ج1 - المقدمة الرابعة في الاحتياط
المقدمة الرابعة
وقد اختلف أصحابنا (رضوان الله عليهم) في وجوبه
واستحبابه ، فالمجتهدون على الثاني ، والأخباريون على وجوبه في بعض المواضع ،
وربما يظهر من كلام بعض متأخري المجتهدين عدم مشروعيته.
قال المحقق (قدسسره) ـ على ما
نقله عنه غير واحد ـ في كتاب الأصول : «العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون الى
وجوبه ، وقال آخرون مع اشتغال الذمة : يكون العمل بالاحتياط واجبا ومع عدمه لا يجب
مثال ذلك : إذا ولغ الكلب في الإناء ، نجس. واختلفوا هل يطهر بغسلة واحدة أم لا بد
من سبع؟ وفيما عدا الولوغ هل يطهر بغسلة أم لا بد من ثلاث؟ احتج القائلون
بالاحتياط بقوله (صلىاللهعليهوآله) : «دع ما
يريبك الى ما لا يريبك». وبأن الثابت اشتغال الذمة يقينا ، فيجب ان لا يحكم
ببراءتها إلا بيقين ولا يكون هذا إلا مع الاحتياط. والجواب عن الحديث ان نقول : هو
خبر واحد لا يعمل بمثله في مسائل الأصول. سلمناه لكن إلزام المكلف بالأثقل مظنة
الريبة ، لأنه إلزام مشقة لم يدل الشرع عليها. فيجب اطراحها بموجب الخبر.
__________________
(1) والى القول بمنع حجية كل من الفردين المذكورين مال المحدث
السيد نعمة الله الجزائري (قدسسره) مستندا الى دخولهما في القياس الذي
تواترت الأخبار بالنهي عنه : و (منها) ـ قول الصادق (عليهالسلام) فيما استفاض عنه «ان أصحاب القياس
طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا». قال : «وهو بإطلاقه
متناول لجميع افراد القياس في موضع النزاع وغيره» (منه رحمهالله).
والجواب عن الثاني ان نقول : البراءة
الأصلية مع عدم الدلالة الناقلة حجة ، وإذا كان التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعية
على الزيادة في المثال المذكور كان العمل بالأصل أولى ، وحينئذ لا نسلم اشتغالها
مطلقا بل لا نسلم اشتغالها إلا بما حصل الاتفاق عليه أو اشتغالها بأحد الأمرين.
ويمكن ان يقال : قد أجمعنا على الحكم بنجاسة الإناء واختلفنا فيما به يطهر ، فيجب
أن نأخذ بما حصل الإجماع عليه في الطهارة ، ليزول ما أجمعنا عليه من النجاسة بما
أجمعنا عليه من الحكم بالطهارة». انتهى كلامه زيد مقامه.
وهو محل نظر من وجوه : (أحدها) ـ ان ما جعله موضوعا
للنزاع من مسألة إناء الولوغ ونحوها ليس كذلك على إطلاقه ، لأنه مع تعارض الأدلة
فللناظر الترجيح بينها والعمل بما يترجح في نظره من أدلة أي الطرفين ، وحينئذ فلا
مجال هنا للقول بوجوب الاحتياط ، واما الاستحباب فيمكن إذا ترجح عنده الأقل ، فإنه
يمكن حمل الزائد على الاستحباب كما هو المعروف عندهم في أمثال ذلك. نعم مع عدم
الترجيح فالمتجه ـ كما سيأتي تحقيقه ـ وجوب الاحتياط في العمل والتوقف في الحكم.
و (ثانيها) ـ ما أجاب به أولا عن الخبر المذكور ، فإنه
مبني على اشتراط القطع في الأصول وعدم العمل بالآحاد مطلقا ، وكلاهما محل نظر (اما
الأول) فلعدم الدليل عليه ، ومن تأمل اختلافاتهم في الأصول وتكثر أقوالهم وادعاء
كل منهم التبادر على خلاف ما يدعيه الآخر ، علم ان البناء على غير أساس ، ومن ثم
وقع الإشكال في جل مسائله والالتباس ، ولو كانت أدلته مما تفيد القطع كما يدعونه
لما انتشر فيه الخلاف ، كما لا يخفى على ذوي الإنصاف. على انه لو ثبت ثمة دليل على
اشتراط القطع في الأصول لوجب تخصيصه بالأصول الكلامية والعقائد الدينية ، إذ هي
المطلوب فيها ذلك بلا خلاف ، دون هذه التي لم يرد لها أصل في الشريعة. وانما هي من
محدثات العامة ومخترعاتهم كما حققناه في محل أليق.
و (اما الثاني) فلما صرح به جم غفير من أصحابنا ـ متقدميهم
ومتأخريهم ـ ولا سيما هذا القائل نفسه في كتاب المعتبر وكذا في كتابه في الأصول ،
بل الظاهر انه إجماعي كما ادعاه غير واحد منهم ، من حجية خبر الواحد والاعتماد
عليه ، وعلى ذلك يدل من الاخبار ما يضيق عن نشره نطاق البيان ، وما سبق الى بعض
الأوهام ـ من تناقض كلامي الشيخ في العمل بخبر الواحد ودعوى المرتضى الإجماع على
عدم جواز العمل به ـ فهو توهم بارد وخيال شارد نشأ عن قصور التتبع لكلامهم والتطلع
في نقضهم وإبرامهم ، لدلالة كلام الشيخ (رضوان الله عليه) في غير موضع من كتبه على
صحة أخبارنا وتواترها عن الأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم) ، وان المراد بالخبر
الواحد الممنوع من جواز التعبد به هو ما كان من طريق المخالفين مما لم تشتمل عليه
أصولنا التي عليها معتمد شريعتنا قديما وحديثا. ولتصريح المرتضى (رضياللهعنه) على ما نقله
عنه جمع : منهم صاحب المعالم ، من أن أكثر أخبارنا المروية في كتبنا معلومة مقطوع
على صحتها اما بالتواتر أو بأمارة وعلامة دلت على صحتها وصدق رواتها فهي موجبة
للعلم مقتضية للقطع وان وجدناها مودعة في الكتب بسند مخصوص من طريق الآحاد. انتهى.
وحينئذ فيرجع كلامه الى كلام الشيخ في معنى الخبر الواحد الممنوع من جواز التعبد
به ، وقد مضى في المقدمة الثانية ما فيه مقنع للبيب ومرجع للموفق المصيب.
و (ثالثها) ـ ما أجاب به عن الدليل الثاني من الاستناد إلى حجية البراءة الأصلية في المقام. وفيه ما تقدم نقله عنه (قدسسره) في المعتبر. من ان الاعتماد على البراءة الأصلية إنما يتجه فيما يعلم انه لو كان هناك دليل لعثر عليه ، اما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف. والدليل في الجملة هنا موجود. ووجود المعارض لا يخرجه عن كونه دليلا. ولو عورض بمرجوحيته في مقابلة المعارض فلا يصلح للدلالة ، فالدليل العام على وجوب الاحتياط كاف في الخروج عن قضية الأصل ووجوب الزيادة.
و (رابعها) ـ قوله : ويمكن ان يقال قد أجمعنا. إلخ. فإن
فيه ان ثبوت الإجماع إنما هو قبل الغسل بالمرة. واما بعد الغسلة الواحدة فليس ثمة
إجماع ، فالاستصحاب غير ثابت. على ان في الاستدلال بالاستصحاب ما قد عرفت آنفا.
نعم يمكن ان يقال : ان مقتضى صحاح الاخبار ان يقين كل من الطهارة والنجاسة لا يزول
إلا بيقين مثله. والنجاسة هنا ثابتة بيقين قبل الغسل بالكلية ، ولا تزول إلا بيقين
وهو الغسل بالأكثر. وزوالها بالأقل مشكوك فيه ، وهو لا يرفع يقين النجاسة ،
والاستصحاب هنا مما لا خلاف في حجيته ، لدلالة صحاح الاخبار عليه كما سبق تحقيقه
في المسألة المذكورة. هذا.
والتحقيق في المقام ـ على ما أدى اليه النظر القاصر من
أخبار أهل الذكر (عليهمالسلام) ـ هو ان يقال
: لا ريب في رجحان الاحتياط شرعا واستفاضة الأمر به ، كما سيمر بك شطر من اخباره.
وهو عبارة عما يخرج به المكلف من عهدة التكليف على جميع الاحتمالات ، ومنه ما يكون
واجبا ، ومنه ما يكون مستحبا.
(فالأول) ـ كما إذا تردد المكلف في الحكم ، اما لتعارض
أدلته ، أو لتشابهها وعدم وضوح دلالتها ، أو لعدم الدليل بالكلية بناء على نفي
البراءة الأصلية ، أو لكون ذلك الفرد مشكوكا في اندراجه تحت بعض الكليات المعلومة
الحكم ، أو نحو ذلك.
و (الثاني) ـ كما إذا حصل الشك باحتمال وجود النقيض لما قام عليه الدليل الشرعي احتمالا مستندا الى بعض الأسباب المجوزة ، كما إذا كان مقتضى الدليل الشرعي إباحة شيء وحليته ، لكن يحتمل قريبا بسبب بعض تلك الأسباب انه مما حرمه الشارع وان لم يعلم به المكلف ، ومنه جوائز الجائر ونكاح امرأة بلغك انها أرضعت معك الرضاع المحرم إلا انه لم يثبت ذلك شرعا. ومنه ايضا الدليل المرجوح في نظر الفقيه ، اما إذا لم يحصل له ما يوجب الشك والريبة في ذلك ، فإنه يعمل على ما ظهر له من الدليل وان احتمل النقيض باعتبار الواقع ، ولا يستحب له الاحتياط هنا ، بل ربما كان مرجوحا ، لاستفاضة الأخبار بالنهي عن السؤال عند الشراء من سوق المسلمين ما يحتمل تطرق احتمال النجاسة أو الحرمة اليه كاخبار الجبن واخبار الفراء ، جريا على مقتضى سعة الحنيفية ، كما أشار إليه في صحيحة البزنطي (1) الواردة في السؤال عن شراء جبة فراء لا يدرى أذكية هي أم غير ذكية ليصلي فيها ، حيث قال (عليهالسلام) : «ليس عليكم المسألة. ان أبا جعفر (عليهالسلام) كان يقول : ان الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم ، وان الدين أوسع من ذلك».
إذا عرفت ذلك فاعلم ان الاحتياط قد يكون متعلقا بنفس
الحكم الشرعي وقد يكون متعلقا بجزئيات الحكم الشرعي وافراد موضوعه. و (كيف كان)
فقد يكون الاحتياط بالفعل وقد يكون بالترك وقد يكون بالجمع بين الافراد المشكوك
فيها ، ولنذكر جملة من الأمثلة يتضح بها ما أجملناه ويظهر منها ما قلناه.
فمن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي المتعلق بالفعل ما
إذا اشتبه الحكم من الدليل بان تردد بين احتمالي الوجوب والاستحباب ، فالواجب
التوقف في الحكم والاحتياط بالإتيان بذلك الفعل ، ومن يعتمد على أصالة البراءة
يجعلها هنا مرجحة للاستحباب.
وفيه (أولا) ـ ما عرفت من عدم الاعتماد على البراءة الأصلية
في الأحكام الشرعية.
و (ثانيا) ـ ان ما ذكروه يرجع الى ان الله تعالى حكم
بالاستحباب لموافقة البراءة الأصلية ، ومن المعلوم ان أحكامه تعالى تابعة للحكم
والمصالح المنظورة له تعالى
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب ـ 55 ـ من أبواب لباس المصلى من
كتاب الصلاة.
وهو أعلم بها ، ولا يمكن ان يقال :
مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصلية ، فإنه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.
ومن هذا القسم ايضا ما تعارضت فيه الاخبار على وجه يتعذر
الترجيح بينها بالمرجحات المنصوصة ، فإن مقتضى الاحتياط التوقف عن الحكم ووجوب الإتيان
بالفعل متى كان مقتضى الاحتياط ذلك.
(فان قيل) : ان الأخبار في الصورة المذكورة قد دل بعضها
على الإرجاء وبعضها على العمل من باب التسليم (قلنا) : هذا ايضا من ذلك ، فان
التعارض المذكور ـ مع عدم ظهور مرجح لأحد الطرفين ولا وجه يمكن الجمع به في البين
ـ مما يوجب دخول الحكم المذكور في المتشابهات المأمور فيها بالاحتياط ، وسيأتي ما
فيه مزيد بيان لذلك.
ومن هذا القسم ايضا ما لم يرد فيه نص من الأحكام التي لا
تعم بها البلوى عند من لم يعتمد على البراءة الأصلية ، فإن الحكم فيه ما ذكر كما
سلف بيانه في مسألة البراءة الأصلية.
ومن الاحتياط الواجب في الحكم الشرعي ـ لكن بالترك ـ ما
إذا تردد الفعل بين كونه واجبا أو محرما ، فان المستفاد من الاخبار ان الاحتياط
هنا بالترك.
كما تدل عليه موثقة سماعة عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «سألته
عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، أحدهما يأمر بأخذه
والآخر ينهاه عنه ، كيف يصنع؟ قال : يرجئه حتى يلقى من يخبره. فهو في سعة حتى
يلقاه».
وموثقة زرارة (2) «في أناس من
أصحابنا حجوا بامرأة معهم فقدموا الى الوقت
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب ـ 9 ـ من أبواب صفات القاضي وما
يقضى به من كتاب القضاء.
(2) المروية في الوسائل في باب ـ 14 ـ من أبواب المواقيت من
كتاب الحج. وفي باب ـ 12 ـ من أبواب صفات القاضي وما يقضى به من كتاب القضاء.
وهي لا تصلي ، وجهلوا ان مثلها ينبغي
أن يحرم. فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس فقالوا :
تخرج الى بعض المواقيت فتحرم منه. وكانت إذا فعلت ذلك لم تدرك الحج ، فسألوا أبا
جعفر (عليهالسلام) فقال : تحرم
من مكانها ، قد علم الله نيتها».
وجه الدلالة ان المرأة المذكورة قد تركت واجبا لاحتمال
حرمته عندها ، والامام (عليهالسلام) قررها على
ذلك ولم ينكره عليها ، بل استحسن ذلك من فعلها بقوله : قد علم الله نيتها.
وما توهمه ـ بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) (1) من دلالة هذه
الرواية على عدم الاحتياط ، حتى نظمها في سلك اخبار زعم انها تدل على عدم الاحتياط
وجعلها معارضة لاخبار الاحتياط ـ ناشىء عن عدم إعطاء التأمل حقه من التحقيق ،
وعدم النظر في الأخبار بعين التدقيق.
ومن الاحتياط المستحب في الحكم الشرعي بالفعل أو الترك
ما إذا تعارضت الأدلة في حكم بين فعله وجوبا أو استحبابا وترجح في نظر الفقيه
الثاني بأحد المرجحات الشرعية ، فإن الإتيان بالفعل أحوط ، ولذا ترى الفقهاء في
مثل هذا الموضع يحملون الدليل المرجوح على الاستحباب تفاديا من طرحه ، كاخبار غسل
الجمعة عند من يرجح الاستحباب. أو تعارضت الاخبار بين الحرمة والكراهة مع ترجيح
الثاني ، فإن الاحتياط هنا بالترك ، وعلى هذا أيضا جرى الفقهاء (رضوان الله عليهم)
في غير موضع.
ومن الاحتياط الواجب في جزئيات الحكم الشرعي بالإتيان
بالفعل ما إذا علم أصل الحكم وكان هو الوجوب ولكن حصل الشك في اندراج بعض الافراد
تحته ،
__________________
(1) هو شيخنا العلامة أبو الحسن الشيخ سليمان بن عبد الله
البحراني (قدسسره) في كتاب العشرة الكاملة (منه رحمهالله).
وستأتي صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج
الواردة في جزاء الصيد دالة على ذلك.
ومن هذا القسم ـ لكن مع كون الاحتياط بالترك ـ ما إذا
كان الحكم الشرعي التحريم وحصل الشك في اندراج بعض الجزئيات تحته ، فان الاحتياط
هنا بالترك ، كحكم السجود على الخزف والحكم بطهارته بالطبخ ، فإن أصل الحكم في كل
من المسألتين معلوم ، ولكن هذا الفرد بسبب الشك في استحالته بالطبخ وعدمها قد أوجب
الشك في اندراجه تحت أصل الحكم ، فالاحتياط ـ عند من يحصل له الشك المذكور ـ واجب
بترك السجود وترك استعماله فيما يشترط فيه الطهارة. ومنه الشك في اندراج بعض
الأصوات تحت الغناء المعلوم تحريمه ، فان الاحتياط واجب بتركه ، واما من يعمل
بالبراءة الأصلية فإنه يرجح بها هنا جانب العدم ، فلا يتجه ذلك عنده.
ومن الاحتياط الواجب بالجمع بين الافراد المشكوك فيها ما
إذا اشتغلت ذمته يقينا بواجب لكن تردد بين فردين أو أزيد من افراد ذلك الواجب ،
فإنه يجب عليه الإتيان بالجميع. ومنه من اشتغلت ذمته بفريضة من اليومية مع جهلها
في الخمس مثلا ، فإنه يجب عليه الإتيان بالخمس مقتصرا فيما اشترك منها في عدد على
الإتيان بذلك العدد مرددا في نيته. ومنه التردد في وجوب الجمعة ، فإنه يجب عليه
الجمع بينها وبين الظهر. الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع.
واما الاحتياط المستحب فعلا أو تركا فقد تقدم لك شطر من
أمثلته ، والمتدرب لا يخفى عليه استنباط ذلك.
ولا بأس بنقل جملة من الاخبار المشتملة على ذكر الاحتياط
وتذييل كل منها بما يوقف الناظر على سواء الصراط ، فإن جملة من مشايخنا (رضوان
الله عليهم) قد اشتبه عليهم ما تضمنته من الأحكام ، حتى صرحوا بتعارضها في المقام
على وجه يعسر
الجمع بينها والالتئام كما تقدمت
الإشارة إليه (1).
فمن ذلك ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «سألت
أبا الحسن (عليهالسلام) عن رجلين
أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء عليهما ، أم على كل واحد منهما جزاء؟ فقال : لا
بل عليهما ان يجزي كل واحد منهما عن الصيد. قلت : إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم
أدر ما عليه ، فقال (عليهالسلام) : إذا أصبتم
بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط» (3).
وهذه الرواية قد دلت على وجوب الاحتياط في بعض جزئيات
الحكم الشرعي مع الجهل به وعدم إمكان السؤال. وذلك لان ظاهر الرواية ان السائل
عالم بأصل وجوب الجزاء وإنما شك في موضعه بكونه عليهما معا جزاء واحدا أو على كل
منهما جزاء بانفراده.
ومن ذلك ـ صحيحته الأخرى عن أبي إبراهيم (عليهالسلام) (4) قال : «سألته
عن الرجل يتزوج المرأة في عدتها بجهالة؟ أهي ممن لا تحل له أبدا. فقال : لا اما
إذا كان بجهالة فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو
أعظم من ذلك. فقلت : بأي الجهالتين أعذر : بجهالته ان يعلم ان ذلك محرم عليه أم
بجهالته انها في عدة؟ فقال : احدى الجهالتين أهون من الأخرى ، الجهالة بأن
__________________
(1) في صحيفة 71 سطر (8).
(2) المروية في الوسائل في باب ـ 18 ـ من أبواب كفارات الصيد
وتوابعها من كتاب الحج. وفي باب ـ 12 ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به
من كتاب القضاء.
(3) تتمة الصحيحة هكذا : «حتى تسألوا عنه فتعلموا».
(4) المروية في الوسائل في باب ـ 17 ـ من أبواب ما يحرم
بالمصاهرة ونحوها من كتاب النكاح.
الله حرم عليه ذلك ، وذلك بأنه لا
يقدر على الاحتياط معها. فقلت : هو في الأخرى معذور ، فقال : نعم إذا انقضت عدتها
فهو معذور في أن يتزوجها. الحديث».
وهذه الرواية قد اشتملت على فردي الجاهل بالحكم الشرعي
والجاهل ببعض جزئياته ، ودلت على معذورية كل منهما إلا ان الأول أعذر ، لعدم قدرته
على الاحتياط ، وبيان ذلك : ان الجاهل ـ بالحكم الشرعي وهو تحريم التزويج في العدة
جهلا ساذجا غير متصور له بالمرة ـ لا يتصور الاحتياط في حقه بالكلية ، لعدم تصوره
الحكم بالمرة كما عرفت. واما الجاهل بكونها في عدة مع علمه بتحريم التزويج في
العدة ، فهو جاهل بموضوع الحكم المذكور مع معلومية أصل الحكم له ، ويمكنه الاحتياط
بالفحص والسؤال عن كونها ذات عدة أم لا ، إلا انه غير مكلف به ، بل ظاهر الاخبار
مرجوحية السؤال والفحص كما في غير هذا الموضع مما قدمنا الإشارة اليه (1) ، وكل ذلك
عملا بسعة الحنيفية وسهولة الشريعة. نعم لو كان في مقام الريبة فالأحوط السؤال ،
كما يدل عليه بعض الاخبار.
ومن ذلك ـ رواية عبد الله بن وضاح (2) قال : «كتبت
الى العبد الصالح (عليهالسلام) يتوارى القرص
ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنا الشمس وترتفع فوق الجبل حمرة ويؤذن
عندنا المؤذنون ، أفأصلي حينئذ أو أفطر إن كنت صائما ، أو انتظر حتى تذهب الحمرة
التي فوق الجبل؟ فكتب إلي : أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك».
(أقول) : والاحتياط هنا ـ بالتوقف على ذهاب الحمرة عند
من قام له الدليل على ان الغروب عبارة عن استتار القرص المعلوم بعدم رؤيته عند المشاهدة
مع عدم
__________________
(1) في صحيفة (69) سطر (4).
(2) المروية في الوسائل في باب ـ 16 ـ من أبواب المواقيت من
كتاب الصلاة. وفي باب 12 ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب
القضاء.
الحائل ـ محمول على الاستحباب. واما
عند من يجعل امارة الغروب زوال الحمرة ـ كما هو المختار عندنا ، لحمل تلك الأخبار
على التقية ـ فهو محمول على الوجوب ، وكلامه (عليهالسلام) هنا محتمل
لكلا الأمرين.
ومن ذلك ـ صحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر عن الرضا (عليهالسلام) في المتمتع
بها (1) حيث قال فيها
: «اجعلوهن من الأربع (2) فقال له صفوان
ابن يحيى : على الاحتياط. قال : نعم».
والظاهر كما استظهره أيضا جملة من أصحابنا (رضوان الله
عليهم) حمل الاحتياط هنا على المحاذرة من العامة والتقية منهم ، لاستفاضة النصوص
وذهاب جمهور الأصحاب الى عدم الحصر في المتعة وانها ليست من السبعين فضلا عن
الأربع ، ولعل وجهه انه إذا اقتصر على جعلها رابعة لم يمكن الاطلاع عليه بكونها
متعة ليطعن عليه بذلك ليتيسر دعوى الدوام له ، بخلاف ما إذا جعلها زائدة على
الأربع ، فإنه لا يتم له الاعتذار ولا النجاة من أولئك الفجار.
ومن ذلك ـ رواية شعيب الحداد (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله (ع) : رجل من مواليك يقرئك السلام وقد أراد أن يتزوج امرأة قد
وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج فطلقها ثلاثا على غير السنة ، وقد كره
ان يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت تأمره ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : هو الفرج
وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ونحن نحتاط فلا يتزوجها».
(أقول) : ظاهر هذا الخبر كما ترى كون المطلق مخالفا ،
ولا خلاف بين
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب ـ 4 ـ من أبواب المتعة من كتاب
النكاح.
(2) هذا قول ابى جعفر (عليهالسلام) فإن الرواية هكذا : قال قال أبو جعفر (عليهالسلام) : «اجعلوهن من الأربع».
(3) المروية في الوسائل في باب ـ 156 ـ من أبواب مقدمات النكاح
وآدابه من كتاب النكاح.
الأصحاب في إلزامه بما الزم به نفسه
من صحة الطلاق ، وبه استفاضت جملة من الأخبار ايضا ، وحينئذ فيحمل الاحتياط هنا على
الاستحباب ، إلا ان الأقرب عندي هو أن يقال : ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) وان
اتفقوا على الحكم المذكور ، إلا ان الروايات فيه مختلفة ، فإن جملة من الأخبار كما
دلت على ما ذهب إليه الأصحاب ، كذلك جملة منها ايضا قد دلت على انه «إياكم وذوات
الأزواج المطلقات على غير السنة» وحمل ـ بعض الأصحاب لها على غير المخالف ـ يرده
ما اشتمل عليه بعضها من ذكر المخالف. والحكم لا يخلو من نوع اشتباه ، لتعارض
الأخبار ، والاحتياط فيه مطلوب. والأمر بالاحتياط هنا مما قوى الشبهة وأكدها ،
وحينئذ فلا يبعد وجوب الاحتياط هنا. ويحتمل أن يكون هذا الخبر من جملة الأخبار
المانعة وان عبر عن ذلك بالاحتياط وجعله في قالبه ، فيتحتم كون الاحتياط فيه على
جهة الوجوب. والله سبحانه وقائله أعلم بحقيقة الحال.
وأما الأخبار الدالة على رجحان العمل بالاحتياط على
الإطلاق في هذا الشأن فهي أكثر من أن يحويها نطاق البيان في هذا المكان (1) ومنها قول
أمير المؤمنين (عليهالسلام) لكميل بن
زياد كما رواه الشيخ (رحمهالله) في كتاب
الأمالي مسندا عن الرضا (عليهالسلام) : «يا كميل
أخوك دينك فاحتط لدينك». وما رواه الشهيد عن الصادق (عليهالسلام) في حديث طويل
قال فيه : «وخذ بالاحتياط لدينك في جميع أمورك ما تجد اليه سبيلا». وما رواه
الفريقان عنه (صلىاللهعليهوآله) من قوله : «دع
ما يريبك الى ما لا يريبك». وما روي عنهم (عليهمالسلام) : «ليس بناكب
عن الصراط من سلك طريق الاحتياط» الى غير ذلك من الأخبار ، وحينئذ فما ذهب اليه
ذلك البعض ـ من عدم مشروعية الاحتياط ـ خروج عن سواء
__________________
(1) روى هذه الاخبار في الوسائل في باب ـ 12 ـ من أبواب صفات
القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء.