنهم لم يقفوا عليها ، وبذلك يظهر لك أن
الأظهر هو الوقوف عليها ، والعمل بمقتضاها ، وبها تخصص أخبار تلك القواعد ان ثبتت.
نعم احتج القائلون بالقول الأول بصحيحة الحلبي المتقدمة
، ولهذا ان الشيخ تأولها بما قدمنا نقله عنه ، جمعا بين الأخبار وهو جيد.
أقول : ويمكن أن يقال : ولعله الأقرب العاري عن وصمة
القيل والقال أن ما ذكروه من الاشكال والمخالفة في هذه الروايات لمقتضى القواعد
المقررة مبني على أن المنجزات في حكم الوصية مخرجها الثلث ، وإلا فلو قلنا بأن
مخرجها الأصل كما هو ظاهر كلام ابن إدريس المتقدم ، وهو الحق الظاهر من الأخبار
كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى
في المسئلة عند ذكرها ، فلا اشكال بحمد الملك المتعال ، وعلى تقديره فالظاهر أنه
لا يقيد بكون القيمة ضعف الدين أو غيره وبالجملة فإنه يندفع بذلك ما ذكروه من
الإشكال الذي أوردوه على هذه الروايات ، وان بقي فيها اشكال من وجه آخر على هذا
القول.
وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه والوقوف على مواردها
حسب ، هذا بالنسبة إلى المنجزات.
وأما الوصية فلم يتعرضوا عليهمالسلام لها في شيء
من النصوص المذكورة ، كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ومما حققناه يظهر لك صحة ما
أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم أن الأظهر هو الوقوف في الأحكام على موارد
الأخبار ، ولا يلتفت الى ما يدعونه من القواعد في مقابلتها ، فان هذه القواعد غير
معلومة ، وان دلت الأخبار على بعض أفرادها ومع ثبوت كونها قواعد فالتخصيص فيها
ممكن ، لا منافاة فيه
الثاني : أن مورد
الروايات المتقدمة هو العتق المنجز ، وهو الذي صرح به الشيخ المفيد ومن تبعه ،
والشيخ في النهاية ومن تبعه عدوا الحكم إلى الوصية بالعتق.
قال في المسالك : ولعله نظر الى تساويهما في الحكم
وأولويته في غير المنصوص ، لان بطلان العتق المنجز على تقدير قصور القيمة عن ضعف
الدين مع قوة المنجز لكونه تصرفا من المالك في ماله ، والخلاف في نفوذه من الأصل
يقتضي بطلانه في الأضعف ، وهو الوصية بطريق أولى انتهى ، ولا يخفى ما فيه.
وأورد أيضا على الشيخ القائل بتعديها : بصحيحة عبد
الرحمن إلى الوصية ، معارضتها فيها بصحيحة الحلبي المتقدمة ، فإنها تدل بإطلاقها
على انعتاقه متى زادت قيمته عن الدين ، وهو الموافق لما تقرر من القواعد ، فلا وجه
لعمل الشيخ بتلك الرواية مع عدم ورودها في مدعاه ، واطراح هذه الرواية ومن الجائز
اختلاف حكم المنجز والموصى به في مثل ذلك كما اختلفا في كثير من الأحكام
على تقدير تسليم حكمها في المنجز ،
انتهى.
أقول : لا يخفى ان تلك الرواية وان كانت غير ظاهرة في
مدعى الشيخ كما ذكره إلا أن صحيحة الحلبي المذكورة أيضا لا تخلو من الطعن في متنها
بما لا يقولون به ، فإنها دلت على أنه يستسعى العبد في دين مولاه ، وأنه يكون حرا
إذا وفاه ، ولم يتعرض في الرواية لحق الورثة ، مع أن لهم في قيمته مع زيادتها عن
الدين حقا ، والروايات المتقدمة متفقة على أنه يستسعى في الدين ، وفي حق الورثة.
وبذلك يظهر أن أن ما تدل عليه الرواية لا يقولون به ،
وما يقولون به لا تدل عليه ، ولو قيل : بأن الرواية وان لم تدل عليه لكنه يضم
إليها بدليل من خارج ، وتخصيص الأمر بوفاء الدين لا تنافيه.
قلنا ، هذا انما يتم لو كانت الرواية مطلقة ، وأما مع
النص فيها بأنه بأداء الدين يكون حرا ، فهذا التقييد مناف لما دلت عليه ، ومنه
يعلم أن هذه الرواية على ما هي عليه لا تصلح المعارضة الخبر المذكور ، فكيف مع
انضمام تلك الأخبار الصحاح الصراح اليه ، كما عرفت ، فالأظهر حملها على ما قدمنا
ذكره عن الشيخ (رحمة الله عليه).
وقد تلخص مما ذكرناه أن الأقوال في العتق المنجز ثلاثة :
الأول ـ مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه ، وهو توقف العتق على بلوغ قيمة العبد ضعف
الدين وإلا فهو باطل ، وهذا مدلول الأخبار المتقدمة.
الثاني ـ قول العلامة والمحقق ومن تبعهما ، وهو أنه
ينعتق من ثلث الباقي كائنا ما كان ، ولا يتقيد بضعف الدين ، وفي هذا القول تقديم
حق الديان من ثلث الباقي ، ويستسعى فيما يخص الديان ، والوارث بالنسبة ، مثلا لو
كانت قيمته ثلاثمائة درهم ، وعلى المولى من الدين مائتا درهم ، فإنه يكون للديان
منه مائتان ، تبقى مائة له ثلثها ، وهي ثلاثة وثلاثون وثلث ، وثلثاها للورثة ،
وهذه الثلاثة
والثلاثون وثلث تسع الثلاثمائة ، فعلى
هذا ينعتق منه التسع ، ويسعى في ستة أتساع للديان ، وفي تسعين للورثة ، وحجة هذا
القول كما عرفت صحيحة الحلبي ، وقد عرفت ضعفها عن المعارضة متنا وعددا.
