ج1 - في القليل الراكد

الفصل الثالث

في القليل الراكد

وتفصيل القول فيه يتم برسم مقامات:

(المقام الأول) ـ الظاهر انه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) ـ نصا وفتوى ـ في نجاسة الماء القليل بتغيره بالنجاسة في أحد الأوصاف الثلاثة. إنما الخلاف في النجاسة بمجرد الملاقاة.

فالمشهور ـ بل كاد يكون إجماعا بل ادعى عليه في الخلاف في غير موضع الإجماع ـ هو النجاسة.

__________________

(1) في الصحيفة 277 ،.

(2) لان ضرب ثلاثة آلاف واثنى عشر مثقالا في مائة صاع يبلغ أحدا وعشرين منا والف وقياس ، فتزيد عليها ثلثها وهو ثلاث وثلاثون وثلث يبلغ ما ذكرنا (منه رحمه‌الله).


وعزي الى الحسن بن ابي عقيل (رحمه‌الله) القول بعدم النجاسة إلا بالتغير ، واختار هذا القول جمع من متأخري المتأخرين.

ولا بد من نقل الاخبار هنا من الطرفين ، والكلام بما يرفع التناقض من البين فنقول

اما ما يدل من الاخبار على القول المشهور الذي هو عندنا المؤيد المنصور.

(فمنها) ـ صحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) وسئل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب ، قال : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء».

و (منها) ـ صحيحة زرارة (2) قال : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء ـ تفسخ فيه أو لم يتفسخ ـ إلا ان تجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء».

و (منها) ـ صحيحة إسماعيل بن جابر (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الماء الذي لا ينجسه شي‌ء؟ قال : ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته».

و (منها) ـ صحيحة عبد الله بن سنان (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام)

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الكافي ج 1 ص 2 ، ورواها الشيخ في التهذيب ج 1 ص 117 مسندة عن ابى جعفر (عليه‌السلام) بسند ضعيف ، ورواهما صاحب الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة ، مع ان هذا المتن هو صدر صحيحة إسماعيل بن جابر كما في الكافي ج 1 ص 2 ، والتهذيب ج 1 ص 11 و 12 والوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق ، وقد تقدم منه (قده) نقل ذيلها ونسبه الى إسماعيل بن جابر في الصحيفة 262 السطر 5 كما تقدم منه الكلام في سندها وان الراوي عن إسماعيل بن جابر هو عبد الله بن سنان أو محمد بن سنان في الصحيفة 270 ، ولم نجد في كتب الحديث رواية لعبد الله بن سنان بهذا المتن عن الإمام مباشرة.


عن قدر الماء الذي لا ينجسه شي‌ء. فقال : كر. الحديث».

و (منها) ـ رواية عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا كان الماء قدر قلتين لم ينجسه شي‌ء ، والقلتان جرتان».

و (منها) ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «ولا تشرب من سؤر الكلب إلا ان يكون حوضا كبيرا يستقى منه».

و (منها) ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (3) قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء ، يتوضأ منه للصلاة؟ قال : لا الا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء».

و (منها) ـ صحيحته ايضا عن أخيه (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن رجل رعف ـ وهو يتوضأ ـ فتقطر قطرة في إنائه ، هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا».

و (منها) ـ موثقة عمار الساباطي (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ، لا يدري أيهما هو؟ وليس يقدر على ماء غيره. قال : يهريقهما جميعا ويتيمم». وهذا الحديث رواه الشيخ في موضعين

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 10 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق وفي الباب ـ 1 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 و 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 و 13 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 و 12 ـ من أبواب الماء المطلق وفي الباب ـ 4 ـ من أبواب التيمم وفي الباب ـ 64 ـ من أبواب النجاسات.


من التهذيب (1) ورواه ثقة الإسلام والصدوق أيضا في الموثق عن سماعة (2).

و (منها) ـ رواية أبي بصير عنه (عليه‌السلام) (3) قال : «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل ان تغسلها فلا بأس الا ان يكون أصابها قذر بول أو جنابة ، فإذا أدخلت يدك في الماء وفيها شي‌ء من ذلك فأهرق ذلك الماء».

و (منها) ـ صحيحة أحمد بن محمد بن ابي نصر (4) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة. قال : يكفأ الإناء».

و (منها) ـ موثقة سماعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) قال : «إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الإناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء من المني».

و (منها) ـ موثقته ايضا (6) قال : «سألته عن رجل يمس الطست أو الركوة ثم يدخل يده في الإناء قبل ان يفرغ على كفيه ، الى ان قال (عليه‌السلام) : وان كان أصابه جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء

__________________

(1) رواه في آخر باب (تطهير المياه من النجاسات) عن عمار وعن سماعة ، ورواه في آخر باب (التيمم وأحكامه) عن عمار ، ورواه في باب (المياه وأحكامها) عن سماعة.

(2) رواه ثقة الإسلام عن سماعة في الباب ـ 6 ـ من كتاب الطهارة ، ورواه صاحب الوسائل عن سماعة في الباب ـ 8 و 12 ـ من أبواب الماء المطلق وفي الباب ـ 4 ـ من أبواب التيمم وفي الباب ـ 64 ـ من أبواب النجاسات. ولم نجده في الفقيه بعد الفحص عنه في مظانه ، كما ان صاحب الوسائل لم يروه عن الفقيه وكذا صاحب الوافي بمقتضى الطبعة الثانية. نعم في الطبعة الأولى قد اثبت عن الفقيه أيضا.

(3 و 4 و 6) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق وفي الباب ـ 28 ـ من أبواب الوضوء.


من المني ، وان كان أصاب يده فادخل يده في الماء قبل ان يفرغ على كفيه فليهرق الماء كله».

و (منها) ـ رواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن الجنب يحمل الركوة أو التور فيدخل إصبعه فيه. فقال : ان كانت يده قذرة فأهرقه ، وان كان لم يصبها قذر فليغتسل منه. الحديث».

و (منها) ـ حسنة شهاب بن عبد ربه عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) «في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الإناء قبل ان يغسلها؟ انه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شي‌ء».

و (منها) ـ موثقة عمار الساباطي عنه (عليه‌السلام) (3) قال : «سئل عن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب. فقال : كل شي‌ء من الطير يتوضأ مما يشرب منه إلا ان ترى في منقاره دما ، فإذا رأيت في منقاره دما فلا تتوضأ منه ولا تشرب».

و (منها) ـ موثقة عمار ايضا عنه (عليه‌السلام) (4) انه «سئل عن ماء شربت منه الدجاجة. فقال : ان كان في منقارها قذر لم يتوضأ منه ولم يشرب ، وان لم تعلم ان في منقارها قذرا فتوضأ منه واشرب».

و (منها) ـ صحيحة محمد بن مسلم عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (5) قال : «سألته عن الكلب يشرب من الإناء. قال : اغسل الإناء».

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق وفي الباب ـ 7 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 4 ـ من أبواب الأسآر ، ورواه عن الصدوق مرسلا في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 و 2 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة.


و (منها) ـ رواية حريز عمن أخبره عنه (عليه‌السلام) (1) قال : «إذا ولغ الكلب في الإناء فصبه».

و (منها) ـ صحيحة الفضل بن عبد الملك البقباق (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة ، الى ان قال : فلم اترك شيئا إلا سألته عنه ، فقال : لا بأس به ، حتى انتهيت الى الكلب. فقال : رجس نجس لا تتوضأ بفضله واصبب ذلك الماء ، واغسله بالتراب أول مرة ثم بالماء».

و (منها) ـ رواية معاوية بن شريح (3) قال : «سأل عذافر أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده عن سؤر السنور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع ، يشرب منه أو يتوضأ منه؟ فقال : نعم اشرب منه وتوضأ. قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا والله انه نجس لا والله انه نجس».

و (منها) ـ حسنة المعلى بن خنيس (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخنزير يخرج من الماء فيمر على الطريق فيسيل منه الماء ، أمر عليه حافيا. فقال أليس وراءه شي‌ء جاف؟ قلت : بلى. فقال : لا بأس ، ان الأرض يطهر بعضها بعضا».

و (منها) ـ ما رواه الشهيد في الذكرى (5) وغيره في غيره عن العيص

__________________

(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الأسآر. ورواها بنحو التقطيع في الباب ـ 11 و 70 ـ من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 32 ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود من كتاب الطهارة.

(5) في الصحيفة 9 ورواه صاحب الوسائل عن الذكرى والمعتبر في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل من كتاب الطهارة.


ابن القاسم قال : «سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء. قال : ان كان من بول أو قذر فليغسل ما اصابه».

و (منها) ـ رواية ابن ابي يعفور عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمام ، فان فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرهما ، ان الله لم يخلق خلقا شرا من الكلب وان الناصب أهون على الله من الكلب».

و (منها) ـ رواية علي بن الحكم عن رجل عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (2) قال : «لا تغتسل من غسالة ماء الحمام ، فإنه يغتسل فيه من الزنا ، ويغتسل فيه ولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».

و (منها) ـ رواية حمزة بن احمد عن الكاظم (عليه‌السلام) (3) قال : «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمام ، فإنه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت ، وهو شرهم».

و (منها) ـ موثقة ابن ابي يعفور المروية في كتاب العلل (4) عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إياك ان تغتسل من غسالة الحمام ، ففيها تجتمع غسالة اليهودي والنصراني والمجوسي والناصب لنا أهل البيت وهو شرهم. الحديث».

و (منها) ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (5) انه

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل من كتاب الطهارة.

(4) في الصحيفة 106 وفي الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب الماء المضاف المستعمل من كتاب الطهارة.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 14 ـ من أبواب النجاسات والأواني والجلود كتاب الطهارة.


«سأله عن النصراني يغتسل مع المسلم في الحمام. قال : إذا علم انه نصراني اغتسل بغير ماء الحمام ، الا ان يغتسل وحده على الحوض فيغسله ثم يغتسل».

و (منها) ـ صحيحته ايضا عن أخيه (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن خنزير شرب من إناء كيف يصنع به؟ قال : يغسل سبع مرات».

و (منها) ـ ما رواه في كتاب قرب الاسناد (2) عن علي بن جعفر عن أخيه (عليه‌السلام) قال : «سألته عن حب ماء فيه الف رطل وقع فيه أوقية من بول ، هل يصلح شربه أو الوضوء منه؟ قال : لا يصلح».

و (منها) ـ رواية سعيد الأعرج (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الجرة تسع مائة رطل من ماء يقع فيها أوقية من دم ، اشرب منه وأتوضأ؟ قال : لا».

و (منها) ـ رواية حفص بن غياث عن جعفر بن محمد (عليهما‌السلام) (4) قال : «لا يفسد الماء الا ما كانت له نفس سائلة».

و (منها) ـ رواية أبي بصير (5) قال : «دخلت أم معبد (6) العبدية على

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب النجاسات وفي الباب ـ 1 ـ من أبواب الأسآر.

(2) هذه الرواية رواها صاحب الوسائل عن كتاب على بن جعفر في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق وقد ذكرها المجلسي في المجلد الرابع من البحار في الصحيفة 158 في ضمن مسائل على بن جعفر الواردة من غير طريق عبد الله بن جعفر الحميري ، ولم نجدها في كتاب قرب الاسناد.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 و 13 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 35 ـ من أبواب النجاسات وفي الباب ـ 10 ـ من أبواب الأسآر.

(5) هذه الرواية والتي بعدها مروية في الكافي في باب الاضطرار الى الخمر للدواء (منه رحمه‌الله).

(6) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة ، وفي الكافي والوسائل والوافي (أم خالد) وسيأتي منه (قده) ذلك أيضا في نجاسة الخمر.


ابى عبد الله (عليه‌السلام) وانا عنده ، فقالت : جعلت فداك انه يعتريني قراقر في بطني ، الى ان قالت (1) : وقد وصف لي أطباء العراق النبيذ بالسويق وقد وقفت وعرفت كراهتك له ، فأحببت أن أسألك عن ذلك. فقال : وما يمنعك من شربه؟ قالت : قد قلدتك ديني فألقى الله حين ألقاه فأخبره ان جعفر بن محمد أمرني ونهاني فقال : يا أبا محمد ألا تسمع الى هذه المرأة وهذه المسائل؟ لا والله لا آذن لك في قطرة منه ، فلا تذوقي منه قطرة ، الى أن قال : ثم قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ما يبل الميل ينجس حبا من ماء ، يقولها ثلاثا» (2).

و (منها) ـ رواية عمر بن حنظلة (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) ما ترى في قدح من مسكر يصب عليه الماء حتى تذهب عاديته ويذهب سكره؟ فقال :

لا والله ولا قطرة تقطر في حب إلا أهريق ذلك الحب».

و (منها) ـ صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (4) قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ،

__________________

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة ، وفي الكافي والوسائل ليس بين قولها : إنه يعتريني قراقر في بطني. وقولها : وقد وصف لي أطباء العراق. إلخ كلام فاصل. نعم في الوافي بينهما العبارة الآتية : فسألته عن أعلال النساء وقالت.

(2) رواها صاحب الوسائل في الباب 20 من أبواب الأشربة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة ، وروى قوله (عليه‌السلام) : ما يبل الميل. إلخ في الباب ـ 38 ـ من أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 18 ـ من أبواب الأشربة المحرمة من كتاب الأطعمة والأشربة ورواها الكليني في الكافي في باب (ان رسول الله ـ ص ـ حرم كل مسكر قليله وكثيره) من كتاب الأشربة. لا كما ذكره (قده) في التعليقة 5 ص 287.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


هل يصلح الوضوء منه؟ قال : ان لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وان كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه».

و (منها) ـ صحيحة ابن ابي عمير عن بعض أصحابه (1) قال : وما أحسبه إلا حفص بن البختري ، قال : «قيل لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : العجين يعجن من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال : يباع ممن يستحل أكل الميتة». وفي رواية اخرى (2) انه «يدفن ولا يباع». والظاهر ان العجن بالماء إنما وقع قبل العلم بنجاسة الماء حملا لتصرف المسلم على الصحة ، فلا يحمل على كون النجاسة بالتغير ، إذ التغير لا يشتبه حاله.

و (منها) ـ رواية علي بن حديد عن بعض أصحابنا (3) قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليه‌السلام) في طريق مكة فصرنا إلى بئر فاستقى غلام ابي عبد الله (عليه‌السلام) دلوا فخرج فيه فأرتان ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ارقه ، فاستقى آخر فخرجت فيه فأرة ، فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ارقه ، قال : فاستقى الثالث فلم يخرج فيه شي‌ء ، فقال : صبه في الإناء ، فصبه في الإناء».

هذه جملة ما وقفت عليه من الاخبار التي تصلح لان تكون مستندا للقول المشهور. وهي كما ترى على ذلك المطلب واضحة الظهور عارية عن القصور.

وبيان الاستدلال بها ان جملة منها قد دلت على ان ما نقص عن الكر أو الراوية أو نحوهما من تلك المقادير ينفعل بالنجاسة ، ودلالتها بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند

__________________

(1 و 2) رواها صاحب الوسائل في الباب ـ 11 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة. وفي الباب ـ 7 ـ من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 14 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


المحققين ، وعليه دلت جملة من الاخبار كما قدمنا في المقدمة الثالثة (1).

وجملة منها قد تضمنت النهي عن الوضوء والشرب من الإناء بوقوع قطرة من دم فيه أو خمر أو شرب طير على منقاره دم أو قذر. والنهي حقيقة في التحريم عند محققي الأصوليين ، وقد تقدم ما يدل على ذلك من الآيات والاخبار في المقدمة السابعة (2) بل وقع التصريح في بعض هذه الاخبار بالتنجيس.

وجملة منها قد دلت على اهراق ماء الإناء بإدخال اليد القذرة من نجاسة البول أو المني أو غيرهما ، وفي بعضها بعد الأمر بالإهراق الأمر بالتيمم. وما ذاك جميعه إلا للنجاسة.

وجملة منها قد دلت على الأمر بغسل الأواني التي شرب منها نجس العين أو وقع فيها ميتة. ومن الظاهر ان الأمر بالغسل إنما هو للاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة من عبادة أو أكل أو نحوهما. والأمر للوجوب كما عليه المحققون ، وقد تقدم ما يدل على ذلك أيضا في المقدمة السابعة (3) وما ذاك إلا للنجاسة.

وجملة منها قد دلت على النهي عن الغسل بما لاقاه نجس العين معللا في جملة منها بالنجاسة.

وقد أورد على هذه الاستدلالات جملة من المناقشات ، وسيأتي الكلام فيها على وجه يوضح الحال ويقلع مادة الإشكال بتوفيق ذي الجلال.

واما ما استدل به على القول الثاني (فمنها) ـ صحيحة حريز عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (4) انه قال : «كلما غلب الماء على ريح الجيفة فتوضأ من الماء واشرب. وإذا تغير الماء وتغير الطعم فلا توضأ منه ولا تشرب».

__________________

(1) في الصحيفة 57.

(2 و 3) في الصحيفة 112.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


ورواية عبد الله بن سنان (1) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) ـ وانا حاضر ـ عن غدير أتوه وفيه جيفة. فقال : إذا كان الماء قاهرا ولا يوجد فيه الريح فتوضأ».

ورواية سماعة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل يمر بالماء وفيه دابة ميتة قد أنتنت. قال : ان كان النتن الغالب على الماء فلا يتوضأ ولا يشرب».

وحسنة محمد بن ميسر (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، ويريد ان يغتسل منه ، وليس معه إناء يغرف به ، ويداه قذرتان ، قال : يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل. هذا مما قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» (4).

ورواية عثمان بن زياد (5) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أكون في السفر ، فآتي الماء النقيع ويدي قذرة. فأغمسها في الماء؟ قال : لا بأس».

ورواية أبي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (6) انه «سأل عن الماء النقيع تبول فيه الدواب. فقال : ان تغير الماء فلا تتوضأ منه. وان لم تغيره أبوالها فتوضأ منه ، وكذلك الدم إذا سال وأشباهه».

ورواية أبي خالد القماط (7) انه «سمع أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول في الماء يمر به الرجل وهو نقيع فيه الميتة والجيفة. فقال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : ان كان الماء قد تغير ريحه أو طعمه فلا تشرب ولا تتوضأ منه ، وان لم يتغير ريحه وطعمه فاشرب وتوضأ».

__________________

(1 و 2 و 6 و 7) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(4) سورة الحج الآية 78.

(5) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


ورواية العلاء بن الفضيل (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحياض يبال فيها. قال : لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول».

ورواية عبد الله بن مسكان عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الوضوء مما ولغ الكلب فيه والسنور أو شرب منه جمل أو دابة أو غير ذلك ، أيتوضأ أو يغتسل منه؟ قال نعم إلا ان تجد غيره فتنزه عنه».

وروى في الفقيه (3) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) اتى الماء ، فأتاه أهل البادية فقالوا : يا رسول الله ان حياضنا هذه تردها السباع والكلاب والبهائم؟ فقال لهم : لها ما أخذت أفواهها ولكم سائر ذلك».

ورواية أبي بصير (4) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : انا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر يكون الى جانب القرية ، فتكون فيه العذرة ويبول فيه الصبي وتبول فيه الدابة وتروث؟ فقال ان عرض في قلبك منه شي‌ء فقل هكذا ، يعني افرج الماء بيدك. ثم توضأ ، فإن الدين ليس بمضيق.».

وروى العلامة في المختلف (5) عن ابن ابي عقيل انه قال : تواتر عن الصادق (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) ان «الماء طاهر لا ينجسه إلا ما غير لونه

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب الأسآر من كتاب الطهارة.

(3) في باب (المياه وطهرها ونجاستها) ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق. وما ذكره (قده) يوافق رواية الشيخ (قده) في التهذيب لهذا الحديث في الجزء الأول في الصحيفة 117 واما رواية الفقيه فليس فيها ان رسول الله (ص) اتى الماء ، وانما أولها «وأتى أهل البادية رسول الله (ص) فقالوا. إلخ».

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(5) في الصحيفة 2.


أو طعمه أو رائحته. وانه سئل (عليه‌السلام) عن الماء النقيع والغدير وأشباههما فيه الجيف والعذرة وولوغ الكلب وتشرب منه الدواب وتبول فيه ، أيتوضأ منه؟ فقال لسائله : ان كان ما فيه من النجاسة غالبا على الماء فلا تتوضأ منه ، وان كان الماء غالبا على النجاسة فتوضأ واغتسل».

وروى الصفار في كتاب بصائر الدرجات (1) في الصحيح عن شهاب بن عبد ربه قال : «أتيت أبا عبد الله (عليه‌السلام) أسأله ، فابتدأني فقال : ان شئت فسل يا شهاب وان شئت أخبرناك بما جئت له ، فقلت : أخبرني. قال : جئت تسألني عن الغدير يكون في جانبه الجيفة أتوضأ منه أو لا؟ قلت : نعم. قال : توضأ من الجانب الآخر إلا ان يغلب الماء الريح فينتن».

ورواية أبي مريم الأنصاري (2) قال : «كنت مع ابي عبد الله (عليه‌السلام) في حائط له فحضرت الصلاة فنزح دلوا للوضوء من ركي له فخرج عليه قطعة من عذرة يابسة فأكفأ رأسه وتوضأ بالباقي».

هذه جملة ما اطلعت عليه من الأخبار مما يصلح لان يكون مستندا لذلك القول. ووجه الاستدلال بها ان بعضها منها قد دل على جواز الوضوء والشرب من الماء الذي لاقته النجاسة إلا مع غلبة أوصاف النجاسة ، وبعضا منها على جواز وضع اليد القذرة في الماء والوضوء والغسل منه ، ولفظ الماء في تلك الاخبار شامل بإطلاقه للقليل والكثير. بل في حسنة محمد بن ميسر (3) تصريح بالقليل بخصوصه.

وأنت خبير بأنه لو ثبتت المنافاة بين هذه الاخبار لكان الترجيح للأخبار

__________________

(1) في الجزء الخامس باب (ان الأئمة يعرفون الإضمار) ورواه صاحب الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(3) المتقدمة في الصحيفة 291.


المتقدمة ، لاعتضادها بعمل الطائفة المحقة قديما وحديثا ، فإنه لم ينقل الخلاف في هذه المسألة قديما إلا عن ابن ابي عقيل ، فشهرة العمل ـ بمضمون الأخبار الأولة بين قدماء الأصحاب ـ مما يلحقها بالمجمع عليه في الرواية ، الذي هو أحد المرجحات الشرعية كما تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثالثة (1) وبذلك صرح جملة من أصحابنا منهم : السيد المحقق صاحب الغنية (قدس‌سره) وغيره ، وحينئذ فحيث كان معظم الفرقة الناجية ـ سابقا ولاحقا ـ قائلين بالنجاسة ، فهو دليل على ان ذلك مذهب أهل البيت (عليهم‌السلام) فان مذهبهم إنما يعلم بنقل شيعتهم عنهم ، كما ان مذهب أبي حنيفة وأمثاله من المذاهب إنما يعلم بنقل اتباعهم وتلامذتهم ، وحينئذ فما خالف ذلك مما صح وروده عنهم (عليهم‌السلام) يتحتم حمله على التقية (2) وان كانت العامة في المسألة ايضا على قولين ، إلا ان حمل الخبر على التقية لا يتوقف على اتفاق العامة على القول بمضمونه بل ولا على قول البعض كما عرفته في المقدمة الأولى.

على ان الذي نقوله ـ وهو التحقيق الحقيق بالاتباع في المقام وان غفلت عنه أقوام ـ ان جل الأخبار التي استند إليها الخصم لا دلالة لها على ما يدعيه ولا صراحة لها فيما يعيه. بل الظاهر منها ـ عند التأمل الصادق في مضامينها والنظر في قرائن أحوالها ومفاهيمها ـ انها منطبقة مع تلك الأخبار على معنى صحيح المعيار واضح المنار ، وان اختلفت في ذلك الدلالات في بعضها قربا وبعدا بسبب الانس بالقرائن الحالية والمقالية

__________________

(1) في الصحيفة 38.

(2) ويؤيد ذلك ايضا ما صرح به علم الهدى (رضي‌الله‌عنه) في أجوبة المسائل الناصرية ، حيث نسب القول بنجاسة الماء القليل الى مذهب الشيعة الإمامية وجميع الفقهاء ، قال : «وانما خالف في ذلك مالك والأوزاعي وأهل الظاهر» ثم قال : «والحجة في صحة مذهبنا إجماع الشيعة الإمامية ، وفي اجتماعهم عندنا حجة وقد دللنا على ذلك في غير موضع» انتهى (منه قدس‌سره).


وعدمه. ومن ذلك تطرقت إليها الاحتمالات ، ولكن الناظر البصير والناقد الخبير إذا ضم بعضها الى بعض وأمعن النظر في عباراتها وما تفيده بصريحها واشاراتها ظهر له صحة ما ندعيه.

وتوضيح هذه الجملة أن نقول : الذي ظهر لنا ـ بعد إمعان النظر في الأدلة المتوهم منها المخالفة ـ أن جلها إنما ورد في السؤال عن مياه الحياض ومياه الغدران ومياه الطرق ، من حيث عموم الحاجة إليها سيما في الاسفار ، وعموم البلوى بها وإلجاء الضرورة للانتفاع بها ، وانها حيث كانت معرضا لتلك الأشياء المصرح بها في تلك الأخبار من رمي الجيف فيها وشرب الكلاب والسباع منها وبول الدواب والناس فيها ونحو ذلك فمن أجل ذلك كثر السؤال عنها ، وفي بعض تلك الاخبار قد صرح بالماء المسؤول عنه بأنه ماء غدير أو ماء حوض أو نحوهما ، وفي بعض وان لم يصرح إلا انه يعلم من الرواية بالقرائن انه من ذلك القبيل. كصحيحة حريز (1) «كلما غلب الماء على ريح الجيفة.». وصحيحة محمد بن مسلم (2) «سأل عن ماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب. إلخ». فإن ماء يكون معرضا لهذه الأشياء لا يكون إلا في مياه الطرق لكونها مشاعة غير محروزة كما لا يخفى على المتأمل المنصف دون المكابر المتعسف. وسوق تلك الروايات الباقية على ذلك المنوال مؤيد لذلك.

إذا عرفت ذلك فنقول : من الغالب ـ والوجدان يقضي به ايضا ـ ان تلك المياه لا تنفك عن بلوغ الكرور المتعددة فضلا عن كر واحد. وربما كان لهم (عليهم‌السلام) علم ببعض تلك الأماكن المسؤول عنها وانها كذلك. فأجابوا باعتبار التغير وعدمه ، وربما أجابوا عن ذلك ببلوغ الكرية وعدمه. كما في صحيحة محمد

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 290.

(2) المتقدمة في الصحيفة 281.


ابن مسلم (1) حين «سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. فقال : إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». وهذه الرواية مقيدة بتلك الروايات الدالة على اعتبار التغير ، فكأنه قيل : «لم ينجسه شي‌ء إلا التغير» يدل على ذلك صحيحة زرارة (2) قال «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء ـ تفسخ فيه أو لم يتفسخ فيه ـ الا ان يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء».

ويؤيد ما أشرنا إليه ما رواه صفوان الجمال في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع وتلغ فيها الكلاب وتشرب منها الحمير ويغتسل فيها الجنب ، أيتوضأ منها؟ قال : وكم قدر الماء؟ قلت : الى نصف الساق والى الركبة وأقل. قال : توضأ» (3). فانظر إلى سؤاله (عليه‌السلام) عن قدر عمق الماء ، ولم يسأل عن مساحته ، لعلمه بتلك الحياض وما هي عليه من السعة ، فلما عرف (عليه‌السلام) بلوغه الكثرة التي لا ينفعل معها الماء بمجرد الملاقاة أمره بالوضوء.

ويدل على ذلك ايضا جعلهم (عليهم‌السلام) مناط النجاسة والطهارة هو التغير وعدمه في تلك الأحاديث المسؤول فيها عن مثل وقوع الميتة والجيفة وأبوال الدواب ونحوها مما يكون مغيرا للماء وان كثر غالبا ، دون جعله مناطا لهما في مثل قطرة من بول أو دم أو منقار طير فيه دم أو إصبع فيها قذر أو نحو ذلك إذا لاقت تلك المياه القليلة. فإن من الجائز بلوغ الماء في القلة في بعض الأحيان الى ان يكون متغيرا بأحد تلك النجاسات إذا لاقته ، فينبغي ان يجعل ذلك ايضا مناطا في مثل هذه النجاسات اليسيرة

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة. ونص الحديث هكذا : (إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء).

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.

(3) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


إذا لاقت هذا الماء اليسير ولو في حديث واحد ليتمشى لنا حمل الباقي عليه وان كثر وبالجملة فلو كان التغير وعدمه مناطا كليا ومعيارا مطردا لم ينحصر وروده في مثل تلك الأحاديث خاصة دون هذه الأحاديث ، مع كثرتها وتعددها وزيادة عموم البلوى بما تضمنته سفرا وحضرا ، فلما رأينا ـ ان هذه الاخبار الواردة في الماء القليل المحقق القلة ـ كماء التور وماء الركوة ونحوهما ـ كلها منطبقة الدلالة على النجاسة ، للنهي عن استعماله والأمر بإهراقه ، وان التغير وعدمه إنما جعل مناطا في مثل الماء الذي يكون معرضا لنجاسة الجيف وأبوال الدواب ونحوهما مما يغير الماء وان كثر غالبا ، كمياه الغدران والحيضان ونحوهما مما لا ينفك عن كرور فضلا عن كر غالبا ـ علمنا ان جعل التغير مناطا هناك إنما هو من حيث الكثرة المانعة من الانفعال بمجرد الملاقاة الغير القابلة للنجاسة إلا بالتغير ، دون تلك المياه القليلة التي تنفعل بمجرد الملاقاة. فلا يحتاج فيها الى ذلك المناط المذكور لانفعالها بما دونه.

ومما يزيدك تأييدا وبيانا انك بالتأمل في السؤالات الواقعة ـ في تلك الأخبار التي جعل مناطها التغير وعدمه ـ يظهر لك صحة ما قلناه ، حيث ان في بعضها «تبول فيه الدواب» بلفظ الجمع أعم من أن يكون ذلك دفعة أو دفعات ، وفي بعضها «تردها السباع والكلاب والبهائم» ومن المعلوم ان ذلك الورود إنما هو للشرب منها دفعة أو دفعات ، كما يشعر به قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في بعضها (1) : «لها ما أخذت أفواهها» ومن الظاهر البين ان بول الدابة في الماء إنما هو بعد دخولها فيه للشرب أو لغيره ، ورمي الجيف فيه التي هي في الغالب في تلك الطرق أما جيفة حمار أو جمل أو فرس أو غنم أو كلب أو غيره من السباع الكثيرة التردد في تلك الطرق ، ويظهر لك ان ما يكون معرضا لهذه الأشياء لا تنقص مساحته عن كرور عديدة فضلا عن كر ،

__________________

(1) وهي رواية الفقيه المتقدمة في الصحيفة 292.


وما قدر كر من ماء وما قدر مساحته؟ حتى يحتمل انه يقوم بشي‌ء واحد من تلك الأشياء المعدودة.

ويزيد ذلك أيضا تأييدا ان الظاهر ان هذه المياه المسؤول عنها كلها من مياه الطرق الواقعة بين مكة والمدينة ، وبينهما وبين العراقات ونحوهما من الأمكنة التي لا وجود للمياه الجارية فيها غالبا. ومن المنقول انهم كانوا يعمدون تلك الأيام الى بعض الأمكنة فيجعلون فيها حياضا تسقى من آبار هناك ، وامكنة يعدونها لاجتماع السيول فيها. كل ذلك لأجل المسافرين والمترددين في تلك الطرق ، وهي بين الحرمين الى الآن موجودة. وقد أشير إليها في الروايات بالسقايات وماء السبيل. وهذا بحمد الله كله ظاهر لمن تأمل بعين الإنصاف في مضامين تلك الاخبار ، وسيأتيك ما فيه زيادة إيضاح للمقام في الكلام على كلام بعض الاعلام.

نعم يبقى الكلام في حسنة محمد بن ميسر (1) المسؤول فيها عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ، حيث انها صريحة في كون ذلك الماء قليلا ، مع انه (عليه‌السلام) أمره أن يضع يده فيه ويتوضأ ثم يغتسل. وكذا ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من قوله : «خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شي‌ء إلا ما غير لونه. الحديث» (2). وكذا رواية أبي مريم الأنصاري (3).

والجواب (اما عن الأول) (4) فباحتماله لوجوه نبه عليها أصحابنا (رضوان الله عليهم) :

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 291.

(2) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق عن المعتبر والسرائر. وتقدم في التعليقة 2 في الصحيفة 180 ما يفيد في المقام.

(3) المتقدمة في الصحيفة 293.

(4) وهي حسنة محمد بن ميسر المتقدمة في الصحيفة 291.


(الأول) ـ ان يكون المراد بالقليل هو القليل العرفي دون الشرعي.

(أقول) : وهذا الجواب غير بعيد عن جادة الصواب ، وذلك من حيث ان هذا الماء المشار إليه في الرواية لما كان من مياه الطرق ـ وقد أوضحنا سابقا انها تبلغ في الكثرة إلى حد يزيد على الكر أضعافا مضاعفة ـ كان قدر الكر وما زاد عليه يسيرا بالنسبة الى ذلك قليلا.

(الثاني) ـ ان يكون المراد بالقذر في اليد هو الوسخ. وفيه بعد. حيث ان المتبادر في الأخبار من هذا اللفظ هو النجاسة.

(الثالث) ـ ما ذكره شيخنا البهائي (قدس‌سره) من ان المراد بالقليل الشرعي لكن مع الجريان. وفيه ما فيه.

(الرابع) ـ ما احتمله شيخنا المذكور أيضا في كتاب الحبل المتين ، وهو ان يكون الضمير في (يتوضأ) عائدا الى الرجل بتجريده عن وصف الجنابة. وفيه بعد ايضا.

(الخامس) ـ ما يفهم من كلام شيخنا الصدوق (رحمه‌الله) في الفقيه من حمل ذلك على الرخصة دفعا للحرج والمشقة (1). حيث قال (2) : «فان دخل رجل الحمام ولم يكن معه ما يغرف به ويداه قذرتان. ضرب يده في الماء وقال : بسم الله. وهذا مما قال

__________________

(1) أقول : ما ذكره شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) هنا من الحمل لا يخلو من القرب بل ربما كان هو الأظهر ، فإن الاستشهاد بالآية المذكورة يعطي كون ذلك رخصة وتخفيفا ، وهو انما يتم على تقدير القول بنجاسة القليل بالملاقاة ، فيكون هذا الموضع مستثنى من ذلك دفعا للحرج ، والا فلو كان الماء لا ينجس بالملاقاة كما يدعيه الخصم فإنه لا خصوصية لهذا الموضع بدفع الحرج ، فان كل ماء قليل على هذا القول يجوز استعماله ولو مع النجاسة والغسل أو الوضوء به ، فأي وجه لا يراد هذه الآية؟ وأي نكتة فيها؟ كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ، سيما في كلام الإمام الذي هو امام الكلام (منه قدس الله سره).

(2) في باب (المياه وطهرها ونجاستها).


الله عزوجل : «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (1) وكذلك الجنب إذا انتهى الى الماء القليل في الطريق ولم يكن معه إناء يغرف به ويداه قذرتان ، يفعل مثل ذلك» انتهى (2).

(السادس) ـ الحمل على التقية ، لأن ذلك مذهب كثير من العامة كما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) في الاستبصار (3) ، وأيد بعضهم هذا الحمل بذكر الوضوء مع الغسل ولعل هذا الحمل أقرب المحامل المذكورة بعد الحمل الأول.

__________________

(1) سورة الحج. الآية 78.

(2) قال في كتاب الفقه الرضوي : «إن اغتسلت من ماء الحمام ولم يكن معك ما نغرف به ويداك قذرتان ، فاضرب يدك في الماء وقل : بسم الله. هذا مما قال الله تبارك وتعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)» انتهى. وهو مصداق ما قدمنا آنفا من ان كثيرا من عبارات شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) مأخوذ من هذا الكتاب (منه رحمه‌الله).

(3) لم نجد في الاستبصار نسبة القول بعدم انفعال القليل بالملاقاة إلى كثير من العامة ولعله يشير الى ما ذكره الشيخ في الصحيفة 7 من طبع النجف ـ عند حمل خبر عبد الله بن المغيرة المتضمن للتقدير بالقلتين على التقية ـ من انه مذهب كثير من العامة ، وقد تقدم منه (قده) حكاية ذلك عن الشيخ في الصحيفة 250 فتكون نسبته (قده) عدم انفعال القليل بالملاقاة إلى كثير من العامة بمقتضى كلام الشيخ (قده) بلحاظ ان مقدار القلتين أقل من مقدار الكر. وقد تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يوضح انه مذهب كثير من العامة وقد رجح الفخر الرازي في ج 6 من تفسيره ص 346 عند الكلام في قوله تعالى : «وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً» ما حكاه عن مالك والحسن البصري والنخعي وداود ، وحكى ميل الغزالي إليه في الأحياء ، من عدم نجاسة الماء القليل بالملاقاة إلا إذا تغير اعتمادا على هذه الآية ، ثم قال : نقلنا تقديرات مختلفة للفرق بين القليل والكثير ، وليس بعضها اولى من بعض ، فوجب التساقط عند التعارض. وتقدير أبي حنيفة ـ عشر في عشر ـ تحكم وتقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله (ص) : «إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل خبثا». ضعيف ، ثم أخذ في الخدش في السند ، الى ان قال : سلمنا صحة الرواية لكن احالة مجهول على مجهول ، لأن القلة غير معلومة ، فإنها تصلح للكوز والجرة ولكل ما يقال باليد.


وبالجملة فبعد ثبوت الحكم بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة ، وانطباق جملة أخبار المسألة بعضها على بعض على ذلك ، فهذا الخبر لا ينهض بالمعارضة ولا ينوء بالمناقضة.

واما عن الحديث الثاني (1) فإنا لم نعثر عليه مسندا ولا مرسلا في شي‌ء من كتب الأخبار التي عليها المدار ، وقد صرح بذلك أيضا جملة ممن تقدم من مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) بل صرح جملة منهم بكونه عاميا (2) وما هذا حاله فلا يصح الاستناد اليه فضلا عن معارضة الاخبار به. على انا نقول : انه لو ثبت صحته لكان حمله على التقية متعينا ، لما عرفت آنفا (3).

هذا. وممن اختار ـ القول بعدم انفعال القليل بمجرد الملاقاة ـ المحدث الكاشاني ، وقد بالغ في اعلائه وتشييده ، وتكلف جمع الاخبار عليه وتأييده ، وأكثر من الطعن في أدلة القول الآخر ، حتى اغتر به بعض من لم يعض على المسألة بضرس قاطع ممن تأخر ، ولأجل ذلك كتبنا في المسألة المذكورة رسالة تشفي العليل وتبرد الغليل ، موسومة بقاطعة القال والقيل في نجاسة الماء القليل ، قد نقلنا فيها جميع كلامه وما أطال به من نقضه وإبرامه ، واردفناه بما يكشف عنه نقاب إبهامه ويقشع غياهب ظلامه.

ولنذكر هنا جملة أدلته على سبيل الاختصار ، وأجوبته عما يرد عليه من أدلة القول المقابل له في هذا المضمار ، ونبين ما فيه من القصور عن درجة الاعتبار.

(أحدها) ـ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في حديث السكوني عن ابي عبد الله

__________________

سلمنا كونها معلومة لكن متن الخبر مضطرب ، فقد روي قلتين أو ثلاث أو أربعين قلة ، وروى إذا بلغ كوزين. الى آخر ما ذكره في تفنيد الاستدلال بهذا الحديث.

(1) وهو حديث «خلق الله الماء. إلخ» المتقدم في الصحيفة 298.

(2) تقدم في التعليقة 2 في الصحيفة 180 ما يفيد في المقام.

(3) في الصحيفة 294 ولا يخفى انه (قده) لم يحب عن رواية أبي مريم المشار إليها في ص 298.


(عليه‌السلام) : «الماء يطهر ولا يطهر» (1). حيث قال بعد نقله : «إنما لا يطهر لأنه إن غلب على النجاسة حتى استهلكت فيه طهرها ولم ينجس حتى يحتاج الى التطهير ، وان غلبت عليه النجاسة حتى استهلك فيها صار في حكم تلك النجاسة ولم يقبل التطهير إلا بالاستهلاك في الماء الطاهر ، وحينئذ لم يبق منه شي‌ء».

و (ثانيها) ـ الأخبار المتقدمة (2) وعد منها حديث «خلق الله الماء طهورا.» (3). مدعيا استفاضته عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

و (ثالثها) ـ انه لو كان معيار نجاسة الماء وطهارته نقصانه عن الكر وبلوغه اليه. لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه ، مع انه جائز بالاتفاق ، وذلك لان كل جزء من اجزاء الماء الوارد على المحل النجس ، إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة خارجا عن الطهورية في أول آنات اللقاء ، وما لم يلاقه لا يعقل ان يكون مطهرا والفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ـ مع انه مخالف للنصوص ـ لا يجدي. إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي ولزوم تنجسه ، والقدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكر لا يقوى على ان يعصمه بالاتصال عن الانفعال ، فلو كانت الملاقاة مناط التنجيس لزم تنجس القدر الملاقي لا محالة ، فلا يحصل التطهير أصلا. واما ما تكلفه بعضهم ـ من ارتكاب القول بالانفعال هناك من بعد الانفصال عن محل النجاسة ـ فمن أبعد التكلفات. ومن ذا الذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة بعد مفارقته عنها وطهارته حال ملاقاته لها بل طهوريته؟ نعم يمكن لأحد ان يتكلف هناك بالفرق بين ملاقاة الماء لعين النجاسة وبين ملاقاته للمتنجس ، وتخصيص الانفعال بالأول. والتزام وجوب تعدد الغسل في جميع النجاسات كما ورد في بعضها. الا ان هذا محاكمة من غير

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق.

(2) في الصحيفة 290 التي استدل بها للقول بعدم الانفعال بالملاقاة.

(3) تقدم الكلام فيه في التعليقة 2 في الصحيفة 298.


تراضي الخصمين ، فإن القائلين بانفعال القليل لا يقولون به ، والقائلون بعدم الانفعال لا يحتاجون اليه ، وان أمكن الاستدلال عليه بما ورد في إزالة البول من الأمر بغسله مرتين إذا غسل في إجانة كما يأتي.

و (رابعها) ـ ان اشتراط الكر مثار الوسواس ، ولأجله شق الأمر على الناس ، يعرفه من يجربه ويتأمله ، ومما لا شك فيه ان ذلك لو كان شرطا لكان أولى المواضع بتعذر الطهارة مكة والمدينة المشرفتين ، إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة ، ومن أول عصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الى آخر عصر الصحابة لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء من النجاسات ، وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات بل الكفار ، كما هو معلوم لمن تتبع.

و (خامسها) ـ ان ما يدل على المشهور إنما يدل بالمفهوم ، والمفهوم لا يعارض المنطوق (1) ولا الظاهر النص. مع ان أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون الكر بملاقاة شي‌ء ما لا كل نجاسة ، فيحمل على المستولية جمعا ، فيكون المراد لم يستول عليه شي‌ء حتى ينجس اي لم تظهر فيه النجاسة ، فيكون تحديدا للقدر الذي لا يتغير بها في الأغلب.

و (سادسها) ـ حمل تلك الأخبار الدالة على النهي عن الشرب والوضوء مما لاقته النجاسة على التنزه والاستحباب ، حيث قال في كتاب الوافي : «باب ما يستحب التنزه عنه في رفع الحدث والشرب وما لا بأس به» ثم أورد فيه الأخبار التي قدمناها مما دل على النهي عن الوضوء من الأواني التي وقع فيها قطرة من بول أو دم والأواني المأمور بإهراقها لوقوع نحو ذلك فيها.

__________________

(1) قوله هنا ـ : والمفهوم لا يعارض المنطوق. الى آخر العبارة ـ من كلام صاحب المفاتيح فيه ، وباقي ما نقلناه عنه كله من كتاب الوافي لكن على الاختصار والتقديم والتأخير (منه قدس‌سره).


و (سابعها) ـ الاختلاف في تقدير الكر ، قال : «والاختلاف في تقدير الكر يؤيد ما قلناه من انه تخمين ومقايسة بين قدري الماء والنجاسة ، إذ لو كان امرا مضبوطا وحدّا محدودا لم يقع الاختلاف الشديد في تقديره لا مساحة ولا وزنا ، وقد وقع الاختلاف فيهما جميعا».

و (ثامنها) ـ ما ذكره في تأويل الروايات الدالة على اشتراط الكرية. بجملها على انها مناط ومعيار للمقدار الذي لا يتغير من الماء بما يعتاد وروده من النجاسات حيث قال في كتاب الوافي : «باب قدر الماء الذي لا يتغير بما يعتاد وروده من النجاسات» ثم أورد أخبار الكر.

هذا خلاصة ما اعتمد عليه في كتاب الوافي والمفاتيح من الاستدلال. ودفع ما يقابله من الأقوال. وللنظر فيه مجال وأي مجال.

(اما الأول) (1) فلأن ما ذكره في معنى الخبر لا يتحتم الحمل عليه ليكون دليلا يجب المصير إليه ، فإنه من المحتمل قريبا ما صرحنا به في آخر المقالة الأولى (2) من الفصل الأول من ان معنى قوله (عليه‌السلام) : «الماء لا يطهر» انه متى تنجس ولو بالملاقاة فطهره إنما يكون بممازجة الكثير له على وجه يستهلك الماء النجس كما هو أحد القولين في المسألة كما تقدم. وهذا لا يسمى في العرف تطهيرا ، لاضمحلال الماء النجس حينئذ. وعلى هذا ففي الخبر دلالة على اعتبار الممازجة دون مجرد الملاقاة كما هو القول الآخر. ويمكن ايضا الحمل على المعنى الأول الذي قدمنا ذكره ثمة (3).

__________________

(1) المتقدم في الصحيفة 301 السطر 17.

(2) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المخطوطة والمطبوعة ، والصحيح (الثانية) وذلك في الصحيفة 178.

(3) في الصحيفة 178 السطر 2.


و (اما الثاني) (1) فقد عرفت ما فيه مما قدمناه (2) والعجب منه (قدس‌سره) في دعوى استفاضة حديث «خلق الله الماء طهورا.» مع ما عرفت من انه لم يثبت من طرقنا لا مسندا ولا مرسلا ، وكأنه اغتر بكلام صاحب المدارك هنا ، حيث انه صرح باستفاضته أيضا في مقالة تنجس الماء بتغير أحد أوصافه الثلاثة ، حيث قال بعد الحكم المذكور : «والأصل فيه الأخبار المستفيضة كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : خلق الله الماء طهورا. إلخ» إلا ان فيه انه وان وصفه هنا بذلك لكنه ـ بعد ذلك في مقالة نجاسة البئر بالملاقاة ، حيث أنكر ورود نجاسة الماء بالتغير اللوني ـ طعن في الخبر المذكور بأنه عامي مرسل ، كما قدمنا الإشارة إليه عن جملة من الأصحاب (3).

و (اما الثالث) (4) ففيه انه لا منافاة بين تنجسه وحصول التطهير به في حال واحد ، ولا استبعاد في ذلك إذا اقتضته الأدلة الشرعية.

وتحقيق ذلك ان أقصى ما يستفاد من الاخبار هو عدم جواز التطهير بما تنجس قبل ارادة التطهير به لا بما تنجس بسبب التطهير به. وبهذه المقالة صرح جمع من فحول المحققين منهم : المولى الأردبيلي والمحقق الخوانساري وشيخنا صاحب رياض المسائل وحياض الدلائل والفاضل المتأخر الخراساني ، ومنهم : والدي (نور الله مراقدهم وأعلى في الفردوس مقاعدهم) واستبعاد ذلك مدفوع بوجود النظير ، فإنهم صرحوا بوجود طهارة أحجار الاستنجاء وان النجس منها لا يطهر ، مع انها حين الاستعمال تنجس بمجرد ملاقاة النجاسة ، ولا يكون ذلك مانعا من حصول التطهير بها. وايضا خروج الماء المستعمل في الطهارة الكبرى عن الطهورية ـ على تقدير القول به ـ إنما هو بسبب

__________________

(1 و 4) المتقدم في الصحيفة 302.

(2) في الصحيفة 293 السطر 18.

(3) في الصحيفة 180 وقد تقدم في التعليقة 2 من هذه الصحيفة ما يفيد في المقام.


استعماله وملاقاته لبدن الجنب وقت الغسل ، مع ان ذلك لا يمنع من حصول التطهير بهذا المستعمل.

وبالجملة فأقصى ما يستفاد من الدليل ـ بالنسبة إلى اشتراط الطهارة في الماء الذي تزال به النجاسة ـ هو طهارته قبل ملاقاة النجاسة. واما طهارته حال الملاقاة فلا دليل عليه. وعدم الدليل على ذلك دليل على العدم ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ولا حكم الا بعد البرهان كما تمسك به هذا القائل في جملة من المواضع ، وحينئذ فهو حال الملاقاة يفيد التطهير وان تنجس بذلك ، فقوله حينئذ : «إذا لاقاه كان متنجسا بالملاقاة خارجا عن الطهورية» في محل المنع.

ومن أقوى الشبه في المقام ـ كما تمسك به بعض الاعلام بعد وقوعه في شبك الإلزام ـ انه لو وضع شي‌ء نجس في ماء قليل على هذا القول ، فبعد طهارة المحل حال الملاقاة وانتقال النجاسة إلى الماء إما ان ينجس ذلك الشي‌ء بالماء أم لا. لا سبيل الى الثاني لأن الماء قد صار نجسا بملاقاة النجاسة له أولا ، فتتعدى نجاسته الى ذلك الشي‌ء ويعود الاشكال بحذافيره.

والى ذلك أيضا أشار المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) ، حيث انه ممن اختار تخصيص نجاسة القليل بالملاقاة بورود النجاسة دون العكس ، كما هو مذهب المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ، فعنده ان تطهير النجاسة بالقليل مخصوص بورود الماء على النجاسة دون العكس ، فإنه يصير الماء نجسا ولا يطهر به المحل ، ولهذا قال ـ بعد نقل القول بالتطهير بالقليل في صورة ورود النجاسة على الماء مع نجاسة الغسالة ـ ما صورته : «قلت : في هذا القول التزام تنجس الماء بالمحل وتطهير المحل به. والتزامه مشكل. وايضا فيه التزام عدم تنجس المحل بالماء النجس. وهو بعيد غاية البعد» انتهى. وفيه ان ما استبعده من ذلك مردود بأنه بعد قيام الدليل على نجاسة القليل


بالملاقاة ـ مطلقا أو في صورة ورود النجاسة على الماء ـ فلا مجال لهذا الاستبعاد ، إذ الطهارة والنجاسة ونحوهما أحكام تعبدية لا مسرح فيها للاستبعادات العقلية.

(ولو قيل) : مقتضى القاعدة الكلية ـ القائلة بأن كل ماء قليل أو مائع لاقى نجاسة فهو نجس ـ ينافي ما ذكرتم.

(قلنا) : لا عام إلا وقد خص ، فان اللبن في ضرع الميتة طاهر عند جملة من الأصحاب ، وعليه تدل صحاح الأخبار ، وكذا الانفحة من الميتة ، والصيد المجروح لو وجد في ماء قليل ، وما لا يدركه الطرف من الدم عند الشيخ ، وماء الاستنجاء بالإجماع والاخبار ، وغسالة النجاسة عند من قال بطهارتها. ووجود النظير يدفع الاستبعاد.

ويمكن الجواب ايضا باختيار طهارة ماء الغسالة كما هو اختيار جمع منهم : الشهيد في الذكرى ، وهو ظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، حيث ساوى بينه وبين رافع الحدث الأكبر ، وبه صرح المحدث الأمين الأسترآبادي ، وسيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ، وحينئذ يكون الحكم بطهارته مستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة وتطهيره ، كما استثني كذلك ماء الاستنجاء ، وما لا يدركه الطرف من الدم على قول الشيخ. ويمكن الجواب ايضا بالفرق بين وروده على النجاسة وورودها عليه ، كما سيأتي تحقيقه في هذا الفصل (1) ان شاء الله تعالى.

و (اما الرابع) (2) ففيه انه ايضا قد اشترط الكر كما سيأتيك بيانه (3) وان كان الفرق بين الاشتراطين ان الأصحاب جعلوا اشتراطه معيار الطهارة والنجاسة ، وهو قد جعل اشتراطه معيار معرفة التغير بالنجاسات المعتادة وعدمه مع عدم ظهورها

__________________

(1) في المقام الثاني.

(2) المتقدم في الصحيفة 303.

(3) في الجواب عن الوجه الثامن.


حسا ، ثم زاد على كلام الأصحاب باشتراطه المقايسة والنسبة في ذلك المقام ، حيث ألجأته إليها ضرورة الإلزام ، كما سيأتي توضيحه وينكشف صريحه (1).

مع انه قد استفاضت الأخبار عن الأئمة الأبرار بأصالة الطهارة ووجوب العمل على اليقين ، فما لم يعلم ويتيقن وقوع النجاسة في الماء ـ على وجه يظهر أثرها ويقطع بغلبة أجزاء تلك النجاسة على الماء إذا منع من ظهورها مانع ـ لا يحكم بالتغير في ذلك الماء ، فبمجرد الاخبار بولوغ كلب من إناء ـ مع عدم العلم بقدر ماء ذلك الإناء وعدم العلم بكثرة الولوغ وقلته ـ لا يحكم بوقوع التغير في ذلك الماء بلعاب الكلب ، وقس عليه غيره من النجاسات. وهو قد حكم بالتغير في أمثال ذلك كما سيأتيك بيانه (2).

واما قوله : «ومما لا شك فيه ان ذلك لو كان شرطا لكان اولى المواضع. إلخ» فإنه مجرد دعوى عارية عن الدليل ، ومحض استبعاد ليس له محصل عند ذوي التحصيل ، إذ عدم كثرة المياه الجارية والراكدة في تلك الأماكن ـ على القول بنجاسة القليل بالملاقاة ـ لا يستلزم حصول وقائع في الطهارات ، ولا السؤال عن حفظ المياه من النجاسات. ولا أمثالها من هذه التسجيلات ، لانه مع معلومية الحكم عندهم بنجاسة الماء القليل بالملاقاة يتحرزون عن تطرق النجاسة إليه بكل وجه وبعد العلم بحصول النجاسة فيه يجتنبونه ، بل ربما يهريقونه وما الذي يترتب على ذلك من الوقائع المستحقة للنقل؟ ومن الذي اشترط انه لا بد في كل حكم شرعي من واقعة في عصره (صلى‌الله‌عليه‌وآله) تدل عليه؟ حتى يشترط هنا. على انه لو نقلت هناك واقعة تدل على النجاسة لارتكب التأويل فيها كما ارتكبه في تلك الأخبار الصريحة المتعددة ، إذ غاية ما يراد ان يعبر به عن النجاسة أو يكنى به عنها هو التصريح بإراقة الماء الدال على عدم الانتفاع به بوجه. وقد مرت لك أخبار مستفيضة بهذا المضمون قد أخرجها

__________________

(1 و 2) في الجواب عن الوجه الثامن.


عن صريحها وارتكب فيها جادة التأويل ، فلو ورد هنا شي‌ء عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لجعله من ذلك القبيل. وما الإشكال في حفظ المياه حتى يحتاج إلى السؤال عنه؟ وهل تعاطي الصبيان والإماء والذين لا يتحرزون عن النجاسات لاوانيهم يكون موجبا للنجاسة بالملاقاة من غير علم بوصول النجاسة ، واين أصالة الطهارة؟ واين الحنيفية السمحة ودين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) الذي هو أوسع ما بين السماء والأرض؟ ما هذه إلا احتمالات باردة وتعسفات زائدة. ولقد روي انه «دخل أعرابي المسجد فما لبث ان بال في ناحية المسجد ، فكأنهم عجلوا عليه ، فنهاهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ثم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه ، ثم قال : علموا ويسروا ولا تعسروا» (1). وأمثال ذلك ـ مما يدل على سعة الحنيفية السمحة السهلة ـ كثير.

و (اما الخامس) (2) ففيه (أولا) ـ ان الدليل ليس مقصورا على تلك

__________________

(1) هذه القصة قد وردت من طرق العامة كما في البخاري ج 1 ص 45 وسنن النسائي ج 1 ص 63 وصحيح مسلم ج 1 ص 125 وسنن ابى داود ج 1 ص 103 وجامع الترمذي مع شرحه لابن العربي ج 1 ص 243 وسنن ابن ماجة ج 1 ص 189 ومسند احمد ج 2 ص 239 و 282 و 503 وج 3 ص 110 و 114 و 167 و 191 و 226 ومجمع الزوائد لابن حجر ج 1 ص 286. الا ان هذا النص اعنى قوله (ص) : «علموا ويسروا ولا تعسروا» قد ورد في عمدة القارئ شرح البخاري للعيني ج 1 ص 884 ، وفي غيره من كتب الحديث قد ورد هذا المضمون بالتعبير الآتي : «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» وفي بعضها لم يرد هذا المضمون أصلا. وقد ورد فيها التعبير بالدلو والذنوب والسجل وفي بعضها التعبير بالماء من دون ذكر الكمية. والذنوب ـ كما في القاموس ـ بالفتح : الدلو أو التي فيها ماء أو الملأى أو دون الملأى. والسجل ـ كما فيه ايضا ـ : الدلو العظيمة مملوءة مذكر ، ومل‌ء الدلو. هذا. ويأتي منه (قده) التعرض لهذا الحديث في المقام الرابع من المسألة الثالثة من مسائل تطهير الماء وازالة النجاسة به.

(2) المتقدم في الصحيفة 303.


المفهومات ، بل هو منطوق جملة من الأخبار التي قدمناها (1) كالأخبار الدالة على النهي عن استعمال تلك المياه القليلة بعد وقوع شي‌ء فيها. والنهي حقيقة في التحريم كما تقدم تحقيقه (2) والأمر بإراقتها وغسل الأواني منها ، فإنه لا يخفى ـ على الناظر في الاخبار والمعتبر لها حق الاعتبار ـ ان الحكم بالنجاسة في جل المواضع إنما استفيد من المنع من استعمال ذلك الملاقي لها أو الحكم بغسله أو نحو ذلك ، كما صرح به السيد السند في المدارك في الاستدلال على نجاسة البول بعد إيراد الروايات الدالة على الأمر بغسل الثوب منه ، حيث قال : «ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له ، بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها» انتهى. بل ربما ورد التصريح بالنجاسة في بعض الموارد فتأولوه بالحمل على المعنى اللغوي وناقشوا فيه بذلك ، بخلاف ورود الأوامر بالغسل والإراقة والنواهي عن الاستعمال ، فإنها أصرح في الدلالة على ذلك.

و (ثانيا) ـ ان دلالة مفهوم الشرط ـ بعد ما عرفت من دلالة الأخبار عليه كما قدمناها في المقدمة الثالثة (3) ـ مما لا ريب في صحة الاعتماد عليها والاستناد في الأحكام الشرعية إليها. والمناقشة إنما تتطرق إليها مع ظهور فائدة غير مجرد التعليق على الشرط والانتفاء بانتفائه. وههنا ليس كذلك اتفاقا.

و (ثالثا) ـ ان قوله : «فإن أقصى ما يدل عليه هذا المفهوم تنجس ما دون الكر بملاقاة شي‌ء. إلخ» فيه انه قد أجيب عن ذلك بان لفظ (شي‌ء) نكرة وقعت في سياق النفي فيستفاد منها العموم. ومقتضى التقييد بالشرط ان حكم المسكوت مخالف للمذكور ، ويكفي للمخالفة تنجسه ببعض ما لم ينجس به الكر وان لم ينجس ببعض

__________________

(1) للقول المشهور في الصحيفة 281.

(2) في المقدمة السابعة في الصحيفة 112.

(3) في المطلب الثالث في الصحيفة 57.


آخر ، ويضم الى ذلك الإجماع على عدم الفصل في النجاسات الا فيما استثني فيعم حينئذ.

والتحقيق عندي في الجواب ان المقصود بالإفادة بمثل هذا الكلام أمران : (أحدهما) ـ عموم المنطوق و (الثاني) ـ عموم المفهوم. والرواة قد فهموا حكم المفهوم من ذلك كذلك ، ولذلك سكتوا عن الاستفسار ، وإلا فمثل هؤلاء الأجلاء كزرارة ومحمد بن مسلم واضرابهما من فضلاء الرواة ومحققيهم كيف يسكتون ويرضون بفهم بعض المقصود مع توفر حاجة الأمة الى ذلك؟ ولا سيما زرارة الذي من عادته تنقيح الأسئلة والفحص عن جملة فروع المسألة ، ويقنعون باستفادة انه إذا نقص عن كر نجسه شي‌ء ما.

ويرشدك الى ما ذكرنا جوابه (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم الاولى من تلك الروايات المتقدمة (1) لما سأل عن الماء تبول فيه الدواب وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب. قال : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء». فإنه من الظاهر البين ان السائل أراد السؤال عن حال هذا الماء بعد وقوع هذه الأشياء أو أحدها فيه ، وانه هل ينجس بمجرد ملاقاتها أم لا؟ فأجابه (عليه‌السلام) بوجه عام وقاعدة كلية في كل ماء وكل نجاسة وهو التحديد ببلوغ الكرية وعدمه ، وانه لا ينجس مع الأول وينجس مع الثاني. ولو لم يفهم السائل عموم المفهوم من جوابه (عليه‌السلام) بذلك ، وانه إذا نقص عن الكرية ينجس بملاقاة تلك النجاسات المسؤول عن ملاقاتها ، لاستفسر منه البتة ، لأنه أحد طرفي الترديد في جوابه (عليه‌السلام) إذ حاصل جوابه انه «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء ، وإذا لم يبلغ نجسه شي‌ء» فلو لم يفهم السائل عموم لفظ (شي‌ء) الذي في جانب المفهوم على وجه يشمل النجاسات المسؤول عنها وغيرها بقرينة المقام ، ولا سيما السؤال هنا عن وقوع تلك الأشياء المخصوصة ،

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق والنص الوارد (كان) لا (بلغ).


لراجع في السؤال عن تنجسه بتلك الأشياء المخصوصة ، إذ بناء على ما يقولونه من عدم العموم لم يحصل الجواب عن السؤال ، ومع غفلة السائل كيف يرضى الامام (عليه‌السلام) بعدم افادته ذلك مع انه مناط السؤال والبلوى به عام في جميع الأحوال؟

وبالجملة فالمتسارع الى الفهم السليم ـ والمنساق الى الذوق المستقيم من حاق اللفظ في أمثال هذه المقامات ـ هو العموم ، وهو عند التأمل والإنصاف أمر ظاهر معلوم ، وما يتمسك به من ان (شيئا) نكرة في سياق الإثبات فلا يعم ـ مع تسليمه ـ فقد خرجوا عنه في مواضع لاقتضاء المقام العموم فيها ، كما صرحوا به في المعرف بلام التحلية إذا استعمل في المقامات الخطابية. وقد تقدم تحقيقه في المقالة الاولى (1) من الفصل الأول.

و (رابعا) ـ ان ما ذكره ـ من الحمل على المستولية جمعا ـ فيه انه لم يبق على هذا فرق بين الكر وغيره ، لان الكر أيضا انما ينجس بالتغير خاصة ، فأين المخالفة بين المفهوم والمنطوق التي لا خلاف في ثبوتها؟ بل لا بد من الحمل على التنجس بمجرد الملاقاة كما ذكرنا تحقيقا لذلك.

و (اما السادس) (2) ففيه (أولا) ـ ان الواجب حمل النهي عن الاستعمال في تلك الأخبار المذكورة على حقيقته من التحريم ، كما هو المشهور بين محققي علماء الأصول ، والمؤيد بالآيات واخبار آل الرسول ، كما قدمنا لك بيانه وشددنا أركانه (3).

و (ثانيا) ـ ان من جملة تلك الأحاديث التي أوردها في ذلك الباب الأحاديث الدالة على اهراق مياه الأواني عند ملاقاة شي‌ء من القذر لها ، وليس ذلك عند التأمل والإنصاف الا لنجاستها وعدم الانتفاع بها بالمرة ، إذ استحباب التنزه عنه

__________________

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ ، والصحيح (الثانية) ـ وذلك في الصحيفة 172.

(2) المتقدم في الصحيفة 303.

(3) في المقدمة السابعة في الصحيفة 112 ،.


في الطهارة والشرب لا يستلزم الإهراق ، كيف؟ ووجوه الانتفاعات به كثيرة بل ربما تلجئ إليه الضرورة سيما في الاسفار ونحوها ، بل ذلك داخل في الإسراف المنهي عنه كما صرحت به بعض الروايات.

و (ثالثا) ـ ان موثقة سماعة (1) ـ المروية أيضا بطريق آخر موثق عن عمار الساباطي ـ قد دلت على الأمر بالتيمم بعد الأمر بالإهراق. وكيف يسوغ التيمم مع طهارة ذلك الماء وطهوريته؟ ولو قيل : انه يجوز ان يكون الأمر بالإهراق كناية عن عدم الاستعمال لا ان المراد الإهراق بالفعل.

قلنا : مع تسليمه فذلك كاف لنا في الاستدلال ، لان ما يكنى عن المنع عن استعماله بإهراقه ـ بمعنى ان وجوده كعدمه على حال ـ فهو لا شك مقطوع بنجاسته كما أشار إليه في المعتبر ، حيث قال : «وقد يكنى عن النجاسة بالإراقة تفخيما للمنع» و (رابعا) ـ ان الحمل على الاستحباب والتنزيه وان تم له بالنسبة إلى الوضوء.

لما دلت عليه بعض الأخبار من خارج بأن ماء الوضوء ينبغي ان يكون له مزية ما على مياه سائر الاستعمالات ، فلا ينبغي ان يكون بالآجن ولا بالمشمس ولا بما لاقى سؤر المتهم بالنجاسة ، فلا يتم له ذلك في الشرب.

(أما أولا) ـ فلعدم قيام دليل من الخارج على ان ماء الشرب ينبغي ان يكون ذا مزية ، وانه يكره الشرب من بعض المياه لخلوها من المزية حسبما ورد في الوضوء ، ولم يدع أحد ذلك بالكلية ، حتى يتم له هنا حمل المنع عن الشرب على التنزيه والاستحباب.

و (اما ثانيا) ـ فبان من جملة المواضع ـ التي صرحت الأخبار بكراهة الوضوء

__________________

(1) المتقدمة في الصحيفة 282.


من ذلك الماء الخالي من المزية ـ سؤر الحائض ، مع انها صرحت بجواز الشرب منه ، فلو كان ما يدعيه من الخصوصية والمزية مشتركة بين ماء الوضوء وماء الشرب ، لورد النهي عنه أيضا في مقام النهي عن الآخر.

فمن تلك الأخبار رواية عنبسة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «اشرب من سؤر الحائض ولا تتوضأ منه».

ومثلها موثقة الحسين بن ابي العلاء (2) ورواية أبي هلال (3) وغيرهما.

وحينئذ فالحق الحقيق بالاتباع هو ان النهي عن الوضوء والشرب معا في تلك الاخبار ليس إلا لنجاسة الماء.

و (اما السابع) (4) ففيه (أولا) ـ انه اي مسألة من مسائل الفقه واي حكم من أحكام الفروع لم تختلف فيه الاخبار؟ حتى يستبعد اختلافها في هذا المكان بخصوصه ويكون ذلك موجبا لما قاله ومؤيدا لما زعمه.

و (ثانيا) ـ ان الواجب في كل موضع اختلفت فيه الاخبار ـ على وجه لا يمكن إرجاع بعضها الى بعض من هذا الموضع وغيره ـ الرجوع الى الضوابط المقررة والقواعد المعتبرة. ومجرد خروجها عنهم (عليهم‌السلام) مختلفة لا يدل على ما توهمه من التخمين والمقايسة ، وإلا لجرى في غير هذا الموضع ايضا ، وهو لا يلتزمه.

و (ثالثا) ـ انه مع تسليم صحة ما ذكره فالإيراد لا يختص بنا ، بل يرد عليه ايضا ، حيث انه قائل في التحقيق بمضمون تلك الاخبار منطوقا ومفهوما كما تقدمت الإشارة اليه (5) وسيأتي تحقيقه ، لأنا نقول : ان التحديد بالكر معيار لعدم

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الأسآر.

(4) المتقدم في الصحيفة 304.

(5) في الجواب عن الوجه الرابع ويأتي تحقيقه في الجواب عن الوجه الثامن.


الانفعال بالملاقاة لهذا المقدار وانفعال ما دونه. وهو يقول : ان التحديد المذكور معيار للقدر الذي لا يتغير بالنجاسات المعتادة.

ويؤيد ما قلناه ما كتبه بعض تلامذته الناسجين على منواله على حاشية كتاب الوافي على آخر الباب الثالث من أول كتاب الطهارة ، حيث قال : «لما دلت هذه الأبواب الثلاثة على ان الماء ما لم ينفعل لم ينجس ، علم ان النجاسة دائرة مع الانفعال وعدمه. ولكن لما كان الانفعال في بعض الأوقات خفيا ـ لتوافقهما لونا وطعما وريحا ، أو لورود النجاسة على الماء قبل ان يتعفن ، كتفسخ الفأرة في الماء أول مرة لا يوجد لها ريحها أو طعمها أو لونها مع انه اختلطت أجزاء النجاسة باجزاء الماء. أو لورودها عليه قليلا قليلا ، كولوغ الكلب وغيره في الحوض مرة بعد مرة ، فإنه لا يدرك شي‌ء من أثرها مع ان لعاب الكلب اختلط باجزاء الماء ، فتحصل الحيرة والاشتباه ، ـ بينوا (عليهم‌السلام) انه إذا كان الأمر كذلك ، ان كان الماء أقل من كر ينفعل اي يختلط وينجس ، وإذا كان أكثر منه لا ينفعل ولا ينجس ، كما إذا كان الحوض في طريق ونحن نعلم ان الكلاب تشرب منه والنساء والصبيان يباشرونه بنجاستهم العينية ، فلاحظنا ان كان أقل من كر يحترز عنه وان كان أكثر منه نستعمله ، فكل ماء امره كذلك يحتاج إلى مادة تحفظه من الانفعال ، والمادة التي تحفظه اما ستمائة رطل مكي ، أو ذراعان عمقه في ذراع وشبر سعته ، اعني عرضه وطوله ، وهذه الرواية أجود ما ورد في تقدير الكر ، لان غيرها لا يخلو من اضطراب أو طعن في سنده أو متنه» انتهى. فانظر الى ما ذكره من اعتباره الكر في بنائه عليه ، واعتماده على تلك الرواية من بين رواياته لصحتها عنده.

و (اما الثامن) (1) ففيه دلالة على ما قدمنا لك من قوله باعتبار الكر والبناء

__________________

(1) المتقدم في الصحيفة 304.


عليه ، وحمله مفهومات تلك الأخبار ـ الدالة على النجاسة فيما نقص عن ذلك المقدار ـ على انها قد تغيرت بالنجاسة وان لم يظهر ذلك للحس.

وقد مهد في كلامه في أول الكتاب المذكور قاعدة لذلك ، فقال ثمة : «وعلى هذا فنسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء كنسبة مقدار أقل من تلك النجاسة إلى مقدار أقل من ذلك الماء ومقدار أكثر منها الى مقدار أكثر منه ، فكلما غلب الماء على النجاسة فهو مطهر لها بالاستحالة ، وكلما غلبت النجاسة عليه لغلبة أحد أوصافها فهو منفعل عنها خارج عن الطهورية بها» انتهى. وحينئذ فيصير معنى قوله (عليه‌السلام) (1) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». أي لم يغيره شي‌ء من النجاسات المعتادة ، لأن الماء عنده لا ينجس إلا بالتغير. فنجاسته في الحديث بمعنى تغيره بها ، ومفهومه حينئذ انه إذا لم يبلغ كرا غيره شي‌ء من تلك النجاسات المعتادة.

وقال أيضا في الباب الثاني ـ بعد ان أورد في صدره صحيحة صفوان المتضمنة للسؤال عن الحياض التي بين مكة والمدينة ، وقد تقدمت (2) ـ ما صورته : «لما كانت الحياض التي بين الحرمين الشريفين معهودة معروفة في ذلك الزمان ، اقتصر (عليه‌السلام) على السؤال عن مقدار الماء في عمقها ولم يسأل عن الطول والعرض ، وإنما سأل عن ذلك ليعلم نسبة الماء الى تلك النجاسات المذكورة حتى يتبين انفعاله منها وعدمه فان نسبة مقدار من النجاسة إلى مقدار من الماء في التأثير والتغيير كنسبة ضعفه الى ضعفه مثلا ، وعلى هذا القياس. (فان قيل) : تغير أوصاف الماء أمر محسوس لا حاجة فيه الى الاستدلال عليه بنسبة قدره الى قدر النجاسة (قلنا) : ربما يشتبه التغير مع ان الماء قد تتغير أوصافه الثلاثة بغير النجاسة فيحصل الاشتباه. يؤيد ما قلناه ما في النهاية

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق. والنص في كتب الحديث «إذا كان الماء قدر كرم لم ينجسه شي‌ء».

(2) في الصحيفة 296.


الأثيرية (1). قال : وفي حديث الطهارة «إذا كان الماء قلتين لم يحمل خبثا». اي لم يظهره ولم يغلب الخبث عليه من قولهم : فلان يحمل غضبه اي يظهره. وقيل : معنى لم يحمل خبثا انه يدفعه عن نفسه ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه» انتهى كلامه (فان قيل) : القلتان يحمل الخبث إذا كثر الخبث وغلب عليه (قلنا) : أريد به انه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتاد ورودها عليه ، وذلك لان الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيرا مؤثرا أم لا ، فبين انه ان كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسات. وبما ذكرناه يتبين معنى الأخبار الآتية ومفهوماتها» انتهى كلامه (زيد إكرامه) وأشار بالأخبار الآتية إلى الروايات الدالة على التحديد بالكر ، وما تدل عليه بمفهوماتها من النجاسة بمجرد الملاقاة كما ادعاه الأصحاب (رضوان الله عليهم) منها.

وأنت خبير بما في جميع هذا الكلام من التكلف الذي لا يخفى على ذوي الأفهام بل عدم الاستقامة والانتظام.

(أما أولا) ـ فلان (شيئا) الواقع في لفظ تلك الروايات نكرة في سياق النفي ، ولا خلاف في إفادتها العموم ، وتخصيصها بالمعتاد من النجاسات كما ادعاه يحتاج الى دليل معلوم ، وليس فليس. نعم قام الدليل على النجاسة المغيرة فيكون مخصوصا بغيرها لقوله (عليه‌السلام) في صحيح زرارة (2) : «إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجسه شي‌ء إلا ان تجي‌ء له ريح تغلب على ريح الماء».

وما ادعاه ـ من ان نجاسة الماء هو تغيره بالنجاسة. فمعنى لم ينجسه شي‌ء أي لم

__________________

(1) في مادة (حمل).

(2) المروي في الوسائل في الباب ـ 3 ـ من أبواب الماء المطلق. ونصه كما تقدم في الصحيفة 296.


يغيره شي‌ء بالنجاسة ، فالنكرة لا يمكن أخذها على عمومها ، للقطع بالتغير ببعض افراد النجاسات ، فلا بد من التخصيص بالمعتاد حينئذ ـ ففيه ان تلك الدعوى غير مسلمة عند الخصم ، إذ هي أول المسألة. وأيضا فهي غير ظاهرة من اللفظ ، بل الظاهر منه هو ما يدعيه الخصم ، إذ المتبادر من قول القائل : نجس هذا هذا. يعني جعله نجسا أعم من ان يكون بمجرد الملاقاة كسائر المائعات أو بالتغير كما يدعيه هنا ، فلا تقوم تلك الدعوى حجة على الخصم. على ان المتبادر فيما نحن فيه هو المعنى الأول بقرينة صحيح زرارة المذكور ، وقوله فيه : «لم ينجسه شي‌ء إلا ان تجي‌ء له ريح. إلخ» أي لم يجعله نجسا بمجرد الملاقاة إلا ان يتغير في ريحه ، فالتنجيس في الأخبار بمعنى الانفعال بمجرد الملاقاة لا بمعنى التغير بالنجاسة كما تمحله.

و (اما ثانيا) ـ فلان مقتضى ما ذكره ـ من ان الشارع إنما جعل الكر معيارا لما لم يتغير بالنجاسات المعتادة ، كما هو منطوق ذلك اللفظ عنده ، اللازم منه بمقتضى مفهومه ان ما نقص عن الكر يتغير بها ـ انه لو وقعت نجاسة من تلك النجاسات المعتادة في قدر كر من ماء إلا درهما ، فإنه يحكم بتغيره بها وان لم يظهر أثرها فيه ، ولو تمم بدرهم ووقع قدرها من تلك النجاسات بعينها في كر تام ، لم يحكم بتغيره (1) وهو من البعد على حال لا يحتاج الى البيان ، ومن البطلان بمقام يستغني عن اقامة البرهان.

و (اما ثالثا) ـ فلان ما ذكره في بيان صحيحة صفوان (2) ـ من انه (عليه‌السلام)

__________________

(1) ومن هنا يعلم ان الماء في تلك الأخبار التي استند إليها الخصم مراد به الكثير خاصة ، لأنه إذا كان شي‌ء من تلك النجاسات المعتادة تغير ما دون الكر بهذا المقدار اليسير الذي فرضناه فما بالك بمثل الجيف ونحوها؟ وجوابهم (عليهم‌السلام) ـ بالترديد بين التغير وعدمه مع معلومية ذلك عندهم ـ دليل على ان الماء أكثر من كر وان تنزلنا ، لأن الأقل منه معلوم التغير بما هو أدون من تلك النجاسات بمراتب فكيف بهذه النجاسات؟ فلا معنى للترديد بالنسبة إليه ، فتأمل وأنصف (منه قدس‌سره).

(2) المتقدم في الصحيفة 316.


إنما سأل عن عمق الماء ليعلم نسبة الماء الى تلك النجاسات المذكورة ـ إنما هو من قبيل المعميات والألغاز ، كما لا يخفى على من أنصف وجانب التعسفات ، إذ مقتضى المقايسة التي التجأ إليها ـ وعول في المقام عليها ـ هو معلومية كل من الماء والنجاسة ليمكن نسبة كل منهما الى الآخر ، وهب ان الماء هنا بسؤاله (عليه‌السلام) صار معلوما ، فمن اين حصل العلم بالنجاسة الحاصلة من ورود تلك السباع والكلاب وأمثالها على وجه تكون مغيرة للماء مع عدم ظهوره حسا؟ فان ذلك يتفاوت بتفاوت افراد الواردة وافراد ورودها قلة وكثرة فيهما ، وليس ذلك امرا مضبوطا ولا حدا معلوما حتى يصح ابتناء الأحكام الشرعية عليه وجعله قاعدة ممهدة لذلك. والعادة التي ادعاها (طاب ثراه) وعنون بها الباب قصارى معرفتها والاعتماد عليها ـ ان سلمنا ذلك ـ في مثل مياه البيوت ونحوها مما يمكن ملاحظتها واستعلامها. واما في مثل مياه الطرق والصحاري ومنها ما تضمنه الخبر ، فغير ممكن (1) على انا نقول من أين يلزم في كل نجاسة لاقت الماء ان يكون لها عين بحيث ينفصل منها اجزاء تداخل الماء؟ حتى يحصل لذلك قانون كلي وضابط جلي وهو التحديد بالكرية في تلك الاخبار. وعلى تقدير احتمال مداخلة أجزاء النجاسة في الماء مع عدم ظهورها حسا ، فما الدليل على الحكم بالنجاسة بهذه المقايسة والنسبة؟ وكيف يتيسر لنا العلم بذلك؟ اللهم الا ان نعمد الى كل نوع من أنواع النجاسة فنضعه في فرد من افراد المياه بشرط معلومية كل منهما كيلا أو وزنا أو تخمينا ، ونعتبر تغيره وعدمه ، ثم نقيس عليه بعد ذلك ما قل أو كثر. فلينظر المنصف الى ذلك فأي حرج أعظم منه؟ مع ادعائه سابقا لزوم الحرج في اشتراط

__________________

(1) فان من الظاهر ـ كما عرفت ـ ان كون تلك الحياض موردا للسباع والكلاب أعم من ان يكون تلك الكلاب مائة أو عشرة أو أقل أو أكثر تردها كل يوم مرة أو مرارا وليس هناك عدد معلوم ولا عادة معلومة حتى تتيسر المقايسة عليها والنسبة إليها (منه قدس‌سره).


الكرية وانه مثار الوسواس ، وهو بخروجه عنه ـ كما ترى ـ قد وقع في شباك الالتباس ومع هذا فأين أصالة الطهارة التي هي قاعدة كلية في الأخبار وكلام الأصحاب؟ حتى انه بما ذكره من الاحتمال يحتاج الى ما ذكره من الاختبار.

و (اما رابعا) ـ فلان ما ذكره من قوله : «قلنا ربما يشتبه التغير. إلخ» وتأييده ذلك بما نقله عن النهاية الأثيرية ، حاصله ان التغير قد يحصل في الماء واقعا ، لوقوع النجاسة فيه مع عدم ظهورها في جانب كثرة الماء ، وقد لا يحصل بالكلية ، فاعتبار تلك النسبة والمقايسة لأجل استعلام ذلك الحصول الواقعي الغير الظاهر حسا.

وفيه حينئذ (أولا) ـ ان الحكم بأصالة الطهارة ـ كما هو أحد القواعد الكلية المتفق على ثبوتها نصا وفتوى ـ يوجب استصحابها والبقاء عليها حتى تعلم النجاسة ، ومجرد الشك واحتمال التغير واقعا غير كاف في الخروج عن مقتضى الأصل المذكور.

و (ثانيا) ـ ان المعتبر من التغير ـ في تلك الأخبار الدالة على نجاسة الماء بتغير أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ـ هو التغير الحسي كما صرح به جمهور الأصحاب ، ولم ينقل الخلاف في ذلك كما عرفته آنفا (1) إلا عن العلامة ، حيث اعتبر التقدير فيما إذا اتفق الماء والنجاسة في الصفات ، وانما يعتبر التقدير فيما إذا تغير الماء بجسم طاهر من لون النجاسة ، وعلى تقدير وجوب التقدير في هذه المادة اليسيرة النادرة الاتفاق كما لا يخفى ، فهل يوجب ذلك إخراج تلك الأخبار المستفيضة المتواترة عن ظواهرها وحملها على هذا الفرد الشاذ القليل الوقوع ، ويكون التحديد بالكر إنما هو لأجل ما إذا تغير الماء بجسم طاهر موافق للنجاسة المعتادة؟ ما هذا إلا تمحل بارد وخيال كأسد.

و (اما خامسا) ـ فما استند اليه من حديث النهاية ـ وهو قوله : «إذا بلغ

__________________

(1) في الصحيفة 181.


الماء قلتين لم يحمل خبثا» (1). وكون الحمل فيه محتملا لان يكون بمعنى الظهور ، فمعنى عدم حمله الخبث عدم إظهاره له المستلزم لوجوده فيه واقعا ، وان لم يظهر حسا ـ فهو حديث عامي (2) لا يقوم به حجة علينا. نعم هو موافق لمقتضى ما ذهب اليه وعول عليه ، فلذا أطال في الجواب عما عسى يرد عليه بقوله : «فان قيل القلتان. إلخ» واما أخبارنا فالذي فيها انه «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء» (3). ولا مجال في لفظ التنجيس لذلك المعنى الذي ذكره ، بل هو عبارة عن جعل شي‌ء شيئا آخر نجسا بسبب ملاقاته له برطوبة ، كما هو معلوم بالنسبة إلى ملاقاة النجاسة لجميع المائعات ونحوها. نعم قد تستلزم الملاقاة التغير ، كما إذا غلبت أوصاف النجاسة أوصاف الماء ، إلا ان هذا الفرد غير مراد هنا ، كما أشعرت به صحيحة زرارة السالفة (4) الدالة على استثنائه من النجاسة بالملاقاة. ومع الإغماض عن ذلك فالحكم أعم. ولا دليل على التخصيص والتقييد إلا مجرد خيالات لا تعتبر ولا تفيد.

و (اما سادسا) ـ فما ذكره ـ من ان الناس قد يستنجون في المياه التي تكون في الغدران. إلخ ـ فهو مجرد دعوى خالية من الدليل ، وخيال ليس فيه إلا مجرد التسجيل والتطويل ، لان التغير الذي قام الدليل على التنجيس به هو المحسوس ، فان وجد في الماء حكم عليه بالنجاسة ، وإلا فهو على يقين الطهارة وأصالتها ، وسعة الحنيفية وسهولتها.

__________________

(1) أورده في النهاية في مادة (حمل).

(2) تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يفيد في المقام.

(3) روى صاحب الوسائل هذه الاخبار في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق والنص الوارد فيها «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» ..

(4) في الصحيفة 296.


تتمة مهمة

قد ارتبك بعض متأخري المتأخرين ـ وجملة من المعاصرين والتابعين لهذا الفاضل في هذه المقالة ، والمغترين بما ذكره وقاله ـ في الاخبار التي حملها ذلك الفاضل على الاستحباب والتنزيه ، وهي ما أشرنا إليها في الدليل السادس من كلامه (1) حيث ظهر لهم بعد ما ذكره من التأويل ، فلم يجدوا سبيلا الى الاعتماد عليه والتعويل. فبين من حمل النهي في ظاهر تلك الاخبار على حقيقته من التحريم ، لكن زعم ان ذلك لا يستلزم النجاسة. وبين من قصر القول بنجاسة الماء القليل على النجاسات الواردة في هذه الاخبار. وبين من اعترف بدلالتها على النجاسة ، لكن رجع فيها إلى القاعدة التي مهدها الفاضل المذكور فيما قدمنا من كلامه (2) وهي اعتبار المقايسة والنسبة ، فاثبت النجاسة مدعيا حصول التغير الخفي على الحس.

ولا يخفى على الفطن المتمسك بذيل الإنصاف ما في هذه التأويلات من التكلف والاعتساف.

(اما الأول) ففيه ما ذكرنا آنفا (3) في الرد على الوجه الخامس من كلام ذلك الفاضل. على انه لو تم ما ذكره لأمكن التعلق به في جملة من موارد النهي ولو في غير مقام التعارض. ولا أراه يلتزمه.

و (اما الثاني) ففيه (أولا) ـ ان الأحكام المودعة في الاخبار لا يجب ورودها عنهم (عليهم‌السلام) بقواعد كلية وان وردت كذلك في بعض الأحكام ،

__________________

(1) في الصحيفة 303.

(2) في الصحيفة 316.

(3) في الصحيفة 309.


كما نبهنا على شطر منها في المقدمة العاشرة (1) بل أكثر ما ترد في ضمن الجزئيات المتفرقة ، فيحكم بكلية الحكم ، لتوافق افراده الواردة عنهم (عليهم‌السلام) في ذلك وهذا هو الأغلب في الأحكام على طريق القواعد النحوية المبنية على تتبع آحاد كلام العرب.

و (ثانيا) ـ ان هذه الأفراد إنما خرجت مخرج التمثيل في الأخبار ، لا انها قضايا واقعة حتى يجب قصر الحكم عليها.

و (ثالثا) ـ ان جملة منها قد تضمنت التعبير بالقذر ، كما في موثقتي عمار ورواية أبي بصير (2) وفي جملة من الاخبار المتقدمة التعبير بالشي‌ء. وهو دليل على ان المراد جميع النجاسات كما لا يخفى.

و (اما الثالث) ففيه (أولا) ـ ما قدمنا لك بيانه وأوضحنا برهانه (3) ونزيده هنا ونقول : أي ناظر من ذوي العقول ـ وان لم يكن له رؤية في معقول أو منقول ـ يذهب الى ان الطير الذي في منقاره دم أو الدجاجة التي في رجلها العذرة أو الإصبع فيها قذر. إذا لاقى شي‌ء منها كرا إلا درهما بل نصف كر فإنها تغيره وان خفي على الحس ، بان ينفصل من اجزاء تلك النجاسات بمجرد الملاقاة ما يختلط بذلك الماء ويشيع فيه على وجه يكون المستعمل له مستعملا للنجاسة؟ ما هذا إلا سد للشمس بالراح ، وإخفاء لضوء الصباح بالمصباح.

و (ثانيا) ـ ان اخبار نجاسة الماء القليل ليست مقصورة على هذه الاخبار التي زعم تطرق الاحتمال إليها والتأويل ، وان كان لا اعتماد عليه ولا تعويل ، بل فيها

__________________

(1) كذا فيما وقفنا عليه من النسخ المطبوعة والمخطوطة ، والصحيح (الحادية عشرة) وقد تقدمت في الصحيفة 133.

(2) المتقدمات في الصحيفة 282 و 284.

(3) في الصحيفة 317.


ـ بحمد الله ـ ما هو ساطع النور في الظهور ، مثل خبر العبدية (1) الدال على ان ما يبل الميل من الخمر ينجس حبا من ماء ، وخبر عمر بن حنظلة (2) الدال على اهراق الحب لو قطرت فيه قطرة من مسكر. فهل يعقل هنا مجال لاحتمال التغير أو إجراء لما تمحله من المقايسة والتقدير؟ وقد خرجنا الى حد الإسهاب في هذا الباب ، لما رأينا من جملة من الأصحاب في جمودهم على هذه المقالة اغترارا بما ذكره هذا الفاضل من الاستدلال وإطالة.

(المقام الثاني) ـ المشهور ـ بين الأصحاب القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة ـ نجاسته بذلك وردت عليه النجاسة أو ورد عليها.

وذهب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في المسائل الناصرية إلى تخصيص ذلك بورود النجاسة دون العكس ، قال في الكتاب المذكور ـ بعد قول جده الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة وبين ورود النجاسة على الماء ـ ما لفظه : «هذه المسألة لا أعرف فيها لأصحابنا قولا صريحا» ثم نقل عن الشافعي الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه ، واعتبار القلتين في الثاني دون الأول (3) ، وقال بعده : «ويقوى في نفسي عاجلا ـ الى ان يقع التأمل ـ صحة ما ذهب إليه الشافعي. والوجه فيه انا لو حكمنا بنجاسة القليل الوارد على النجاسة ، لأدى ذلك الى ان الثوب لا يطهر من النجاسة إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدل على ان الماء الوارد

__________________

(1) المتقدم في الصحيفة 287.

(2) المتقدم في الصحيفة 288.

(3) نسب الفرق المذكور إلى الشافعي ابن نجيم الحنفي في البحر الرائق ج 1 ص 222 وشيخ‌زاده الحنفي في مجمع الانهر ج 1 ص 63 ، وابن قدامة الحنبلي في المغني ج 1 ص 58 ، ويظهر ذلك من الغزالي الشافعي في الوجيز ج 1 ص 5 ، وابن حجر الشافعي في شرح المنهاج ج 1 ص 38. وقد تقدم في التعليقة 4 في الصحيفة 250 ما يرجع الى القلتين.


على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة كما يعتبر فيما ترد النجاسة عليه» انتهى. ومرجعه الى ان الملاقي للثوب ماء قليل فلو نجس حال الملاقاة لم يطهر الثوب ، لان النجس لا يطهر غيره. وأجاب عن ذلك في المختلف بالمنع من الملازمة ، قال : «فانا نحكم بتطهير الثوب والنجاسة في الماء بعد انفصاله عن المحل» وضعفه السيد السند في المدارك تبعا لجده (قدس‌سرهما) بان ذلك يقتضي انفكاك المعلول عن علته التامة ووجوده بدونها ، وهو معلوم البطلان.

(أقول) : ويرد على ما ذكره السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) : (أولا) ـ ما قدمنا تحقيقه (1) من عدم المنافاة بين حصول الطهارة بالماء القليل ونجاسته بتلك الملاقاة ، إذ غاية ما يستفاد من الدليل المانع من التطهير بالنجس هو ما كان نجسا قبل التطهير لا ما كان نجسا بذلك التطهير كما عرفت ثمة.

و (ثانيا) ـ ان مقتضى ما ذكره نجاسة الماء القليل بورود النجاسة عليه ، وحينئذ فلا يجوز التطهير به ، مع انه قد روى محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول. قال : اغسله في المركن مرتين ، فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة» (2). والمركن ـ على ما نص عليه الجوهري ـ الإجانة التي يغسل فيها الثياب. ومن الظاهر البين ان الغسل فيها لا يكاد يتحقق بدون ورود النجاسة على الماء كما لا يخفى.

ويرد على ما ذكره في المدارك في تضعيفه جواب العلامة ان الظاهر ان مراد العلامة (قدس‌سره) ان دليل نجاسة الماء القليل بالملاقاة يقتضي نجاسة الغسالة مطلقا ، سواء كان قبل الانفصال أو بعده ، بل يقتضي عدم صحة التطهير به ، لكن لما قام الدليل على صحة التطهير به وتوقف طهارة المحل على عدم نجاسة

__________________

(1) في الصحيفة 305.

(2) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 2 ـ من أبواب النجاسات.


الماء ـ بناء على ان النجس لا يطهر غيره ـ اقتصر فيه على موضع الضرورة ومحل الحاجة وهو ما قبل الانفصال لا ما بعده ، فإن الطهارة والنجاسة من الأحكام التعبدية ، فيخص الحكم بالنجاسة حينئذ بما بعد الانفصال اقتصارا على محل الضرورة. وليس ذلك بأبعد مما حكم به شيخنا الشهيد الثاني ـ الذي هو الأصل في الإيراد المذكور ـ من نجاسة البئر ببدن الجنب الخالي من النجاسة لمجرد التعبد ، وان كان الدليل عندنا لا ينهض به ، ولا بأبعد مما حكموا به من طهارة الدلو والرشاء وحافة البئر بعد تمام النزح مع تقاطر ماء النزح على حافة البئر وجوانبها وعود الدلو أخيرا إلى الماء ، وكذلك طهارة آلات الخمر ومزاولة بعد الانقلاب خلا ، بل في الروايات ـ الواردة في تطهير الأواني بصب الماء فيها وإدارته ثم إهراقه ـ ما يعضد ذلك ، فان الماء ـ بصبه في الآنية بمقتضى القول بنجاسة القليل بالملاقاة ـ يجب الحكم بنجاسته ، فتحريكه في الزمان الثاني ليستوعب جوانب الإناء لا يفيد المحل طهارة ، فلا بد ـ للقائل بنجاسة القليل بالملاقاة ونجاسة الغسالة ـ من القول ببقائه على الطهارة حتى ينفصل دفعا للضرورة ، وحينئذ فما أورده ـ من لزوم انفكاك المعلول عن علته التامة ووجوده بدونها ـ يدفع بجواز ان يقال : ان الشارع لم يجعل مجرد ملاقاة النجاسة موجبا للتنجيس مطلقا ، وإلا لما صح التطهير بالماء القليل مطلقا ، لحصول العلة المذكورة ، إلا على القول بعدم انفعال القليل بالملاقاة. وهم لا يقولون به. وحينئذ لا يصير مجرد الملاقاة سببا للنجاسة دفعا للحرج والضرورة ، فيكون ذلك بمنزلة المستثنى من كلية نجاسة القليل بالملاقاة.

ثم لا يخفى ان هذا كله مبني على تلك المقدمة القائلة : ان النجس لا يطهر غيره. وقد عرفت ما فيها (1) (2).

__________________

(1) من انه يجب تخصيص ذلك بما إذا كان نجسا قبل التطهير لا حال التطهير كما تقدم بيانه (منه رحمه‌الله).

(2) في الصحيفة 305.


ثم انه (قدس‌سره) قال في المدارك بعد الكلام المتقدم : «نعم يمكن ان يقال انه لا منافاة بين الحكم بطهارة الثوب المغسول وما يتصل به من البلل ، ونجاسة المنفصل خاصة إذا اقتضته الأدلة. لكن يبقى الكلام في إثبات ذلك» انتهى. والظاهر انه اشارة الى ما ذكرنا. وقال المحدث الأمين (قدس‌سره) في تعليقاته على الكتاب المذكور : «ولعل وجه هذا الاحتمال ان الماء المغسول به لا يحمل النجاسة إلا بنقله لها عن المحل المتنجس ، والنقل إنما يتحقق بالانفصال» انتهى. ولا يخفى بعده (1).

هذا. وظاهر السيد السند (قدس‌سره) في المدارك الميل الى ما ذهب اليه السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) حيث قال ـ بعد الجواب عن أدلة ابن ابي عقيل على عدم انفعال الماء القليل ـ ما صورته : «لكن لا يخفى انه ليس في شي‌ء من تلك الروايات دليل على انفعال القليل بوروده على النجاسة ، بل ولا على انفعاله بكل ما يرد عليه من النجاسات ، ومن ثم ذهب السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في جواب المسائل الناصرية الى عدم نجاسة القليل بوروده على النجاسة. وهو متجه» انتهى. واختار ذلك ايضا المحدث الأمين (طاب ثراه) في تعليقاته على الكتاب المذكور.

وفيه (أولا) ـ انه وان كانت جملة من الاخبار الدالة على نجاسة القليل بالملاقاة قد اشتملت على ورود النجاسة على القليل ، كأخبار الركوة والتور ونحوهما ، إلا ان ذلك لا يقتضي قصر النجاسة عليه دون عكسه ، فان الظاهر ان السبب في الانفعال إنما هو ملاقاة النجاسة كيف اتفق ، وقابلية القليل من حيث القلة والمائعية للانفعال أعم من وروده على النجاسة أو ورودها عليه. والحكم بالنجاسة في تلك الأخبار قد

__________________

(1) فإن الأخبار الدالة على نجاسة القليل لا تخصيص في شي‌ء منها بما ذكره ، بل ظاهر بعضها وصريح بعض هو الانفعال بمجرد الملاقاة. ودعوى ذلك في خصوصية ماء الغسالة تحتاج الى دليل (منه رحمه‌الله).


وقع في جواب الأسئلة المتضمنة لورود النجاسة على الماء. وخصوص السؤال لا يخصص كما تقرر عندهم.

و (ثانيا) ـ ان من فروع هذا القول صحة التطهير بالقليل مع وروده على النجاسة دون العكس فلا يصح التطهير به ، مع ان صحيحة محمد بن مسلم المتقدمة (1) ترده كما عرفت. إلا ان يرتكبوا مخالفة ذلك القائل المذكور هنا.

و (ثالثا) ـ ان جملة من الاخبار ـ الدالة بمفهوم الشرط على النجاسة ـ تدل بإطلاقها على الانفعال بالملاقاة أعم من ورود النجاسة أو عكسه. ومن الظاهر ان جعلهم (عليهم‌السلام) الكر معيارا ومدارا للانفعال وعدمه انه كذلك مطلقا ، والا لوقع التقييد أو الإشارة الى ذلك في بعض تلك الاخبار.

ويمكن ان يقال : ان الأصل في الماء الطهارة بمقتضى القاعدة المنصوصة المتفق عليها ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل قاطع. والمعلوم من الاخبار تحقق الانفعال بورود النجاسة خاصة حملا لمطلق الأخبار على مقيدها. والقول ـ بان خصوص السؤال لا يخصص ـ مدفوع بان مثل خبر العبدية وخبر عمر بن حنظلة وخبر حفص بن غياث المتقدم ذلك كله (2) قد دل على ذلك ابتداء من غير تقدم سؤال.

واما الفرع المذكور فيجاب عنه بما قدمنا تحقيقه (3) من عدم المنافاة بين التطهير بالقليل ونجاسته بذلك التطهير. وحينئذ فيقوى القول بالفرق بين ورود النجاسة وعكسه.

ويمكن تأييده أيضا بأخبار ماء الاستنجاء (4) ، حيث حكم فيها بطهارته ، فإنه يمكن ان يكون ذلك انما هو لورود الماء على النجاسة.

__________________

(1) في الصحيفة 325.

(2) في الصحيفة 287 و 288.

(3) في الصحيفة 305.

(4) المروية في الوسائل في الباب ـ 13 ـ من أبواب الماء المضاف والمستعمل.


إلا انه بعد لا يخلو من شوب الإشكال ، لأن تلك الأخبار المشتملة على الانفعال بورود النجاسة لا صراحة لها بل ولا ظهور في التخصيص بصورة الورود حتى تقيد بها تلك الأخبار المطلقة ، وبدونه يشكل الحكم بالتقييد ، والمسألة لذلك محل تردد.

واما ما ذكره السيد السند (قدس‌سره) ـ من انه ليس في الروايات ما يدل على انفعال القليل بكل ما يرد عليه من النجاسات ، حتى تبعه في هذه المقالة جمع ممن تأخر عنه ـ ففيه انه وان كان جملة من تلك الاخبار قد اشتملت على نجاسات مخصوصة الا ان جملة منها قد اشتملت على ألفاظ تؤذن بالعموم ، كلفظ القذر الوارد في موثقتي عمار ورواية أبي بصير ، ولفظ الشي‌ء في الأخبار الدالة على النجاسة بالمفهوم الشرطي ، وكذا في حسنة شهاب بن عبد ربه ، المتقدم جميع ذلك في أدلة القول بالنجاسة (1) وسيأتي مزيد تحقيق للمقام في مسألة الغسالة ان شاء الله تعالى.

(المقام الثالث) ـ جمهور القائلين بنجاسة القليل بالملاقاة لم يفرقوا في النجاسة الملاقية بين قليلها وكثيرها.

ونقل عن الشيخ (قدس‌سره) في المبسوط القول بعدم نجاسة الماء بما لا يمكن التحرز منه ، مثل رؤوس الابر من الدم وغيره ، فإنه معفو عنه ، لانه لا يمكن التحرز منه.

ونقل عنه في الاستبصار التخصيص بالدم القليل الذي لا يدركه الطرف كرؤوس الابر.

واستدل على ذلك بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن رجل رعف فامتخط فصار ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه ،

__________________

(1) في الصحيفة 281 و 282 و 284.

(2) المروية في الوسائل في الباب ـ 8 ـ من أبواب الماء المطلق من كتاب الطهارة.


هل يصلح الوضوء منه؟ قال : ان لم يكن شي‌ء يستبين في الماء فلا بأس ، وان كان شيئا بينا فلا يتوضأ منه».

وأورد عليه انه ليس في الرواية تصريح بإصابة الدم الماء ، وإنما المتحقق منها اصابة الإناء ، وهو لا يستلزم اصابة الماء ، فيكون باقيا على أصل الطهارة.

وأجيب بأن السائل أجل قدرا من ان يسأل عن مثل ذلك ، بل المراد انما هو السؤال عن الماء. وذكر الإناء إنما هو على حذف مضاف.

وفيه (أولا) ـ ان هذا الاستبعاد إنما نشأ الآن بعد المعرفة بالأحكام وشيوع مثل هذا الحكم بين الأنام ، وإلا فكتاب علي بن جعفر المذكور قد اشتمل على جملة من الأسئلة العارية الآن عن الالتباس. بحيث يعرف أحكامها الآن جهال الناس.

و (ثانيا) ـ ان من المحتمل قريبا ـ بل هو الظاهر من الخبر المذكور ـ انه مع تحقق اصابة الإناء حصل الشك في اصابة الماء أو الظن بذلك ، فحسن السؤال حينئذ عن ذلك. وأجاب (عليه‌السلام) بالبناء على يقين الطهارة إلا ان يعلم ذلك باستبانة الدم في الماء.

نعم لقائل أن يقول : انه من المقرر في كلامهم انه متى اشتمل الكلام على قيد فمورد الإثبات والنفي هو القيد. وحينئذ يكون النفي في قوله : «ان لم يكن شي‌ء يستبين» راجعا إلى الاستبانة التي هي صفة الشي‌ء. والظاهر ان بناء الاستدلال على ذلك.

وأجيب عن ذلك بأنه انما يحسن لو كان في السؤال تصريح بإصابة الدم الماء. وفيه انه متى كان تقدير السؤال هو ان الدم قد أصاب الإناء ولكن أظن أو أشك في إصابته الماء ، فإنه يحسن في الجواب بناء على ذلك التقدير المذكور ان يقال : انه وان أصاب الماء حقيقة فضلا عن ظن ذلك أو الشك فيه إلا ان مجرد اصابة الماء مع عدم ظهوره واستبانته


غير موجب للنجاسة. واما الجواب ـ بكون (يستبين) خبرا لكان وان اسمها (شي‌ء) ـ فظني بعده ، بل الظاهر ان (كان) هنا تامة. ومع تسليمه فهو إنما يتم على تقدير نقل الخبر كذلك كما هو في التهذيب ، واما على ما هو المحكي عن الكافي من ان لفظ الرواية فيه «ان لم يكن شيئا يستبين في الماء» فلا مجال لهذا الجواب. وبذلك تبقى المسألة في قالب الاشكال.

هذا. وبعض محققي متأخري المتأخرين صار الى العمل بالخبر المذكور. استنادا الى ان ما دل على انفعال القليل بالملاقاة لا يدل على العموم ، إذ الروايات الدالة بمنطوقها على ذلك مختصة بموارد مخصوصة ، والدالة بمفهومها لا عموم لمفهومها ، وإنما يتم ذلك بالإجماع على عدم الفصل بين النجاسات ، وهو غير جار في محل الخلاف ، فلا جرم كان ما نحن فيه داخلا في عموم أدلة الطهارة. وفيه ما عرفته في المقام الأول في الجواب عن الوجه الخامس (1) من كلام الفاضل المتقدم ذكره من ثبوت العموم في المفهوم على وجه معلوم غير موهوم.

واعترض بعض محققي متأخري المتأخرين على الشيخ (قدس‌سره) بان مورد الرواية دم الأنف ، فالتعميم لا يخلو من اشكال. وفيه انه لو خصت الأحكام بخصوص الوقائع المخصوصة ومشخصاتها الخارجية ، لم يكد يتفق وجود حكم كلي في أحكام الفقه إلا القليل. والظاهر ان خصوصية الأنف هنا غير ملحوظة ، فيتعدى الحكم إلى سائر أفراد الدم من باب تنقيح المناط القطعي كما تقدم بيانه في المقدمة الثالثة (2) فلا اشكال.

نعم تعميم الشيخ الحكم المذكور في المبسوط للدم وغيره لا يخلو من الاشكال لاختصاص مورد الخبر المذكور بالدم ، وظهور التغاير في الأحكام بين افراد النجاسات

__________________

(1) في الصحيفة 309.

(2) في الصحيفة 56 و 64.


في العفو وعدمه وتعدد الغسل وعدمه ونحو ذلك ، فلا يمكن دخول ذلك في تنقيح المناط القطعي. وصار البعض المتقدم ذكره إلى تقوية ما في المبسوط بناء على ما نقلنا عنه. وفيه ما عرفته. وما ذكره الشيخ (قدس‌سره) من عدم إمكان التحرز ممنوع سواء أريد به ما يدل عليه ظاهر اللفظ أو الكناية عن المشقة.

(المقام الرابع) ـ المفهوم من كلام المحدث الأمين الأسترآبادي (قدس‌سره) في تعليقاته على كتاب المدارك تخصيص القول بنجاسة القليل بالملاقاة بالماء الساكن دون الجاري لا عن نبع ، حيث قال بعد قول السيد (قدس‌سرهما) في الكتاب المذكور : «أطبق علماؤنا إلا ابن ابي عقيل على ان الماء. إلخ» ـ ما صورته : «قلت : الإطباق ثابت في الماء القليل الساكن دون الجاري لا عن نبع كما سيجي‌ء ان شاء الله تعالى» انتهى. وأشار بقوله : «كما سيجي‌ء» الى ما قدمنا نقله عنه في آخر المسألة الثانية من الفصل الثاني (1).

وقد سبقه الى ذلك ايضا المحقق الشيخ حسن (طاب ثراه) في المعالم كما قدمنا نقله في المسألة المذكورة (2) حيث قال ثمة : «إذ الأدلة الدالة على انفعال ما نقص عن الكر بالملاقاة مختصة بالمجتمع والمتقارب. الى آخر ما تقدم» ومبنى ما ذكروه على ان المستفاد ـ من أخبار الكر كمية واشتراطا ـ اعتبار الاجتماع في الماء ، وصدق الوحدة على ذلك الماء إنما هو باعتبار ذلك ، فمورد جعل الكر وعدمه مناطا للعصمة عن الانفعال وعدمها إنما هو المجتمع الساكن دون الجاري المذكور. والمسألة محل اشكال كما قدمنا بيانه في المسألة المشار إليها (3).

(المقام الخامس) ـ صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف

__________________

(1) في الصحيفة 240.

(2) في الصحيفة 239.

(3) في الصحيفة 232.


يعرف بينهم ـ ان مما يطهر القليل النجس إلقاء كر عليه دفعة ، فان كان متغيرا وزال تغيره بذلك وإلا فكر آخر حتى يزول التغير.

وقد وقع الخلاف بينهم في اشتراط الدفعة وعدمه ، واشتراط الامتزاج وعدمه والظاهر ان منشأ ذلك عدم ورود حكم تطهير المياه في النصوص ـ لا بطريق العموم ولا الخصوص ـ سوى ما ورد في ماء الحمام مما لا يحسم مادة الإشكال في المقام. فحينئذ حاول جملة من الأصحاب للحكم بالطهارة هنا وجها يدخل به تحت عموم الاخبار وهو حصول الوحدة بانضمام الماء الطاهر الى الماء النجس ليدخل تحت عموم قوله (عليه‌السلام) (1) : «إذا بلغ الماء كرا لم ينجسه شي‌ء». وقد صرحوا أيضا بأنه كما يطهر بإلقاء الكر يطهر بمطهرات أخر سنشير إليها ان شاء الله تعالى (2).

وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع :

(الأول) ـ قد اختلفت كلمة الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط الامتزاج وعدمه ، واضطربت فتاوى جملة منهم ، فممن صرح بذلك المحقق في المعتبر في مسألة الغديرين ، حيث قال : «الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كل واحد منهما عن الكر إذا كان مجموعها مع الساقية كرا فصاعدا» ثم قال بعد هذا الكلام بلا فصل : «الثالث ـ لو نقص الغدير عن كر فنجس فوصل بغدير فيه كر ففي طهارته تردد. والأشبه بقاؤه على النجاسة ، لأنه ممتاز عن الطاهر» ولا يخفى عليك ما في ظاهر هذا الكلام من التدافع ، الا ان يحمل كلامه الأول على استواء سطحي الغديرين والثاني على اختلافهما كما أشرنا إليه في المسألة الثانية

__________________

(1) المروي في الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق. والنص ـ كما في الوسائل وغيره ـ «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» ..

(2) في الموضع الثامن من المواضع الآتية.


من الفصل الثاني. وقال العلامة في التذكرة : «لو وصل بين الغديرين بساقية اتحدا ان اعتدل الماء والا في حق السافل ، فلو نقص الأعلى عن كر انفعل بالملاقاة ، ولو كان أحدهما نجسا فالأقرب بقاؤه على حكمه مع الاتصال وانتقاله إلى الطهارة مع الممازجة ، لأن النجس لو غلب الطاهر نجسه مع الممازجة فمع التمييز يبقى على حاله» انتهى. وقال الشهيد في الذكرى : «وطهر القليل بمطهر الكثير ممازجا ، فلو وصل بكر مماسة لم يطهر ، للتميز المقتضي لاختصاص كل بحكمه ، ولو كان الملاقاة بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علو الكثير» انتهى.

ولا يخفى عليك ما في عبائر هؤلاء الأفاضل من المناقشة ، فإنه متى كان الاتصال بين الغديرين بساقية مع تساوي السطوح موجبا للاتحاد في صورة عدم النجاسة ، فلم لا يكون موجبا له ايضا بعد تنجس أحدهما حتى انه يشترط الممازجة؟ إذ من الظاهر ان عروض النجاسة وعدمه لا مدخل له في الاتحاد وعدمه ، فان وصف النجاسة لا يخرج الماء عن حقيقة المائية ، والحكم بالاتحاد إنما ابتنى على ذلك ، وإلا فلو تغير الماء بلون طاهر ثم وصل بماء خال من اللون اقتضى ذلك تعدد الماءين ، ولا أظنهم يلتزمونه وحينئذ فإن كان مجرد الاتصال كافيا فينبغي أن يكون في الموضعين وإلا فلا ، والقائلون بالاكتفاء بمجرد الاتصال وحصول الاتحاد به وان أوجبوا المساواة أو علو الكثير بعد عروض النجاسة كما نبه عليه شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الروض ، إلا ان ذلك ليس من حيث عدم الاتحاد بل من حيث انه يشترط في المطهر علوه وامتزاجه ، والا فهو قد صرح بحصول الاتحاد بمجرد المساواة ، واحتمل ايضا فيه الاكتفاء بذلك بناء على حصول الاتحاد به في الصورة المذكورة ، بخلاف كلامهم هنا ، لتصريحهم بامتياز النجس عن الطاهر.

احتج ثاني المحققين وثاني الشهيدين على الاكتفاء بمجرد الاتصال بما يرجع الى وجوه ثلاثة :


(أحدها) ـ الأصل.

و (ثانيها) ـ عدم تحقق الامتزاج. لأنه ان أريد به امتزاج مجموع الاجزاء بالمجموع لم يتحقق الحكم بالطهارة ، لعدم العلم بذلك بل ربما علم عدمه. وان أريد به البعض لم يكن المطهر للبعض الآخر الامتزاج بل مجرد الاتصال. وحينئذ فيلزم اما القول بعدم طهارته ، وهو باطل قطعا ، للإجماع على انه ليس وراء الامتزاج المذكور شرط آخر لطهر الجميع ، أو القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال ، وحينئذ فيلزم القول به مطلقا (1).

و (ثالثها) ـ ان الاجزاء الملاقية للطاهر تطهر بمجرد الاتصال قطعا فتطهر الأجزاء التي تليها ، لاتصالها بالكثير الطاهر. وكذا القول في بقية الاجزاء.

وأورد على الأول بأن التمسك بالأصل هنا لا معنى له بالكلية. فإن يقين النجاسة ـ الموجب لأصالة بقائها حتى يثبت المزيل ـ معارض ومخرج عن ذلك الأصل

و (على الثاني) انا نختار (أولا) ـ امتزاج المجموع بالمجموع. لكن لا بالمعنى الذي ذكره ، بل بمعنى اختلاطهما على وجه يستهلك الماء النجس ولا يظهر له أثر بالكلية. لكن لا يخفى ان عدم ظهور أثر النجس بالكلية كما يحصل بالاستهلاك والاضمحلال في الماء الطاهر ، كذلك قد يكون سببه تشابه الماءين وان لم يحصل ثمة استهلاك. وحينئذ فالقول به مطلقا مشكل إلا بدعوى الإجماع على الطهارة بذلك. وفيه ما لا يخفى. نعم لو كان سطح الماء أوسع من سطح القليل وألقي عليه. فإنه يحصل العلم بالاستهلاك والمداخلة. وسيأتي ما فيه مزيد بيان لذلك ان شاء الله تعالى.

و (ثانيا) ـ نختار امتزاج البعض وان الباقي يطهر حينئذ. قوله ـ : انه متى كان طهر الباقي بمجرد الاتصال يلزم القول به مطلقا ـ ممنوع. ووجه الفرق ظاهر ،

__________________

(1) إذ الفرق بين الأبعاض غير معقول ، فيكون اعتبار الامتزاج على هذا التقدير مستلزما لعدم اعتباره. وهو فاسد قطعا (منه رحمه‌الله).


فان الحكم بالطهارة والنجاسة تابع للدلالة الشرعية ، وليس للعقل فيه مدخل بوجه ، ونحن إنما حكمنا بطهارة الأجزاء الباقية بعد الامتزاج لما ذكرتموه من الإجماع على حصول الطهارة للمجموع بذلك ، وهذا لا يستلزم الحكم بطهارة ما لم يحصل فيه امتزاج أصلا بمجرد الاتصال ، لعدم شمول الدليل المذكور له. ولانه ربما كان للممازجة البعض مدخل في التطهير فلا يتم الاكتفاء بمجرد الاتصال.

و (على الثالث) ـ انه موقوف على وجود دليل على ان الماء يطهر نفسه ، والأدلة العامة الدالة على كونه طهورا (1) غاية ما تدل عليه كونه مطهرا في الجملة. وضم الإجماع في تتمة الاستدلال بها لا يتم في مقام النزاع (2) والخاصة الواردة في جزئيات الأحكام إنما تدل على كونه مطهرا لغيره ، بل ربما دل حديث «انه يطهر ولا يطهر» (3). بظاهره على عدم وقوع التطهير هنا.

والقول الفصل في المقام ان يقال : لما كان الحكم المذكور غير منصوص فالواجب فيه رعاية الاحتياط الذي به يحصل يقين البراءة ، لما عرفت في المقدمة الرابعة (4) من ان الاحتياط في مثل هذا الموضع واجب. وهو لا يحصل إلا بالقول بالامتزاج على وجه يستهلك الماء النجس في جنب الماء الطاهر.

ويؤيد ذلك ما قدمنا (5) من معنى حديث «الماء يطهر ولا يطهر» بحمل كونه لا يقبل التطهير على الممازجة الموجبة لاضمحلاله واستهلاكه.

__________________

(1) المتقدمة في المقالة الثانية في الصحيفة 172.

(2) بأن يقال : ان الأدلة المذكورة دلت على كونه مطهرا في الجملة ، والإجماع قائم على عدم الفصل والفرق بين افراد المتنجس (منه قدس‌سره).

(3) وهو حديث السكوني المروي في الوسائل في الباب ـ 1 ـ من أبواب الماء المطلق.

(4) في الصحيفة 68.

(5) في الصحيفة 177.


ويؤيده أيضا ما حققه المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في كتاب المعالم ، من انه لما دل النص والإجماع على ان وقوع النجاسة في الكثير أو وقوعها عليه لا يمنع من استعماله ولا يؤثر فيه تنجيسا وان كثرت ما لم تتغير بها ، لاستهلاكها فيه واضمحلالها في جنبه ، فيدل بمفهوم الموافقة على ان الماء النجس بهذه المثابة ، فإذا وقع في الماء أو وقع الماء عليه وصار مستهلكا فيه بحيث شاعت اجزاؤه ولم تتميز وجب الحكم بطهارته. نعم فيه ما تقدم من ان العلم بذلك يقينا إنما يحصل فيما لو كان سطح الماء الكثير أوسع من سطح القليل النجس ، أو كان الماء النجس ذا طعم أو لون أو رائحة وانعدمت بوضعه في الماء الكثير.

(الموضع الثاني) ـ انه مع اعتبار الامتزاج وعدم الاكتفاء بمجرد الاتصال. فهل يشترط الدفعة العرفية ، بمعنى وقوع جميع اجزاء الماء الكثير في زمان قصير بحيث يصدق عليه الدفعة عرفا (1) حيث ان اعتبار الدفعة الحقيقية محال ، أم لا يشترط ، بل يكفي وقوعه تدريجا لكن بشرط عدم الانقطاع؟

قد اختلفت عباراتهم أيضا في ذلك ، فممن صرح بالدفعة جمع منهم : المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه وكذا الشهيد ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين. ومنهم من أطلق كالمحقق في المعتبر ، وهو المنقول ايضا عن الشيخ في الخلاف والمبسوط. ومنهم من صرح بالاكتفاء بوقوعه تدريجا كالشهيد في الذكرى

__________________

(1) قال المحقق الشيخ حسن (ره) في كتاب المعالم : «اعلم ان المعتبر في الدفعة ما لا يخرج به الماء عن كونه متساوي السطح ، ومآله الى ان يبقى به صدق الاجتماع والوحدة عرفا ، لما عرفت من ان الموجب لاعتبارها هو التحرز من انفعال بعض اجزاء الماء ، وهو انما يكون بخروجه عن الوحدة المعتبرة» انتهى. ولا يخفى أن إلقاء الماء ـ بحيث لا يخرج عن المساواة ـ متعذر أو متعسر في أكثر الأحيان ، فلعل المراد باشتراط المساواة الاكتفاء هنا بصدق الوحدة العرفية والاجتماع وان اختلفت السطوح في الجملة (منه رحمه‌الله).


واعترضه المحقق الثاني بأن فيه تسامحا ، لان وصول أول جزء منه الى النجس يقتضي نقصانه عن الكر فلا يطهر ، ولورود النص بالدفعة وتصريح الأصحاب بها. ورده السيد السند في المدارك بأنه غير جيد ، فإنه يكتفى في الطهارة ببلوغ المطهر الكر حال الاتصال إذا لم يتغير بعضه بالنجاسة وان نقص بعد ذلك ، مع ان مجرد الاتصال بالماء النجس لا يقتضي النقصان كما هو واضح. وما ادعاه من ورود النص بالدفعة منظور فيه ، فانا لم نقف عليه في كتب الحديث ولا نقله ناقل في كتب الاستدلال. وتصريح الأصحاب بالدفعة ليس حجة ، مع ان العلامة في المنتهى والتحرير اكتفى في تطهير الغدير القليل النجس باتصاله بالغدير البالغ كرا. ومقتضى ذلك الاكتفاء في طهارة القليل باتصال الكر به وان لم يلق كله فضلا عن كونه دفعة انتهى. وفيه ان ما ذكره ـ من انه يكتفى في الطهارة ببلوغ الكر حال الاتصال ـ محل نظر ، لما عرفت آنفا من عدم الدليل على ذلك ، إلا ان يكون ذلك إلزاما للمعترض ، حيث انه من القائلين بالاكتفاء بمجرد الاتصال.

وفصل المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المعالم ، فقال : «والتحقيق في ذلك انه لا يخلو ، اما ان يعتبر في عدم انفعال مقدار الكر استواء سطحه أولا ، وعلى الثاني اما ان يشترط في التطهير حصول الامتزاج أولا ، وعلى تقدير عدم الاشتراط اما أن يكون حصول النجاسة عن مجرد الملاقاة أو مع التغير. فههنا صور أربع :

(الاولى) ـ ان يعتبر في عدم انفعال الكر استواء السطح. والمتجه حينئذ اشتراط الدفعة والإلقاء ، لأن وقوعه تدريجا يقتضي خروجه عن المساواة ، فتنفعل الأجزاء التي يصيبها الماء النجس ، وينقص الطاهر عن الكر فلا يصلح لإفادة الطهارة ولا فرق في ذلك بين المتغير وغيره ، لاشتراك الكل في التأثير في القليل ، والمفروض صيرورة الاجزاء بعدم المساواة في معنى القليل.


(الثانية) ـ ان يهمل اعتبار المساواة ولكن يشترط الامتزاج. والوجه عدم اعتبار الدفعة حينئذ بل ما يحصل به ممازجة الطاهر بالنجس واستهلاكه له ، حتى لو فرض حصول ذلك قبل إتمام إلقاء الكر لم يحتج إلى الباقي. ولا يفرق هنا ايضا بين المتغير وغيره ، لكن يعتبر في المتغير مع الممازجة زوال تغيره ، فيجب ان يلقى عليه من مقدار الكر ما يحصل به الأمران ، ولو قدر قوة المتغير بحيث يلزم منه تغير شي‌ء من اجزاء الكر حال وقوعها عليه ، وجب مراعاة ما يؤمن معه ذلك اما بتكثير الاجزاء أو بإلقاء الجميع دفعة.

(الثالثة) ـ ان لا يشترط الممازجة ولا يعتبر المساواة وتكون نجاسة الماء بمجرد الملاقاة. والمتجه حينئذ الاكتفاء بمجرد الاتصال ، فإذا حصل بأقل مسماه كفى ولم يحتج إلى الزيادة عنه.

(الرابعة) ـ الصورة بحالها ولكن كان الماء متغيرا. والمعتبر حينئذ اندفاع التغير كما في صورة اشتراط الامتزاج ، وحينئذ لو فرض تأثير التغير في بعض الاجزاء تتعين الدفعة أو ما جرى مجراها كما ذكر. وحيث قد تقدم منا الميل الى اعتبار المساواة فاعتبار الدفعة متعين» انتهى كلامه (زيد مقامه).

ويرد على ما ذكره في الصورة الاولى انه قد صرح سابقا بان الذاهبين الى اعتبار المساواة مصرحون بعدم انفعال القليل المتصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى ، كما قدمنا لك عبائر جملة منهم في المسألة الثانية من الفصل الثاني (1) وقال (قدس‌سره) هناك بعد البحث في ذلك : «وقد تحرر من هذا ان عدم انفعال الواقف بالملاقاة مشروط ببلوغ مقدار الكر مع تساوي السطوح ، أو باتصاله بمادة هي كر فصاعدا ، ولا يعتبر استواء السطوح في المادة بالنظر الى عدم انفعال ما تحتها. إلخ» ومفهوم هذا الكلام

__________________

(1) في الصحيفة 228.


ان الشرط في عدم انفعال الكثير الواقف اما تساوي سطوحه أو كون الأعلى منه كرا فصاعدا ، لعدم تقوي الأعلى بالأسفل عندهم ، وحينئذ فالوحدة والاجتماع اللذان هما مدار العصمة عن الانفعال حاصلان على تقدير التساوي والاختلاف على الوجه المذكور ، فلا يتجه اعتبار الدفعة بل يجزي الوقوع تدريجا ، ويرجع الى ما ذكره في الصورة الثانية وبذلك يظهر لك ما في آخر كلامه من قوله : «وحيث قد تقدم منا الميل. إلخ» فإنه قد تقدم منه كما حكينا عنه (1) الميل الى اعتبار المساواة أو علو الكثير لا اعتبار المساواة خاصة كما يوهمه كلامه هنا.

ويرد على ما ذكره في الصورة الثانية انه مع إهمال اعتبار المساواة وان اشترط الامتزاج ، فالاكتفاء بامتزاج البعض ممنوع. لما عرفت آنفا (2) من عدم النص في تطهير المياه ، والأصل بقاء النجاسة. وغاية ما يمكن التشبث به في هذا الباب الإجماع. وهو إنما يثبت بالإلقاء دفعة على وجه يستلزم دخول جميع الاجزاء بعضها في بعض. وبالجملة فإن وجوب الدفعة كما يترتب على اعتبار المساواة كذلك يترتب على اشتراط الامتزاج ، إذ امتزاج البعض وان أوجب استهلاك النجس ، إلا انه لا دليل على حصول التطهير به. وأيضا فإن القائلين باعتبار الممازجة لم يظهر منهم التصريح بالاكتفاء بممازجة البعض ، بل ربما ظهر من كلامهم اعتبار ورود جميع الكر عليه ، وبذلك يظهر لك ما في تتمة كلامه في الصورة المذكورة.

ويرد على ما ذكره في الصورة الثالثة ان ما ذكر فيها ـ من عدم اشتراط الممازجة وعدم اعتبار المساواة ـ أعم من الاكتفاء بالاتصال مطلقا أو حصول الممازجة في بعض. وعدم اشتراط الدفعة هنا إنما يتم على الأول دون الثاني ، لما عرفت آنفا (3).

__________________

(1) في الصحيفة 239.

(2 و 3) في الصحيفة 333.


وبالجملة فطريق الاحتياط اعتبار الدفعة على الوجه الذي ذكرنا سابقا في الممازجة والله اعلم.

(الموضع الثالث) ـ ينبغي أن يعلم انه على جميع التقادير من القول بالدفعة والممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال ، لو كان الماء متغيرا بالنجاسة فالواجب أن يزال التغير أولا ، إلا أن يحصل زواله بالإلقاء دفعة بحيث لا يتغير شي‌ء من ماء الكر ، أو يزاد في مقدار الماء المطهر على وجه يسلم مقدار الكر عن التغير. وعبائر جملة من الأصحاب وان دلت بإطلاقها في صورة التغير على انه يجب إلقاء كر يزيل تغيره وان تغير بعض الكر في ابتداء الوصول ، إلا ان الظاهر انه ليس بمراد لهم.

(الموضع الرابع) ـ انه قد ذكر جملة من الأصحاب انه متى كان الماء القليل متغيرا فطهره بإلقاء كر عليه ، فان زال به التغير والا فكر آخر وهكذا ، وقيده جملة من المتأخرين بأن إلقاء الكر الآخر ـ مع عدم زوال التغير بالكر السابق ـ إنما هو على تقدير ان لا يتميز كر طاهر غير متغير عن الماء المتغير ، والا فيكفي حينئذ في تطهير النجس المتصل به التموج حتى يزول التغير كما تقدم في تغير بعض الكثير. ولا يخفى ما فيه على إطلاقه من الإشكال ، لأنه متى فرض ان القليل قد تغير بعضه ، وانه بإلقاء الكر عليه دفعة فالقدر الذي وقع على ذلك البعض المتغير قد تغير ايضا ، والواقع على غير المتغير حينئذ أقل من كر ، فإنه يلزم ان ينجس الواقع على غير المتغير في أول آن الملاقاة بوقوعه على النجس وان بلغ معه بعد الوقوع كرا. واعتبار الدفعة الواحدة الموجبة لاتحاد الماءين مقيدة بعدم تغير شي‌ء من الكر الملقى كما عرفت آنفا. نعم لو قلنا بالاكتفاء بمجرد الاتصال أو الامتزاج في الجملة ، وكان وقوع الكر المذكور في غير الناحية التي فيها التغير ، اتجه ان يكون ما وقع عليه الكر أو اتصل به طاهرا البتة ، وتختص النجاسة بالمتغير ، فيصير من قبيل مسألة الكثير المتغير بعضه. ولعل


الى ذلك لحظ السيد السند في المدارك ، حيث انه قيد وجوب إلقاء الكر مرة أخرى بتغير الكر الأول أو بعضه بالنجاسة ، وخص الطهارة بالتموج والامتزاج بما إذا بقي الكر الملقى على حاله ، ولم يكتف بحصول كر في الجملة ولو من الماء السابق واللاحق ، كما يعطيه ظاهر الكلام الذي نقلناه (1).

(الموضع الخامس) ـ انه على القول بالاكتفاء بمجرد الاتصال ـ كما هو أحد القولين المتقدمين ـ هل يكفي الاتصال كيف كان أم لا بد من المساواة أو علو المطهر؟

قد عرفت مما تقدم في الفصل الثاني (2) وقوع الخلاف في اشتراط المساواة والاختلاف في مقدار الكر ، وان جملة من الأصحاب ـ كشيخنا الشهيد الثاني وغيره ـ قائلون بعدم انفعاله وان اختلفت سطوحه كيف كان ، وان جملة منهم ـ كالشهيد والشيخ علي والعلامة في أحد قوليه ـ يقيدون ذلك بالمساواة أو علو الكثير. هذا قبل عروض النجاسة. اما لو عرضت للقيل ثم وصل بالكثير ، فظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ الذي هو أحد القائلين بالاتحاد مع اختلاف السطوح في الشق الأول ـ عدم القول بالاتحاد هنا. بل يشترط المساواة أو علو الكثير ، وحينئذ فظاهرهم الاتفاق هنا على علو المطهر أو مساواته.

(الموضع السادس) ـ لو كان الماء القليل النجس في كوز ونحوه ، توقف طهره على دخول المطهر اليه وممازجته له على القول بالممازجة. ولو كان الإناء مملوء فالظاهر عدم طهارته ، لعدم إمكان التداخل. إلا ان يكون للمطهر قوة وانصباب بحيث يدافع ما في الكوز. ومما يعلم به عدم الممازجة بقاء ماء الكوز على وصفه المباين ان كان كذلك ، كعذوبته مع ملوحة المطهر ، وحرارته مع برودة المطهر ، أو بالعكس فيهما ، ويكفي مجرد اتصال المطهر به على القول الآخر على الوجه المذكور.

__________________

(1) في الصحيفة 338.

(2) في المسألة الثانية في الصحيفة 228.


(الموضع السابع) ـ لو فرق ماء الكر في ظروف عديدة وألقي ماء كل منها على حياله على الماء النجس مع اتصال الانصباب الى الفراغ ، فالظاهر انه لا يفيد طهارة.

(أما أولا) ـ فلأن المفهوم من الأخبار وكلام الأصحاب اختصاص اسم الكر بالماء المجتمع ، بل قد عرفت آنفا (1) من كلام المحققين الشيخ حسن في المعالم والمحدث الأمين (قدس‌سرهما) المناقشة في ثبوت صدق الكرية مع اختلاف السطوح ، لكون المفهوم عندهما من الأخبار اعتبار تساوي اجزاء الماء في صدق الكر عليه ، فكيف مع تفرقة في ظروف عديدة؟

و (اما ثانيا) ـ فلأن الدفعة العرفية ـ التي هي عبارة عن الوقوع في أقرب زمان ـ انما تحصل مع الاجتماع لا مع التفرق.

و (اما ثالثا) ـ فلأن الشارع قد جعل الكر معيارا لعدم الانفعال بالملاقاة ، ولا ريب ان هذا الماء بتفريقه قابل للانفعال ، لقلة كل ظرف منه. فلا تصدق عليه الكرية ، ومتى لم تصدق عليه لم يحصل به التطهير.

و (اما رابعا) ـ فلأنه بوصول أول كل ماء من مياه تلك الظروف الى الماء النجس ، يجب الحكم بنجاسته ، لكونه ماء قليلا لاقى نجاسة ، فلو اجتمعت منه كرور ـ والحال هذه ـ كان حكمها كذلك. والعجب من جمع ممن رأيناهم ـ من فضلاء بلادنا البحرين ـ انهم يحكمون بالتطهير بذلك بل يفعلونه. وقد حضرت ذلك غير مرة وكنت يومئذ قبل ابان الخوض في تحقيق هذه المسائل والبحث عن هذه الدلائل. ولم أعلم ما الوجه فيه عندهم.

(الموضع الثامن) ـ انه كما ان من الطرق لتطهير القليل ما ذكرنا من ورود الكر عليه أو اتصاله به على التفصيل المتقدم ، كذلك :

__________________

(1) في المسألة الثانية في الصحيفة 228.


(منها) ـ وقوعه في الكر ايضا. وحينئذ فإن كان القليل متغيرا اشترط في طهره امتزاجه بما وقع عليه ليرفع التغير ، فان ارتفع بذلك وإلا جرى فيه ما ذكرنا في الموضع الرابع. وان لم يكن متغيرا بني على الخلاف في اعتبار الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال على الوجه المتقدم من اعتبار المساواة أو علو المطهر.

و (منها) ـ وقوع ماء المطر عليه ، وقد تقدم الكلام فيه في الفرع الأول من فروع المقالة التاسعة من الفصل الأول (1).

و (منها) ـ اتصاله بالنابع لكن مع علو النابع أو مساواته. وفي حكمه الجاري عن مادة كثيرة. والكلام في اشتراط الممازجة أو الاكتفاء بمجرد الاتصال على ما تقدم (2) ويبنى الكلام أيضا في النابع على الخلاف في اشتراط الكرية وعدمه كما تقدم (3).

(الموضع التاسع) ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تطهير القليل النجس بإتمامه كرا.

فالمنقول عن الشيخ في الخلاف وابن الجنيد ـ واليه ذهب أكثر المتأخرين ـ القول بالبقاء على النجاسة.

ونقل عن المرتضى في المسائل الرسية القول بالطهارة. واقتفاه في ذلك ابن إدريس ، ويحيى بن سعيد صاحب الجامع وابن حمزة والمحقق الشيخ علي. وهم بين مصرح بعدم الفرق بين إتمامه بطاهر أو نجس ، وبين مقيد له بالطاهر ، وبين

__________________

(1) في الصحيفة 220.

(2) في الصحيفة 333.

(3) في الصحيفة 187.


مطلق يتناول بظاهره الأمرين (1).

احتج الأولون بأنه ماء محكوم بنجاسته شرعا ، فتوقف الحكم بارتفاعها على الدليل. وليس فليس ، لما سيظهر بعد إبطال أدلة الخصم.

(لا يقال) : ان هذا تمسك بالاستصحاب ، وأنتم قد نفيتم التمسك به آنفا (2).

(لأنا نقول) : ان الاستصحاب في مثل هذه الصورة ليس من القسم المتنازع فيه ، بل من قبيل ما يدخل تحت عموم الدليل أو إطلاقه ، لأن ما دل على نجاسة القليل بالملاقاة لا تقييد فيه بوقت دون آخر ولا بحالة دون اخرى ، ولان من جملة أدلة نجاسة الماء القليل الأخبار الدالة على النهي عن الوضوء والشرب منه متى لاقته نجاسة ، والنهي عندهم للتكرار والدوام ، ولأن الأخبار ـ الدالة على عدم الخروج عن يقين الطهارة أو النجاسة إلا بيقين مثله ـ شاملة لمحل النزاع.

وما ذكره بعض فضلاء متأخري المتأخرين ـ من منع هذه الأدلة هنا من غير ان يبين وجهه بتفصيل ولا إجمال ـ لا اعرف له وجها إلا مجرد حب المناقشة في أمثال هذا المجال.

احتج المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ـ على ما نقل عنه ـ بوجهين :

(أحدهما) ـ ان بلوغ قدر الكر موجب لاستهلاكه للنجاسة ، فيستوي وقوعها قبل البلوغ وبعده.

و (ثانيهما) ـ ان الإجماع واقع على طهارة الماء الكثير إذا وجدت فيه نجاسة ولم يعلم هل كان وقوعها قبل بلوغ الكرية أو بعده؟ وما ذاك إلا لتساوي الحالين ،

__________________

(1) ممن صرح بالأول ابن إدريس على ما نقل عنه ، وممن صرح بالثاني ابن حمزة على ما نقل عنه ، والباقون أطلقوا (منه رحمه‌الله).

(2) في المطلب الثاني في الصحيفة 51.


إذ لو اختص الحكم ببعدية الوقوع لم يكن للحكم بالطهارة وجه ، لانه كما يحتمل تأخره عن البلوغ يحتمل تقدمه عليه.

واحتج ابن إدريس بالإجماع ، وبقوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا» (1).

وهو عام. وزعم ان هذه الرواية مجمع عليها عند المخالف والمؤالف وبالعمومات الدالة على طهارة الماء وجواز استعماله كقوله سبحانه : «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ...» (2) وقوله : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (3)

وقوله (عليه‌السلام) لأبي ذر : «إذا وجدت الماء فأمسه جسدك» (4).

وقوله (عليه‌السلام) : «اما انا فلا أزيد على ان احثو على رأسي ثلاث حثيات. فإذا انى قد طهرت» (5).

__________________

(1) تقدم الكلام في هذا الحديث في التعليقة 1 في الصحيفة 246.

(2) سورة الأنفال. الآية 12.

(3) سورة المائدة. الآية 10.

(4) هذا من حديث رواه أحمد في مسنده ج 5 ص 146 ، وأبو داود في السنن ج 1 ص 91 ، وروى الترمذي في جامعه ج 1 ص 193 القطعة الأخيرة منه المتعلقة بالتيمم والغسل. وروى ابن العربي في شرحه على جامع الترمذي الحديث بتمامه. ورواه أيضا البيهقي في السنن ج 1 ص 179. والحديث 12 من الباب ـ 14 ـ من أبواب الجنابة من الوسائل يوافق ما رواه هؤلاء إلا انه خال من الذيل المذكور.

(5) هذا الحديث رواه الشوكانى في نيل الأوطار عن احمد ج 1 ص 215 هكذا. «اما انا فاحثى على رأسي ثلاث حثيات ثم أفيض فإذا انا قد طهرت». ثم قال : وقال الحافظ قوله : «فإذا انا قد طهرت» لا أصل له من حديث صحيح ولا ضعيف. ولكنه وقع من حديث أم سلمة ، قال لها : «انما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك فإذا أنت قد طهرت». وأصله في صحيح مسلم. انتهى ما في نيل الأوطار. وروى البخاري في صحيحة ج 1 (باب من أفاض على رأسه ثلاثا) قوله (ص) : «اما انا فأفيض على رأسي ثلاثا». وأشار بيديه كلتيهما. وهكذا رواه مسلم في صحيحة ج 1 ص 136 والنسائي في السنن ج 1 ص 49. وابن ماجة في السنن ج 1 ص 203.


وأجيب عن ذلك ، اما عن أول دليلي المرتضى (رضي‌الله‌عنه) فبأنه محض قياس لا يعمل به ، إذ استهلاك النجاسة الذي دل النص عليه إنما هو بعد البلوغ ، فالحلق استهلاك النجاسة الواقعة قبل البلوغ بذلك قياس محض. على ان الفارق موجود ، وهو ان الماء بعد البلوغ له قوة في قهر النجاسة إذا وردت عليه بخلافه قبل ، لانقهاره بالنجاسة فلا يصير قاهرا لها.

واما عن ثانيهما فبأن الحكم بالطهارة في صورة دعوى الإجماع إنما هو بناء على أصالة الطهارة حتى تعلم النجاسة. والنجاسة هنا غير معلومة ، لاحتمال تأخرها عن البلوغ ، إذ عدم العلم بتقدم الوقوع وتأخره يقتضي الشك في التقدم الذي هو سبب النجاسة ، فلا جرم تكون النجاسة مشكوكا فيها.

واما عن أدلة ابن إدريس فبما ذكره المحقق في المعتبر ، حيث قال ـ ونعم ما قال ـ وتنازعني نفسي إلا ان أذكره بتمامه ، فإنه جيد رشيق ، وبالإثبات ـ وان طال به زمام الكلام ـ حقيق واي حقيق ، قال (قدس‌سره) بعد نقل الأدلة المذكورة : «فالجواب دفع الخبر ، فانا لم نروه مسندا ، والذي رواه مرسلا المرتضى (رضي‌الله‌عنه) والشيخ أبو جعفر (رحمه‌الله) وآحاد ممن جاء بعده. والخبر المرسل لا يعمل به. وكتب الحديث عن الأئمة (عليهم‌السلام) خالية منه أصلا. واما المخالفون فلم اعرف به عاملا سوى ما يحكى عن ابن حي ، وهو زيدي منقطع المذهب وما رأيت أعجب ممن يدعي إجماع المخالف والمؤالف فيما لا يوجد إلا نادرا ، فاذن الرواية ساقطة. واما أصحابنا فرووا عن الأئمة (عليهم‌السلام) «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (1). وهذا صريح في ان بلوغه كرا هو المانع لتأثره بالنجاسة. ولا

__________________

وأبو داود في السنن ج 1 ص 62 ، وابن حجر في مجمع الزوائد ج 1 ص 271 ، ورواه ايضا ابن ماجة في السنن ج 1 ص 203 هكذا «اما انا فاحثو على رأسي ثلاثا».

(1) رواه صاحب الوسائل في الباب ـ 9 ـ من أبواب الماء المطلق.


يلزم من كونه لا ينجسه شي‌ء بعد البلوغ رفع ما كان ثابتا فيه ومنجسا قبله. والشيخ (رحمه‌الله) قال بقولهم (عليهم‌السلام) ونحن قد طالعنا كتب الأخبار المنسوبة إليهم فلم نر هذا اللفظ ، وانما رأينا ما ذكرناه ، وهو قول الصادق (عليه‌السلام) : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» (1). ولعل غلط من غلط في هذه المسألة لتوهمه ان معنى اللفظين واحد. واما الآيات والخبر البواقي فالاستدلال بها ضعيف لا يفتقر الى جواب ، لأننا لا ننازع في استعمال الطاهر المطلق ، بل بحثنا في هذا النجس إذا بلغ كرا يطهر ، فان ثبتت طهارته تناولته الأحاديث الآمرة بالاغتسال وغيره. وان لم تثبت طهارته فالإجماع على المنع منه ، فلا تعلق له اذن فيما ذكره. وهل يستجيز محصل ان يقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «احثوا على رأسي ثلاث حثيات مما يجتمع من غسالة البول والدم وميلغة الكلب» واحتج ايضا لذلك بالإجماع ، وهو أضعف من الأول لأنا لم نقف على هذا في شي‌ء من كتب الأصحاب ، ولو وجد كان نادرا ، بل ذكره المرتضى (رحمه‌الله) في مسائل منفردة وبعده اثنان أو ثلاثة ممن تابعه. ودعوى مثل هذا إجماعا غلط ، إذ لسنا بدعوى المائة نعلم دخول الامام فيهم ، فكيف بدعوى الثلاثة والأربعة» انتهى كلامه (زيد مقامه) ومن المستطرف قوله : «وهل يستجيز محصل. إلخ».

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *