ج1 - المقدمة السابعة في ان مدلول الأمر والنهي حقيقة هو الوجوب والتحريم

المقدمة السابعة

في ان مدلول الأمر والنهي حقيقة هو الوجوب والتحريم

وقد طال التشاجر بين علماء الأصول في هذه المقالة ، وتعددت الأقوال فيها وزيف كل منهم ما أورده الآخر من الاستدلال وقاله ، مع ان الكتاب العزيز واخبار أهل الذكر (عليهم‌السلام) مملوة من الدلالة على ذلك ، وهي أولى بالاتباع والاعتماد وأظهر في الدلالة على المراد.

فمنها قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ...» (1) وليس الطاعة إلا الانقياد لما يقوله الآمر من الأمر والنهي كما صرح به أرباب اللغة. وترك الطاعة عصيان ، لنص أهل اللغة على ذلك ، والعصيان حرام ، لقوله سبحانه : «وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ ...» (2).

و (منها) ـ قوله تعالى : «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً» (3) والتقريب ما تقدم.

و (منها) ـ قوله تعالى : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (4).

و (منها) ـ قوله تعالى : «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...» (5).

__________________

(1) سورة النساء. آية 63.

(2) سورة الجن. آية 25.

(3) سورة النساء. آية 83.

(4) سورة النور. آية 64.

(5) سورة الحشر. آية 8.


ومن الاخبار الدالة على ذلك ما استفاض من وجوب طاعة الأئمة (عليهم‌السلام) وان طاعتهم كطاعة الله ورسوله ، وقد عقد له في الكافي (1) بابا عنونه بباب (فرض طاعة الأئمة عليهم‌السلام).

ومن اخباره : حسنة الحسين بن ابي العلاء قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ قال : نعم هم الذين قال الله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.) (2). الحديث».

وصحيحة الكناني قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «نحن قوم فرض الله طاعتنا. الحديث».

ورواية الحسين بن المختار عن ابي جعفر (عليه‌السلام) : «في قول الله تعالى ((وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)) (3) قال : الطاعة للإمام» (4). الى غير ذلك من الاخبار المذكورة في ذلك الباب وغيره.

ومن الاخبار الدالة على أصل المدعى صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (5) قالا : «قلنا لأبي جعفر (عليه‌السلام) : ما تقول في الصلاة في السفر ، كيف هي وكم هي؟ فقال : ان الله عزوجل يقول : «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ...» (6). فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا : قلنا : انما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ). ولم يقل : افعلوا. فكيف أوجب

__________________

(1) في كتاب الحجة.

(2) سورة النساء. آية 63.

(3) سورة النساء. آية 58.

(4) الموجود في الكافي هكذا : الطاعة المفروضة ، وليس فيه ذكر للإمام.

(5) المروية في الوسائل في باب ـ 22 ـ من أبواب صلاة المسافر من كتاب الصلاة.

(6) سورة النساء. آية 102.


ذلك كما وجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه‌السلام) : أو ليس قد قال الله عزوجل في الصفا والمروة (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما.) (1) ألا ترون ان الطواف بهما واجب مفروض؟. الحديث» وجه الدلالة ان زرارة ومحمد بن مسلم علقا استفادة الوجوب على صيغة افعل مجردة ، وسألا عن وجوب القصر مع عدم الصيغة المذكورة ، وهما من أهل اللسان وخواص الأئمة (عليهم‌السلام) والامام قررهما على ذلك.

و (منها) ـ صحيحة عمر بن يزيد (2) قال : «اشتريت إبلا وانا بالمدينة مقيم فأعجبتني إعجابا شديدا ، فدخلت على ابي الحسن الأول (عليه‌السلام) فذكرتها ، فقال : مالك وللإبل؟ أما علمت أنها كثيرة المصائب؟ قال : فمن إعجابي بها أكريتها وبعثتها مع غلمان لي إلى الكوفة فسقطت كلها ، قال : فدخلت عليه فأخبرته. فقال : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (3).

و (منها) ـ ما ورد في رسالة الصادق (عليه‌السلام) الى أصحابه المروية في كتاب روضة الكافي (4) حيث قال فيها : «اعلموا ان ما أمر الله ان تجتنبوه فقد حرمة ، الى ان قال في أثنائها أيضا : واعلموا انه إنما أمر ونهى ليطاع فيما أمر به ولينتهي عما نهى عنه ، فمن اتبع امره فقد أطاعه ومن لم ينته عما نهى عنه فقد عصاه ، فان مات على معصيته أكبه الله على وجهه في النار».

و (منها) ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (5) : قال : «العمرة

__________________

(1) سورة البقرة. آية 154.

(2) المروية في الوسائل في باب ـ 24 ـ من أبواب أحكام الدواب في السفر وغيره من كتاب الحج.

(3) سورة النور. آية 64.

(4) في أول الكتاب.

(5) المروية في الوسائل في باب ـ 1 ـ من أبواب العمرة من كتاب الحج.


واجبة على الخلق بمنزلة الحج ، لان الله تعالى يقول (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ). الحديث».

و (منها) ـ قول الصادق (عليه‌السلام) لهشام بن الحكم لما سأله «ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد؟ فاعتذر له هشام بأني أجلك وأستحييك. فقال الصادق (عليه‌السلام) : إذا أمرتكم بشي‌ء فافعلوا». رواه في الكافي في أول باب الاضطرار إلى الحجة ، وهو ظاهر كالصريح في وجوب امتثال أوامرهم (عليه‌السلام).

وذهب جمع ـ من المتأخرين ومتأخريهم منهم : الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني بل ربما كان أولهم فيما أعلم ـ إلى منع دلالة صيغة الأمر والنهي على الوجوب والتحريم في كلام الأئمة (عليهم‌السلام) وان كانت كذلك في كلام الله تعالى وكلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مستندين إلى كثرة ورود الأوامر والنواهي عنهم (عليهم‌السلام) للاستحباب والكراهة وشيوعها في ذلك ، قال في كتاب المعالم : «فائدة ، يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة (عليهم‌السلام) ان استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم (عليهم‌السلام)». وبمثل هذه المقالة صرح السيد السند في مواضع من المدارك ، ونسج على منوالهما جمع ممن تأخر عنهما (1).

وعندي فيه نظر من وجوه : (أحدها) ـ ان تلك الأوامر والنواهي هي في الحقيقة أوامر الله سبحانه ورسوله ، ولا فرق بين صدورها من الله تعالى ورسوله ولا منهم ، لكونهم (عليهم‌السلام) حملة ونقلة ، لقولهم (صلوات الله عليهم) :

__________________

(1) منهم الفاضل ملا محمد باقر الخراساني صاحب الكفاية والذخيرة ، ومنهم المحقق الخوانساري شارح الدروس ، ومنهم شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني طيب الله مراقدهم (منه قدس‌سره).


«إنا إذا حدثنا حدثنا عن الله ورسوله ولا نقول من أنفسنا» (1). وحينئذ فكما ان هذا القائل يسلم أن أوامر الله سبحانه ورسوله ونواهيهما ـ الصادرة عنهما لا بواسطة ـ واجبة الاتباع ، فيجب عليه القول بذلك فيما كان بواسطتهم (عليه‌السلام) ، وهل يجوز أو يتوهم نقلهم (عليهم‌السلام) ذلك اللفظ عن معناه الحقيقي الذي هو الوجوب أو التحريم واستعماله في معنى مجازي من غير نصب قرينة وتنبيه على ذلك؟ وهل هو إلا من قبيل التعمية والألغاز؟ وشفقتهم على شيعتهم ـ وحرصهم على هدايتهم بل علو شأنهم وعصمتهم تمنع من ذلك.

و (ثانيها) ـ ان ما استند اليه هذا القائل ـ من كثرة ورود الأوامر والنواهي في أخبارهم للاستحباب والكراهة ـ مردود بأنه ان كان دلالة تلك الأوامر والنواهي باعتبار قرائن قد اشتملت عليها تلك الأخبار حتى دلت بسببها على الاستحباب والكراهة فهو لا يقتضي حمل ما لا قرينة فيه على ذلك ، وهل هو إلا قياس مع وجود الفارق؟ وإلا فهو عين المتنازع فلا يتم الاستدلال وهذا بحمد الله سبحانه واضح المجال لمن عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال.

و (ثالثها) ـ ان ما قدمنا من الآيات والأخبار ـ الدالة على فرض طاعتهم ووجوب متابعتهم ـ عامة شاملة لجميع الأوامر والنواهي إلا ما دلت القرائن على خروجه ، فحينئذ لو حمل الأمر والنهي الوارد في كلامهم بدون القرينة الصارفة على الاستحباب والكراهة المؤذن بجواز الترك في الأول والفعل في الثاني ، لم يحصل العلم بطاعتهم ولا اليقين بمتابعتهم ، وكان المرتكب لذلك في معرض الخوف والخطر والتعرض لحر سقر ، لاحتمال كون ما أمروا به إنما هو على وجه الوجوب والحتم وما نهوا عنه إنما هو على جهة التحريم والزجر ، بل هو ظاهر تلك الأوامر والنواهي بالنظر الى ما قلنا إلا مع الصارف ، بخلاف ما إذا حملا على الوجوب والتحريم فان

__________________

(1) روى المجلسي في البحار الروايات المتضمنة لهذا المعنى في باب ـ 33 ـ من كتاب العلم في الصحيفة 172 من الجزء الثاني المطبوع بمطبعة الحيدرى بطهران.


المكلف حينئذ متيقن البراءة والخروج من العهدة.

(ولو قيل) بان الحمل على الاستحباب والكراهة معتضد بالبراءة الأصلية ، إذ الأصل براءة الذمة حتى يقوم دليل قاطع على ما يوجب اشتغالها.

(قلنا) فيه (أولا) ـ ما عرفت في مسألة البراءة الأصلية من عدم قيام الدليل عليها بل قيامه على خلافها.

و (ثانيا) ـ انه بعد ورود الأمر والنهي مطلقا لا مجال للتمسك بها ، إذ المراد بها ، اما أصالة البراءة قبل تعلق التكاليف ، وحينئذ فبعد التكليف لا مجال لاعتبارها ، واما أصالة البراءة لعدم الاطلاع على الدليل ، والحال ان الدليل في الجملة موجود. نعم يبقى الشك في الدليل وتردده بين الوجوب والاستحباب ، والتحريم والكراهة ، هذا أمر آخر ، فالخروج عن قضية البراءة الأصلية معلوم. وبالجملة فأصالة البراءة عبارة عن خلو الذمة من تعلق التكليف مطلقا إيجابيا أو ندبيا ، وهو هنا ممتنع بعد وجود الدليل.

و (رابعها) ـ انه لا أقل ان يكون الحكم ـ بالنظر الى ما ذكرنا من الآيات والروايات ـ من المتشابهات التي استفاضت الاخبار بالوقوف فيها على ساحل الاحتياط : «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك ، فمن تجنب الشبهات نجا من الهلكات» (1). ومن الظاهر البين ان الاحتياط في جانب الوجوب والتحريم.

هذا وما اعتضد به ـ شيخنا أبو الحسن (قدس‌سره) في كتاب العشرة الكاملة حيث اقتفى اثر أولئك القوم في هذه المقالة ، من ان الصدوق (رحمه‌الله) في كتاب من لا يحضره الفقيه قد حمل كثيرا من الأوامر على الندب وجما غفيرا من النواهي على الكراهة والتنزيه ـ ففيه انه ان كان ذلك كذلك فيمكن حمله على ظهور قرائن

__________________

(1) هذا من مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة في الصحيفة 91 الا ان المتقدم هناك هكذا : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات».


المجاز له ، إذ هي بالنسبة إلى مثله من أرباب الصدر الأول غير عزيزة ، ويمكن ايضا ان يكون ذلك في مقام الجمع بين الاخبار بان يكون في الاخبار المعارضة ما يدل على نفي الوجوب في الأول والجواز في الثاني مع قوته ورجحانه ، وهذا من جملة القرائن الموجبة للخروج عن ذينك المعنيين الحقيقيين.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *