ج22 - الحبس والسكنى والهبات
المقصد الثالث
اعلم أن انتقال المنفعة إلى الغير إما على وجه اللزوم أم
لا ، والثاني في العارية والأول اما مع خروج العين عن الملك أم لا ، والأول الوقف
، والثاني إما بعوض أم لا ، والأول الإجارة ، والثاني العمرى التي هي محل البحث
هنا ، ومنه يظهر أن ثمرتها هو التسليط على المنفعة مجانا مع بقاء الملك لمالكه.
ثم أنه ينبغي أن يعلم أن الاختلاف في هذه الألفاظ اعتباري بحسب اختلاف ما تضاف ، والمرجع إلى أمر واحد ، فإذا قرنت بالإسكان قيل سكنى ، وإذا قرنت بالعمر من المالك أو الساكن قيل عمري ، وإذا قرنت بمدة معينة قيل رقبى ، من ارتقاب المدة وخروجها أو رقبة الملك ، وقد يقترن باثنين منها كأن يقول أسكنتك هذه الدار مدة عمرك ، فيقال سكنى لاقترانها بالإسكان ، وعمري لاقترانها بالعمر ولو قال : أسكنتكها مدة كذا وكذا ، قيل : سكنى ورقبى ، ولو قال : أرقبتكها تحققت الرقبى خاصة ، وتنفرد السكنى فيما لو أسكنه إياها مطلقا وتنفرد العمرى فيما لو كان للعمر في غير مسكن.
قالوا : وهي يعنى السكنى عقد يشتمل على الإيجاب والقبول
والقبض ، وفائدتها التسليط على استيفاء المنفعة مع بقاء الملك على مالكه.
أقول : وقد تقدم الكلام في العقد وما اشترطوه فيه في غير
مقام ، ويؤيده ما سيظهر لك ان شاء الله تعالى من الأخبار الواردة في المقام.
قالوا : والعبارة عن العقد أن يقول : أسكنتك أو أعمرتك
أو أرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك هذه الدار وهذه الأرض أو هذا المسكن عمرك أو عمري أو
مدة معينة ، والواجب أولا نقل الأخبار الواردة فيما يتعلق بهذا الباب ثم الرجوع
الى كلام الأصحاب وعرضه عليها ليتميز القشر من اللباب بتوفيق الملك الوهاب ، وبركة
أهل الذكر الأطياب.
الأول ـ ما رواه المشايخ الثلاثة عن حمران (1) قال : «سألته
عن السكنى والعمرى فقال : ان الناس فيه عند شروطهم ، ان كان شرطه حياته سكن حياته
وان كان لعقبه فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يرد الى صاحب الدار».
الثاني ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى الصباح
الكناني (2) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «سئل عن
السكنى والعمرى فقال : ان كان جعل السكنى في
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 33 ح 21 ، التهذيب ج 9 ص 139 ح 587 ، الفقيه
ج 4 ص 186 ح 652 ، الوسائل ج 13 ص 325 ح 1.
(2) الكافي ج 7 ص 33 ح 22 ، التهذيب ج 9 ص 140 ح 588 ، الوسائل
ج 13 وص 326 ح 1.
حياته فهو كما شرط ، وان كان جعلها له
ولعقبه من بعده حتى يفنى عقبه فليس لهم إن يبيعوا ولا يورثوا ثم ترجع الدار الى صاحبها
الأول».
الثالث ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن
أحمد بن عمر الحلبي (1) عن أبيه في
الموثق عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل أسكن رجلا داره حياته قال : يجوز له وليس له أن يخرجه ، قلت : فله ولعقبه؟
قال : يجوز ، وسألته عن رجل أسكن رجلا ولم يوقت له شيئا قال يخرجه صاحب الدار إذا
شاء».
الرابع ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (2) في الصحيح أو
الحسن عن أبى عبد الله عليهالسلام «في الرجل يسكن
الرجل داره ولعقبه من بعده ، قال : يجوز لهم وليس لهم أن يبيعوا ولا يورثوا ، قلت
: فرجل اسكن رجلا داره حياته؟ قال يجوز ذلك ، قلت : فرجل أسكن رجلا داره ولم يوقت؟
قال : جائز ويخرجه إذا شاء».
الخامس ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن
الحسين بن نعيم (3) «عن أبى الحسن
موسى عليهالسلام قال : سألته
عن رجل جعل داره سكنى لرجل «ابان» حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده قال : هي له
ولعقبه من بعده كما شرط ، قلت : فان احتاج الى بيعها يبيعها قال : نعم ، قلت :
فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : لا ينقض البيع السكنى ، كذلك سمعت أبي عليهالسلام يقول : قال
أبو جعفر عليهالسلام لا ينقض البيع
الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه على أن الذي
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 24 ، التهذيب ج 9 ص 140 ح 589 ، الفقيه
ج 4 ص 186 ح 651.
(2) الكافي ج 7 ص 34 ح 25 ، التهذيب ج 9 ص 140 ح 590.
(3) الكافي ج 7 ص 38 ح 38 ، التهذيب ج 9 ص 141 ح 593 وفيه «أيام»
الفقيه ج 4 ص 185 ح 649.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 327 ح 2 وص 326 ح 2 وص 325 ح 2.
يشتريه لا يملك ما اشترى حتى ينقضي
السكنى على ما شرط والإجارة ، قلت : فان رد على المستأجر ماله وجميع ما لزمه من
النفقة والعمارة فيما استأجره؟ قال : على طيبة النفس ويرضى المستأجر بذلك لا بأس».
السادس ـ ما رووه أيضا عن خالد بن نافع البجليّ (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : «سألته
عن رجل جعل لرجل سكنى دار له مدة حياته يعنى صاحب الدار ، فلما مات صاحب الدار
أراد ورثته أن يخرجوه ألهم ذلك؟ قال : فقال : أرى أن تقوم الدار بقيمة عادلة وينظر
الى ثلث الميت ، فان كان في ثلثه ما يحيط بثمن الدار فليس للورثة أن يخرجوه ، وان
كان الثلث لا يحيط بثمن الدار فلهم أن يخرجوه قيل له : أرأيت ان مات الرجل الذي
جعل له السكنى بعد موت صاحب الدار يكون السكنى لعقب الذي جعل له السكنى؟ قال : لا».
السابع ـ ما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (2) «عن أبى جعفر عليهالسلام عن أمير
المؤمنين عليهالسلام أنه قضى في
العمرى انها جائزة لمن أعمرها ، فمن أعمر شيئا ما دام حيا فإنه لورثته إذا توفي».
الثامن ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن يعقوب بن شعيب
في الصحيح (3) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : سألته
عن الرجل يكون له الخادم تخدمه فيقول : هي لفلان تخدمه ما عاش ، فإذا مات فهي حرة
فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستة ثم يجدها ورثته ، ألهم ان
يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال : إذا مات الرجل فقد عتقت».
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 38 ح 39 ، التهذيب ج 9 ص 142 ح 594 ، الفقيه
ج 4 ص 186 ح 650 ، الوسائل ج 13 ص 331 ح 1.
(2) التهذيب ج 9 ص 143 ح 595.
(3) الكافي ج 7 ص 34 ح 23 ، التهذيب ج 9 ص 143 ح 596.
وهما
في الوسائل ج 13 ص 332 ح 2 وص 330 ح 2.
التاسع ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن مسلم (1) قال : «سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن رجل جعل
لذات محرم جاريته حياتها قال : هي لها على النحو الذي قد قال».
العاشر ـ ما رواه في التهذيب والفقيه عن على بن معبد (2) قال : «كتب
اليه محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين يسأله عن مات وخلف
امرأة وبنين وبنات وخلف لهم غلاما أوقفه عليهم عشر سنين ثم هو حر بعد العشر سنين
فهل يجوز لهؤلاء الورثة بيع هذا الغلام وهم مضطرون إذا كان على ما وصفته لك جعلني
الله فداك؟ فكتب عليهالسلام لا يبيعوه الى
ميقات شرطه الا ان يكونوا مضطرين الى ذلك فهو جائز لهم».
الحادي عشر ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله تعالى
أرواحهم) في الصحيح في بعض أسانيدهم عن ابن أذينة (3) قال : «كنت
شاهد ابن أبى ليلى فقضى في رجل جعل لبعض قرابته غلة داره ولم يوقف وقتا فمات الرجل
فحضر ورثته ابن أبى ليلى وحضر قرابة الذي جعل له غلة الدار فقال ابن أبى ليلى :
أرى أن أدعها على ما تركها صاحبها فقال له محمد بن مسلم الثقفي : أما ان علي بن
أبي طالب عليهالسلام قد قضى في هذا
المسجد بخلاف ما قضيت ، فقال : وما علمك؟ فقال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهماالسلام يقول : قضى
علي بن أبي طالب عليهالسلام برد الحبيس
وإنفاذ المواريث ، فقال : ابن أبى ليلى هذا عندك في كتاب؟ قال : نعم قال فأرسل
اليه وائتني به ، فقال له محمد بن مسلم : على أن لا تنظر في الكتاب الا في ذلك
الحديث قال : لك ذلك ، فأراه الحديث عن أبى جعفر عليهالسلام في الكتاب فرد
قضيته».
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 143 ح 597.
(2) التهذيب ج 9 ص 138 ح 581 ، الفقيه ج 4 ص 181 ح 634.
(3) التهذيب ج 9 ص 140 ح 591 ، الكافي ج 7 ص 34 ح 27 الفقيه ج
4 ص 181 ح 635.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 330 ح 1 وص 327 ح 3 وص 328 ح 1.
الثاني عشر ـ ما رواه في الكافي والفقيه عن عبد الرحمن
الجعفي (1) قال كنت اختلف
الى ابن أبى ليلى في مواريث لنا ليقسمها وكان فيه حبيس فكان يدافعني فلما طال
شكوته الى أبى عبد الله عليهالسلام فقال : أو ما
علم أن رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) أمر برد
الحبيس وإنفاذ المواريث ، قال : فأتيته ففعل كما كان يفعل فقلت له : انى شكوتك الى
جعفر بن محمد عليهالسلام فقال لي : كيت
وكيت قال : فحلفني ابن أبى ليلى أنه قد قال ذلك ، فحلفت له فقضى لي بذلك».
الثالث عشر ـ ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب
قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري (2) «عن جعفر عن
أبيه عن علي عليهمالسلام أن السكنى
بمنزلة العارية ، ان أحب صاحبها أن يأخذها أخذها ، وان أحب ان يدعها فعل أي ذلك
شاء».
هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام إذا
عرفت ذلك ، فالكلام هنا يقع في مواضع :
الأول : قد عرفت مما
أشرنا إليه آنفا أن ظاهر الأصحاب أنه لا بد في هذه المعاملة من عقد مشتمل على
الإيجاب والقبول كغيره من العقود ، قالوا : والعبارة عن العقد أن يقول : أسكنتك
وأعمرتك وأرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك هذه الدار وهذه الأرض أو هذا المسكن عمري أو
عمرك ، أو مدة معينة.
أقول المفهوم من ظاهر الأخبار المذكورة الاكتفاء بمجرد
التراضي على ذلك ، والإتيان بمجرد ما يفهم منه المقصود ، مثل قوله في الحديث
الثامن «هي لفلان تخدمه ما عاش» ، وفي الحديث التاسع جعل لذات محرم جاريته فإنه
ليس هنا عقد زيادة على ذلك ، ونحوهما ظاهر الحديث الثالث والرابع والخامس ، فإن
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 35 ح 28 عن عبد الرحمن الخثعمي ، التهذيب ج 9
ص 141 ح 592 ، الفقيه ج 4 ص 182 ح 636 ، الوسائل ج 13 ص 329 ح 2.
(2) الوسائل ج 13 ص 328 ح 3 ، قرب الاسناد ص 69.
ظاهرها مجرد الاذن في السكنى وليس هنا
عقد غير ذلك ، ولا قبول بالكلية بالمعنى الذي أرادوه غير مجرد الرضى بذلك ، وهذا
هو المفهوم من الأخبار بالنسبة إلى سائر العقود أيضا كما تقدم التنبيه عليه في غير
موضع.
وبالجملة فإن دائرة الأمر في العقود أوسع مما ضيقوه
وسهولة الأمر في ذلك أظهر مما شرطوه وان كان الوقوف على ما ذكروه هو الأولى.
الثاني : لا خلاف في
أنه لا يلزم شيء منها قبل القبض ، واختلفوا في أنه هل تلزم بالقبض المشهور ذلك ،
وقيل : بالعدم ، لأصالة بقاء الملك لمالكه ، فهي كالعارية ، وحينئذ تلزم ان قرنت
بالقربة ، والا فلا ، لأنه في معنى الهبة المعوضة ، وهذان القولان الأخيران نقلهما
الأصحاب في كتب الاستدلال بلفظ قيل : ولم يصرحوا بالقائل ، ولا ريب في ضعفهما
لدلالة الأخبار المذكورة على اللزوم بعد حصول القبض كالحديث الأول وقوله فيه «الناس
عند شروطهم» إلى أن قال : «فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يرد الى صاحب الدار»
فإنه ظاهر ، بل صريح في وجوب الوفاء بما اشترط ، وأنه ليس لصاحب الدار التصرف الا
بعد فنائهم ، الحديث الثاني والثالث ، وفيه تصريح بأنه ليس لصاحب الدار أن يخرجه ،
ومعنى الجواز في هذه الأخبار الصحيحة يعنى أنه يصح له التصرف والخبر المذكور صريح
في اللزوم ، ومثل ذلك الحديث الخامس حكم فيه بأن البيع لا ينقض السكنى بمعنى أنها
لازمة لا يوجب البيع نقضها ، ويؤكده جعلها في قرن الإجارة التي لا إشكال في لزومها
، وبالجملة فإن القولين المذكورين ضعيفان لا يلتفت إليهما ، ومما ذكرنا يعلم أن
القبض شرط في لزومها وبذلك صرح الأصحاب أيضا.
الثالث : لو قال : لك
سكنى هذه الدار ما بقيت وحييت ، يعنى الساكن فإنه لا اشكال ولا خلاف ظاهرا في أنه
بعد موت الساكن ترجع الدار إلى من أسكنه أو إلى ورثته ان مات ، وعلى ذلك تدل جملة
من الاخبار المتقدمة كالخبر
الأول والثاني ، فإنهما ظاهران في
وجوب العمل بالشرط ، وأنه بعد انقضاء الشرط ان كان بالنسبة إلى الساكن أو مع ورثته
ترجع الدار إلى صاحبها الأول.
وقال المحقق في الشرائع : ولو قال لك سكنى هذه الدار ما
بقيت أو حييت جاز ، ويرجع الى المسكن بعد الساكن على الأشبه ، أما لو قال : فإذا
متّ رجعت إلى ، فإنها ترجع قطعا ، انتهى.
ونسبة القول المذكور إلى الأشبه مؤذن بالخلاف في ذلك ،
والظاهر أن منشأ ذلك ما ذكره الشيخ في المبسوط حيث نقل في أصل المسئلة قولين
بالصحة والبطلان ، ثم نقل عن القائلين بالصحة أنهم اختلفوا فذهب قوم منهم إلى أنها
للمعمر مدة بقائه ، ولورثته من بعده ، وقال آخرون منهم : أنه إذا مات رجعت إلى
المعمر أو إلى ورثته ان كان مات ، قال : وهذا هو الصحيح على مذهبنا.
وأنت خبير بأن الظاهر أن الخلاف الأول والثاني إنما هو
للعامة لما علم من عادة الشيخ في الكتاب المذكور ويشير إلى ذلك قوله أخيرا وهذا هو
الصحيح على مذهبنا ، فإنه ينقل أقوال العامة ويختار منها ما يوافق مذهبه ،
وأخبارنا المتقدمة ظاهرة بل صريحة في بطلان هذه الأقوال المذكورة عدا ما ذكرنا من
الانتقال إلى المالك بعد انقضاء مدة الإسكان ان قرن بمدة ، أو موت الساكن ان قرن
بحياته ، ثم ان المفهوم من كلام الأصحاب وعليه تدل الأخبار المتقدمة أنه متى قرن
السكنى بعمر الساكن خاصة أو مع عقبه فإنه بعد موت الساكن أو الجميع يرجع ذلك
المسكن إلى المالك ، ونقل عن الشيخ في المبسوط عدم الانتقال لو شرط العقب بعده.
قال في الدروس : ولو قال : هي لك عمرك ولعقبك لم يملكها
المعمر ، بل ترجع بعد موت العقب الى المالك ، وظاهر الشيخ عدم رجوعها لخبر جابر عن
النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ، انتهى.
أقول والخبر المذكور هو ما رواه جابر أن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم)
قال : أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه
فإنما هي للذي يعطاها ، لا ترجع إلى الذي أعطاها ، فإنه أعطى عطاء وقعت فيه
المواريث» (1). وأنت خبير
بأن هذا الخبر غير موجود في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه عامي.
وكيف كان فالقول المذكور ضعيف مردود بالأخبار المتقدمة ،
كالخبر الأول والثاني فإنهما صريحان في الرجوع إلى صاحب الدار بعد فناء العقب ،
وقوله انه ليس للعقب أن يبيعوا ولا يورثوا أظهر في عدم الملك.
وبالجملة فإن المفهوم من الأخبار المتقدمة تصريحا في بعض
وتلويحا في آخر أنه لا فرق في رجوع المعطي بأحد الوجوه المذكورة إلى المالك بين أن
يعلق على عمر أحدهما أو على عقب المعمر بعده ، بأن يجعل المنفعة لهم بعده مدة
عمرهم ، أو لبعض معين منهم ، أو جعله له مدة ، ثم لعقبه مدة معينة مخصوصة ، فيكون
حينئذ مركبا من العمرى والرقبى ، ثم بعد انقضاء المدة المعينة يرجع إلى المالك ،
وإلى جميع ذلك يشير قوله في الخبر الأول «الناس فيه عند شروطهم» ، والله العالم.
الرابع : لا خلاف بين
الأصحاب في أنه لو قرن السكنى بعمر المالك ثم مات الساكن قبل المالك فإنه ينتقل
الحق إلى ورثته مدة حياة المالك ، كغيره من الحقوق والأملاك التي يرثها الوارث ،
إنما الخلاف فيما لو قرنت بعمر المعمر وهو الساكن ثم مات المالك قبله ، فالمشهور
أنه لا يجوز لورثة المالك إزعاج المعمر وإخراجه ما دام حيا ، لأن الأصل في العقد
اللزوم ، وهو قد استحق بالعقد المنفعة مدة حياته ، حيث أنها قرنت بعمرة ، وقد دل
الخبر الأول كما عرفت «الناس عند شروطهم» ومقتضى الشرط هنا ما ذكرناه.
ويدل عليه أيضا قوله في الخبر الثاني ان كان جعل السكنى
في حياته فهو كما شرط ، فان الضمير راجع إلى الساكن بقرينة قوله بعده «وان كان
جعلها له
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 515 ح 4.
ولعقبه» وهو أعم من أن يموت المالك أو
يبقى.
وذهب ابن الجنيد إلى تفصيل في ذلك ، فقال : إذا أراد
ورثة المالك إخراج الساكن بعد موت المالك نظر إلى قيمة الدار ، فان كانت تحيط بثلث
الميت لم يكن لهم إخراجه ، وان كان ينقص عنها كان ذلك لهم.
ويدل على ما ذهب إليه الخبر السادس حيث فصل فيه كما ذكره
، قال الشيخ في كتابي الأخبار بعد إيراد الخبر المذكور ما تضمن هذا الخبر من قوله «يعنى
صاحب الدار ، فإنه غلط من الراوي وهم منه في التأويل ، لأن الأحكام التي ذكرها بعد
ذلك إنما تصح إذا كان قد جعل السكنى حياة من جعل له السكنى فحينئذ يقوم وينظر
باعتبار الثلث وزيادته ونقصانه.
وأما إذا جعل السكنى حياة صاحب الدار فإنه يبطل السكنى
بموته ولم يحتج إلى تقويمه واعتبار الثلث وربما أوهم هذا الكلام منه موافقته لابن
الجنيد مما ذهب إليه ، الا أن الظاهر أنه إنما أراد به بيان بطلان هذا التأويل ،
بناء على ما اشتملت عليه الرواية من هذا الحكم ، وأنه لا يتمشى هذا الحكم المذكور
فيهما الا على تقدير كون التعمير بمدة عمر الساكن ، لا صاحب الدار ، لأنه لا خلاف
ولا إشكال في البطلان بموت صاحب الدار إذا قرنت بعمرة ، وربما حمل صاحب الدار في
الخبر على الساكن فإنه صاحب في الجملة لملكه المنافع مدة حياته ـ وان بعد ، الا
أنه لا بأس به في مقام التأويل جمعا بين الأدلة ، ثم ان الأصحاب قد ردوا هذه
الرواية بضعف السند ، واضطراب المتن.
قال في الدروس : وقال ابن الجنيد (رحمة الله عليه) :
يعتبر خروجها من الثلث لرواية خالد بن نافع عن الصادق عليهالسلام وفي متنها
اضطراب ، وقال في المسالك : ان في سندها جهالا وضعفاء ، ومتنها خللا يمنع من
الاستناد إليها ، فالمذهب هو المشهور.
أقول : ولعل الخلل المشار إليه منشؤه أن التفصيل بالخروج
من الثلث
وعدمه إنما هو فيما إذا كان ذلك في
مرض الموت لا في حال الصحة ، والمفروض في الخبر لا دلالة فيه ، ولا إشارة إلى أن
ذلك كان في المرض ، فيصير الخبر بذلك مضطربا ومختلا لخروجه عن مقتضى القواعد
الشرعية ، والأصول المرعية.
ومن ذلك يظهر أن العمل على القول المشهور لتأييده بما
قدمناه من الأخبار وموافقته القواعد المقررة ، وضعف هذا الخبر سندا ومتنا كما عرفت
، والله العالم.
الخامس : الموجود في كلام الأصحاب وكذا في الأخبار في
الاقتران بالعمر هو عمر المالك ، أو عمر الساكن وحده أو مع عقبه ، وهل يتعدى الحكم
إلى غيرهم ، فيقرن بعمر أجنبي اشكال ، قال في المسالك : يحتمل العدم ، وهو الذي
أفتى به الشهيد في قواعده ، للأصل وعموم الأمر بالوفاء بالعقود (1) ، و «أن
المؤمنين عند شروطهم» (2) ، وهذا من
جملته ، ولصدق اسم العمرى في الجملة ، المدلول على مشروعيتها في بعض الأخبار من
غير تقييد بعمر أحدهما ، وهذا لا بأس به ، ويحتمل عدم التعدي إلى غير ما نص عليه ،
لاشتمال هذا العقد على جهالة من حيث عدم العلم بغاية وقت المنفعة المستحقة ،
والأصل يقتضي المنع في غير محل الوفاق.
ويتفرع على الأول حكم ما لو مات أحدهما في حياة من علقت
بعمرة ، فإن كان الميت المالك فالحكم كما لو مات في حياة المعمر ، وان كان المعمر
رجعت إلى المالك ولو مات من علقت على عمره عادت إلى المالك أيضا مطلقا ، عملا
بالشرط ، انتهى.
أقول : الظاهر أن الأقرب هو الثاني ، لأن الحكم بانتقال
الملك عن مالكه عينا كان أو منفعة يتوقف على ناقل شرعي ، ولم يرد من الشارع ما يدل
على هذه الصورة ، ليصح ترتب النقل عليها ، والاحتجاج بالأصل مدفوع بأن الأصل العدم
حتى يقوم دليل على جواز ذلك ، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود متوقف على مشروعية
العقد وثبوته عن الشارع ، فالاستدلال به لا يخرج عن المصادرة «والمؤمنون عند
شروطهم». غاية ما يفيده الإباحة ، والكلام في لزوم ذلك بحيث لا يجوز له الرجوع
__________________
(1) سورة المائدة الآية 1.
(2) الوسائل ج 15 ص 30 ح 4. ، التهذيب ج 7 ص 371 ح 66.
تلك المدة كما هو مقتضى هذه المعاملة.
نعم إذا وقع الشرط في عقد لازم لزم ما وقع فيه ، ويؤيد
ذلك أيضا أنه هو الأحوط في الدين ، والأخذ به واجب في موضع عدم النص عند المحدثين
، «حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك فمن اجتنب الشبهات نجى من الهلكات». والله
العالم.
السادس : الظاهر أنه
لا خلاف في أنه لو أطلق السكنى ولم يعين مدة أو عين مدة غير مضبوطة فله السكنى مدة
تكون جائزة ، لا لازمة بمعنى أنه له إخراجه متى شاء ، ويدل على ذلك الخبر الثالث
والرابع ، وعلى ذلك يحمل الخبر الثالث عشر والا فإنه على إطلاقه مخالف للأخبار
وفتوى الأصحاب ، مضافا الى ضعف الرواية ، فلا بد من حمله على ما ذكرناه ، والا
فطرحه من البين ، وهذه الصورة مستثناة من صورة هذه المعاملة ، حيث ان الحكم فيها
اللزوم كما عرفت نصا وفتوى ، إلا في هذه الصورة.
بقي الكلام هنا في موضعين : أحدهما ـ في أنه قد صرح في
التذكرة بأنه مع الإطلاق يلزم الإسكان في مسمى العقد ولو يوما ، والضابط ما يسمى
إسكانا وبعده للمالك الرجوع متى شاء ، وتبعه المحقق الشيخ على (رحمة الله عليه)
واحتج بالرواية الرابعة ولعل ذلك بالنظر الى قوله «وله أن يخرجه بعد قوله أسكن
رجلا دارا» فإن الإخراج ظاهر في كونه قد سكن ، وأن الإخراج بعد السكون فيها ، قيل
: ويمكن الاحتجاج له بما يدل على لزوم غيره من العقود ، كعموم «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» (1) فلا بد من
الحكم هنا بلزومه وقتا ما ، عملا بالدليل ، ثم يرجع الى الجواز.
أقول : أنت خبير بأن قضية الجواز التخيير بين الوفاء
بالعقد وعدمه ، لأنه لا معنى لكونه جائزا غير لازم ، الا أنه ان شاء اسكن وان شاء
لم يسكن ، ومتى
__________________
(1) سورة المائدة ـ الاية 1.
اسكن فان شاء اخرج وان شاء لم يخرج ،
وأما الرواية فإن ما اشتملت عليه أحد الفردين المذكورين ولا يلزم من ذكره الاختصاص
به ، وأما الآية فهي مخصوصة بالعقود اللازمة ، ولزوم الوفاء آنا ما ، وان جاز
الرجوع بعد ذلك كما ذكروه خلاف ظاهر الآية ، إذ ظاهرها وجوب الوفاء ما لم يعرض
للعقد ما يوجب فسخه أو بطلانه ، وكان مبنى ما ذهبوا اليه على أنه لا بد من الإسكان
في الجملة ، ليصدق السكنى وتندرج هذه الصورة تحت هذه القاعدة ، وفيه أنها قد خرجت
بعدم لزوم الإسكان فيها ، فهي ليست من أفرادها وانما هذا حكم سأل عنه السائل في
تلك الأخبار ، فأجابوا عليهمالسلام عنه بأنه
بإذنه في ذلك لا بأس بالجلوس ولكنه لا يلزم كما في غيره من صور هذه القاعدة ،
وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها وجيها يعتمد عليه.
وثانيهما أنه لا يخفى أن مورد الخبرين المتقدمين السكنى
خاصة لو أطلقها ، وأما العمرى والرقبى فلم يتعرضوا في الأخبار لحكمها لو أطلقنا
أيضا ، وقطع في الدروس يبطلان العمرى مع الإطلاق ، ولم يتعرض للرقبى ، وفي التحرير
قطع بأنه مع إطلاق العمرى والرقبى يصح ، ويكون للمالك إخراجه متى شاء كالسكنى.
قال في المسالك بعد نقل ذلك : وهو في الرقبى حسن ، وفتوى
الدروس في العمرى أحسن ، وهو مؤذن باختيار الصحة في الرقبى خاصة ، مثل السكنى
والبطلان في العمرى ، وظاهر كلامه قبيل هذا الكلام هو التوقف في العمرى ، والحكم
بالصحة في الرقبى ، حيث قال : ويمكن القول بفساد العمرى مع الإطلاق لاقتضائها
الاقتران بعمر ، إما لأحدهما كما هو المشهور ، أو مطلقا كما قررناه ، فإذا لم
يعينه بطلت للجهالة ، كما لو عين مدة غير مضبوطة ، حيث يعتبر تعينها ، والصحة
إقامة لها مقام السكنى ، لاشتراكهما في كثير من المعاني والأحكام ، ومناسبتهما على
الوجه الذي قررناه سابقا ، فيكون كاستعمال لفظ السلم في مطلق البيع وكذا القول في
الرقبى ، وأولى بالصحة هنا لأن إطلاقها باعتبار رقبة الملك أو ارتقاب المدة
التي يرتضيها المالك ممكن هنا بطريق
الحقيقة ، فاستعمالها في السكنى يكون كاستعمال أحد المترادفين مكان الآخر ، وان
اختلفا من جهة أخرى ، وهذا قوي ، انتهى.
أقول : لا يخفى انه وان تكرر في كلام الأصحاب ذكر الرقبى
في أفراد هذه المعاملة ، وتكلفوا الوجه في التسمية بذلك ، كما تقدمت الإشارة اليه
، الا أنه لا وجود لذلك في أخبار المسئلة المتقدمة وليس غيرها في الباب ، وحينئذ
فيسقط الكلام فيها بالكلية في هذا الموضع وغيره وانما الموجود فيها السكنى والعمرى
والحبس خاصة.
وقد أشرنا فيما تقدم في غير موضع أن الأصحاب في جملة
أكثر التفريعات والأحكام الخارجة عن موارد الأخبار انما جروا فيها على كلام العامة
، ولا يبعد ان هذا من ذاك.
واما العمرى فالظاهر أنها مثل السكنى في هذا الحكم فإنه
لا فرق بين الأمرين إلا بالتعبير بلفظ الإسكان في الأول ، والعمرى في الثاني ،
والا فالمرجع إلى أمر واحد ، فإذا قال أسكنتك فهي سكنى ، وإذا قال : أعمرتك فهي
عمري كما تقدمت الإشارة إليه في صدر المبحث ، والأخبار دلت على أنه مع اقتران
الأول من هذين اللفظين بالمدة المعينة ، فإنه يلزم الوفاء تلك المدة ، ولا يجوز
الرجوع ومع اقتران الثاني بعمر الساكن أو المالك كذلك ، والإطلاق الذي أوجب الجواز
ـ دون اللزوم في الأول ـ انما هو من حيث عدم ذكر المدة المشترطة ، والإطلاق في
الثاني يرجع الى ذلك ، فإنه من حيث عدم ذكر عمر أحد من المالك أو الساكن أو غيرهما
على القول به ، فالقول بالصحة في الأول ، والبطلان في الثاني ، لا اعرف له وجها
وجيها.
قوله في المسالك ـ في بيان احتمال الفساد : «انه إذا لم
يعين عمر أحدهما أو مطلقا بطلت للجهالة» فيه ان ذلك وارد أيضا في السكنى إذا
أطلقها ولم يقيد بمدة ، مع أنه حكم بالصحة هو وغيره ، وان كان للمالك الرجوع ، فان
كانت الجهالة
من هذه الجهة موجبة للبطلان ففي
الموضعين ، وإلا فلا فيهما ، اللهم إلا أن يكون مبني كلامه على الفرق بين ما إذا
لم يعين للسكنى مدة بالكلية ، فإنه يصح ، وبين ما إذا عين مدة غير مضبوطة كقدوم
الحاج ، وإدراك الغلة ، فإنه يبطل ، والعمرى انما هي من قبيل الثاني ، لأنه ذكر العمر
ولم يعينه بعمر أحد ، فهو كما لو ذكر المدة ولم يشخصها بمدة معينة ، ويشير اليه
قوله كما لو عين مدة غير مضبوطة إلا أن فيه أن الظاهر من قوله عليهالسلام في الخبرين
المشار إليهما ولم يوقت ما هو أعم من الأمرين المذكورين لأن المراد لم يوقت لذلك
وقتا معينا وهو أعم من أن لا يوقت بالكلية ، أو وقت ولكنه غير معين ، والمراد
بالسكنى المطلقة التي تكون صحيحة غير لازمة هو هذا المعنى ، فان الوقت الغير
المعين يرجع الى عدم التوقيت بالكلية ، إذ لا ثمرة ترتب عليه ، والله العالم.
السابع : المشهور بين
الأصحاب أنه لا تبطل السكنى والعمرى والرقبى بالبيع ، وعليه يدل الخبر الخامس ،
الا أن مورده السكنى والعمرى ، وقد عرفت أن الرقبى لا وجود لها في الأخبار ، ونقل
في الدروس قولا ببطلان البيع ، واضطرب كلام العلامة هنا ، ففي الإرشاد قطع بجواز
البيع ، وفي التحرير استقرب عدمه ، لجهالة وقت انتفاع المشترى ، وفي القواعد
والمختلف استشكل الحكم ، وفي التذكرة أفتى بالجواز للرواية ، ثم استشكل بعد ذلك.
قال في المسالك : ومنشأ المنع أو الأشكال أن الغرض
المقصود من البيع هو المنفعة ، ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه ، وزمان استحقاق
المنفعة في العمرى مجهول.
أقول : لا يخفى ما في هذا التعليل العليل من الوهن
والقصور ، فان ما ذكره لو تم لاقتضى عدم جواز بيع ما آجره المالك لأن منفعته ملك
للمستأجر ضمن مدة الإجارة ، والبيع انما وقع على مال مسلوب المنفعة تلك المدة ، مع
أن النصوص المتقدمة في كتاب الإجارة دالة على جواز البيع ، وعدم إبطال الإجارة
والكلام في الموضعين واحد ، كما صرحت
به الرواية المذكورة هنا ، وقوله فيها «لا ينقض البيع الإجارة والسكنى» وقياسه ذلك
على بيع ما لا منفعة فيه قياس مع الفارق ، فان البيع فيما نحن فيه وكذا في الإجارة
غير خال من المنفعة في الجملة وانما تخلف بعض منها ، والجهالة المدعاة في العمرى
مع تسليم الإبطال بها مستثناة بالنص.
وبالجملة فإن النص المذكور صحيح صريح فيما قلنا ، ورده
بهذه التعليلات العليلة اجتهاد في مقابلة النصوص.
بقي الكلام هنا في مواضع : الأول ـ قال في الدروس : لو
باع المالك العين كان فسخا للسكنى ، لا الرقبى والعمرى ، ويتخير المشتري في فسخ
البيع وإجارته مع جهله ، وقيل : يبطل بيع المعلقة بالعمر للجهالة ، والأول مروي عن
الحسين بن نعيم عن الكاظم عليهالسلام ، انتهى.
أقول : المفهوم من كلام غيره من الأصحاب انه لا فرق في
الصحة بين السكنى وأخويها المذكورين في صورة البيع ، فحكمه هنا بانفساخ السكنى
بالبيع وتخصيص الصحة بأخويها غريب لا أعرف له موافقا فيه ، نعم لو كانت السكنى
جائزة وهي السكنى المطلقة فإنهم ذكروا أنها تبطل ، لأن من شأن العقد الجائز إذا
طرأ عليه عقد لازم ينافيه فإنه يبطله ، والرواية التي هي مستند هذا الحكم ليست
مخصوصة بالعمرى ، كما يشعر به ظاهر كلامه ، لأنه وان كان صدر الرواية قد تضمن
السؤال عن رجل أسكن رجلا داره مدة حياته ، وهذه الصورة عندهم كما قدمنا ذكره صدر
البحث مما يطلق عليها السكنى والعمرى ، الا أن الخبر المنقول في آخر الرواية عن
أبى جعفر عليهالسلام وكذلك ما قبله
، إنما صرح فيه بالسكنى ، وانها مع الإجارة لا تنقض بالبيع.
وبالجملة فالخبر صريح في السكنى والعمرى معا ، لا أنه
مختص بالعمرى ، كما هو ظاهر كلامه ، ومثله الشهيد الثاني في المسالك أيضا ، وكأنهم
بنوا على
ما تضمنه صدر الخبر وغفلوا عما تكرر
فيه بعد ذلك من ذكر السكنى ، سيما الرواية عن أبى جعفر عليهالسلام.
الثاني ـ حيث قد عرفت أنه يجوز البيع في هذه الصورة ،
فإن كان المبيع مسلوب المنفعة ، فإن كان المشتري عالما فلا خيار له ، لأنه قدم على
شراء عين مسلوبة المنفعة ، فيجب عليه أن يصبر حتى ينقضي المدة أو العمر المقرون
بها فتنتقل المنفعة بعد ذلك ، وله في تلك المدة وبقاء العمر الانتفاع بالمبيع ،
بالبيع والهبة والعتق ، وغير ذلك مما لا يتعلق بتلك المنفعة المستحقة ، وان كان
جاهلا تخير بين الصبر مجانا إلى انقضاء المدة أو العمر ، وبين الفسخ ، لحصول العيب
بفوات المنفعة.
الثالث ـ لو كان المشترى هو المعمر في صورة العمرى أو
الساكن في صورة السكنى ، فإنك قد عرفت أن المنفعة قد انتقلت إليه في تلك المدة
وزمان العمر ، وبعد الاشتراء قد انتقلت له العين أيضا ، فصارت العين ومنافعها له ،
فيجوز له أن يبيعها مع منافعها ، لأن الجميع ملك له ، وأما قبل الاشتراء فإنه لا
يجوز له بيع المنفعة التي انتقلت إليه ، لأن البيع لا يقع على المنافع ، وإنما
مورده الأعيان كما تقدم في كتاب البيع (1).
نعم الأقرب أنه يجوز له الصلح عليها ، وعلى هذا لو اشترى
العين غيره جاز له أن يصالح المشتري على ما يستحقه من المنفعة بمال معلوم ، فيصير
المشتري مالكا للعين والمنفعة ، كما لو كان المشتري هو المعمر أو الساكن ، والله
العالم.
الثامن : المشهور بين
الأصحاب أنه إذا أطلق السكنى بمعنى أنه لم يعين الساكن ، بل قال : أسكنتك هذا
الدار مدة كذا ، أو عمرك أو نحو ذلك ، فإنه يسكن فيها بنفسه وأهله وأولاده ، ولا
يجوز له إسكان غيرهم إلا بإذن جديد زائد على مجرد هذا العقد.
__________________
(1) ج 18 ص 429.
قال الشيخ في النهاية إذا أسكن انسان غيره لم يجز للساكن
ان يسكن معه غيره إلا ولده وأهله ، ولا يجوز له سواهم ، ولا يجوز للساكن أيضا أن
يؤاجره ولا أن ينتقل عنه فيسكن غيره إلا بإذن صاحب المسكن ، وعلى هذه المقالة جرى
من تأخر عنه إلا ابن إدريس ، فإنه قال في السرائر بعد نقل كلام الشيخ المذكور : والذي
يقتضيه أصول المذهب أن له جميع ذلك ، اخلافه وإجارته وانتقاله عنه وإسكان غيره معه
سوى ولده وامرأته سواء أذن له في ذلك أم لم يأذن ، إذا كان أول ما أسكنه قد أطلق
السكنى لأن منفعة هذه الدار استحقها ، وصارت مالا من أمواله ، وحقا من حقوقه ، فله
استيفائها كيف شاء بنفسه وبغيره ، وما أورده شيخنا أبو جعفر (رحمة الله عليه) في
نهايته فلا شك أنه خبر واحد قليلا ما يورده أصحابنا في كتبهم ، فشيخنا المفيد (رحمة
الله عليه) لم يورده في مقنعته ، ولا السيد المرتضى (رضياللهعنه) ولا المحصلون
من أصحابنا ، انتهى.
احتج الأصحاب على ما ذكروه بأن الأصل عصمة مال الغير ،
وحفظه عن تسلط غير المالك ، خرج عنه المسكن بالاذن وأهله وأولاده قضية للعرف ،
فصار كالمأذون فيه مطلقا ، بقي الباقي على أصل المنع ، وأجابوا عما ذكره بالمنع عن
الاستحقاق المطلق ، بل إنما يستحق على ما جعل له ، وهو السكنى فلا يتناول الإجارة
وغيرها ، لعدم الاذن فيه مطلقا ، وعرفا.
وتنظر فيه في المسالك ، ولم يذكر وجه النظر ، ثم قال :
وكيف كان فالعمل على القول المشهور ، وان كان كلام ابن إدريس لا يخلو من قوة.
أقول : لا يخفى أنه ليس في شيء من أخبار المسئلة ما يدل
على هذا الحكم المذكور بوجه ، فقول ابن إدريس أن ما أورده الشيخ في النهاية خبر واحد
، إنما هو من قبيل ما قدمنا ذكره في غير موضع من أنه لما كان أكثر ما يذكره الشيخ
في هذا الكتاب قد جرى فيه على ما أورد في الأخبار ، ظن ابن إدريس أن جميع ما في
الكتاب من فتاوى الشيخ من ذلك القبيل ، والا فهذه أخبار المسئلة
كملا كما قدمناه ، وهي كما ترى خالية
من التعرض لذلك ، ولهذا ان الأصحاب إنما استندوا في إدخال من ذكروه إلى العرف ،
حيث ان ظاهر اللفظ إنما يدل على إسكان ذلك الرجل وحده ، ولكن حيث دل العرف على
دخول من ذكروه حكموا بوجوب دخولهم ، ولهذا أيضا ان العلامة في التذكرة ألحق من جرت
العادة أيضا بإسكانه ، مثل عبده وجاريته ومرضعة ولده ، لدلالة العرف على ذلك وكذا
الدابة والضيف إذا كان في الدار موضع يصلح لها ، وكذا إحراز الغلة فيها ونحو ذلك
مما جرت العادة به ، ولا بأس به.
وما ذكره شيخنا المتقدم ذكره من النظر في جواب الأصحاب
عن حجة ابن إدريس لا أعرف له وجها ، فإن غاية ما يدل عليه لفظ السكنى هو السكون في
تلك الدار لا مطلق الانتفاع ، كما يدعيه ابن إدريس ، ومطلق الانتفاع إنما يترتب
على الإجارة لا على السكنى الصريح في خصوص هذه المنفعة ، ان أراد جميع منافعها
فمنعه ظاهر ، وان أراد هذه المنفعة الخاصة فهو مسلم ، ولكن بالنسبة إليه خاصة ،
لأن قوله أسكنتك في معنى أذنت لك في السكون ، والاذن إنما حصل له خاصة ، ولكن لما
كان مقتضى العرف والعادة هو تبعية من جرت العادة بملازمته له كالزوجة والأولاد
ونحوهم أدخلناهم في الاذن من هذه الجهة ، واما غيرهم فلا يدل العرف عليه ، ولا يدخل
تحت مفهوم اللفظ كما عرفت ، فكيف يتم ما ذكره ابن إدريس والحال كذلك.
وبالجملة فأصالة العدم حتى يقوم الدليل على خلافه أقوى
مستمسك ، فالأظهر هو القول المشهور.
التاسع : قال الشيخ
في النهاية : إذا جعل الإنسان خدمة عبده أو أمته لغيره مدة من الزمان ثم هو حر بعد
ذلك ، كان له ذلك أيضا جائزا ، وكان على المملوك الخدمة في تلك المدة ، فإذا مضت
المدة صار حرا ، فإن أبق العبد هذه المدة ثم ظفر به من جعل له خدمته لم يكن له بعد
انقضاء تلك المدة سبيل.
أقول : وما ذكره الشيخ هو مدلول الخبر الثامن ، وقال ابن
إدريس بعد نقل كلام الشيخ : أورد شيخنا هذه الرواية وهي من أضعف أخبار الآحاد ،
لأنها مخالفة لأصول المذهب ، لان التدبير عند أصحابنا بأجمعهم لا يكون الا بعد موت
المولى الذي هو المعتق المباشر للعتق.
أقول : وقد غفل ابن إدريس هنا عن شيء آخر ، وهو أن
الإباق عند الأصحاب وعليه دلت الأخبار مبطل للتدبير ، والرواية المشار إليها قد
اشملت على الإباق بعد التدبير ، حيثما ذكره الشيخ هنا في عبارته ، والتحقيق في
المقام أن يقال لا ريب أن ما ذكره ابن إدريس هو المتفق عليه بين الأصحاب ، من أن
التدبير إنما يعلق بموت المولى ، ولكن الشيخ وجماعة من اتباعه وجملة من المتأخرين
كالمحقق والعلامة وغيرهما صرحوا بالتدبير في هذه الصورة أيضا ، استنادا إلى الخبر
المشار إليه ، وهو صحيح صريح في ذلك ، ولا مانع من العمل به ، وان رده ابن إدريس
بأنه من أخبار الآحاد بناء على قاعدته الخارجة عن جادة السداد.
وأما ما ذكرناه نصرة لابن إدريس من أن الإباق مبطل
للتدبير فقد أجاب عنه الشيخ بأن هذا الحكم مخصوص بالتدبير معلق على موت المولى ،
كما هو مورد تلك الأخبار ، لا مطلق وهو جيد ، وألحق العلامة أيضا التدبير بموت زوج
المملوكة.
ويدل عليه ما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن حكيم (1) قال : «سألت
أبا الحسن عليهالسلام عن رجل زوج
أمته من رجل حر ثم قال لها : إذا مات زوجك فأنت حرة ، فمات الزوج قال : فقال إذا
مات الزوج فهي حرة ، تعتد منه عدة الحرة المتوفى عنها زوجها ، ولا ميراث لها منه ،
لأنها صارت حرة بعد موت الزوج».
وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك رد هذا القول ، وضعفه
بعدم وجود الدليل وهو غفلة عن الاطلاع على الخبر المذكور ، وسيأتي ان شاء الله
تعالى مزيد تحقيق
__________________
(1) التهذيب ج 7 ص 344 ح 38 ، الوسائل ج 16 ص 97 ح 2.
للمقام في كتاب التدبير ، وفي هذا
الخبر تأييد وتأكيد لسابقه في عدم اشتراط التدبير بموت المولى خاصة ، وربما قيل :
بجواز التدبير بموت كل من علق عليه ، ولا أعرف له دليلا ، فالواجب الوقوف على
موارد النصوص.
بقي الكلام في أن مخرج ذلك من الأصل أو الثلث ، والظاهر
أن الحكم في ذلك ما صرح به في المختلف ، قال : وهل ينعتق العبد من الأصل أو من
الثلث؟ الأقوى أنه ينعتق من الأصل ، ان كان المالك حيا حال وفاة من علقت الخدمة
بموته. ومن الثلث ان كان قد مات قبله ، وقد نبهنا على ذلك في كتاب القواعد ، انتهى
ووجهه ظاهر.
العاشر : المعروف من
كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه إذا حبس فرسه أو بغيره في سبيل الله أو غلامه
في خدمة المسجد أو بيت الله الحرام أو بيت العبادة ، لزم ذلك ولم يجز تغييره ما
دامت العين موجودة ، وفي التذكرة أنه يعتبر فيه القبض ، وفي التحرير صرح بأنه
يعتبر فيه القربة ، وظاهر من حكم بلزومه وعدم جواز تغييره ما دامت العين موجودة ،
هو عدم الخروج عن ملك المالك ، وفي الدروس صرح بخروجه عن ملكه بالعقد ، بخلاف
الحبس على الإنسان ، كما سيأتي.
وصرح بعضهم بأنه يصح الحبس على جميع القرب ، وأما إذا
حبس على آدمي فإن أطلق ولم يعين مدة بطل بموت الحابس ، وعاد إلى ورثته ، والأصحاب
حملوا ما تقدم من قضاء أمير المؤمنين عليهالسلام برد الحبيس
وإنفاذ المواريث على هذا الفرد ، وهو صريح الخبر الحادي عشر ، وعليه يحمل إطلاق
الخبر الثاني عشر ، وان عين مدة لزم في تلك المدة ، وبعد انقضائها يرجع إلى الحابس
أو ورثته ، وعلى هذا فلا دليل لهم على الحبس المقيد بمدة ، ولا على الحبس في سبيل
الله الا ظاهر الاتفاق على ذلك ، والا فإنه لا تعرض له في شيء من الأخبار
المتقدمة ، وليس في الباب غيرها.
ثم انه مع الإطلاق هل يصح له الرجوع فيه ، أكثر العبارات
خال من
التعرض لذلك ، وفي القواعد صرح بأن له
الرجوع متى شاء ، واستحسنه في المسالك ، وهو غير بعيد لو حبس عليه مدة عمر أحدهما
، فإنه مثل الحبس مدة في الرجوع إلى الحابس أو ورثته بعد انقضاء المدة والعمر ،
وبه جزم في التحرير ، والنصوص خالية عنه ، الا أنه الأوفق بالقواعد الشرعية.
قال في المسالك : واتفق الجميع على التعبير بالفرس
والمملوكة في الوجوه المذكورة ، وزاد في الدروس البعير في سبيل الله ، فكان عليهم
أن يذكروا حكم باقي ما يصح وقفه وإعماره ، والظاهر أن حكم الحبس كذلك مورده مورد
الوقف ، فيصح ، وحبس كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها بالشرائط السابقة على الإنسان
مطلقا ، وعلى القرب حيث يمكن الانتفاع فيها كمطلق الدابة ، لنقل الماء إلى المسجد
والسقاية ، ومعونة الحاج والزائرين وطلاب العلم والمتعبدين ، والكتب على المتفقهين
، والبيت على المساكين وغير ذلك ، فالاقتصار على ما ذكروه ليس بجيد ، وعموم الأدلة
متناول للجميع ، وخصوصها خال من جميع ما ذكروه ، انتهى.
المقصد الرابع في الهبة :
والكلام في هذا المقصد يقع في مقامين الأول : في معنى
الهبة وعقدها ، والأخبار الواردة فيها وما نصته تلك الأخبار من الأحكام فنقول : ان
الهبة يعبر عنها بالنحلة والعطية ، قيل : والعطية تطلق على مطلق الإعطاء المتبرع
به ، فيشمل الوقف والصدقة والهبة والهدية والسكنى ، ومن ثم أطلق بعض الفقهاء عليها
اسم العطايا ، وعنونها بكتاب ، فيكون أعم من الهبة والنحلة في معناها ، والهبة أعم
من الصدقة ـ لاشتراط الصدقة بالقربة ، كما تقدم ذكره ـ ومن الهدية لاشتراط الهدية
بالنقل إلى المهدي إليه من المهدي إعظاما وتوقيرا له ، ولهذا أنه لا يطلق لفظ
الهدية على العقارات ، فيقال : اهدى له دارا ، ولا أرضا ويقال : وهب له ذلك.
ومما يتفرع على ذلك أنه لو نذر الهبة برأي بالصدقة
والهدية ، ولو نذر بإحدى
الآخرين لم يبرأ بمطلق الهبة ، ولو
حلف ان لا يهب ، فتصدق أو أهدى حنث دون العكس ونقل عن الشيخ في المبسوط أن الهبة
والهدية والصدقة بمعنى واحد ، والظاهر بعده.
وظاهر المشهور أنه يشترط في الهبة بالمعنى الأعم بعد
أهلية التصرف من جانب الواهب ما يشترط في سائر العقود من الإيجاب والقبول ، ونحو
ذلك مما تقدم ذكره مرارا إلا اعتبار كونه بلفظ الماضي قولا واحدا ، فلا بد عندهم
في الهدية التي هي أحد أفراد الهبة كما عرفت من جميع ذلك.
قال الشيخ في المبسوط : ومن أراد الهدية ولزومها وانتقال
الملك منه إلى المهدى إليه الغائب فيوكل رسوله في عقد الهبة ، فإذا مضى وأوجب له
وقبل الهدية المهدى إليه وأقبضه إياها لزم العقد ، وملك المهدي إليه الهدية ،
ونحوه قال في الدروس ، وجعل عدم اشتراطها بالإيجاب والقبول احتمالا ، واختلف كلام
العلامة في ذلك ، ففي القواعد قطع بأن الهدية كالهبة في اشتراطها بالإيجاب والقبول
، وفي التحرير نقل قريبا من كلام الشيخ ، ثم قال : فلو قيل : بعدم اشتراط القبول
كان وجها قضاء للعادة بقبول الهدايا من غير نطق ، ويلوح من آخر كلامه في التذكرة
الفتوى بذلك.
قال في التذكرة ـ ونعم ما قال ، وان أسنده إلى العامة ،
فإنه الحق الذي لا يعتريه إشكال ـ انه لا حاجة في الهبة إلى الإيجاب والقبول اللفظيين
، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب ، والقبض من جهة المهدى إليه كالقبول ، لأن
الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) من قيصر
وكسرى وسائر الملوك فيقبلها ولا لفظ هناك ، واستمر الحال من عهده (صلىاللهعليهوآلهوسلم) إلى هذا
الوقت في سائر الأصقاع ، ولهذا كانوا يبعثون على يد الصبيان الذين لا يعتد
بعبارتهم قال (رحمهالله) : ومنهم من
اعتبرهما كما في الهبة ، واعتذروا عما تقدم بأن ذلك كان اباحة لا تمليكا ، وأجيب
بأنه لو كان كذلك ما تصرفوا فيه تصرف الملاك ، ومعلوم أن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) كان يتصرف
فيه ويملكه
غيره ، ويمكن الاكتفاء في هدايا
الأطعمة بالإرسال والأخذ جريا على العادة بين الناس ، والتحقيق مساواة غير الأطعمة
لها ، فإن الهدية قد تكون غير طعام فإنه قد اشتهر هدايا الثياب والدواب من الملوك
إلى رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فإن مارية
القبطية أم ولده كانت من الهدايا ، انتهى ، ومرجع هذا التحقيق إلى ما قدمنا نقله
وهو جيد ، واستحسنه في المسالك.
أقول : ومثل مارية القبطية التي أهديت إليه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) الجارية التي
أهداها المختار إلى زين العابدين عليهالسلام فأولدها زيدا
، ومعها مبلغ من الدنانير فقبله عليهالسلام والحديث في
حكاية اهدائها موجود ليس فيه شيء من هذه الأمور التي اعتبروها ، والشروط التي
اشترطوها ، ومن تتبع الأخبار والسير علم صحة هذا الكلام ، وأن خلافه نفخ في غير
ضرام.
على أنك قد عرفت ما في اشتراط الإيجاب والقبول في سائر
العقود هذا.
والمشهور في كلامهم أن الإهداء إنما يفيد مجرد الإباحة
دون الملك ، وللدافع الرجوع ما دامت العين موجودة ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في
المسالك الميل إلى حصول الملك بذلك ، وان جاز الرجوع ، قال : ـ بعد ان استحسن كلام
التذكرة كما ذكرناه ـ ما لفظه : ومع ذلك يمكن ان يجعل ذلك كالمعاطاة تفيد الملك
المتزلزل ، ويبيح التصرف والوطي ، ولكن يجوز الوجوع فيها قبله عملا بالقواعد
المختلفة ، وهي أصالة عدم اللزوم مع عدم تحقق عقد يجب الوفاء به ، وثبوت جواز
التصرف فيها بل وقوعه ، ووقوع ما ينافي الإباحة ، وهو الوطي وإعطاء الغير فقد وقع
ذلك للنبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في مارية أم
ولده ، وقد كان يهدى إليه الشيء فيهديه لزوجاته وغيرهن ، وأهدى إليه حلة فأهداها
لعلي عليهالسلام
من غير أن ينقل عنه قبول لفظي ولا من الرسول (صلىاللهعليهوآلهوسلم) إيجاب كذلك
مقارن له ، وهذا كله يدل على استفادة الملك في الجملة ، لا الإباحة ، ولا ينافي
جواز رجوع المهدي في العين ما دامت باقية ، انتهى.
أقول ـ وبالله التوفيق ، لنيل كل مأمول ـ : لا ريب أن
ظواهر الأخبار الواردة في هذا المقام إنما هو الملك الحقيقي لما ذكره من التصرف
بجميع وجوه التصرفات من وطئ وبيع وتصدق وهبة ونحوها ، ولا شك أن التصرف كيف شاء
المتصرف من أقوى أمارات الملك ، ودعوى أصالة عدم اللزوم في التحقيق لا يخرج عن
القول بالإباحة ، بل يرجع إليه ، لأنه متى لم يكن الإهداء لازما يوجب الملك كسائر
المتملكات ، بل يجوز الرجوع فيه فهذا هو عين ما منعه من الإباحة ونفاه في المقام ،
وان حصل الفرق بنوع من الاعتبار القشري الذي لا يصلح لترتب حكم شرعي ، وما المانع
من كون الإهداء من الأسباب الناقلة للملك إذا اقتضته الأخبار كما عرفت ، ولا بد
لنفيه من دليل.
وأما عدم تحقق عقد يجب الوفاء به ، ففيه ما عرفت في غير
موضع مما تقدم من أن هذه العقود التي اشترطوها واشترطوا فيها ما اشترطوه مما لم
يقم عليه دليل ، بل الدليل على خلافه واضح السبيل ، فان المفهوم من الأخبار أن
المدار على التراضي من الطرفين ، وأنه العمدة في البين ، وقد عرفت أن بيع المعاطاة
أيضا لا يشترط فيه أزيد من رضا الطرفين بما يتفقان عليه ، فجعله من باب المعاطاة
كما احتمله ـ يقتضي بناء على ما حققنا في بيع المعاطاة ، من أنه شرعي لازم ـ أنه
هنا كذلك ، ودعوى أن مفاده الملك المتزلزل ممنوعة ، حتى أن بعد المحدثين جوز في
المعاطاة أن يزن لنفسه ، ويضع الثمن في الدكان إذا كان ذلك معلوما بأن قيمة ذلك
الجنس كذلك ، من غير لفظ ولا كلام بين المتبايعين ، وما نحن فيه لا يقصر عن ذلك ،
فإنه متى أرسل المهدي الهدية بقصده واختياره ، وقبضها المهدى إليه فأي مانع من
لزوم ذلك ، كما لزم بيع المعاطاة على الوجه المذكور.
وكيف كان فكلامه جيد بناء على أصولهم وقواعدهم في العقود
، وأما على ما هو المفهوم من الأخبار كما تقدم في غير مقام فان ما ذكرنا أجود.
وبالجملة فإن من الظاهر البين الظهور أن النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم)
والأئمة عليهمالسلام لو لم يفهموا
من الإهداء الملك الحقيقي لما تصرفوا هذه التصرفات من وطئ واستيلاد ونحوهما وعلو
شأنهم ورفعة مكانهم أجل من أن يتصرفوا في ملك الغير مع عدم انتقاله لهم بناقل شرعي
إلا بمجرد الإباحة ، أو الملك المتزلزل الراجع إليها ، فإن الإباحة لا يجوز في
الفروج كما ذكره.
على أنه متى ثبت الملك كما اختاره وان ادعى أنه في
الجملة فتجويز الرجوع يحتاج إلى دليل ، وما استند إليه من أصالة عدم اللزوم مع عدم
تحقق عقد وهو معظم الشبهة عندهم ، فقد عرفت ما فيه ، ودعوى أنه متزلزل كبيع
المعاطاة وهو المشار إليه بقوله في الجملة ، قد عرفت تزلزله ، والله العالم.
والواجب أولا نقل الأخبار التي وصلت إلينا في هذا الباب
ثم الكلام فيها بتوفيق الملك الوهاب ، ونقل ما عثرنا عليه من كلام الأصحاب كما
جرينا عليه في سابق هذا المقصد والله الهادي إلى حقيقة الحق والصواب.
الأول ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن
عن الحلبي وجميل (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : إذا
كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها وإلا فليس له».
الثاني ـ ما روياه في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن
سنان (2) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : إذا عوض
صاحب الهبة فليس له أن يرجع».
الثالث ـ ما رواه في الكافي عن معاوية بن عمار (3) في الصحيح قال
: «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون
له على الرجل الدراهم فيهبها له إله أن يرجع فيها؟ قال : لا».
الرابع ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة
(4) «عن
__________________
(1 و 2) الكافي ج 7 ص 32 ح 11 وص 33 ح 19، التهذيب ج 9 ص 153 ح
627 وص 154 ح 632.
(3 و 4) الكافي ج 7 ص 32 ح 13 وص 30 ح 3، التهذيب ج 9 ص 154 ح 629 وص 152 ح 624.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 341 الباب 8 و 9 ح 1 وص 332 ح 1 وص 334 الباب 3 ح 1
أبى عبد الله عليهالسلام قال : ان الصدقة
محدثة ، انما كان الناس على عهد رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) ينحلون
ويهبون ولا ينبغي لمن أعطى لله عزوجل شيئا أن يرجع
فيه ، قال : وما لم يعط لله وفي الله ، فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم
تحز ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ، ولا المرأة فيما تهب لزوجها ، حيز أو لم
يحز أليس الله تعالى يقول «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» وقال «فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» وهذا يدخل في
الصداق والهبة».
ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة (1) «عن أبى جعفر عليهالسلام قال : لا
ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه» الحديث الى قوله : هنيئا مريئا. ولم يذكر
قوله ، وهذا يدخل فيه الصداق والهبة.
الخامس ـ ما روياه عن محمد بن مسلم (2) في الصحيح «عن
أبى جعفر عليهالسلام قال : الهبة
والنحلة يرجع فيها صاحبها ان شاء حيزت أو لم تحز إلا الذي رحم فإنه لا يرجع فيه».
السادس ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن القاسم بن سليمان (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يهب
الجارية على أن يثاب فلا يثاب إله أن يرجع فيها؟ قال : نعم ان كان شرط له عليه ،
قلت : أرأيت ان وهبها له ولم يثبه أيطأها أم لا؟ قال : نعم إذا كان لم يشترط عليه
حين وهبها».
السابع ـ ما رواه أيضا عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله
وعبد الله بن سليمان (4) في الصحيح «قالا
: سألنا أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يهب
الهبة أيرجع فيها ان شاء أم لا؟ فقال : تجوز الهبة لذوي القرابة ، والذي يثاب من
هبته ويرجع في غير ذلك ان شاء».
ورواه بسند آخر عن عبد الله بن سنان (5) مثله ، الا
انه قال والذي يثاب في هبته.
__________________
(1) المستدرك ج 2 ص 515 الباب 5 ح 2 ، العياشي ج 1 ص 117 ح
366.
(2) الكافي ج 7 ص 31 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 156 ح 643. الوسائل ج
13 ص 338 ح 2.
(3) التهذيب ج 9 ص 154 ح 633.
(4 و 5) التهذيب ج 9 ص 155 ح 636 وص 158 ح 650
ولا فرق بين الروايتين وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 338 ح 2 وص 341 ح 2 وص 338
ح 1 وص 342 ح 3.
الثامن ـ ما رواه في الصحيح عن أبان عمن أخبره (1) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : النحل
والهبة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها؟ قال : هي بمنزلة الميراث وان كان الصبي في
حجره فهو جائز ،. قال : وسألته هل لأحد أن يرجع في صدقته وهبته؟ قال : إذا تصدق
لله فلا ، وأما النحل والهبة فيرجع فيها حازها أو لم يحزها وان كانت لذي قرابة». ورواه
بطريق آخر في الموثق عن داود بن الحصين (2) عن أبى عبد الله عليهالسلام قال : «الهبة
والنحلة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها؟ قال : هي ميراث فان كانت لصبي في حجره فأشهد
عليه فهو جائز».
التاسع ـ ما رواه عن المعلى بن خنيس (3) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام هل لأحد أن
يرجع في صدقته أو هبته قال : أما ما تصدق به لله فلا» ، الحديث.
العاشر ـ ما رواه عن معاوية بن عمار (4) في الصحيح قال
: «قلت لأبي عبد الله عليهالسلام رجل كانت عليه
دراهم لإنسان فوهبها له ثم رجع فيها ثم وهبها له ثم رجع فيها ثم وهبها له ، ثم هلك
قال : هي للذي وهب له».
الحادي عشر ـ ما رواه عن جميل بن دراج (5) في الموثق «عن
أبى عبد الله عليهالسلام عن رجل وهب
لابنه شيئا هل يصلح أن يرجع فيه؟ قال : نعم الا أن يكون صغيرا».
الثاني عشر ـ ما رواه عن صفوان (6) في الصحيح «قال
سألت الرضا عليهالسلام عن رجل كان له
على رجل مال فوهبه لولده فذكر له الرجل المال الذي له عليه فقال له : ليس عليك فيه
شيء في الدنيا والآخرة يطيب ذلك له ، وقد كان وهبه لولد له؟ قال : نعم يكون وهبه
له ، ثم نزعه فجعله هبة لهذا».
__________________
(1 و 2) التهذيب ج 9 ص 155 ح 637 وص 157 ح 648.
وهما في الوسائل ج 13 ص 334 الباب 4 ح 1 وص 337 ح 2.
(3 و 4) التهذيب ج 9 ص 158 ح 651 وص 155 ح 638.
(5 و 6) التهذيب ج 9 ص 157 ح 646 و 649 ، وهذه الروايات في
الوسائل ج 13 ص 339 ح 4 وص 333 ح 2 وص 337 ح 1 وص 333 الباب 2.
الثالث عشر ـ ما رواه في الكافي عن محمد بن عيسى العبيدي
(1) قال : «كتبت
الى علي بن محمد عليهماالسلام رجلا جعل لك
جعلني الله فداك شيئا من ماله ثم احتاج اليه أيأخذه لنفسه أو يبعث به إليك؟ قال :
هو بالخيار في ذلك ما لم يخرجه عن يده ، ولو وصل إلينا لرأينا أن نواسيه به وقد
احتاج اليه».
الرابع عشر ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى بصير (2) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : قال
الهبة لا تكون أبدا هبة حتى يقبضها ، والصدقة جائزة عليه».
الخامس عشر ـ ما رواه عن إبراهيم بن عبد الحميد (3) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : أنت
بالخيار في الهبة ما دامت في يدك ، فإذا خرجت الى صاحبها فليس لك أن ترجع فيها ،
وقال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : من رجع في
هبته فهو كالراجع في قيئه».
السادس عشر ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (4) في الموثق قال
: «سألته عن رجل أعطى أمه عطية فماتت وكانت قد قبضت الذي أعطاها وثابت به ، قال :
هو والورثة فيها سواء».
السابع عشر ـ ما رواه في التهذيب في الصحيح عن أبى بصير (5) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام الهبة جائزة
قبضت أو لم تقبض قسمت أو لم تقسم ، والنحل لا يجوز حتى يقبض ، وانما أراد الناس
ذلك فأخطئوا».
ورواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار (6) في الصحيح الى
أبى بصير وهو
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 173 ح 606. الوسائل ج 13 ص 336 ح 8.
(2 و 3) التهذيب ج 9 ص 159 ح 654 وص 158 ح 653.
(4) التهذيب ج 9 ص 154 ح 631 ، الكافي ج 7 ص 32 ح 16. الوسائل
ج 13 ص 317 ح 3.
(5) التهذيب ج 9 ص 156 ح 641. الوسائل ج 13 ص 335 ح 4.
(6) معاني الأخبار ص 392 ح 38 ط تهران سنة 1379.
وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 336 ح 8 و 7 وص 343 ح 4 وص
317 ح 3 وص 335 ح 4.
مشترك وان كان الأظهر عده في الصحيح
قال : بعد قوله أو لم تقسم وانما أراد الناس النحل فأخطئوا ، والنحل لا تجوز حتى
تقبض».
الثامن عشر ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (1) قال : «وفي
رواية السكوني أن عليا عليهالسلام كان يرد
النحلة في الوصية وما أقر عند موته بلا ثبت ولا بينة رده».
التاسع عشر ـ ما رواه في التهذيب عن أبى بصير (2) قال : «سألته
عن الرجل يشترى المبيع فيوهب له الشيء وكان الذي اشترى لؤلؤا فوهبت له لؤلؤة فرأى
المشتري في لؤلؤة أن يرد أيرد ما وهب له؟ قال : الهبة ليس فيها رجعة وقد قبضها؟
انما سبيله على البيع ، فان رد المبتاع المبيع لم يرد معه الهبة».
العشرون ـ ما رواه عن سماعة (3) في الموثق قال
: «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن عطية
الوالد لولده فقال : اما إذا كان صحيحا فهو ماله يصنع به ما شاء ، واما في مرضه
فلا يصلح».
الحادي والعشرون ـ ما رواه عن أبى بصير (4) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يخص
بعض ولده بالعطية؟ قال : ان كان مؤسرا فنعم ، وان كان معسرا فلا».
الثاني والعشرون ـ ما رواه عن سماعة (5) عن أبى عبد
الله عليهالسلام عن الرجل يكون
لامرأته عليه صداق أو بعضه فتبرئه منه في مرضها قال : «لا ، ولكن ان وهبت له جاز
ما وهبت له من ثلثها».
الثالث والعشرون ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (6) في الموثق
__________________
(1) الفقيه ج 4 ص 184 ح 646.
(2) التهذيب ج 7 ص 231 ح 1008. الوسائل ج 13 ص 335 ح 4.
(3 و 4) التهذيب ج 9 ص 156 ح 642 و 644.
(5) التهذيب ج 9 ص 158 ح 652. الوسائل ج 13 ص 384 ح 12.
(6) الكافي ج 7 ص 346 ح 14 ، التهذيب ج 10 ص 288 ح 1117 ،
الفقيه ج 4 ص 110 ح 371 ، وهذه الروايات في الوسائل ج 13 ص 335 ح 4 وص 380 ح 12 وص
384 ح 11 و 12 و 16.
قال : سألته عن رجل ضرب ابنته وهي
حبلى فأسقطت سقطا ميتا فاستعدى زوج المرأة عليه ، فقالت المرأة لزوجها : ان كان
لهذا السقط دية ولي فيه ميراث ، فإن ميراثي منه لأبي ، قال : يجوز لأبيها ما وهبت
له». ورواه في الفقيه عن سماعة مثله ورواه في التهذيب بسند آخر صحيح عن سليمان بن
خالد (1) عن أبى عبد
الله عليهالسلام مثله وقال
يؤدى أبوها إلى زوجها ثلثي دية السقط».
الرابع والعشرون ـ في التهذيب عن عبد الله بن سنان (2) في الصحيح «عن
أبى عبد الله عليهالسلام قال : ليس
للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن
زوجها أو زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها».
الخامس والعشرون ما رواه عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (3) قال : سألت
الرضا عليهالسلام يأخذ من أم
ولده شيئا وهبه لها من غير طيب نفسها من خدم أو متاع أيجوز ذلك له؟ قال : نعم إذا
كانت أم ولده.
السادس والعشرون ـ ما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (4) في الموثق «قال
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام ما تقول في
رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر فيقول : حللني من ضربي إياك ومن كل ما كان
مني إليك وما أخفتك وأرهبتك فيحلله ويجعله في حل رغبة فيما أعطاه ، ثم ان المولى
بعد ، أصاب الدراهم التي أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد ، فأخذها المولى إحلال
هي له؟ قال : فقال : لا تحل له ، لأنه افتدى بها نفسه من العبد مخافة العقوبة
والقصاص يوم القيامة ، قال : فقلت له : فعلى العبد أن يزكيها ، إذا حال عليها
الحول؟ قال : لا ، إلا أن يعمل له بها ولا يعطى العبد من الزكاة شيئا».
__________________
(1) التهذيب ج 10 ص 288 ح 1118.
(2) التهذيب ج 7 ص 462 ح 1851 ، الكافي ج 5 ص 514 ح 4.
(3) التهذيب ج 8 ص 206 ح 729.
(4) التهذيب ج 8 ص 225 ح 808.
وهذه
الروايات في الوسائل ج 13 ص 323 ح 1 وج 16 ص 123 ح 2 وج 13 ص 35 ح 3.
أقول : وقد تقدم في المقصد الثاني موثق عبيد بن زرارة (1) وفيه «ولمن
وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ، ولا ينبغي لمن اعطى لله عزوجل أن يرجع فيه».
إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ لو
أراد هبة ما في الذمة فلا يخلو اما أن يكون لغير من عليه الحق ، أو لمن عليه الحق
، فهنا مقامان أحدهما في هبة غير من عليه الحق ، وقد اختلف الأصحاب (رحمهمالله) في صحة ذلك
وبطلانه ، والمشهور البطلان لما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ تحقيقه من أن القبض
شرط في صحة الهبة وما في الذمة يمتنع قبضه ، قالوا : لأنه ماهية كلية لا وجود لها
في الخارج ، والجزئيات التي في ضمنها ليس هي الماهية ، بل بعض أفرادها غيرها.
أقول : ويؤيده ما صرح به الشيخ في المبسوط حيث منع من
وقف الدين ، قال : لأن من شروطه القبض ، والدين لا يمكن تسليمه ، ولا يمكن فيه
القبض ، وذهب الشيخ وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى الصحة ، واحتج عليه في
المختلف بأنه يصح بيعه ، والمعاوضة عليه ، فتصح هبته لغير من هو عليه ، واشتراط
الهبة بالقبض لا ينافيه ، لتحققه بأن يقبضه المالك ، ثم يقبضه الموهوب ، أو يوكله
المالك في القبض عنه ، ثم يقبض من نفسه.
أقول : ويدل على القول بالصحة ظاهر الخبر الثاني عشر ،
والتقريب فيه التقرير على صحة الهبة لولده وان جاز له نزعه منه ، كما صرح به عليهالسلام والنزع منه
مستلزم لحصول الانتقال إليه بالهبة.
بقي الكلام فيه من حيث جواز الرجوع فيما يهبه لولده ،
وهي مسئلة أخرى يأتي الكلام فيها ان شاء الله تعالى ، وظاهر الخبر هو صحة الهبة
وان لم يحصل قبض ، ويمكن حمله على أن القبض شرط في اللزوم لا الصحة ، والهبة
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 30 ح 4 ، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.
صحيحة وان لم تكن لازمة ، وسيجيء
تحقيق الكلام في ذلك أيضا ان شاء الله تعالى.
وأما ما قيل : من أن الدين ماهية كلية لا وجود لها في
الخارج الى آخر ما تقدم ، فجوابه أنه لو تم ذلك لما صح بيعه والمعاوضة عليه ، لأن
البيع مشروط بالقدرة على التسليم إجماعا في غير الآبق ، بل يشترط وجوده مطلقا ،
والماهية لا وجود لها على ما ذكروه ، وبه يظهر أن الماهية وان كانت من حيث هي لا
وجود لها إلا أنها موجودة بوجود بعض أفرادها ، والا لما صح البيع ونحوه كما عرفت ،
مع أنه لا خلاف في الصحة.
وبالجملة فإن ما في الذمة ان كان موجودا متحققا يمكن
قبضه وتسليمه ، فبيعه وهبته صحيحان ، لحصول الشرط والقدرة على القبض ، ونحن لا
نحكم بصحة الهبة إلا بعد القبض ، كما لا نحكم بصحتها لو تعلقت بعين إلا بعد قبضها
، والقبض لما كان ممكنا بقبض بعض أفراد الماهية كما قدمنا ذكره صحت الهبة ، وتوقفت
على حصول القبض على ذلك الوجه ، ولا ريب في أن الدين مملوك للواهب قبل قبضه ،
وقبضه ممكن على الوجه المذكور ، فصحت هبته ، وتوقفت على قبضه كما توقفت لو كانت
عينا ، وبه يظهر أنه لا يمتنع نقله الى ملك المتهب حال كونه دينا كما ذكروه ، لأنه
مملوك له ، وإلا لما صح بيعه أيضا.
وثانيهما ـ في هبة من عليه الحق ، والظاهر أنه لا خلاف
في صحة ذلك في الجملة ، إنما الخلاف في اشتراط ذلك بالقربة ، كما سيأتي بيانه ان شاء
الله تعالى لكن الهبة هنا عند الأصحاب بمعنى الإبراء من الدين ، فلا يشترط فيها
القبض ولا يجرى فيها الاشكال المتقدم ذكره ، ويدل على ذلك الخبر الثالث والعاشر ،
وما اشتمل عليه الخبر العاشر من الرجوع بعد الهبة ، فإنما وقع في حكاية كلام
السائل ، فلا ينافي ما دل عليه الخبر الآخر من أنه بعد الهبة ليس له الرجوع ،
وبذلك استدل الأصحاب على كون الهبة هنا بمعنى الإبراء ، حيث ان الهبة بمجردها لا
يلزم إلا في مواضع مخصوصة يأتي ذكرها ، وليس هذا منها ، فامتناع الرجوع
إنما كان من حيث انه إبراء ، والإبراء
لازم لا رجوع فيه اتفاقا ، وظاهر الأصحاب أنه لا ينحصر في لفظ ، بل كلما أدى هذا
المعنى من لفظ الإبراء أو العفو أو الهبة أو الإسقاط أو نحو ذلك ، فإنه تحصل به
البراءة وفراغ الذمة وقد أطلق عليه لفظ العفو في قوله عزوجل (1) «إِلّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» وحيث ان
الأصحاب قد اختلفوا في أن الإبراء هل يتوقف صحته على القبول أم لا؟ والهبة هنا في
معنى الإبراء كما عرفت ، اختلفوا في اشتراط القبول فيها ، فكل من أوجبه ثمة أوجبه
هنا ومن لا فلا ، والمشهور بين الأصحاب العدم ، ونقل في المختلف القول بالاشتراط
عن الشيخ في المبسوط وابن زهرة وابن إدريس ، قال : قال الشيخ في المبسوط : قال قوم
من شرط صحته قبوله ، وما لم يقبل فالحق ثابت بحاله ، وهو الذي يقوي في نفسي ، إلا
أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ذكر أن كلام الشيخ في المبسوط هنا مختلف ، ففي
أول المسئلة قواه ، وفي آخره قوى القول الآخر قال : فإطلاق جماعة نسبة القول
باشتراطه اليه ليس بجيد.
احتج القائلون بعدم الاشتراط بالأصل ، وبأنه إسقاط لا
نقل شيء إلى الملك فهو بمنزلة تحرير العبد.
أقول : ويدل عليه ظاهر قوله عزوجل «إِلّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» حيث اكتفى في
سقوط الحق بمجرد العفو ، والقبول غير داخل في مسماه قطعا ، واستدل أيضا على ذلك
بقوله عزوجل (3) «فَنَظِرَةٌ
إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ» حيث اعتبر مجرد
الصدقة ولم يعتبر القول وقوله تعالى (4) : «وَدِيَةٌ
مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» فأسقط الدية
بمجرد الصدقة ولم يعتبر القبول ، والمراد بالصدقة في الآيتين الإبراء.
__________________
(1) سورة البقرة ـ الاية 237.
(3) سورة البقرة ـ الاية 280.
(4) سورة النساء ـ الاية 92.
واعترض في المسالك على الاستدلال في الآيتين المذكورتين
بأن الصدقة كما تقدم من العقود المفتقرة إلى القبول إجماعا ، فدلالتهما على
اعتباره أولى من عدمه.
أقول : الظاهر من كلام المفسرين وهو ظاهر الآيتين
المذكورتين إنما هو الإبراء ، والعفو عما يستحقونه ، احتج القائلون بالاشتراط
باشتمال الإبراء على الهبة ، فلا يجبر على تحملها ، وقبولها كهبة العين ، ولو لم
يعتبر القبول فتحملها جبرا.
وأجيب عنه بالفرق بين هبة العين وهبة الدين ، فإن الأول
تمليك ، والثاني إسقاط ، فاعتبر القبول في الأول دون الثاني ، وتوضيحه أن الهبة
لما كانت هنا بمعنى الإبراء كما عرفت ، ومن الظاهر أن الإبراء لا يتعلق بالأعيان ،
فإنه لو أبرأ مالك الوديعة الودعي منها لم يملكها ولو قبل ، وكذا لو أسقط حقه من
عين مملوكة لم تخرج بذلك عن ملكه ، بخلاف الدين ، فإنه قابل لذلك ، فإنه ليس شيئا
موجودا ، فكان أشبه بالعتق.
وأما ما ذكروه من اشتمال الإبراء على الهبة ، ففيه أنه
لا يخفى أن إسقاط الإنسان حق نفسه باختيار ، من غير طلب من عليه الحق واستدعائه
ذلك لا يظهر فيه منة ، بثقل تحملها على من عليه الحق ، بخلاف هبة الأعيان المتوقفة
على القبول والقبض ونحو ذلك مما يشترط في صحة العقود ، مما هو ظاهر في الحرص على
التملك الموجب للمنة غالبا ، والله العالم.
الثاني : لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط القبض في الهبة
في الجملة ، وإنما الخلاف في كونه شرطا في الصحة أو اللزوم؟ فالمشهور بين
المتأخرين الأول ، ونقله في المختلف عن أبى الصلاح ونقله ابن إدريس عن أكثر
علمائنا ، وذهب الشيخان وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى
الثاني.
ويظهر الخلاف في مواضع ، منها النماء المتخلل بين العقد
والقبض ، فإنه يكون للواهب على الأول ، وللمتهب على الثاني.
ومنها ما لو مات الواهب قبل الإقباض ، فإنها تبطل على
الأول ، ويتخير الوارث بين الإقباض وعدمه على الثاني.
ومنها فطرة المملوك الموهوب قبل الهلال ولم يقبضه الا
بعده ، فإنها على الواهب على الأول ، وعلى الموهوب له على الثاني.
ومنها نفقة الحيوان في المدة المتخللة ، وأنت خبير بأن
الأخبار في هذا المقام لا تخلو من اختلاف ، فمما يدل على القول الأول الخبر الثامن
، حيث صرح فيه بأنها بعد الموت وقبل القبض ترجع ميراثا ، وهو ظاهر في بطلانها قبل
القبض ، ولو كانت صحيحة كما هو القول الآخر لكان الحكم تخير الوارث بين الإقباض
فتلزم وعدمه ، والخبر الرابع عشر لدلالته على أن الهبة لا تكون هبة أبدا الا
بالقبض ، ومفهومه أنها بدونه لا تكون هبة وهو أظهر ظاهر في البطلان بدون القبض.
واستدل القائلون بهذا القول زيادة على الخبرين المذكورين
بأن الأصل بقاء الملك على مالكه ، وعدم تأثير العقد في مقتضاه ، خرج منه ما بعد
القبض بالإجماع ، فيبقى الباقي.
وأجاب عنه الآخرون بارتفاع الأصل بطرو السبب الناقل ،
وعموم الأمر (1) «بالوفاء
بالعقد» يمنع تأثيره بقبضه مطلقا ، وأجابوا عن الرواية الأولى بضعف السند ، وعن
الثانية بأنه لا يجوز حملها على ظاهرها ، والا لزم التناقض ، بل المراد أن الهبة
لا تكون هبة لازمة أبدا حتى يقبض ، وهو أولى من إضمار الصحة ، فإن ما ليس بصحيح
كالمعدوم ، ومما يدل على القول الثاني الخبر السابع عشر ، وهو مع صحته ظاهر بل
صريح في صحة الهبة قبل القبض ، لأن المراد بالجواز في هذا الباب وما تقدمه اللزوم
في أكثر الأخبار ، ولكن وجه الجمع بين هذا الخبر وغيره يقتضي الحمل على الصحة ،
واحتجوا على ذلك زيادة على الرواية بأنه عقد يقتضي التمليك ، فلا يشترط في صحته
القبض ، كغيره من العقود ، ولعموم
__________________
(1) سورة المائدة ـ الاية 1.
الأمر بالوفاء بها المقتضى له ، ولأنه
تبرع كالوصية ، فلا يعتبر فيها أيضا.
واعترضه في المسالك فقال : ويمكن أن يقال : ان العقود
منها ما يقتضي الملك ، ومنها ما لا يقتضيه بدون القبض ، وقد تقدم منه الوقف ،
فيكون أعم ، والمراد بالوفاء بها العمل بمقتضاها من لزوم وجواز وغيرهما ، فلا يدل
على المطلوب ، وكذلك مطلق التبرع أعم مما لا يعتبر فيه القبض ، والحاقه بالوصية
قياس ، وأجاب عن الرواية بأن إطلاق الهبة على غير المقبوضة أعم من الحقيقة ، وجاز
أن يكون مجازا تسمية للشيء باسم ما يؤل إليه على تقدير لحوقه ، أو إطلاقا لاسم
المجموع على بعض الأجزاء ، فان الإيجاب والقبول أعظم أجزاء السبب التام في تحققها
، ومطلق جوازها لا نزاع فيه ، انتهى وهو مؤذن باختياره القول الأول.
أقول : ما أجاب به عن تلك الوجوه غير بعيد ، وان أمكن
المناقشة في بعضه ، وأما ما أجاب به عن الرواية فهو في غاية البعد ، ولو قامت
أمثال هذه الاحتمالات لانسدت أبواب الاستدلالات ، على أنه أولا لا معنى للحكم
بالجواز عليها الذي هو بمعنى الصحة أو اللزوم كما عرفت ، والحال أنها ليست بهبة
حقيقة ، وإنما أطلق عليها مجازا ، والا للزم الحكم بالصحة في كل ما أعطى وان لم
يكن هبة بمجرد ارتكاب التجوز فيه ، وهو لا يقول به.
وثانيا ان اللازم من كلامه استعمال اللفظ في حقيقته
ومجازه ، وهم لا يقولون به ، لأن قوله عليهالسلام الهبة جائزة
قبضت أو لم تقبض ، قد أطلق فيه الهبة على كل من المقبوضة ، وغير المقبوضة ، وهي
عنده ليست بهبة حقيقة ، فقد استعمل عليهالسلام لفظ الهبة في
كل من حقيقته ومجازه.
وثالثا أن مقابلتها بالنحل وأنها لا يجوز حتى يقبض ،
بمعنى أنه يشترط في صحتها أو لزومها القبض ، أظهر ظاهر في أن المراد بالهبة في صدر
الخبر هو ما يسمى هبة حقيقة لا مجازا ، والا فإن هذا الفرد المجازي الذي ادعاه
حكمه حكم النحل
من أنه لا يجوز ولا يصح أو يلزم حتى
يقبض ، فأي معنى لهذه المقابلة بينهما.
وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكره وجها وجيها ، ولعله لسوء
فهمي القاصر ، وكيف كان فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، لظهور التعارض بين هذه
الأخبار وتصادم التأويلات من الجانبين ، وان كان القول الثاني لا يخلو من قوة ،
وقد تقدمت الإشارة إلى دلالة الخبر الثاني عشر في ذلك.
قال في الدروس بعد نقل القولين المتقدمين : والروايات
متعارضة ، ثم قال ولعل الأصحاب أرادوا باللزوم الصحة ، فان في كلامهم اشعارا ما به
، فان الشيخ قال لا يحصل الملك الا بالقبض ، وليس كاشفا من حصوله بالعقد ، مع أنه
قائل بأن الواهب لو مات لم تبطل الهبة ، فيرتفع الخلاف ، انتهى.
واعترضه في المسالك قال : وفيه نظر ، لمنع تعارض
الروايات على ما قد سمعت ، فان الجمع بينهما ممكن ، وارادة جميع الأصحاب من اللزوم
الصحة غير واضع فإن العلامة في المختلف نقل القولين واحتج لهما ، ثم اختار الثاني
فكيف يحمل على الآخر ، نعم كلام الشيخ الذي نقله متناقض ، وليس حجة على النافين
فان الخلاف متحقق.
أقول : ما ذكره من منع تعارض الروايات ان كان بالنظر الى
تأويله الخبر الذي هو مستند القائلين بالقول الثاني فقد عرفت ما فيه ، فان تأويله
في غاية البعد كما أوضحناه ، وان كان غير ذلك فليس في كلامه ما يدل عليه.
والتحقيق أن التعارض ثابت ، وأوضحناه في معاني الأخبار
المذكورة ، واما باقي ما ذكره فهو جيد ، والعجب هنا من العلامة في التذكرة حيث قال
: الهبة والهدية والصدقة لا يملكها المتهب والمهدى اليه والمتصدق عليه بنفس الإيجاب
والقبول إذا كان عينا إلا بالقبض ، وبدونه لا يحصل الملك عند علمائنا اجمع ،
انتهى.
وهو صريح في دعوى الإجماع على أن القبض شرط في الصحة ،
وهو وان مؤذنا بصحة ما ادعاه في الدروس ، الا أن الخلاف مشهور كما عرفت ، والشيخان
ومن تبعهما ممن تقدم ذكر بعض منهم على
القول بأنه شرط في اللزوم ، وقد فرع الشيخ على الخلاف المذكور فطرة العبد المشترى
قبل الهلال مع عدم القبض إلا بعده ، فقال في المبسوط : من وهب لغيره عبدا قبل أن
يهل شوال فقبل الموهوب له ولم يقبضه حتى هل شوال ثم عبضه ، فالفطرة على الموهوب له
، لأن الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول ، وليس من شرط انعقادها القبض ، وفي أصحابنا
من يقول القبض شرط في صحة الهبة ، فعلى هذا لا فطرة عليه ، وتلزم الفطرة الواهب ،
انتهى ملخصا ، فانظر الى صراحته في الخلاف وصراحته في اختيار القول بحصول الملك
بمجرد العقد من غير توقف على القبض ، وهو (قدسسره) في المختلف
قد وافق الشيخ في هذه المقالة ، واحتج بما ذكره الشيخ ، وبذلك يظهر لك عدم الوثوق
بهذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم ، والمتكاثرة الدوران على رؤوس أقلامهم.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المقام اشكالا لم أقف على من
تنبه له ، وهو أن مقتضى القول بكون القبض شرطا في اللزوم لا في الصحة ، هو أن
الهبة بدون القبض تكون صحيحة غير لازمة ، وبالقبض تكون لازمة ، بمعنى أنه لا يجوز
الرجوع فيها ، إذ المتبادر من اللزوم هو ذلك ، مع أنه كما سيأتي ان شاء الله تعالى
ذكره ان الأمر ليس كذلك حيث انهم عدوا المواضع التي لا يجوز الرجوع فيها ، وحصروها
في مواضع مخصوصة ، وان كان على خلاف في بعضها ، وليس هذا منها ، وصرحوا بأنه لا
خلاف في جواز الرجوع فيما عداها ، وممن صرح بذلك المحدث الكاشاني في المفاتيح ،
لما فهمه من كلامهم ، فقال بعد عده المواضع المشار إليها ما لفظه : وفي غير ما ذكر
يجوز له الرجوع مطلقا بلا خلاف ، كما في الصحاح المستفيضة ، ثم نقل ما يخالفها ،
وحمله على الكراهة ، والاشكال كما ترى ظاهر ، ولا مخرج من هذا الإشكال إلا بما
ذكره في التذكرة ، وأشار إليه في الدروس مما يرجع إلى حمل اللزوم على الصحة ، إلا
أنك قد عرفت ما فيه ، وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو من تشويش واضطراب
كما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب ، والله العالم
تنبيهات :
الأول : لو مات المتهب بعد العقد وقبل القبض ، فالظاهر
أنه كموت الواهب في التفريع على القولين المتقدمين ، فان قلنا ان القبض شرط في الصحة
بطلت الهبة في الموضعين ، وصار الموهوب ميراثا لورثة الواهب ، وان قلنا بالقول
الأخير تخير الواهب في الإقباض وعدمه في موت المتهب ، وتخير وارثه في ذلك في موت
الواهب ، صرح بذلك في التذكرة وأكثر الأصحاب لم يذكروا إلا موت الواهب.
واستدل في المسالك على البطلان بموت الواهب ـ حيث انه
المفروض في عبارة المصنف بمرسلة أبان ، ورواية داود بن الحصين المتقدمين ـ ثم طعن
فيهما بضعف السند ، ومورد الخبرين كما ترى انما هو موت الواهب ، ثم نقل عن الشيخ
في المبسوط الخلاف في ذلك ، حيث انه قال لا تبطل الهبة ، وتقوم الورثة مقامه كالبيع
في مدة الخيار ، من حيث ان الهبة عقد يؤل الى اللزوم ، فلا ينفسخ بالموت ، وتبعه
ابن البراج على ذلك ، مع أن الشيخ قال في هبة ذي الرحم : إذا مات قبل قبضها كان
ميراثا ، وقال : ان الملك لا يحصل الا بالقبض ، وليس كاشفا عن حصوله بالعقد ، ثم
أورد عليه التناقض بين كلاميه.
أقول : كلام الشيخ الأول مبني على مذهبه الذي قدمنا نقله
عنه من أن القبض شرط في اللزوم لا في الصحة ، إلا أنه ناقضة بكلامه الأخير ، وهذا
هو ما قدمت الإشارة إليه في تمسك صاحب الدروس به في رفع الخلاف من البين.
ثم انه قال في المسالك : ولا فرق مع موته قبل القبض بين
اذنه فيه قبله وعدمه ، لبطلان الاذن بالموت ، وفي معناه ما لو أرسل هدية الى انسان
فمات المهدى أو المهدي اليه قبل وصولها ، فليس للرسول دفعها حينئذ الى المهدي اليه
، ولا الى ورثته لبطلان الهدية بالموت قبل القبض كالهبة ، انتهى.
الثاني : قالوا : لو
أقر الواهب بالهبة والإقباض حكم عليه بإقراره ، وان كانت الهبة في يد الواهب ، ولو
أنكر بعد ذلك لم يقبل ، لعموم (1) «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». وكونها
في يده لا يستلزم عدم الإقباض بعد اعترافه ، لإمكان رجوعها اليه بعد ذلك ، الا أن
يعلم كذبه في اخباره الأول ، كقطر الوقت الذي يسع القبض والرد ونحو ذلك.
الثالث : قد صرحوا
بأنه لا بد من اذن الواهب في صحة القبض ، فلو قبض الموهوب الهبة بغير اذنه لم
ينتقل اليه ، وفي المسالك أنه لا خلاف فيه عندنا.
أقول : والوجه فيه واضح ، وهو أن الإقباض غير واجب على
الواهب ، لعدم الاستحقاق الشرعي حيث ان مجرد العقد غير موجب للنقل البتي فإنه من
العقود ، ولزومه مراعى بالأسباب المخصوصة الآتي تفصيلها ان شاء الله تعالى وحينئذ
فلو قبضه بغير اذن فهو محرم بلا ريب ، والظاهر كما هو المشهور أنه لا يعتبر في
القبض كون الإذن بنية الهبة ، فلو أذن فيه مطلقا صح ، خلافا لبعضهم حيث اعتبر
وقوعه للهبة أو الاذن فيه فان ذلك هو المقصود ، وحيث كان مطلق القبض صالحا لها
ولغيرها فلا بد من مائز وهو القصد ، قال في المسالك بعد نقل ذلك : «وهو حسن» ، حيث
يصرح بكون القبض لا لها ، لعدم تحقق القبض المعتبر فيها ، أما لو أطلق فالاكتفاء
به أجود ، لصدق اسم القبض وصلاحيته للهبة ودلالة القرائن عليه بخلاف ما لو صرح
بالمصارف ، انتهى وهو جيد.
الرابع : الأشهر
الأظهر أنه لو وهبه في يد الموهوب ، فإنه لا يحتاج إلى اذن في القبض ، ولا مضى
زمان يمكن القبض ، ولا فرق في ذلك بين كون ذلك بيده بوجه شرعي كالعارية والوديعة
أو لا كالغصب.
أما الأول فلصدق القبض وحصوله في كل من الجانبين ، فإنه
مستصحب ، وإيجاب العقد المقتضي لإقرار يده على العين رضا منه ، واذن بالقبض.
__________________
(1) المستدرك ج 3 ص 48 ، الوسائل ج 16 ص 133 ح 2.
وأما الثاني فإنه حيث لا يفتقر الى قبض ولا اذن جديد في
القبض لا يفتقر الى مضي زمان يمكن فيه القبض ، لأن الافتقار الى الزمان تابع للقبض
، حيث انه من ضرورياته ولوازمه ، فيعتبر حيث يعتبر ، وقد عرفت أنه لا يفتقر الى
قبض جديد وإذا لم يعتبر المتبوع سقط اعتبار التابع ، وبه يظهر ان ما صار اليه
بعضهم من أنه يفتقر الى مضي زمان يمكن فيه القبض ـ كما نقل عن الشيخ في المبسوط أو
الى إذن جديد ومضي زمان ـ فإنه لا وجه له ، وأصالة العدم أقوى دليل في المقام.
الخامس : لو وهب الأب
أو الجد لولده الصغير ما هو بيدهما لم يفتقر الى قبض جديد لان قبض الولي قبض عنه ،
ولا يفتقر أيضا الى مضي زمان يمكن فيه القبض لعين ما تقدم في سابق هذا الموضع ،
وقد تقدم في أخبار الصدقة على الولد أن قبض الأب والجد عن الصغير كاف في صحة
الصدقة ، ففي رواية السكوني (1) «وان تصدق على
من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأن والده هو الذي يلي أمره».
وبالجملة فإن الحكم لا اشكال فيه ولا خلاف نصا وفتوى
فيما أعلم ، فإن القبض السابق على الهبة كاف عن القبض الطاري بعدها ، وأيدوه بأن
اليد المستدامة أقوى من اليد المبتدأة
بقي الكلام هنا في مواضع : أحدها ـ انا قد أشرنا سابقا
الى أن محل البحث فيما لو وهب الأب أو الجد ما هو في يدهما ، واما لو لم يكن كذلك
بأن يكون ملكهما ، ولكنه في يدهما ، فقد صرح الأصحاب بأنه يفتقر الى قبض جديد
كغيره ، وفرضوا ذلك فيمن اشترى شيئا ولم يقبضه فان الملك يتم بالعقد وان لم يقبضه
، ويجوز نقله بالهبة ونحوها ، وان امتنع بيعه على بعض الوجوه كما تقدم في كتاب
البيع في مسئلة بيع ما لم يقبض ، ويمكن أيضا فرض ذلك في مال ورثه الأب أو الجد ،
وهو تحت يد الغير ، ولم يتمكن من قبضه ، وفيما غصب منه
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 31 ح 7 ، التهذيب ج 9 ص 135 ح 569 وفيهما عن
محمد بن مسلم ، الفقيه ج 4 ص 182 ح 639 عن عبيد بن زرارة ، الوسائل ج 13 ص 297 ح 1
وص 299 ح 5.
وفيما آجره لغيره قبل الهبة.
أما الوديعة فإنهم صرحوا بأنه لا يخرج بها عن يد المالك
، لان يد المستودع كيده ، قالوا : وفي العارية وجهان : أجودهما ما خروجه بها عن
يده ، فيفتقر الى قبض جديد من الولي أو من يوكله فيه ، ولو وكل المستعير كفى.
وثانيها أنه هل يعتبر قصد القبض عن الطفل بعد الهبة
ليتمحض القبض لها ، الظاهر تفريع ذلك على ما تقدم في التنبيه الثالث ، فعلى ما
ذكره العلامة (رحمهالله عليه) من أن
مطلق القبض صالح للهبة وغيرها فلا بد من مائز ، وهو القصد للهبة يأتي أن هنا كذلك
، لأن المال المقبوض بيد الولي ، فلا ينصرف الى الطفل إلا بصارف وهو القصد ، وعلى
ما ذكره في المسالك وهو الأظهر كما تقدمت الإشارة إليه من الاكتفاء بعدم قصد القبض
لغيره يكفي هنا ، وينصرف الإطلاق إلى قبض الهبة وتلزم الهبة بذلك.
وثالثها ان المشهور في كلام الأصحاب اختصاص هذا الحكم
بالولد الصغير ، وأما لو كان بالغا رشيدا ذكرا وأنثى فإنه لا بد من قبضه ، وعليه
تدل الأخبار.
وقال ابن الجنيد في كتابه الأحمدي : وهبة الأب لولده
الصغار وبناته الذين لم يخرجوا عن حجابه ، وان كن بالغات تامة ، وان لم يخرجها عن
يده ، لأن قبضه قبض لهم ، انتهى.
والحاقه البنات في الحجاب بالأولاد الصغار ، قياس محض ،
وقياسه على النكاح ممنوع مع وجود الفارق ، وبالجملة فهو قول نادر لا يعبأ به.
ورابعها ـ أنه لو كان الواهب للصغير غير الأب والجد له ،
فإنه لا خلاف في أنه لا بد من القبض عنه ، ويتولى ذلك الأب أو الجد أو الوصي أو
الحاكم أو من يعينه ، وانما الخلاف في أنه للصغير ولي شرعي غير الأب والجد كالوصي
فهل يتولى القبض له؟ أم يرجع الأمر إلى الحاكم؟ الذي صرح به الشيخ في المبسوط
وتبعه عليه جمع منهم المحقق في الشرائع الثاني ، فإنهم ألحقوا الوصي هنا بغير
الولي من الأجانب ، واحتج في المبسوط
بأنه لا يصح أن يبيع من الصبي شيئا أو يشترى عنه ، قال : وينصب الحاكم أمينا يقبل
منه هبته للصبي ، فإذا قبلها صحت الهبة ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه والوجه
التسوية بينه وبين الأب لأن له أن يقبل هبة غيره ، فكذلك يقبل هبة نفسه ، لعموم
ولايته ، فلا وجه لاختصاصها بغيره ، والجواب عما احتج به ، المنع من حكم الأصل ،
فإن له أن يبيع ويقبل الشراء وأيضا الفرق فإن المعاوضة قد يحصل بها التغابن ، أما
الهبة فإنها عطية محضة ، فكانت المصلحة فيها ظاهرة ، انتهى وهو جيد.
السادس : لا خلاف ولا إشكال في جواز هبة المشاع كغيره ،
ويدل على ذلك ما رواه
في الكافي عن أحمد بن عمر الحلبي عن أبيه (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن دار لم
تقسم فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار؟ قال : يجوز قلت : أرأيت ان كانت هبة؟
قال : يجوز». وقبضه كالقبض في البيع ، فان اكتفينا بمجرد التخلية مطلقا كما هو أحد
القولين فلا اشكال ، وان اعتبرنا الفرق بين المنقول وغير المنقول فتختص التخلية
بغير المنقول ، فلا بد في المنقول من النقل ، ليتحقق قبض الحصة الموهوبة ، فإن كان
الشريك هو الواهب ، فاقباضه بتسليم الجميع للمتهب ، ليتحقق القبض ، وان كان الشريك
غيره ، توقف تسليم الكل على اذن الشريك ، فإما أن يرضى بذلك أو يوكل المتهب الشريك
على القبض عنه ، فان تعاسرا رفع إلى الحاكم ، فينصب أمينا يقبض الجميع نصيب الهبة
، والباقي أمانة حتى يتم العقد ، هذا هو المشهور ، وبه قال في المبسوط ، وتبعه
الأكثر ، وقال العلامة في المختلف في صورة التعاسر : والوجه عندي جعل القبض هنا
التخلية ، لأنه مما يمكن نقله وتحويله ، فإنه لا فرق بين عدم الإمكان المستند إلى
عدم القدرة الحسية ، أو عدم القدرة الشرعية ، وهو أولى من التحكم في مال الشريك ،
بغير اختياره.
__________________
(1) الكافي ج 7 ص 34 ح 24 ، الوسائل ج 13 ص 345 الباب 12.
واعترضه في المسالك بأن فيه منع عدم القدرة الشرعية ،
حيث يوجد الحاكم المجبر أما مع عدمه فلا بأس به دفعا للضرورة والعسر ، انتهى ،
وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الشهيد في الدروس كما سيأتي ذكره
ان شاء الله تعالى ، ونقل في المسالك عن شيخنا الشهيد في الدروس قولا آخر ، قال :
وبالغ شيخنا في الدروس فاشترط اذن الشريك في القبض مطلقا ، حتى لو اكتفينا
بالتخلية ، نظرا إلى أن المراد منها رفع يد المالك وتسليط القابض على العين ، وذلك
لا يتحقق الا بالتصرف في مال الشريك ، فيعتبر اذنه ورفع المانع عن حصة المالك خاصة
مع الإشاعة لا يحصل به التسلط على الغير الذي هو المقصود من القبض ، وقبض جميع
العين واحد لا يقبل التفرقة بالحكم ، ومن ثم لو كانت العين مقبوضة بيد متسلط لم تكف
التخلية من المالك وتسليطه عليها ، مع وجود المانع من التسليم ، وله وجه حسن ، وان
كان الأشهر الأول.
أقول : لم أقف على هذا الكلام في الكتاب المذكور في باب
الهبة واحتمال كونه في غيره بعيد ، والذي ذكره في باب الهبة موافق لما عليه
الجماعة ، قال : وقبض المشاع يعتبر فيه اذن الشريك وان كان غير منقول ، فلو وكل
المتهب الشريك في القبض صح ، وان تعاسر نصب الحاكم أمينا يقبض الجميع نصفه أمانة
للمتهب ، وفي المبسوط غير المنقول تكفى فيه التخلية عن اذن الشريك ، وفي المختلف
تكفى فيه التخلية في المنقول أيضا وهو مفارقة لقاعدته في القبض ، واعتذاره بأن عدم
القدرة شرعا ملحقة بغير المنقول ممنوع ، لأنا نتكلم على تقدير التمكن من الحاكم ،
أما مع عدم التمكن منه فإنه حسن ، انتهى.
وهو موافق لما في المبسوط إلا في غير المنقول فان الشيخ
في المبسوط اكتفى فيه بالتخلية عن اذن الشريك ، وهو اعتبر الاذن ، ولم يكتف
بالتخلية ، وأما مع التعاسر فهو موافق لما ذكره الشيخ.
وأما ما ذكره في المسالك من هذا الكلام بطوله فلا وجود
له اللهمّ إلا أن
يكون هذا التعليل الطويل أعنى قوله «نظرا
الى أن المراد منها» الى آخر الكلام من كلام صاحب المسالك ، تعليلا له لما نقله عن
الدروس ، وأن الحكم مع عدم الاذن هو ما ذكره مما نقلناه عنه فيزول الاشكال لكنه لا
يخلو من بعد.
وكيف كان فالظاهر هو ما ذكره الشيخ وأكثر الجماعة ، قال
في المسالك : وحيث يعتبر اذن الشريك فقبض المتهب بدونه وما في حكمه يقع لاغيا ، لا
للنهي ، فإنه لا يقتضي الفساد في غير العبادة ، بل لأن القبض لما كان من أركان
العقد اعتبر فيه كونه مرادا للشارع ، فإذا وقع منهيا عنه لم يعتد به شرعا فيختل
ركن العقد وقد عرفت أنه قبض واحد لا يقبل التفرقة في الحكم ، بجعل القبض للموهوب
معتبرا والنهي عن حق الغير الخارج عن حقيقة الموهوب ، انتهى.
أقول : قد سلف هنا ومن هذا القائل تحقيق في أن قولهم
النهي لا يقتضي الفساد في غير العبادة ليس على إطلاقه ، بل قد يقتضي الفساد في غير
العبادة لما قدمناه من التفصيل بأن النهي ان توجه إلى ذات الشيء وعدم صلاحه لترتب
الحكم الشرعي عليه كالنهي عن بيع العذرة لعدم صلاحيتها للنقل ، والنهي عن نكاح
المحارم ونحو ذلك ، فإنه يقتضي الفساد بلا اشكال ، وان توجه إلى أمر خارج كالبيع
وقت النداء يوم الجمعة لم يقتض الفساد ، وانما يقتضي الإثم خاصة ، والظاهر أن ما
نحن فيه من القسم الأول ، فإن النهي للمتهب عن قبض المشترك بغير اذن المالك للمتهب
إنما هو من حيث عدم صلاحيته وقابليته للانتقال ، لا من حيث أمر خارج فلا حاجة إلى
ما تكلفه (قدسسره) مع أنه لا
يخلو من المناقشة ، فإنه لو تم لأمكن إجراؤه في سائر المعاملات ، وعدم ارادة
الشارع غاية ما يقتضيه الإثم بالمخالفة ، كما لا يخفى والله العالم.
السابع : لو وهب
اثنين شيئا فقبلا وقبضا فلا إشكال في الصحة ، لاستجماع شرائطها ولو قبل أحدهما
وقبض ، وامتنع الآخر صحت الهبة بالنسبة إلى القابل ، وبطلت بالنسبة إلى الآخر ،
لحصول شرائط الصحة في الأول دون الثاني ، وربما
يقال : انه عقد واحد لا يتعبض ، فان
قبلا وقبضا صح ، والا فلا ، لأنا نقول : وان كان بصورة عقد واحد الا أنه بتعدد
الموهوب في قوة عقدين ، ونظيره ما لو اشتريا دفعة واحدة ، فإن لكل واحد منهما حكم
نفسه في الخيار ونحوه ، كما تقدم في في كتاب البيع ، والله العالم.
الموضع الثالث : لا خلاف ولا إشكال
في جواز تفضيل بعض الولد وان كان على كراهة عند الأصحاب ، إلا ما نقل عن ظاهر ابن
الجنيد من التحريم إلا مع المزية.
قال في المسالك : أما جواز التفضل في الجملة فهو المشهور
بين الأصحاب وغيرهم ، ويشهد له (1) «ان الناس مسلطون على أموالهم». ويظهر
من ابن الجنيد التحريم إلا مع المزية ، والتعدية إلى باقي الأقارب مع التساوي في
القرب ، والوجه الكراهة المؤكدة لقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (2) سووا بين
أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت البنات ، وان التفضيل يورث العداوة
والشحناء بين الأولاد كما هو الواقع شاهدا وغابرا. ولدلالة ذلك على رغبة الأب في
المفضل المثير للحسد المفضل إلى قطيعة الرحم ، وقد روى أن النعمان بن بشير (3) أتى أبوه إلى
النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) فقال : انى
نحلت ابني هذا غلاما فقال النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : أكل ولدك
نحلت مثل هذا فقال لا : فقال : أردده ،. وفي رواية أخرى (4) «ان النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) قال له : أتحب
أن يكونوا لك في البر سواء؟ فقال : نعم فارجعه ، قال وفي حديث آخر (5) عنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) انه قال لمن
أعطى بعض أولاده شيئا أكل ولدك أعطيته مثله قال : لا ، قال : فاتقوا الله واعدلوا
بين أولادكم فرجع في تلك العطية» وفي رواية أخرى «لا تشهدنى على جور».
__________________
(1) البحار ج 2 ص 272 ح 7 الطبع الحديث.
(2) المسند لأحمد بن حنبل ج 4 ص 375.
(3 و 4 و 5) البخاري كتاب الهبة الباب 12.
وهذه الروايات تصلح حجة لابن الجنيد والأصحاب حملوها على
تقدير سلامة السند على الكراهة جمعا وقد روى أبو بصير في الصحيح (1) ثم نقل الخبر
الحادي والعشرين ثم قال : ولا قائل بمضمونه تفصيلا غير أن تجويزه العطية مع اليسار
مطلقا حجة المشهور ، ومنعه عنه مع الإعسار مناسب للكراهة ، والحق الفصل حيث يكون
عليه دين ونحوه ، وإطلاق النصوص السابقة يقتضي عدم الفرق بين الصحة والمرض ،
وحالتي اليسر والعسر ، إلا الحديث الأخير ، فخص النهى بحالة العسر ، وفي رواية
سماعة ثم ذكر الخبر العشرين ، ثم قال : وعمل بمضمونها العلامة في المختلف ، وخص
الكراهة بالمرض أو الإعسار وفي بعض نسخة بهما معا ، والظاهر أن دلالة الخبرين على
الأول أوضح ، والأقوى عموم الكراهة بجميع الأحوال ، وتأكدها مع المرض والإعسار
أعمالا بجميع الأدلة ، لعدم المنافاة انتهى.
وعلى هذا النهج كلام غيره من الأصحاب وأنت خبير بأن ما
قدمه من الأخبار عنه (صلىاللهعليهوآلهوسلم) الظاهر أنه
من أخبار العامة ورواياتهم ، كما يشهد به سياقها ، لعدم وجود شيء منها في كتب
أخبارنا ، وإنما الموجود فيها ما يخالف هذه الأخبار ، ويناقضها من جواز التفصيل ،
وهي متكاثرة بذلك.
فمنها ما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن قيس (2) في الحسن قال
: «سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الرجل يفضل
بعض ولده على بعض؟ قال : نعم ونسائه».
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن حريز عن محمد بن
مسلم (3) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام قال : سألته
عن الرجل يكون له الولد من غير أم أيفضل بعضهم على بعض؟ فقال : لا بأس ، قال :
حريز وحدثني معاوية وأبو كهمس انهما سمعا
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 156 ح 644 ، الوسائل ج 13 ص 384 ح 12.
(2) الكافي ج 7 ص 10 ح 6 ، الفقيه ج 4 ص 114 ح 495 ، الوسائل ج
13 ص 343 ح 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 199 ح 795 ، الوسائل ج 13 ص 344 ح 2 و 3.
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : صنع
ذلك علي عليهالسلام بابنه الحسن
وفعل ذلك الحسين بابنه علي وفعل ذلك أبي بي ، وفعلته أنا».
وعن إسماعيل بن عبد الخالق (1) في الصحيح قال
: «سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : في
الرجل يخص ولده ببعض ماله فقال : لا بأس بذلك».
وما رواه في الكافي في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري (2) قال : «سألت
أبا الحسن الرضا عليهالسلام عن الرجل يكون
بعض ولده أحب إليه من بعض ويقدم بعض ولده على بعض؟ فقال : نعم قد فعل ذلك أبو عبد
الله عليهالسلام نحل محمدا
وفعل ذلك أبو الحسن عليهالسلام نحل أحمد شيئا
فقمت أنا به حتى حزته له ، فقلت : جعلت فداك الرجل يكون بناته أحب إليه من بنيه؟
فقال : البنات والبنون في ذلك سواء ، انما هو بقدر ما ينزلهم الله عزوجل منه».
قوله عليهالسلام «فقمت أنا به»
أي توليته له ، وكان أحمد كان صغيرا ، وقوله «انما هو بقدر ما ينزلهم الله» أي
المحبة التي يقع في قلبه انما هي من الله تعالى فبقدر ما يجعل الله لهم في قلبه
يجعل المحبة ذكورا أم اناثا.
وما رواه في الفقيه عن رفاعة (3) عن أبى الحسن عليهالسلام قال : «سألته
عن الرجل يكون لهم بنون وأمهم لست بواحدة أيفضل أحدهم على الآخر؟ قال : لا بأس به
، وقد كان يفضلني على عبد الله».
أقول : وهذه الروايات مع كثرتها وصحتها قد اتفقت على
جواز التفضل من غير إشارة في شيء منها على الكراهة ، فضلا عن التصريح ، وقد فعلوه
عليهمالسلام بمن كان ممن
يستحق التفضيل ومن لا يستحقه ، وبذلك يظهر لك أن جميع ما أطال به (قدسسره) من تلك
الأخبار العامية والتعليلات العقلية كله تطويل بغير طائل.
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 200 ح 796 ، الوسائل ج 13 ص 344 ح 4.
(2) الكافي ج 6 ص 51 ح 1 ، التهذيب ج 8 ص 114 ح 392 ، الوسائل
ج 15 ص 203 الباب 91 ح 1.
(3) الفقيه ج 3 ص 311 ح 17 ، الوسائل ج 15 ص 204 ح 2.
وليت شعري كيف غفلوا جميعا عن هذه الأخبار وهي في الكتب
الأربعة التي يتداولونها حتى التجئوا الى هذه الأخبار العامية ، والعجب هنا من
صاحب المفاتيح حيث تبع صاحب المسالك فيما نقلناه عنه ، وغفل أيضا عن هذه الأخبار
كما لا يخفى على من راجعه.
نعم روى في الفقيه عن السكوني (1) قال : «وفي
رواية السكوني قال : نظر رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) الى رجل له
ابنان فقبل أحدهما وترك الآخر فقال النبي (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : فهلا واسيت
بينهما». وربما يتوهم متوهم تخصيص الأخبار المتقدمة بهذا ، وهو باطل بل الأظهر
حمله على التقية ، فإن رواية عامي مع أنه لم يسنده الى الامام عليهالسلام وقد عرفت
دلالة روايات العامة على ما دل عليه.
وأما ما رواه العياشي في تفسيره عن مسعدة بن صدقة (2) قال : «قال
جعفر بن محمد عليهالسلام قال والدي :
والله اني لا صانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي وأكثر له المحبة ، وأكثر له الشكر ،
وان الحق لغيره من ولدي ، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره ، لئلا يصنعوا به ما فعل
بيوسف واخوته وما أنزل الله سورة يوسف إلا أمثالا لكيلا يحسد بعضنا بعضا كما حسد
بيوسف اخوته ، وبغوا عليه فجعلها رحمة على من تولانا ، ودان بحبنا ، وجحد أعدائنا
، على من نصب لنا الحرب والعداوة». فغاية ما يدل عليه أنه عليهالسلام كان يظهر
التفضيل لبعض ولده ، فضايقه لدفع شره عن الإمام القائم بعده ، وهذا بما يدعيه أنسب
، والى ما اخترناه أقرب ، ومرجعه الى أن التفضيل قد يكون على جهة الاستحقاق ، أو
المضايقة ، فلا منافاة فيه لما ذكرناه.
بقي الكلام في الخبرين المتقدمين الدال أحدهما على
التفصيل بين الصحة والمرض ، وأنه يعطى في حال الصحة دون المرض ، والخبر الدال على
التفضيل بين اليسر
__________________
(1) الفقيه ج 3 ص 311 ح 18 ، الوسائل ج 15 ص 204 ح 3.
(2) المستدرك ج 2 ص 626 الباب 67 ح 3 ، العياشي ج 2 ص 166 ح 2.
والعسر : فيخص بعض ولده مع اليسر دون
العسر ، مع أن إطلاق الأخبار المتقدمة يقتضي عدم الفرق ، وأنت خبير بأنهما لا
يبلغان قوة المعارضة لما قدمناه من الأخبار الصحيحة الصريحة في الجواز مطلقا.
وأما وصفه في المسالك لرواية أبي بصير (1) بالصحة فهو
خلاف المعهود منه ومن غيره من أرباب هذا الاصطلاح حيث ان أبا بصير مشترك ، ولا
قرينة تدل على الثقة منهما ، والآخر الضرير انما يعدون خبره في الضعيف ، على أن
الظاهر أن رواية سماعة لا منافاة فيها ، وذلك فان ظاهرهما انما هو السؤال من عطية
الوالد لولده ، وان كان واحدا وليس فيها تعرض للتفضيل الذي هو البحث بوجه ، فأجاب عليهالسلام بأنه في حال
الصحة جائز ، لأنه ماله يصنع فيه ما أراد ، وأما في حال المرض فلا ، والمنع من ذلك
في حال المرض مطلقا لا قائل به ، ولا يوافق مقتضى القواعد الشرعية ، فلا بد على أن
يكون المنع باعتبار كونه من الأصل ، فالنهي إنما يتوجه الى كونه من الأصل.
وحاصل معنى الخبر أنه في حال الصحة مخرج العطية من الأصل
، وفي حال المرض من الثلث ، لا من الأصل ، كما في حال الصحة وهذه مسئلة أخرى لا
تعلق لها بما نحن فيه.
نعم خبر أبي بصير ظاهر في التفضيل لقوله «يخص بعض ولده»
، والظاهر حمله على ما ذكروه من كراهية التخصيص مع الإعسار ، لأنه متى خصه وهو
معسر فقد حرم الباقين من الميراث ، إذ لا شيء يرثونه.
أما مع يسره وحصول قسط لكل من الباقين من الميراث ، فإنه
لا يحصل عليهم بتلك الهبة نقص زائد كما في صورة العسر الذي لا شيء بالكلية ، وعلى
هذا فيخص الأخبار المتقدمة بهذا الخبر : بمعنى أن التفضيل جائز مطلقا من غير
كراهية ، إلا في صورة إعسار الواهب الموجب لحرمان باقي الأولاد من الميراث ، وهو
جمع حسن بين الأخبار والله العالم.
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 156 ح 644 ، الوسائل ج 13 ص 384 ح 12.
الموضع الرابع : المفهوم من
كلام جملة من الأصحاب بل ربما ادعى الإجماع عليه كما تقدم الإشارة إليه بأنه يجوز
الرجوع بعد القبض إلا في مواضع مخصوصة ، قد وقع الاتفاق على بعضها والخلاف في بعض
، كما سيأتي تفصيله ، ان شاء الله تعالى.
والأخبار في أصل المسئلة لا تخلو من اختلاف فمما يدل على
جواز الرجوع الخبر الأول ، وهو صحيح صريح في ذلك ، ومفهوم الخبر الثاني ، وهو صحيح
أيضا ، والمفهوم مفهوم شرط لا إشكال في حجيته عند محققي الأصوليين وعندنا ،
للأخبار الكثيرة الدالة على حجيته ، كما تقدمت في مقدمات الكتاب في الجلد الأول من
كتاب الطهارة (1) ويدل على ذلك
أيضا الخبر الخامس (2) وهو صحيح ،
صريح في ذلك ، والخبر السابع (3) وهو صحيح صريح
في غير المواضع المستثناة فيه ، والخبر الثامن ، ومفهوم الخبر التاسع ، ويدل على
ذلك أيضا قوله عليهالسلام في موثقة عبيد
بن زرارة (4) «ولمن وهب أو
نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز». وقوله عليهالسلام
في صحيحة زرارة (5) المتقدمة في مقصد الصدقة ، «ولا
ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه
نحلة كانت أو هبة ، حيزت أو لم تحز ، ولا يرجع الرجل فيما وهب لامرأته» الحديث. ويدل
على العدم الخبر الثالث عشر ، والخبر الخامس عشر ، والخبر التاسع عشر.
ورواية جراح المدائني (6) «عن أبى عبد
الله عليهالسلام «قال : قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : من رجع في
هبته فهو كالراجع في قيئه».
وأنت خبير بأن هذه الروايات الأخيرة تقصر عن معارضة
الأخبار الأولة
__________________
(1) ج 1 ص 58.
(2) ص 301.
(3) ص 301.
(4 و 5 و 6) التهذيب ج 9 ص 153 ح 625 وص 152 ح 624 ، الاستبصار
ج 4 ص 109 ح 417 ، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1 وص 339 ح 1 وص 343 ح 3.
سندا وعددا ودلالة ، وحملها على
الكراهة المؤكدة ، كما ذكره جمع من الأصحاب طريق الجمع بين الجميع ، وأما الصور
المستثناة من جواز الرجوع فنحن نذكرها مفصلة واحدة واحدة ، وما يتعلق بكل منهما من
الأخبار ، وكلام الأصحاب على وجه يزول به غشاوة الشك ـ ان شاء الله تعالى فيها ـ والارتياب
، فنقول الأولى ـ فيما لو كانت الهبة لذي الرحم ، وقد ادعى المحقق الإجماع على أنه
متى كانت الهبة من الابن للأبوين فلا يجوز الرجوع ، وهو مؤذن بالخلاف فيما عداه ،
حتى في هبة الأبوين للابن ، مع أن العلامة في المختلف عكس ذلك ، فادعى الإجماع على
لزوم هبة الأب لولده ، ولم يذكر الأم ، قال : إذا وهب الأب ولده الصغير أو الكبير
وأقبضه لم يكن للأب الرجوع في الهبة إجماعا ، ولو كانت لغير الولد من ذوي الأرحام
للشيخ قولان إلى آخره ، وهو مؤذن بالخلاف فيما ادعى عليه المحقق الإجماع ، الا أن
شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال : والظاهر أن الاتفاق حاصل على الأمرين الا من
المرتضى في الانتصار ، فإنه جعلها جائزة مطلقا ما لم يعوض عنها ، قال : وكأنهم لم
يعتدوا بخلافه لشذوذه.
والعجب أنه ادعى إجماع الإمامية عليه مع ظهور الإجماع
على خلافه ، وعلى ما ذكره شيخنا المذكور ينحصر الخلاف فيما عدا الصورتين
المذكورتين ، والأشهر الأظهر اللزوم وعدم جواز الرجوع ، وهو مذهب الشيخ في النهاية
، والشيخ المفيد وسلار وابن البراج ، وقيل : بأن له الرجوع وهو قول الشيخ في
المبسوط والتهذيب والسيد المرتضى وابن الجنيد وابن إدريس.
والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام مما يدل على
القول الأول الخبر الخامس ، وهو صحيح صريح في عدم جواز الرجوع في هبة ذي الرحم ،
وهو دال على عدم جواز الرجوع في الصورتين الأوليين من حيث العموم ، وعلى الثالثة
بالخصوص ، والخبر السابع وهو أيضا صحيح السند دال على عدم جواز الرجوع في هبة ذي
القربى ، لأن المراد بالجواز هنا اللزوم كما تقدمت الإشارة اليه ، وينادى
بذلك قوله ويرجع في غير ذلك ان شاء ،
وحاصل الخبر أنه لا يرجع في الهبة إذا كانت لذي قرابة أو معوضا عنها ، ويرجع فيما
عدا ذلك ، والخبر السادس عشر وهو موثق سماعة ، إلا أنه مختص بهبة الولد لأمه ، وقد
حكم عليهالسلام بأنه ميراث
بعد موتها ، وليس للولد الرجوع فيه للزوم الهبة.
ومما يدل على قول الآخر الخبر الثامن حيث صرح فيه «بأن
النحل والهبة يرجع فيها حازها أو لم يحزها وان كانت لذي قرابة» والخبر الحادي عشر
الا أنه غير صريح ، بل ولا ظاهر في ذلك ، لأن ظاهر تجويزه الرجوع فيما يهب لابنه ،
ـ الا أن يكون صغيرا ـ أن الرجوع إنما هو من حيث عدم القبض بأن يكون الموهوب بالغا
ولم يقبض ، ولهذا حكم بلزوم الهبة للصغير من حيث ان الأب قابض له ، والخبر الثاني
عشر إلا أنه لا يخلو من الإجمال وتعدد الاحتمال ، وأنه يحتمل أن يكون الرجوع إنما
هو من حيث كون الهبة غير لازمة ، لأن من شرطها القبض ولم يحصل ، فهي وان انتقلت
إليه بالعقد ، الا أنه انتقال متزلزل مراعى في لزومه بالقبض ، وحينئذ فلم يبق مما
يمكن أن يستدل به لهذا القول إلا الخبر الثامن ، وهو يضعف عن معارضة الأخبار
الأولة سندا وعددا ودلالة ، ومن المحتمل قريبا أن يكون قوله وان كانت لذي قرابة
قيدا في قوله «أو لم يحزها» بمعنى أنه إذا لم يحزها فله الرجوع وان كانت لذي قرابة
، وهو معنى صحيح ، وبه يسقط الاستدلال بالخبر المذكور على ما ذكروه ، وبما أوضحناه
لك في المقام يظهر ضعف ما ذهب إليه في الكفاية من موافقة المرتضى (رضياللهعنه) في عدم لزوم
الهبة على ذي الرحم ، والآباء والأبناء.
الثانية ـ فيما لو تلف بعد القبض سواء كان التلف من جهة
الله سبحانه ، أو المتهب ، أو غيرهما ، فإنه لا يرجع ، ونقل عن التذكرة دعوى
الإجماع على ذلك ، وكأنه لا يعتد بخلاف المرتضى ودعواه على جواز الرجوع إلا مع
التعويض.
ومما يدل على اللزوم وعدم جواز الرجوع في الصورة
المذكورة الخبر
الأول وهو صحيح صريح في المدعى ، قال
: في المسالك وفي حكم تلفها تلف بعضها وان قل ، لدلالة الرواية عليه ، فان العين
مع تلف جزء منها لا تعد قائمة ، انتهى.
وفيه إشكال فإن الظاهر أن المراد بقيامها بعينها كما
تضمنه الخبر انما هو بمعنى وجودها وعدم تلفها ، فلا يؤثر تلف بعضها خصوصا مع قلته
كاصبع العبد لو قطعت ، فإنه لا ينافي قيام العين ووجودها عرفا ، وبالجملة فإن ما
ذكره لا يخلو عندي من شوب الإشكال.
الثالثة ـ فيما لو عوض عنها وان كان العوض قليلا إذا حصل
التراضي ، واللزوم في هذه الصورة إجماعي حتى من المرتضى ، ويدل على ذلك الخبر
الثاني وهو صحيح صريح في عدم جواز الرجوع إذا عوض ، والخبر السابع حيث حكم عليهالسلام بجواز الهبة
الذي هو كما عرفت آنفا عبارة عن لزومها في صورة ذي القرابة ، والذي يثاب أي يعوض.
قال في المسالك : ولا فرق في العوض بين كونه من بعض
الموهوب وغيره ، عملا بالإطلاق ، ولأنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب ، فيصح بذله
عوضا عن الجملة ، انتهى.
أقول : يمكن أن يقال : ان المتبادر من المعاوضة هو كون
أحد العوضين غير الآخر ، ولو تم ما ذكره للزم أنه لو دفعه المتهب بجميعه الى
الواهب بعد القبض لصدق المعاوضة ، مع أنه لا يسمى ذلك معاوضة ، فإنما يسمى ردا ،
ولا فرق بين دفع البعض ودفع الكل ، قوله «لأنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب»
مسلم ، لكنه ملك متزلزل لا يلزم إلا بإعطاء العوض ونحوه ، من الأمور الموجبة للزوم
وبالجملة فإنه بإعطاء بعض الموهوب أو جميعه انما يقال :
رده أورد بعضه ولا يقال. أعطى عوضه بهذا هو الظاهر من العرف والاستعمال ، وبه يظهر
أن ما ذكره لا يخلو من شوب الاشكال.
ثم ان الظاهر من إطلاق الخبرين المذكورين أنه لا فرق في
لزوم الهبة
بالتعويض بين أن يكون قد شرط التعويض
في العقد ، أو وقع بعده بأن وقع العقد مطلقا ، الا أنه بذل له العوض بعد ذلك
وأعطاه إياه ، لكنهم صرحوا بأنه لا يحصل التعويض بمجرد البذل ، بل لا بد من قبول
الواهب له ، وكون البذل عوضا عن الموهوب قالوا : لأنه بمنزلة هبة جديدة ، ولا يجب
عليه قبولها.
بقي الكلام هنا في أنه لو وهب وأطلق هل يقتضي التعويض أم
لا؟ المشهور الثاني ، وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط : الهبة على ثلاثة أقسام ، هبة
لمن فوقه ، وهبة لمن دونه ، وهبة لمن هو مثله ، وكلها يقتضي الثواب عندنا ،
ومقتضاه أنه بالهبة يجب على المتهب بذل العوض ، ويلزم وان لم يطلبه الواهب ، ولا
قائل به سواه ، الا أن أبا الصلاح وافقه في هبة الأدنى للأعلى ، فقال : انها يقتضي
الثواب فيعوض عنها بمثلها ، ولا يجوز التصرف في الهبة ما لم يعوض عنها ، لاقتضاء
العرف ذلك.
ورد كل من القولين المذكورين بأن الأصل والعمومات يقتضي
خلافه ، وربما حمل كلام الشيخ على جواز الرجوع في الهبة ما لم يثب ، كما لو شرط
فيها فيكون المراد أن لزومها انما يتحقق به ، والى هذا يميل كلام العلامة في
المختلف في مقام الرد على ابن إدريس انتصارا للشيخ والحق بعده.
وبالجملة فإن الحكم مع الإطلاق كما هو المشهور هو أن
الهبة جائزة من جهة الواهب إلا أن يحصل التعويض بما يتفقان عليه ، ومع الاختلاف
يرجع الى مثل الموهوب أو قيمته ، ولا خلاف في أنه لو شرط الثواب صح ، أطلق أو عين
، وله الرجوع ما لم يدفع اليه ما شرط ، ويدل عليه الخبر السادس (1) فإنه دال على
حكم المشروطة بالثواب مطلقا ، أو معينا ، وأن للواهب الرجوع إذا لم يف المتهب
بالشرط ، وأنه ليس للمتهب مع الشرط التصرف في الجارية حتى يفي بشرطه ، وفيه دلالة
على تخير المتهب بين الوفاء بالشرط ، لتلزم الهبة ، ويجوز له التصرف ، وبين رد
الهبة كما هو أحد القولين ، وهو منقول عن الشهيد في الدروس
__________________
(1) ص 301.
وجماعة ، وقيل : بلزوم العقد من طرف
المتهب ، وانه يجبر على الوفاء بالشرط مطلقا كان أو معينا ، هذا القول جار على ما
قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف والمبسوط ، فلعل ما هنا تفريع عليه.
وكيف كان فالظاهر ضعفه ، فان المفهوم من الخبر المشار
اليه خلافه ، فإنه لو كان العقد لازما من جهته لجاز له وطئ الجارية مع الشرط قبل
الوفاء به ، حيث انه قد ملكها بالهبة ملكا لازما ، ويجب عليه الوفاء بالشرط كما هو
المفروض ، ومفهوم الخبر بخلافه.
ثم انه على تقدير الشرط ان كان ما شرطه معينا فالحكم
واضح ، وان كان مطلقا فان اتفقا على شيء قليلا أو كثيرا فلا إشكال أيضا ، والأوجب
إثابة مقدار الهبة مثلا أو قيمة ، ولا يجب الأزيد وان طلبه الواهب ، كما لا يجبر
الواهب على قبول الأقل الا أنه يجب أن يعلم أن ذلك ليس على جهة اللزوم والحتم ، بل
يتخير الواهب في كلتا الصورتين بين الرجوع وقبول العوض ، لأن العقد من جهته غير
لازم قبل التعويض ، ويتخير المتهب بين الرد والإثابة ، إلا على قول الشيخ المتقدم
وأبى الصلاح في خصوص ما ذكره ، حيث حكما باللزوم من جهة المتهب ، وأوجبا عليه
الإثابة ، وان اختلفا في العموم والخصوص ، وقد عرفت ضعفه.
ثم انه على تقدير الاشتراط لو تلفت العين في يد المتهب
قبل التعويض أو عابت سواء كان ذلك بفعله كلبس الثوب أم لا ، فهل يضمن المتهب الأرش
أو الأصل أم لا ضمان؟ قولان : صرح في المختلف بالأول ، ونقل عن ابن الجنيد من
المتقدمين.
قال في المختلف : وان شرط الثواب فإن أطلق كان إطلاقه
منصرفا إلى العادة ، وان شرط معينا فإن أثابه إياه لزمت الهبة ، وإلا كان للمالك
العود في هبته ، فان كانت ناقصة فعليه الأرش ، وان كانت تالفة فعليه المثل أو
القيمة ، لأنه ملكه بشرط العوض ، ولم يسلم له فكان له الرجوع في عينه ، انتهى.
وجزم في التذكرة ـ ومثله ولده في الشرح ـ بالثاني ،
واختاره المحقق
على تردد ، واحتجوا عليه بأن ذلك
النقص حدث في ملك المتهب ، فلا يلزمه ضمانه ، ولأن المتهب لا يجب عليه دفع العوض
كما مر ، بل للواهب الرجوع في العين والتفريط منه من حيث تركها في يد من سلطه على
التصرف فيها مجانا.
احتج القائلون بالأول بما عرفت من كلامه في المختلف وهو
انما ملكه بشرط العوض لا مجانا ، فإنه إنما قبضها ليؤدي عوضها فلم يفعل ، ومن ذلك
يظهر أن الواجب عليه أحد الأمرين ردها ، أو دفع العوض ، فان تعذر الأول وجب
الثاني.
ومنه يعلم الجواب عن دليل المخالف ، وقوله «انه سلطه على
التصرف فيه مجانا» فإنه إنما سلطه بشرط العوض ، وهذا هو معنى الضمان ، وقولهم انه
لا يجب عليه دفع العوض ، ان أريد به عدم وجوبه عينا لم يلزم منه نفي الوجوب عن
المبدل الذي هو المدعى ، وحينئذ فإذا تعذر أحد الأمرين المخير بينهما تعين الآخر ،
وان أريد به عدم الوجوب بالكلية فهو ممنوع ، والى هذا القول مال في المسالك ،
وقوته بما ذكرنا ظاهرة.
ثم انه على تقدير القول بالضمان مع التلف فهل الواجب مثل
الموهوب أو قيمته؟ أو أن الواجب انما هو أقل الأمرين من ذلك ومن العوض ، وجهان : اختار
ثانيهما في المسالك ، قال : لما عرفت من أن المتهب مخير بين الأمرين ، والمحقق
لزومه هو الأقل ، لأنه ان كان العوض الأقل فقد رضي به الواهب في مقابلة العين ،
وان كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض ، بل هو مخير بينه وبين بذل
العين ، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها ، انتهى وهو جيد.
الرابعة ـ فيما لو كانت لأحد الزوجين ، والمشهور بين
الأصحاب كراهة الرجوع فيما يهبه أحدهما للآخر من غير أن تكون الهبة لازمة يحرم
الرجوع فيما ، وذهب جمع منهم الى عدم جواز الرجوع كالصور المتقدمة ، والأول قول
الشيخ في كتبه واتباعه ، والثاني نقله الشيخ في الخلاف عن بعض الأصحاب ، وبه
أفتى العلامة في التذكرة ، ونقله في
التحرير عن الشيخ ، وهو مختار جملة من متأخري المتأخرين ، منهم المحدث الكاشاني في
المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية وهو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك
، ونقله عن جماعة من الأصحاب (رحمهمالله) وظاهر شيخنا
الشهيد في شرح الإرشاد الميل اليه من غير جزم ، حيث نفى عنه البعد ، وهذا هو
الأظهر عملا بالخبر الرابع (1) وهو صحيح صريح
في ذلك ، وبه يخص عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع بعد القبض مطلقا ، كما خص
بغيره من الأخبار المتقدمة في الصور السابقة ، وعلى هذا فتكون الزوجية من أسباب
اللزوم المستثناة من تلك الأخبار ، كغيرها مما قدمنا ذكره.
والظاهر أن من قال بالأول نظر الى عموم الأخبار الدالة
على جواز الرجوع بعد القبض ، فجوز الرجوع وجعل ذلك مكروها ، نظرا الى قوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) في صحيحة
الحلبي (2) الذي يرجع في
هبته كالذي يرجع في قيئه ونحوها غيرها ، بحمله على الكراهة المؤكدة جمعا بينه وبين
تلك الأخبار الدالة على جواز الرجوع كما تقدم ذكره ، إلا أن فيه ما عرفت من ورود
الخبر الصحيح الصريح باللزوم ، وربما طعن في الصحيحة المذكورة بقوله عليهالسلام فيها «حيز أو
لم يحز» حيث ان ظاهره لزوم الهبة ، وان لم يقبض وهم لا يقولون به ، فما يدل عليه
الخبر لا يقولون به ، وما يقولون به لا يدل عليه ، وأجاب عن ذلك في المسالك بأنه
لما قامت الأدلة على عدم لزومها قبل القبض ، وجب أن تحمل هذه الأخبار على قبض آخر
جديد غير القبض الأول ، جمعا بين الأدلة.
أقول : ويمكن أن يقال بالخبر المذكور على ظاهره ، ويخص
هذا الحكم بالزوجين ، ولا مانع منه ، إذا دل عليه الخبر ، فكما أنه دل على استثناء
الزوجين
__________________
(1) ص 301.
(2) التهذيب ج 9 ص 155 ح 635 ولا يخفى ان المتن المذكور هو
مضمون رواية إبراهيم بن عبد الحميد التهذيب ج 9 ص 158 ح 653 والا فالمذكور في
رواية الحلبي هو الصدقة بدل الهبة ، الوسائل ج 13 ص 316 ح 4 وص 343 ح 4.
من عموم تلك الأخبار الدالة على جواز
الرجوع بعد القبض ، كذلك على استثنائهما من عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع
قبل القبض ، فيقال : تلزم هبة أحد الزوجين للآخر بمجرد العقد ، قبض أو لم يقبض ،
وان كان الحكم في غيرهما جواز الرجوع قبل القبض مطلقا ، وبعده إلا في الصورة
المتقدمة التي دلت النصوص على استثنائها ، وأي مانع من ذلك ، إذا اقتضاه الدليل ،
سيما مع استدلاله عليهالسلام بالآيات
المذكورة ، وهي مطلقة شاملة لما قبض أو لم يقبض.
وكيف كان فالظاهر أنه لا فرق في الزوجين بين الدائم
والمنقطع ولا بين المدخول بها وغيرها ، ولا بين المطلقة رجعيا وغيرها ، بإطلاق
النص ، أما البائنة فإنها ليست زوجة ، والله العالم.
الخامسة ـ فيما لو ضم إليها قصد القربة «ولا ينبغي لمن
أعطى الله شيئا ان يرجع فيه ، وما لم يعط لله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت
أو لم تحز» وفي موثق عبيد بن زرارة (1) «ولمن وهب أو
نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ولا ينبغي لمن أعطى لله عزوجل أن يرجع فيه».
وفي الخبر التاسع «هل لأحد أن يرجع في صدقته أو هبته قال : أما ما تصدق به لله فلا».
ويؤيدها جملة من الأخبار المتقدمة في الصدقة ، وأنه لا يجوز الرجوع فيما قصد به
القربة ، وعلل بعض المحدثين بأنه بالقربة قد استحق الثواب ، وصار عوضا ، فيكون من
قبيل الهبة المعوضة التي قد تقدم أنه لا يجوز الرجوع فيها وهو جيد ، والله العالم.
السادسة ـ التصرف ، وقد اختلف الأصحاب (رحمهمالله) في أن تصرف
المتهب إذا لم يكن داخلا في أحد الصور المتقدم ذكرها هل يوجب لزوم الهبة ويمنع
رجوع المالك فيها أم لا؟ على أقوال : أحدها ـ عدم تأثير التصرف مطلقا في لزومها ،
سواء كان تصرفا ناقلا للملك مانعا من الرد كالاستيلاد ، أو مغيرا للعين
__________________
(1) التهذيب ج 9 ص 153 ح 2 ، الوسائل ج 13 ص 342 ح 1.
كطحن الحنطة ونحوها ، بل للواهب فسخها
كما لو كانت قبل التصرف ، وهو مذهب المحقق في كتابيه ، واليه ذهب سلار وأبو الصلاح
وهو ظاهر ابن الجنيد.
وثانيها ـ أنها تلزم بالتصرف مطلقا ، واليه ذهب الشيخان
، وابن البراج ، وابن إدريس ، وأكثر المتأخرين كالعلامة والشهيد في اللمعة
وغيرهما.
وثالثها ـ التفصيل في ذلك ، بأنه ان كان التصرف موجبا
لخروجها عن ملكه أو مغيرا لصورتها كقصارة الثوب ونجارة الخشب أو كان التصرف بالوطء
، فإنها تكون لازمة ، وان كان التصرف بدون ذلك كركوب الدابة وسكنى الدار وحلب
اللبن ونحوها ، فإنها غير لازمة ، وهذا القول مذهب ابن حمزة والشهيد في الدروس
وجماعة من المتأخرين ، وزاد ابن حمزة فقال : لا يقدح الرهن والكتابة ، وهو يشمل
بإطلاقه ما لو عاد الى ملك الواهب أو لم يعد.
إذا عرفت ذلك فاعلم أن مما يدل على القول الأول ظاهر
الخبر الأول (1) وهو صحيح ،
والتقريب فيه أنه عليهالسلام جوز الرجوع
إذا كانت الهبة قائمة بعينها ، والا فليس له ، وقيام العين الذي هو عبارة عن
بقائها شامل لحالتي التصرف وعدمه ، وكذا ظاهر الخبر السابع (2) لقوله عليهالسلام بعد ذكر ما
يدل على عدم الرجوع بالنسبة إلى ذي القرابة والذي يثاب ، «ويرجع في غير ذلك ان شاء»
،
وأجاب في المختلف عن هذين الخبرين حيث احتج بهما لأصحاب
القول الأول مقتصرا عليهما بالحمل على ما إذا لم يوجد التصرف ، وفيه أن الحمل على
خلاف الظاهر ـ كتخصيص العام وتقييد المطلق ـ يتوقف على وجود المعارض ليجمع بينهما
بذلك ، وهو لم يذكر هنا ما يوجب المعارضة على هذا الوجه الا بعض الوجود الضعيفة ،
كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، ثم ان مما يستدل به لهذا القول الأخبار المتقدمة
ذكرها في صدر هذا الموضع ، فإنها متفقة على جواز
__________________
(1) ص 300.
(2) ص 301.
الرجوع بعد القبض مطلقا في بعض ، ومع
استثناء بعض الصور المتقدمة في بعض ، ففي بعضها استثناء ما يعطى لله من نحلة أو
هبة أو صدقة ، وبعضها استثناء ذي الرحم ، والتحقيق في هذا المقام انك إذا نظرت الى
الروايات الدالة على جواز الرجوع بعد القبض مطلقا ، أو ضممت إليها ما دل من
الأخبار على عدم جواز الرجوع في الصور التي قدمناها ، ظهر لك أن الواجب تقييد
إطلاق تلك الأخبار بهذه الأخبار الواردة في هذه الصور ، وبقاء ما عدا هذه الصور
على الدخول تحت الإطلاق ، فإن العام المخصص والمطلق المقيد حجة فيما بقي بعد
التخصيص والتقييد ، ولا دليل في هذه الصورة المدعاة هنا حتى يمكن أن يخصص تلك
الأخبار به ، كما خصصت بغيره من اخبار الصور المتقدمة ، وبه تظهر قوة القول
المذكور.
حجة القول الثاني ـ وجوه ملتقطة من تضاعيف عبارات أصحاب
هذا القول عموم قوله تعالى (1) «لا
تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ
تَراضٍ مِنْكُمْ» وليس الرجوع تجارة ، ولا عن تراض ،
وهذا مما استدل به في المختلف على ما اختاره من هذا القول.
الثاني ـ عموم «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» (2) خرج منه ما دل
الدليل على جوازه ، فيبقى الباقي على أصله.
الثالث ـ رواية إبراهيم بن عبد الحميد (3) عن الصادق عليهالسلام قال : «أنت
بالخيار في الهبة ما دامت في يدك ، فإذا خرجت الى صاحبها فليس لك أن ترجع فيها»
وقال : قال رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) : «من رجع في
هبته فهو كالراجع في قيئه». خرج من ذلك ما أخرجه الدليل ، وبقي الباقي على أصله ،
وهذا الوجه مما استدل به في المختلف أيضا.
__________________
(1) سورة النساء ـ الاية 29.
(2) سورة المائدة ـ الاية 1.
(3) التهذيب ج 9 ص 158 ح 653 ، الوسائل ج 13 ص 343 ح 4.
الرابع ـ جواز الرجوع يقتضي تسلط الواهب على ملك المتهب
، وهو خلاف الأصل لقوله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) (1) «الناس مسلطون
على أموالهم». فيقتصر فيه على موضع الدليل.
الخامس ـ قال الشيخ وروى الأصحاب أن المتهب متى تصرف في
الهبة فلا رجوع فيها ، وهو يدل على وجود روايات بذلك.
السادس ـ أن المتهب قد ملك بالعقد والإقباض ، فظهر أثر
المتهب بالتصرف ، فقوى وجود السبب فكان تاما ، وإلا لم يتحقق أثره ، فلا يتحقق
النقل إلا بسبب طار ، والرجوع ليس سببا هنا ، وإلا لكان سببا في غيره ، وهذا الوجه
مما ذكره في المختلف ، وهو أول أدلته.
السابع ـ أن جواز الرجوع يقتضي الضرر والإضرار بالمتهب
على تقدير بنائه وغرسه وطول مدته ، وهما منفيان شرعا.
الثامن ـ ان الموهوب قد صار ملكا للمتهب بعقد الهبة فلا
يعود الى ملك الواهب إلا بعقد جديد أو ما هو في حكمه.
التاسع ـ أنه إجماع ، لأن المخالف معروف بالاسم والنسب
فلا يقدح.
العاشر ـ اخبار القيء ، وهي متعددة ، هذه جملة أدلتهم
على القول الثاني ، وسنبين ان شاء الله تعالى ما فيها من القصور ، لكن قبل الشروع
في ذلك لا بد من تمهيد كلام في المقام يكون كالوجه الجهلى لرد ما ذكروه هؤلاء
الأعلام ، ثم نعطف الكلام على بيان ما في هذه الوجوه السقام ، فنقول قد عرفت مما
ذكرناه في صدر هذا الموضع ان المشهور في كلامهم من غير خلاف يعرف ، بل ادعى عليه
الإجماع ، أنه يجوز الرجوع بعد القبض إلا في مواضع مخصوصة ، وقد دلت جملة من
الأخبار الصحاح الصراح على ذلك ، وأما ما عارضها من الأخبار الدالة على العدم فمع
قصورها عن المعارضة لتلك الأخبار ، فإنه لا قائل بها من الأصحاب ،
__________________
(1) البحار ج 2 ص 272 الطبع الحديث ح 7.
وحملوها على الكراهة المغلظة جمعا بين
الأخبار وحينئذ فالواجب هو الوقوف على هذه الأخبار المذكورة الصحيحة الصريحة
المعتضدة بعمل الأصحاب واتفاقهم على القول بها حتى يقوم دليل على ما يوجب الخروج
عن إطلاقها وعمومها.
نعم قام الدليل بالنسبة إلى الصور التي قدمناها ،
فذيلناه بالأخبار الدالة على ذلك فوجب استثنائها ، واما فيما نحن فيه فليس إلا هذه
الوجوه التي لفقوها ، وهي أوهن من بيت العنكبوت ، وانها لأوهن البيوت.
أما الأول ففيه أن الرجوع ليس أكل مال بالباطل ، لأنا
إنما جوزنا الرجوع بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة في جواز الرجوع بعد القبض ، فإنها
صحيحة صريحة في الرجوع.
نعم قام الدليل من خارج على عدم جواز الرجوع في بعض
الموارد ، فخصصنا به تلك الأخبار ، فبقيت فيما عداه على إطلاقها ، بل أكل المال
بالباطل إنما يلزم القائل باللزوم ، وعدم جواز الرجوع ، فإنه متى دلت الأخبار على
جواز الرجوع ويرجع الواهب ، ولم يدفع إليه بناء على دعوى لزوم الهبة بالتصرف ، فان
اللازم من ذلك أكل المتهب لها بالباطل ، لمخالفته مقتضى النصوص المذكورة الدالة
على استحقاق الواهب لها بعد رجوعه منها.
وأما الثاني ففيه أن العقود منها الصحيح ، ومنها الفاسد
، ومنها الجائز ومنها اللازم ، وقد حققنا سابقا أنه لا يجوز العمل بالآية على
ظاهرها لما عرفت ، بل الواجب حملها على العقود اللازمة ، وما نحن فيه ليس بلازم ،
لدلالة النصوص الصحيحة واتفاقهم على جواز الرجوع بعد القبض أعم من أن يكون قد تصرف
أو لم يتصرف ودعوى كون العقد لازما هنا بالتصرف مصادرة ، لانه عين المتنازع.
وأما الثالث فمع قطع النظر عن ضعف السند الذي يوجب طرحه
باصطلاحهم فضلا عن أن يصلح للمعارضة ، فإنك قد عرفت أن هذا الخبر وما في معناه من
الأخبار الدالة على عدم الرجوع بعد القبض قد حملها الأصحاب على الكراهة ،
تفاديا من طرحها ، حيث انه لا قائل
بها ، فكيف يستدلون بها هنا ، وهم انما يدعون اللزوم هنا من حيث التصرف ، والرواية
وما في معناها إنما دلت على اللزوم وعدم جواز الرجوع بمجرد القبض ، وليس فيها تعرض
للتصرف بوجه ، فما تدل عليه الرواية لا يقولون به ، وما يقولون لا تدل عليه فكيف
يتم الاستدلال بها والحال كما ترى.
وأما الرابع ففيه أن جواز الرجوع مما اقتضته الصحاح
المتقدم ذكرها والمتهب انما ملكه ملكا متزلزلا مراعى بعدم الفسخ من الواهب ، فان
مجرد القبض لا يقتضي لزوم الهبة ، كما عرفت ، بل هي جائزة لا تلزم إلا بأحد
الأسباب الموجبة للزومها ، وليس هذا منها ، ودعوى ان التصرف من جملتها مصادرة ،
ومتى فسخ الواهب ورجع فإنما رجع في ماله ، وتسلط على ماله ، لا مال المتهب ،
وحينئذ فالاستدلال بالخبر عليهم ، لا لهم.
واما الخامس ففيه أن الاستدلال بمجرد هذا الكلام مجازفة
محضة سيما على مذاقهم واصطلاحهم ، ومناقشتهم في الأخبار المروية في الأصول ، فكيف
يعتمدون هنا على مجرد هذا الكلام ، مع أن كتب الأخبار خالية من ذلك وأصحاب هذا
القول بعد الفحص والمناقشة في تحصيل دليل لهم من الأخبار لم يعثروا ، إلا على
رواية إبراهيم بن عبد الحميد المذكورة ، وأوردوا واستدلوا بها ، وقد عرفت ما فيها
سندا ودلالة.
وأما السادس وهو أقوى أدلته في المختلف ، ولهذا قدمه
وبالغ في الذب عنه ، ففيه ما ذكره في المسالك من أنه ان أراد بالملك بعد العقد
والإقباض هو الملك على جهة اللزوم ، فهو عين النزاع ومحل البحث ، وهل هو إلا
مصادرة ، وان أراد تحقق الملك المطلق أعم من اللازم والجائز وترتب أثر هذا المطلق
فهو غير نافع لأن العقد الجائز لا يرفع جوازه التصرف فيه على هذا الوجه ، كما يظهر
ذلك في تصرف أحد المتبايعين مع وجود الخيار للآخر ، وكما في التصرف غير المغير
للعين
ولا الناقل للملك في الهبة عند بعض
الأصحاب ، وحينئذ فالظاهر من أثر الملك إنما هو أثر الملك اللازم الحاصل وهو
الحائز رفعه على ما يدعيه الخصم ، ودلت عليه الأخبار الصحيحة ، وذلك لا يوجب قوة
السبب ولا تماميته ، ولا ينافي كونه سببا ، ودعوى كون الرجوع ليس سببا هنا عين
المتنازع ، فان الخصم يجعله سببا تاما في رفع ملك المتهب ، وإثبات ملك الواهب
بواسطة جواز العقد الذي قد استفيد من النصوص ، انتهى ، وهو جيد رشيق.
وأما السابع فضعفه أظهر من أن يخفى ، إذ لا خلاف كما
عرفت ولا إشكال في كون العقد بعد القبض جائزا متزلزلا ، للواهب فسخه والرجوع فيما
وهبه متى أراد ، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المعتضدة بفتوى الأصحاب واتفاقهم ،
وحينئذ فتصرف المتهب على هذا الوجه اقدام منه على الضرر ، ورضا به ، لتصرفه في ملك
غير مستقر ولا لازم ، فادخاله الضرر على نفسه لا يكون حجة على غيره ، ولا يدخل تحت
خبر الضرار ، كما هو ظاهر لذوي الأبصار والأفكار.
وأما الثامن فهو كسابقه في الضعف ، لما تقدم في جواب
الوجه السادس ، وهو أنه ان أراد بالملك هو الملك اللازم فهو أول المسئلة ومحل
البحث ، وان أراد الأعم لم ينفعه ، ولم يضر الخصم ، وأما قوله فلا يعود الى ملك
الواهب إلا بعقد جديد وما في حكمه ، ففيه بعد الإغماض عن المناقشة فيه بأن ذلك
إنما هو في الملك اللازم الذي ليس لصاحبه الرجوع فيه ، على أنا نقول ان الفسخ هنا
في حكم العقد ، حيث انه ناقل للملك من المتهب الى الواهب ، كما هو ظاهر.
وأما التاسع فهو أشد ضعفا من هذه الوجوه المذكورة ، وكيف
يدعى الإجماع في موضع هذا الخلاف المنتشر بين عظماء الطائفة ، والمعركة العظمى
والمناقشات الزائدة كما عرفت ، وستعرف ، ونحن في شك واشكال من حجية الإجماع في
موضع لم يظهر فيه الخلاف ، فكيف بهذا الموضع الذي قد عرفت اتساع دائرة الخلاف فيه
، وما هذه الدعوى عند ذوي الإنصاف إلا من قبيل الهذيانات
والتخيلات الموجبة لارتكاب جادة الاعتساب.
وأما العاشر فان فيه أن ما دل عليه ظاهر هذه الأخبار من
تحريم الرجوع في الهبة وأنه كالرجوع في القيء الذي لا خلاف في تحريمه لا قائل به
على إطلاقه مع دلالة الأخبار الصحاح الصراح المتقدم ذكرها على جواز الرجوع في
الهبة بعد القبض ، ما لم يعرض لها ما يوجب لزومها في تلك الصور المتقدمة.
وحينئذ فالواجب إما حمل هذه الأخبار على الكراهة المؤكدة
كما ذكره الأصحاب ، أو العمل بظاهرها وتخصيصها بالصورة التي تلزم فيها الهبة ،
ويحرم الرجوع بها ، وأما العمل بظاهرها فهو غير مستقيم كما هو ظاهر لذوي الفهم
القويم.
حجة القول بالتفصيل : ـ بأنه ان كان التصرف موجبا
لخروجها عن ملكه ، أو مغيرا للصورة كقصارة الثوب وطحن الحنطة ونجر الخشب وكذا
الوطي فهي لازمة ، وان لم يكن كذلك كركوب الدابة ولبس الثوب وسكنى الدار فهي جائزة
يجوز الرجوع فيها ـ الخبر الأول (1) الدال على أنه إذا كانت الهبة قائمة
بعينها فله أن يرجع فيها ، وإلا فليس له الرجوع ، والتقريب فيه أنه مع تغير العين
بطحن الحنطة وتقطيع الثوب ونجر الخشب ونحو ذلك ، لا يصدق بقاء العين لأن المتبادر
منه بقاؤها على حالها وأوصافها التي قبضها المتهب عليها ، لا أصل الذات ومع خروجها
عن ملكه لا يصدق بقاؤها عرفا ، لأن ذلك منزل منزلة التلف ، فضلا عن أصل الخروج عن
الوصف ، وعلى هذا فتكون هذه الرواية مخصصة أو مقيدة لتلك الأخبار الصحاح المقدم
ذكرها ، كما قيدوها بتلك الصور المتقدمة واعترض على ذلك في المسالك بأن الخبر
المذكور لا يخلو من الإشكال في السند والدلالة ، أما السند فلعدم كونها من الصحيح
ممن يعتبر عدالة الراوي بالمعنى المشهور ، يشكل عليه العمل بها.
وأما الدلالة فتظهر في صورة نقلها عن الملك مع قيام
عينها بحالها ، فان اقامة
__________________
(1) ص 300.
النقل مقام تغير العين أو زوالها لا
يخلو من تحكم أو تكلف ، بل قد يدعى قيام العين ببقاء الذات مع تغير كثير من
الأوصاف ، فضلا عن تغيير يسير ، قال : وأيضا فأصحاب هذا القول ألحقوا الوطي مطلقا
بالتغيير ، مع صدق بقاء العين بحالها ، اللهم الا أن يدعى في الوطي عدم بقاء عينه
عرفا وليس بواضح ، أو يخص بما لو صارت أم ولد ، فإنها ينزل منزلة التالفة من حيث
امتناع نقلها عن ملك الواطئ وعلى كل حال فتقييد تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة
الواضحة الدلالة بمثل هذا الخبر الواحد البعيد الدلالة في كثير من مدعيات تفصيله
لا يخلو من اشكال ، الا أنه أقرب من القول المشهور باللزوم مطلقا ، انتهى.
أقول ـ وبالله التوفيق الى سواء الطريق ـ : انه لا يخفى
أن الطعن في الخبر المذكور بالسند غير مرضي ولا معتمد ، ولو على تقدير هذا
الاصطلاح المحدث ، فإن جملة منهم قد عدوه في الصحيح ، حيث ان حسنه انما هو
بإبراهيم بن هاشم الذي قد تلقوا أحاديثه بالقبول ، وان عدوه في الحسن ، فالمناقشة
في السند ضعيفة واهية.
وأما في المتن فالتحقيق أن يقال : ان الخبر المذكور وان
لم ينهض بالدلالة على ما ذكره القائل بالتفصيل في جميع ما أورده ، وادعى اللزوم
بسببه ، الا انه ظاهر في البعض ، لانه من جملة ما عده من التصرف الموجب للزوم
تقطيع الثوب ، ونجر الخشب ، وطحن الحنطة ، ومن الظاهر أن التصرف بهذه الأنحاء
ونحوها لا يصدق معها قيام الهبة بعينها ، لما عرفت آنفا ، ففي هذه الحال لا يبعد
القول باللزوم ، وإلحاق ذلك بالتلف ، وأما بالنسبة إلى نقلها عن الملك ، فالظاهر
صدق قيامها بعينها ، كما اختاره شيخنا المتقدم ذكره ، فله حينئذ الرجوع فيها ،
وظاهره في الدروس الحاقه بالتلف في اللزوم ، ومثل ذلك الوطي أيضا ان أرادوا به
مطلق الوطي ، وان خصوه بالاستيلاد فإشكال ، لصدق بقاء العين الموجب للرجوع ، وحصول
الاستيلاد المانع من النقل من ملك الواطئ.
وبالجملة فالذي يظهر لي من الخبر المذكور هو إلحاق
التصرف الموجب لزوال الصورة على النحو المتقدم بالتلف ، وأما ما عداه فلا ، إلا في
الاستيلاد ، فإنه محل توقف ، وعلى تقدير القول باللزوم بالتصرف الناقل للملك ، ففي
تنزيل موت المتهب وانتقال الهبة إلى الورثة منزلة التصرف الناقل قولان : أحدهما ـ العدم
، فيجوز الرجوع ، لأن هذا الانتقال لم يحصل بتصرفه ونقله ، والتصرف الذي هو الموجب
للزوم عندهم غير حاصل ، فيبقى كغيره على الجواز الموجب لجواز الرجوع ، لدخوله تحت
الأدلة المجوزة للرجوع.
وقيل : إنه منزل منزلته ، لأن انتقاله عنه بالموت بفعل
الله تعالى أقوى من نقله بفعل المتهب ، وهو خيرة الشهيد في الدروس ، وشرح الإرشاد
، وقواه في الروضة.
وأنت خبير بأن مستند هذا القول أعنى بالتفصيل انما هو
الخبر المتقدم كما عرفت ، وهو قد تضمن جواز الرجوع إذا كانت الهبة قائمة بعينها ،
وإلا فلا ، وهو أعم من أن يكون عدم قيامها بعينها الموجب لعدم الرجوع مستندا الى
فعل الله سبحانه ، أو فعل المتهب.
لكن يبقى الإشكال في أنه هل يصدق عدم قيامها بعينها على
صورة الانتقال ، أم لا؟ وقد عرفت مما قدمنا نقله عن المسالك منع ذلك ، حيث نسبه
الى التحكم وهو القول بغير دليل ، أو التكلف ، فيجوز الرجوع لصدق قيامها بعينها ،
وكلامه في الروضة ظاهر في موافقته للشهيد ، فما اختاره مؤذن بصدق ذلك ، وأنه مع
الانتقال يصدق عدم قيامها بعينها ، وهو خلاف ما ذكره في المسالك ، كما لا يخفى
اللهم إلا ان يكون كلامه في الروضة مبنيا على المماشاة والتنزيل ، بناء على القول
بذلك ، بمعنى أنا لو قلنا : بأن نقل المتهب الهبة إلى غيره موجب للزوم ، فهل يكون
موت المتهب الموجب لنقل (الله سبحانه) لها كذلك أم لا؟ وحينئذ فيندفع عنه الإيراد
، والله العالم.
المقام الثاني في جملة من أحكامها زيادة على ما سبق :
وفيه مسائل الأولى : إذا وهب
وأقبض ثم باع الهبة من آخر فان كانت لازمة كما في الصورة المتقدمة ، فإن المبيع
غير منعقد ولا صحيح ، لكونه تصرفا في ملك الغير بغير إذنه ، إلا أن يكون من باب
البيع الفضولي على القول به ، فيتوقف على اجازة المتهب ان قلنا بصحته ، وإلا فلا ،
وان كانت الهبة جائزة يجوز الرجوع فيها ، فهل يصح ويقوم مقام الرجوع فيها ، فيكون
بيعا ورجوعا أم لا؟ بل لا بد من الرجوع أولا ثم البيع ، قولان. نقل ثانيهما عن
الشيخ (رحمة الله عليه) في المبسوط ، وهو اختيار المحقق في الشرائع ، وبالأول صرح
العلامة في الإرشاد والقواعد.
احتج القائل بالعدم بأن الهبة قد انتقلت الى ملك المتهب
بالعقد ، وان كان انتقالا متزلزلا قابلا للزوال بالفسخ ، فبيعه قبل الفسخ وقع في
ملك الغير ، لأنه باع ما لا يملكه.
احتج القائل بالصحة بأن الأصل صحة البيع ، وهو متضمن
للرجوع ، والمسئلة خالية من النص ، إلا أن الأقرب بالنسبة إلى تعليلاتهم هو القول
بالصحة وقول ذلك القائل أنه لا بد من الفسخ أولا وإلا لكان بيعا لما لا يملكه
مردود ، بأنه لا ريب أن ارادة البيع وقصده قبل وقوع العقد ظاهر في إرادة الفسخ
ويكون وقوع العقد كاشفا عن ذلك القصد ، فهو بيع بالنظر الى كشفه عن القصد والإرادة
المتقدمين على العقد ، فيكون بيعا متضمنا للفسخ ، وأي مانع من ذلك ، والى هذا
القول مال في المسالك ، وهو من حيث الاعتبار قوي ، وان كان من حيث عدم وجود النص
في المسئلة لا يخلو من توقف ، ولو كانت الهبة فاسدة صح البيع إجماعا ، كما ادعاه
في القواعد ، وهو مما لا اشكال فيه مع علمه بالفساد.
أما مع جهله وكون العقد عنده على الظاهر الصحة وان كان
في نفس
الأمر فاسدا فإشكال ، ووجه الصحة في
الجميع على ما قالوا هو كونه عقدا من مالك جائز التصرف ، فيكون صحيحا.
ووجه العدم على تقدير جهله بالفساد أنه لم يقصد نقله عن
ملكه لبنائه من حيث جهله بالفساد على أنه ملك لغيره فيكون إنما باع ملك غيره ،
والعقود تابعة للقصود ، فلا يكون العقد معلوم الصحة ، وأجيب عنه بأن إيقاع العقد
باللفظ الصريح كاف في الدلالة على القصد اليه شرعا ، كما في نظائره من العقود ، إذ
لا يشترط في صحته العلم بكونه قاصدا الى ذلك اللفظ ، حيث يكون شرعيا بل يحمل إطلاق
لفظه ـ حيث يتجرد عن قرائن عدم القصد ـ على كونه قاصدا.
أقول : والظاهر عندي أنه لا ضرورة الى هذه التكلفات
المذكورة ، والتعليلات المسطورة ، بل الأقرب أن يجعل الكلام هنا على تقدير الجهل
بفساد الهبة ، وانها بحسب الظاهر صحيحة كالكلام في سائر هذه المسئلة وهو صحة الهبة
، ولا فرق بينهما إلا بأن الهبة في الأولى صحيحة ظاهرا وواقعا ، وفي الثانية صحيحة
ظاهرا لا واقعا ، وحينئذ فإذا كان الكلام هنا كالكلام ثمة ، وقد عرفت ثمة أن
الأقرب هو الحكم بصحة البيع ، وكونه بيعا صحيحا ، فأولى بالصحة هنا ، حيث انه لا
إشكال في صحة البيع مع العلم بالفساد ومع الجهل بالفساد ، حتى حكمنا بصحة البيع
بناء على صحة الهبة ظاهرا ، وان كانت فاسدة واقعا تتأكد الصحة بظهور الفساد ، لما
عرفت من أنه لا إشكال في الصحة مع العلم به فالبيع صحيح على التقديرين.
تتميم :
حيث انهم قد صرحوا بصحة البيع فيما لو كانت الهبة فاسدة
في الواقع ، ونفس الأمر ، وان كانت صحيحة في الظاهر على ما تقدم من الإشكال في بعض
الصور ، لما ذكروه من التعليلات التي أشرنا إلى بعضها ، صرحوا بأن من قبيل ذلك ما
لو باع مال مورثه ، وهو يعتقد بقاءه بمعنى أنه يحكم بصحة البيع على تقدير ظهور
موت المورث حالة البيع ، فإن البائع
باع ما هو ملكه لحصول الشرط المعتبر في اللزوم ، وصدور البيع من مالك أمره ، ووجه
البطلان في الموضعين اتحاد المسئلتين ، في أنه باع مال غيره بحسب الظاهر ، فيصير
باطلا ، والقائل بالصحة هنا نظر الى وقوع البيع على ملكه واقعا ، حيث انه وقت
البيع قد انتقل إليه بالإرث ، وان كان بحسب الظاهر أنه مال غيره ، لعدم علمه
بالوفاة والانتقال اليه ،
واعترض ذلك في المسالك بناء على ما اعترض به في تلك
المسئلة مما قدمنا الإشارة إليه ، فقال هنا أيضا : ويشكل بما مر من عدم قصده الى
البيع اللازم ، بل انما قصد بيع غيره ، وأقدم على عقد الفضولي ، فينبغي أن يعتبر
رضاه به مع ظهور الحال خصوصا مع ادعاء عدم القصد الى البيع على تقدير كونه ملكه ،
ولعل هذا أقوى لدلالة القرائن عليه ، فلا أقل من جعله احتمالا مساويا للقصد الى
البيع مطلقا ، فلا يبقى وثوق بالقصد المعتبر في لزوم البيع ، إلا أن يقال : ان
المعتبر هو القصد الى بيع لازم وتوقفه على اجازة المالك أمر آخر ، والى مثل هذا
نظر المصنف وجزم بصحة البيع ، ومثله ما لو باع مال غيره فظهر شراء وكيله له ، انتهى.
أقول : لا يخفى أن من باع مال غيره بغير اذنه ومنه بيع
هذا الوارث مال مورثه بناء على حياته فإنه لا يخلو من أن يكون غاصبا أو فضوليا ،
وعلى تقدير القول بصحة بيع الفضولي ، فإنه عندهم موقوف في لزومه على اجازة المالك
، وان عدمها يبطل ، والإجازة هنا غير ممكنة لظهور موته وقت البيع كما هو المفروض ،
فيؤل الأمر إلى البطلان على كل من التقديرين ، هذا مع تسليم صحة البيع الفضولي
وإلا فقد عرفت أن الحق فيه أنه باطل كما مضى تحقيقه في كتاب البيع بما لا مزيد
عليه (1) وحينئذ فيبني
الأمر في ذلك على أن التصرف الذي يكون بحسب الواقع شرعيا وان لم يكن بحسب الظاهر
كذلك ، هل يترتب عليه ما يترتب على الشرعي ظاهرا وواقعا أم لا؟ وبعبارة أخرى
موافقة الواقع وان لم يتعلق به
__________________
(1) ج 18 ص 376.
قصد ولا ارادة ، بل ربما تعلق القصد
والإرادة بغيره ، هل يكون كافيا في الصحة أم لا؟ الظاهر من تتبع النصوص ذلك ، سواء
كان في العبادات أو المعاملات ، ومنه ما ذكره من مثال من باع مال غيره فظهر شراء
وكيله له ، بمعنى أنه ظهر أن بيعه قد صادف الصحة بحسب الواقع ، وان كان بحسب
الظاهر غير صحيح ، فإنه لا إشكال في صحته ، ولهذا الباب في العبادات ـ التي لا ريب
في أن الأمر فيها من المعاملات أشكل وأصعب ـ أمثلة كثيرة ، وناقش بعض فضلاء متأخري
المتأخرين في الاكتفاء بموافقة الواقع اتفاقا إذا لم يكن مقصودا ، وقد تقدم الكلام
معه في كتاب الصلاة في مسئلة من صلى في غير الوقت جاهلا (1) ولو تم ما
توهمه من أن الاتفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه ،
لما أجزى الصوم آخر يوم من شعبان عن شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك ، ويسقط
القضاء عمق أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقا على
الخلاف في ذلك ، ويوجب الحد على من زنى بامرأة ثم ظهر كونها زوجته ، ويصح شراء من
اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثم ظهر كونه غصبا ، ويوجب القضاء والكفارة على من
أفطر يوما من شهر رمضان في الظاهر ثم ظهر كونه من شوال ، ويوجب القود أو الدية على
من قتل شخصا عدوانا بحسب الظاهر ، ثم ظهر كونه ممن له قتله قودا ، ويوجب العوض علي
من غصب مالا وتصرف فيه ثم ظهر كونه له ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها
المتتبع ، واللازم أن يكون كلها باطلة اتفاقا ، وليس ذلك إلا من حيث الاكتفاء
بمطابقة الواقع وان لم يكن مقصودا ، وما نحن فيه من قبيل ذلك ، وبذلك يظهر لك أن ما
أطال به الكلام شيخنا المتقدم ذكره في المسالك بالنسبة إلى القصد في البيع وعدمه ،
كله تطويل بغير طائل ، والحق في المقام هو ما حققناه.
ثم ما ادعاه في القواعد من الإجماع على صحة البيع لو
كانت الهبة فاسدة كما
__________________
(1) ج 6 ص 287.
قدمنا نقله عنه قد اعترضه في المسالك
، فقال : واعلم أن العلامة في القواعد ادعى الإجماع على صحة البيع بتقدير ظهور
فساد الهبة ، وعطف عليه حكم ما لو باع مال مورثه ، والإجماع ممنوع ، مع أنه في
كتاب البيع من الكتاب المذكور نقل الخلاف فيمن باع مال مورثه فبان موته ، وان
استوجه الصحة ، انتهى.
أقول : من الجائز الممكن حصول الإجماع في مسئلة بيع ما
ظهر فساد هبته مع الخلاف في المسئلة المعطوفة عليها ، بأن يكون عطفه عليها بناء
على ما يختاره فيها ، لا بمعنى أنها مجمع عليها مثل الأولى ، والمسئلة الأولى لم
يظهر فيها منازع سواه (قدسسره) فيما أعلم ،
وهو لا ينافي دعوى الإجماع قبله ، فإنه مع مناقشته بما قدمنا ذكره عنه لم يذكر
مخالفا سواه ، ولم يشر الى خلاف في المسئلة بالكلية كما هي عادته غالبا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد ألحقوا بالمسئلة المتقدمة
فرعا آخر أيضا ، وهو أنه لو أوصى برقبة معتقة وظهر فساد العتق ، فإن الوصية تكون
صحيحة ، لمصادفتها للملك بحسب الواقع من حيث فساد العتق ، وان كانت باطلة بالنظر
الى الظاهر من حيث العتق الموجب للخروج عن الملك ، فالوصية لم تصادف الملك بحسب
الظاهر ، فتبطل ، إلا أنه لما كان المدار انما هو على مصادفة الواقع ، والحال أنه
لا عتق في الواقع كانت صحيحة.
قال في المسالك بعد ذكر نحو ما ذكرناه من الحكم بالصحة وبيان الوجه في ذلك : ويشكل بما مر ، ويزيد هنا أنه على تقدير كونه معتقا ظاهرا ولم يتبين له حال الوصية فساد العتق أنه لا يكون قاصدا إلى الوصية الشرعية ، بل بمنزلة الهاذل والعابث بالنظر الى ظاهر حاله ، فلا ينفعه ظهور ملكه بعد ذلك في نفس الأمر ، بخلاف من باع غيره فإنه قاصد إلى بيع صحيح شرعي ، غايته أنه جائز من قبل المالك ، لكنه لازم من قبل المشتري فهو عقد شرعي مقصود اليه ، وان لم يقصد الى لزومه مطلقا ، بخلاف الوصية بالعتق ظاهرا ، فإنها بحسب الظاهر باطلة ولا يتوجه قصده الى وصية شرعية أصلا ، لعدم علمه بها ، فالقول هنا بتوقفها على تجديد لفظ يدل على إمضائها متعين ، وهو في الحقيقة في قوة وصية جديدة ، إذ لا تنحصر في لفظ مخصوص ، بل كل لفظ يدل عليها كما سيأتي كاف وهذا منه ، انتهى.
أقول : لا ريب انه بالنظر الى الظاهر فالأمر كما ذكره من
أنه بحسب الظاهر حيث لم يتبين له فساد العتق ، ثم لو وصى والحال هذه ، فإنه في
معنى الهاذل أو العابث ، ولكن بالنظر الى الواقع حيث ان العتق فاسد في نفس الأمر
وانه مالك فإنه لا مانع من الصحة ، لما قدمنا ذكره من أن مطابقة الواقع وان لم
يتعلق به قصد بل ربما تعلق القصد بغيره كما عرفت من الأمثلة المتقدمة كاف في
الصحة.
وما ذكره في الفرق بين بيع المذكور في الصورة الأولى
والوصية من أنه في البيع قاصد الى بيع صحيح الى آخره ، ففيه أن جميع ما وصفه به
ونوه به ، كله مراعى بإجازة المالك ، وأنه مع عدمها يكون العقد باطلا بلا خلاف ،
والعقد المزبور قد وقع بعد موت المالك واقعا كما تقدم ، فالإجازة فيه متعذرة ،
فتحتم أن يكون باطلا ، نعم لما اتفق واقعا كونه ملكا للبائع صح العقد بالنظر الى
ذلك.
وبالجملة فإن هذا العقد بالنظر الى ظاهر الأمر وتصرف
الوارث في مال مورثة بالبيع بناء على حياته قد ظهر كونه باطلا بعدم لحوق الإجازة
له ، لكن لما اتفق انتقال ذلك الى الوارث واقعا وصار ملكا له وان لم يعلم به فقد
صادف العقد ما يوجب صحته ، وان كان غير مقصود بل المقصود غيره كما عرفت في الصور
المتقدمة ، وبعين هذا يقال في الوصية : فإنه لما أوصى بشيء لا يملكه ظاهرا ،
فإنها بحسب الظاهر باطلة لكن لما صادف في الواقع ما يوجب الصحة ، وهو ملكه للعبد
لبطلان العتق حكم بصحتها بالتقريب المتقدم في أمثالها.
وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور ، ومناقشاته (قدسسره) في جميع هذه
المواضع لا تخلو من القصور ، والله العالم.
المسئلة الثانية : قد صرحوا بأنه إذا تراخى القبض عن العقد ثم أقبض حكم بانتقال الملك من حين القبض لا من حين العقد ، وليس كذلك الوصية ، فإنه يحكم بانتقالها بالموت مع القبول ، وان تأخر القبض.
أقول : قد تقدم ذكر الخلاف سابقا في أن القبض هل هو شرط
في اللزوم أو الصحة ، وأن المشهور بين المتأخرين هو الثاني ، والظاهر أن هذا
الكلام مبني على هذا القول ، فان مقتضاه أن الملك لا يحصل إلا بعد القبض ، لكون
العقد قبل القبض غير صحيح ، فلا يوجب الملك وأما على مذهب من قال : انه شرط في
اللزوم فان العقد قبل القبض عنده صحيح ناقل للملك ، إلا أنه لا يلزم إلا بالقبض ،
إلا أن هذا القول كما تقدم ذكره ، لا يخلو من الاشكال لما عرفت ثمة.
وبالجملة على تقدير القول بشرطيته في الصحة ، إنما يحصل
الانتقال الى ملك المتهب بالقبض ، فيكون القبض ناقلا الملك لا كاشفا عن انتقاله
بالعقد ، كما هو مقتضى القول باللزوم ، وتظهر الفائدة في مواضع ، منها النماء
المتخلل بين العقد والقبض ، وأما الوصية فإنها تنتقل الى الموصى إليه بالقبول ،
وموت الموصي ولا يشترط فيها القبض كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ،
وهذا هو الموافق لقواعد العقود ، الا أن الهبة خرجت عندهم بدليل خاص كما تقدم.
هذا والمفهوم من كلام بعضهم هو جواز تراخى القبض عن
العقد ، والوجه فيه أصالة عدم الفورية لعدم الدليل عليها ، وفي القواعد استشكل في
صورة تراخيه.
قال في المسالك : والاشكال مبني على القول بأن القبض شرط لصحة الهبة ، لا للزومها ، فيكون جزء من السبب المصحح لها كالقبول ، واعتبرت فوريته كما اعتبرت فورية القبول ، وفيه أن الجزئية لا تقتضي الفورية أيضا ، إذ لا امتناع في تراخي بعض أجزاء السبب عن بعض ، واعتبار الفورية في القبول جاء من دليل من خارج عند من اعتبرها ، نظرا منه الى أن جواب الإيجاب يعتبر فيه ما يعد معه جوابا ، ومع ذلك ففيه ما فيه كما لا يخفى ، انتهى.
المسئلة الثالثة : لو أقر بالهبة وأنكر الإقباض كان القول قوله ، لأنه منكر والأصل عدم الإقباض ، فإن ادعى عليه من أقر له بالهبة الإقباض ، لزمته اليمين في إنكاره الإقباض ، وانما كانت اليمين لازمة له في هذه الصورة دون الأولى ، بل يقبل قوله هناك بغير يمين ، لأن اليمين انما تكون لإنكار ما يدعيه المدعي ، فإذا لم يدع عليه الإقباض لا وجه للزوم اليمين عليه ، وان صدق أنه منكر قبل الدعوى المذكورة ، إذ ليس كل منكر يلزمه اليمين على الإطلاق ، بل لا بد من انضمام دعوى ما أنكره المنكر ، وهو مما لا خلاف فيه ، ولا شبهة يعتريه ، ولو أقر بالهبة والتمليك فقال : وهبته وملكته ولكن أنكر القبض فالإشكال ، ينشأ من بناء الكلام هنا على ما تقدم من الخلاف في أن القبض هل شرط لصحة الهبة ، فلا يحصل الملك بدونه ، أم شرط للزومها فيحصل بدونه ، وان كان ملكا متزلزلا يجوز رفعه بالفسخ ، وبيان ذلك أن الهبة تحصل بمجرد الإيجاب والقبول. والقبض أمر خارج عن ماهيتها ، وانما اعتبر في صحتها أو لزومها ، فإقراره بالهبة وقوله وهبته لا يدل على أزيد من وقوع وقوع الهبة بالإيجاب والقبول ، وأما القبض فلا دلالة له عليه وقوله ثانيا وملكته فان قلنا بأن القبض شرط في الصحة فمقتضى هذا الإقرار أنه أقبضه ، لأن الملك على هذا القول لا يحصل إلا بالإقباض ، فيحكم عليه بالإقباض حيث يقول وملكته ، فلا معنى لإنكاره الإقباض حينئذ ، هذا ان كان المقر ممن يرى هذا القول اجتهادا أو تقليدا ، أو ان كان ممن يرى أن القبض شرط في اللزوم ، وأن الملك يحصل بغير القبض ، فيجوز أن يكون إقراره إخبارا عن رأيه ومعتقده ، فلا يدل على الإقباض ، وذيل الكلام في المقام واسع ، من أراد الوقوف عليه فليرجع الى مطولات الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا أنه لما كانت المسئلة خالية عن النصوص ، فتطويل الكلام فيها بنحو هذه التعليلات تطويل بغير طائل والله العالم.
المسئلة الرابعة قالوا : إذا رجع الواهب في الهبة حيث يجوز له الرجوع فان وجدها بحالها لم تتغير ، فلا اشكال ، وان وجدها متغيرة معيبة لم يرجع بالأرش لأنه حدث في عين مملوكة للمتهب وقد سلطه مالكها على إتلافها مجانا فلا يكون مضمونة عليه ، سواء كان العيب بفعله أم لا ، وان وجدها زائدة زيادة متصلة كالسمن والتعلم فهي للواهب ، لأنها تابعة للعين ، بل داخلة في مسماها أو جزء لها لغة وعرفا ، فالرجوع في العين يستتبعها ، وان وجدها زائدة زيادة منفصلة حسا وشرعا كالولد الناتج واللبن المحلوب والثمرة المقطوعة والكسب فهي للمتهب ، لأنها نماء حدث في ملكه ، فيختص به وان كانت الزيادة منفصلة حسا كالحمل المتجدد بعد القبض ، واللبن كذلك قبل أن يحلب والثمرة قبل قطافها ، فكذلك على المشهور ، لعين ما تقدم.
قال ابن حمزة : له الرجوع في الأم والحمل المتجدد ، بناء
على انه كالجزء من الأم ، ومثله الصوف والشعر المنجز ، ولو لم يبلغ أو ان جزه ،
فان الأشهر تبعيته للعين ، هذا كله إذا كانت الزيادة قد حدثت بعد ملك المتهب للعين
، وذلك بعد العقد والقبض ، وأما لو حدثت قبله فهي كالموجودة قبل الهبة ، فيرجع
فيها كما يرجع في العين.
أقول ، قد تقدم الكلام في هذه المسئلة.