ج1 - المقدمة الخامسة في حكم الجاهل بالأحكام
المقدمة الخامسة
وقد اختلف في ذلك كلام علمائنا الأعلام (أسكنهم الله
تعالى أعلى درجة في دار السلام) فالمشهور بينهم عدم المعذورية إلا في أحكام يسيرة
كحكمي الجهر والإخفات والقصر والإتمام ، وفرعوا على ذلك بطلان عبادة الجاهل ـ وهو
عندهم من لم يكن مجتهدا ولا مقلدا ـ وان طابقت الواقع ، حيث أوجبوا معرفة واجبها
وندبها وإيقاع كل منهما على وجهه. وان تلك المعرفة لا بد أن تكون عن اجتهاد أو
تقليد ، فصلاة المكلف ـ بدون أحد الوجهين ـ باطلة عندهم وان طابقت الواقع وطابق
اعتقاده
__________________
(1) رواه في الوسائل في باب ـ 50 ـ من أبواب الوضوء.
وإيقاعه الواجب والندب ـ ما هو
المطلوب شرعا.
وذهب جمع من المتأخرين ومتأخريهم إلى معذورية الجاهل
مطلقا إلا في مواضع يسيرة ، حتى حكم بعض متأخري المتأخرين (1) بصحة صلاة
العوام كيف كانت ، واقتصر بعض على ما طابق الواقع من ذلك.
وظواهر الأخبار في المسألة لا تخلو عن تناقض يحتاج الى
مزيد كشف وبيان لترتفع به غشاوة الشبهة عن جملة الأذهان.
فمن الأخبار الدالة ـ على القول المشهور ـ قول ابي الحسن
(عليهالسلام) في مرسلة
يونس بعد أن سأله السائل «هل يسع الناس ترك المسألة عما يحتاجون اليه؟ فقال : لا» (2). وقول الصادق (عليهالسلام) لحمران بن
أعين في شيء سأله عنه : «إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون» (3). وقوله (عليهالسلام) : «لا يسع
الناس حتى يسألوا ويتفقهوا» (4). وكذا يدل على
ذلك الأخبار المستفيضة بالأمر بطلب العلم (5) والأمر بالتفقه في الدين. ومما يدل
على القول الآخر أخبار مستفيضة متفرقة في جزئيات الأحكام ،
__________________
(1) البعض الأول هو المحدث السيد نعمة الله الجزائري ، والثاني
هو المحقق المولى الأردبيلي (قدسسرهما) وقد نقلنا كلامهما بلفظة في كتاب
الدرر النجفية ، وذكرنا ما يتعلق به نفيا وإثباتا ، وأشبعنا الكلام في المسألة في
الكتاب المشار اليه حسبما يراد (منه قدسسره).
(2) المروي في الوسائل في باب ـ 7 ـ من أبواب صفات القاضي وما
يجوزان يقضي به من كتاب القضاء.
(3) المروي في الكافي في باب (سؤال العالم وتذاكره) من كتاب
فضل العلم.
(4) في حديث ابى جعفر الأحول عن ابى عبد الله (عليهالسلام) المروي في الوسائل في باب ـ 9 ـ من
أبواب صفات القاضي وما يجوزان يقضى به من كتاب القضاء.
(5) المروية في الوسائل في باب ـ 4 ـ من أبواب صفات القاضي وما
يجوزان يقضى به من كتاب القضاء.
فمن ذلك ما ورد في باب الحج وهو أخبار
كثيرة.
(منها) ـ صحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليهالسلام) (1) قال : «من لبس
ثوبا لا ينبغي له لبسه وهو محرم ففعل ذلك ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه».
ومرسلة جميل (2) عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهماالسلام) : «في رجل
نسي أن يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها وطاف وسعى؟ قال : تجزيه نيته إذا كان قد
نوى ذلك فقد تم حجه وان لم يهل».
ورواية عبد الصمد بن بشير عن ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «جاء
رجل يلبي حتى دخل المسجد الحرام وهو يلبي وعليه قميصه ، فوثب عليه الناس من أصحاب
أبي حنيفة فقالوا : شق قميصك وأخرجه من رجليك ، فان عليك بدنة وعليك الحج من قابل
وحجك فاسد. فطلع أبو عبد الله (عليهالسلام) فقام على باب
المسجد فكبر واستقبل الكعبة ، فدنا الرجل من ابي عبد الله (عليهالسلام) وهو ينتف
شعره ويضرب وجهه ، فقال له أبو عبد الله (عليهالسلام) : اسكن يا
عبد الله ، فلما كلمه وكان الرجل أعجميا ، فقال أبو عبد الله (عليهالسلام) : ما تقول؟
قال : كنت رجلا أعمل بيدي فاجتمعت لي نفقة فجئت أحج لم أسأل أحدا عن شيء فأفتوني
هؤلاء أن أشق قميصي وانزعه من قبل رجلي وان حجي فاسد وان علي بدنة. فقال له : متى
لبست قميصك أبعد ما لبيت أم قبل؟ قال : قبل ان ألبي. قال : فأخرجه من رأسك فإنه
ليس عليك بدنة وليس عليك الحج من قابل ، اي رجل ركب أمرا بجهالة فلا شيء عليه. طف
بالبيت أسبوعا وصل ركعتين عند مقام إبراهيم (عليهالسلام) واسع
__________________
(1) المروية في الوسائل في باب ـ 8 ـ من أبواب بقية كفارات
الإحرام من كتاب الحج.
(2) المروية في الوسائل في باب ـ 20 ـ من أبواب المواقيت من
كتاب الحج.
(3) المروية في الوسائل في باب ـ 45 ـ من أبواب تروك الإحرام
من كتاب الحج.
بين الصفا والمروة وقصر من شعرك ،
فإذا كان يوم التروية فاغتسل وأهل بالحج واصنع كما يصنع الناس».
ومن ذلك ـ ما ورد في النكاح في العدة. ومنه صحيحة عبد
الرحمن بن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة (1) وبمضمونها
روايات عديدة (2).
ومن ذلك ـ ما ورد في الحدود كموثقة عبد الله بن بكير عن
ابي عبد الله (عليهالسلام) (3) : «في رجل شرب
الخمر على عهد ابي بكر وعمر. واعتذر بجهله بالتحريم ، فسألا أمير المؤمنين (عليهالسلام) فأمر (عليهالسلام) بان يدار به
على مجالس المهاجرين والأنصار ، وقال : من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه.
ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد فخلى سبيله». وبمضمون ذلك في الحدود روايات عديدة.
ومن ذلك ـ ما ورد في الصلاة في السفر تماما كصحيحة زرارة
ومحمد بن مسلم (4) وهذا من جملة
ما استثناه من قال بعدم معذورية الجاهل ، وما ورد في من أقام عشرة أيام وصلى قصرا
جاهلا كصحيحة منصور بن حازم (5) وكذا ما ورد
في من جهر في موضع الإخفات وأخفت في موضع الجهر (6) وهذا أيضا أحد
ما استثنوه.
__________________
(1) في صحيفة 73 سطر 11.
(2) رواها في الوسائل في باب ـ 17 ـ من أبواب ما يحرم
بالمصاهرة ونحوها من كتاب النكاح.
(3) المروية في الوسائل في باب ـ 10 ـ من أبواب حد المسكر من
كتاب الحدود والتعزيرات.
(4) المروية في الوسائل في باب ـ 17 ـ من أبواب صلاة المسافر
من كتاب الصلاة.
(5) المروية في باب ـ 17 ـ من أبواب صلاة المسافر من كتاب
الصلاة.
(6) رواه في الوسائل في باب ـ 26 ـ من أبواب القراءة في الصلاة
من كتاب الصلاة.
ومن ذلك ايضا ـ ما رواه الصدوق (قدسسره) في كتاب
التوحيد (1) بسنده عن عبد
الأعلى بن أعين : قال : «سألت أبا عبد الله (ع) عمن لا يعرف شيئا هل عليه شيء؟
قال : لا». وما رواه في الفقيه والتوحيد (2) في الصحيح عن ابي عبد الله (عليهالسلام) : قال : «قال
رسول الله (صلىاللهعليهوآله) : رفع عن
أمتي تسعة ، وعد منها ما لا يعلمون».
ومما يؤكد ذلك ما روي أيضا : «انه ما أخذ الله على
الجهال أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء ان يعلموا» رواه في الكافي (3). وقوله : «ما
حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (4). وقوله : «ان الله يحتج على العباد
بما آتاهم
__________________
(1) في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية) وفي الكافي في
باب (حجج الله على خلقه) من كتاب التوحيد.
(2) رواه في الفقيه في باب ـ 14 ـ (من ترك الوضوء أو بعضه أو
شك فيه) من الجزء الأول وفي التوحيد في باب (التعريف والبيان والحجة والهداية).
وفي
الكافي في باب (ما رفع عن الأمة) من كتاب الايمان والكفر. وفي الوسائل في باب ـ 30
ـ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة من كتاب الصلاة عن الفقيه والخصال ، وفي باب ـ 56
ـ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه من كتاب الجهاد عن التوحيد والخصال والكافي.
(3) في باب (بذل العلم) من كتاب فضل العلم ، وهو حديث طلحة بن
زيد عن ابى عبد الله (عليهالسلام) قال : «قرأت في كتاب على (عليهالسلام) ان الله لم يأخذ على الجهال عهدا بطلب
العلم حتى أخذ على العلماء عهدا ببذل العلم للجهال ، لان العلم كان قبل الجهل».
(4) وهو حديث ابى الحسن زكريا بن يحيى عن ابى عبد الله (عليهالسلام) رواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب (التعريف
البيان والحجة والهداية) ورواه الكليني في الكافي في باب (حجج الله على خلقه) من
كتاب التوحيد ، الا ان رواية الكليني ليس فيها كلمة (علمه).
وعرفهم» (1). الى غير ذلك
من الاخبار التي يقف عليها المتتبع.
ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بوجوه : (أظهرها) ان يقال :
ان الجاهل ـ كما يطلق على الغافل عن الحكم بالكلية ـ يطلق ايضا على غير العالم
بالحكم وان كان شاكا أو ظانا ، والمفهوم من الأخبار ان الجاهل بالحكم الشرعي على
المعنى الثاني غير معذور بل الواجب عليه الفحص والتفتيش عن الأدلة أو السؤال ، ومع
تعذر الوقوف على الحكم ففرضه التوقف عن الحكم والفتوى والوقوف على جادة الاحتياط
في العمل ، وان الحكم بالنسبة إليه من الشبهات المشار إليها في قولهم (عليهمالسلام) : «حلال بين
وحرام بين وشبهات بين ذلك» (2). وعلى هذا
الفرد تحمل الأخبار الدالة على عدم معذورية الجاهل ووجوب التفقه والعلم والسؤال.
ومما يدل ـ على ان حكم الجاهل بهذا المعنى ما ذكرنا ـ صحيحة
عبد الرحمن ابن الحجاج المتقدمة في سابق هذه المقدمة (3) الواردة في
جزاء الصيد كما أشرنا إليه ثمة.
وحسنة بريد (4) الكناسي في من تزوجت في العدة جاهلة
، حيث قال
__________________
(1) وهو من حديث حمزة بن الطيار عن ابى عبد الله (عليهالسلام) الذي رواه الكليني في الكافي في باب (حجج
الله على خلقه) من كتاب التوحيد ورواه الصدوق في كتاب التوحيد في باب (التعريف
والبيان والحجة والهداية).
(2) الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة المروية في الوسائل في باب
ـ 9 ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء ، وغيرها من
الروايات في باب ـ 12 ـ من تلك الأبواب.
(3) في صحيفة 73 سطر 2.
(4) بالباء الموحدة والراء المهملة كما عليه نسخ الحدائق
المطبوعة والمخطوطة التي وقفنا عليها ، وهو من أصحاب الصادق (عليهالسلام) على ما نقله صاحب جامع الرواة عن رجال
الميرزا محمد ، ويحتمل ان يكون بالياء المثناة والزاي المعجمة ، وهو المكنى بأبي
خالد ، وهو من أصحاب الباقر والصادق (عليهماالسلام) على ما نقله صاحب جامع الرواة عن رجال
الراوي فيها : «قلت : فان كانت تعلم
ان عليها عدة ولا تدري كم هي؟ فقال : إذا علمت ان عليها العدة لزمتها الحجة ،
فتسأل حتى تعلم» (1). وهما ظاهرتا
الدلالة على ذلك وان كان موردهما جزئيات الحكم الشرعي.
وأما الجاهل بالمعنى الأول فلا ريب في معذوريته ، لان
تكليف الغافل الذاهل مما منعت منه الأدلة العقلية وأيدتها الأدلة النقلية ، والى
ذلك يشير قوله (عليهالسلام) في صحيحة عبد
الرحمن المتقدمة في سابق هذه المقدمة (2) الواردة في التزويج في العدة في
تعليل ان الجاهل بالتحريم أعذر من الجاهل بكونها في عدة : «وذلك بأنه لا يقدر على
الاحتياط معها» بمعنى انه مع جهله بان الله حرم عليه التزويج في العدة لا يقدر على
الاحتياط بالترك ، لعدم تصور الحكم بالكلية ، بخلاف الظان أو الشاك فإنه يقدر على
ذلك لو تعذر عليه العلم وعلى هذا تحمل الأخبار الأخير الدالة على المعذورية.
واما ما يفهم من كلام ذلك البعض المشار اليه آنفا (3) من الحكم بصحة
صلاة العوام كيف كانت وان اشتملت على الإخلال بالواجبات ، فظني انه على إطلاقه غير
تام ، فإنه متى قام العذر للجاهل بمجرد جهله وصحت صلاته كصلاة الفقيه بجميع شروطها
وواجباتها ووسعه البقاء على جهله ، لزم سقوط التكليف. فما الغرض من أمر الشارع
بهذه الأحكام والفصل فيها بين الحلال والحرام؟ والى من تتوجه هذه الأوامر؟ والى من
أرسلت
__________________
الميرزا محمد. ونقل عن بعضهم انه مال الى البناء على اتحادهما
وان أبا خالد الكناسي اسمه (بريد) بالباء الموحدة والراء المهملة لا (يزيد) بالياء
المثناة والزاي المعجمة ، وانه من أصحاب الباقر والصادق (عليهماالسلام) ومال صاحب جامع الرواة إلى اتحادهما
مع بريد بن معاوية العجلي ، لما ذكره في باب الياء من كتابه.
(1) رواها صاحب الوسائل في باب ـ 27 ـ من أبواب حد الزنا من
كتاب الحدود والتعزيرات.
(2) في صحيفة 73 سطر 11.
(3) في صحيفة 78 سطر 2.
الرسل وأنزلت الكتب؟ إذا وسع الجاهل
البقاء على جهله وصحت جميع أفعاله وأعماله الواقعة كذلك ، وفي هذا من الشناعة ما
لا يلتزمه من له ادنى قدم في التحصيل ، واخبار ـ «لا يسع الناس البقاء على الجهالة»
(1). وحديث تفسير
قوله سبحانه : «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» (2) وما روي في
حسنة زرارة (3) عنه (صلىاللهعليهوآله) حين رأى من
يصلي ولم يحسن ركوعه ولا سجوده ، من انه قال : «نقر كنقر الغراب ، لئن مات هذا
وهكذا صلاته ليموتن على غير ديني». وما استفاض عنهم (صلوات الله عليهم) : «ليس منا
من استخف بصلاته». وفي جملة منها «لا ينال شفاعتنا من استخف بصلاته» (4). الشامل ذلك
بإطلاقه للعالم والجاهل ـ مما يرد هذا القول ويبطله.
والقول الفصل في ذلك ان يقال : ان الظاهر ان الحكم في
ذلك يختلف باختلاف الناس في أنسهم بالأحكام والتمييز بين الحلال والحرام وعدمه ،
وقوة عقولهم وإفهامهم وعدمها. ولكل تكليف يناسب حاله ، ويرجع ذلك بالأخرة إلى
الجاهل بمعنييه
__________________
(1) تقدم بعضها في صحيفة 78 سطر 7. وقد روى في الوسائل في باب
ـ 7 ـ من أبواب صفات القاضي وما يجوز ان يقضى به من كتاب القضاء. كما قد روى حديث
الأحول وهو قوله (عليهالسلام) : «لا يسع الناس حتى يسألوا ويتفقهوا».
في باب ـ 9 ـ من الأبواب المذكورة.
(2) في سورة الانعام. آية 151. وهو الحديث الذي روى في أمالي
الشيخ عن المفيد عن ابن قولويه عن الحميري عن أبيه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن
زياد قال : «سمعت جعفر بن محمد (عليهماالسلام) وقد سئل عن قوله تعالى «قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» فقال : ان الله تعالى يقول للعبد يوم
القيامة : عبدي أكنت عالما؟ فان قال : نعم. قال له : أفلا عملت بما علمت؟ وان قال
: كنت جاهلا. قال : أفلا تعلمت حتى تعمل؟ فيخصمه ، فتلك الحجة البالغة».
(3) المروية في الوسائل في باب ـ 3 ـ من أبواب الركوع من كتاب
الصلاة.
(4) روى في الوسائل الأخبار المتضمنة لذلك في باب ـ 6 ـ من
أبواب أعداد الفرائض ونوافلها وما يناسبها من كتاب الصلاة.
المتقدمين (1). وذلك فان من المعلوم ان سكان الصحاري والرساتيق ليسوا في
الانس بالأحكام والشرائع ، كسكان المدن والأمصار المشتملة على العلماء والوعاظ
والجمعات والجماعات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك. ولهذا نهى الشارع
عن سكون تلك وندب الى سكون هذه ، لانه بمجرد ذلك يحصل التأدب بالآداب الشرعية ،
والتخلق بالأخلاق المرضية ، والاطلاع على الأحكام النبوية بمداخلة أبناء النوع
ومعاشرتهم ، بل مجرد رؤيتهم ، كما لا يخفى على من تأمل ذلك ، وحينئذ فالعامي من
سكان الصحاري ـ مثلا ـ إذا أخذ العبادة من آبائه وتلقاها من اسلافه على اي وجه كان
، معتقدا انها هي العبادة التي أمر بها الشارع ولم يعلم زيادة على ذلك ، فالظاهر
صحتها.
(أما أولا) ـ فلأنه جاهل بما سوى ذلك جهلا ساذجا ، وتوجه
الخطاب الى مثله كما قدمنا (2) ممتنع عقلا
ونقلا.
و (أما ثانيا) ـ فلانه قد ورد في الأخبار بالنسبة إلى
جاهل الإمامة من المخالفين انهم ممن يرجى لهم الفوز بالنجاة في الآخرة ، فإذا كان
ذلك حال المخالفين في الإمامة التي هي من أصول الدين فكيف بعوام مذهبنا في الفروع؟
وكذا القول بالنسبة إلى قوة العقل والفهم وعدمها ، فان خطاب كاملي العقول وثاقبي
الأذهان ليس كخطاب غيرهم من البله والصبيان والنسوان ، وقد ورد عنهم (عليهمالسلام) : «انما يداق
الله العباد على ما وهبهم من العقول» (3).
و «انه سبحانه يحتج على العباد بما آتاهم
__________________
(1) في صحيفة 82 سطر 3.
(2) في صحيفة 83 سطر 4.
(3) وهو حديث ابى الجارود عن ابى جعفر (عليهالسلام) المروي في الكافي في كتاب العقل
والجهل بالنص الآتي : «إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما
آتاهم من العقول في الدنيا».
وعرفهم» (1). وان الايمان
درجات فلا ينبغي لصاحب الدرجة العالية أن يبرأ من صاحب الدرجة السافلة ولا يوبخه
عليها» (2). وحينئذ
فتكليف ضعفة العقول ليس كتكليف كامليها ، ومما يؤكد ذلك انه قد ورد في أخبارنا ان
المستضعفين من المخالفين ممن يرجى لهم الفوز بالجنة ، وان دل ظاهر الآية الشريفة
على انهم من المرجئين لأمر الله ، إلا ان ظاهر جملة من الأخبار ان عاقبة أمرهم إلى
الجنة ، بل قال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) على ما نقله عنه السيد نعمة الله
الجزائري (رحمهالله) في بعض
فوائده : «أن المستضعفين ـ من الكفار ممن لم تقم عليه الحجة من عوامهم ومن بعد عن
بلاد الإسلام ـ ممن يرجى لهم النجاة» قال السيد نعمة الله بعد نقل ذلك عنه : «وهذا
القول وان لم يوافقه عليه الأكثر إلا انه غير بعيد من تتبع موارد الاخبار» انتهى.
وحينئذ فلو أوقع أحد هؤلاء العبادة التي أخذها من آبائه واسلافه ، معتقدا ان هذا
هو أقصى ما هو مكلف به. فالظاهر صحتها بالتقريب المتقدم. واما بالنسبة الى من عدا
من ذكرنا فالظاهر ان جهلهم ليس كجهل أولئك حتى يكون موجبا للعذر لهم ومصححا
لعباداتهم ، فإنه لا أقل ان يكونوا ـ بمن يصحبونه من المصلين الآتين بالصلاة على
وجهها وبجملة حدودها ، ويشاهدونه من الملازمين على ذلك في جميع الأوقات والحالات
سيما في المساجد والجماعات ـ يحصل لهم الظن الغالب ـ ان تنزلنا عن دعوى العلم ـ بان
هذه هي الصلاة المأمور بها شرعا ، وان ما نقص عنها وخالفها ان لم يكن معلوم
البطلان فلا أقل ان يكون مظنونه أو مشكوكه ، وحينئذ فيرجع
__________________
(1) وهو من حديث حمزة بن الطيار عن ابى عبد الله (عليهالسلام) المروي في الكافي في باب (حجج الله
على خلقه) من كتاب التوحيد ، وفي كتاب التوحيد للصدوق في باب (التعريف والبيان
والحجة والهداية).
(2) روى الكليني الأخبار المتضمنة لذلك في الكافي في باب (درجات
الايمان) والباب الذي يليه من كتاب الايمان والكفر.