ج3 - آداب غسل الجنابة

المقصد الرابع

في الآداب. ومنها ما هو مقدم ومنها ما هو مقارن ، وهي أمور :

(الأول) ـ البول مع إمكانه على المشهور بين المتأخرين ، وبه صرح المرتضى وابن إدريس والعلامة ومن تأخر عنه ، وقيل بالوجوب ، ونقله في الذكرى عن جمع من متقدمي الأصحاب : منهم ـ الشيخ في المبسوط وابن حمزة وابن زهرة والكيدري وابن البراج في الكامل وأبو الصلاح وظاهر صاحب الجامع ، وفي من لا يحضره الفقيه : «من ترك البول على اثر الجنابة أو شك تردد بقية الماء في بدنه فيورثه الداء الذي لا دواء له» قال في الذكرى : «وهو مروي في الجعفريات عن النبي (صلى الله عليه وآله)» (1) وفي عبائر جملة منهم كالشيخ المفيد والجعفي وابني بابويه وابن البراج في غير الكتاب المتقدم وابن الجنيد (رحمه‌الله) الأمر بذلك.

ونقل في المختلف عن الشيخ انه احتج بالأحاديث الدالة على وجوب الغسل مع وجود البلل (2) ثم أجاب بأنها غير دالة على محل النزاع فانا نسلم انه يجب عليه مع وجود البلل اعادة الغسل. واحتج في المختلف للاستحباب بالأصل ، وبقوله عزوجل : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (3) ولم يوجب الاستبراء. وقال في الذكرى : «ولا بأس بالوجوب محافظة على الغسل من طريان مزيله ، ومصيرا الى قول معظم الأصحاب ، وأخذا بالاحتياط» انتهى وفي البيان حكم بأن الأصح الاستحباب.

أقول : اما ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) ـ من الاستدلال بالأخبار المشار إليها كما صرح به في الاستبصار ـ ففيه ما ذكره في المختلف ، فان وجوب الإعادة بدون الاستبراء لا دلالة له على أصل وجوب الاستبراء بوجه. واما ما ذكره في الذكرى من قوله : «ولا بأس بالوجوب. إلخ» فإن كان المراد منه اختيار القول بالوجوب كما هو ظاهر كلامه فهذه الوجوه التي ذكرها لا تصلح دليلا له كما لا يخفى ، وان أراد ان الاحتياط في ذلك فلا ريب فيه.

والأظهر الاستدلال على ذلك بما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن عن احمد بن محمد بن ابي نصر البزنطي (4) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. قال تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك ، وتبول ان قدرت على البول ، ثم تدخل يدك في الإناء ثم اغسل ما أصابك منه. الحديث».

ومضمرة أحمد بن هلال المتقدمة في المقصد الثاني (5) قال : «سألته عن رجل

__________________

(1) ص 21.

(2 و 5) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.

(3) سورة المائدة. الآية 6.

(4) رواه في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


اغتسل قبل ان يبول فكتب : ان الغسل بعد البول الا ان يكون ناسيا فلا يعيد منه الغسل».

وفي الفقه الرضوي (1) «فإذا أردت الغسل من الجنابة فاجتهد ان تبول حتى تخرج فضلة المني التي في إحليلك ، وان جهدت ولم تقدر على البول فلا شي‌ء عليك وتنظف موضع الأذى منك. إلخ». وبصدر هذه العبارة عبر ابنا بابويه على ما نقل عنهما

والظاهر انه على هذه الاخبار اعتمد المتقدمون فيما صرحوا به من الوجوب أو ذكر الأمر بذلك في كلامهم ، ولا سيما الشيخ علي بن بابويه في رسالته ، فإنها إلا الشاذ النادر منقولة من الفقه الرضوي كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في المباحث الآتية من هذا الكتاب ، والصدوق في الفقيه كثيرا ما يعبر ايضا بعبارات الكتاب من غير استناد ولا نسبة الى الرواية ، وعبارة الكتاب المذكور هنا ظاهرة في الوجوب للأمر بذلك الذي هو حقيقة في الوجوب كما أوضحناه في مقدمات الكتاب ، ونحوها صحيحة البزنطي وان كان الأمر فيها بالجملة الفعلية ، لما حققنا ثم ايضا من انه لا اختصاص للوجوب بمفاد صيغة الأمر بل كل ما دل على الطلب ، كما هو مقتضى الآيات القرآنية والأحاديث المعصومية حسبما تقدم تحقيقه في الموضع المشار اليه ، وبذلك يندفع ما أورده بعضهم على الاستدلال بالرواية لذلك. وما ربما يورد عليها ايضا ـ من ان ورود الأمر بذلك في قرن هذه المستحبات يؤذن بالاستحباب ـ فهو مردود بان الأمر حقيقة في الوجوب ، وقيام الدليل على خلافه في بعض الأوامر لا يستلزم انسحابه الى ما لا معارض له ولا دليل على خلافه كما صرحوا به ، وهل هو الا من قبيل العام المخصوص فإنه يصير حجة في الباقي ، وبما ذكرناه يظهر قوة ما ذهب اليه المتقدمون (رضوان الله عنهم) ويظهر ضعف ما ذكره في المختلف من الاستناد في الاستحباب الى الأصل ، فإنه يجب الخروج عنه بالدليل ، والآية مطلقة يجب تقييدها ايضا به كما وقع لهم في غير مقام.

بقي الكلام هنا في موضعين (الموضع الأول) ـ انه هل ينسحب الحكم الى

__________________

(1) ص 3.


المرأة فيجب أو يستحب لها البول أيضا أم لا؟ قولان ، ظاهر المقنعة والنهاية الأول ، حيث قال في المقنعة : «ينبغي للمرأة ان تستبرئ نفسها قبل الغسل بالبول ، فان لم يتيسر لها ذلك لم يكن عليها شي‌ء» وقال في النهاية بعد ذكر الرجل وانه يستبرئ نفسه بالبول : «وكذلك تفعل المرأة» وظاهر العلامة ومن تأخر عنه الثاني ، قال في المختلف ـ بعد ان نقل عن الشيخ في الجمل تخصيص الحكم بالرجل ـ ما صورته : «وهو الحق لأن المراد منه استخراج المتخلف من بقايا المني في الذكر ، وهذا المعنى غير متحقق في طرف المرأة ، لأن مخرج البول ليس هو مخرج المني فلا معنى لاستبرائها» انتهى.

والأجود الاستناد في ذلك الى عدم الدليل الذي هو دليل على العدم ، والإلحاق بالرجل قياس مع الفارق ، ولان الغرض من الاستبراء ـ كما يفهم من الاخبار ـ انما هو لعدم اعادة الغسل ومورد الأخبار المذكورة انما هو الرجل ، ويعضده ان يقين الطهارة لا يرتفع بالشك ، والرجل قد خرج بالنصوص الصحيحة الصريحة فتبقى المرأة لعدم الدليل وحينئذ فما تجده المرأة من البلل المشتبه لا يترتب عليه حكم.

وأورد على ما ذكره العلامة من عدم ترتب الفائدة عليه لتغاير المخرجين بأنه يمكن ان يعصر البول بعد خروجه مخرج المني فيخرجه ، مع ان الحال في الرجل ايضا كذلك لان مخرج منيه غير مخرج بوله إلا أنهما أشد تقاربا من مخرجي المرأة ، ومن أجل ذلك انا ضربنا صفحا عن الاعتماد عليه وان أمكن الجواب عنه بالفرق بين مخرجي الرجل والمرأة ، لاشتراك مخرجي الرجل في نفس الذكر ومخرج الجميع من مخرج واحد ، بخلاف مخرجي المرأة فإنهما مفترقان الى وقت الخروج ، فالحكم هنا ـ بعصر البول عند خروجه لمخرج المني كما ادعاه القائل المذكور ـ غير معلوم.

واما ما ذكره صاحب رياض المسائل ـ من التوقف في هذه المسألة لإطلاق قوله (عليه‌السلام) في مضمرة أحمد بن هلال (1) : «ان الغسل بعد البول». وان خصوص

__________________

(1) ص 104.


السؤال عن الرجل لا يخصص ومن حيث خصوص أكثر الروايات المشتملة على حكمه الأمر به وهو اعادة الغسل لو وقع قبله عند خروج بلل مشتبه بعده بالرجل ، مع التصريح في البعض بالفرق بينهما بالإعادة فيه دونها معللا بان ما يخرج من المرأة إنما هو من ماء الرجل ـ فلا يخفى ما فيه : (اما أولا) ـ فلان الاستناد الى هذا الإطلاق الذي ذكره وان خصوص السؤال عن الرجل لا يخصص انما يتم لو كان الجواب مقصورا على هذه العبارة التي ذكرها ، ولكن الضمائر الواقعة في الجواب بعدها لا مرجع لها الا الرجل المذكور في السؤال ، وحينئذ فما ادعاه من الإطلاق غير تام بل الجواب ظاهر في خصوص الرجل المسؤول عنه ، واحتمال عود الضمير الى المغتسل المفهوم من قوله : «ان الغسل» خلاف الظاهر.

و (اما ثانيا) ـ فلما في متن هذه الرواية من العلة زيادة على ضعف سندها بالراوي المذكور ، حيث ان ظاهرها يشعر بأنه لو تعمد الغسل قبل البول فإنه يعيد الغسل فان تقدير الكلام باعتبار إضمار المستثنى منه في قوة أن يقال : الغسل بعد البول فلا يصح قبله الا ان يكون ناسيا فإنه يصح ولا يعيد الغسل منه. وهو باطل إجماعا نصا وفتوى.

و (اما ثالثا) ـ فلان الأصل العدم ، ويعضده ما ذكره في الوجه الثاني من خصوص الروايات المشتملة على حكمه الأمر به المعتضدة بالتصريح بالفرق بين ما يخرج من الرجل وما يخرج من المرأة ، والرواية التي ذكرها لا تبلغ قوة المعارضة لشي‌ء من ذلك متنا وسندا بل هي ساقطة مرجوعة إلى قائلها ، وبذلك يظهر قوة القول المشهور.

هذا كله فيما إذا لم يعلم ان الخارج مني ، والا فلو علم فالذي دل عليه موثق سليمان بن خالد المتقدم (1) ان الذي يخرج منها انما هو مني الرجل ، وقطع ابن إدريس

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب 13 من أبواب الجنابة.


بوجوب الغسل عليها في الصورة المذكورة ولم يعمل بالرواية لعموم «الماء من الماء» (1). ولا يخفى ضعفه. فان حديثه عام أو مطلق وهذا خاص أو مقيد ومقتضى القاعدة تقديم العمل به.

(الموضع الثاني) ـ لو أجنب ولم ينزل فهل يستحب ايضا له الاستبراء بالبول أم لا؟

ظاهر جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) الثاني ، قال في المنتهى : «لو جامع ولم ينزل لم يجب عليه الاستبراء ، ولو رأى بللا يعلم انه مني وجب عليه الإعادة ، اما المشتبه فلا لأنا إنما حكمنا هناك بكون البلل منيا بناء على الغالب من استخلاف الاجزاء بعد الانزال ، وهذا المعنى غير موجود مع الجماع الخلي من الانزال» وبذلك صرح الشهيدان والمحقق الشيخ علي (رحمهم‌الله) قال في الذكرى : «انما يجب الاستبراء أو يستحب ويتعلق به الأحكام للمنزل ، اما المولج بغير إنزال فلا لعدم سببه. هذا مع تيقن عدم الانزال ، ولو جوزه أمكن استحباب الاستبراء أخذا بالاحتياط ، اما وجوب الغسل بالبلل فلا. لان اليقين لا يرفع بالشك» انتهى.

واعترضهم في الذخيرة فقال : «ويرد عليهم عموم الروايات كما ستطلع عليه من غير تفصيل ، وانتفاء الفائدة ممنوع إذ عسى ان ينزل ولم يطلع عليه واحتبس شي‌ء في المجاري لكون الجماع مظنة نزول الماء» انتهى.

أقول : لا ريب في ان الروايات في هذه المسألة وان كانت مطلقة كما ذكره الا ان إطلاقها انما وقع من حيث معلومية الحكم وظهوره ، فإنه لا يخفى على ذي مسكة ان المستفاد من الاخبار المذكورة ان العلة في الأمر بالبول هو تنقية المخرج لئلا يخرج بعد ذلك شي‌ء يوجب اعادة الغسل ، ولا يعقل لاستحباب البول بمجرد الإيلاج سيما مع تيقن عدم الانزال وجه وان شمله إطلاق الاخبار المذكورة. واما قوله : «وعسى ان ينزل.»

__________________

(1) هذا مضمون الروايات الدالة على ان الغسل من الماء الأكبر المروية في الوسائل في الباب 7 و 9 من أبواب الجنابة ، وقد ورد هذا اللفظ في صحيحة زرارة المتقدمة ص 6 حكاية عن الأنصار.


ففيه أن الإنزال مقرون بعلامات موجبة للعلم به مثل الشهوة وفتور الجسد والدفق ونحوها ، وفرض ما ذكره ـ مع كونه من النادر الذي لا تبنى عليه الأحكام الشرعية ـ لا يوجب قصر الحكم عليه ، فلا يكون ما ذكره من الحكم كليا وهو خلاف ظاهر كلامه. وبالجملة فإن خروج الاخبار في هذا المقام مطلقة انما هو من حيث معلومية ذلك

(الثاني) ـ غسل اليدين ان لم يصبهما قذر قبل إدخالهما الإناء إذا كان الغسل منه ، كما هو المعروف في الأزمنة السابقة وبه وردت الاخبار ، وان استحباب ذلك ثابت إجماعا فتوى ورواية.

ويجزئ غسل الكفين من الزندين كما اشتمل عليه أكثر الاخبار وهو المشهور ، ونقل في الذكرى عن الجعفي أنه يغسلهما الى المرفقين أو الى نصفهما لما فيه من المبالغة في التنظيف والأخذ بالاحتياط :

ففي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك. الحديث».

وفي موثقة أبي بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك. الحديث».

وفي صحيحة زرارة (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل كفيك.».

ويجزئ غسل الكف الأيمن كما تضمنته صحيحة حكم بن حكيم (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها. الحديث».

والأفضل دون المرفق كما تضمنته موثقة سماعة (5) عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفيه فليغسلهما دون المرفق.».

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


أو الى نصف الذراع كما تشعر به رواية يونس عنهم (عليهم‌السلام) (1) المتضمنة لغسل الميت وانه يغسل يده ثلاث مرات كما يغتسل الإنسان من الجنابة الى نصف الذراع.

والا كمل من المرفق لما تضمنته صحيحة يعقوب بن يقطين عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (2) «يبدأ فغسل يديه الى المرفقين قبل ان يغمسهما في الماء.». وصحيحة أحمد ابن محمد بن ابي نصر (3) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة فقال : تغسل يدك اليمنى من المرفقين إلى أصابعك وتبول. الحديث». وقد تقدم قريبا ، ورواية قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن احمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليه‌السلام) (4) انه قال في غسل الجنابة : «تغسل يدك اليمنى من المرفق إلى أصابعك.». والظاهر ان تثنية المرفق وافراد اليد في الرواية الثانية من سهو قلم الشيخ (رحمه‌الله) ورواية الحميري تؤيد الأول ، قال في الوافي بعد نقل الخبر المذكور : «وفي بعض النسخ تغسل يديك الى المرفقين وهو الصواب».

وتكفي المرة والأفضل الثلاث لصحيحة الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (5) قال : «سأل كم يفرغ الرجل على يده قبل ان يدخلها في الإناء؟ قال : واحدة من حدث البول وثنتين من الغائط وثلاثا من الجنابة». وروى في الفقيه مرسلا قال قال الصادق (عليه‌السلام) (6) : «اغسل يدك من البول مرة ومن الغائط مرتين ومن الجنابة ثلاثا». ورواية حريز عن الباقر (عليه‌السلام) (7) قال : «يغسل الرجل يده من النوم مرة ومن الغائط والبول مرتين ومن الجنابة ثلاثا». وفي الفقه الرضوي (8) «وتغسل يديك الى المفصل ثلاثا قبل ان تدخلهما الإناء وتسمى بذكر الله تعالى قبل إدخال يدك

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.

(2) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.

(3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(5 و 6 و 7) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الوضوء.

(8) ص 3.


الإناء». ومن المحتمل قريبا تعين الثلاث. فإنه لا دليل للمرة إلا إطلاق الاخبار المتقدمة ويمكن تقييده بهذه الروايات.

وهل الحكم مختص بالغسل من الإناء الواسع الرأس القليل الماء ، أو ينسحب الى الارتماس والغسل تحت المطر أو من إناء يصب عليه ونحو ذلك؟ ظاهر الاخبار الأول ، وصرح العلامة بالثاني محتجا بأنه من سنن الغسل ، قال في الذخيرة بعد نقل ذلك عنه : «وهو حسن لعموم صحيحة زرارة وصحيحة محمد بن مسلم وصحيحة حكم ابن حكيم ورواية أبي بكر الحضرمي» (1) وفيه ان سياق أكثر روايات الغسل بل روايات الوضوء ايضا ظاهر في كون الطهارة انما هي من الأواني الواسعة الرأس القليلة الماء كالطشوت ونحوها ، وما أطلق وأجمل منها وهو القليل يحمل على المقيد والمبين ، والقول بعموم الاستحباب ـ كما ذكر ـ يحتاج الى دليل واضح وليس فليس. والله العالم.

(الثالث) ـ المضمضة والاستنشاق ومحلهما بعد إزالة النجاسة كما يفهم من الاخبار

ففي صحيحة زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (2) «تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض واستنشق.».

وفي رواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (3) «تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق.».

وحملتا على الاستحباب جمعا بينهما وبين ما تقدم في المسألة الثامنة من المقصد المتقدم (4) من الأخبار الدالة على نفيهما في الغسل بحملها على نفي الوجوب كما تقدمت الإشارة اليه.

والمشهور استحباب التثليث مقدما لثلاث الاولى على الثانية ، وجملة منهم ذكروا الحكم المذكور هنا وفي الوضوء ولم يوردوا له دليلا ، وبعضهم اعترف بعدم الوقوف على

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(4) ص 91.


الدليل في الموضعين ، والذي وقفت عليه من الدليل هنا ما ذكره في الفقه الرضوي (1) حيث قال (عليه‌السلام): «وقد نروى أن يتمضمض يستنشق ثلاثا ويروى مرة مرة تجزيه وقال الأفضل الثلاث وان لم يفعل فغسله تام». واما الوضوء فقد تقدم دليله (2).

(الرابع) ـ التسمية على ما ذكره جملة من الأصحاب ، وأسندها في الذكرى الى الجعفي ، قال : «وقال الشيخ المفيد (رحمه‌الله) : يسمى الله عزوجل عند اغتساله ويمجده ويسبحه. ونحوه قال ابن البراج في المهذب ، والأكثر لم يذكروها في الغسل ، والظاهر انهم اكتفوا بذكرها في الوضوء تنبيها بالأدنى على الأعلى» انتهى. أقول : لا يخفى ما في هذا العذر من البعد ، بل الظاهر ان عدم ذكرهم لها انما هو لعدم وقوفهم على دليل لذلك ، ومن ذكرها فلعله وقف على الدليل.

واستدل في الذكرى على ذلك بإطلاق صحيحة زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (3) قال : «إذا وضعت يدك في الماء فقل بسم الله وبالله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. فإذا فرغت فقل الحمد لله رب العالمين». وهذا الخبر انما أورده الأصحاب في الوضوء ولهذا ان صاحب رياض المسائل إنما استند في استحبابها الى الخبر العام ، والظاهر انه أشار به الى قوله (عليه‌السلام): «كل أمر لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» (4). ثم قال : «ويتخير في جعلها عند غسل اليدين وعند المضمضة والاستنشاق وعند ابتداء غسل الرأس لصدق البدأة في الكل» أقول : ما ذكره من التخيير جيد بالنسبة

__________________

(1) ص 3.

(2) ج 2 ص 162.

(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الوضوء.

(4) في سفينة البحار ج 1 ص 663 عن تفسير الإمام العسكري عن أمير المؤمنين (عليهما‌السلام) عن رسول الله (ص) في حديث «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله فهو أبتر». وفي عمدة القارئ ج 1 ص 25 والجامع الصغير ج 1 ص 91 عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو اقطع».


الى ما خرجه من الدليل ، والمستفاد من كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي ـ كما قدمنا ذكره قريبا ـ هو استحباب التسمية وان محلها قبل إدخال اليد في الإناء ، وهذا مما اختص ببيان دليله الكتاب المذكور. والله العالم.

(الخامس) ـ الدلك باليد ، ذكره الأصحاب (رض) وعللوه بما فيه من الاستظهار والمبالغة في إيصال ماء الغسل ، وقال في المعتبر انه اختيار علماء أهل البيت (عليهم‌السلام) وفي المنتهى انه مذهب أهل البيت ، وظاهر كلاميهما دعوى الإجماع عليه ، وظاهر كلام الجميع عدم الوقوف فيه على نص ، والحكم المذكور قد صرح به في الفقه الرضوي (1) فقال بعد ان ذكر صفة الغسل وانه يصب على رأسه ثلاث أكف وعلى جانبه الأيمن مثل ذلك وعلى جانبه الأيسر مثل ذلك الى ان قال : «ثم تمسح سائر بدنك بيديك وتذكر الله تعالى فإنه من ذكر الله تعالى على غسله وعند وضوئه طهر بدنه كله. الحديث».

أقول : لا ريب انه متى كان غسل الأعضاء الثلاثة انما هو بالأكف الثلاثة ونحوها كما تضمنه هذا الخبر وغيره ، فإنه لا يبعد وجوب الدلك ليحصل يقين إيصال الماء الى جميع البدن. وبالجملة فالحكم المذكور مما لا اشكال فيه ويشير إليه أيضا قوله في صحيحة زرارة عن الصادق (عليه‌السلام) (2) : «... ولو ان جنبا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وان لم يدلك جسده».

(السادس) ـ تخليل ما يصل اليه الماء بدون التخليل استظهارا كالشعر الخفيف ومعاطف الأذنين والإبطين والسرة وعكن البطن في السمين وما تحت ثدي المرأة ونحو ذلك ، اما ما لا يصل اليه الماء بدون التخليل فإنه يجب تخليله كما تقدم ، ويشير الى الحكم المذكور ما تقدم في المسألة السادسة من سابق هذا المقصد (3) من

__________________

(1) ص 3.

(2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(3) ص 89.


قوله (عليه‌السلام) في حسنة جميل : «ثم قال يبالغن في الغسل». وفي صحيحة محمد بن مسلم : «يبالغن في الماء». وفي الفقه الرضوي : «والاستظهار فيه إذا أمكن». ولا ينافي ذلك ما تقدم في المسألة السابعة من سابق هذا المقصد (1) في صحيحة إبراهيم بن ابي محمود ورواية إسماعيل بن ابي زياد ، فإن غاية ما تدلان عليه صحة الغسل مع عدم التخليل وهو لا ينافي استحبابه ، على انك قد عرفت ثمة ارتكاب التأويل فيهما. ونقل في الذكرى عن العلامة انه حكم باستحباب تخليل المعاطف والغضون ومنابت الشعر والخاتم والسير قبل إفاضة الماء للغسل ليكون أبعد عن الإسراف وأقرب الى ظن وصول الماء قال : وقد نبه عليه قدماء الأصحاب. انتهى. وفيه ما لا يخفى.

(السابع) ـ الدعاء لما رواه الشيخ (رحمه‌الله) عن عمار الساباطي (2) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) إذا اغتسلت من جنابة فقل اللهم طهر قلبي وتقبل سعيي واجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، وإذا اغتسلت للجمعة فقل اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين».

وما رواه عن محمد بن مروان عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «تقول في غسل الجمعة اللهم طهر قلبي من كل آفة تمحق ديني وتبطل عملي ، وتقول في غسل الجنابة اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي». وفي كتاب المصباح (4) تقول عند الغسل : «اللهم طهرني وطهر قلبي واشرح لي صدري وأجر على لساني مدحتك والثناء عليك اللهم اجعله لي طهورا وشفاء ونورا انك على كل شي‌ء قدير». وقال المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة : «ويسمى الله تعالى عند اغتساله ويمجده ويسبحه ، فإذا فرغ من غسله فليقل اللهم طهر قلبي وزك عملي واجعل ما عندك خيرا لي اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين» والظاهر حصول الامتثال بالدعاء حال الاغتسال

__________________

(1) ص 91.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 37 من أبواب الجنابة.

(4) رواه في مستدرك الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


وبعده والاخبار المذكورة لا تأباه ، وبذلك صرح شيخنا الشهيد في الذكرى فقال : «ولعل استحباب الدعاء للغسل شامل حال الاغتسال وبعده».

(الثامن) ـ الاستبراء بالاجتهاد على المشهور سيما بين المتأخرين ، وبه صرح المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وابن إدريس ومن تأخر عنه ، ونقل عن الشيخ في المبسوط والجمل وجوبه وعبارته تدل على وجوب الاستبراء بالبول أو الاجتهاد على الرجل ، وظاهر هذا الكلام هو ان الواجب الاستبراء بالبول إن أمكن والا فبالاجتهاد ، وهو الظاهر من كلام الشيخ المفيد (رحمه‌الله) في المقنعة حيث قال : «وإذا عزم الجنب على التطهير بالغسل فليستبرئ بالبول ليخرج ما بقي من المني في مجاريه ، فان لم يتيسر له ذلك فليجتهد في الاستبراء بمسح ما تحت الأنثيين إلى أصل القضيب وعصره الى رأس الحشفة ليخرج ما لعله باق فيه من نجاسة» ونقل مثله ايضا عن ابن البراج. وعن ظاهر الجعفي وجوب البول والاجتهاد معا. وجملة من عبائر القائلين بالوجوب مجملة حيث صرحوا بوجوب الاستبراء ولم يفسروه بالبول أو الاجتهاد أو هما معا. وكيف كان فالظاهر هو القول المشهور وضعف القول المذكور ، لعدم الدليل عليه ، والدليل الذي أورده الشيخ على وجوب الاستبراء بالبول ـ وهو الروايات الدالة على وجوب اعادة الغسل بدونه (1) ـ لا يمكن الاستدلال به هنا سيما في صورة ما إذا بال. وبالجملة فإنا لم نقف في شي‌ء من اخبار الغسل على الأمر للمنزل بالاستبراء بالاجتهاد وانما ورد ذلك بعد البول.

وهل يستحب الاستبراء للمرأة أيضا؟ قولان.

واما كيفية الاستبراء بالاجتهاد فقد تقدم تحقيق القول فيه في بحث الوضوء (2)

(التاسع) ـ الموالاة ذكرها جملة من متأخري الأصحاب ، وعللوه بما فيه من المبادرة إلى الواجب والتحفظ من طريان المفسد للغسل ، ولان المعلوم من صاحب الشرع وذريته المعصومين (صلوات الله عليهم) فعل ذلك ، وظاهر كلامهم الاتفاق

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 36 من أبواب الجنابة.

(2) ج 2 ص 56.


على عدم وجوبها هنا بكل من المعنيين المذكورين في الوضوء ، وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة الثالثة من المسائل الملحقة بالمقصد المتقدم (1).

(العاشر) ـ الغسل بصاع ، وعليه إجماع علمائنا وأكثر العامة ، ونسب الى ابى حنيفة القول بوجوب الصاع (2).

ويدل على الاستحباب ـ مضافا الى الإجماع ـ الروايات الدالة على الاكتفاء بمجرد الجريان ولو كالدهن ، ومنها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (3) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال تبدأ بكفيك فتغسلهما ، الى ان قال : ثم تصب على سائر جسدك مرتين فما جرى عليه الماء فقد طهر». وفي صحيحة زرارة أو حسنته (4) قال : «قلت كيف يغتسل الجنب؟ فقال : ان لم يكن أصاب كفه شي‌ء ، الى ان قال : فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». وفي صحيحته الأخرى (5) «... وكل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته.». وفي موثقته ايضا (6) «أفض على رأسك ثلاث أكف وعن يمينك وعن يسارك انما يكفيك مثل الدهن». وفي حسنة هارون بن حمزة الغنوي (7) قال : «يجزيك من الغسل والاستنجاء ما بلت يدك». الى غير ذلك من الاخبار.

ومما يدل على استحباب الصاع هنا ما رواه في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار (8) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : كان رسول الله (صلى الله

__________________

(1) ص 83.

(2) في المغني لابن قدامة الحنبلي ج 1 ص 224 «حكى عن أبي حنيفة انه لا يجزئ دون الصاع في الغسل والمد في الوضوء» وفي بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج 1 ص 35 «ذكر في ظاهر الرواية أدنى ما يكفي في الغسل من الماء صاع وفي الوضوء مد ، وهذا التقدير غير لازم بحيث لا يجوز النقصان عنه والزيادة عليه بل هو لبيان ادنى الكفاية عادة حتى ان من أسبغ الوضوء والغسل بدون ذلك أجزأه».

(3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(6 و 7) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الجنابة.

(8) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب الجنابة.


عليه وآله) يغتسل بصاع وإذا كان معه بعض نسائه يغتسل بصاع ومد». وعن زرارة في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (1) قال : «كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يتوضأ بمد ويغتسل بصاع ، والمدر طل ونصف والصاع ستة أرطال». قال الشيخ (رحمه‌الله) : «أراد به أرطال المدينة فيكون تسعة أرطال بالعراقي» وعن زرارة ومحمد بن مسلم وابي بصير في الصحيح عن الباقر والصادق (عليهما‌السلام) (2) انهما قالا : «توضأ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بمد واغتسل بصاع ، ثم قال : اغتسل هو وزوجته بخمسة أمداد من إناء واحد. قال زرارة فقلت كيف صنع هو؟ فقال بدأ هو فضرب يده في الماء قبلها وأنقى فرجه ثم ضربت هي فأنقت فرجها ثم أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتى فرغا ، فكان الذي اغتسل به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثلاثة أمداد والذي اغتسلت به مدين ، وانما أجزأ عنهما لأنهما اشتركا جميعا ومن انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع».

أقول : قوله (عليه‌السلام) : «ومن انفرد بالغسل وحده فلا بد له من صاع» لا ينافي ما قدمنا من الاخبار ، لانه محمول على سنة الإسباغ جمعا بينه وبين الاخبار المتقدمة ، وبذلك صرح جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) قال شيخنا المفيد (رحمه‌الله) : «والغسل بصاع من الماء وقدره تسعة أرطال بالبغدادي ، وذلك إسباغ ودون ذلك مجزئ في الطهارة» وقال الشيخ في المبسوط : «والإسباغ بتسعة أرطال» وفي النهاية «والإسباغ يكون بتسعة أرطال من ماء» وفي الخلاف «الفرض في الغسل إيصال الماء الى جميع البدن وفي الوضوء إلى أعضاء الطهارة ، وليس له قدر لا يجوز أقل منه الا ان المستحب ان يكون الغسل بتسعة أرطال والوضوء بمد».

وهذه العبارات كلها ولا سيما عبارة الخلاف مطابقة للأخبار المتقدمة متوافقة في ان المجزئ هو ما صدق عليه الغسل وان نهاية ما يستحب من الزيادة لسنة الإسباغ هو

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 50 من أبواب الوضوء.

(2) رواه في الوسائل في الباب 32 من أبواب الجنابة.


الصاع ، وبذلك يظهر لك ما في كلام العلامة في المنتهى وقبله المحقق في المعتبر من ان المستحب هو الصاع فما زاد ، قال في المعتبر في تعداد سنن الغسل : «والغسل بصاع فما زاد لا خلاف بين فقهائنا في استحبابه» وقال في المنتهى : «الغسل بصاع فما زاد مستحب عند علمائنا اجمع» وقال الشهيد في الذكرى : «والشيخ وجماعة ذكروا استحباب الغسل بصاع فما زاد ، والظاهر انه مقيد بعدم أدائه إلى السرف المنهي عنه» انتهى.

أقول : لا يبعد ان ما نسبه الشهيد الى الشيخ وجماعة انما نشأ من نظره الى عبارتي المعتبر والمنتهى ، حيث ادعوا ان الحكم بذلك إجماعي ، والا فعبارات الشيخ (رحمه‌الله) التي قدمناها خالية عما نقله عنه ، واحتمال كون ذلك في موضع آخر من كتبه الظاهر بعده ، فان هذه الكتب الثلاثة هي المعول عليها في نقل مذاهبه غالبا ، وايضا لو كان كذلك لم ينقل ذلك على الإطلاق. ومما يدفع ما ادعاه الفاضلان المذكوران من الإجماع (أولا) ـ تصريح الأصحاب المتقدم ذكرهم بعدم الزيادة بل ظاهر كلامهم ان هذا نهاية الاستحباب. و (ثانيا) ـ ما تقدم في بحث الوضوء من مرسلة الفقيه (1) عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : «الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي أقوام من بعدي يستقلون ذلك فأولئك على خلاف سنتي والثابت على سنتي معي في حظيرة القدس». وربما استفيد من اخبار كيفية الغسل دخول ماء الاستنجاء والغسل المستحب والمضمضة والاستنشاق في الصاع المذكور ، وصحيحة الفضلاء المتقدمة ظاهرة في دخول ماء الاستنجاء. واما تحقيق الصاع وقدره فسيأتي ان شاء الله تعالى في كتاب الزكاة.

المقصد الخامس

في الأحكام وفيه مسائل (الأولى) ـ المشهور بين الأصحاب وجوب الوضوء مع كل غسل إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب معه إجماعا ، وهل يستحب معه أم لا؟ قولان

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 50 من أبواب الوضوء.


المشهور العدم. فالكلام هنا يقع في مقامين :

(الأول) ـ في وجوب الوضوء مع كل غسل ، وعليه جل الأصحاب ، وذهب المرتضى (رضي‌الله‌عنه) إلى انه لا يجب الوضوء مع الغسل سواء كان فرضا أو نفلا ، ونقله في المختلف عن ابن الجنيد ايضا ، واليه مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين.

احتج الأولون بقوله عزوجل : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية» (1) فإنه شامل لمن اغتسل وغيره ، خرج منه الجنب بالنص والإجماع وبقي ما عداه.

وما رواه في الكافي (2) في الصحيح عن ابن أبي عمير عن رجل عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «كل غسل قبله وضوء الا غسل الجنابة». قال في الكافي (3) : «وروي انه ليس شي‌ء من الغسل فيه وضوء الا غسل يوم الجمعة فان قبله وضوء» قال : «وروي اي وضوء اطهر من الغسل؟».

وما رواه في التهذيب (4) في الصحيح عن ابن ابي عمير عن حماد بن عثمان أو غيره عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «في كل غسل وضوء إلا الجنابة». وهذه الرواية رواها في المختلف في الحسن عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه‌السلام). وفيه ان سندها في كتب الاخبار عن حماد بن عثمان أو غيره فهي لا تخرج عن الإرسال ، ولهذا ردها المتأخرون بالإرسال كسابقتها بل جعلها في المدارك رواية واحدة وردها بضعف السند وشنع على من جعلهما روايتين ، واما نقل العلامة لها عن حماد عنه (عليه‌السلام) فالظاهر انه من سهو القلم حيث ان الموجود في كتب الاخبار انما هو ما ذكرناه.

وعن علي بن يقطين في الصحيح عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) (5)

__________________

(1) سورة المائدة الآية 9.

(2 و 3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 35 من أبواب الجنابة.

(5) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة.


قال : «إذا أردت أن تغتسل للجمعة فتوضأ واغتسل».

أقول : ويدل عليه ما ذكره (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي (1) حيث قال (عليه‌السلام): «والوضوء في كل غسل ما خلا غسل الجنابة ، لأن غسل الجنابة فريضة تجزئه عن الفرض الثاني ولا يجزئه سائر الغسل عن الوضوء لان الغسل سنة والوضوء فريضة ولا تجزئ سنة عن فرض ، وغسل الجنابة والوضوء فريضتان فإذا اجتمعا فأكبرهما يجزئ عن أصغرهما ، وإذا اغتسلت لغير جنابة فابدأ بالوضوء ثم اغتسل ولا يجزيك الغسل عن الوضوء. فان اغتسلت ونسيت الوضوء فتوضأ وأعد الصلاة». انتهى. ولا يخفى ما فيه من الصراحة والمبالغة في وجوب الوضوء ، وبهذه العبارة بعينها عبر الصدوق في الفقيه من غير اسناد إلى الرواية ، وهو قرينة ظاهرة في الاعتماد على الكتاب المذكور والإفتاء بعبارته كما جرى عليه أبوه قبله في رسالته اليه ، وسيظهر لك ذلك ان شاء الله تعالى في الأبواب الآتية ظهورا لا يعتريه الشك والريب.

واما ما يدل على القول الثاني وهو المختار فجملة من الاخبار : منها ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) (2) قال : «الغسل يجزئ عن الوضوء واي وضوء اطهر من الغسل؟». وفي الصحيح عن حكم بن حكيم (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى ، الى ان قال : قلت ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل ، فضحك (عليه‌السلام) وقال : واي وضوء أنقى من الغسل وأبلغ؟». وعن عبد الله بن سليمان (4) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : الوضوء بعد الغسل بدعة». وعن سليمان بن خالد في الصحيح عن الباقر (عليه‌السلام) (5) قال : «الوضوء بعد الغسل بدعة». وعن الحسن بن علي ابن إبراهيم بن محمد عن جده إبراهيم بن محمد ان محمد بن عبد الرحمن الهمداني (6)

__________________

(1) ص 3.

(2 و 4 و 5 و 6) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة.

(3) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.


«كتب الى ابي الحسن الثالث (عليه‌السلام) يسأله عن الوضوء للصلاة في غسل الجمعة. فكتب : لا وضوء للصلاة في غسل الجمعة ولا غيره». وعن حماد بن عثمان عن رجل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) : «في الرجل يغتسل للجمعة أو غير ذلك أيجزيه من الوضوء؟ فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : واي وضوء اطهر من الغسل؟». وعن عمار الساباطي في الموثق (2) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل إذا اغتسل من جنابة أو يوم جمعة أو يوم عيد ، هل عليه الوضوء قبل ذلك أو بعده؟ فقال : لا ليس عليه قبل ولا بعد قد أجزأه الغسل ، والمرأة مثل ذلك إذا اغتسلت من حيض أو غير ذلك فليس عليها الوضوء لا قبل ولا بعد قد أجزأها الغسل». وعن محمد بن احمد بن يحيى مرسلا (3) «ان الوضوء بعد الغسل بدعة». وبهذا الاسناد قال : «الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة».

ومما يعضد هذه الاخبار ويعلى هذا المنار الأخبار الواردة في أحكام الحائض والمستحاضة والنفساء ، فإنها قد اشتملت على الغسل خاصة ولا سيما في مقام التقسيم الى الغسل في بعض والوضوء في بعض ، والمقام مقام البيان فلو كان الوضوء مع الغسل واجبا لذكروه (عليهم‌السلام) ففي صحيحة زرارة (4) «... وان جاز الدم الكرسف تعصبت واغتسلت ثم صلت الغداة بغسل والظهر والعصر يغسل.». وفي صحيحة ابن سنان (5) «المستحاضة تغتسل عند صلاة الظهر وتصلى الظهر والعصر ثم تغتسل عند المغرب وتصلي المغرب والعشاء ثم تغتسل عند الصبح وتصلي الفجر.». وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (6) «ان كانت صفرة فلتغتسل ولتصل. الى ان قال : وان كان دما ليس بصفرة فلتمسك عن الصلاة أيام قرئها ثم لتغتسل ولتصل». وفي صحيحة الحسين بن نعيم الصحاف (7)

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة.

(4 و 5 و 7) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.

(6) المروية في الوسائل في الباب 5 من أبواب النفاس.


«... فان انقطع الدم عنها قبل ذلك فلتغتسل ولتصل.». وفي صحيحة معاوية بن عمار (1) «... فإذا جازت أيامها ورأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر والعصر ، الى قوله : وان كان الدم لا يثقب الكرسف توضأت ودخلت المسجد وصلت كل صلاة بوضوء.». الى غير ذلك من الأخبار.

أقول : هذا ما وقفت عليه من اخبار المسألة ، والظاهر عندي هو القول الثاني لدلالة جملة هذه الأخبار عليه ، وجمهور أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) لم يوردوا في مقام الاستدلال للقول الثاني إلا اليسير منها ، وقد اختلف كلامهم في الجواب عنها :

فاما الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب فإنه بعد ان ذكر موثقة عمار ورواية حماد ابن عثمان ومحمد بن عبد الرحمن الهمداني حملها على ما إذا اجتمعت هذه الأغسال مع غسل الجنابة ، ولا يخفى بعده إذ لا قرينة ولا إشارة في شي‌ء من الاخبار المذكورة تدل على ذلك

واما الشهيد في الذكرى فإنه لم يورد إلا مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان ثم قال : «وهي دليل المرتضى (رضي‌الله‌عنه) وابن الجنيد على اجزاء الغسل فرضه ونفله عن الوضوء ، الى ان قال بعد كلام في البين : والحق ان الترجيح بالشهرة بين الأصحاب وكاد يكون إجماعا. والروايات معارضة بمثلها وبما هو أصح إسنادا منها» ولا يخفى ما فيه فان الترجيح بالشهرة في الفتوى لم يدل عليه دليل وانما الشهرة الموجبة للترجيح بين الاخبار هي الشهرة في الرواية كما اشتملت عليه مقبولة عمر بن حنظلة (2) وغيرها ، وهو ثابت في جانب روايات القول الثاني. وما ذكره من ان الروايات متعارضة فهو كذلك لكن الترجيح في جانب روايات القول الثاني لكثرتها واستفاضتها وضعف ما يقابلها سندا ودلالة كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وليس الدليل منحصرا في هاتين الروايتين المذكورتين في كلامه كما يوهمه ظاهر كلامه.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الاستحاضة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب صفات القاضي.


واما المحقق في المعتبر فإنه بعد نقل القولين قال : «لنا ان كل واحد من الحدثين لو انفرد لا وجب حكمه ولا منافاة فيجب حكماهما لكن ترك العمل بذلك في غسل الجنابة فيبقى معمولا به هنا ، ويؤكد ذلك رواية ابن ابي عمير ، ثم أورد روايتيه المتقدمين ، ثم قال : فان احتج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) بما رواه محمد بن مسلم ، ثم أورد الرواية الاولى ، ثم قال عاطفا عليها : وما روى من عدة طرق عن الصادق (عليه‌السلام) انه قال : «الوضوء بعد الغسل بدعة» (1). فجوابه ان خبرنا يتضمن التفصيل والعمل بالمفصل اولى» انتهى.

أقول : اما ما أورده أولا ـ من الدليل العقلي الذي هو بزعمهم أقوى من الدليل النقلي حتى انه انما جعل الدليل النقلي مؤيدا ـ ففيه (أولا) ـ ان الأحكام الشرعية توقيفية ليس للعقول فيها مسرح كما حققناه في مقدمات الكتاب ، بل المرجع فيها الى الكتاب العزيز والسنة المطهرة. و (ثانيا) ـ انه من الجائز الممكن انه وان كان كل من الحدثين لو انفرد لأوجب حكمه الا انه بالاجتماع يندرج الأصغر تحت الأكبر كما في الجنابة ، وكما خرجت الجنابة بالدليل ـ كما اعترف به ـ كذلك غيرها بالأدلة التي قدمناها غاية الأمر ان الجنابة قد أجمعوا عليها وهذه محل خلاف بينهم ، ولكن بالنظر الى الأدلة الشرعية والأخبار المعصومية التي هي المعتمد وعليها المدار فالاندراج حاصل والاكتفاء بالغسل ثابت.

واما ما أجاب به عن احتجاج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ففيه (أولا) ـ ان دليل المرتضى غير منحصر فيما نقله ، فلو تم له ما ذكره في هذين الخبرين فإنه لا يتم في غيرهما من الاخبار المتقدمة المشتملة على بعض من الأغسال المعينة ، مثل مكاتبة الهمداني ومرسلة حماد بن عثمان وموثقة عمار وروايات الحائض والمستحاضة. و (ثانيا) ـ ان الظاهر ـ كما حققه جملة من متأخري المتأخرين ـ ان المراد من المفرد

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة.


المعرف باللام في أمثال هذه المواضع العموم ، إذ لا يجوز ان يكون للعهد لعدم تقدم معهود ولا للعهد الذهني إذ لا فائدة فيه فتعين أن يكون للاستغراق ، ويؤيده التعليل المستفاد من قوله : «واي وضوء اطهر من الغسل؟» فإنه ظاهر في العموم ، إذ لا خصوصية لغسل الجنابة بذلك ، ولوروده في غسل الجمعة في مرسلة حماد بن عثمان المتقدمة ، وكذا في صحيحة حكم بن حكيم وان كان أصل السؤال فيها عن غسل الجنابة الا انه قد تقرر ان خصوص السؤال لا يخصص عموم الجواب. وما ربما يقال ـ ان غسل الجنابة هو الشائع المتكرر فيكون في قوة المعهود فينصرف الإطلاق إليه ـ ممنوع فان غسل الحيض والاستحاضة لا يقصران في التكرار والشيوع عنه فالحمل عليه بعد ما عرفت تحكم محض ، على ان الحق في ذلك ان يقال ان ما أوردناه من الروايات في الاستدلال للقول المذكور ما بين مفصل ومجمل فيحمل مجملها على مفصلها.

واما العلامة في المنتهى فإنه ذكر أكثر الروايات المتقدمة ثم أجاب عن صحيحة محمد بن مسلم بان اللام لا تدل على الاستغراق فلا احتجاج فيه فيصدق بصدق أحد اجزائه وقد ثبت هذا الحكم لبعض الأغسال فيبقى الباقي على الأصل ، وايضا تحمل الالف واللام على العهد جمعا بين الأدلة ، ثم أجاب عن الروايات الباقية بضعف السند ، ثم احتمل ما أجاب به الشيخ (رحمه‌الله) مما قدمنا ذكره ، ثم قال : «ويمكن ان يقال في الجواب عن الأحاديث كلها انها تدل على كمالية الأغسال والاكتفاء بها فيما شرعت له ونحن نقول به ، والوضوء لا نوجبه في غسل الحيض والجمعة مثلا ليكمل الغسل عنهما وانما نوجب الوضوء للصلاة ، فعند غسل الحيض يرتفع حدث الحيض وتبقى المرأة كغيرها من المكلفين إذا أرادت الصلاة يجب عليها الوضوء ، وكذا باقي الأغسال» انتهى.

أقول : اما ما أجاب به عن صحيحة محمد بن مسلم فقد تقدم الكلام فيه. واما طعنه في الأخبار الباقية بضعف السند فهو ضعيف عندنا غير معمول عليه ولا معتمد ، على انه متى ألجأته الحاجة الى الاستدلال بأمثالها من الاخبار الضعيفة باصطلاحه استدل


بها وأغمض عن هذا الطعن كما لا يخفى على من راجع كتبه وكتب غيره من أرباب هذا الاصطلاح ، ولو انهم يقفون على هذا الاصطلاح حق الوقوف ولا يخرجون عنه لما استطاعوا تصنيف هذه الكتب ولا تفريع هذه الفروع ، إذ الصحيح من الأخبار باصطلاحهم لا يفي لهم بعشر معشار الأحكام التي ذكروها كما لا يخفى على من تأمل بعين الإنصاف. واما ما ذكره من جواب الشيخ فقد تقدم ما فيه. واما ما ذكره أخيرا في الجواب عن الاخبار كلها ـ من ان مشروعية الوضوء هنا ليس لتكميل الأغسال وانما هو لرفع موجبه وهو الحدث الأصغر فإذا أراد الصلاة وجب عليه الوضوء لذلك ـ ففيه أن مكاتبة الهمداني التي هي إحدى الروايات التي نقلها قد تضمنت انه لا وضوء للصلاة في غسل الجمعة ولا غيره. واما ما أجاب به في المختلف من التقييد بما إذا لم يكن وقت صلاة فمع ظهور انه تعسف محض يرده قوله في موثقة عمار : «ليس عليه قبل الغسل ولا بعد قد أجزأه الغسل». وكذا الأخبار الدالة على انه بعد الغسل بدعة ، وبذلك اعترف في الذكرى ايضا.

وبالجملة فإن الروايات المذكورة ظاهرة الدلالة على القول المذكور غاية الظهور لا يعتريها فتور ولا قصور.

نعم يبقى الكلام في الجواب عن أدلة القول المشهور ، اما الآية فالجواب عنها ان إطلاقها مقيد بالأخبار المذكورة ، كما هو معلوم في جملة من الأحكام من تقييد إطلاقات الكتاب العزيز وتخصيص عموماته بالسنة المطهرة ، على انه قد ورد تفسير الآية في موثق ابن بكير (1) بالقيام من حدث النوم ، وادعى عليه العلامة في المنتهى وقبله الشيخ في التبيان الإجماع كما تقدم في بحث الوضوء ، وحينئذ فيجب تخصيص المأمور بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر ان ضم إليها الإجماع المركب أو المحدث بالنوم ، ولا تدل على ان من كان محدثا حدثا أكبر بل غير النوم مأمور بالوضوء لا منفردا ولا مع ضميمة

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء.


الغسل ، وبالجملة فالتحقيق ان سياق الآية الشريفة ظاهر في ان الجنب مأمور بالغسل وغيره مأمور بالوضوء ، وامتثال كل منهما ما أمر به يقتضي الاجزاء ، الا انه لما ورد عنهم (عليهم‌السلام) تفسير القيام إلى الصلاة بالقيام من حدث النوم وتأكد ذلك بدعوى الإجماع وجب تخصيص المأمور بالوضوء بالمحدث حدثا أصغر أو النوم كما قدمنا. واما روايتا ابن ابى عمير وصحيحة علي بن يقطين فقد أجاب عنها جملة من متأخري المتأخرين بالحمل على الاستحباب جمعا بين الاخبار ، وأيدوا ذلك بما ذكره المحقق (رحمه‌الله) في مسألة وضوء الميت ، حيث قال بعد إيراد روايتي ابن ابى عمير : «لا يلزم من كون الوضوء في الغسل ان يكون واجبا بل من الجائز ان يكون غسل الجنابة لا يجوز فعل الوضوء فيه وغيره يجوز ، ولا يلزم من الجواز الوجوب» وتبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه كالعلامة في المختلف والشهيد الثاني في الروض. وهو مما يقضى منه العجب فإنهم مع اعترافهم بذلك في مسألة وضوء الميت يستدلون بالخبرين المذكورين هنا على وجوب الوضوء في غير غسل الجنابة. والأظهر عندي حمل الأخبار المذكورة وكذا كلامه (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، وعليه تجتمع أخبار المسألة ، وذلك فإن العامة بالنسبة إلى الوضوء مع غسل الجنابة على قولين ، فالمشهور بينهم استحباب الوضوء معه بان يكون قبله كما نقله في المنتهى حيث قال : لا يستحب الوضوء عندنا خلافا للشيخ في التهذيب ، وأطبق الجمهور على استحبابه قبله (1). ونقل في صدر المسألة عن الشافعي في أحد قوليه وهو رواية عن احمد ومثل ذلك عن داود وابي ثور الوجوب لو جامعه حدث أصغر (2) واما سائر الأغسال

__________________

(1) كما في المغني لابن قدامة ج 1 ص 217 وص 219 وجامع الترمذي على شرحه لابن العربي ج 1 ص 155 ونيل الأوطار للشوكانى ج 1 ص 213 وشرح المنهاج لابن حجر ج 1 ص 118.

(2) كما في فتح الباري لابن حجر ج 1 ص 250 وعمدة القارئ للعيني ج 2 ص 3.


واجبة أو مستحبة فالظاهر انه لا خلاف بينهم في الوجوب (1) كما عليه جمهور أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) وحينئذ فمعنى خبري ابن ابي عمير ان كل غسل معه وضوء واجب إلا غسل الجنابة فإنه لا يجب الوضوء معه وانما يستحب.

ثم انه على القول بوجوب الوضوء مع الغسل كما هو المشهور فهل يجب تقديمه على الغسل أم يتخير وان كان التقديم أفضل؟ المشهور الثاني ، وعن الشيخ في بعض كتبه الأول ، وبه صرح أبو الصلاح وهو ظاهر كلام المفيد وابني بابويه على ما نقله في المختلف ويدل عليه مرسلة ابن ابي عمير المتقدمة ، وأجاب عنها في المختلف بالحمل على الاستحباب وربما أيد هذا القول ايضا بقولهم (عليهم‌السلام) (2) فيما قدمناه : «الوضوء بعد الغسل بدعة». وظاهر ابن إدريس دعوى الإجماع على عدم وجوب التقديم حيث قال : «وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا في كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنابة ويزيد بوجوب تقديم الوضوء على الغسل ، وهذا غير واضح من قائله بل الزيادة على غسل الجنابة ان لا تستبيح الحائض إذا طهرت بغسل حيضها وبمجرده الصلاة كما يستبيح الجنب سواء قدمت الوضوء أو أخرت ، وان أراد انه يجب تقديم الوضوء على الغسل فغير صحيح بلا خلاف» انتهى. وكلامه وان كان في غسل الحائض الا انه خرج مخرج التمثيل ، إذ لا فرق في هذا المعنى بين غسل الحائض والأغسال المندوبة التي أوجبوا فيها الوضوء. وكيف كان فالبحث في ذلك عندنا مفروغ عنه وان كان على تقدير القول المذكور فالأقرب وجوب

__________________

(1) في شرح الزرقانى المالكي على مختصر ابى الضياء في فقه مالك ج 1 ص 105 «ويجزئ الغسل من جنابة أو حيض أو نفاس عن الوضوء وان تبين عدم جنابته أو حيضها أو نفاسها وان كان خلاف الاولى» وفي حاشية ابن قاسم العبادي على شرح المنهاج ج 1 ص 118 قال : «في شرح العباب ان الوضوء انما يكون سنة في الغسل الواجب وبه صرح أبو زرعة وغيره تبعا للمحاملى ، ولو قيل بندبه كغيره من سائر السنن التي ذكروها في الغسل المسنون لم يبعد».

(2) المروي في الوسائل في الباب 33 من أبواب الجنابة.


التقديم ، لدلالة مرسلة ابن ابي عمير المشار إليها على ذلك ، ومثلها الخبر المرسل من الكافي وان كان مورده غسل الجمعة ، وأصرح من ذلك عبارة الفقه الرضوي (1) حيث قال : «فابدأ بالوضوء ثم اغتسل». ورواية أبي بكر الحضرمي الآتية ، وما في صحيح حكم ابن حكيم (2) من قوله : «... ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل.». وهذه الروايات لا معارض لها إلا إطلاق بعض الاخبار فيحمل عليها. وكيف كان فالاحتياط ـ بالوضوء مع هذه الأغسال وتقديمه عليها ـ مما لا ينبغي تركه.

(المقام الثاني) ـ هل يستحب الوضوء مع غسل الجنابة أم لا؟ المشهور الثاني ، وذهب الشيخ في التهذيب إلى الأول استنادا الى ما رواه عن ابي بكر الحضرمي عن الباقر (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته كيف أصنع إذا أجنبت؟ قال : اغسل كفك وفرجك وتوضأ وضوء الصلاة ثم اغتسل». بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل من الاخبار على عدم الوضوء مع غسل الجنابة كصحيحة حكم بن حكيم ونحوها ، ويدل عليه ايضا ما رواه الكليني (4) في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن عبد الله بن مسكان وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه عن محمد بن ميسر وهو غير موثق في كتب الرجال قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضأ ويغتسل ، هذا مما قال الله عزوجل : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (5). والجواب عن الخبر الأول ان الأظهر في مدلوله هو الحمل على التقية ، لما قدمناه من ان العامة في ذلك على قولين في الوضوء مع غسل الجنابة ، فالمشهور الاستحباب والقول الآخر الوجوب ويشير الى ذلك قوله (عليه‌السلام) في صحيحة حكم بن حكيم (6)

__________________

(1) ص 4.

(2 و 3 و 6) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.

(4) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الماء المطلق.

(5) سورة الحج. الآية 78.


«ان الناس يقولون يتوضأ وضوء الصلاة قبل الغسل». فان المراد بالناس هم المخالفون وأظهر من ذلك ما رواه في التهذيب عن محمد بن مسلم (1) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) ان أهل الكوفة يروون عن علي (عليه‌السلام) انه كان يأمر بالوضوء قبل الغسل من الجنابة؟ قال كذبوا على علي ما وجدوا ذلك في كتاب علي ، قال الله تعالى : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» (2). ويعضده ايضا ما تقدم من مرسلة محمد بن احمد بن يحيى (3) وقوله : «الوضوء قبل الغسل وبعده بدعة». وكذا غيرها مما دل على كونه مع الغسل بدعة. ورد الشيخ (رحمه‌الله) الخبر الأول بالإرسال واحتمل في الخبرين الآخرين التخصيص بما عدا غسل الجنابة ، قال : «لان المسنون في هذه الأغسال ان يكون الوضوء فيها قبلها» ولا يخفى ما فيه بعد ما عرفت من التحقيق. واما الخبر الثاني فالظاهر ان الوضوء فيه ليس بالمعنى المعروف وانما هو بمعنى الغسل كما يدل عليه سياق الكلام ، وكيف كان فإنه مع هذا الاحتمال لا يصلح للاستدلال. وبالجملة فالاستحباب كالوجوب ونحوه أحكام شرعية لا تثبت إلا بالدليل الواضح.

(المسألة الثانية) ـ اختلف الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) فيما إذا اغتسل مرتبا وأحدث في أثناء الغسل على أقوال : فقيل بوجوب الإعادة من رأس ، وهو مذهب الشيخ (رحمه‌الله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه ، واختاره العلامة في جملة من كتبه والشهيد في الدروس والذكرى. وقال ابن البراج يتم الغسل ولا شي‌ء عليه ، وهو اختيار ابن إدريس واختاره من أفاضل متأخري المتأخرين مير محمد باقر الداماد والخراساني في الذخيرة وشيخنا الشيخ سليمان البحراني. وقال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) انه يتم الغسل ويتوضأ إذا أراد الدخول في الصلاة ، واختاره المحقق والفاضل الأردبيلي وتلميذه السيد في المدارك وجده الشهيد الثاني وتلميذه الشيخ عز الدين الحسين بن عبد الصمد

__________________

(1 و 3) رواه في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.

(2) سورة المائدة. الآية 9.


الحارثي وابنه الشيخ بهاء الملة والدين.

احتج في الذكرى للقول الأول حيث اختاره فقال بعد نقل الأقوال الثلاثة : «والأقرب الأول لامتناع الوضوء في غسل الجنابة عملا بالأخبار المطلقة ، وامتناع خلو الحدث عن أثره مع تأثيره بعد الكمال» واحتج في المختلف لهذا القول ايضا ـ حيث اختاره ـ بان الحدث الأصغر ناقض للطهارة بكمالها فلابعاضها اولى ، وإذا انتقض ما فعله وجب عليه اعادة الغسل ، لانه جنب لم يرتفع حكم جنابته بغسل بعض أعضائه ، ولا اثر للحدث الأصغر مع الأكبر. ومرجع الكلامين الى دليل واحد ، وينحل إلى أمرين : (أحدهما) ـ الاستدلال بالأخبار الدالة على انه لا وضوء مع غسل الجنابة ، وهذا جنب في هذه الحال. و (ثانيهما) ـ ان الحدث الأصغر مؤثر في نقض الطهارة بعد كمال الغسل بلا خلاف فلان يؤثر في نقض بعضها اولى ، وحينئذ فإذا كان الوضوء لا يجامع الجنابة ولا يؤثر في الصورة المذكورة ـ وفيه رد على القول بإيجاب الوضوء ـ والحدث الأصغر مؤثر في نقض ما اتى به من الطهارة ـ وفيه رد على من ذهب الى الاكتفاء بإتمام الغسل ـ وجب اعادة الغسل من رأس.

وأورد على هذا الدليل منع الأولوية المذكورة بل نقول القدر المسلم ان الحدث الأصغر إذا لم يجامع الأكبر فهو سبب لوجوب الوضوء وإذا جامع الأكبر فلا تأثير له أصلا ، فلا بد لما ذكروه من دليل ، ألا ترى انه بعد الغسل يقتضي الوضوء وفي الأثناء لا يقتضيه عندكم ، فلم لا يجوز ان لا يؤثر في الأثناء أصلا أو يؤثر تأثيرا يرتفع ببعض الغسل؟

وقريب مما ذكرناه ما أورده في المدارك ايضا ، حيث قال : «والقول بالإعادة للشيخ (رحمه‌الله) في النهاية والمبسوط وابن بابويه وجماعة ، ولا وجه له من حيث الاعتبار ، وما استدل به عليه ـ من ان الحدث الأصغر ناقض للطهارة بتمامها فلأبعاضها اولى ، وان الحدث المتخلل قد أبطل تأثير ذلك البعض في الرفع والباقي من الغسل غير صالح


للتأثير ـ ففساده ظاهر ، لمنع كونه ناقضا ومبطلا وانما المتحقق وجوب الوضوء به خاصة ثم قال (رحمه‌الله) ولعل مستندهم ما رواه الصدوق (رحمه‌الله) في كتاب عرض المجالس عن الصادق (عليه‌السلام) (1) قال : «لا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يدك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ثم تغسل جسدك إذا أردت ذلك ، فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح أو مني بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل جسدك فأعد الغسل من اوله». ولو صحت هذه الرواية لما كان لنا عنها عدول لصراحتها في المطلوب الا اني لم أقف عليها مسندة ، والواجب المصير إلى الأول الى ان يتضح السند» انتهى.

أقول : اما ما ذكره ـ من منع كون الحدث الأصغر ناقضا ومبطلا وانما المتحقق وجوب الوضوء خاصة ـ فلا يخلو من اشكال ، فإنه ان أراد بخصوص هذا الموضع من حيث انه لا تأثير له مع الجنابة واندراجه تحتها فجيد لكن ينافيه قوله : «وانما المتحقق وجوب الوضوء خاصة» وان أراد مطلقا فهو خلاف الإجماع بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من عد هذه الأحداث نواقض ومبطلات للطهارة المتقدمة ، وبه سميت نواقض وأسبابا وموجبات باعتبار إيجابها الوضوء. واما ما ذكره من الخبر ـ وقبله جده ـ فقد اعترضه جملة من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بأنهم لم يقفوا عليه في الكتاب المذكور ، إذ الظاهر ان مراده بالكتاب المذكور هو كتاب الأمالي المشهور ايضا بمجالس الصدوق وقد صرح في الذكرى بذلك ايضا فقال بعد نقل القول المذكور : «وقد قيل انه مروي عن الصادق (عليه‌السلام) في كتاب عرض المجالس للصدوق» ولعل السيد وجده اعتمدا على هذا النقل من غير مراجعة الكتاب المشار اليه. نعم هذه الرواية مذكورة في الفقه الرضوي (2) حيث قال (عليه‌السلام): «ولا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة ثم تغسل إن أردت ذلك

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 29 من أبواب الجنابة.

(2) ص 4.


فإن أحدثت حدثا من بول أو غائط أو ريح بعد ما غسلت رأسك من قبل ان تغسل جسدك فأعد الغسل من اوله ، وإذا بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل الرأس». انتهى. وهذه العبارة بعينها نقلها الصدوق في الفقيه عن أبيه في رسالته اليه فقال : وقال ابي (رحمه‌الله) في رسالته الي : ولا بأس بتبعيض الغسل ثم ساق الكلام الى آخر ما نقلناه ، وفيه دلالة على ما قدمناه من اعتماده على الكتاب المذكور.

واما القول الثاني فاستدل عليه الشيخ سليمان البحراني المتقدم ذكره في بعض فوائده ـ واليه يرجع في التحقيق ما ذكره في الذخيرة ـ بأنه ينبغي ان يعلم ان الوضوء هو الرافع للحدث الأصغر لكن في غير صورة مجامعته للجنابة ، لأنه لا يكون للأصغر مع الجنابة أثر أصلا لانقهاره معها فلا يتمكن من التأثير ، فيسقط حكم الوضوء ما دامت الجنابة باقية بالفعل البتة. فلا يكون للأصغر أثر في إيجاب الوضوء أصلا بالتقريب المتقدم ومن الظاهر البين انه لا تأثير له في إيجاب الغسل بوجه من الوجوه ، وعلى هذا فمتى أكمل الغسل تم السبب التام لرفع الجنابة. وبالجملة فإنه بالنظر الى ما دامت الجنابة باقية فإنه مقهور بها ومندرج تحتها ، ومن المعلوم انه ما لم يتم الغسل فالجنابة باقية ، فلا وجه للقول بما ذهب اليه المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ومن تبعه ، ويؤيده عموم الأخبار الدالة على نفي الوضوء والمنع منه مع غسل الجنابة وتحريمه وعدم مشروعيته (1).

أقول : وبهذا التقرير يظهر ضعف ما ذكره في المعتبر في رد هذا القول ـ كما سيأتي نقله من انه يلزم ان لو بقي من الغسل مقدار درهم من الجانب الأيسر ثم تغوط ان يكتفي عن الوضوء بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل ، فإنه ـ مع كونه مجرد استبعاد لا يجدي في دفع الأحكام الشرعية ـ مردود بأنه إذا كان حدث الجنابة باقيا مع بقاء هذا المقدار وكذا ما يترتب على الجنابة من الأحكام ولا يرتفع ذلك الحدث ولا يستبيح ما يحرم على الجنب إلا بغسل هذا المقدار فأي استبعاد في ارتفاع الحدث الأصغر به

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 33 و 34 من أبواب الجنابة.


أيضا؟ بقي الكلام في انه بناء على هذا التقرير وان كان هذا الدليل بحسب الظاهر لا يخلو من متانة وقرب ، إلا ان لقائل أن يقول ان ما ذكروه من انقهار الحدث الأصغر تحت الجنابة وانه لا تأثير له معها انما استنبطوه من الأخبار الدالة على تحريم الوضوء مع غسل الجنابة وانه معه بدعة ، إذ ليس ثمة دليل غير ذلك ، ومن المحتمل قريبا حمل الأخبار المذكورة على ما هو الشائع المتكرر المتكثر من وقوع الحدث قبل الغسل دون هذا الفرد النادر الذي لا يتبادر اليه الذهن عند الإطلاق ، لما قرروه في غير مقام من ان الأحكام المودعة في الاخبار انما تحمل على ما هو المعهود المتكرر الشائع الذي ينساق اليه الذهن عند الإطلاق دون الفروض النادرة القليلة الدوران ، وبهذا يضعف القول المذكور.

واما القول الثالث فاحتج عليه المحقق في المعتبر بان الحدث الأصغر يوجب الوضوء وليس موجبا للغسل ولا لبعضه ، فيسقط وجوب الإعادة ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل ، ثم ألزم القائلين بسقوط الوضوء انه يلزم لو بقي من الغسل قدر الدرهم من جانبه الأيسر ثم تغوط ان يكتفي عن وضوئه بغسل موضع الدرهم ، وهو باطل أقول :

فيه (أولا) ـ منع ما ذكره من ان الحدث الأصغر يوجب الوضوء ، فإنه على إطلاقه ممنوع بل القدر المعلوم هو إيجابه ما لم يجامع الجنابة واما مع مجامعتها فإنه يندرج تحتها كما تقدم ذكره. و (ثانيا) ـ منع قوله : ولا يسقط حكم الحدث بما بقي من الغسل للإلزام الذي ذكره ، بل هو ساقط بما بقي لانقهار الحدث الأصغر تحت الأكبر ما دام باقيا. واما الإلزام الذي ذكره فقد عرفت ما فيه.

واستدل في المدارك لهذا القول حيث اختاره فقال : «اما وجوب الإتمام فلان الحدث الأصغر ليس موجبا للغسل ولا لبعضه قطعا فيسقط وجوب الإعادة ، واما وجوب الوضوء فلان الحدث المتخلل لا بد له من رافع وهو اما الغسل بتمامه أو الوضوء والأول منتف لتقدم بعضه فتعين الثاني» وفيه ما عرفت من تقرير دليل القول الثاني من ان الحدث الأصغر لا اثر له مع الجنابة. وبالجملة فإن هذا القول بالنظر الى تقرير الدليل


المشار اليه ـ كما قدمناه ـ يظهر ضعفه ، وبالنظر الى ما أوردناه من الاشكال على الدليل المذكور يظهر قوته.

وكيف كان فالمسألة لما عرفت لا تخلو من شوب الاشكال وان كان القول الأول ـ بالنظر الى رواية الفقه الرضوي المعتضدة برواية المجالس وفتوى الشيخ علي ابن الحسين بن بابويه بها ، وهم ممن يعدون فتاويه في عداد النصوص إذا اعوزتهم ، مع أوفقيته للاحتياط ـ لا يخلو من قوة وان كان الاحتياط في الإتمام ثم الوضوء ثم الإعادة. والله العالم.

وينبغي التنبيه على فوائد (الأولى) ـ قال في الذكرى : «لو كان الحدث من المرتمس فان قلنا بسقوط الترتيب حكما فان وقع بعد ملاقاة الماء جميع البدن يوجب الوضوء لا غير والا فليس له اثر ، وان قلنا بوجوب الترتيب الحكمي القصدي فهو كالمرتب ، وان قلنا بحصوله في نفسه وفسرناه بتفسير الاستبصار أمكن انسحاب البحث فيه» انتهى. وظاهره انه مع عدم القول بالترتيب الحكمي في الغسل الارتماسي فإنه لا يتفق فيه تخلل الحدث في أثناء الغسل فيختص البحث بالغسل الترتيبي. وقال في المدارك : «الظاهر عدم الفرق في غسل الجنابة بين كونه غسل ترتيب أو ارتماس ، ويتصور ذلك في غسل الارتماس بوقوع الحدث بعد النية وقبل إتمام الغسل ، ثم نقل صدر كلام الذكرى وقال : وهو مشكل لإمكان وقوعه في الأثناء» وجرى على منواله في الذخيرة.

أقول : الظاهر ان مبنى كلام السيد (رحمه‌الله) على ان الدفعة المشترطة في الارتماس انما هي الدفعة العرفية ، وحينئذ فيمكن حصول الحدث بعد النية وقبل استيلاء الماء على جميع البدن. الا ان فيه ان الظاهر ان مبنى كلام الشهيد (رحمه‌الله) انما هو على ان الارتماس لا يحصل الا بعد الدخول تحت الماء واستيلاء الماء على جميع اجزاء البدن ، واما الدخول شيئا فشيئا فإنما هو من مقدماته ، وعلى هذا فلا يمكن تخلل الحدث للغسل


لان وصول الماء الى الجميع بعد الولوج دفعي ، وعلى هذا المعنى الذي ذكرناه يدل ظاهر كلام أهل اللغة أيضا قال في المصباح المنير : «رمست الميت رمسا من باب قتل : دفنته الى ان قال : ورمست الخبر : كتمته ، وارتمس في الماء : انغمس» وفي القاموس «الارتماس الانغماس» وفي مجمع البحرين «وأصل الرمس الستر ، ورمست الميت رمسا من باب قتل : دفنته ، وارتمس في الماء مثل انغمس» انتهى. وهذه العبارات كلها ظاهرة ـ كما ترى ـ في عدم صدق الارتماس إلا بعد الدخول تحت الماء ، وحينئذ فلا يظهر فرض هذا الحكم فيه. واما ما ذكره في الذكرى ـ من بناء ذلك على الترتيب الحكمي ففيه ما تقدم بيانه من انه لم يقم دليل على الترتيب الحكمي بشي‌ء من معنييه المذكورين فلا ضرورة إلى تكلف التفريع عليه في البين.

(الثانية) ـ قال في الذكرى ايضا : «لو تخلل الحدث الغسل المكمل بالوضوء أمكن المساواة في طرد الخلاف وأولوية الاجتزاء بالوضوء هنا لان له مدخلا في إكمال الرفع والاستباحة ، وبه قطع الفاضل في النهاية مع حكمه بالإعادة في غسل الجنابة» انتهى.

أقول : لا ريب ان الظاهر انه متى قلنا بعدم وجوب الوضوء في سائر الأغسال ـ كما هو الحق في المسألة ـ فإنه يطرد الخلاف فيها كما في غسل الجنابة ، وانما يبقى الكلام بناء على القول المشهور من وجوب الوضوء معها ، فظاهر كلامه في الذكرى احتمال طرد الخلاف ايضا وان كان الاولى هنا الاجتزاء بالوضوء ، والظاهر بعد ما احتمله من طرد الخلاف مع إيجاب الوضوء ، بل الظاهر وجوب الإتمام والوضوء كما اختاره في المدارك. ولعل الوجه في إيجاب العلامة الوضوء هنا مع إيجابه الإعادة في غسل الجنابة هو سقوط الوضوء مع غسل الجنابة لعدم تأثير الحدث الأصغر ثمة بخلاف ما نحن فيه فإنه ثابت بثبوت موجبه. وربما احتمل اعادة الغسل هنا بناء على ان كل واحد من الوضوء والغسل مؤثر ناقص في رفع الحدث المطلق ، فحصول تأثيرهما موقوف على حصولهما تامين ، فإذا حصل الحدث في الأثناء لم يكف الإتمام والوضوء ويحتاج إلى إعادة الغسل. والتحقيق


انا متى وقفنا على مورد الاخبار فإنه لا اشكال لا في غسل الجنابة ولا غيره إذ الواجب العمل بما دلت عليه ، واما مع عدم ذلك فالمسألة لا تخلو من الإشكال في الموضعين ، فان مجال التخريجات العقلية والاعتبارات الفكرية في هذه المسألة وغيرها واسع لا ينتهي إلى ساحل ، ولذا ترى المتقدم يعلل بتعليل حسبما وصل اليه فهمه ويجعلها أدلة ويأتي من بعده وينقضها ويأتي بأدلة اخرى حسبما ادى اليه فكره وهكذا ، فالحق هو الوقوف على الاخبار ان وجدت في هذه المسألة وغيرها والا فالوقوف على جادة الاحتياط كما أمرت به اخبارهم (عليهم‌السلام).

(الثالثة) ـ نقل في المدارك عن بعض المتأخرين القائلين بوجوب الإتمام والوضوء الاكتفاء باستئناف الغسل إذا نوى قطعه ، لبطلانه بذلك فيصير الحدث متقدما على الغسل ، ثم تنظر فيه بأن نية القطع انما تقتضي بطلان ما يقع بعدها من الأفعال لا ما سبق كما صرح به المصنف وغيره.

أقول : ما ذكره (رحمه‌الله) على إطلاقه لا يخلو من اشكال ، لأنه لا يخلو اما ان تكون نية القطع بمجردها موجبة للبطلان أو ان البطلان انما يحصل مع الإتيان بشي‌ء من أفعال العبادة بعد هذه النية ، ونظره انما يتمشى على الثاني ، ولعل مراد هذا القائل انما هو الأول. وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض مقامات النية في الوضوء.

(المسألة الثالثة) ـ هل يجب ماء الغسل عينا أو ثمنا على الزوج أم لا؟ قال في المنتهى : «فيه تفصيل : قال بعضهم لا يجب مع غنائها ومع الفقر يجب على الزوج تخليتها لتنتقل الى الماء أو ينقل الماء إليها ، وقال آخرون يجب عليه كما يجب عليه ماء الشرب والجامع ان كل واحد منهما مما لا بد منه. والأول عندي أقرب» انتهى. والمفهوم من كلام الذكرى الثاني وهو الوجوب على الزوج مطلقا ، قال (رحمه‌الله) : «ماء الغسل على الزوج في الأقرب لأنه من جمله النفقة فعليه نقله إليها ولو بالثمن أو تمكينها من الانتقال اليه ، ولو احتاج


الى عوض كالحمام فالأقرب وجوبه عليه ايضا مع تعذر غيره دفعا للضرر ، ووجه العدم ان ذلك مؤنة التمكين الواجب عليها. وربما فرق بين غسل الجنابة وغيره إذا كان سبب الجنابة من الزوج. واما الأمة فالأقرب أنها كالزوجة لانه مؤنة محضة ، وانتقالها الى التيمم مع وجود الماء بعيد. وحمله على دم التمتع قياس من غير جامع ، ويعارض بوجوب فطرتها فكذا ماء طهارتها» انتهى. والمسألة عندي محل توقف ، لعدم النص الذي هو المعتمد في الأحكام وتدافع التعليلات المذكورة ، مع عدم صلاحيتها لو سلمت من ذلك لتأسيس الأحكام الشرعية.

(المسألة الرابعة) يكره للجنب أمور (الأول) ـ الأكل والشرب ما لم يتمضمض ويستنشق على المشهور بل قال في التذكرة انه مذهب علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ونقل عن ابن زهرة دعوى الإجماع على ذلك ، وفي المعتبر انه مذهب الخمسة واتباعهم ، وقال الصدوق في الفقيه : «والجنب إذا أراد ان يأكل أو يشرب قبل الغسل لم يجز له الا ان يغسل يديه ويتمضمض ويستنشق ، فإنه ان أكل أو شرب قبل ان يفعل ذلك خيف عليه من البرص» وظاهره التحريم ثم قال : «وروى ان الأكل على الجنابة يورث الفقر» (1).

والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (2) قال : «قلت للصادق (عليه‌السلام) أيأكل الجنب قبل ان يتوضأ؟ قال : انا لنكسل ولكن ليغسل يده والوضوء أفضل». قال في الوافي بعد ذكر هذا الخبر : «هكذا يوجد في النسخ ويشبه ان يكون مما صحف وكان «انا لنغتسل» لأنهم (عليه‌السلام) أجل من ان يكسلوا في شي‌ء من عبادات ربهم عزوجل» انتهى. أقول : لا يخفى ان الخبر المذكور على ما رواه المحدثون ونقله الأصحاب في كتب الفروع انما هو بلفظ «نكسل» والظاهر ان المراد به انما هو مطلق

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 20 من أبواب الجنابة.


الناس بمعنى ان الناس ليكسلون وان عبر عن ذلك بصيغة تشمله (عليه‌السلام) وغيره ، ونظيره ما روى عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) (1) من قوله : «اني اكره السلام على المرأة الشابة مخافة ان يعجبني صوتها». فان الظاهر ان مراده انما هو منع الناس عن ذلك خوفا مما ذكره ، لان عصمته تمنع من حمل هذا اللفظ على ظاهره فكذا ما نحن فيه. واما ما احتمله بعض المحققين من متأخري المتأخرين من ان قوله : «لنكسل» يعني عن الأكل ولم نتسارع اليه قبل الغسل فالظاهر بعده سيما بالنظر الى الاستدراك ب «لكن» بعد هذا الكلام.

وما رواه الشيخ في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن الباقر (عليه‌السلام) (2) قال : «الجنب إذا أراد ان يأكل ويشرب غسل يده وتمضمض وغسل وجهه وأكل وشرب».

وما رواه الصدوق في الفقيه في الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) (3) قال : «إذا كان الرجل جنبا لم يأكل ولم يشرب حتى يتوضأ».

وبإسناده عن الحسين بن زيد عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) (4) في حديث المناهي المذكور في آخر كتاب الفقيه قال : «نهى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عن الأكل على الجنابة وقال انه يورث الفقر».

وما رواه في الكافي عن السكوني عن الصادق (عليه‌السلام) في حديث (5) قال : «لا يذوق الجنب شيئا حتى يغسل يديه ويتمضمض فإنه يخاف منه الوضح». أقول : الوضح البرص.

وفي الفقه الرضوي (6) قال (عليه‌السلام): «وإذا أردت أن تأكل على جنابتك فاغسل يديك وتمضمض واستنشق ثم كل واشرب الى ان تغتسل ، فإن أكلت أو شربت قبل ذلك أخاف عليك البرص ولا تعود الى ذلك». انتهى

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 48 من أبواب العشرة.

(2 و 3 و 4 و 5) رواه في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة.

(6) ص 4.


ومما يدل على ان المراد بهذه الأخبار الكراهة ما رواه في الكافي في الموثق عن ابن بكير (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال : نعم يأكل ويشرب ويقرأ ويذكر الله عزوجل ما شاء».

والمفهوم من هذه الاخبار بضم بعضها الى بعض هو ما ذكره الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من كراهية الأكل والشرب وانها تزول بما ذكر فيها ، وقال في المدارك ـ بعد ان نقل صحيحة عبد الرحمن بن ابى عبد الله أولا ثم صحيحة زرارة ـ ما لفظه : «ومقتضى الرواية الأولى استحباب الوضوء لمريد الأكل والشرب أو غسل اليد خاصة ، ومقتضى الرواية الثانية الأمر بغسل اليد والوجه والمضمضة ، وليس فيهما دلالة على كراهة الأكل والشرب بدون ذلك ، ولا على توقف زوال الكراهة على المضمضة والاستنشاق أو خفتها بذلك» وجرى على منواله في الذخيرة كما هي قاعدته غالبا.

أقول : لما كان نظر السيد المذكور مقصورا على صحاح الاخبار اقتصر على هاتين الصحيحتين وهما وان أوهما ما ذكره الا ان جملة ما عداهما مما قدمناه ولا سيما عبارة كتاب الفقه الرضوي ظاهر فيما ذكره الأصحاب ، فيجب تقييد هاتين الصحيحتين بها ، والعجب منه انه خفي عليه الوقوف على صحيحة الحلبي المروية في الفقيه وهي صحيحة صريحة في كراهة الأكل والشرب بدون ذلك.

بقي الكلام في ان صحيحة زرارة قد دلت على غسل اليد والمضمضة وغسل الوجه وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله دلت على الوضوء أو غسل اليد وان الأول أفضل وصحيحة الحلبي دلت على الوضوء خاصة ، ورواية السكوني دلت على غسل اليد والمضمضة وكتاب الفقه على غسل اليد والمضمضة ، والاستنشاق غير موجود إلا في عبارة هذا الكتاب ، والظاهر ان الصدوق في عبارته المتقدمة إنما أخذه منه وتبعه الأصحاب في عبائرهم ، والظاهر ترتب هذه الأمور في الفضل وزوال الكراهة بها بان يكون أكمل

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.


الجميع الوضوء ثم غسل اليد والمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه ثم الثلاثة الأول ثم الأولين خاصة وهو ادنى المراتب ، والمفهوم من كلام الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) انه بهذه الأمور ترتفع الكراهة ويزول المحذور المذكور في النصوص ، وظاهر عبارة الشرائع بقاء الكراهة وان كانت تخف بهذه الأشياء ، ويمكن ان يستدل له بما تقدم من الروايتين على ان الأكل على الجنابة يورث الفقر ، فإنه بالوضوء ونحوه من تلك الأمور لا يخرج عن كونه جنبا ، الا انه يمكن تقييد إطلاقهما بالأخبار الأخر بمعنى انه يورث الفقر ما لم يأت بالوضوء ونحوه من تلك الأشياء المذكورة في الاخبار.

وهل يكفي الإتيان بالأمور المذكورة مرة واحدة ، أو لا بد ان يكون عند كل أكل مع الفصل بالمعتاد بين الاكلين ، أو مع تخلل الحدث ، أو مع التعدد عرفا؟ احتمالات وإطلاق الاخبار يؤيد الأول وان كان الأخير أحوط. والله العالم.

(الثاني) ـ النوم حتى يغتسل أو يتوضأ ، فأما ما يدل على جواز النوم وهو جنب بدون الوضوء والغسل فهو ما رواه الشيخ (رحمه‌الله) في الصحيح عن سعيد الأعرج (1) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : ينام الرجل وهو جنب وتنام المرأة وهي جنب». واما ما يدل على الكراهة فصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يواقع أهله أينام على ذلك؟ قال ان الله تعالى يتوفى الأنفس عند منامها ولا يدري ما يطرقه من البلية ، إذا فرغ فليغتسل.». واما ما يدل على انتفاء الكراهة مع الوضوء فهو ما رواه الصدوق في الصحيح عن عبيد الله الحلبي (3) قال «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل أينبغى له ان ينام وهو جنب؟ قال : يكره ذلك حتى يتوضأ». قال وفي حديث آخر «انا أنام على ذلك حتى أصبح وذلك اني أريد أن أعود». ومما يدل على الثلاثة ما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (4) قال : «سألته عن الجنب يجنب ثم يريد النوم. قال : ان أحب ان يتوضأ فليفعل

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) رواه في الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.


والغسل أفضل من ذلك ، فان هو نام ولم يتوضأ ولم يغتسل فليس عليه شي‌ء ان شاء الله تعالى». وروى الصدوق في العلل (1) بسنده عن ابي بصير عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم‌السلام) قال : «لا ينام المسلم وهو جنب ولا ينام إلا على طهور فان لم يجد الماء فليتيمم بالصعيد. الحديث». واما ما ذكره المحقق الخوانساري في شرح الدروس ـ من ان صحيحة عبد الرحمن المذكورة لا دلالة لها على الكراهة وانما تدل على استحباب الغسل قبل النوم وفضله على الوضوء واما كراهة النوم بدونه فلا ـ ففيه ان غايتها ان تكون مطلقة في ذلك فيجب تقييد إطلاقها بالروايات الأخر حسبما تقدم في مسألة الأكل والشرب ، فإن موثقة سماعة دلت ايضا على استحباب الوضوء له والغسل مع انه (عليه‌السلام) غيابها الكراهة في صحيحة الحلبي ، ورواية العلل دلت على الكراهة إلا مع الطهور بغسل كان أو وضوء أو تيمم ، وبذلك يظهر ان الأمر بالغسل في تلك الصحيحة انما هو لإزالة الكراهة التي دلت عليها هذه الاخبار.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان ظاهر كلام جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : منهم ـ المحقق المشار اليه والشيخ الحر في الوسائل ان المراد من قوله (عليه‌السلام) في الحديث المرسل الذي رواه الصدوق وهو قوله : «انا أنام على ذلك حتى أصبح لأني أريد أن أعود» انما هو العود في الجماع. ولا يخفى ما فيه. بل الظاهر ان المراد انما هو العود في الانتباه وانه لا يموت في تلك الليلة ، وذلك فان المفهوم من صحيحة عبد الرحمن ان كراهة النوم على الجنابة انما هو من حيث خوف الموت في تلك الليلة للآية المذكورة ، فإنه ربما أمسك الروح وقضى عليه الموت ، وحيث كان (عليه‌السلام) عالما بوقت موته كما دلت عليه الاخبار وانه لا يموت في تلك الليلة بل يعود سقطت الكراهة في حقه ، وحينئذ فلا ينافي ما دل على الكراهة بالنسبة إلى غيرهم (عليهم‌السلام).

(الثالث) ـ قراءة ما زاد على سبع آيات على المشهور ، وعن ابن البراج

__________________

(1) ص 107 وفي الوسائل في الباب 25 من أبواب الجنابة.


انه لم يجوز الزيادة على ذلك ، وعن سلار تحريم القراءة مطلقا ، نقل ذلك عنهما في الدروس والذكرى ، ونقل في المنتهى والسرائر عن بعض الأصحاب تحريم ما زاد على سبعين ، وقال في المختلف : «المشهور كراهة ما زاد على سبع آيات أو سبعين من غير العزائم ، أما العزائم وأبعاضها فإنها محرمة حتى البسملة إذا نوى انها منها» وقال الصدوق : «لا بأس ان تقرأ القرآن كله ما خلا العزائم» وقال الشيخ في النهاية : «ويقرأ من القرآن من اي موضع شاء ما بينه وبين سبع آيات إلا أربع سور» وفي المبسوط «يجوز له ان يقرأ من القرآن ما شاء الا العزائم ، والاحتياط ان لا يزيد على سبع آيات أو سبعين آية» وقال ابن إدريس : «له ان يقرأ جميع القرآن سوى العزائم الأربع من غير استثناء لسواهن على الصحيح من الأقوال ، وبعض أصحابنا لا يجوز إلا ما بينه وبين سبع آيات أو سبعين آية والزائد على ذلك محرم مثل السور الأربع ، والأظهر الأول ، والحق عندي كراهة ما زاد على السبعين لا تحريمه ، والظاهر من كلام الشيخ (رحمه‌الله) في كتابي الأخبار التحريم» انتهى المقصود من كلامه (رحمه‌الله) وما نقله عن ظاهر كلام الشيخ في كتابي الأخبار غير ظاهر حيث ان الشيخ قصد الجمع بين الاخبار كصحيحة الحلبي الآتية الدالة على قراءة ما شاء ومقطوعتي سماعة الآتيتين ان شاء الله تعالى الدالتين إحداهما على السبع والأخرى على السبعين ، بحمل المثبتة المطلقة في القراءة على هذا العدد ، ثم انه احتمل ايضا الجمع بينها بحمل الاقتصار على العدد المذكور على الاستحباب والباقي على الجواز ، ومن هنا يعلم انه غير جازم بالتحريم حتى ينسب قولا اليه ، ولو عدت احتمالاته في الجمع بين الاخبار أقوالا ومذاهب له لم تنحصر أقواله ، وليس في تأويله الثاني أيضا تصريح بالكراهة بل غايته انه ترك الأفضل.

وكيف كان فالواجب الرجوع الى الاخبار ونقلها وبيان ما يفهم منها :

و (منها) ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن الفضيل بن يسار عن الباقر


(عليه‌السلام) (1) قال : «لا بأس ان تتلو الحائض والجنب القرآن». وفي الصحيح عن عبيد الله بن علي الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته أتقرأ النفساء والحائض والجنب والرجل يتغوط القرآن؟ قال : يقرأون ما شاءوا». وفي الموثق عن ابن بكير (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجنب يأكل ويشرب ويقرأ القرآن؟ قال : نعم يأكل ويشرب ويقرأ القرآن ويذكر الله عزوجل ما شاء». وعن محمد بن مسلم في الصحيح قال قال أبو جعفر (عليه‌السلام) (4) : «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب ويقرءان من القرآن ما شاءا إلا السجدة. الحديث». وما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن بإبراهيم بن هاشم عن زيد الشحام عن الصادق (عليه‌السلام) (5) قال : «تقرأ الحائض القرآن والنفساء والجنب ايضا». وما رواه الصدوق في العلل (6) في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر (عليه‌السلام) قالا : «قلنا له الحائض والجنب هل يقرءان من القرآن شيئا؟ قال : نعم ما شاءا إلا السجدة ويذكران الله تعالى على كل حال». ورواه الشيخ (رحمه‌الله) في الموثق مثله ، وما رواه في الفقيه (7) عن ابي سعيد الخدري في وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي (عليه‌السلام) انه قال : «يا علي من كان جنبا في الفراش مع امرأته فلا يقرأ القرآن فإني أخشى ان تنزل عليهما نار من السماء فتحرقهما». قال الصدوق (رحمه‌الله) : «يعنى به قراءة العزائم دون غيرها» وما رواه الشيخ في الموثق عن سماعة (8) قال : «سألته عن الجنب هل يقرأ القرآن؟ قال ما بينه وبين سبع آيات». ثم قال الشيخ (رحمه‌الله) وفي رواية زرعة عن سماعة (9) قال «سبعين آية». وفي الفقه الرضوي (10) «ولا بأس بذكر الله تعالى وقراءة القرآن وأنت جنب إلا العزائم التي تسجد فيها وهي الم تنزيل وحم السجدة والنجم وسورة اقرأ باسم ربك». وبهذه العبارة

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 9) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.

(10) ص 4.


عبر الصدوق في الفقيه بتغيير يسير ، وما رواه الصدوق في الخصال (1) بسنده عن السكوني عن الصادق عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم‌السلام) قال : «سبعة لا يقرأون القرآن : الراكع والساجد وفي الكنيف وفي الحمام والجنب والنفساء والحائض». وقال في المعتبر (2) : «يجوز للجنب والحائض ان يقرءا ما شاءا من القرآن إلا سور العزائم الأربع وهي اقرأ باسم ربك والنجم وتنزيل السجدة وحم السجدة ، روى ذلك البزنطي في جامعه عن المثنى عن الحسن الصيقل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام)».

هذا ما وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بالمسألة ، وأكثرها وأصحها صريح في جواز قراءة ما شاء ، نعم في بعضها تصريح باستثناء السجدة أو سورة السجدة خاصة ، والأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) قد حملوا هذه الاخبار على الكراهة جمعا بينها وبين روايتي سماعة المذكورتين وخصوا الجواز بلا كراهة بالسبع أو السبعين ، والأظهر عندي حمل ما دل على المنع مطلقا أو ما دون سبع أو سبعين على التقية ، فإن العامة قد شددوا في المنع فما بين محرم ومكره ، فعن الشافعي القول بتحريم قراءة الجنب والحائض شيئا منه ، وقال أبو حنيفة يجوز قراءة ما دون الآية وتحريم الآية ، وعن احمد تفصيل في بعض الآية ، وعن مالك الجواز للحائض دون الجنب ، ورووا كراهة قراءة القرآن للجنب عن علي (عليه‌السلام) وعمر والحسن البصري والنخعي والزهري وقتادة (3). أقول : ومن هنا

__________________

(1) ج 2 ص 10.

(2) رواه في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.

(3) في بدائع الصنائع ج 1 ص 37 «لا يباح للجب قراءة القرآن عند عامة العلماء وقال مالك يباح له ذلك ، ولا فرق بين القليل والكثير إذا قصد التلاوة واما إذا لم يقصد وقال «بسم الله» لافتتاح الأعمال تبركا فلا بأس به» وفي المغني ج 1 ص 143 بعد الحكم بحرمة قراءة آية ذكر ان في قراءة بعض الآية إذا قصد به القرآن أو كان ما يقرأه يتميز به القرآن عن غيره روايتين : إحداهما لا يجوز وهو المروي عن علي «ع» وذهب إليه الشافعي وثانيهما لا يمنع وهو قول أبي حنيفة. وفي نيل الأوطار ج 1 ص 197 «ذهب الى تحريم قراءة القرآن على الجنب القاسم والهادي والشافعي من غير فرق بين الآية وما دونها ـ


يظهر حمل روايتي الخدري والسكوني على التقية ، وما تكلفه شيخنا الصدوق في الرواية الأولى فمع بعده لا ضرورة تلجئ اليه والحال كما عرفت واما موثقتا سماعة فهما وان لم يرو القول بمضمونهما عن العامة إلا انه لا مانع من حملهما على التقية من حيث موافقتهما لهم في الجملة ومخالفتهما للاخبار الصحاح الصراح في الجواز مطلقا ، على انه لا يشترط عندنا في الحمل على التقية وجود القول بذلك من العامة كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب ، وقد ردهما جملة من الأصحاب أيضا : منهم ـ العلامة في المنتهى وغيره بضعف السند مع معارضتهما بعموم الاذن المستفاد من الروايات الصحيحة ، وبذلك يظهر ان الأقوى هو القول بالجواز مطلقا.

بقي الكلام هنا في شي‌ء آخر وهو ان المشهور بين أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) هو تحريم سور العزائم بأجمعها ، واعترضهم جملة من متأخري المتأخرين بأن الروايات انما دلت على تحريم آية السجدة خاصة دون السورة ، مثل صحيحتي محمد بن مسلم المتقدمتين الدالتين على ان الجنب والحائض يقرءان ما شاءا إلا السجدة ، يعني إلا الآية المشتملة على السجود ، ونحن قد أسلفنا القول في ذلك ، ولكن الظاهر هنا من عبارة كتاب الفقه الرضوي وعبارة المعتبر المنسوبة إلى رواية جامع البزنطي هو تحريم السورة ، وعبارة كتاب الفقه وان أمكن ارتكاب التأويل فيها إلا ان عبارة الجامع لا تقبل التأويل لأنه استثنى فيها نفس السورة ، ولعل هذين الخبرين هما مستند من قال بتحريم السورة كملا ،

__________________

وما فوقها ، وذهب أبو حنيفة إلى انه يجوز له قراءة دون الآية إذا لم يكن قرآنا» وفي بداية المجتهد ج 1 ص 44 «ذهب الجمهور الى منع الجنب من قراءة القرآن وقال قوم بإباحته وقال قوم الحائض بمنزلة الجنب وفرق قوم بينهما فأجازوا للحائض قراءة القرآن القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا وهو مذهب مالك» وفي المغني ج 1 ص 143 «رويت كراهية قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء عن علي وعمر والحسن والنخعي والزهري وقتادة والشافعي الى ان قال : وحكى عن مالك جواز قراءة القرآن للحائض دون الجنب».


وقبول صحيحتي محمد بن مسلم للتأويل بما دلا عليه غير بعيد بان المراد من السجدة سورة السجدة لا آية السجدة. وبالجملة فالاحتياط يقتضي القول بتحريم نفس السورة لما عرفت ، وبه يظهر قوة القول المشهور. والله العالم.

(الرابع) ـ مس المصحف والمراد ما عدا كتابة القرآن من الورق والجلد ، وهو مذهب الشيخين وأتباعهما. ونقل عن المرتضى (رضي‌الله‌عنه) القول بالمنع لرواية إبراهيم ابن عبد الحميد الآتية ، وقال الصدوق في الفقيه : «ومن كان جنبا أو على غير وضوء فلا يمس القرآن وجاز له ان يمس الورق» وهو مؤذن بعدم الكراهة.

والذي وقفت عليه في هذه المسألة من الاخبار رواية إبراهيم بن عبد الحميد المشار إليها عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (1) قال : «المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمس خطه ولا تعلقه ، ان الله تعالى يقول (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)» (2). وقال (عليه‌السلام) في كتاب الفقه (3) : «ولا تمس القرآن إذا كنت جنبا أو على غير وضوء ومس الأوراق». وعبارة الصدوق مأخوذة من هذه العبارة على القاعدة التي عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى ، وبالرواية الأولى تعلق المرتضى (رضي‌الله‌عنه) قال في المدارك بعد الاستدلال بها على ما ذهب اليه الشيخان وأتباعهما من الكراهة : «وانما حمل النهي على الكراهة لضعف سند الرواية باشتماله على عدة من المجاهيل والضعفاء فلا تبلغ حجة في إثبات التحريم» أقول : الأظهر في الجواب عنها انما هو عدم صراحتها بل ولا ظهورها في المدعى ، بل الظاهر من قوله (عليه‌السلام) : «المصحف لا تمسه» انما هو نفس القرآن الذي تقدم القول في تحريم مسه ، ويؤيده قوله (عليه‌السلام) : «ولا تمس خطه» بان يكون عطفا تفسيريا لما قبله وان وجد في بعض النسخ «خيطه» والظاهر انه تصحيف ، وعلى تقدير صحته فيبقى الكلام فيه وفي النهي عن التعليق ،

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 12 من أبواب الوضوء.

(2) سورة الواقعة الآية 78.

(3) ص 4.


وينبغي حمل ذلك على الكراهة لمناسبة التعظيم فلا تكون الرواية من محل البحث في شي‌ء نعم فيها إشعار بكراهة مس الورق والجلد من حيث النهي عن مس الخيط ـ بناء على النسخة المشار إليها ـ والتعليق ، وحينئذ فما ذكره في المدارك ـ من الاستدلال بها للشيخين على الكراهة وقوله انه لولا ضعف السند لكانت دليلا للمرتضى (رضي‌الله‌عنه) على القول بالتحريم في هذه المسألة ـ ليس في محله ، فإن الرواية لا تعلق لها بهذه المسألة بوجه ، وهذه الرواية هي مستند الأصحاب في القول بتحريم مس خط المصحف على المحدث حدثا أصغر أو أكبر كما تقدم بيانه ، والعجب من غفلة جملة من الأصحاب عن ذلك بإيرادها في هذه المسألة والحال كما عرفت ، وعبارة كتاب الفقه ـ كما عرفت ـ ظاهرة في الجواز وهو فتوى الصدوق ، وهو الظاهر وان كان القول بالكراهة ـ لما عرفت من اشعار رواية إبراهيم بن عبد الحميد بذلك ـ لا بأس به ، ويؤيده ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم (1) من قوله (عليه‌السلام): «الجنب والحائض يفتحان المصحف من وراء الثوب.». والله العالم.

(الخامس) ـ الخضاب على المشهور ، وهو مذهب المفيد والمرتضى والشيخ في جملة من كتبه ، وقال الصدوق في الفقيه : «ولا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب وهو مختضب ويحتجم ويذكر الله تعالى ويتنور ويدبح ويلبس الخاتم وينام في المسجد ويمر فيه» وهو ظاهر في عدم الكراهة.

والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة ما رواه الشيخ عن ابي سعيد (2) قال : «قلت لأبي إبراهيم (عليه‌السلام) : أيختضب الرجل وهو جنب؟ قال : لا. قلت : فيجنب وهو مختضب؟ قال : لا. ثم سكت قليلا ثم قال : يا أبا سعيد ألا ادلك على شي‌ء تفعله؟ قلت : بلى. قال إذا اختضبت بالحناء وأخذ الحناء مأخذه وبلغ فحينئذ فجامع». وعن كردين المسمعي (3) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : لا يختضب الرجل وهو

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 19 من أبواب الجنابة.

(2 و 3) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.


جنب ولا يغتسل وهو مختضب». وعن جعفر بن محمد بن يونس (1) «ان أباه كتب الى ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) يسأله عن الجنب يختضب أو يجنب وهو مختضب؟ فكتب : لا أحب ذلك». وعن عامر بن جذاعة عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال «سمعته يقول : لا تختضب الحائض ولا الجنب ولا تجنب وعليها خضاب ولا يجنب هو وعليه خضاب ولا يختضب وهو جنب». وروى الفضل بن الحسن الطبرسي في مكارم الأخلاق (3) من كتاب اللباس للعياشي عن علي بن موسى الرضا (عليه‌السلام) قال : «يكره ان يختضب الرجل وهو جنب ، وقال من اختضب وهو جنب أو أجنب في خضابه لم يؤمن عليه ان يصيبه الشيطان بسوء». وعن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (4) قال : «لا تختضب وأنت جنب ولا تجنب وأنت مختضب ، ولا الطامث فان الشيطان يحضرها عند ذلك ، ولا بأس به للنفساء».

وهذه كلها ـ كما ترى ـ متطابقة الدلالة على النهي ، وانما حمل الأصحاب النهي فيها على الكراهة دون التحريم جمعا بينها وبين ما دل على الجواز من الاخبار ، ومنها ـ ما رواه في الكافي (5) عن أبي جميلة عن ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) قال : «لا بأس بأن يختضب الجنب ويجنب المختضب ويطلي بالنورة». قال في الكافي (6) : «وروى ايضا ان المختضب لا يجنب حتى يأخذ الخضاب واما في أول الخضاب فلا». وعن السكوني عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (7) قال : «لا بأس بأن يختضب الرجل ويجنب وهو مختضب. الحديث». وما رواه الشيخ عن علي ـ والظاهر انه ابن أبي حمزة ـ عن العبد الصالح (عليه‌السلام) (8) قال : «قلت : الرجل يختضب وهو جنب؟ قال : لا بأس. وعن المرأة تختضب وهي حائض؟ قال : ليس به بأس». وفي الموثق عن سماعة (9) قال : «سألت العبد الصالح (عليه‌السلام) عن الجنب والحائض يختضبان

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8 و 9) رواه في الوسائل في الباب 22 من أبواب الجنابة.


قال : لا بأس». وما رواه في الكافي (1) في الحسن عن الحلبي عن الصادق (عليه‌السلام) قال : «لا بأس ان يختضب الرجل وهو جنب». الا ان في بعض نسخ الكافي «يحتجم» بدل «يختضب» أقول : ويؤيد ما ذكروه من الجمع ظاهر روايتي مكارم الأخلاق وظاهر رواية جعفر بن محمد بن يونس. وعن المفيد في المقنعة انه علل الكراهة بأن الخضاب يمنع وصول الماء الى ظاهر الجوارح التي عليها الخضاب. وأنت خبير بان مقتضى هذا التعليل هو التحريم لا الكراهة ، ومن أجل ذلك اعتذر عنه في المعتبر فقال : «وكأنه نظر الى ان اللون عرض وهو لا ينتقل فيلزم حصول اجزاء من الخضاب في محل اللون ليكون وجود اللون بوجودها ، لكنها حقيقة لا تمنع الماء منعا تاما فكرهت لذلك» انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف.

بقي هنا شي‌ء وان كان خارجا عن محل البحث وهو ان ظاهر عبارة الصدوق المتقدمة جواز نوم الجنب في المسجد ، وهو باطل إجماعا للأخبار المستفيضة الصريحة في المنع عن اللبث في المسجد (2) وتخصيص الجواز بالمشي دون اللبث ، الا انه قد روى الشيخ عن الحسين بن سعيد عن محمد بن القاسم (3) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الجنب ينام في المسجد؟ فقال : يتوضأ ولا بأس ان ينام في المسجد ويمر فيه». وحينئذ فإن كان اعتماد الصدوق (رحمه‌الله) على هذه الرواية فهي ـ مع الإغماض عما فيها من مخالفة الإجماع والروايات المستفيضة ـ مقيدة بالوضوء أولا وعبارته (رحمه‌الله) مطلقة ، وأيضا فإن العمل بها في مقابلة تلك الاخبار موجب لطرح تلك الأخبار المشار إليها وهو مشكل. وبعض المحشين على الكتاب تكلف لها من الاحتمالات ما هو في البعد أظهر من ان يخفى ، قال (قدس‌سره) : «يحتمل ان يكون المراد النوم في حال الاجتياز من غير لبث وان كان الفرض بعيدا ، ويحتمل ان يكون المراد انه

__________________

(1) رواه في الوسائل في الباب 23 من أبواب الجنابة.

(2 و 3) رواها في الوسائل في الباب 15 من أبواب الجنابة.


يجوز النوم في المسجد وان عرض له الجنابة بعد النوم ، فلا بأس بهذا النوم وان كان معرضا للجنابة ، والمراد بالجنب حينئذ من تعرض له الجنابة. وفيه بعد بحسب العبارة. وربما يقرأ «في المسجد» بلفظ الاسم لا الحرف اي ينام في ظل المسجد ويحذف ويوصل المفعول. وهو بعيد» انتهى. وبالجملة فظاهر كلامه غير موجه ، والرواية المذكورة محمولة على الضرورة أو التقية ، ونقل بعض مشايخنا المتأخرين عن أحمد أحد الأئمة الأربعة انه إذا توضأ جاز له اللبث (1) وأيد بعض الحمل على التقية بأن الرواية عن الرضا (عليه‌السلام) وأكثر الأخبار المروية عنه (عليه‌السلام) ظاهرة في التقية ، لأنه (عليه‌السلام) كان في خراسان وفي أكثر الأوقات كان في مجلسه جماعة من رؤسائهم كما هو الشائع من الآثار. انتهى.

(المسألة الخامسة) ـ إذا اجتمعت أغسال واجبة أو مستحبة أجزأ عنها غسل واحد عندنا للأخبار الدالة على التداخل ، وقد مر تحقيق المسألة مستوفى في المقام الحادي عشر من مقامات الركن الأول في نية الوضوء (2) فليراجع. والله العالم.

__________________

(1) راجع التعليقة 3 ص 51.

(2) ج 2 ص 196.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *