ج20 - كتاب الرهن
والرهن لغة الثبوت والدوام ، يقال : رهن الشيء رهونا :
كقعد قعودا إذا ثبت ودام ، ومنه نعمة راهنة : أى دائمة ثابتة ، قال في كتاب
المصباح المنير :
ويتعدى بالألف فيقال أرهنته : إذا جعلته ثابتا ، وإذا
وجدته كذلك ، ورهنته المتاع بالدين رهنا حبسته به ، فهو مرهون ، والأصل مرهون
بالدين ، فحذف للعلم به ، وأرهنته بالدين بالألف لغة قليلة ومنعها الأكثرون.
انتهى.
وبه يظهر ما في قوله في المسالك بعد نسبة المعنى الأول
إلى اللغة ، ويطلق على الحبس بأي سبب كان ، قال الله تعالى (1) «كُلُّ
نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» أي محبوسة بما
كسبته من خير وشر ، وأخذ الرهن الشرعي من هذا المعنى أنسب ، فإن ظاهره أن المعنى
اللغوي للفظ انما هو الأول ، وبه صرح غيره أيضا ، وأن الثاني انما هو معنى مجازي
يطلق عليه ، ويستعمل فيه مع أن مقتضى كلام المصباح ان الثاني أيضا معنى لغوي ،
فاستعماله شرعا في هذا المعنى هو أحد معنييه لغة.
والكلام في هذا الكتاب يجب بسطه في فصول الفصل الأول ـ في
الرهن وفيه مسائل ، الأولى ـ في الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول ، ظاهر كلام
بعض الأصحاب الاكتفاء في الإيجاب بكل لفظ دل على الارتهان ، كقوله رهنتك أو هذا
وثيقة عندك ، وهذا رهن عندك وزاد في الدروس أنه لو قال : خذه على مالك أو بمالك
فهو رهن.
أقول : في قوله خذه بمالك ما يوهم المعاوضة ، ودخوله في
قسم البيع ، بناء على عدم اشتراط الصيغة الخاصة ، ووقوعه لكل ما دل على التراضي من
الطرفين ، فلا ينبغي عده في سياق هذه الألفاظ.
وبالجملة فإنه يستفاد منه أنه أن الرهن لا يختص بلفظ.
وربما ظهر من عبائر جملة منهم في التعبير عنه بأنه عقد ، أنه يشترط فيه ما يشترط
في العقود اللازمة من الإيجاب
__________________
(1) سورة المدثر الآية ـ 38.
والقبول باللفظ العربي على صيغة
الماضي والمقارنة ، وتقديم الإيجاب كما في غيره من العقود اللازمة ، لأنه المتبادر
من لفظ العقد.
قيل : لعل دليله أن الأصل عدم الانعقاد وترتب أحكام
الرهن الا على ما ثبت كونه رهنا بالإجماع ونحوه والإجماع هنا غير ثابت ، وكذا
غيره.
أقول : فيه ما عرفت مما تقدم في صدر الفصل الأول من كتاب
البيع (1) من عدم الدليل
على ما ذكروه ، واستفاضة الاخبار في العقود بخلاف ما اعتبروه ، مضافا الى أصالة
العدم ، ويؤيده ـ ما ذكره بعض المحققين ـ من أن الرهن ليس على حد العقود اللازمة ،
لأنه جائز من طرف المرتهن ، فترجيح جانب اللزوم ـ ولزوم ما يعتبر في اللازم ـ ترجيح
من غير مرجح ، وأما القبول فهو عبارة عن الرضا بذلك الإيجاب ، والقبول فيه كما
تقدم في الإيجاب.
وقال في التذكرة : الخلاف في الاكتفاء بالمعاطاة ـ والاستيجاب
والإيجاب المذكور في البيع ـ آت هنا ، واعلم أن الرهن اما أن يكون مبتدأ متبرعا به
، وهو الذي لا يقع شرطا في عقد لازم ، بل يقول الراهن : رهنت هذا الشيء عندك على
الدين الذي على ، فيقول المرتهن : قبلت ، واما أن يقع شرطا في عقد لازم كبيع أو
إجارة أو نكاح أو غير ذلك ، فيقول : بعتك هذا الشيء بشرط أن ترهنني عبدك ، فيقول
: اشتريت ورهنت ، أو زوجتك ابنتي على مهر قدره كذا ، بشرط أن ترهنني دارك على
المهر ، فيقول الزوج : قبلت ورهنت.
والقسم الأول لا بد فيه من الإيجاب والقبول عند من
اشترطهما ولم يكتف بالمعاطاة.
وأما القسم الثاني فقد اختلفوا فيه ، فقال بعض الشافعية
: إذا قال البائع : بعتك كذا بشرط أن ترهنني كذا ، فقال المشترى : شريت ورهنت ، لا
بد وأن يقول البائع بعد ذلك : قبلت الرهن ، وكذا إذا قالت المرأة : زوجتك نفسي
بكذا بشرط أن
__________________
(1) ج 18 ص 355.
ترهنني كذا ، فقال الزوج : قبلت
النكاح ورهنتك كذا ، فلا بد وأن تقول المرأة بعد ذلك : قبلت الرهن. لانه لم يوجد
في الرهن سوى مجرد الإيجاب ، وهو بمجرده غير كاف في إتمام العقد.
وقال آخرون : ان وجود الشرط من البائع والزوجة ، يقوم
مقام القبول لدلالته عليه انتهى. وظاهر نقله الخلاف في القسم الثاني من غير ترجيح
شيء يؤذن بالتوقف في ذلك ، واحتمال الاكتفاء بالإيجاب هنا.
وفيه اشكال ـ كما أشار إليه بعض المحققين ـ من أن مقتضى
الشرط أنه لا يقع البيع والتزويج الا بعد الرهن ، مع أن الرهن متأخر. ولانه يلزم
أن يرهن على الثمن قبل إتمام الشراء ولزومه ، ويتحقق الشراء قبل الرهن ، مع أنه قد
جوز المعاطاة في البيع ، فيجوز هنا أيضا بل بالطريق الاولى ، فيحتمل الاكتفاء بها
، وعدم اشتراط الإيجاب والقبول انتهى وهو جيد.
قالوا ولو عجز من النطق كفت الإشارة ، ولو كتبه والحال
هذه وعرف ذلك من قصده جاز ، وقيد بعضهم الإشارة أيضا بأنه لا بد أن تكون مفهمة
للمقصود ، وهو كذلك.
وبالجملة فإنه كما يعتبر في اللفظ افهام المقصود ، كذلك
يعتبر فيما قام مقامه مع تعذره ، ولهذا مال بعض المحققين الى الاكتفاء بالإشارة
والكتابة المفهمين ، وان كان مع القدرة على اللفظ ، لان الغرض فهم ذلك ، فحيثما
وجد كفى.
المسألة الثانية ـ اختلف الأصحاب في أن قبض الرهن شرط في
الرهن أم لا؟ وبالأول قال الشيخ في النهاية ، والشيخ المفيد ، وابن الجنيد ، وأبو
الصلاح ، وابن البراج ، وسلار ، وأبو منصور الطبرسي ، وابن حمزة ، والمحقق في
الشرائع ، والشهيد في الدروس ، وكتاب النكت واللمعة.
وبالثاني قال في الخلاف ، فإنه صرح بأنه يلزم بالإيجاب
والقبول خاصة ، وبه قال ابن إدريس ، والعلامة في المختلف ، وهو ظاهر شيخنا الشهيد
الثاني في المسالك ، واختلف كلامه في المبسوط ، ففي كتاب الرهن كما في النهاية
وقال فيه أيضا كما قال في الخلاف في
فصل بيع الخيار : الأحوط أن نقول ان الرهن من قبل الراهن بالقول ، ويلزمه إقباضه.
احتج الأولون بقوله عزوجل (1) «فَرِهانٌ
مَقْبُوضَةٌ» والتقريب فيها أنه سبحانه أمر بالرهن
المقبوض فلا يتحقق المطلوب شرعا بدونه ، كما اشترط التراضي في التجارة ، والعدالة
في الشهادة ، حيث قرنا بهما وبما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن قيس (2) عن أبى جعفر عليهالسلام ، قال : «لا
رهن الا مقبوضا» (3).
أقول : وروى العياشي في تفسيره أيضا عن محمد بن عيسى (4) عن أبى جعفر عليهالسلام : قال : «لا
رهن إلا مقبوضا».
أجاب العلامة في المختلف أما عن الآية فبأنها انما تدل
من حيث دليل الخطاب وليس حجة عند المحققين ، ثم قال : على أنا نقول : دليلنا ، أما
أولا فلان القبض لو كان شرطا كالإيجاب والقبول لكان قوله تعالى «مَقْبُوضَةٌ» تكرارا لا
فائدة تحته ، وكما لا يحسن أن يقول : مقبولة ، كذا كان يحسن أن لا يقول : مقبوضة ،
واما ثانيا فلان الآية سيقت لبيان الإرشاد إلى حفظ المال ، وذلك انما يتم بالإقباض
كما أنه لا يتم الا بالارتهان (5) فالاحتياط يقتضي القبض كما يقتضي
الرهن ، وكما أن الرهن ليس شرطا في الدين ، فكذا القبض ليس شرطا في الرهن ، ثم
أجاب عن الرواية بضعف السند مع أنها مشتملة على إضمار ، فلا تبقى حجة انتهى.
__________________
(1) سورة البقرة الآية ـ 283.
(2) التهذيب ج 7 ص 176.
(3) هذه الرواية رواها في المسالك ونقله العلامة في التذكرة عن
الصادق عليهالسلام والذي في التهذيب انما هو عن الباقر عليهالسلام كما نقلناه في الأصل ـ منه رحمهالله.
(4) الوسائل الباب 3 من أبواب الرهن الرقم ـ 2.
(5) ويعضده أن الآية قد اشتملت ايضا على السفر وعلى عدم وجود
الكاتب وهما غير شرط في الرهن اتفاقا ، فيكون القبض كذلك كما هو ظاهر ـ منه رحمهالله.
وأجاب الشهيد في نكت الإرشاد عن ذلك ، قال : والجواب ان
الآية دلت على شرعية الرهن مع القبض ، فإذا لم يقبض كان منفيا بالأصل ، لا بدليل
الخطاب ، وحفظ المال واجب ، فيجب مقدمة ، والحديث متلقى بالقبول ، فلا يضره ضعف
سنده ، والإضمار بالصحة أولى ، ولا تكرار في قوله «مَقْبُوضَةٌ» لأن اللغوي
صادق فيصير شرعيا بالقبض انتهى.
ويمكن تطرق المناقشة إليه بما يخرجه عن الاعتماد عليه ،
أما قوله ان الآية دلت على شرعية الرهن مع القبض ـ الى آخر دليله ـ ففيه أن صدق
الرهن ـ وتحقق عقد بدون القبض الموجب لدخوله تحت قوله «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» «والمؤمنون عند شروطهم» مما يمنع ذلك
، ويعضده إطلاق الاخبار الواردة في جملة من أحكام الرهن التي لا تكاد تحصى كثرة ،
كما ستمر بك إنشاء الله تعالى ـ فإنها كلها اشتملت على ذكر الرهن من غير تقييد
بالقبض ، فلو كان شرطا كما هو المدعى لم يحسن ذلك ، بل يجب التفصيل ، وقد تقرر في
كلامهم أن عدم التفصيل دليل على العموم.
وأما قوله ان حفظ المال واجب فيجب مقدمة ، ففيه أنه لا
قائل بوجوب أخذ الرهن ، فالوجوب هنا غير ظاهر.
وأما قوله : ان الحديث متلقى بالقبول ، ففيه أنه وان كان
كذلك الا أن الدلالة غير صريحة ، بل ولا ظاهرة ، ودعوى أولوية ترجيح إضمار الصحة
لا دليل عليها.
وأما قوله لا تكرار في قوله «مَقْبُوضَةٌ» الى آخره ففيه
أنه متى وجد المعنى الشرعي فمقتضى القاعدة الحمل عليه ، وانصراف معنى اللفظ اليه ،
على أن الوصف بالقبض لا يناسب المعنى اللغوي عندهم الذي هو الثبوت والدوام ، الا
أن يكون بمعنى المرهون.
وأما ما أجاب به هنا ـ في المسالك ـ من أن الصفة قد يكون
للكشف ، ففيه أن الأصل في الوصف عدم كونه كذلك ، لما تقرر من «أن التأسيس خير من
التأكيد» كما هو مشهور في كلامهم ،
وبالجملة فالمسألة لما عرفت محل اشكال والله العالم.
بقي الكلام هنا في شيئين : أحدهما ـ في تعيين محل الخلاف
في المسألة ، وان شرطية القبض هل هي في الصحة ، أو اللزوم؟ قد اضطرب في ذلك كلامهم
، فظاهر جملة منهم أن محل الخلاف نفيا وإثباتا انما هو في كونه شرطا في الصحة ،
فالقائل بشرطيته يحكم بكون الرهن بدونه باطلا ، والقائل بكونه شرطا في اللزوم يحكم
بالجواز.
فممن ظاهره الأول العلامة في الإرشاد والقواعد ، والشهيد
في نكت الإرشاد والمحقق الثاني في شرح القواعد ، والشهيد في الدروس ، وفرع عليه
فروعا كثيرة
قال في كتاب نكت الإرشاد بعد قول المصنف ـ ولا يفتقر الى
القبض : هذا قول الشيخ في الخلاف الى أن قال : وذهب الشيخ في النهاية ـ وموضع من
المبسوط ـ الى أن القبض شرط في صحته ، وهو مذهب المفيد وابن الجنيد الى آخره وهو
كما ترى ظاهر فيما قلناه.
وممن ظاهره الثاني العلامة في التذكرة حيث قال : اختلف
علماؤنا في القبض هل هو شرط في لزوم الرهن أولا على قولين : الى آخره ، ثم ذكر
جملة من الفروع المرتبة على ذلك.
ومنهم الشهيد الثاني في المسالك حيث قال : اختلف أصحابنا
في اشتراط القبض في الرهن بمعنى كونه جزء لسبب لزومه من قبل الراهن ، كالقبض في
الهبة في كونه كذلك بالنسبة إلى ملك المتهب وعدمه ، وهو أيضا كالأول ، ظاهر فيما
قلناه.
ومن هنا قال بعض المحققين : إنه يمكن أن تكون المذاهب
ثلاثة ، أحدها ـ عدم اشتراط القبض بوجه ، وثانيها ـ اشتراطه في الصحة ، وثالثها
اشتراطه في اللزوم فقط ، كما في الهبة ، فإنه نقل فيها في الدروس ثلاثة أقوال ،
مثل ما قلناه هنا ، وان قال في شرح الشرائع ـ بعد تقرير الخلاف ـ في لزوم الرهن من
جانب
الراهن ، كالقبض في الهبة ، وهو مشعر
بكون الخلاف في الهبة أيضا في اللزوم وعدمه والظاهر أنه ليس كذلك ، ولهذا قال في
القواعد وغيره : لو مات الواهب بطلت الهبة ، ولهذا يحصل الجمع بين كلام القوم
انتهى وهو جيد.
وثانيهما ـ أنه قد صرح في المسالك بأن إطلاق الشرطية على
القبض انما هو بطريق المجاز ، لان الشرط مقدم على المشروط في الوجود ، وهنا لا
يعتبر تقدمه إجماعا ، فكونه جزء من السبب أنسب ، وقيل عليه : ان الظاهر أن المراد
بالشرط هنا انما هو الأمر الذي لا بد من حصوله ، لحصول المشروط ، لا الخارج المقدم
على المشروط الذي يجب حصوله قبله ، وهو إطلاق شائع خصوصا عند الفقهاء في مثل هذا
الباب وهو جيد.
فروع
الأول ـ لو قبض المرتهن الرهن بغير اذن الراهن ، فان
قلنا : بأن القبض شرط في الصحة كان عقد الرهن باطلا ، لان القبض على هذا الوجه كلا
قبض ، وان قلنا : أنه شرط في اللزوم كان العقد صحيحا غير لازم.
ويمكن التفصيل بناء على الأول بأنه ان كان قبضه بغير
اذنه من حيث امتناع الراهن من الإقباض ، فالظاهر أنه لا وجه للبطلان ، لانه من
قبيل الحقوق المستحقة عليه ، فإذا أخل بدفعها جاز لصاحب الحق التوصل إلى أخذ حقه
وان كان لا كذلك فما ذكروه صحيح والله العالم.
الثاني ـ لو عرض للراهن الجنون أو الإغماء أو الموت بعد
العقد وقبل القبض ، وقلنا : باشتراط القبض كما هو المشهور ، فان قلنا : بكون القبض
شرطا في الصحة فإنه يبطل العقد من أصله ، وبذلك صرح في القواعد والدروس تفريعا على
ما اختاراه من كون القبض شرطا في الصحة كما تقدم نقله عنهما.
وان قلنا بكونه شرطا في اللزوم كان العقد صحيحا ، وبه
قطع في التذكرة تفريعا على ما اختاره فيها من كون القبض شرطا في اللزوم ، كما تقدم
نقله عنه ، فعلى
الثاني يقوم الولي مقام الراهن في
استحقاق الإقباض ، لكن ولى المجنون يراعى مصلحته في ذلك ، فان رأى أن المصلحة في
الإقباض كما إذا كان في بيع يتضرر بفسخه أو نحو ذلك من المصالح التي يقتضيها الحال
أقبضه ، والا فلا.
وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المسالك في هذا المقام ،
حيث أنه فرع البطلان وعدمه على القول بكون القبض شرطا في اللزوم ، كما اختاره وغفل
عن الخلاف الذي قدمنا ذكره من أن جملة منهم انما جعله شرطا في الصحة ، وآخرين في
اللزوم ، والصحة والبطلان هنا انما تفرعا على ذلك كما أوضحناه ، ولو كان عروض أحد
هذه الأشياء المتقدمة للمرتهن قبل قبضه.
فالظاهر ان العقد صحيح على كل من القولين المتقدمين ،
وينتقل حق القبض إلى الولي ، ولهذا انه في الدروس مع قوله بالبطلان بموت الراهن أو
جنونه قال : بالصحة هنا (1) ووجه ذلك هو
الفرق بين المقامين ، فإنه في صورة موت الراهن قبل الإقباض تعلق حق الورثة والديان
به ، فلا يستأثر به أحد ، بخلاف موت المرتهن فان الدين باق فتبقى وثيقة لعدم
المنافي ، هذا كله على تقدير القول باشتراط القبض (2) واما على
القول
__________________
(1) قال في الدروس : لو مات الراهن أو جن بطل ، وفي المبسوط
إذا جن الراهن أو أغمي عليه أو رجع قبل القبض ، قبض المرتهن لان العقد أوجب القبض
، وهذا يشعر بان القبض ليس بشرط ، وان كان للمرتهن طلبه ليتوثق به ، ولو مات
المرتهن انتقل حق القبض الى وارثه والفرق تعلق حق الورثة والديان بعد موت الراهن
به فلا يستأثر به أحد ، بخلاف موت المرتهن فان الدين باق فتبقى وثيقته ، ويحتمل
البطلان فيها لانه من العقود الجائزة قبل القبض والصحة فيهما وفاقا للقاضي
والمبسوط والفاضل الى آخر كلامه منه رحمهالله.
(2) أما على القول بالصحة بناء على ان القبض شرط في اللزوم
فظاهر وأما على القول بالبطلان بناء على ان القبض شرط في الصحة فللفرق المذكور في
الأصل ، وتوضيحه أنه بموت الراهن قبل الإقباض مع كون القبض شرطا في الصحة يتعلق حق
الورثة والديان بالرهن ، ولا ترجيح لأحدهما بعد الحكم بالبطلان ، واما على
الأخر فلا اثر لهذا البحث ولا لما
قبله لحكم هذا القائل بصحة العقد ولزومه قبل القبض فلا تؤثر فيه هذه العوارض والله
العالم.
الثالث ـ قد صرحوا بأنه ليس استدامة القبض شرطا ، فلو
عاد الى الراهن أو تصرف فيه لم يخرج عن الرهانة ، وظاهرهم أنه موضع وفاق ، بل نقل
عن التذكرة دعوى الإجماع عليه (1).
الرابع ـ لو رهن ما في يد المرتهن قبل الرهن ، فان كان
بعارية أو وديعة أو إجارة ونحو ذلك مما كان قبضا مأذونا فيه شرعا ، فالظاهر أنه لا
خلاف في الصحة ، لأن المعتبر تحقق القبض وهو حاصل ، ولو بالاستصحاب ، فان استدامة
القبض قبض حقيقة ، فيصدق عليه أنه رهن مقبوض ، وأما انه يشترط كون القبض واقعا
ابتداء بعد الرهانة ، فلا دليل عليه ، وحينئذ فلا فرق بين السابق والمقارن.
وان كان قبضا غير مأذون فيه شرعا كقبض الغاصب ، والمستام
، والمشترى فاسدا ، فقد أطلق الأكثر الاكتفاء به أيضا ، لما تقدم من الدليل ،
ولانه متى اشترط القبض في الرهن كان مستحقا على الراهن ، فإذا كان في يد المرتهن
وصل الى حقه وعلى تقدير كون القبض منهيا عنه لا يقدح هنا ، لأن النهي في غير
العبادة لا يقتضي الفساد.
وقيل : بعدم الاكتفاء به ، لان القبض على تقدير اشتراطه
ركن من أركان العقد من الجهة التي تعتبر لأجلها وهو اللزوم ، ولهذا أوجبوا عليه
الإقباض لو كان الرهن مشروطا عليه ، وإذا وقع منهيا عنه لا يعتد به شرعا ، وانما
لا يقتضي النهي
__________________
تقدير موت المرتهن فان دينه باق ، ووثيقته تقتضي عقد الرهن
باقية على مقتضاه ولم يبق الا حق قبضه ، حيث مات قبله ، فلذا الحق ينتقل الى وليه
ويقوم مقام الميت في القبض ولا يبطل الرهن بذلك وهو ظاهر منه رحمهالله.
(1) اى كرنه في يده يأخذ هذه الأشياء منه رحمهالله.
الفساد في مثل ذلك حيث تكمل أركان
العقد ، مع أنهم قطعوا بأنه لو قبض بلا اذن الراهن لم يعتد به ، فلو كان مطلق
القبض كافيا ، لزم مثله في ذلك القبض المبتدأ بغير اذن الراهن ، ونمنع استحقاقه
على الراهن بمجرد الصيغة.
أقول : والمسألة لما كانت عارية عن النص تطرق إليها
الإشكال ، الا انه يمكن أن يقال : ان المقبوض بيد أحد هؤلاء المذكورين وان كان قبل
الرهن غير مأذون فيه شرعا وهو منهي عنه ، الا أنه بعد عقد الرهن وحصول الرضا من
الراهن ببقائه في يد المرتهن من أحد هؤلاء لا مانع من ذلك ، واما القياس على القبض
بغير اذن الراهن فهو قياس مع الفارق إذ المفروض هنا كما ذكرنا هو رضا الراهن
ببقائه رهنا عند أحد هؤلاء واذنه في ذلك ، وكونه سابقا مقبوضا بغير وجه شرعي لا
يمنع من ذلك مع تجدد الرضا والاذن أخيرا ، بخلاف المقبوض بعد الرهن بغير اذن على
ما تقدم من التفصيل فيه.
ونقل عن العلامة في التذكرة أنه قطع باشتراط الاذن ومضى
زمان يمكن فيه تجدد القبض هنا ، قال في المسالك : وهو متجه ، بل ربما قيل :
باشتراطهما في المقبوض صحيحا ثم أطال في بيان تعليل ذلك بعلل عليلة.
أقول : أما اشتراط الاذن فلا ريب أن قرينة المقام شاهدة
به ، لانه مع جعله رهنا ، والعلم باشتراط القبض في الرهن لا يتجه ولا يتم الا مع
الرضا والاذن في القبض ، والا فكيف يجعله رهنا يجب عليه إقباضه للمرتهن ، مع عدم
الرضا والاذن في قبضه ، ولا ريب أنه وان كان مقبوضا سابقا على غير وجه شرعي ، الا انه
بعد جعله رهنا صار الأمر على خلاف ما كان سابقا ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا
خفاء عليه.
وأما اشتراط مضى زمان يمكن فيه تجدد القبض فلا وجه له ،
وما علل به مما طوينا نقله لا يخفى ما فيه على من راجعه.
الخامس ـ لو رهن ما هو غائب وقلنا باشتراط القبض ، فلا بد
من حضور المرتهن أو وكيله عند الرهن وقبضه ، وأنه لا يصير رهنا صحيحا أو لازما
بناء على القولين المتقدمين الا بذلك.
والمعتبر في القبض ما تقدم في كتاب البيع من اعتباره في
كل بما يناسبه من النقل في المنقولات ، والكيل والوزن في المكيلات والموزونات ،
والتخلية فيما لا يكون كذلك ـ حسبما تقدم تحقيقه.
وبالجملة فإن القبض هنا كالقبض في البيع ، فجميع ما تقدم
آت هنا ، ولو قلنا بعدم اشتراط القبض سقط البحث.
السادس ـ قالوا ـ : لو أقر الراهن بالإقباض قضى عليه به
، إذا لم يعلم كذبه ولو رجع لم يقبل رجوعه ، وتسمع دعواه لو ادعى المواطاة على
الاشهاد ، فيتوجه اليمين على المرتهن على الأشبه.
أقول : أما القضاء عليه بإقراره فظاهر ، لما ورد من أن «إقرار
العقلاء على أنفسهم جائز (1)». وأما عدم
ذلك مع علم كذبه فظاهر أيضا ، كما لو قال : رهنته اليوم داري التي بالحجاز وأقبضته
إياها مع كونهما في الشام مثلا فإنه لا يسمع ، لانه محال عادة ، وقد عرفت أن شرطه
وصول المرتهن أو وكيله الى موضع الرهن وقبضه.
وأما أنه لو رجع عن إقراره بالإقباض لم يقبل رجوعه ،
فلانه بإقراره أولا دخل تحت مضمون الخبر المتقدم فيجب إلزامه والحكم عليه ، ولا
تسمع دعواه ، بحيث تتوجه على المرتهن اليمين.
نعم لو ادعى الغلط في إقراره وأظهر تأويلا ممكنا في حقه
كما لو قال استندت فيه الى كتاب كتبه وكيلي فظهر مزورا ونحو ذلك فان الظاهر سماع
دعواه ، بمعنى توجه اليمين على المرتهن بان القبض حقيقي ، أو على نفى ما يدعيه
الراهن ، لأن الأصل صحة الإقرار ومطابقته للواقع.
واستقرب العلامة في التذكرة توجه اليمين له على المرتهن
وان لم يظهر تأويلا ، محتجا بأن الغالب في الوثائق كون الشهادة قبل تحقق ما فيها ،
فلا حاجة
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 3 من أبواب الإقرار ـ الرقم 2.
الى تلفظه به.
وأما لو ادعى المواطاة في الإشهاد إقامة لرسم الوثيقة أي
لأجل كتابتها والشهادة عليها حذرا من تعذر ذلك إذا تأخر الى أن يتحقق القبض ،
فالأقوى أنها مسموعة ، بمعنى توجه اليمين بها كما على المرتهن أيضا ، حسبما تقدم ،
لجريان العادة بوقوع مثل ذلك ، وقيل : انه يحتمل عدم السماع لانه مكذب لإقراره
الأول.
وينبغي أن يعلم أن سماع دعواه انما يتم لو شهد الشاهدان
على إقراره ، فادعى الغلط أو المواطاة كما تقدم ، أما لو شهدا على نفس الإقباض
وفعله لم تسمع دعواه ، لتضمنها تكذيب الشاهدين ، بخلاف الشهادة على الإقرار ،
فإنها لا تنافي دعواه بأحد الوجهين المذكورين ، وعلى هذا فلا يثبت على المرتهن
باليمين لو وقعت الشهادة على نفس الإقباض ، وكذا لو شهدا على إقراره بالإقباض
فأنكر الإقرار ، فإنه لا يلتفت الى إنكاره ، لما تقدم من استلزامه تكذيب الشاهدين.
السابع ـ لو رهن ما هو مشترك بينه وبين غيره على سبيل
الإشاعة. فإن كان مما ينقل ويحول فإنه لا يجوز الإقباض إلا بإذن الشريك ،
لاستلزامه التصرف في مال الغير بغير اذنه ، فلو أقبضه والحال هذه فعل محرما.
وهل يحصل الإقباض بذلك ويتم شرط الرهن أم لا؟ قولان :
ثانيهما للشهيد (رحمة الله عليه) لانه كما لو قبضه بدون اذن المرتهن ، وأولهما
للعلامة وجماعة ، ووجهه أن النهى انما هو من حيث حق الشريك فقط ، والا فالإذن حاصل
من الراهن بالنسبة إلى حقه ، واشتمال المقبوض على حق الراهن وغيره لا يمنع من تحقق
القبض لحق الراهن الذي هو شرط في صحة الرهن على القول به ، وان فعل محرما بالتصرف
في حق الغير ، وهذا القول بحسب الاعتبار أقوى.
وان كان مما لا ينقل ولا يحول فان ظاهر المحقق في
الشرائع إلحاق ذلك بالصورة الاولى في اشتراط الاذن ، حيث قال : ولا يجوز تسليم
المشاع الا برضاء شريكه ، سواء كان مما ينقل أو لا ينقل على الأشبه.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك العدم ، حيث قال :
وأما ما يكفى
فيه مجرد التخلية ففي اشتراط اذنه نظر
، أقربه العدم ، لان الغرض مجرد رفع يد الراهن وتمكين المرتهن من قبضه ، وهو لا
يستدعي تصرفا في ملك الغير انتهى وهو جيد.
المسألة الثالثة ـ المشهور بل ادعى عليه الشيخ الإجماع
أن الرهن أمانة في يد المرتهن ، لا يضمن الا مع التفريط ، فلا يسقط بتلفه شيء مع
عدم التفريط.
ويدل عليه جملة من الاخبار منها ـ ما رواه في الفقيه في
الصحيح عن جميل بن دراج (1) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام في رجل رهن
عند رجل رهنا فضاع الرهن قال : هو من مال الراهن ، ويرجع المرتهن عليه بماله».
وعن أبان بن عثمان (2) «عن رجل عن أبى
عبد الله عليهالسلام في رجل رهن
عند رجل دارا فاحترقت أو انهدمت؟ قال : يكون ماله في تربة الأرض ، وقال في رجل رهن
عنده مملوك فجذم أو رهن عنده متاع فلم ينشر المتاع. ولم يتعاهده ولم يتحركه فتأكل
هل ينقص من ماله بقدر ذلك؟ فقال : لا».
وفي الصحيح أو الحسن عن الحلبي (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام «في الرجل يرهن
الرهن عند الرجل فيصيبه شيء أو يضيع قال : رجع بماله عليه».
وعن عبيد بن زرارة (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : رجل رهن
سوارين فهلك أحدهما قال : يرجع عليه بحقه فيما بقي ، وقال في رجل رهن عند رجل دارا
فاحترقت» الحديث. كما تقدم في مرسلة أبان بأدنى تفاوت ، وفيه «فأكل» يعني أكله
السوس.
وفي الصحيح عن الفضيل بن عبد الملك (5) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل رهن عنده آخر عبدين فهلك أحدهما أيكون حقه في الأخر؟ قال : نعم ،
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 195.
(2 ـ 3) التهذيب ج 7 ص 171.
(4) التهذيب ج 7 ص 170.
(5) الفقيه ج 3 ص 199.
قلت : أو دارا فاحترقت أيكون حقه في
التربة؟ قال : نعم ، أو دابتين فهلكت إحداهما أيكون حقه في الأخرى؟ قال : نعم ،
قلت : أو متاعا فهلك من طول ما تركه ، أو طعاما ففسد أو غلاما فأصابه جدري فعمي أو
ثيابا تركها مطوية لم يتعاهدها ولم ينشرها حتى هلكت؟ قال : هذا نحو واحد يكون حقه
عليه».
وعن أبان (1) عن رجل «عن أبى عبد الله عليهالسلام ، قال : سألته
كيف يكون الرهن بما فيه ان كان حيوانا أو دابة أو ذهبا أو فضة أو متاعا فأصابته
جائحة حريق أو لص فهلك ماله أو نقص متاعه ، وليس له على مصيبته بينة ، قال : إذا
ذهب متاعه كله فلم يوجد له شيء فلا شيء عليه ، وان قال : ذهب من بيتي مالي وله
مال فلا يصدق».
وعن إسحاق بن عمار (2) في الموثق «عن أبي إبراهيم عليهالسلام ، قال : قلت
له : الرجل يرتهن العبد فيصيبه عور أو ينقص من جسده شيء على من يكون نقصان ذلك؟
قال : على مولاه ، قال : قلت : ان الناس يقولون ان رهنت العبد فمرض أو انفقأت عينه
فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل بقدر ما ـ ينقص من العبد ، قال أرأيت لو
أن العبد قتل قتيلا على من يكون جنايته؟ قال : جنايته في عنقه».
وعن إسحاق بن عمار (3) أيضا في الموثق قال : «قلت : لأبي
إبراهيم عليهالسلام الرجل يرهن
الغلام أو الدار فتصيبه الآفة على من يكون؟ قال : على مولاه ، ثم قال : أرأيت لو
قتل هذا قتيلا على من يكون؟ قلت : هو في عنق العبد ، قال : ألا ترى فلم يذهب من
مال هذا؟ ثم قال : أرأيت لو كان ثمنه مأة دينار فزاد وبلغ مأتي دينار لمن كان يكون؟
قلت : لمولاه ، قال : وكذلك يكون عليه ما يكون له».
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 173 الفقيه ج 3 ص 198.
(2) الفقيه ج 3 ص 195.
(3) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 172.
الا أن بإزاء هذه الاخبار أيضا ما يدل على خلاف ما دلت
عليه وهو وجوب الضمان على المرتهن.
ومنها ما رواه في الفقيه عن محمد بن قيس (1) في الصحيح عن
أبى جعفر عليهالسلام قال : «قضى ـ أمير
المؤمنين عليهالسلام إذا كان الرهن
أكثر من مال المرتهن فهلك ـ ان يؤدى الفضل الى صاحب الرهن ، وان كان أقل من ماله
فهلك الرهن ادى الى صاحبه فضل ماله ، وان كان الرهن يسوى ما رهنه فليس عليه شيء».
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن بكير (2) في الموثق قال
: «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرهن؟
فقال : ان كان أكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدى الفضل الى صاحب الرهن ، وان كان
أقل من ماله فهلك الرهن أدى اليه صاحبه فضل ماله ، وان كان سواء فليس عليه شيء».
وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي حمزة (3) قال : «سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن قول على عليهالسلام في الرهن
يترادان الفضل؟ قال : كان على عليهالسلام يقول : ذلك ،
قلت : كيف يترادان الفضل؟ فقال : ان كان الرهن أفضل مما رهن به ثم عطب رد المرتهن
على صاحبه ، وان كان لا يساوى رد الراهن ما نقص من حق المرتهن ، قال : وكذلك كان
قول على عليهالسلام في الحيوان
وغير ذلك».
وما رواه المشايخ الثلاثة عن إسحاق (4) قال : «سألت
أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يرهن
بمأة درهم وهو يساوي ثلاثمائة درهم فهلك ، أعلى الرجل ان يرد على صاحبه مائتي درهم؟
قال : نعم لأنه أخذ رهنا فيه فضل ـ وضيعه ، قلت :
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 199.
(2) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 171.
(3) الكافي ج 5 ص 234.
(4) التهذيب ج 7 ص 172 الكافي ج 5 ص 234 الفقيه ج 3 ص 199.
فهلك نصف الرهن فقال : على حساب ذلك»
وزاد في الكافي والفقيه «قلت : فيترادان الفضل قال : نعم».
وما رواه في الفقيه عن محمد بن حسان عن ابى حمران
الأرمني (1) عن ابى عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل رهن عند رجل على ألف درهم ، والرهن يساوي ألفين فضاع فقال : يرجع عليه بفضل
ما رهنه ، وان كان انقص مما رهنه عليه رجع على الراهن بالفضل ، وان كان الرهن
يساوى ما رهنه عليه فالرهن بما فيه». قيل :
ويعنى قوله «والرهن بما فيه» انه يحسب الرهن من دينه
ويرجع بالباقي. أقول : وهو معنى صحيح في حد ذاته ، الا أنه بعيد عن ظاهر اللفظ
المذكور وجمع الشيخ (رحمة الله عليه) بين هذا الاخبار بحمل الأخبار الأولة على عدم
التفريط ، والأخيرة على التفريط استنادا الى ما رواه
في الكافي عن أبان (2) عمن أخبره عن أبى عبد الله عليهالسلام وفي الفقيه
والتهذيب عن أبان عن أبى عبد الله عليهالسلام «أنه قال في
الرهن إذا ضاع عند المرتهن من غير أن يستهلكه : رجع في حقه على الراهن فأخذه فإن
استهلكه ترادا الفضل فيما بينهما».
أقول : ويشير الى ذلك أيضا قوله عليهالسلام ، في رواية
إسحاق الأخيرة «لأنه أخذ رهنا فيه فضل وضيعة».
وعلى ذلك أيضا يحمل ما رواه الشيخ في التهذيب عن سليمان
بن خالد (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «إذا
ارتهنت عبدا أو دابة فماتا فلا شيء عليك ، وان هلكت الدابة أو أبق الغلام فأنت
ضامن».
فإنه لا بد من حمل هلاك الدابة وإباق الغلام على التفريط
، والا يحصل التنافي بين صدر الخبر وعجزه.
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 196.
(2) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 172 الفقيه ج 3 ص 196.
(3) التهذيب ج 7 ص 173 الكافي ج 5 ص 236.
قال الشيخ بعد نقل الخبر المذكور : المعنى فيه أن يكون
سبب هلاكها أو سبب إباق الغلام شيئا من جهة المرتهن ، فاما إذا لم يكن كذلك فلا
يلزمه شيء ، وكان حكمه حكم الموت سواء انتهى.
واحتمل بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين حمل
الأخبار الأخيرة على التقية ، قال : فقد روى العامة عن الشعبي وشريح والحسن (1) ذهبت الرهانة
بما فيها ويدل عليه خبر أبان أيضا انتهى.
أقول نقل العلامة في التذكرة القول بما عليه الأصحاب عن
عطاء ، والزهري ، والأوزاعي والشافعي ، وأبى ثور وأحمد وابن المنذر ، ونقل عن شريح
والنخعي والحسن البصري ، أن الرهن يضمن بجميع الدين ، وان كان أكثر من قيمته ،
ونقل عن الثوري وأصحاب الرأي أنه يضمنه المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر
الدين ، فان كانت قيمته أقل سقط بتلفه من الدين قدر قيمته ، والا سقط الدين ، فلا
يضمن الزيادة انتهى.
وأنت خبير بان ثبوت التقية انما يتم على قول شريح ومن
معه ، وهو أشد الأقوال الثلاثة فإن ظاهر المشهور عندهم موافق لما عليه الأصحاب ،
وقول أبي حنيفة وأتباعه وهم المشار إليهم بأصحاب الرأي لا ينطبق عليه الاخبار المذكورة
، لأنها دلت على أن المرتهن يضمن الزيادة لو كان الرهن أكثر ، وهم ينفون ذلك ،
والحمل على التقية باعتبار هؤلاء الثلاثة بعيد.
الا أنه ربما يمكن تأييده بما تقدم في موثقة إسحاق بن
عمار من قوله ، قال : «قلت : أن الناس يقولون : ان رهنت العبد فمرض أو أنفقا عينه
فأصابه نقصان في جسده ينقص من مال الرجل بقد ما ينقص من العبد».
ويؤيده أن جل الاختلاف في الاخبار انما نشأ من التقية ،
ولا ينافيه التفصيل الذي دلت عليه مرسلة أبان المتقدمة ونحوها ، فإنه يجوز أن يكون
الحكم الشرعي هو التفصيل الذي دلت عليه ، وان كان إطلاق هذه الاخبار انما خرج مخرج
التقية.
__________________
(1) سنن البيهقي ج 6 ص 39.
وأما قول شيخنا المشار اليه ويدل عليه خبر أبان أيضا فلا
أعرف له وجها ، فان خبر أبان دل على التفصيل بالتفريط وعدمه ، كما هو المعمول عليه
بين الأصحاب ، ولا دلالة فيه على أزيد من ذلك.
بقي الإشكال فيما قدمنا من الاخبار في مقامين ، أحدهما :
ما دل عليه جملة منها كصحيحة الفضل بن عبد الملك ورواية عبيد بن زرارة ، ومرسلة
أبان ـ من عدم ضمان المتاع إذا لم ينشره ولم يتعاهده ، ولم يتحركه حتى تأكل وهلك ،
وان كان بذلك أفتى الصدوق في المقنع ، فقال : ان رهن عنده متاعا فلم ينشر المتاع ،
ولم يخرجه ولم يتعهده ، ففسد فان ذلك لا ينقص من ماله شيئا انتهى وهو مشكل.
فإنك قد عرفت أن الرهن في يده أمانة مضمونة مع التفريط ،
ومن الظاهر ان ترك المتاع الذي يتوقف حفظه وسلامته على النشر والتعاهد بغير نشر
ولا تعاهد تفريط ، ولهذا قال العلامة في المختلف ـ بعد نقل عبارة المقنع : والأقرب
أن على المرتهن الضمان ، لان ترك نشر الثوب المفتقر الى نشره يكون تفريطا ،
والمفرط ضامن انتهى.
وكأنه (قدسسره) لم يخطر
بباله الأخبار المذكورة التي هي مستند الصدوق في هذه الفتوى ، والا لكان الواجب
عليه الجواب عنها ، ويمكن ـ وان بعد ـ حملها على عدم علمه بوصول الضرر الى المتاع
مع بقائه على تلك الحال.
وثانيهما : ما دلت عليه مرسلة أبان الثانية من عدم تصديق
المرتهن إذا ادعى ذهاب الرهن وحده ، فإنه مخالف لمقتضى القواعد المعمول عليه بين
الأصحاب أيضا ، حيث أن المرتهن أمين كما عرفت ، والأمين مصدق بيمينه.
وبمضمون هذه الرواية أفتى ابن الجنيد ، فقال : والمرتهن
يصدق في ضياع الرهن إذا كانت جائحة ظاهرة ، أو إذا ذهب متاعه ، والمرهون فان ادعى
ذهاب الرهن وحده لم يصدق.
ورده العلامة في المختلف بما ذكرناه ، فقال : لنا انه
أمين والقول قوله مع اليمين ، ونقل عنه الاحتجاج بأن دعواه ذهاب الرهن بخصوصه خلاف
الظاهر وبالرواية ، ثم رد الأول بالمنع ، والرواية بالإرسال ، وأن في أبان قولا ،
وهذا الجواب
عندنا غير حاسم لمادة الاشكال ، ولا
يحضرني الآن وجه تحمل الرواية عليه ، الا أن يكون للتقية ، ويمكن تأييده بذهاب ابن
الجنيد الموافق للعامة غالبا في كثير من فتاويه الى ذلك ، والله العالم.
المسألة الرابعة : المشهور بين الأصحاب أن فوائد الرهن
وزوائده المتجددة بعد الرهن ان كانت منفصلة كالولد والثمرة بعد الجذاذ أو يقبل
الانفصال كالشعر والصوف والثمرة قبل الجذاذ ، فإنها تدخل في الرهن ، وبه قال الشيخ
في النهاية والشيخ المفيد وابن الجنيد وأبو الصلاح وابن البراج وابن حمزة وابن
إدريس مدعيا عليه الإجماع ، وقبله المرتضى على ما نقله عنه في الكفاية.
واما المتصلة اتصالا لا يقبل الانفصال كالسمن والطول فإنه
لا خلاف بينهم في دخولها ، وانما الخلاف فيما عداه مما ذكرناه ، فإنه قد ذهب الشيخ
في الخلاف والمبسوط الى عدم الدخول ، واختاره العلامة وولده فخر المحققين والمحقق
الشيخ على.
احتج الأولون بالإجماع المنقول بخبر الواحد ، وان النماء
من شأنه تبعية الأصل في الحكم كما يتبع ولد المدبرة لها فيه ، واحتج الآخرون
بأصالة العدم وبأن الأصل في الملك ان يتصرف فيه مالكه كيف شاء خرج منه الأصل بوقوع
الرهن عليه.
واحتج العلامة في المختلف بما رواه السكوني (1) في الموثق «عن
جعفر عن أبيه عن آبائه عن على عليهمالسلام قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : الظهر يركب
إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب نفقته ، والدر يشرب إذا كان مرهونا ، وعلى الذي
يشرب نفقته». قال : فأثبت عليهالسلام منفعة الحلب
والركوب ، وليس ذلك للمرتهن إجماعا ولانتفاء ملكه ويبقى أن يكون للراهن.
وعن إسحاق بن عمار (2) في الصحيح عن أبي إبراهيم عليهالسلام قال : «فان
رهن
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 176.
(2) الكافي ج 5 ص 235 التهذيب ج 7 ص 173.
دارا لها غلة لمن الغلة؟ قال : لصاحب
الدار». وادعاء ابن إدريس ـ ان قوله : مذهب أهل البيت ، وان إجماعهم عليه ، وان ما
ذكره الشيخ في الخلاف والمبسوط مذهب المخالفين ـ خطأ لا برهان عليه ، ولا شبهة له
انتهى كلامه في المختلف.
أقول : لا يخفى ما في حجج الأولين ، اما ما احتجوا به من
الإجماع فقد عرفت ما فيه في غير مقام ، وانه لا يحسم مادة النزاع ، واما دعوى
التبعية والاستناد إلى تبعية الولد المدبر لأمه في التدبير ، ففيه ما ذكره شيخنا
في المسالك حيث قال ـ بعد نقل احتجاجهم بما ذكرناه ـ والإجماع ممنوع ، والتبعية في
الملك مسلمة لا في مطلق الحكم ، وتبعية ولد المدبرة لتغليب جانب العتق.
وأما ما احتج به على القول الثاني من التمسك بالأصل فهو
قوى ، ويعضده ما عللوا به عدم التبعية في مسألة بيع الحامل من أن العقد انما وقع
على الأم ، واللفظ لا يتناول سواها ، فكذلك هنا.
وأما احتج به العلامة في المختلف ، ففيه أن محل الخلاف
على ما قرره هو وغيره انما هو الزيادات المنفصلة ، أو القابلة الانفصال كما ينادى
به التمثيل بالولد والثمرة والشعر والصوف ، لا أنه مطلق المنافع كغلة الدار ونحوها
، فإنه لا خلاف ولا إشكال في كونها للراهن ، كما استفاضت به الاخبار ، وستأتي
إنشاء الله ـ تعالى في الفصل الثالث.
وحينئذ فلا وجه لاستدلاله بموثقة إسحاق بن عمار التي
وصفها بكونها صحيحة ، لاعتضاده بها تنويها بشأنها ، مع أنه وغيره انما يعدونها في
الموثق.
وأما رواية السكوني ـ وان وصفها بكونها موثقة ، لاتفاقهم
على عدها في الضعيف ـ فغاية ما تدل عليه كون النفقة في مقابلة النفقة في كل من
الركوب وشرب اللبن وسيأتي الكلام في ذلك ،
وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص الواضح لا تخلو من
الاشكال ، وان كان القول الثاني لا يخلو من قوة لما عرفت ، ويظهر من المسالك
اختياره أيضا ، وربما اعترض على القول بعدم التبعية بأنه يلزم جواز انتفاع الراهن
بالرهن ، لأن المنفعة
إذا لم تكن رهنا لا وجه لمنعه من
التصرف فيها ، مع أن الإجماع على منعه.
والجواب عن ذلك أولا : بمنع هذه الدعوى ومنع الإجماع ،
كما سيأتي إنشاء الله تعالى تحقيقه في بعض مواضع الفصل الثالث.
وثانيا : أنه مع تسليم ذلك يمكن أن يقال : ان منعه من
التصرف لا من حيث المنفعة ، بل من حيث استلزامه التصرف في المرهون ، ولهذا لو
انفصلت المنفعة كالثمرة والولد لم يمنع من التصرف فيها ـ وينبغي أن يعلم أنه لو
شرط المرتهن دخولها أو الراهن خروجها زال الاشكال ، لوجوب الوفاء بالشرط ، هذا كله
بالنسبة إلى النماء المتجدد بعد الرهن.
وأما الموجود حال الرهن فالمشهور بينهم عدم الدخول ، ونقل
في المختلف عن ابن الجنيد الخلاف في ذلك ، قال في المختلف : النماء الموجود حالة
الارتهان إذا كان منفصلا كالولد واللبن أو متصلا اتصالا لا يقبل الانفصال كالصوف
والشعر خارج عن الرهن ، ذهب إليه أكثر علمائنا. وقال ابن الجنيد : ان جميع ذلك
يدخل في الرهن ، لنا أن العقد تناول الأصل ، وليس النماء جزء من المسمى ، فلا يدخل
في الرهن ، احتج بأن النماء تابع في الملك ، فكذا في الرهن ، والجواب المنع من
الملازمة انتهى.
أقول : لا يبعد التفصيل بالفرق بين مثل الولد والثمرة ،
وبين مثل الشعر والصوف على ظهر الحيوان ، بخروج الأول ، ودخول الثاني ، فإن من
الظاهر عدم دخول الولد والثمرة في مسمى الام والنخل ، ودخول الشعر والصوف في
الحيوان اللذين هما على ظهره ، فإنه كالمتبادر عرفا ، فإنه متى باعه حيوانا كذلك
أو وهبه أو نقله له بأحد النواقل الشرعية ، فإن ظاهر العرف الحكم بدخول ذلك فيه.
ولهذا انه في التذكرة استقرب دخول الصوف والشعر على ظهر
الحيوان ، محتجا بأنه كالجزء ، واستحسنه المحدث الكاشاني في المفاتيح ، وتردد في
التذكرة في دخول اللبن في الضرع ، وفي القواعد تردد في الأمرين ، وكيف كان
فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال والله العالم.
المسألة الخامسة : لا خلاف في أن الرهن لازم من جهة
الراهن حتى يخرج من الحق الموجب للرهن ، اما بأدائه ولو من متبرع عنه ، أو ضمان
الغير له مع قبول المرتهن ، أو الحوالة أو إبراء المرتهن له ، قالوا : وفي حكمه
الإقالة المسقطة للثمن المرهون به ، أو الثمن المسلم فيه المرهون به.
وبالجملة فالظابط براءة ذمة الراهن من جميع الدين ، وإذا
خرج من بعضه دون بعض فهل يخرج الرهن بأجمعه عن الرهانة ، أو يبقى كذلك أو بالنسبة
، أوجه :
صرح في الدروس بالثاني ، وهو ظاهره في الروضة أيضا ، ولو
شرط كونه رهنا على المجموع خاصة تعين الأول ، كما انه لو جعله رهنا على كل جزء جزء
تعين الثاني.
السادسة : قال الشيخ في المبسوط : إذا وجد المرتهن
بالرهن عيبا سابقا كان له الرد بالعيب ، فيتخير معه في فسخ البيع ، وأجازته بلا
رهن إذا كان الرهن باقيا بالصفة التي قبضه ، فأما إذا مات أو حدث في يده عيب فليس
له رده في فسخ البيع ، لان رد الميت لا يصح ، ورد المعيب مع عيب حدث في يده لا
يجوز ، لانه لا دلالة عليه كما نقوله في البيع ، ولا يرجع في ذلك بأرش العيب ،
بخلاف البيع.
قال في المختلف ـ بعد نقل ذلك ـ عنه : والأقوى عندي أنه
له الفسخ ، لفقدان الشرط ، سواء مات العبد أو رده ، لان العبد في يده أمانة فليس
للراهن الامتناع من قبضه بالعيب السابق ، فكذا الموت انتهى. ومرجع مناقشته للشيخ
الى عدم الفرق بين الموت ، وظهور العيب السابق في جواز الفسخ ، وهو لا يخلو من
قوة.
وأما العيب الحادث في يد المرتهن فالحكم فيه كما ذكره
الشيخ (رحمة الله عليه) لما ورد من الاخبار الدالة على بقاء الرهانة وعدم انفساخها
بذلك ، والرد انما يتجه مع الفسخ.
ومن الاخبار المشار إليها ما تقدم في المسألة الخامسة من
الاخبار الدالة على أن العبد إذا أصابه الجذام أو العمى أو نحو ذلك فإنه باق على
الرهانة ، وان نقص ذلك على الراهن ، والاخبار ثمة إنما اختلفت في الضمان وعدمه ،
والا فصحة الرهانة لا خلاف فيها ولا اشكال والله العالم.
السابعة : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه إذا رهن عصيرا
فصار خمرا بطل الرهن ، وبالغ أبو الصلاح فقال : فان صار خمرا بطلت وثيقة الرهن ،
ووجبت إراقته ، والشيخ في الخلاف قال : يجوز إمساكه للتخلل والتخليل ، ولا يجب
عليه الإراقة ، لأنه لا خلاف بين الطائفة في جواز التخلل والتخليل.
وقال في الشرائع : ولو رهن عصيرا فصار خمرا بطل الرهن ،
فلو عاد خلا عاد الى ملك الراهن. وظاهر هذه العبارات بطلان الرهن رأسا بعد صيرورته
خمرا.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ في المسالك ـ حمل البطلان
في كلامهم على كونه بطلانا مراعى ببقائه على الخمرية ، لأنه متى صار خمرا خرج عن
ملك صاحبه فيبطل الرهانة لذلك ، لأنها مشروطة بالملكية ، ومتى صار خلا وصلح أن
يكون ملكا عادت الملكية والرهانة.
ولهذا استدرك على المصنف في عبارته المذكورة ، من حيث
حكمه بالبطلان ، وأنه بصيرورته خلا يعود الى الملك ، ولم يصرح بكونه يعود إلى
الرهانة ، قال : والحاصل انهم لا يعنون ببطلان الرهن هنا اضمحلال أثره بالكلية ،
بل ارتفاع حكمه ما دامت الخمرية باقية ، وتبقى علاقة الرهن لبقاء أولوية المالك
على الخمر المتجدد للتخليل ، فكأن الملك والرهن موجودات فيه بالقوة القريبة ، لأن
تخلله متوقع ، والزائل ـ المعبر عنه بالبطلان ـ الملك والرهن ، لوجود الخمرية
المنافية ، ونظير ذلك أن زوجة الكافر إذا أسلمت خرجت بذلك من حكم العقد ، وحرم وطؤها
عليه فإذا أسلم قبل انقضاء العدة عاد حكم العقد ، وكذلك إذا ارتد أحد الزوجين
انتهى.
أقول : لقائل أن يقول : ان ما ذكره (قدسسره) من التوجيه
لعود الرهن بعد بطلانه ـ وأن حكم الأصحاب بالبطلان مراعى ببقاء الخمرية ـ انما
يصلح وجها للنص ، وبيان الحكمة فيه لو كان هنا نص ، لا أنه يصلح لتأسيس الحكم
المذكور ، وبنائه عليه ، فان قضية الحكم بالبطلان بصيرورته خمرا وعدم صحة
تملك الخمر ، هو بقاء البطلان
واستمراره وان انقلب خلا ، والعود الى كونه رهنا يتوقف على الدليل.
وهذا هو الظاهر من إطلاقهم ، سيما عبارة الشيخ ابى
الصلاح وحكمه بوجوب الإراقة ، فإنه لا ينطبق الا على ما ذكرناه ، ومجرد عوده في
الملك بعد انقلابه خلا لا يستلزم عوده رهنا للفرق بين الأمرين ، فإن الرهن متوقف
على الصيغة والعقد الشرعي وقد بطل ، فعوده يحتاج الى عقد آخر بخلاف الملك ، ولانه
قد قام الدليل على ذلك في الملك ، فيجب القول به ، ولم يقم دليل عليه في الرهن الا
مجرد هذا التخريج المذكور الذي لا يصلح لتأسيس حكم شرعي عليه.
وما ذكرناه هو الظاهر من إطلاقهم ، سيما عبارة الشرائع ،
وحكمه فيها بالملك بعد العود دون الرهانة ، واستدراكه عليها ليس في محله ، لعدم
الدليل كما عرفت ، والتنظر بما ذكره لا يفيد فائدة ، فإن الأحكام الشرعية لا تبنى
على النظائر والمشابهات كما يقوله أهل القياس ، وانما يعمل فيها على النصوص
الواضحة.
وبالجملة فإن كلامه (قدسسره) غير خال عندي
من النظر ، وان اقتفاه فيه المحقق الأردبيلي أيضا حيث قال : وسبب عودها بعد
صيرورته خلا عود الملكية فيما كان رهنا ، وزوال المانع عن الرهانة ، فيعود ما كان
ثابتا تابعا للملكية ، وما كان سبب النزول إلا زوال الملكية. فتأمل فيه انتهى.
وفيه ان زوال المانع غير كاف في الصحة ، بل لا بد من
وجود المقتضى أولا ، والمقتضى قد حكم ببطلانه ، والكلام في محل البحث في عوده ،
ومجرد عود الملكية لا يستلزمه كما عرفت.
ونحن ولو خلينا وظاهر الحكم بالبطلان ثم لا يحكم بعود
الملكية ولا الرهن ، لكن لما قام الدليل من خارج ودلت الاخبار على عود الخمر
بصيرورته خلا الى ملك صاحبه حكمنا بذلك ، وأما عوده رهنا فيحتاج ايضا الى الدليل
كما احتاج اليه عوده في الملك ، ولعل في قوله فتأمل فيه إشارة الى ما ذكرناه والله
العالم.
الفصل الثاني في شرائط الرهن
وفيه مسائل الأولى ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان
الله عليهم) أنه يشترط كون الرهن عينا مملوكة ، فلا يصح رهن ما في الذمة من الديون
، ولا المنافع ، مثل سكنى الدار وخدمة العبد ، والوجه في الثاني ظاهر ، وهو أنه
ليس هنا شيء موجود يمكن استيفاء الدين منه الذي هو الغرض من الرهن ، لان هذه
المنافع تستوي شيئا فشيئا ، وكل ما حصل منها شيء عدم ما قبله ، والمطلوب من الرهن
أنه متى تعذر استيفاء الدين استوفى من الرهن.
وبالجملة فإن المنافع لا يصح إقباضها إلا بإتلافها ، ومع
ذلك فالمنع من رهنها موضع وفاق ، كما صرحوا به ، وأما الوجه في الأول فهو مبنى على
أمرين أحدهما ـ عدم صحة بيع ما في الذمة ، وثانيهما ـ اشتراط القبض في الرهن ،
والدين لا يمكن قبضه ، لأنه أمر كلي لا وجود له في الخارج.
وفي كل من الأمرين نظر ، أما عدم صحة بيع ما في الذمة
فهو على إطلاقه ممنوع ، وانما ذلك في صورة خاصة كما تقدم تحقيقه ، وأما اشتراط
القبض فقد تقدم ما فيه من البحث ، وأنه لم يقم دليل واضح عليه ، ومع تسليمه فإنه
يجتزي بقبض ما يعينه المديون ، ويحصل الشرط المذكور ، والأصل والعمومات يقتضي
الجواز.
والى ما ذكرنا يميل كلام جملة من محققي متأخري المتأخرين
كالمحقق الأردبيلي والفاضل الخراساني ، وقد صرح العلامة في التذكرة ببناء المنع
على اشتراط القبض ، فقال : لا يصح رهن الدين ان شرطنا في الرهن القبض ، لانه لا
يمكن قبضه لعدم تعينه حالة الرهن.
لكنه في القواعد جمع بين الحكم بعدم اشتراط القبص ، وعدم
جواز رهن الدين ، فتعجب منه الشهيد في الدروس.
واعتذر له المحقق الشيخ على في شرحه بأن عدم اشتراط
القبض لا ينافي
اشتراط كون الرهن مما يقبض مثله ،
نظرا الى أن مقصوده لا يحصل الا بكونه مما يقبض ، كما أرشدت اليه الآية الكريمة ،
فأحدهما غير الآخر.
واعترضه في المسالك بأن فيه مع ما أشرنا إليه من تصريح
العلامة ببناء الحكم على القبض ، مع اعتبار كون الرهن مما يقبض مثله معجلا ، إذ لا
دليل عليه ، والآية قد تقدم عدم دلالتها على اعتبار القبض بل الإرشاد اليه.
والمعتذر (رحمهالله) قد بالغ في
تحقيق دلالتها على ذلك ، ومنع دلالتها على اعتبار القبض ، ولو سلم اعتبار صلاحية
الرهن للقبض فالدين صالح لذلك بتعيين المديون له في فرد من أفراد ماله ، فالمنع من
رهنه على القول بعدم اشتراط القبض غير متوجه. انتهى.
أقول : وقد تلخص من ذلك أنه لا مانع من رهن الدين حتى
ولو قلنا باشتراط القبض كهبة ما في الذمم ويجتزى بقبض ما يعينه هنا.
والمراد باشتراط كون الرهن مملوكا ما هو أعم من ملك
الأصل أو المنفعة ، كما لو أذن له المالك في رهن ماله ، فلا يصح رهن ما لا يملكه
ولا يؤذن فيه ، وعلى هذا فالمملوكية بمعنييها من شروط الصحة ، كما في الشروط
الآتية ، الا أنه قد صرح بعضهم بجواز رهن غير المملوك ولا المأذون وصحته ، ويكون
موقوفا على اجازة المالك ، كالبيع الفضولي وعلى هذا يكون هذا الشرط من شروط اللزوم
، ومقتضى ما قدمناه من البحث عن عدم صحة بيع الفضولي عدم جواز رهن ما كان كذلك ،
لانه تصرف في مال الغير بغير اذنه ، وهو قبيح عقلا ونقلا.
الثانية اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في رهن المدبر
، فالأكثر على أنه يوجب ابطال تدبيره ، بمعنى أنه يصح الرهن ولكن يبطل التدبير ،
وقيل بصحتها فان رهنه لا يوجب إبطال تدبيره ، ونقل ذلك عن الشيخ.
وعلل الأول بأن التدبير من الصيغ الجائزة التي يصح
الرجوع فيها كالوصية ، فإذا تعقبه الرهن أبطله ، كما لو تعقبه غيره من العقود
كالبيع والهبة ، لكون ذلك رجوعا عنه ، لان الغرض من العقود المملكة ملك من انتقل
اليه ، ولا يتم الا بالرجوع ،
والغرض من الرهن استيفاء الدين من
قيمته ، فهو مناف لتدبيره.
وعلل الثاني بأن الرهن لا يستلزم نقل المرهون عن ملك
الراهن ، ويجوز فكه ، فلا يثبت التنافي بين الرهن والتدبير بمجرد الرهن ، بل
التصرف فيه.
ونقل عن الشيخ (رحمة الله عليه) الاحتجاج عليه بعدم
الدليل على بطلان كل واحد منهما ، وعلى هذا فيكون التدبير مراعى بفكه ، فان فكه
استقر وثبت ، والا أخذ في الدين ، فيبطل التدبير (1)
ونقل عن الشهيد في الدروس أنه استحسن هذا القول ،
والمسألة لا يخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وان كان
القول الثاني لا يخلو من قرب ، لما ذكر في بيان وجهه.
قال في الكفاية : وفي جواز رهن المدبر خلاف ، فقيل يصح
وأن رهن رقبته إبطال لتدبيره ، وقيل : لا يصح ، وقيل : ان التدبير يراعى بفكه ،
فيستقر أو يأخذه في الدين فيبطل.
أقول : ما نقله هنا من القول بعدم صحة الرهن لم أقف على
من نقله سواه ، والمنقول في المسألة هو ما قدمنا ذكره من القولين ، وهو الذي صرح
به شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة ، وتعبيره عن القول الثاني الذي قدمناه
بما ذكره ـ من أن التدبير يراعى الى آخره ـ غير جيد ، فان القول المنقول عن الشيخ
انما هو صحة الرهن والتدبير كما قدمنا ذكره ، الا أن اللازم منه أن صحة التدبير
هنا ليست صحة مستقرة ، بل هي مراعاة بفكه ، وتعبيره عن القول بلازمه ليس بجيد
__________________
(1) أقول : والى ذلك أيضا يميل كلام العلامة المحقق الأردبيلي (عطر
الله مرقده) حيث قال ما ملخصه : إذ الظاهر صحة الرهن مع عدم بطلان التدبير لعموم
أدلة الرهن وجواز التصرف في المدبر ، ولكن لما لم يكن بينه وبين الرهن منافاة
فالظاهر بقاؤه موقوفا فان بيع في الرهن بطل تدبيره ، وان لم يبع بقي مدبرا ،
ويؤيده أنه لو كان بينهما منافاة لزم عدم صحة الرهن بوجود التدبير قبله انتهى منه رحمهالله.
في التعبير.
ثم انهم اختلفوا في صحة رهن خدمة المدبر ، مع أن ظاهرهم
الاتفاق ـ كما تقدم في المسألة المتقدمة ـ على عدم صحة رهن المنافع ، فقيل :
بالصحة هنا ، للرواية الواردة بجواز بيع خدمته ، وقد تقرر عندهم أن ما جاز بيعه
جاز رهنه ، والرواية المذكورة لم أقف عليها بعد التتبع ، والموجود في كلام جملة
منهم انما هو بهذا العنوان من غير نقل مضمونها.
ومنه يظهر قوة القول بالعدم ، لما عرفت فيما تقدم في
تعليل عدم صحة بيع المنفعة ، مع عدم وجود ما يعارضه ، ويوجب الخروج عنه ، والرواية
المذكورة غير معلومة ، ولعلها من روايات العامة.
الثالثة ـ قالوا : لا يجوز رهن المسلم الخمر ولو كان عند
ذمي ، وكذا لو رهنها الذمي عند مسلم لم يصح وان وضعها على يد ذمي.
وللشيخ في الخلاف هنا قول بأنه يجوز للذمي أن يرهن عند المسلم
خمرا إذا وضعها عند ذمي ، لأن الحق في وفاء الدين للذمي ، فيصح الرهن ، كما لو
باعها ووفاه ثمنها ، لان الرهن لا يملك للمرتهن ، وانما يصير محبوسا عن تصرف
الراهن.
ورده الأكثر بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم ، وله تسلط
على الرهن بالبيع والاستيفاء ، وهو هنا ممتنع.
ومنعوا أيضا من رهن الأرض الخراجية الا أن تكون بعنوان
التبع لآثار التصرف من بناء وشجر ونحوهما ، وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة
بالنسبة إلى البيع.
ومنعوا أيضا من رهن ما لا يصح إقباضه ، كالطير في الهواء
، والسمك في الماء الا أن يكون الطير مما يعتاد عوده ، والسمك في ماء محصور ،
فيصح.
واختلفوا فيما لو رهن عند الكافر عبدا مسلما أو مصحفا ،
فقيل بعدم الجواز ، لان ارتهانه لهما يقتضي الاستيلاء عليهما من بعض الوجوه ببيع
ونحوه ، وان كان في
يد غيره ، وهو سبيل عليهما منفي
بالآية ، ويؤيده القول بعدم جواز بيعهما على الكافر.
وقيل بالجواز إذا وضعا على يد مسلم ، لمنع تحقق السبيل
بذلك ، لأنه إذا لم يكن تحت يده لم يستحق الاستيفاء من قيمته الا ببيع المالك ، أو
من يأمره بذلك ، ومع التعذر رفع أمره الى الحاكم ليبيع ويوفيه ، ومثل هذا لا يعد
سبيلا.
أقول : قد قدمنا في المسألة السادسة من المقام الثاني من
الفصل الأول في البيع وأركانه من كتاب البيع ما في الاستناد الى هذه الآية في مثل
هذا الموضع ونحوه ، من النظر الذي شرحناه ثمة ، وأن المراد بالسبيل المنفي في
الآية انما هو من جهة الحجة والدليل ، كما ورد به الخبر في تفسير الآية المذكورة ،
وحينئذ فتبقى المسألة خالية من الدليل نفيا وإثباتا كسائر فروعهم التي من هذا
القبيل.
وأما ما ذكره القائل بالجواز إذا وضع على يد مسلم وأنه
بذلك يتحقق منع السبيل ، ففيه ما تقدم من إيرادهم على الشيخ في جواز رهن الخمر عند
المسلم إذا وضع على يد ذمي ، حيث أوردوا عليه بأن يد الذمي الودعي كيد المسلم ،
وله تسلط على الرهن بالبيع ، فإنه بعينه جار فيما ذكروه هنا ، لان يد المسلم هنا
يقام مقام الكافر ، ونيابته عنه كيد الكافر ، وما أطالوا به من التعليل لا يشفي
العليل ، ولا يبرد الغليل.
وبالجملة فإن الحكم في أمثال هذه الفروع مع خلوها عن
النصوص اعتمادا على هذه التعليلات لا يخلو من جازفة ، ولهم في هذا المقام جملة من
الفروع التي من هذا القبيل ، طوينا عن نقلها لما ذكرنا والله العالم.
الفصل الثالث في الحق والراهن والمرتهن
فههنا مقامان المقام الأول ـ في الحق الذي يؤخذ عليه
الرهن ، والمشهور أنه الدين الثابت في الذمة ، وظاهر اشتراط كونه دينا عدم جواز
الرهن على العين ، سواء كانت أمانة في يده كالوديعة ، والعارية الغير المضمونة
والمستأجرة ، أو مضمونة عليه كالمغصوبة ، والعارية المضمونة ، والمقبوض بالسوم ،
وعدم جواز
الرهن في الأول موضع وفاق ، كما ذكره
غير واحد منهم ، وان احتمل طرو الضمان بالتعدي في الوديعة ونحوها مما ذكر.
وأما في الثاني فهو أحد القولين ، حيث أطلقوا المنع عن
أخذ الرهن في الأعيان ، نظرا الى أن مقتضى الرهن استيفاء المرهون به من الرهن ،
وفي الأعيان يمتنع ذلك ، لامتناع استيفاء العين الموجودة من شيء آخر.
وقيل : بجواز الرهن عليها ، وبه صرح العلامة في التذكرة
، فقال : فالأقوى جواز الرهن عليها ، أى على الأعيان المضمونة (1) وأجابوا عما
علل به وجه المنع ، بأن الأمر لا ينحصر في الاستيفاء عند وجود العين ، بل يمكن
التوثق بالرهن ، لأجل أخذ عوضها عند تلفها ، قالوا : ولا يرد مثله في الأعيان التي
ليست مضمونة ، حيث يحتمل تجدد سبب الضمان ، لعدم كونها وقت الرهن مضمونة ، فان
الرهن انما يصح عند وجود سبب الضمان اما بدين أو ما في حكمه ، كالعين المضمونة ،
بخلاف ما يمكن تجدد سبب ضمانه ، كما سيتجدد من الدين ، وإطلاق الأدلة الدالة على
جواز الرهن على الحقوق يتناول محل النزاع ، والمراد بالثابت على الذمة في العبارة
المتقدمة ما كان مستحقا فيها ، أعم من أن يكون ثبوته مستقرا كسائر الديون أو غير
مستقر كالثمن في زمن الخيار ، وظاهر الأكثر أنه لا بد من ثبوته واستقراره في الذمة
قبل الرهن.
قال في التذكرة : يصح عقد الرهن بعد ثبوت الحق وتقرره في
الذمة ، وفي جوازه مع المقارنة وجه ، مال إليه في التذكرة حيث قال ـ بعد الكلام
المتقدم نقله عنه ـ : أما لو قارنه وامتزج الرهن بسبب ثبوت الدين مثل أن يقول :
بعتك هذا العبد بألف ، وارتهنت هذا الثوب به ، فقال المشترى : اشتريت ورهنت ، أو
قال : أقرضتك هذه الدراهم وارتهنت بها دارك فالأقرب الجواز انتهى.
__________________
(1) قال في المسالك : حيث جوز الرهن على الأعيان المضمونة
فمعناه الاستيفاء منه إذا تلف أو نقصت أو تعذر الرد ، والا فلا انتهى ـ منه رحمهالله.
وأيده المحقق الأردبيلي (قدسسره) بعموم الأدلة
وعدم ظهور مانع الا اشتراطهم ذلك ، وهو غير ثابت بالدليل في محل النزاع ، قال :
ولذا نجد تجويزهم في الدرك على الثمن في المبيع وغير ذلك فتأمل انتهى.
أقول : والمسألة لخلوها من النص الصريح لا يخلو من
الاشكال ، وان كان ما ذكره المحقق المشار اليه لا يخلو من قرب.
ثم انهم قد صرحوا بأنه لا يجوز الرهن على الحق الذي لا
يمكن استيفاؤه من من الرهن كالحق المتعلق بعين مخصوصة ، كما لو آجره نفسه شهرا أو
دابته المعينة ، أو داره ونحو ذلك ، فان تلك المنفعة لا يمكن استيفاؤها الا من تلك
العين المخصوصة ، حتى لو تعذر الاستيفاء منها لموت أو خراب أو نحوهما بطلت الإجارة
، بخلاف الإجارة المطلقة المتعلقة بالذمة ، كما لو استأجره على تحصيل عمل كخياطة
ثوب أو كتابة كتاب أو نحو ذلك بنفسه أو غيره ، فان الواجب عليه تحصيل تلك المنفعة
بأي وجه اتفق ، ومن أى عين كانت ، فيصح الرهن عليها ، لكونها حقا ثابتا في الذمة
يمكن استيفاؤه من الرهن.
فروع : الأول ـ هل يلحق بالأعيان المضمونة على تقدير
القول بجواز أخذ الرهن عليها أخذ الرهن على المبيع وثمنه؟ لاحتمال فساد البيع
باستحقاقهما أو نقصان قدرهما كيلا أو وزنا ، ونحو ذلك مما يوجب الضرر على أحد
المتبايعين ، قولان :
اختار أولهما الشهيد (رحمة الله عليه) وجماعة ، لتحقق
الفائدة ، وهي التوثق والإرفاق ، وقيل : بالعدم ، لعدم تحقق المقتضى الآن.
وأما ما يتجدد فلو جاز بالنسبة إليه لجاز أيضا في
الأمانات باعتبار ما يتجدد من موجبات الضمان ، مع أن ظاهرهم الإجماع على عدم جواز
الرهن عليها.
وأجيب بالفرق بين ما نحن فيه وبين الأمانات ، بأن ما
يتجدد من الأسباب للموجبة للضمان فيما نحن فيه كاشف عن حصوله من حين العقد ، كما
هو واضح في نقصان المبيع
أو الثمن ، أو ظهور استحقاقهما ،
فيكون عقد الرهن مضمونا في نفس الأمر على تقدير الحاجة إليه ، بخلاف الأمانات ،
فإن سبب الضمان متجدد ظاهرا وفي نفس الأمر ، فلا يتحقق المقتضى حين العقد ، وهو
جيد ، الا ان المسألة لخلوها من النصوص محل التوقف.
الثاني : المشهور أنه لا يصح الرهن على مال الجعالة لعدم
استحقاق المجعول له المال قبل تمام العمل وان شرع فيه ، وقيل بجوازه بعد الشروع
وان لم يتم ، لانتهاء الأمر فيه الى اللزوم ، كالثمن في مدة الخيار ونقل عن
العلامة في التذكرة.
ورد بعدم استحقاقه الآن شيئا وان عمل أكثره ، والفرق
بينه وبين المبيع في زمن الخيار ظاهر ، لان المبيع متى أبقى على حاله انقضت مدة
الخيار ، وثبت له اللزوم ، والأصل فيه عدم الفسخ ، بخلاف الجعالة ، فإن العمل فيها
لو ترك على حالة لم يستحق بسببه شيء ، والأصل عدم الإكمال.
الثالث : المشهور جواز الرهن على مال الكتابة مطلقا ،
لانه لازم للمكاتب بكلا معنييه ، ونقل عن الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وجماعة التفصيل
في ذلك ، بأنها ان كانت مطلقة فهي لازمة إجماعا فيجوز الرهن على مالها بغير خلاف ،
وان كانت مشروطة فهي جائزة من قبل العبد ، فيجوز له تعجيز نفسه فلا يصح الرهن على
مالها ، لانتفاء فائدة الرهن ، وهي التوثق ، إذ للعبد إسقاط المال متى شاء. ولانه
لا يمكن استيفاء الدين من الرهن ، لأنه ان عجز صار الرهن للسيد ، لانه من جملة مال
المكاتب.
أقول : ومنشأ الخلاف من أن مال المكاتبة المشروطة هل هو
لازم مطلقا كما هو المشهور ، أو أنه جائز من قبل العبد ، كما يدعيه الشيخ ومن
تبعه.
وقد احتج الأصحاب على لزومه مطلقا بالأدلة العامة ، مثل
قوله عزوجل (1) «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» ونحوه ومتى كان لازما تحققت الفائدة ،
وصح الرهن عليه ، قالوا : ـ ومع تسليم ما ادعاه الشيخ من جوازها ـ لا يمتنع الرهن
، كالثمن في مدة الخيار
__________________
(1) سورة المائدة الآية ـ 1.
فإنه يجوز الرهن عليه مع كونه في معرض
السقوط بانقضاء الخيار ولزوم البيع.
ونقل عن شيخنا الشهيد الثاني في الروضة قولا ثالثا ، وهو
ان المشروطة جائزة من الطرفين ، والمطلقة لازمة من طرف السيد خاصة ، قال : ويتوجه
عدم صحة الرهن ايضا كالسابق ، ونقل هذا القول في باب المكاتبة من الكتاب المذكور
عن ابن حمزة ، ثم قال : وهو غريب.
أقول : لعل وجه غرابته من حيث الإجماع المدعى عندهم على
لزوم المطلقة ، وانما الخلاف في المشروطة.
الرابع ـ قالوا : لو رهن على مال رهنا ثم استدان مالا
آخر وجعل ذلك الرهن عليهما معا جاز ، لعدم المانع منه مع وجود المقتضى ، فإن
التوثيق بشيء لشيء آخر لا ينافي التوثق لاخر به ، خصوصا مع زيادة قيمته على
الأول ، ولا يشترط فسخ الرهن الأول ثم تجديده لهما ، بل يضم الثاني بعقد جديد ،
ويجوز العكس أيضا ، بأن يرهن على المال رهنا آخر فصاعدا ، وان كانت قيمة الأول تفي
بالدين الأول ، لجواز عروض ما يمنع من استيفائه منه ، ولزيادة الارتفاق ، وأنت
خبير بأنه ان كان الدين الأخر الذي يريد جعل الرهن الأول عليه لصاحب الدين الأول
فيمكن ما ذكروه ، وان كان لغيره فان وقع باذنه ورضاه فكذلك ، والا فإشكال.
قال في التذكرة ـ في مقام الرد على أبى حنيفة حيث نقل
عنه أنه لا يجوز الرهن عند غير المرهون وان وفى بالدينين جميعا بعد كلام في المقام
ما صورته : فإنه لا استبعاد في صحة الرهن عند غير المرتهن ، ويكون موقوفا على
اجازة المرتهن وان أجاز المرتهن الأول صح الثاني وهو مؤذن بتوقف صحة ذلك على اذن
المرتهن الأول وسيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ تحقيق المسألة في محلها.
المقام الثاني في الراهن والمرتهن ويشترط فيهما كمال
العقد ، وجواز التصرف برفع الحجر عنهما في التصرف المالي والاختيار ، فلو أكرها أو
أحدهما لم ينعقد ، والمراد أنه لم ينعقد انعقادا تاما
على حسب ما يقع من المختار ، لانه لو
أجازه بعد ذلك مختارا صح ، فهو كعقد الفضولي ، لا أنه يقع باطلا كعقد الغير الكامل
العقل ، الا أن يبلغ الإكراه إلى كونه رافعا للقصد ، فإنه يصير كعقد غير الكامل.
والكلام في هذا المقام يقع في مواضع الأول ـ يجوز لولي
الطفل رهن ماله إذا ألجأته الحاجة الى الاستدانة له ، مع مراعاة المصلحة في ذلك ،
ولو كانت المصلحة في بيع شيء من ماله دون الاستدانة فهو أولى ان أمكن البيع ،
وحيث يجوز الرهن يجب كونه في يد أمين يكون وديعة عنده.
وفي المسالك ان هذا الحكم لا خلاف فيه عندنا ، وانما
خالف فيه بعض الشافعية ، فمنع من رهن ماله مطلقا ، ولولي اليتيم أخذ الرهن له
وجوبا كما هو ظاهر كلام الأصحاب فيما لو أدان ماله أو باعه نسيئة.
قالوا : ويعتبر كون الرهن مساويا للحق ، أو زائدا عليه ،
ليمكن استيفاؤه منه ، وكونه بيد الولي أو بيد عدل ليتم التوثق والاشهاد على الحق
لمن يثبت به عند الحاجة إليه عادة ، فلو أخل ببعض هذه الشروط ضمن مع الإمكان ، وهو
جيد لما فيه من الاحتياط لمال اليتيم المبنى جواز التصرف فيه على المصلحة والغبطة
، فضلا عن عدم دخول نقص عليه.
الثاني ـ قالوا : لا يجوز إقراض مال اليتيم : لعدم ظهور
الغبطة والمصلحة الا أن يخشى عليه من التلف بحرق أو غرق أو نحوهما ، فإذا أقرضه
فليكن من ثقة ملي ، ويأخذ رهنا عليه ، ويشهد كما تقدم ، هذا إذا أقرضه غيره.
واما اقتراضه لنفسه ، فيحتمل كونه كذلك ، لانه تصرف في
مال اليتيم وهو منوط بالمصلحة ، ويحتمل جواز الاقتراض وان لم يظهر وجه للغبطة
والمصلحة من غير رهن متى كان ثقة مليا ، ويدل على هذا الوجه الأخير جملة من
الاخبار الدالة على جواز الاستدانة في الصورة المذكور.
منها ما رواه في الكافي بسندين أحدهما صحيح عن منصور بن
حازم (1)
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 131 التهذيب ج 6 ص 341.
«عن أبى عبد الله عليهالسلام في رجل ولى
مال اليتيم أيستقرض منه؟ قال : على بن الحسين عليهماالسلام كان يستقرض من
مال أيتام كانوا في حجره» ـ وزاد في الرواية الصحيحة «ولا بأس بذلك».
وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في بعض المسائل المقدمة
الرابعة من كتاب التجارة ، وظاهر الخبر المذكور جواز الاستقراض من غير رهن ، ولا
ظهور وجه للغبطة والمصلحة كما ادعوه.
قال في المسالك : ويحتمل جواز اقتراضه مع عدم الضرر على
الطفل ، وان لم يكن له مصلحة ، لإطلاق رواية أبي الربيع (1) عن الصادق عليهالسلام «انه سئل عن
رجل ولى لليتيم فاستقرض منه؟ فقال : ان على بن الحسين عليهالسلام». ثم ساق
الرواية كما قدمنا ، ثم قال : والرواية مع تسليم سندها مطلقة ، يمكن تقييدها
بالمصلحة ، ثم نقل عن التذكرة أنه شرط في جواز اقتراضه الولاية والملائة ومصلحة
الطفل ، واحتج عليه بالرواية المذكورة
أقول : ما ذكره من السند المشتمل على ابى الربيع مذكور
في التهذيب ، والذي في الكافي انما هو عن منصور بن حازم بسندين ، أحدهما صحيح ،
فلا مجال حينئذ للطعن بالسند ، وأما تقييدها بالمصلحة فالظاهر بعده ، ويعضد هذه الرواية
أيضا
رواية أحمد بن محمد بن أبى نصر (2) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن الرجل
يكون في يده مال لأيتام فيحتاج اليه فيمد يده فيأخذه وينوي أن يرده؟ فقال : لا
ينبغي له أن يأكل إلا القصد ، ولا يسرف وان كان من نيته أن لا يرده عليهم فهو
بالمنزل الذي قال الله تعالى عزوجل (إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً».
وهذه الرواية أظهر في عدم المصلحة لأن ظاهرها أن المسوغ
للاقتراض هو مجرد
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 132 التهذيب ج 6 ص 341.
(2) الكافي ج 5 ص 128 التهذيب ج 6 ص 339.
الاحتياج وان لم يكن ثمة مصلحة ، نعم
يجب تقييده بعدم الضرر كما يشير اليه قوله وان كان من نيته أن لا يرده إلى أخره.
ومن العجب استدلاله في التذكرة على اعتبار المصلحة
بالرواية الاولى ، مع أنها مطلقة ، ثم ظاهر جملة منهم العلامة في التذكرة أنه
يشترط في إقراضه غيره الوثاقة والملاثة والرهن جميعا مع الإمكان ، وأسقط اعتبار
الرهن مع عدم إمكانه.
وظاهر بعضهم أنه مع إمكان الرهن لا يعتبر كونه ثقة ولا
مليا ، لانضباط الدين بالرهن ، والظاهر أنه الأقرب ، وان كان الأحوط ، وظاهرهم انه
مع تعذر الرهن والوثاقة لا يجوز الإقراض ، واستشكله بعضهم حيث يؤدى تركه الى تلف
المال ، كالحنطة تتلف بالسوس ونحوها ، فإنه لا يزيد على أكل المقترض له ، قال : بل
الظاهر أن المقبوض كذلك أولى ، لإمكان حصوله منه بخلاف ما لو ترك ، وعلى تقدير
تحقق عدم الوفاء وتحقق التلف بدون الإقراض ، يمكن أولوية الإقراض لثبوته في ذمته ،
فيحتمل تخلصه أو وارثه منه ، أو أخذه في الآخرة ، بخلاف التلف من الله الا أن يقال
: بثبوت العوض عليه تعالى ، فيحتمل ترجحه لأنه أكثر.
الموضع الثالث : لا يخفى أن مجرد إطلاق الرهن لا يقتضي
كون المرتهن وكيلا في بيع الرهن لو تعذر الأداء. نعم يجوز له ان يشترط كونه وكيلا
في البيع عند الحلول وتعذر الوفاء ، لانه من الشروط السائغة ، وكذا يجوز اشتراطها
لوارثه من بعده أو وصيه بعد موته ، وكذا يجوز اشتراطها لأجنبي غيره ، وغير وارثه
ووصيه ودليل لزوم الشرط المذكور ما تقدم من أدلة وجوب الوفاء بالشروط الواقعة في
العقود اللازمة ، ولما كان الرهن لازما من جهة الراهن فقط ، كانت الوكالة لازمة من
جهته ، وأما من جانب المرتهن فلا : وله عزل نفسه وكذا الغير فإنه لمصلحته ، وهل
للراهن فسخها بعد ذلك؟ قولان ، أظهرهما العدم ، لما عرفت من أن عقد الرهن لازم من
جهته ، فيلزم ما شرط فيه كذلك.
احتج القائلون بالجواز بوجوه : أحدها ـ أن الوكالة من
العقود الجائزة ومن شأنها تسلط كل منهما على الفسخ ، وثانيها ـ أن الشروط لا يجب
الوفاء بها
وان كانت في عقد لازم ، بل غايتها
تسلط المشروط له على فسخ العقد المشروط فيه ، وثالثها ـ أن لزوم الشرط انما يكون
مع ذكره في عقد لازم كالبيع ونحوه ، والرهن ليس كذلك ، فان ترجيح أحد طرفيه على
الأخر ترجيح من غير مرجح.
والجواب عن الأول أن الوكالة وان كانت في نفسها ومن حيث
هي كذلك ، الا أنه لا ينافي حصول اللزوم لها بعارض ، كجعلها شرطا في عقد لازم وهو
هنا كذلك.
وعن الثاني ـ بمنع ما ذكره ، وقد تقدم تحقيق المسألة في
المسألة الثانية من المقام الثاني في أحكام الخيار من كتاب البيع ، وأن الأظهر هو
وجوب الوفاء بالشرط الواقع في العقد اللازم.
وعن الثالث ـ بما قدمنا من أن عقد الرهن لما كان لازما
من طرف الراهن كان ما يلتزمه الراهن لازما من قبله ، عملا بمقتضى اللزوم ، والشرط
وقع من الراهن على نفسه فيلزم ، ولما كان من طرف المرتهن جائزا كان ما يلتزمه كذلك
، فيجوز له فسخ الوكالة ، لأنها حقه ، فيجوز له تركه.
وتبطل الوكالة بموت المشروط له ، لا من حيث كونها من
العقود الجائزة ومن شأنها أن تبطل بالموت ، بل من حيث أن الغرض من الوكالة الاذن
في التصرف ، فيقتصر فيها على من أذن له ، فإذا مات بطلت من هذه الجهة. كما تبطل
العقود اللازمة الجارية على نحو ذلك ، كالإجارة المشروطة فيها العمل بنفسه ، فإنها
بموته تبطل وأما أصل عقد الرهن فلا يبطل بموت أحدهما ، لأنه وثيقة على الدين ،
فيبقى ببقائه فعلى هذا لو كانت الوكالة للمرتهن فإنه بموته ينتقل الرهانة إلى
وارثه ، دون الوكالة ، الا أن يكون مشترطة للوارث.
ولو كان المرتهن وكيلا في بيع الرهن ، فهل يجوز له
ابتياعه وتولى طرفي العقد أم لا؟ قولان : وعلل الأول ـ بأن الغرض وهو البيع بثمن
المثل حاصل ، وخصوصية المشتري ملغاة ، حيث لم يتعرض لها.
وعلل الثاني ـ بأن ظاهر الوكالة لا يتناوله ، قال في
المسالك بعد نقل ذلك : و
الأقوى الجواز في كل وكالة انتهى.
والمشهور جواز البيع على ولده بطريق أولى. ونقل عن ابن
الجنيد المنع من البيع على نفسه وولده وشريكه ومن يجرى مجريهما للتهمة.
أقول : ومرجع المسألة الاولى الى جواز بيع الوكيل من
نفسه وعدمه ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في المقدمة الثانية في آداب التجارة
من كتاب التجارة ، وكذا في بعض مواضع المسألة الرابعة من المقام الثاني من الفصل
الأول في البيع من الكتاب المذكور ، وأما ما نقل عن ابن الجنيد من التعميم المذكور
فلم نقف له على مستند معتمد.
الموضع الرابع : المشهور ان الراهن إذا مات وعليه ديون
يقصر ماله عنها ، فالمرتهن أحق باستيفاء دينه من الرهن ، دون غرماء الميت ، وعلل
بأن ذلك مقتضى الرهانة ، وأنه استحق الاستيفاء من المرتهن قبل تعلق سائر الديون
بالأموال والتركة ، فلا يشاركه أحد ، وهو جيد الا أن ما وصل إلينا من الاخبار
المتعلقة بذلك على خلافه.
ومنها ما رواه الشيخ عن عبد الله بن الحكم (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل أفلس وعليه
دين لقوم ، وعند بعضهم رهون ، وليس عند بعضهم فمات ، ولا يحيط ماله بما عليه من
الدين ، قال : يقسم جميع ما خلف من الرهون وغيرها على أرباب الدين بالحصص». ورواه
الصدوق بإسناده عن محمد بن حسان عن أبى عمران الأرمني عن عبد الله بن الحكم مثله.
وما رواه الشيخ والصدوق جميعا عن محمد بن عيسى بن عبيد
عن سليمان بن حفص المروزي (2) قال : «كتبت
الى أبى الحسن عليهالسلام في رجل مات
وعليه دين ، ولم يخلف شيئا إلا رهنا في يد بعضهم فلا يبلغ ثمنه أكثر من مال
المرتهن ، أيأخذه بماله أو هو وسائر الديان فيه شركاء؟ فكتب عليهالسلام جميع الديان
في ذلك سواء ،
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 7 ص 178 الفقيه ج 3 ص 196.
يوزعونه منهم بالحصص» الحديث. ولم أر
من تعرض للجواب عن الخبرين المذكورين من القائلين بالقول المشهور.
والمشهور وجوب تقديم صاحب الرهن أيضا فيما لو كان الراهن
حيا ، بل صرح بعض محققي متأخري المتأخرين بأن ذلك إجماع ، قال : ومستنده كون ذلك
من خصائص الرهن ، فان الدين المتعلق بالرهن لا محالة له تعلق بالاستيفاء ، وان ذلك
من فوائده التي شرع لها.
أقول : ولم أقف هنا على نص ينافي ذلك ، فلا بأس بالقول
به ، وانما الإشكال في الميت ، فان ظاهرهم القول بالاختصاص ، بل لم أقف على مخالف
صريح في الحكم المذكور ، وصريح الخبرين المذكورين التشريك ، واطراحهما ـ والخروج
عنهما بغير معارض ـ مشكل ، فالظاهر هو القول بما دلا عليه من التشريك ، ويكون
الحكم هنا مستثنى من قاعدة الرهن التي أشاروا إليها وتمسكوا بها.
ونقل عن بعض الفضلاء المعاصرين (1) (قدس الله روحه)
القول بذلك ، بعد أن اختاره عن ظاهر الصدوق في الفقيه ، ولعله لذكره خبر المروزي
في الكتاب المذكور ، بناء على ما ذكره في صدر كتابه ، ونقله عن المحدث الشيخ محمد
بن الحسن الحر ، وعن جده العلامة المحدث السيد نعمة الله الجزائري طاب ثراهما ، ثم
قال : وهو لازم على جميع أهل الاخبار ، لصراحتهما في المطلوب ، وسلامتهما من
المعارض.
ثم نقل عن الفاضل المشهور بخليفة سلطان ـ في حواشيه على
كتاب الفقيه ـ تأويل الخبرين بأن المراد ما رهنه بعد الحكم بإفلاسه ، ثم رده بأنه
مع يعده غير محتاج اليه لتوقفه على وجود المعارض ، ثم قال : وما استندوا إليه في
التسوية بين الحي والميت ـ من سبق تعلق حق المرتهن بالرهن ـ يمكن منعه ، بما أورده
ابن فهد في المهذب
__________________
(1) هو الفاضل الآقا السيد عبد الله بن المقدس السيد نور الدين
بن العلامة السيد نعمة الله الجزائري (نور الله تعالى مراقدهم) في بعض أجوبة مسائل
له ـ منه رحمهالله.
من أن الحي له ذمة يتعلق بها ديون الباقين ، ويمكن
وفاءهم مع حياته ، وبعد الموت يتعلق حقوق الديان بأعيان التركة ، فيتساوى الجميع
في ذلك ، نظير ما قالوه في غريم الميت الذي يجد عين ماله ، أنه ليس له أخذها ، لان
دينه ودين غيره متعلق بذمة الميت ، وهم مشتركون فيه ، وان كان في ذلك كلام بيناه
في محله انتهى كلامه (قدسسره) وهو جيد.
الموضع الخامس ـ المشهور أنه ليس للمرتهن التصرف في
الرهن مطلقا الا بإذن الراهن ، فان تصرف لزمته الأجرة في ماله أجرة ، كركوب الدابة
وسكنى الدار ، لانه انتفاع بمال الغير بغير اذنه ، فيضمن أجرته المثلية في المثل ،
أو القيمة فيما يضمن كذلك ، كاللبن ونحوه ، ولو أنفق على الدابة فإن كان بأمر
المرتهن رجع بها عليه ، والا استأذنه ، فإذا امتنع أو غاب رجع الى الحاكم الشرعي ،
وان تعذر أنفق بنية الرجوع. وأشهد على ذلك ، ليثبت له به الحق.
وقال الشيخ في النهاية : وإذا كان الرهن دابة فركبها
المرتهن كانت نفقتها عليه ، وكذلك ان كانت شاة شرب لبنها كانت عليه نفقتها ، وإذا
كان عند الإنسان دابة أو حيوان رهنا فان نفقتها على الراهن دون المرتهن ، فإن أنفق
المرتهن عليها كان له ركوبها والانتفاع بها ، أو الرجوع على الراهن بما أنفق.
وقال ابن إدريس بعد كلام في المقام : والأولى عندي أنه
لا يجوز له التصرف في الرهن على حال ، للإجماع على أن الراهن والمرتهن ممنوعان من
التصرف في الرهن.
وقال أبو الصلاح : يجوز للمرتهن إذا كان الرهن حيوانا ،
فيكفل مؤنته أن ينتفع بظهره أو خدمته أو صوفه أو لبنه وان لم يتراضيا ، ولا يحل شيء
من ذلك من غير تكفل مؤنة ولا مرضاة ، والاولى ان تصرف قيمة منافعه في مؤنته.
أقول : والذي وقفت عليه في هذا المقام من الاخبار ما
رواه ثقة الإسلام في الكافي عن أبى ولاد (1) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يأخذ
الدابة والبعير
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 236 الفقيه ج 3 ص 196.
رهنا بماله أله أن يركبه؟ قال : فقال
: ان كان يعلفه فله أن يركبه ، وان كان الذي رهنه عنده يعلفه ، فليس له أن يركبه».
ورواه الصدوق في الفقيه عن ابن محبوب عن أبى ولاد مثله ، إلا أنه عبر بضمير
التثنية في المواضع الخمسة ، ورواه الشيخ في الصحيح ايضا مثله.
وما رواه الشيخ عن السكوني (1) «عن جعفر عن
أبيه عن آبائه عن على عليهمالسلام ، قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآله : الظهر يركب
إذا كان مرهونا ، وعلى الذي يركبه نفقته ، والدر يشرب إذا كان مرهونا وعلى الذي
يشرب نفقته». ورواه الصدوق عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر بن محمد عليهالسلام.
والخبران كما ترى دالان بظاهرهما على ما ذكره الشيخ في
النهاية ، والأصحاب حملوهما على ما إذا أذن له الراهن في الإنفاق مع تساوى الحقين.
وأنت خبير بما فيه من البعد عن سياق الخبرين ، سيما
الأول ، لأن السائل سأله عن الرجل يأخذ الدابة أو البعير إله أن يركبه يعنى من غير
اذن الراهن ، والا فمع الاذن لا معنى للسؤال بالكلية ، فأجاب عليهالسلام بأن له ذلك ان
كان يعلفه ، واعتبار مساواة الحقين مع عدم انضباط الركوب ـ واحتماله القلة والكثرة
، وان أمكن انضباط العلف ـ بعيد جدا ، وتخصيص القواعد ـ التي ألجأتهم الى هذا
التأويل ـ بهذين الخبرين سيما الأول لصحته وصراحته غير بعيد
ويظهر من الفاضل الخراساني في الكفاية الميل الى ما ذهب
اليه الشيخ ، حيث قال بعد نقل الصحيحة المذكورة : وقول الشيخ قوى ، ويؤيده رواية
السكوني انتهى وهو جيد.
ولو كان للرهن غلة وفوائد وتصرف فيها المرتهن وجب عليه
أن يحتسبها من دينه ، وبذلك تكاثرت الاخبار مضافا إلى اتفاق الأصحاب.
ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن
ابن
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 175 الفقيه ج 3 ص 195.
سنان (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «قضى
أمير المؤمنين عليهالسلام في كل رهن له
غلة أن غلته تحتسب لصاحب الرهن مما عليه».
وعن محمد بن قيس (2) في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام «أن أمير
المؤمنين عليهالسلام قال : في
الأرض البور يزرعها الرجل ليس فيها ثمرة فزرعها وأنفق عليها من ماله : أنه تحتسب
له نفقته وعمله خالصا ، ثم ينظر نصيب الأرض فيحتسب من ماله الذي ارتهن به الأرض
حتى يستوفى ماله ، فليدفع الأرض إلى صاحبها».
وما رواه في الفقيه عن الحسن بن محبوب عن الكرخي (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل رهن
بماله أرضا أو دارا لهما غلة كثيرة ، فقال : على الذي ارتهن الأرض والدار بماله أن
يحسب لصاحب الأرض والدار ما أخذ من الغلة ويطرحه عنه من الدين الذي له».
وعن محمد بن قيس (4) في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام قال : «ان رهن
رجل أرضا فيها ثمرة فإن ثمرتها من حساب ماله ، وله حساب ما عمل فيها وأنفق منها ،
وإذ استوفى ماله فليدفع الأرض إلى صاحبها».
وإطلاق هذه الاخبار شامل لما لو كان التصرف باذن الراهن
أو بغير اذن ، ولا فرق بينهما في الحكم المذكور الا باعتبار الإثم وعدمه.
قال الصدوق في كتاب المقنع : إذا كان الرهن دارا لها غلة
فالغلة لصاحب الدار ، فان سكنها المرتهن لم تكن عليه غلتها لصاحبها ، الا أن يكون
استأجرها منه ، فان آجرها فعليه أن يحسب كراها من رأس ماله.
قال في المختلف : وهذا الإطلاق ليس بجيد ، بل ينبغي
التقييد بالسكنى باذن الراهن ، والظاهر أن مراده ذلك.
أقول من العجب أن الصدوق لا يفتي في هذا الكتاب الا
بمتون الاخبار ، مع ان
__________________
(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 235.
(3 ـ 4) الفقيه ج 3 ص 196.
كلامه هنا مما يخالف ما نقلناه من
الاخبار ، مع عدم وجود خبر به فيما وصل إلينا من الاخبار والله العالم.
الموضع السادس ـ قد صرحوا بأنه إذا لم يكن المرتهن وكيلا
في البيع اما لعدم الوكالة ، أو لبطلانها بموت الراهن كما تقدم (1) فإنه يجوز له
لو مات الراهن وخاف جحود الورثة للدين أن يبيع بنفسه ، ويستوفى حقه ، ويرجع الباقي
ان كان على الورثة ، وكذا يجوز له لو خاف جحود الرهن أيضا ولم يكن وكيلا ، وينبغي
أن يعلم ان ذلك مع البينة التي يمكن بها إثبات الحق عند الحاكم الشرعي ، والا وجب
أن يثبت عنده الدين والرهن ، ويستأذنه في البيع ، كذا قالوا :
ويدل على أصل الحكم المذكور ما رواه الصدوق والشيخ عن
سليمان بن حفص المروزي (2) «أنه كتب الى
أبى الحسن عليهالسلام في رجل مات
وله ورثة ، فجاء رجل وادعى عليه مالا وأن عنده رهنا فكتب عليهالسلام ان كان له على
الميت مال ، ولا بينة له فليأخذ ماله عما في يده ، وليرد الباقي على الورثة ، ومتى
أقر بما عنده أخذ به ، وطولب بالبينة على دعواه وأوفى حقه بعد اليمين ، ومتى لم
يقم البينة والورثة ينكرون ، فله عليهم يمين علم ، يحلفون بالله ما يعلمون له على
ميتهم حقا».
وظاهر الخبر أن أخذه مما في يده مشروطة بعدم البينة ،
كما ذكره الأصحاب ، وفي معناه عدم إمكان الإثبات عند الحاكم لآمر آخر غير عدم
البينة ، ويؤيده قبح التصرف في مال الغير إلا بإذنه ، خرج صورة عدم إمكان الإثبات
للضرورة والإجماع ، فبقي ما عداه ، وينبغي أن يراعى في الخوف الموجب للتصرف ما كان
مستندا إلى القرائن المفيدة للظن الغالب بجحود الورثة أو الراهن ، فلا يكفى مجرد
توهم ذلك والله العالم.
__________________
(1) في الموضع الثالث ان الوكالة من العقود الجائزة ومن شأنها
أن يبطل بالموت كما صرح به الأصحاب ـ منه رحمهالله.
(2) التهذيب ج 7 ص 178 الفقيه ج 3 ص 198.
السابع : الظاهر أنه لا خلاف في تحريم التصرف لكل من
الراهن والمرتهن في الرهن إلا بإذن الآخر ، أما المرتهن فظاهر ، لانه غير مالك ،
ومجرد الرهن لا يستلزم جواز التصرف.
ويدل عليه أيضا جملة من الاخبار ، منها ما رواه الشيخ في
التهذيب عن ابن بكير (1) في الموثق قال
: «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) ، عن الرجل
رهن رهنا ثم انطلق ، فلا يقدر عليه أيباع الرهن؟ قال : لا حتى يجيء صاحبه».
وما رواه المشايخ الثلاثة «عطر الله مراقدهم ، عن ، عبيد
بن زرارة (2) عن أبى عبد
الله (عليهالسلام) «في رجل رهن
رهنا الى وقت غير موقت ، ثم غاب هل له وقت يباع فيه رهنه؟ قال : لا حتى يجيء». وفيهما
دلالة لا سيما الثانية على جواز الرهن من غير تعيين وقت ، ولا وكالة في البيع ،
وعلى المنع من البيع على تقدير التعذر.
وما رواه في الكافي والتهذيب والفقيه عن إسحاق بن عمار (3) في الموثق
برواية الثالث قال : «سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يكون
عنده الرهن ، فلا يدرى لمن هو من الناس ، فقال : لا أحب أن يبيعه حتى يجيء صاحبه
، قلت : لا يدرى لمن هو من الناس؟ فقال : فيه فضل أو نقصان؟ فقلت : فان كان فيه
فضل أو نقصان فقال : ان كان فيه نقصان فهو أهون يبيعه فيؤجر فيما نقص من ماله ،
وان كان فيه فضل فهو أشدهما عليه يبيعه ويمسك فضله حتى يجيء صاحبه» (4). وفي رواية
الفقيه قد ـ
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 169.
(2) الكافي ج 5 ص 234 التهذيب ج 7 ص 169 الفقيه ج 3 ص 197.
(3) الكافي ج 5 ص 233 التهذيب ج 7 ص 168 الفقيه ج 3 ص 197.
(4) أقول : احتمل بعض مشايخنا المحدثين من متأخر المتأخرين أن
يكون قوله يبيعه ويمسك فضله بأن يكون المبيع مجموع الرهن ، وعلى هذا المراد لفضله
الباقي من الثمن زائدا على الدين ، وأن يكون المبيع قدر حقه ، ويكون المراد
سقط بعد الناس الاولى ، الى الناس
الثانية ، وحمل البيع هنا على كونه وكيلا أو بإذن الحاكم الشرعي.
قال في المختلف : إذا حل الدين لم يجز بيعه الا أن يكون
وكيلا ، أو يأذن له الحاكم ، قاله ابن إدريس وهو جيد ، وأطلق أبو الصلاح جواز
البيع مع عدم التمكن من استيدان الراهن ، ولا يبعد عندي العمل بظاهر الخبر في
الصورة المذكورة من بيع المرتهن من غير أحد الأمرين ، بناء على ظاهر الاذن منه (عليهالسلام) هنا ، ولعل
وجه الأشدية في صورة الفضل من حيث أنه يلزمه حفظ الفضل الى أن يظهر صاحبه.
بقي الكلام في أن هذا الخبر دل على جواز البيع مع التعذر
، وما قبله دل على المنع ، كما قدمنا الإشارة اليه ، ويمكن الجمع بالفرق بين
الموقت وغيره ، فيحمل الأول على غير الموقت ، كما هو ظاهر الخبر المذكور ، والثاني
على الموقت والمؤجل ، فإنه متى حل الأجل جاز البيع على النحو المتقدم ، ويحتمل حمل
الخبر الأول على الكراهة المؤكدة ، كما يشير اليه قوله عليهالسلام في الخبر
الثاني «لا أحب أن يبيعه حتى يجيء صاحبه».
وأما الراهن فظاهر الأصحاب كما عرفت أنه كذلك ، وهو
بالنسبة الى ما يخرجه عن كونه رهنا كبيع وعتق ونحوهما ، أو يوجب نقصانه ، كإجارة
ونحوها مما لا اشكال فيه ، وأما التصرف بما لا يوجب شيئا من ذلك ، كتزويج العبد
وتقبيل الأمة وتعليمها الصنعة ونحو ذلك فلا دليل عليه ، الا أن يدعى الإجماع في
المقام ومما يؤيد ما ذكرناه ما رواه ، في الكافي في الصحيح أو الحسن عن
__________________
بالفضل باقي الرهن والأشدية على هذا الوجه لعلها باعتبار
الضمان ، أو باعتبار عدم تيسر مشتر لهذا الباقي ، أقول : لا يخفى بعد الحمل الثاني
وسياق الخبر انما يقتضي معنى الأول كما يشير اليه كلامه عليهالسلام في صورة النقصان ومرجع الضمائر في سياق
الخبر انما هو الى الرهن ، والحمل على قدر الحق تقتضي تفكيك الضمائر وهو معيب ـ منه
رحمهالله.
الحلبي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل رهن
جارية عند قوم أيحل له أن يطأها؟ قال : ان الذين ارتهنوها يحولون بينه وبينها ،
قلت أرأيت ان قدر عليها خاليا قال : نعم لا أرى هذا عليه حراما».
وعن محمد بن مسلم (2) في الصحيح عن أبى جعفر عليهالسلام «في رجل رهن
جاريته قوما أيحل له أن يطأها قال : فقال : ان الذين ارتهنوها يحولون بينه وبينها
، قلت : أرأيت ان قدر عليها خاليا ، قال نعم لا أرى به بأسا». ورواهما الشيخ (رحمهالله) أيضا والصدوق
روى الثاني بإسناده عن العلاء عن محمد بن مسلم مثله ، الا أنه قال «ان قدر عليها
خاليا ولم يعلم به الذين ارتهنوها».
ومن العجب ما نقل عن بعضهم من عدم جواز الوطي وان أذن
المرتهن ، والاخبار الصحيحة كما ترى تنادي بالجواز مع عدم الاذن.
وقال في الدروس وفي رواية الحلبي يجوز وطؤها سرا وهي
متروكة ، ونقل في المبسوط الإجماع عليه ، وأنت خبير بما فيه ، فان ترك الرواية
سيما مع صحة سندها وتأيدها بالصحيحة الأخرى مع عدم المعارض لا يخلو من مجازفة.
وبالجملة فإني لا أعرف لهم دليلا على ما يدعونه من
العموم ، الا دعوى الإجماع ، كما سمعت من نقله عن المبسوط ، ونحوه ما تقدم في كلام
ابن إدريس في الموضع الخامس ، وفيه ما عرفت في غير موضع.
قال في المسالك : لما كان الرهن وثيقة لدين المرتهن لم
يتم الوثيقة إلا بالحجر على الراهن ، وقطع سلطنته ، فيتحرك إلى الأداء ، فمن ثم
منع الراهن من التصرف في الرهن ، سواء أزال الملك كالبيع أم النفقة كالإجارة أم
انتقض المرهون وقل الرغبة فيه ، كالتزويج ، أم زاحم المرتهن في مقصوده كالرهن
لغيره ، أم أوجب انتفاعا وان لم يضر بالرهن كالاستخدام والسكنى ، ولا يمنع من تصرف
يعود نفعه على الرهن
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 235 التهذيب ج 7 ص 169.
(2) الكافي ج 5 ص 237 التهذيب ج 7 ص 169 الفقيه ج 3 ص 201.
كمداواة المريض ، ورعى الحيوان ،
وتأبير النخل ، وختن العبد ، وخفض الجارية ان لم يؤد الى النقص انتهى.
وهو ظاهر في تخصيص جواز تصرف الراهن بما يعود به النفع
على الرهن ، وأما ما عداه فهو محرم ، وحينئذ فمحل البحث معهم في ما عدا هذا الموضع
، وما عدا ما أشرنا إليه آنفا مما يخرجه عن كونه رهنا أو يوجب نقصا ، فإنه لا بحث
بينهم فيه.
وظاهر كلامه هنا أن الموجب للتحريم في محل البحث هو
التحرك إلى أداء الدين ، فإنه لو جاز له التصرف فيه ، والانتفاع به في الوجوه
المذكورة مما عدا ما استثنى لم يتحرك إلى الأداء.
وفيه مع الإغماض عما عرفت ـ في غير مقام من عدم صلاحية
أمثال هذه التعليلات لتأسيس الأحكام الشرعية ـ ان ذلك يمكن استدراكه ببيع الرهن
بعد حلول الأجل ، واستيفاء الدين كما هو قضية الرهن انتفع به أو لم ينتفع به ،
ونحن انما وافقناهم في صورة التصرف بما يزيل الملك أو يوجب النقصان لما في الأول
من فوات الرهن ، وفي الثاني من دخول الضرر على المرتهن ، وأما ما عدا ذلك فلا وجه
للمنع منه مع عدم النص ، ويخرج ما ذكرنا من الخبرين الصحيحين شاهدا.
والى ما اخترناه يميل كلام المحقق الأردبيلي (قدسسره) في شرح
الإرشاد حيث قال ـ بعد البحث في المقام وذكر الخبرين المتقدمين ـ ما لفظه :
وبالجملة المنع مطلقا غير ظاهر الوجه ، كما هو ظاهر أكثر العبارات ، خصوصا عن
الوطي ومثله ، أو أقل ضررا منه ، أو ما لا ضرر على الرهن مثل الاستخدام ، ولبس
الثوب إذا لم ينقص ولا يضر ، وسكنى الدار وركوب الدابة واستكتاب المملوك الى آخر
كلامه زيد في إكرامه وهو جيد.
ونحوه أيضا الفاضل الخراساني في الكفاية وهو ظاهر الصدوق
بناء على نقله صحيحة محمد بن مسلم وما ذكره في صدر كتابه والله العالم.
الثامن : إذا وطأ الراهن الأمة المرهونة بإذن المرتهن أو
بدونه وأحبلها صارت أم ولد ، لأنها لم تخرج من ملكه بالرهن ، وان منع من التصرف
فيها كما هو المشهور بينهم ، وعلى تقديره يأثم ويستحق التعزير مع عدم الاذن ، وعلى
ما قدمناه في سابق هذا الموضع من دلالة الخبرين الصحيحين على صحة الوطي مع عدم
الاذن فلا اثم ، ولا تعزير.
ثم انه مع الاحبال وصيرورتها أم ولد فهل تباع في دين
المرتهن؟ كما هو قضية الرهن أقوال : أحدها : جواز البيع مطلقا ، عملا بما دل على
بيع الرهن عند حلول الأجل وعدم أداء الراهن ، ولان حق المرتهن قد سبق الاستيلاد
المانع ، وهذا القول مختار الشهيدين.
وثانيها : المنع مطلقا عملا بما دل على المنع من بيع
أمهات الأولاد وهذا منها.
وثالثها : التفصيل بإعسار الراهن فتباع ، ويساره فلا
تباع ، ويلزمه القيمة من غيرها يكون رهنا ، وهذا القول نقل عن الشيخ في الخلاف ،
والعلامة في التذكرة.
ورابعها : التفصيل بجواز البيع مع وطئها بغير اذن
المرتهن ، والعدم مع وقوعه باذنه ، ونقل عن الشهيد (رحمهالله) في بعض
حواشيه. ومرجع الأقوال المذكورة إلى تعارض دليلي جواز بيع الرهن ، ومنع بيع أم
الولد ، فمن الأصحاب من جمع بينهما بالتفصيل المذكور في القولين الأخيرين ، ومنهم
من عمل بالترجيح ، كما في القولين الأولين ، فبعض رجح أدلة جواز بيع الرهن ،
والآخر رجح أدلة منع بيع أم الولد ، والحق في المسألة أن ما ذكر من التفصيل في كل
من القولين الأخيرين لا دليل عليه الا مجرد أمور اعتبارية ، وانما يبقى التعارض
بين أدلة جواز بيع الرهن وأدلة منع بيع أم الولد.
وظاهر شيخنا الشهيد الثاني الاستناد في ترجيحه أدلة جواز
بيع الرهن الى سبق سببه ، قال في المسالك : وأقوى ترجيح جانب الرهن بسبق سببه ،
فتجويز
البيع مطلقا أقوى وفيه ما لا يخفى.
وبالجملة فإنه قد تعارض إطلاق أدلة جواز بيع الرهن وإطلاق
أدلة المنع من بيع أم الولد ، وتخصيص أحد الإطلاقين بالآخر يحتاج الى دليل ، الا
أنى لم أقف بعد التتبع للاخبار على ما يدل منها على ما ذكروه ، وان اشتهر بينهم ،
بل ادعى الإجماع عليه من اختصاص الرهن بحق المرتهن ، فيطلب من الرهن بيعه إذا لم
يكن وكيلا عنه في البيع ، أو الاذن فيه ، فان فعل والا رفع الأمر إلى الحاكم
الشرعي كما ذكروه (رضوان الله عليهم).
بل ظاهر الاخبار المتقدمة في الموضع الرابع (1) من هذا المقام
انما هو العدم ، فيما إذا مات الراهن ، واستغرقت ديونه التركة ، حيث حكم عليهالسلام فيها بالتشريك
بين جميع هذه الغرماء ، وان كان الأصحاب لم يقولوا بمضمونها ، لخروجها عن قاعدتهم
المذكورة ، ولم أقف في الاخبار على ما ذكروه إلا في صورة ما لو خاف المرتهن جحود
الورثة ، كما مر في الموضع السادس (2) فإن الرواية قد صرحت في هذه الصورة
بأنه يأخذ ماله مما في يده ، واما ما عدا ذلك فلا ، وحينئذ فيقوى بناء على ما
ذكرناه القول بالمنع من البيع عملا بالأخبار الدالة على عدم جواز بيع أم الولد من
غير معارض في هذا المقام سوى صورة خوف الجحود.
لكن ربما نافى ذلك ما ورد في جملة من أخبار الرهن من
قولهم عليهمالسلام استوثق من
مالك ، إذ لا معنى للاستيثاق الا باعتبار أخذ الدين من الرهن بعد تعذر الأداء من
الراهن.
ومن الاخبار الدالة على ذلك صحيحة عبد الله بن سنان (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن السلم في
الحيوان والطعام ويرتهن الرجل بماله رهنا؟ قال : نعم استوثق من مالك».
__________________
(1) ص 259.
(2) ص 264.
(3) الفقيه ج 3 ص 165.
وفي موثقة سماعة (1) الواردة في أخذ الرهن على مال المسلم
ايضا «قال عليهالسلام : لا بأس أن
تستوثق من مالك». ونحوهما غيرهما ولعل هذه الاخبار ونحوها هي مستند الأصحاب فيما
ذكروه هنا ، وان كانت غير صريحة فيما ادعوه من القاعدة المذكورة ، فإن مجرد
الاستيثاق لا يدل على جواز البيع ، ولعله باعتبار الحجر عن الانتفاع به.
وكيف كان فالمسألة لا يخلو من الاشكال ، ثم انه ينبغي أن
يعلم أنها بالوطء بل بالحمل لا تخرج عن كونها رهنا ، إذ لا منافاة بينهما ، وان
منعنا من بيع أم الولد لإمكان موت الولد ، فإنه مانع ، وإذا مات عمل السبب السابق
عمله.
التاسع : لو وطأها المرتهن بغير اذن الراهن مكرها لها ،
فالذي ذكره جملة من الأصحاب أن عليه عشر قيمتها ان كانت بكرا ، ونصف العشر ان كانت
ثيبا ، وقيل : مهر أمثالها مطلقا ، لانه عوض الوطي شرعا.
ونقل عن الشهيد (رحمهالله) في بعض
حواشيه القول بتخير المالك بين الأمرين وهل يجب على كل من التقديرين المذكورين أرش
البكارة زائدا على المهر ، أو العشر؟ جعله شيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمالا
، وجزم به في الروضة ، قال : لانه حق جناية ، وعوض جزء فائت ، والمهر على
التقديرين عوض الوطي.
ثم اعترض على نفسه بأنه إذا وجب أرش البكارة صارت ثيبا
فيجب عليه مهر الثيب خاصة ، وأجاب بأنه إذا وطأها بكرا فقد استوفى منفعتها على تلك
الحال ، وفوت جزء منها ، فيجب عوض كل منهما ، فلا يتداخلان ، ولأن أحدهما عوض جزء
والأخر عوض منفعة.
وربما قيل : بدخوله في العشر ، وعدم دخوله في مهر المثل
، وأكثر عبارات الأصحاب هنا مطلقة ، ولو طاوعته فالمشهور أنه لا شيء عليه ،
استنادا الى قوله صلىاللهعليهوآله (2) «لا مهر لبغي».
وهو نكرة في سياق النفي فيعم ، ورد بمنع دلالته على موضع النزاع ،
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 42 الفقيه ج 3 ص 166.
(2) التهذيب ج 10 ص 36 لكن عن ابى جعفر عن آبائه عليهمالسلام مع اختلاف يسير.
لأن الأمة لا تستحق المهر ولا تملكه ،
وانما هو لمولاها فلا ينافي استحقاق مولاها ، مع كون التصرف وقع في ملكه بغير اذنه
، مع أن المهر شرعا انما يطلق على عوض بضع الحرة ، حتى سميت بسببه مهيرة ، بخلاف
الأمة فالنفي في النص محمول عليها ، قالوا : وبذلك يظهر أن ثبوت المهر أقوى ،
والمراد به أحد الأمرين السابقين فيما تقدم من القولين ، قيل : وعلى تقدير نفيه
كما هو المشهور لا شبهة في ثبوت أرش البكارة ، لأنها جناية على مال الغير ، فثبت
أرشها.
أقول : لم أقف في هذا المقام على نص يتعلق بما ذكروه من
هذه الأحكام بالنسبة إلى الزاني بأمة غيره ، رهنا كانت أم لا ، وان كان ظاهر
كلامهم الاتفاق على جل هذه الأحكام في الجملة.
والذي وقفت عليه مما ربما يناسبه ، ويمكن أن يكون هو
المستند لهم بالنسبة إلى العشر ، ونصف العشر ، ما رواه الكليني في الصحيح عن
الفضيل بن يسار (1) قال : «قلت :
لأبي عبد الله عليهالسلام في حديث قال :
قلت له : فما تقول في رجل عنده جارية نفيسة ، وهي بكر أحل لأخيه ما دون فرجها إله
أن يفتضها؟ قال : لا ليس له الا ما أحل منها ، ولو أحل له قبلة منها لم يحل له ما
سوى ذلك ، قلت : أرأيت ان أحل له ما دون الفرج ، فغلبته الشهوة فافتضها ، قال : لا
ينبغي له ذلك ، قلت : فان فعل أيكون زانيا قال : لا ، ولكن يكون خائنا ، ويغرم
لصاحبها عشر قيمتها ان كانت بكرا ، وان لم تكن بكرا فنصف عشر قيمتها». وصريحها أن
الواطئ في هذه الصورة ليس بزان ، وكذا صحيحة الوليد بن صبيح المتقدمة في المسألة
التاسعة من المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان من كتاب البيع (2) وموردها تدليس
المزوج للجارية ، وهي أخص من المدعى أيضا ، فإن ظاهر كلامهم أن هذا حكم الزاني
بأمة غيره ، وان كان لشبهة شراء أو تدليس أو نحو ذلك ، ولعل مستندهم
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 468.
(2) ج 19 ص 452.
أنه إذا ثبت ذلك في التزويج بتدليس
الولي ، وكذا في صورتي التحليل لغير الفرج وان لم يكن زانيا ففي صورة الزنا بطريق
أولى ، سيما مع قوله في صحيحة الوليد المشار إليها بعد ذكر العشر ونصف العشر ، بما
استحل من فرجها» فإنه ظاهر في أن وجوب ذلك مترتب على استحلاله ما ليس له شرعا «ولا
ريب أنه في صورة الزنا أشد وأفضع ، ولا أعرف هنا دليلا غير هاتين الروايتين ، فانى
بعد الفحص والتتبع لم أقف على غيرهما ، ومع تسليم اجراءهما في مطلق الزاني وأنه
يجب أن يكون الحكم فيه كذلك ، يبقى القول الثاني والثالث عاريين عن الدليل ، ونحو
ذلك القول في أرش البكارة ، سيما مع القول بزيادته على أحد الأمرين المذكورين ،
كما ذكره ذلك القائل.
وقد تقدم في المسألة الرابعة عشر في الجارية المشتركة
يطأها أحد الشركاء من المقصد الثاني من الفصل التاسع في بيع الحيوان (1) تحقيق البحث
في هذه المسألة ، وان جملة من الأصحاب قد منعوا وجوب الأرش في الصورة المذكورة ،
لعدم الدليل عليه ، والاكتفاء بوجوب المهر على القول به ، أو العشر أو نصفه على
القول الآخر والله العالم.
العاشر : الظاهر من كلام جملة من الأصحاب «رضوان الله
عليهم» أنه لو مات المرتهن ولم يعلم الرهن كان كسبيل ماله ، بمعنى أنه لم يعلم
وجود الرهن في التركة ولا عدمه ، فإنه يكون كسبيل مال المرتهن في الحكم بكونه
ميراثا ، ولا يحكم للراهن هنا بشيء ، لأن الأصل براءة الذمة من حقه ، إذ الرهن لم
يتعلق بالذمة حيث أنه أمانة ، ولا يتعلق أيضا بماله ، لأصالة بقاء ماله على ما كان
عليه ، من عدم استحقاق أحد فيه شيئا.
هذا بالنظر الى ظاهر الأمر وان احتمل بحسب الواقع كون الرهن
في التركة ومن جملتها ، فإن الأحكام الشرعية انما تبنى على الظاهر ، لا على الواقع
، سيما ان احتمال التلف بغير تفريط قائم.
__________________
(1) ج 19 ص 474.
والعجب أنهم «رضوان الله عليهم» ذكروا المسألة هنا كما
نقلها عنهم جازمين بالحكم المذكور ، مع أنه في باب القراض والوديعة قد استشكل جملة
منهم في الحكم بذلك ، نظرا الى ما ذكرناه هنا ، والى أن الأصل أيضا بقاء المال ،
لان المفروض أنه في يد المرتهن ، وللخبر عنه (1) صلىاللهعليهوآله «على اليد ما
أخذت حتى تؤدي». بل صرح جملة منهم في الوديعة ، وربما كان هو المشهور بأن الوديعة
في الصورة المذكورة تخرج من أصل التركة ، مع تصريحهم هنا بكون الرهن كسبيل مال
المرتهن ، والمسألة في المواضع الثلاثة من باب واحد ، بل الحكم في كل أمانة ،
وسيأتي مزيد تحقيق لذلك إنشاء الله تعالى في كتاب الوديعة.
الحادي عشر : إذا حل الأجل وتعذر الأداء فإن كان المرتهن
وكيلا فلا إشكال في جواز بيعه ، واستيفاء حقه ، والا لم يكن له البيع بنفسه ، لانه
تصرف في مال الغير بغير اذنه.
ويؤيده ما تقدم في الموضع السابع (2) من روايتي ابن
بكير وعبيد بن زرارة وحينئذ فعليه أن يرجع الى الراهن ، ويلزمه بالبيع أو الاذن
فيه ، فان امتنع رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، فيلزمه الحاكم بالبيع أو يبع عليه
كما يفعل ذلك في سائر الحقوق ، على ما رواه سماعة (3) عن أبى عبد
الله عليهالسلام «قال كان أمير
المؤمنين يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بالحصص ، فان أبى باعه
فقسمه فيهم يعنى ماله. بقي الكلام هنا في موضعين
أحدهما لو غاب الراهن ولم يقدر عليه ، والظاهر رفع الأمر
إلى الحاكم ليبيع عليه ، فان تعذر فليبعه المرتهن ، وقد تقدم في موثقة إسحاق بن
عمار في الموضع السابع ما يدل على جواز بيع المرتهن ، وظاهرها
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 503.
(2) ص 265.
(3) الكافي ج 5 ص 102 لكن عن عمار.
عدم التوقف على الرجوع الى الحاكم ،
الا أنه الاولى ، والأحوط ذلك.
وثانيهما : لو استلزم رفع الأمر إلى الحاكم إثبات الدين
مع عجزه عن الإثبات ـ لعدم البينة أو تقدم حضورها أو عدم كونها مقبولة ـ فالظاهر
أيضا جواز مباشرة المرتهن لذلك ، واستيفاء حقه لخبر (1) «لا ضرر ولا
ضرار».
ويؤيده جواز المقاصة في صورة جحود الدين وعدم البينة كما
ورد في الاخبار وخبر المروزي المتقدم في الموضع السادس (2) الدال على
جواز أخذ ماله مما في يده مع خوف جحود الورثة.
ونقل في المسالك القول بجواز مباشرة المرتهن وتوليه
البيع بنفسه في صورة عدم إمكان الإثبات وعدم إمكان الوصول للحاكم ، أما لعدمه أو
لكونه في بلد بعيد يشق التوصل اليه عن العلامة في التذكرة ، وهو ظاهر اختياره أيضا
في الكتاب المذكور.
وقد عرفت ما يؤيده ويدل عليه ، ولو أمكن الإثبات عند
الحاكم بالبينة لكن افتقر لي اليمين معها ، لكون المدعى عليه ميتا أو غائبا ، بناء
على المشهور ، فيمكن أن يقال : انه غير مانع من الرجوع الى الحاكم ، فلا يجوز له
الاستقلال بالأخذ بل يحلف ، وهو ظاهر اختياره في المسالك مع احتماله فيه الجواز
أيضا ، دفعا لمشقة الحلف بالله تعالى ، ولو أذن المرتهن في البيع بعد الحلول جاز
البيع بقي ، الكلام في التصرف في الثمن ، وقد أطلق جواز التصرف بناء على الاذن
المذكور ، وفصل آخرون ـ وهو الظاهر ـ بأنه ان كان الحق موافقا للثمن جنسا ووصفا
جاز التصرف ، كما قيل مثله فيما إذا كان ما في ذمة المديون ، مثل الدين جنسا ووصفا
، فإنه يجوز له الأخذ مقاصة من غير توقف على التراضي ، ولو لم يكن موافقا له لم
يجز إلا بإذن الراهن ، لأنها معاوضة أخرى ، كما أنه لا يجوز له التصرف في الرهن
لذلك وربما كان وجه الإطلاق هو أن جواز التصرف مفهوم من الاذن في البيع
__________________
(1) الكافي ج 5 ص 293.
(2) ص 264.
والتوكيل ، لأن فائدته جواز التصرف في
الثمن وهو جيد ان دل عليه شيء من قرائن المقام ، والا فالتفصيل أجود.
وأما لو اذن له في البيع قبل حلول الأجل جاز البيع ،
ولكن ليس له التصرف في الثمن الا بعد حلول الأجل ، لعدم الاستحقاق قبله ، والاذن
في البيع لا يقتضي تعجيل الاستيفاء ، وهل يكون الثمن في هذه الصورة رهنا فلا يجوز
للراهن طلبه أم لا؟ اشكال ، ولم يحضرني الان تصريح أحدهم بالحكم المذكور ، ويمكن
ترجيح العدم ، بأن حق المرتهن انما تعلق بالعين ، فلا يتعدى الى الثمن الا بدليل ،
وليس ، فليس. والله العالم.
الفصل الرابع في جملة من المسائل المتعلقة بالنزاع
الاولى : لو اختلف الراهن والمرتهن في الدين الذي على
الراهن مع عدم البينة ، فقيل : بأن القول قول الراهن بيمينه ، وهو المشهور ، ذهب
اليه الشيخ في النهاية والخلاف والمبسوط ، والصدوق ، وأبو الصلاح ، وابن البراج ،
وابن حمزة ، وابن إدريس ، والمحقق ، والعلامة ، والمتأخرون.
وقيل : بأن القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه ثمن
الرهن ، واليه ذهب ابن الجنيد حيث قال : والمرتهن يصدق في دعواه حتى يحيط بالثمن
ما لم يكن بينة ، فان زادت دعوى المرتهن على القيمة لا يقبل إلا ببينة ، وله أن
يستحلف الراهن على ما يقوله والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا المسألة ما
رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (1) في الصحيح عن أبى جعفر «عليهالسلام» «في رجل رهن
عند صاحبه رهنا لا بينة بينهما فيه ، فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف ، فقال صاحب
الرهن : انه بمأة ، قال : البينة على الذي عنده الرهن انه بألف وان لم يكن له بينة
فعلى الراهن اليمين». ورواه الشيخ في الصحيح ايضا مثله.
وما رواه الشيخان المذكوران عن ابن أبى يعفور (2) في الموثق عن
أبي
__________________
(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 237 التهذيب ج 7 ص 174.
عبد الله عليهالسلام قال : «إذا
اختلفا في الرهن فقال أحدهما : رهنته بألف درهم ، وقال الأخر : بمأة درهم ، فقال
يسأل صاحب الألف البينة فان لم يكن بينة حلف صاحب المأة» الحديث. وسيأتي تمامه إنشاء
الله تعالى في المسألة الاتية ورواه الصدوق بإسناده عن أبان (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام مثله.
وما
رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (2) في الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام «في رجل رهن عند صاحبه رهنا لا بينة
بينهما فادعى الذي عنده الرهن أنه بألف وقال صاحب الرهن : بمأة فقال : البينة على
الذي عنده الرهن أنه بألف فان لم يكن عنده بينة فعلى الذي له الرهن اليمين أنه
بمأة».
وهذه الاخبار كلها كما ترى ظاهرة في القول المشهور ،
ويعضدها أن ما دلت عليه هو مقتضى القواعد الشرعية ، لأن المرتهن يدعي الزيادة
والراهن منكر ، وقد تظافرت الاخبار (3) «بان البينة على المدعى ، واليمين على
المنكر».
ومن أخبار المسألة أيضا ما رواه الشيخ عن النوفلي عن
السكوني (4) «عن جعفر عن
أبيه عن على عليهمالسلام ، في رهن
اختلف فيه الراهن والمرتهن ، فقال الراهن : هو بكذا وكذا ، وقال المرتهن : هو بأكثر
قال على عليهالسلام : يصدق
المرتهن حتى يحيط بالثمن ، لأنه أمينه».
ورواه الصدوق بإسناده عن إسماعيل بن مسلم عن جعفر عن
أبيه عليهمالسلام مثله وهذا
الخبر هو مستند ابن الجنيد فيما تقدم نقله عنه ، والشيخ قد أجاب عنه بالحمل على أن
الاولى للراهن أن يصدق المرتهن.
وأقول : لا يبعد حمل الرواية المذكورة على التقية ، فإنه
أحد قولي العامة ، وان كان خلاف المشهور بينهم وكيف كان فهي قاصرة عن معارضة ما
قدمناه من الاخبار ،
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 199.
(2) التهذيب ج 7 ص 174.
(3) الوسائل الباب ـ 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
(4) التهذيب ج 7 ص 175 الفقيه ج 3 ص 197.
فحملها على أحد الأمرين المذكور متعين
، وليس بعد ذلك الا طرحها وإرجاعها إلى قائلها.
وهنا شيء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن بعض الأصحاب
كالمحقق في الشرائع نقل عن ابن الجنيد أن القول قول المرتهن ما لم يستغرق دعواه
ثمن الرهن ، والأكثر ومنهم المحقق في النافع ، عبروا بأن القول قوله ما لم يدع
زيادة على ثمن الرهن ، ومقتضى العبارة الاولى أنه مع الاستغراق الذي هو أعم من
الإحاطة بثمن الرهن أو الزيادة عليه لا يقدم قوله ، ومقتضى العبارة الثانية أنه لو
ادعى ما يحيط بالرهن خاصة ، فإنه يقدم قوله ، والظاهر أن منشأ ذلك من عبارة ابن
الجنيد المتقدمة ، فإنه في صدر العبارة جعل غاية التصديق إحاطة الدعوى بالثمن ،
والغاية خارجة عن المغيا ، فمفهومه أنه مع الإحاطة لا يصدق ، ثم قال في آخر
العبارة : فإن زادت دعوى المرتهن على القيمة لا يقبل ، ومفهومه أنه يقبل مع عدم
الزيادة ، فإن أحاط بالثمن فقد تعارض في كلامه مفهوم الغاية ، ومفهوم الشرط ،
فاختلف النقل عنه لذلك.
والمفهوم من الرواية يوافق ما ذكره ابن الجنيد في صدر
عبارته ، حيث لم يتعرض في الرواية للزيادة ، وكان مبنى الاختلاف أن المحقق في
الشرائع نظر الى اعتضاد صدر عبارة ابن الجنيد بالرواية ، وبنى على خروج الغاية ولم
يلتفت الى مفهوم الشرط ، فنقل عنه أنه يقبل قوله ما لم يستغرق دعواه الرهن ، ومن
حمله الاستغراق بالإحاطة بثمنه ، والأكثر كأنهم غفلوا عن الرواية فرجحوا العمل
بمفهوم الشرط ، وحملوا مفهوم الغاية على أنه داخل هنا في المغيا ، جمعا بين
المفهومين ، فنقلوا عنه أنه يقبل قوله ما لم يزدد دعواه على القيمة والله العالم.
المسألة الثانية ـ لو اختلفا فقال المالك : هو وديعة ،
وقال الآخر : هو رهن ، فالمشهور بين الأصحاب «رضوان الله عليهم» ، أن القول قول
المالك ، وقيل : القول قول الآخر ، ذهب اليه الصدوق والشيخ في الاستبصار ، قال
الصدوق في المقنع : على صاحب الوديعة البينة ، فان لم يكن له بينة حلف صاحب الرهن
، ووافقه الشيخ في الاستبصار.
وفصل ابن حمزة ، فقال : ان ادعى صاحب المتاع كونه وديعة
عنده ، وخصمه كونه رهنا ، فان اعترف صاحب المتاع بالدين ، كان القول قول خصمه ،
وان لم يعترف بالدين كان القول قول صاحب المتاع مع اليمين ، ومنشأ هذا الخلاف
اختلاف الاخبار في المسألة.
ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) عن أبى جعفر «عليهالسلام» أنه قال في
رجل رهن عند صاحبه رهنا فقال الذي عنده الرهن : ارتهنته عندي بكذا وكذا ، فقال
الأخر : انما هو عندك وديعة ، قال : البينة على الذي عنده الرهن أنه بكذا وكذا ،
فان لم يكن له بينة فعلى الذي له الرهن اليمين.
وما رواه في الموثق عن ابن أبى يعفور (2) عن أبى عبد الله
«عليهالسلام» في حديث تقدم
صدره في المسألة السابقة ، قال : «وان كان الرهن أقل مما رهن به أو أكثر واختلفا
فقال : أحدهما : هو رهن ، وقال الأخر : هو وديعة ، قال : على صاحب الوديعة البينة
فان لم يكن له بينة حلف صاحب الرهن».
ورواه الصدوق بإسناده عن فضالة عن أبان عن أبى عبد الله عليهالسلام نقله وطريقه
في المشيخة صحيح ، لانه عن أبيه عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن سعيد ، عن
فضالة ، ورواه في الكافي في الموثق عن ابن ابى يعفور مثله.
وما رواه الشيخ عن عباد بن صهيب (3) قال : «سألت
أبا عبد الله «عليهالسلام» عن متاع في
يد رجلين فقال : أحدهما يقول : استودعتكه ، والأخر يقول : هو رهن فقال : القول قول
الذي يقول أنه رهن عندي الا أن يأتي الذي ادعى أنه أودعه بشهود. ورواه الصدوق
بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عباد بن صهيب مثله ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن القائلين
بالقول المشهور استندوا إلى صحيحة محمد بن مسلم ، والقائلون بالقول الآخر استندوا
إلى روايتي ابن أبى يعفور وعباد بن صهيب ،
__________________
(1 ـ 2) التهذيب ج 7 ص 174 الفقيه ج 3 ص 199 الكافي ج 5 ص 237.
(3) التهذيب ج 7 ص 176 الفقيه ص 195.
والعلامة في المختلف وشيخنا الشهيد في
المسالك ردوهما بضعف الاسناد ، وان كانت الأولى موثقة ، وفيه ما عرفت من أن الصدوق
في الفقيه قد رواها في الصحيح عن أبان كما أوضحناه ، ولكنهم غفلوا عن ملاحظتها منه
، واعتمدوا على ما في التهذيب وهي فيه موثقة ، وبه يظهر ضعف ما ذكروه ، هذا مع
البناء على اصطلاحهم المحدث ، والا فالروايات جميعا عندنا من باب واحد ، ويؤيده
صحيحة محمد بن مسلم «ان الذي عنده المتاع يدعى دينا ورهنا ، والمالك ينكر كلا من
الأمرين» ومقتضى القاعدة أن القول قوله بيمينه ، وان الأصل العدم في كل من الأمرين
المذكورين ، والشيخ في الاستبصار قد أجاب عن الصحيحة المذكورة بأنه انما قال «عليه
البينة» على مقدار الدين الذي ارتهنه به ، لا على أصل الرهن ، وحينئذ فيمين المالك
مع تعذر البينة انما هي على نفى الدين ، واستبعد جملة ممن تأخر عنه.
ويمكن أن يقال عن جانب الشيخ : ان الأصل وان كان كما
ذكروه ، الا أنه يجب الخروج عنه بالدليل ، وهي صحيحة أبان المؤيدة بالرواية الأخرى
، وله نظائر في الاخبار غير عزيزه.
ومنها من استودع شخصا مالا فتلف فقال صاحب المال : هو
قرض في ذمتك ، وقال الآخر : هو أمانة ، فان مقتضى الأصل الذي اعتمدوه هو تقديم قول
مدعى الأمانة لأن صاحب المال يدعي أمرا زائدا وهو اشتغال الذمة ، والأصل عدمه.
والحال أن موثقتي إسحاق بن عمار (1) قد صرحتا بأن
القول قول مدعى القرض بيمينه ، وأن مدعى الوديعة تكلف البينة ، ومع عدمها يحلف
مدعى القرض.
ومن الموثقتين المذكورتين ما رواه الراوي المذكور (2) في الموثق عن أبى
عبد الله عليهالسلام «في رجل قال
لرجل : لي عليك ألف درهم ، فقال الرجل : لا ولكنها وديعة ،
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 176 و 179.
(2) الكافي ج 5 ص 238.
فقال أبو عبد الله عليهالسلام القول قول
صاحب المال مع يمينه» ، ونحوها الموثقة الأخرى ،
وبعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين احتمل في
صحيحة ابن ابى يعفور الحمل على التقية ، أو على ما إذا اعترف بالمال ، وأنكر الرهن
أو على ما إذا دلت عليه القرائن.
أقول : ومرجع الثاني من هذه الاحتمالات الثلاثة الى ما
ذهب اليه ابن حمزة واحتج في الكفاية بقول الشيخ والصدوق حيث اختاره بروايات
الثلاثة ، قال : ويدل على قول الشيخ أخبار ثلاثة أحدها ـ صحيحة أبان أوردها الصدوق
في الفقيه وثانيها ـ رواية عبد الله بن أبى يعفور ، وثالثها ـ رواية عباد بن صهيب.
انتهى ملخصا.
وفيه أن رواية أبان المروية في الفقيه هي بعينها رواية ابن
أبى يعفور التي رواها الشيخ ، الا أن الشيخ نقلها عن أبان عن ابن أبى يعفور ،
والصدوق في الفقيه نقلها عن أبان عن أبى عبد الله من غير واسطة ابن أبى يعفور ،
والمتن واحد ، فعدها روايتين مجازفة ، نعم هي في الفقيه صحيحة ، وفي التهذيب
موثقة.
وباختيار القول المشهور صرح أيضا المحقق الأردبيلي في
شرح الإرشاد ، اعتمادا على صحيحة محمد بن مسلم ، وضعف ما عارضها بناء على ما ذكره
العلامة وصاحب المسالك ولم يقف على رواية صاحب الفقيه التي ذكرناها.
وأما ما ذكره ابن حمزة مما قدمنا نقله عنه ، فالظاهر أن
وجهه الجمع بين أخبار المسألة ، فإن الاعتراف بالدين قرينة على صحة دعوى الرهن ،
وفيه ما لا يخفى من أن بناء الأحكام الشرعية على هذه الاحتمالات مجازفة محضة.
وبالجملة فالمسألة في محل من الاشكال لتعارض الأخبار
المذكورة ، وبعد ما ذكروه من التأويلات في كل من الجانبين مع تعارضها كما عرفت والله
العالم.
المسألة الثالثة ـ إذا تلف الرهن بتفريط المرتهن واختلفا
في القيمة فهاهنا مقامان الأول ـ أنه هل القول في ذلك قول الراهن أو المرتهن؟ المشهور
الأول ، وهو
قول الشيخين ، وسلار وأبى الصلاح.
وابن البراج ، وابن حمزة ، وابن الجنيد.
وقال ابن إدريس : القول قول المرتهن ، وتبعه المحقق
والعلامة وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين ،
وعلله في المسالك بأنه منكر الزائد ، والأصل عدمه ، وبراءته منه ، ثم نقل عن
الأكثر الاستناد فيما ذهبوا إليه الى أن المرتهن صار خائنا فلا يقبل قوله ، قال :
ويضعف بانا لم نقبل قوله من هذه الحيثية ، بل لما ذكرناه.
أقول : ومرجعه الى أن خيانته وسقوط عدالته الموجب لرد
قوله لا يوجب سقوط ما دلت عليه الاخبار من (1) «أن البينة على المدعى واليمين على
المنكر». وبذلك يظهر قوة القول الثاني.
المقام الثاني في تعيين القيمة هل هي قيمته يوم هلاكه أو
يوم قبضه أو أعلى القيم؟ أقوال : والمشهور الأول ، نظرا إلى أنه وقت الحكم بضمان
القيمة ، لأن الحق قبله كان منحصرا في العين وان كانت مضمونة.
والثاني مذهب المحقق في الشرائع ، واعترضه في المسالك
قال : وحكم المصنف باعتبار قيمته يوم قبضه مبنى على أن القيمي يضمن بمثله ، ومع
ذلك ففي اعتبار يوم القبض نظر ، لانه ثم لم يكن مضمونا ، فينبغي على ذلك اعتبار
المثل يوم الضمان انتهى.
وأما القول الثالث فقد اختلفوا في تشخيصه ، وما المراد
من هذه العبارة هل المراد أعلى القيم من يوم القبض الى يوم التلف؟ كما نقله المحقق
في النافع قولا في المسألة ، نسب الى الشيخ في المبسوط أو المراد أعلى القيم من
يوم التلف الى حكم الحاكم عليه بالقيمة؟ كما هو قول ابن الجنيد أو المراد أعلى
القيم من حين التفريط الى وقت التلف؟ وهو ظاهر العلامة ، واختاره ابن فهد في موجزه
، قال : لانه من حين التفريط كالغاصب ، وأطلق جماعة من غير إشارة الى هذه الأقوال.
__________________
(1) الوسائل الباب ـ 3 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.
ويضعف القول الأول من هذه الأقوال الثلاثة بأنه غير
مضمون قبل التفريط ، فلا وجه لاعتبار قيمته ، وحمله على الغاصب قياس مع الفارق (1) ويضعف قول ابن
الجنيد بأن المطالبة لا دخل لها في ضمان القيمة ، بل الضمان ثابت وأن لم يطالب.
أقول : والأنسب بالقواعد من هذه الأقوال أن يقال : ان
قلنا في الغاصب بأن الواجب عليه أعلى القيم ، وجب هنا على المرتهن أعلى القيم من
حين التفريط الذي صار به كالغاصب الى وقت التلف ، وان قلنا بأن الواجب عليه قيمة
يوم التلف فكذا هنا ، أعنى الحكم بقيمة يوم التلف إذا كان اختلاف القيم بسبب السوق
أو بسبب نقص في العين غير مضمون ، أما لو كان مضمونا كما لو فرط فنقصت العين بهزال
ونحوه ، تعين الأول ، وهو أن يعتبر أعلى القيم من حين التفريط الى حين التلف ، هذا
كله فيما إذا كان الرهن قيميا.
أما لو كان مثليا فإنه يضمن بمثله ان وجد ، والا فقيمة
المثل يوم الأداء على الأظهر ، لأن الواجب قبل التعذر انما كان المثل ، وانما وقع
الرجوع الى القيمة بعد تعذره ، بخلاف القيمي فإن القيمة استقرت في الذمة من حين
التلف قطعا ، وانما وقع الاختلاف والاشتباه في قدرها بسبب الاعتبارات المتقدمة
والله العالم.
المسألة الرابعة ـ إذا اذن المرتهن للراهن في البيع ثم
رجع فاختلفا
، فقال المرتهن رجعت قبل البيع ، وبموجبه يكون الرهن
باقيا ، والبيع باطل ، وقال الراهن : انما رجعت بعد البيع فالبيع صحيح ، والرهن
باطل.
قيل : القول هنا قول المرتهن ، ترجيحا لجانب الوثيقة ،
بمعنى أن الدعويين متكافئان ، وذلك أن الراهن يدعى تقدم البيع على الرجوع ، والأصل
عدمه ، والمرتهن يدعى تقدم الرجوع على البيع ، والأصل أيضا عدمه ، فقد تعارض
الأصلان
__________________
(1) فإنه في الغاصب مضمون عليه بمجرد الغصب ، بخلاف الرهن فإنه
قبل التفريط غير مضمون منه رحمهالله.
فيتساقطان ، ويبقى حكم الرهن على
العين باقيا ، لأن الأصل بقاء الرهن واستصحابه ، وبه يظهر أن القول قول المرتهن.
وقيل : ان أصالة بقاء الرهن معارض بأصالة بقاء البيع ،
فان وقوعه معلوم كما ان وقوعه الرهن معلوم فيتعارضان أيضا ويتساقطان ويبقى ، مع
الراهن ملكية المرتهن ، وصحة تصرفه فيه المتفرع على ذلك ، «فان الناس مسلطون على
أموالهم» فيكون القول حينئذ قول الراهن ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجوع هنا متحقق
، وأصالة بقاء البيع لو لم يكن المانع متحققا ، والمانع وهو الرجوع هنا موجود.
وبالجملة فالمسألة محل اشكال لعدم النص فيها ، والرجوع الى هذه التعليلات العقلية ، سيما مع تعارضها وتدافعها غير جائز عندي ، لما دلت عليه الآيات والروايات من انحصار أدلة الأحكام الشرعية في الكتاب والسنة ، ولأصحابنا في هذا الباب فروع أكثروا فيها من البحث ، طوينا ذكرها في هذا الكتاب لما ذكرناه والله العالم بحقائق أحكامه ، ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.