الثالث ـ قول ابن إدريس وهو تنفيذ العتق من الأصل وسقوط
الدين ، وهذا القول وان كان جيدا بالنظر الى الأخبار الدالة على أن منجزات المريض
من الأصل كما سنتلوها عليك ان شاء الله تعالى بعد ذكر المسئلة ، أعني مسألة العتق
منجزا مع الدين ، يجب الوقوف فيها على هذه الروايات ، لأنها أخص من تلك ، والقاعدة
تقتضي تقديم الخاص والعمل به ، والله العالم.
السابعة : لا خلاف بين
الأصحاب (رضياللهعنهم) في صحة
الوصية لأم الولد ، ولا خلاف أيضا في انعتاقها على ولدها من حصته بعد موت سيدها ،
ولم يوص لها بشيء ، وانما الخلاف فيما إذا أوصى لها بشيء فهل ينعتق مما أوصى لها
به أو من نصيب الولد أو من غيرهما؟ أقوال أربعة.
أحدها ـ ما ذهب اليه الشيخ في النهاية من أنها تعتق من
نصيب ولدها على تقدير وفاء نصيب ولدها بقيمتها ، ويعطى ما أوصى لها به ، وهو مذهب
المحقق في نكت النهاية ونقل عن العلامة في المختلف ، وعلل ذلك أن التركة تنتقل من
حين الموت الى الوارث ، لعدم صلاحية الميت للتملك ، وعدم انتقالها للديان ،
والموصى لهم إجماعا ، وعدم بقائها بغير مالك ، فتعين الوارث ، وحينئذ فيستقر ملك
ولدها على جزء من أمه ، لأنها من التركة ، فتعتق عليه ، وتستحق الوصية.
وثانيها ـ أنها تعتق من الوصية ، فإن فضل منها شيء عتق
من نصيب ولدها ، وهو مذهب ابن إدريس ، والمحقق في باب الاستيلاد من الشرائع ، وفي
هذا الباب تردد بين القولين المذكورين ، ووجه القول بكونها تعتق من الوصية ، لا من
نصيب ابنها استنادا الى أن الإرث مؤخر عن الدين ، والوصية بمقتضى الآية (1)
__________________
(1) سورة النساء ـ الاية 11.
«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ
دَيْنٍ»
فلا يحكم لابنها بشيء حتى أنه يحكم لها بالوصية ، فإن
وقت الوصية بقيمتها أعتقت كملا ، وان قصرت أكملت من نصيب ولدها ، وأورد عليه بأن
المراد بالآيات استقرار الملك بعد المذكورات ، بمعنى أنه لا يملك الوارث ملكا
مستقرا إلا بعد الوصية بالدين ، وإلا فاللازم من ذلك بقاء التركة من غير مالك ،
لما عرفت من أن الميت غير صالح للملك ، والديان والموصى إليه لا يملك ، فلم يبق
إلا الوارث ، أو صيرورة التركة بغير مالك ، والثاني ممتنع ، فتعين الأول.
وثالثها ـ أنها تنعتق من ثلث الميت ، وتأخذ الوصية ، وهو
مذهب الشيخ أبى جعفر محمد بن علي بن بابويه نقله شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد ،
واستدل له بصحيحة أبى عبيدة الآتية عن أبى عبد الله عليهالسلام.
ورابعها ـ أنها تعتق من الوصية أو نصيب الولد ، وتعطى
بقية الوصية ، وهو مذهب ابن الجنيد.
والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه المشايخ
الثلاثة (رحمهمالله) في الصحيح عن
أبى عبيدة (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل كانت
له أم ولد وله منها غلام فلما حضرته الوفاة أوصى لها بألفي درهم أو بأكثر للورثة
أن يسترقوها ، قال : فقال : لا ، بل تعتق من ثلث الميت ، وتعطى ما أوصى لها به»
وزاد في الكافي والتهذيب وفي كتاب العباس «يعتق من نصيب ابنها ، وتعطى من ثلثه ما
أوصى لها به».
وشيخنا الشهيد في شرح الإرشاد روى عن الشيخ (رحمة الله
عليه) في التهذيب عن أحمد بن محمد عن علي بن محبوب عن جميل بن صالح عن أبى عبيدة (2) «عن أبى الحسن عليهالسلام في رجل أوصى
لأم ولده بألفي درهم فقال : يعتق
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 29 ح 4 ، التهذيب ج 9 ص 224 ح 880 عن جميل بن
صالح الفقيه ج 4 ص 160 ح 559 ، الوسائل ج 13 ص 470 ح 4.
(2) لم نعثر عليه في التهذيب بهذا السند.
من ثلث الميت ويعطى ما أوصى لها به» ،
وفي كتاب العباس الى آخر ما تقدم ، ولم أقف على هذه الرواية في الوافي ، ولا في
الوسائل فيحتاج إلى مراجعة التهذيب وظاهره أن هذا خبر آخر غير خبر أبى عبيدة
المروي عن أبى عبد الله عليهالسلام ، فإنه جعل
هذا الخبر المروي عن أبى الحسن عليهالسلام دليلا للقول
الأول ، والخبر المروي عن أبى عبد الله عليهالسلام دليلا للقول
الثالث ، والظاهر تغاير الخبرين ، فإن المروي عنه في أحدهما غير الأولى والمتن
مختلف أيضا. فيكونان خبرين ، فينبغي الملاحظة ، لأني لم أقف على من نقله غيره ،
ومدلولهما أنها تعتق من الثلث ، وتعطى ما أوصى لها به.
ونحوهما أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن احمد
بن محمد بن أبى نصر (1) قال : «نسخت
من كتاب بخط أبى الحسن عليهالسلام فلان مولاك
توفي ابن أخ له ، وترك أم ولد له ، ليس لها ولد ، فأوصى لها بألف هل تجوز الوصية؟ وهل
يقع عليها عتق وما حالها؟ رأيك فدتك نفسي في ذلك ، فكتب عليهالسلام يعتق من الثلث
، ولها الوصية». واستدل في المختلف لابن بابويه أيضا زيادة على صحيحة أبى عبيدة
الأولى ووجه الاشكال فيها هو أن العتق من الثلث هنا ، لا يظهر له وجه ، ولهذا ان
العلامة حمل الخبرين على ما إذا أوصى بعتقها ، وحملها آخر على ما لو كان نصيب
ولدها بقدر الثلث ، ولا يخفى ما فيه.
وبالجملة فهذان الخبران ظاهران فيما ذهب اليه الصدوق ،
وأن الاشكال فيها بما عرفت ظاهر.
نعم ما نقل من كتاب العباس من رواية الخبر بهذه الكيفية
ظاهر في الدلالة على القول الأول ، وظاهر شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد الميل الى
مذهب الشيخ في النهاية ، قال : والأقرب اختيار الشيخ ، لبناء العتق على التغليب
والسراية ، ولهذا لو لم يكن ثمة وصية ولا مال للميت سواها عتق منها بنصيب ولدها ،
وسعت
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 29 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 224 ح 877 ، الفقيه ج
4 ص 160 ح 560 ، الوسائل ج 13 ص 469 ح 1.
في الباقي لبقية الورثة.
وشيخنا في المسالك طعن في رواية كتاب العباس بأنها بمجرد
وجودها في الكتاب المذكور لا يتم الاستدلال ، ولو صح السند ، ثم قال : ورواية أبي
عبيدة مشكلة ، على ظاهرها ، لأنها إذا أعطيت الوصية لا وجه لعتقها من ثلثه ، لأنها
حينئذ تعتق من نصيب ولدها كما ذكر في الحملين المتقدمين ، وقال : كلاهما بعيد ،
إلا ان الحكم فيها بإعطائها الوصية كاف في المطلوب إذ عتقها من نصيب ولدها يستفاد
من دليل خارج صحيح ، ويبقى ما نقل عن كتاب أبى العباس شاهدا على المدعى ، ولعل هذا
أجود ، انتهى.
والمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال لما عرفت ، وان كان ما
استجوده شيخنا المذكور لا تخلو من قرب ، وملخصه أن أقصى ما يمكن العمل به من هذه
الأخبار هو أعطاها ما أوصى لها به ، فتعطى في ذلك ، وأما عتقها فيرجع فيه الى
الأخبار الأخر الدالة على انعتاق أم الولد على ولدها من نصيبه بعد موت المولى ،
وكل من الأمرين المذكورين حق مطابق للقواعد الشرعية.
واما اعتبار الثلث فلا يظهر له هنا وجه وجيه يترتب عليه
العتق وهو ظاهر ، والله العالم.
الثامنة : قد صرح
الأصحاب بأن إطلاق الوصية يقتضي التسوية ، فإذا أوصى لأولاده أو لإخوانه وأخواته
وأخواله وخالاته وأعمامه وعماته ، فان الجميع أسوة في الوصية ، ولا خلاف في ذلك
إلا في صورة الوصية لأعمامه وأخواله.
وعلل الأول بأن نسبة الوصية إليهم على السواء ، وليس في
كلام الموصي ما يدل على التفضل ، وحينئذ فلا فرق بين الذكر منهم والأنثى ، ولا
الصغير ولا الكبير ، ولا الأعمام ولا الأخوال ، لما ذكرنا واختلافهم في استحقاق
الإرث أمر خارج ، بدليل من خارج ، فلا يقاس عليه ، ما يقتضي التسوية بمجرده ، إلا
أن الخلاف هنا وقع فيما لو أوصى لأعمامه وأخواله ، فإن الشيخ وجماعة ذهبوا الى
أن للأعمام الثلثين ، وللأخوال الثلث
، استنادا الى ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم وفيها الصحيح والحسن والموثق عن
زرارة (1) «عن أبى جعفر عليهالسلام في رجل أوصى
بثلث ماله في أعمامه وأخواله ، فقال : لأعمامه الثلثان ، ولأخواله الثلث».
والى هذه الرواية أشار في الشرائع بأنها مهجورة ، قال :
ولو أوصى الى أعمامه وأخواله كانوا سواء على الأصح ، وفيه رواية مهجورة ، وحملت
على ما لو أوصى على كتاب الله ، وعلى ذلك حملها غيره ايضا ، ولا يخفى ما فيه من
البعد.
ويؤيد الخبر المذكور أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس
الله أرواحهم) عن سهل (2) عن أبى محمد عليهالسلام في حديث قال :
«وكتبت اليه : رجل له ولد ذكور وإناث فأقر لهم بضيعة أنها لولده ، ولم يذكر أنها
بينهم على سهام الله عزوجل وفرائضه ،
الذكر والأنثى فيه سواء؟ فوقع عليه ينفذون فيها وصية أبيهم على ما سمي ، فان لم
يكن سمى شيئا ردوها الى كتاب الله عزوجل ان شاء الله
تعالى». والظاهر أنه إلى هذه الرواية أشار في المسالك بقوله ، وفي رواية أخرى
ضعيفة ، يقتضي قسمة الوصية بين الأولاد الذكور والإناث على كتاب الله ، وهي مع
ضعفها لم يعمل بها أحد.
أقول : أشار بالضعف فيها الى كون الراوي لها سهل بن زياد
، وهو ضعيف.
وفيه أولا أن ضعفها بهذا الاصطلاح المحدث لا يقتضي ضعفها
عند المتقدمين الذين لا أثر عندهم لهذا الاصطلاح ، فلا ضير فيه ، وان أراد عدم
العمل به من المتقدمين ، فان مقتضى ما حرر الصدوق في صدر كتابه كونه عاملا بها ،
حيث نقلها ولم يتعرض للطعن فيها ولا ردها ، وقد اشتهر بينهم نسبة المذاهب إليه في
الفقيه بذلك ، وثالثا أنه لا يخفى على المنصف أن الأحكام الشرعية توقيفية ، لا
مسرح للعقول فيها على السماع والورود من صاحب الشرع ، ورد الأخبار بعد ورودها
__________________
(1 و 2) الكافي ج 7 ص 45 ح 3 و 1، التهذيب ج 9 ص 214 ح 845 و 846
الوسائل ج 13 ص 454 الباب 62 وص 455 ح 2.
من غير معارض لها من الأخبار بل بمجرد
هذه الاعتبارات العقلية والتعليلات التخريجية لا يخلو من الجرأة على صاحب الشريعة.
نعم لو كان هنا نص يدل الى ما ادعوه من أن الإطلاق يقتضي
التسوية لتم ما ذكروه ، ووجب التأويل فيما عارضه ، ولكن ليس الأمر كذلك.
وبالجملة ، فإنه يجب العمل بما دلت عليه النصوص المذكورة
، وفيما خرج عن موضع النصوص اشكال ، والأقرب أنه كذلك أيضا ، لأن الظاهر أن ذكر
الأعمام والأخوال في الصحيحة المتقدمة إنما خرج مخرج التمثيل ، ويؤيده أن ظاهر
الثانية كون ذلك قاعدة كلية ، وهو أنه ان سمي وعين التسوية أو التفصيل اتبع ، وان
أطلق رد الى كتاب الله عزوجل ، ولكن الألف
بالمشهورات ولا سيما إذا زخرفت بالإجماعات ربما أوجب طرح الروايات كما في هذا
الموضع وغيره ، والله العالم.
التاسعة : لو أوصى لذوي قرابته أو لأهل بيته أو عشيرته
أو قومه أو جيرانه ، فإنه يجب الرجوع فيه الى معاني هذه الألفاظ ، وما ينصرف إليه
إطلاقها.
فنقول أما لفظة القرابة فقد اختلف كلام أصحابنا ، بل
الواحد منهم في تحقيق معناه المراد منه لعدم النص الوارد منه في ذلك ، والأكثر منهم
على الرجوع فيه الى العرف.
قالوا : لأنه المحكم في مثل ذلك حيث لا نص ، ومرجعه الى
المعروفين بنسبته عادة ، سواء في ذلك الوارث وغيره ، وقيل : لمن يتقرب إليه إلى
آخر أب أو أم له في الإسلام.
فقال الشيخ في النهاية إذا أوصى لقرابته كان ذلك في جميع
ذوي نسبته الراجعين الى آخر أب أو أم في الإسلام بالتسوية ، وكذا قال الشيخ المفيد
، إلا أنه قال : ولا يرجع على من يتعلق بمن نأى عنهم في الجاهلية.
وقال في الخلاف إذا أوصى بثلثه لقرابته فمن أصحابنا من
قال : يدخل فيه
كل من تقرب إليه إلى آخر أب وأم في
الإسلام ، واختلف الناس في القرابة. فقال الشافعي : إذا أوصى بثلثه لقرابته
ولأقربائه ولذي رحمه ، فالحكم واحد ، فإنه ينصرف الى المعروفين من أقاربه في العرف
، فيدخل فيه كل من يعرف في العادة أنه من قرابته ، سواء كان وارثا أو غير وارث ،
قال : وهذا قريب يقوى في نفسي ، وليس لأصحابنا فيها نص عن الأئمة عليهمالسلام.
وقال في المبسوط : قال قوم : ان هذه الوصية للمعروفين من
أقاربه في العرف فيدخل فيه كل من يعرف في العادة أنه من قرابته ، سواء كان وارثا
أو غير وارث وهو الذي يقوى في نفسي ، وقال قوم : انه يدخل فيه كل ذي رحم محرم ،
وأما من ليس بمحرم له فإنه لا يدخل فيه ، وان كان له رحم مثل بني الأعمام أو غيرهم
، وقال قوم : انها للوارث من الأقارب ، وأما من ليس بوارث فإنه لا يدخل فيه ،
والأول أقوى ، لأن العرف يشهد به ، وينبغي أن يصرف في جميعهم ، وفي أصحابنا من قال
: انه يصرف ذلك الى آخر أب وأم له في الإسلام ، ولم أجد به نصا ولا عليه دليلا
مستخرجا ولا به شاهدا.
وقال ابن الجنيد : ومن جعل وصية لقرابته وذوي رحمه غير
مسمين كان لمن تقرب اليه من جهة ولده أو والديه ، ولا اختار أن يتجاوز بالتفرقة
ولد الأب الرابع ، لأن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لم يتجاوز
ذلك في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس.
وابن إدريس في هذه المسئلة اختار ما ذهب اليه الشيخ في
الخلاف والمبسوط وكذا ابن البراج ، وهو المشهور في كلام المتأخرين.
قال في المختلف : والمعتمد قول الشيخ في المبسوط والخلاف
، حملا للفظ على المعنى العرفي عند تجرده عن الوضع الشرعي ، كما هو عادة الشرع في
ذلك والقول الذي اختاره في النهاية قد اعترف في المبسوط بأنه لم يجد عليه نصا ولا
عليه دليلا ولا به شاهدا ، وكفى به حجة على نفسه.
والمراد من هذا القول الارتقاء بالقرابة بالأدنى الى ما
قبله ، وهكذا الى أبعد جد وجدة له في الإسلام ، وفروعهما ، ويحكم للجميع بالقرابة
، ولا يرتقي إلى آباء الشرك وان عرفوا بقرابته ، وربما استدل على التخصيص بالإسلام
والانقطاع بالكفر بقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (1) «قطع الإسلام
أرحام الجاهلية» ، وقوله عزوجل لنوح في حق
ابنه (2) «إِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ولا دلالة في ذلك على مطلوب الشيخ ،
لأن قطع الرحم للجاهلية لا يدل على قطع القرابة مطلقا ، مع أصناف الكفار ، وكذا
قطع الأهلية في ابن نوح ، والعرف واللغة يشهد ان بأن من بعد جدا كالأجداد البعيدة
لا يدخل في القرابة ، وان كان مسلما ، ومن قرب جدا دخل وان كان كافرا إلا أن تدل
القرينة على ارادة المسلم.
ولم أقف في هذا المقام على شيء من الأخبار إلا على ما
رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبى نصر (3) قال : «نسخت
من كتاب بخط أبى الحسن عليهالسلام رجل أوصى
لقرابته بألف درهم وله قرابة من قبل أبيه وأمه ما حد القرابة يعطى من كان بينه
وبينه قرابة؟ أو لها حد ينتهى اليه رأيك فدتك نفسي؟ فكتب عليهالسلام : ان لم يسم
أعطاها قرابته» ، وهذا الجواب وان كان لا يخلو من نوع إجمال ، إلا أن الظاهر أن
المعنى فيه أنه لم يسم شخصا بعينه ولا صنفا بعينه ، فإنه يعطى من شملته القرابة
عرفا ، وفيه تأييد للمعنى المشهور حينئذ.
وأما ما ذهب اليه ابن الجنيد فقيل عليه ان ما ذكره من
عدم تجاوز الرابع غير لازم ، وفعل النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بالخمس ذلك ،
لا يدل على نفي القرابة مطلقا عما عداه ذلك : فان ذلك معنى آخر للقربى ، فلا يلزم
ذلك في حق غيره ، حيث يطلق.
وكيف كان فإنه يدخل فيه الذكر والأنثى ، والفقير والغني
، والوارث
__________________
(1) مسالك الافهام ج 1 ص 409 وما عثرنا على هذه الرواية بعد
الفحص في مظانه.
(2) سورة هود ـ الاية 46.
(3) التهذيب ج 9 ص 215 ح 748 ، الوسائل ج 13 ص 459 الباب 68.
وغيره ، والقريب والبعيد ، ولا فرق
بين قوله أوصيت لأقاربى أو قرابتي ، أو لذوي قرابتي أو لذوي رحمي ، لأن مرجع
الجميع الى معنى واحد.
وأما أهل بيته فقد قال المحقق في الشرائع : لو قال لأهل
بيته دخل فيه الآباء والأولاد والأجداد.
قال شيخنا في المسالك بعد ذكر ذلك : لا إشكال في دخول من
ذكر ، لاتفاق أهل التفاسير على ذلك ، انما الكلام في دخول غيرهم ، فان الاقتصار
على ما ذكر يقتضي كون علي عليهالسلام ليس من أهل
البيت لخروجه عن الأصناف الثلاثة مع أنه داخل إجماعا.
وقال العلامة : يدخل فيهم الآباء والأجداد والأعمام
والأخوال وأولادهم وأولاد الأولاد الذكر والأنثى ، ثم قال : وبالجملة كل من يعرف
بقرابته ، وهذا يقتضي كون أهل بيته بمنزلة قرابته ، وحكي عن تغلب أنه قال : أهل
البيت عند العرب آباء الرجل وأولادهم ، كالأجداد والأعمام وأولادهم ، ويستوى فيه
الذكور والإناث ، وما اختاره العلامة من مساواة أهل البيت للقرابة ، هو الظاهر في
الاستعمال ، يقال : الفلانيون أهل بيت في النسب ، معروفون ، وعليه جرى قوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (1) «إنا أهل بيت
لا تحل لنا الصدقة» ، والأقوى الرجوع الى عرف بلد الموصي ، ومع انتفائه يدخل كل
قريب : وأما أهل بيت النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فإنهم أخص من
ذلك بالرواية الواردة عنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في حصرهم في
أهل الكساء ، انتهى كلامه ، زيد مقامه وعلت في الخلد أقدامه.
أقول : قال الفقيه محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب
السؤال في مناقب آل الرسول في بيان معاني الآل وأهل البيت والعترة ما صورته : وأما
اللفظة الثانية وهي أهل البيت فقد قيل : هم من ناسبه الى جده الأدنى ، وقيل :
__________________
(1) الوسائل ج 6 ص 187 الباب 29 ح 6.
من اجتمع معه في رحم ، وقيل : من اتصل
به بسبب أو نسب ، وهذه كلها موجودة فيهم عليهمالسلام ، فإنهم
يرجعون الى جده عبد المطلب بنسبهم ، ويجتمعون معه في رحم ويتصلون به بسببهم ونسبهم
، فهم أهل بيته حقيقة ، ثم روى حديثا من صحيح مسلم (1) عن زيد بن
أرقم ، وفيه : فقال له حصين : من أهل بيته يا زيد؟ نسائه أهل بيته؟ قال : أهل بيته
من حرمت عليه الصدقة بعده.
أقول : والمعنى الثاني والثالث مما ذكره ابن طلحة قريب
من معنى القرابة المشهور ، ويؤيده ما ذكره في كتاب المصباح المنير قال : وأهل
الرجل يأهل ويأهل أهولا إذا تزوج ، وتأهل كذلك ، ويطلق الأهل على الزوجة ، والأهل
أهل البيت والأصل فيه القرابة ، وقد أطلق على الاتباع ، انتهى ، وهو ظاهر في أن
الأصل إطلاق أهل البيت على قرابة الرجل ، وقد أطلق على أتباعه ، وان لم يكن من
قرابته ، وبالجملة فما نقل عن العلامة لا يخلو من قرب.
وكيف كان فالظاهر أن معاني هذه الألفاظ أعنى أهل البيت
والآل والعترة ونحوها بالنسبة إلى إطلاقها على أهل بيته (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وعترته أخص
مما هو المشهور من معانيها عرفا أو لغة ، ولتحقيق ذلك مقام آخر ، وأما معاني باقي
الألفاظ المتقدمة فقد تقدم تحقيق الكلام فيها في كتاب الوقف ، وهذان اللفظان حيث
لم يتقدم لهما ذكر تعرضنا للكلام فيهما ، والله العالم.
العاشرة : الظاهر أنه
لا خلاف في أنه تصح الوصية للحمل الموجود حين الوصية ، وان لم تحله الحياة ، لكن
يكون ذلك مراعى بوضعه حيا ، فتصح بمجرد وجوده وان كان استقرارها مشروطا بوضعه حيا
، فلو وضعته ميتا بطلت الوصية ، وان كان حال الوصية حيا في بطن أمه ، كما أنها تصح
بوضعه حيا وان لم يكن حال الوصية حيا ولم تلجه الروح ، ومعنى استقرارها تحقق صحتها
من حين موت الموصي ، ومع وضعه ميتا يتبين البطلان من ذلك الوقت ، وحينئذ
__________________
(1) مسند أحمد ج 4 ص 367.
فالنماء المتخلل بين الولادة وموت
الموصي يتبع العين ، ولم أقف في هذا المقام على نص ، غير أن ظاهر الأصحاب الاتفاق
على ما ذكرناه ، فإنه لم ينقل هنا خلاف في شيء من هذه الأحكام.
وإذا استقرت الوصية بولادته حيا لا يقدح فيها موته بعد
ذلك ، بل ينتقل الى ورثته ، وهو ظاهر ، إلا أن ظاهر كلامهم اشتراط القبول من
الوارث ، بل صرح في المسالك أيضا باشتراط القبول في الحمل ، فأوجب القبول على وليه
، قال في الكتاب المذكور بعد أن ذكر أن الوصية تنتقل الى الوارث لو مات بعد ولادته
حيا ما صورته : لكن يعتبر هنا قبول الوارث لإمكانه في حقه ، وانما أسقطنا اعتباره عن
الحمل لتعذره كما سقط اعتباره في الوصية للجهات العامة ، ووجه سقوطه عن الوارث
تلقيه الملك عن المولود المالك لها بدون القبول ، ثم قال : والمتجه اعتبار القبول
في الوصية للحمل مطلقا ، فيقبل وليه ابتداء ، ووارثه هنا وتظهر الفائدة فيما لو
ردها قبل قبوله ، فان اعتبرناه بطلت ، وإلا فلا أثر للرد انتهى
أقول : قد تقدم القول في تحقيق اشتراط القبول في الوصية
لمعين وعدمه ، وبينا أنه لا دليل على ما ذكروه من الاشتراط ، بل ظواهر جملة من
النصوص العدم ، تقدم ذلك في المسئلة الثانية من المقصد الأول في الوصية (1) وكذا في المسئلة
الخامسة والسادسة من المقصد المذكور ، وأشرنا أيضا الى أن ما ادعوه ـ وان اشتهر
بينهم ـ من أن الوصية عقد تفتقر إلى الإيجاب والقبول مما لم يقم عليه دليل ، كما
تقدم ذكره في المسئلة الاولى من مسائل المقصد المشار اليه.
وبالجملة فإنه ليس في هذه المواضع ما يمكن الاعتماد عليه
من الأدلة الشرعية ، سوى مجرد كلامهم وتعليلاتهم ، ومن أراد تحقيق الحال يرجع الى
المسائل المذكورة ، ثم ان في حكمه أولا بأن الحمل من قبيل الجهات العامة ، فلا
تتوقف الوصية له على القبول ، ثم رجوعه عن ذلك في الحمل فحكمه بأنه
__________________
(1) ص 387.
يقبل وليه ، لقائل أن يقول : أنه كما
أن للحمل ولي ، فكذا الجهات العامة لها ولي وهو الحاكم ، فلم جوزت الوصية لها من
غير اشتراط القبول؟ ولم لا توجب أن يقبل لها الحاكم ، لأنه وليها ، والفرق بين
مسئلتي الحمل والجهات العامة مع وجود الولي لكل منهما غير ظاهر ، كما لا يخفى ،
وبالجملة فإن البناء إذا كان على غير أساس حصل فيه الانعكاس ، وذكر فيه الالتباس.
بقي هنا شيء وهو أن القبول المشترط هنا هل يشترط فيه
القبول اللفظي أو يكفي فيه القبول الفعلي ، والرضاء بذلك؟ صرح العلامة في المختلف
في هذه المسئلة بالثاني ، وهو جيد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في المسائل المتقدم
ذكرها أيضا ، والله العالم.
الحادية عشر : المشهور أن
الموصى له إذا مات قبل الموصي ولم يرجع الموصي عن وصيته فإن الوصية تنتقل إلى ورثة
الموصي له ، قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) إذا أوصى الإنسان لغيره بشيء من
ماله فمات الموصى له قبل الموصي بذلك كان ما أوصى به راجعا الى ورثته ، فان لم يكن
له ورثة رجع الى مال الموصي ، الى أن قال : ولصاحب الوصية إذا مات الموصى له قبله
أن يرجع فيما أوصى له به ، فان لم يرجع فهو لخلف الموصى له ، ورواه ابن بابويه في
كتابه وهو مذهب مشهور للأصحاب ، انتهى.
وقال ابن الجنيد : ولو كانت الوصية لأقوام بعينهم
مذكورين مشار إليهم كالذي يقول لولد فلان ، وهؤلاء ، فإن ولد فلان غيرهم لم يدخل
في الوصية ، ولو مات أحدهم قبل موت الموصي بطل سهمه.
قال العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن الجنيد : ولا بأس
بهذا القول عندي ، لأن الوصية عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول ، وقد بينا أن القبول
المعتد به هو الذي يقع بعد الوفاة ، فصار الموت حينئذ لا عبرة به ، انتهى.
وتدل على المشهور وهو المؤيد المنصور صحيحة محمد بن قيس (1) وقد تقدمت في
المسئلة الخامسة من مسائل المقصد الأول ، وتقدم أيضا ذكر ما استند اليه العلامة في
القول بالبطلان هنا وهو صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (2) وموثقة منصور
بن حازم (3) ، وقد حققنا
الكلام في المقام ثمة بما لا مزيد عليه.
والفرق بين ما ذكرنا في المسئلة السابعة وما ذكر هنا أن
مطرح البحث في المسئلة السابعة هو أن الوارث هل يرث القبول لو مات الموصى له قبل
الموصي ولم يقبل أم لا؟ وليس فيها تعرض لملك الموصى به وعدمه ، إلا أنا قد أوضحنا
بالأدلة الشرعية في أثناء البحث ، أنه يملكه الموصى له ، ويملكه وارثه بعده والغرض
من هذه المسئلة هنا بيان أن الموصى به ينتقل بموت الموصي له الى وارثه ان لم يرجع
الموصي عن الوصية أم لا ، سواء كان مورثه قد قبل الوصية قبل موت الموصي أم لا ،
فلو فرض أنه قبل الوصية في حياة الموصي ثم مات في حياته واكتفينا بالقبول الواقع
في حياة الموصي لم يفتقر وارثه الى القبول ، ولكن يبقى الخلاف في بطلان الوصية
وعدمه ، وهو المقصود بالبحث هنا ، وان لم يكن قد قبل ، انتقل الى الوارث حق القبول
، ومعه يملك الموصى به على الخلاف ، وهو المقصود بالذكر هنا ، وقد حققنا في
المسائل المتقدمة المشار إليها ضعف جميع ما بنوا عليه ، وفرعوا عليه من القول بأن
الوصية عقد يتوقف على الإيجاب والقبول وأنه لا دليل على القبول بوجه ، بل الروايات
ظاهرة في خلافه ، وان الحكم في هذه المسئلة المذكورة هنا ، هو أنه بموت الموصى له
تنتقل الوصية إلى الوارث ما لم يرجع الموصي ، سواء كان الموت في حياة الموصي أم
بعد موته ، وأن ما استند اليه العلامة ، وقبله ابن الجنيد (رحمة الله عليه) من
القول بالبطلان ، ليس في الأدلة ما يدل عليه صريحا ، والروايتان المذكورتان فيهما
من الإجمال
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 13 ح 1 ، التهذيب ج 9 ص 230 ح 903. الوسائل ج
13 ص 409 ح 1.
(2 و 3) التهذيب ج 9 ص 231 ح 906. الوسائل ج 13 ص 410 ح 4 و 5.
ما يمنع من الاستناد إليهما في
الاستدلال ، فلا تنهضان قوة في معارضة صحيحة محمد بن قيس ، ونحوها مما دل على ما
دلت عليه من الأخبار الصريحة في المطلوب.
وبالجملة فإن قوة القول المشهور في الظهور كالنور على
الطور لا يعتريها قصور ولا فتور ، كما لا يخفى على من نظر بعين التأمل والتدقيق
فيما قدمناه في المسائل المشار إليها من التحقيق الرشيق.
بقي الكلام فيما لو لم يخلف الموصى له أحدا فإن الظاهر
من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه يرجع الى ورثة الموصي ، وبذلك صرح شيخنا
المفيد (رحمهالله) فيما تقدم من
نقل عبارته ، وقال المحقق في الشرائع : ولو لم يخلف الموصى له أحدا رجعت الى ورثة
الموصي.
قال في المسالك : هذا تتمة الحكم السابق : وحاصله ان
الموصى له إذا مات في حياة الموصي ولم يخلف وارثا رجعت الوصية إلى ورثة الموصي ،
بمعنى بطلانها حينئذ ، وهذا الحكم شامل بإطلاقه لما لو كان موت الموصى له قبل
قبوله وبعده والحكم في الأول واضح ، لأنه بموته قبل القبول وعدم قيام أحد مقامه في
القبول تبطل الوصية ، ويرجع الى ورثة الموصي ، ويحتمل على هذا أن ينتقل حق القبول
الى وارثه العام ، وهو الإمام ، لأنه وارث في الجملة ، فيرث حق القبول كما يرثه
وارثه الخاص ، لقيامه مقامه في إرث جميع ما يورث عنه ، ويتولاه نائبه العام ، وهو
الحاكم الشرعي مع غيبته ، إلا أن هذا الاحتمال لم يذكروه مع توجهه ، وأما الحكم
الثاني وهو ما إذا كان موته بعد القبول حيث اعتبرنا القبول المتقدم على الوفاة ،
فيشكل القول ببطلان الوصية حينئذ ، لتمام سبب الملك بالإيجاب والقبول ، وتوقفه على
الشرط وهو الموت لا يوجب بطلانه ، ومن ثم انتقل الى الوارث لو كان ، فكما أنه
لحصول الشرط يتم الملك للوارث فينبغي أن يتم هنا أيضا.
ويمكن الجواب بأن الملك لما كان مشروطا بالموت لا يحصل بدونه كما هو ظاهر ، وحينئذ فلا بد من مستحق صالح للتملك لينتقل اليه الملك ، فان مجرد السبب وان كان تاما لم يوجب نقل الملك قبل حصول الشرط ، وحينئذ فإن كان للموصى له وارث انتقل حق الوصية اليه ، وحكم بملكه ، لأن له أهلية الملك وان لم يقبل بناء على القبول السابق ، وان لم يكن له وارث لم يجد الملك محلا قابلا له لينتقل إليه ، إذ ليس هناك إلا الموصى له ، وقد فاتت أهليته للملك بموته أو وارثه والغرض عدمه.
نعم يتمشى على الاحتمال السابق هنا بطريق الأولى ، أن
ينتقل الى الامام لتمام سبب الملك وحصول الشرط للملك ، والامام وارث للموصى له
كالخاص ، فينتقل الملك اليه ، وان لم نقل بانتقال حق القبول إليه ، لأن الحق هنا
أقوى ، انتهى كلامه زيد مقامه.
أقول قد عرفت مما حققناه في المسائل المشار إليها آنفا
أنه لا دليل على هذا القول الذي يكررون ذكره ، ويفرعون عليه ما يذكرونه من الفروع
، وان غاية ما يستفاد من الأخبار المتكثرة في باب الوصية هو أنه متى أوصى أحد لأحد
بشيء فإنه يصح ، ويكون لزومه مراعى بموت الموصي قبل الرجوع فيه ، فمتى مات الموصي
كذلك وجب على الوصي أو الورثة إنفاذ الوصية ، هذا غاية ما يفهم من الأخبار ، وهم
انما رتبوا ذلك واستندوا فيما ذكروه الى كون الوصية عقدا يشترط فيه الإيجاب
والقبول ، مع أنهم لم يوردوا على ذلك دليلا إلا مجرد ظاهر اتفاقهم إن تم ، وحينئذ
فيأتي على ما ذكرناه أنه متى أوصى الى أحد بشيء ومات الموصى له في حياة الموصي ،
فإن كان له وارث فالأشهر الأظهر كما عرفت أنه تنتقل الوصية إلى الوارث ، ويكون
لزومها مراعى بموت الموصي ، فان مات ولم يرجع وجب إنفاذها.
وأما إذا مات الموصى له وليس له وارث ومات الموصي والحال
هذه من غير أن يرجع في الوصية فظاهرهم كما عرفت أنه تبطل الوصية ، لما ذكره هنا في
المسالك من التعليلات المذكورة ، وزاد
احتمال رجوع الوصية الى الامام عليهالسلام ومرجع ما
ذكرناه الى ما ذكروه من الحكم الثاني.
وأما الإشكال الذي أورده عليه فقد عرفت الجواب عنه بما
ذكره ، وهو الحق في المقام ، والأصحاب قد ذكروا هنا في صورة البطلان أنه تنتقل
الوصية إلى ورثة الوصي ، وحق الكلام أن يقال الى الموصي ، لأن المفروض أن الموصى
له مات في حياة الموصي ، والحال أنه لا وارث له وقت موته ، ومقتضى الحكم ببطلان
الوصية في تلك الحال ، هو الانتقال الى الموصي ، لأن ذلك مفروض في حياته وهو ظاهر
هذا.
ولو كان موت الموصى له إنما وقع بعد موت الموصي ، والحال
أنه ليس له وارث ، فيحتمل ما ذكره ابن إدريس من البطلان في صورة ما لو تعذر صرف
الوصية في الوجه الموصى به ، وقد عرفت ضعفه ، ويحتمل أن تكون الوصية للإمام عليهالسلام لأنه الوارث
لمن لا وارث له ، والموصى له قد ملكها واستقر ملكه عليها بالوصية وموت الموصي ،
ويحتمل وهو الأقرب الصدقة به عنه ، لما تقدم في المسائل السابقة من صحيحة العباس
بن عامر (1) قال : «سألته
عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ، ولم يترك عقبا ، قال اطلب له وارثا أو
مولى فادفعها اليه ، قلت : فان لم أعلم له وليا ، قال : اجهد على أن تقدر له على
ولي فان لم تجده وعلم الله منك الجهد فتصدق بها».
ومن هذه الرواية يعلم بعد ما احتمله في صورة البطلان من
الصحة بحمل الوارث على الامام بقوله نعم يتمشى على الاحتمال السابق الى آخره ، فان
المتبادر من إطلاق الوارث انما هو الوارث الخاص ، فما ذكره من احتمال الإمام في
كلا الموضعين بعيد جدا ، ولهذا لم يذكره غيره من الأصحاب كما اعترف به ، والوجه
فيه ما ذكرناه ، والله العالم.
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 231 ح 905 ، الوسائل ج 13 ص 409 ح 2.