ج20 - أحكام بيع السلم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

الفصل العاشر

في السلم

ويقال له السلف ، وعرفوه بأنه بيع مضمون في الذمة مضبوط بمال معلوم مقبوض في المجلس إلى أجل معلوم بصيغة خاصة ، فالكلام في هذا الفصل يقع في مقامين.

الأول ـ في الشرائط، وهي الإيجاب والقبول ، وذكر الجنس ، وذكر الوصف ، وقبض الثمن قبل التفرق ، وتقدير المبيع والثمن بالكيل والوزن ، واعتبار الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقصان ، وغلبة وجوده وقت الحلول.

وتفصيل الكلام في هذه الشروط يقع في مواضع ، الأول ـ الإيجاب والقبول ، ودليل وجوبهما ظاهر ، لان السلم قسم من أقسام البيع المتوقف على ذلك ، وينعقد الإيجاب بلفظ بعت ، وكذا ينعقد بلفظ التمليك على ما ذكره بعض الأصحاب ، واستلمت منك كذا ، واما أسلفتك وأسلمت إليك ، فهما من المشترى ، وكذا سلفتك بالتضعيف.

قال في التذكرة : ويجي‌ء سلمت الا ان الفقهاء لم يستعملوه ، وينبغي القول



بجوازه لدلالته صريحا على المقصود ، ووروده لغة فيه ، والإيجاب بأحد هذه العبارات من المسلم وهو المشترى ، والقبول حينئذ من المسلم اليه ، وهو البائع ، وهذا الحكم من خواص السلم بالنسبة إلى أقسام البيع ، ومثله في صحة الإيجاب من كل من المتعاقدين الصلح ، وهل ينعقد البيع بلفظ السلم كما ينعقد السلم به؟ بأن يقول أسلمت إليك هذا الدرهم في هذا الشي‌ء قولان : المشهور الجواز ، ومثله ـ على ما ذكره في القواعد ـ ما لو قال البائع : أسلمت إليك هذا الثوب في هذا الدينار ، قالوا : ووجه الصحة ان البيع يصح بكل ما أدى ذلك المعنى المخصوص ، والسلم نوع من البيع ، اعتبره الشارع في نقل الملك ، فجاز استعماله في الجنس مجازا تابعا للقصد ، ولأنه إذا جاز استعماله لما في الذمة المحتمل للغرر كان مع المشاهدة أدخل ، لأنه أبعد من الغرر ، إذ مع المشاهدة يحصل العلم أكثر من الوصف ، والحلول يتيقن معه إمكان التسليم والانتفاع بخلاف الأجل ، فكان أولى بالصحة ، ووجه العدم أن لفظ السلم موضوع حقيقة للنوع الخاص من البيع ، فاستعماله في غير ذلك النوع مجاز ، والعقود اللازمة لا تثبت بالمجازات ، ولان الملك انما ينتقل بما وضعه الشارع ناقلا ، ولم يثبت جعل الشارع هذا ناقلا في موضع النزاع ، وفصل ثالث ـ فقال : الحق انا ان قلنا باختصاص البيع بما يثبت شرعا من الألفاظ ، لم يصح هنا ، وان جوزناه بكل لفظ دل صريحا على المراد صح ، لان هذا اللفظ مع قصد البيع صريح في المطلوب ، وكلام الأصحاب في تحقيق ألفاظ البيع مختلف ، والقول بعدم انعقاد البيع بلفظ السلم لا يخلو من قوة.

أقول : وهذا التفصيل جيد إلا انك قد عرفت مما حققناه آنفا في صدر الفصل الأول في البيع في البحث عن الصيغة انه لم يقم دليل على هذه الألفاظ التي اعتبروها وعينوها وزعموا أن الشارع حصر النقل فيها على الكيفية التي أدعوها ، بل المفهوم من الاخبار ان كل ما دل من الألفاظ على التراضي من الطرفين فهو كاف في الصحة ،


حتى تخطأ بعض المحدثين الى الحكم بالجواز بمجرد الرضا وان لم يقع بالألفاظ ، وظاهر هذا القائل الرجوع الى ما ذكره من الوجه الأول وهو مردود بما قلناه والله العالم.

الثاني والثالث ـ الجنس والوصف والمراد بالجنس هنا اللفظ الدال على الحقيقة النوعية ، كالحنطة والشعير ونحوهما ، والوصف هو الفارق بين أصناف ذلك النوع ، فلو أخل بهما أو بأحدهما بطل العقد ، والوجه في ذلك ـ مضافا الى الاخبار الاتية ـ لزوم الغرر المنفي لو لم يذكر ويشير الى ذلك جملة من الاخبار.

منها ما رواه في الكافي والتهذيب عن معاوية بن عمار (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا بأس بالسلم في المتاع إذا سميت الطول والعرض».

وما رواه في الكافي عن جميل بن دراج (2) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض».

وفي موثقة سماعة (3) قال : «وسألته عن السلم في الحيوان إذا وصفته إلى أجل معلوم فقال : لا بأس به».

وفي صحيحة زرارة (4) المروية في الفقيه والتهذيب عن الباقر عليه‌السلام قال : «لا بأس بالسلم في المتاع إذا وصفت الطول والعرض ، وفي الحيوان إذا وصفت أسنانه». وفي حسنة زرارة (5) وصحيحة المروية في الكافي عن أبى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا بأس بالسلم في الحيوان إذا وصفت أسنانها».

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 199.

(3) الوسائل الباب ـ 3 ـ من أبواب السلف الرقم 8.

(4) الفقيه ج 3 ص 168 التهذيب ج 7 ص 41.

(5) الكافي ج 5 ص 220.


وفي موثقة لزرارة (1) أيضا عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بالسلم في في الحيوان إذا سميت سنا معلوما».

وفي موثقة سماعة (2) المروية في الكافي قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن السلم في الحيوان قال : أسنان معلومة وأسنان معدودة إلى أجل معلوم لا بأس به».

وقول ابى عبد الله عليه‌السلام في رواية ابن الحجاج الكرخي (3) «ومن اشترى من طعام موصوف ولم يسم فيه قرية ولا موضعا فعلى صاحبه أن يؤديه».

وفي صحيحة الحلبي (4) «قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يسلم في وصفاء بأسنان معلومة ولون معلوم الحديث». الى غير ذلك من الاخبار المتفرقة الاتى إنشاء الله تعالى جملة منها.

والضابط في الوصف أن كل ما يختلف لأجله الثمن اختلافا لا يتسامح بمثله عادة فإنه يجب ذكره ، قالوا : والمرجع في هذه الأوصاف إلى العرف ، فإنه ربما كان العامي أعرف بها من الفقيه وحظ الفقيه فيها البيان الإجمالي ، ثم انه متى وصفه فلا يبالغ في الوصف ويستقصي فيه ، إذ ربما تعذر وجوده ، فيبطل السلم ، بل ينبغي الاقتصار على ما يتناوله اسم الموصوف بالوصف الذي يزيل اختلاف أثمان الأفراد الداخلة في ذلك المعين ، فان استقصى ذلك ووجد الموصوف صح السلم ، والا بطل كما ذكرناه.

قالوا : ولو شرط الأجود لم يصح لتعذره ، إذ ما من فرد جيد الا ويمكن أن يكون فرد أجود منه فلا يتحقق حينئذ كون المدفوع من أفراد الحق ، وكذا لو شرط الأردى لعين ما تقدم ، وقيل هنا بإمكان التخلص من ذلك بأن الأردى وان لم يمكن الوقوف عليه لما عرفت من انه لا فرد كذلك الا ويمكن أن يكون فوقه ما هو أردى

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 221 عن عبيد بن زرارة.

(3) الفقيه ج 3 ص 131.

(4) الكافي ج 5 ص 221.


منه ، الا انه يمكن التخلص من الحق بدونه ، وطريقه ان يدفع فردا من الافراد ، فإن كان هو الأردى فهو الحق وان لم يكن كذلك كان قد دفع الجيد عن الردى ، وهو جائز كما سيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ ذكره ، فيحصل التخلص ، ولا يبطل العقد ، بخلاف ما لو شرط الأجود.

وأورد عليه بأنه وان أمكن التخلص بالوجه المذكور ، لكنه غير كاف في صحة العقد ، إذ الواجب تعيين المسلم فيه بالضبط بحيث يمكن الرجوع اليه ، عند الحاجة ويمكن تسليمه ولو بالقهر بان يدفعه الحاكم الشرعي من مال المسلم اليه لو فرض امتناعه من تسليمه ، ومن الظاهر أن هذين الأمرين منتفيان عن الأردى لأنه غير متعين ، فلا يمكن تسليمه ، والجيد غير مستحق عليه ، فلا يجوز للحاكم ونحوه دفعه من ماله. وكذا لا يجب عليه مع المماكسة وحينئذ فيتعذر التخلص ، وبه يظهر ان الأقوى عدم الصحة في هذا الفرد ايضا كسابقه.

ولشيخنا الشهيد (عطر الله مرقده) في الدروس هنا كلام في ذكر أوصاف جملة من المبيعات سلما لا بأس بذكره وان طال به زمام الكلام في المقام ، قال (قدس‌سره) ولنذكر مما يعم به البلوى ثلاثة عشر ، أحدها الرقيق ، وليذكر فيه الذكورة والأنوثة ، والنوع واللون ، والسن والقد كالطويل والقصير والربعة ، ولو قدره بالأشبار كالخمسة والستة احتمل المنع ، لإفضائه إلى العزة ويحتمل وجوب ذكر الكحل (1) والدعج (2) والزجج (3) وتكلثم الوجه في الجارية وكونها خميصة ريانة اللمس ، ثقيلة الردف ، أو أضداد ذلك لتفاوت الثمن به وعدم عزته ، والأقرب تعيين البكارة والثيوبة في الأمة ، فلو أطلق بطل ، ولا يشترط ذكر الملاحة فلو ذكرها روعي العرف ويحمل على أقل درجة ، ويحتمل البطلان لعدم انضباطها ، فان مرجعها

__________________

(1) وكحلت العين كحلا من باب تعب وهو سواد يعلو جفونها خلقة.

(2) الدعج والدعجة : السواد في العين.

(3) الزجج : وهو تقويس في الحاجب مع طول في طرفه.


الى الاستحسان والشهوة المختلفين باختلاف الطبائع ، ولا يجب التعرض لآحاد الأعضاء لعدم تفاوت الثمن فيه بينا ، وربما ادى الى عزة الوجود ، وكذا لو شرط الولد مع الام المقصود بها التسري ، ولو قصدها الخدمة كالزنجية جاز لقلة التفاوت واولى بالجواز اشتراط كونها حاملا سواء كانت حسناء أو شوهاء ، ومنع في المبسوط منه لعدم إمكان ضبطه ، ومنع ابن الجنيد من اشتراط الحمل في الحيوان كله ، والوجه الجواز ولا يجب وصف الحمل لانه تابع.

وثانيهما الإبل فيذكر السن كالثني والذكورة والأنوثة واللون كالأسود والأحمر ، والصنف كالعرابى والبخاتي ، والنتاج إذا كان معروفا عام الوجوه كالعبادى.

وثالثها الخيل فيذكر الذكورة والأنوثة والسن والنوع والعربي والتركي ، واللون ، ولو ذكر الشباب والهيئات كالأغر والمحجل واللطبم جاز وان لم يجب ذكرها.

ورابعها ـ البقر والحمير ، ويتعرض فيه للسن والنوع والذكورة والأنوثة واللون والبلد.

وخامسها ـ الطير ويتعرض فيه للنوع واللون وكبر الجثة أو صغرها ، لان سنها غير معلوم ، وكلما لم يعلم سنه يرجع فيه الى البينة فإن فقدت ، فالى السيد ان كان رقيقا صغيرا أو الى الرقيق ان كان بالغا فإن فقد فالى ظن أهل الخبرة :

وسادسها زوائد الحيوان كاللبن واللبأ والسمن والزبد والرائب (1) والصوف والشعر والوبر فيتعرض في اللبن للنوع كالماغر والمرعى فان قصد به الجبن أو الكشك احتمل ذكر الزمان في الصفا والغيم ، فان لهما أثرا بينا في ذلك عند اهله ويلزم عند الإطلاق حليب يومه ، وفي اللبإ ذلك ويزيد في اللون والطبخ أو عدمه وفي السمن النوع كالبقري ، واللون والحداثة والعتاقة وفي الجبن ذلك ، والرطوبة أو اليبوسة وكذا القريش والأقط ، وربما وجب في القريش ذكر اليومي أو غيره

__________________

(1) الرائب : لبن الخاثر.


لتفاوته بذلك ، وفي الزبد جميع ما تقدم ويتعرض في الصوف والشعر والوبر للنوع والزمان والطول والقصر والنعومة والخشونة والذكورة والأنوثة ان ظهر لهما تأثير في الثمن.

وسابعها ـ الثياب ويذكر فيه النوع والبلد والعرض والصفافة والغلظ والنعومة أو أضدادها ولا يجب ذكر الوزن لعسره ، وله الخام عند الإطلاق وان ذكر المقصور جاز ، فان اختلف البلدان ذكر بلد القصارة كالبعلبكى والقبطي (1) والروسى ويجوز اشتراط المصبوغ فيذكر لونه وإشباعه أو عدمه ولا فرق بين المصبوغ بعد نسجه أو قبله على الأقوى ومنع الشيخ إذا صبغ بعد غزله ، لان الصبغ مجهول ، ولانه يمنع من معرفة الخشونة والنعومة وفي وجوب ذكر عدد الخيوط نظر أقربه ذلك لاشتهاره بين أهله وتأثير في الثمن.

ثامنها ـ الحرير والكرسف والكتان : ويذكر فيهما البلد واللون والنعومة والخشونة ويختص الحرير بالغلظ أو الرقة ، ويجوز السلف في جوز القز ، فيذكر اللون والطراوة أو اليبس والبلدة وأبطله الشيخ إذا كان فيه دود ، لان الحي يفسد بالخروج ، والميت لا يصح بيعة ، قلنا هو كنوى التمر في بلد لا قيمة له فيه ، والكرسف بوجوب ذكر حلجه أو عدمه وقيل يحمل الإطلاق على عدمه وهو بعيد الا مع القرينة ، ولو سلف في الغزل وجب ذكر ما سلف ، واشتراط الغلظ والدقة ولو أسنده إلى غزل امرأة بعينها بطل.

تاسعها ـ الحبوب والفواكه والثمار فيذكر في الحنطة البلد والحداثة والعتق واللون والكبر والصغر والصرابة أو ضدها ، ولا يشترط ذكر حصاد عام أو عامين ، وان ذكره جاز وفي الشعير والقطنية (2) ذلك كله وفي التمر البلد والنوع والكبير

__________________

(1) القبطية : ثياب بيض من كتان يتخذ بمصر.

(2) القطنية بكسر القاف وسكون الطاء اسم جامع للحبوب التي تطبخ مثل العدس والباقلاء واللوبيا والحمص وغيرها.


والصغير والحداثة والعتاقة واللون ان اختلف النوع ، وفي الرطب ذلك كله إلا العتاقة ويجب المتعارف ، ولو شرط المنصف أو المذنب لزم ، وفي الزبيب البلد والنوع والكبر والصغر واللون ان اختلف نوعه ، والمزيت أو غيره ، وله الجاف من التمر والزبيب الخالي من التفالة ، ولا يجب تناهي الجفاف.

وفي الفواكه البلد والنوع والطراوة أو ضدها ، واللون ان اختلف.

وفي الجوز الصنف والكبر والصغر والبلد والحديث أو العتيق ، وله منزوع القشرة العليا وكذا اللوز.

وفي الطلاء البلد والنوع والحديث والعتيق واللون والصفا والقوام ، ويجب كونه مما ذهب ثلثاه فصاعدا خاليا من التفل غير المعتاد ، وان ضم اليه ظروفه ، ويشترط كونها مما يصح فيه السلم فلو كانت من أديم احتمل المنع ، لعسر وصفه ، والأقرب الجواز لعدم تعلق الغرض بجميع أوصافه.

وفي السيلان والمعصر البلد والنوع والقوام واللون ، وفي الدبس كذلك ولا يمنع منه سليس النار ، ويجوز السلم في المصفر من الرطب والتمر ويوصف بوصفهما.

وعاشرها ـ العسل ويذكر فيه البلد والزمان واللون ويحمل الإطلاق على المصفى لا الشهد ، ويحمل المصفى على ما لم تمسه النار الا ان يشترط ذلك.

وحادي عاشرها الخشب والحطب فيذكر النوع واليبس والرطوبة والطول والثخن ، ولا يجيئان في الحطب ، نعم يذكر فيه الغلظ والدقة والوزن وفي خشب العريش ذلك ويزيد السمع أو المعقد.

وثاني عاشرها ـ الحجر واللبن والآجر ، ففي الحجر النوع واللون والقدر والوزن ، وللطحن يزيد الرقة أو الثخن والبلد ، وفي اللبن القالب المشهور ، والمكان الذي يضرب فيه وكذا في الآجر ويزيد فيه اللون.

وثالث عشرها ـ الآنية فيذكر النوع والشكل والقدر والطول والسمك والسعة


وكونه مصبوبا أو مضروبا والوزن ، خلافا للشيخ ومدار الباب البناء على الأمور العرفية ، وربما كان العوام اعرف بها من الفقهاء وحظ الفقيه البيان الإجمالي ، انتهى.

وأنت خبير بان الظاهر من الاخبار المتقدمة ونحوها هو الاكتفاء بالوصف في الجملة فإنها دلت في الحيوان على الاكتفاء بوصف الأسنان ، وفي المتاع بوصف الطول والعرض دون الاستقصاء في جميع الأوصاف كما هو ظاهر كلامهم ، وان كان ما ذكروه أحوط.

إذا عرفت ذلك فهنا فوائد يجب التنبيه عليها الاولى ـ المشهور جواز إسلاف الاعراض في الاعراض إذا اختلفت ، بل ادعى عليه المرتضى الإجماع ، وكون الثمن نقدا أو عرضا ما لم يؤد الى الربا ، وعن ابن الجنيد انه منع من إسلاف عرض في عرض إذا كانا مكيلين أو موزونين أو معدودين كالسمن بالزيت.

أقول : ويدل على ما ذهب اليه ابن الجنيد هنا ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان (1) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أسلف رجلا زيتا على ان يأخذ منه سمنا قال : لا يصلح».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن سنان (2) في الحسن قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام ، يقول : لا ينبغي إسلاف السمن بالزيت ولا الزيت بالسمن».

ويدل على المشهور ما رواه في الفقيه والتهذيب عن وهب (3) «عن جعفر عن أبيه عن على عليهم‌السلام قال : لا بأس بالسلف ما يوزن فيما يكال ، وما يكال فيما يوزن». والشيخ جمع بين الخبرين الأولين والثالث ، بحمل الخبرين الأولين المذكورين اما على المنع من حيث كونهما متفاضلين ، قال : لان التفاضل بين الجنسين

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 189.

(3) الفقيه ج 3 ص 167.


المختلفين انما يجوز إذا كان نقدا ، وإذا كان نسيئة فلا يجوز ، واما ان يكون على الكراهة قال : ولأجل ذلك قال : «لا يصلح ولا ينبغي» ولم يقل انه لا يجوز أو ذلك حرام والأصحاب حملوها على الثاني لمنع ما ذكره الشيخ من التحريم في المتفاضلين نسيئة كما تقدم في تحقيق المسألة المذكورة.

وأنت خبير بأن استعمال لا يصلح ولا ينبغي في التحريم في الاخبار أكثر كثير. نعم هما في العرف الآن بمعنى الكراهة ، ونقل عن ابن ابى عقيل انه منع من إسلاف غير النقدين ، ولم نقف له على دليل ، بل ظاهر جملة من الاخبار يرده واما إسلاف الأثمان في العروض فهو متفق عليه نصا وفتوى ، واما إسلاف الأثمان وان اختلفا فالظاهر انه لا خلاف في عدم جوازه لدخوله في باب الصرف المشترط فيه التقابض في المجلس.

نعم يأتي على ما تقدم نقله عن الصدوق في باب الصرف من عدم اشتراط ذلك الصحة هنا إلا أنك قد عرفت ضعف القول المذكور ، وفيه ايضا مع تماثل العوضين مانع آخر ، وهو الزيادة الحكمية في الثمن المؤجل باعتبار الأجل ، فإن له حظا من الثمن ، فيلزم الربا حينئذ.

الثانية ـ قد ذكر جملة من الأصحاب للسلم ضابطة ، وهي أن كلما ينضبط وصفه يصح السلم منه ، كالأشياء المعدودة في كلام صاحب الدروس ، ومنعوا من السلم في اللحم والخبز والجلود والنبل المعمول ، والجواهر واللئالي ، والعقار والأرض ، لتعذر الضبط ، وناقش بعض محققي متأخر المتأخرين في هذا الضابط قال هذا الضابط ظاهر ، ولكن العلم بتحققه في بعض الجزئيات غير ظاهر ، والفرق مشكل.

نعم قد يوجد في بعض الافراد ، ولكن غير معلوم ، لنا كليته ، فان الفرق بين الحيوان ولحومه مشكل ، وكذا بين اللحم والشحم حتى لا يصح في الأول منهما ويصح في الثاني ، وان تخيل الفرق بينهما ، ويمكن ان يقال بالصحة فيما


ينضبط في الجملة إلا ما ورد النهى عن مثله ، وما علم التفات العظيم بين افراده مثل اللحم ، فإنه ورد النهى عنه ، ومثل اللؤلؤ الكبير فان التفاوت بين افراده باللون والوضع كثير جدا بحيث يشكل ضبطه في العبارة ، وكذا أكثر ما يباع عددا مشاهدة كالبطيخ والباذنجان والقثاء والنارنج وغير ذلك. انتهى وهو جيد.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن جابر (1) عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن السلف في اللحم قال : لا تقربنه فإنه يعطيك مرة السمين ، ومرة التساوي ومرة المهزول واشتره معاينة يدا بيد ، قال : وسألته عن السلف في روايا الماء فقال : لا تقربنها فإنه يعطيك مرة ناقصة ومرة كاملة ، ولكن اشتره معاينة وهو أسلم لك وله». والظاهر من هذا الخبر ان النهى عن السلم في هذين الجنسين المذكورين انما هو من حيث عدم وفاء المسلم اليه بما اشترط عليه لا من حيث عدم الانضباط ، ولهذا ان ظاهر بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) جعل الخبر المذكور على الكراهة (2) وهو جيد.

وما رواه المشايخ الثلاثة عطر الله مراقدهم عن حديد بن حكيم (3) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل اشترى الجلود من القصاب فيعطيه كل يوم شيئا معلوما قال : لا بأس به». والخبر وان كان مطلقا الا انه محمول على تعيين الأجل ، واما احتمال ان يكون المراد بقوله يعطيه في كل يوم شيئا يعنى من الثمن ، فيكون من باب النسية ، فالظاهر بعده ، نعم يحتمل حمله على وقوع البيع حالا وان تأخر التسليم ، وانه انما يعطيه آنا فآنا ويوما فيوما مع حصول التراضي ، فإنه لا ينافي الحلول ، وبعض الأصحاب

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 222 الفقيه ج 3 ص 165.

(2) قال (قدس‌سره) المشهور بين الأصحاب والمقطوع به في كلامهم عدم جواز السلم في اللحم والخبز ، والخبر مع ضعفه يمكن حمله على الكراهة بقرينة آخر الخبر ، مع أنه أضبط من كثير مما جوزوا السلم فيه انتهى. منه رحمه‌الله.

(3) الكافي ج 5 ص 322 مع اختلاف يسير الفقيه ج 3 ص 165.


استدل بهذا الخبر لما ذهب اليه الشيخ من جواز السلم في الجلود مع المشاهدة.

وفيه ما عرفت من الاحتمال الذي ذكرناه ، الا انه قد روى في الكافي والتهذيب عن أبى مخلد السراج (1) قال : «كنا عند أبى عبد الله عليه‌السلام ، فدخل عليه معتب فقال : بالباب رجلان ، فقال أدخلهما فدخلا فقال أحدهما : انى رجل قصاب وانى أبيع المسوك (2) قبل ان أذبح الغنم؟ قال : ليس به بأس ، ولكن انسبها غنم أرض كذا وكذا». وهذا الخبر كما ترى ظاهر في جواز السلم في الجلود ، والمشهور في كلام الأصحاب العدم ، تمسكا بحصول الجهالة واختلاف الخلقة ، وتعذر الضبط حتى بالوزن ، لأن القيمة لا ترتبط به.

وعن الشيخ القول بالجواز مع المشاهدة (3) وأورد عليه انه مع المشاهدة يخرج عن السلم ، لان المبيع في السلم أمر في الذمة مؤجل إلى مدة ، وأجيب بأن المراد مشاهدة جملة كثيرة يكون المسلم فيه داخلا فيها ، ولهذا لا يخرج عن السلم ، لان المبيع غير معين ، وانما يخرج عن السلم مع تعيين المبيع ، وكلام الشيخ أعم منه فيمكن حمله على ما ذكرناه ، أنت خبير بان النص المذكور ظاهر في الجواز كما عرفت فلا تسمع هذه المناقشات في مقابلته ، وهو أيضا أحد الاحتمالين في الخبر

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 201 التهذيب ج 7 ص 27.

(2) أى الجلود.

(3) قال في الخلاف : اختلفت روايات أصحابنا في السلم في الجلود فروى انه لا بأس به إذا شاهد الغنم ، وروى انه لا يجوز ، ثم استدل على الجواز بآية البيع وباخبار المروية في ذلك وبالأصل الدال على الجواز مع انتفاء المانع ، وقال في المبسوط بجواز السلم في جلود الغنم إذا شاهدها وروى انه لا يجوز وهو أحوط لأنه مختلف الخلقة واللون ولا يمكن ضبطه بالصفة لاختلاف خلقته ، ولا يمكن ذرعه ولا يجوز وزنه لانه يكون ثقيلا وثمنه أقل من ثمن الخفيف ، وتبعه في الجواز ابن البراج في الكامل ورجع عنه في كتابه الآخر وابن إدريس ومن تأخر عنه عدا القول بالمنع. منه رحمه‌الله.


الأول كما عرفت ، ولذلك عده في الوسائل في جملة أخبار السلم.

والعلامة قد نقل في المختلف الخبرين المذكورين حجة للشيخ ، وأجاب عن خبر مخلد السراج بضعف السند الذي قد عرفت في غير موضع انه غير مرضى ولا معتمد وعن الأخر بأنه لا دلالة فيه على بيع السلم ، والظاهر انه اشارة الى ما ذكرناه من الاحتمال في الخبر المذكور.

واما الجواهر واللئالي فظاهر جملة من الأصحاب عدم الفرق فيها بين الكبار والصغار ، لاشتراك الجميع في علة المنع ، وهو تعذر ضبطها على وجه يرتفع بسببه اختلاف الثمن ، وفرق آخرون فخصوا المنع بالكبار ، لما ذكر من تفاوتها باعتبارات لا تحصل بدون المشاهدة أما الصغار التي تستعمل في الأدوية والكحل ونحوها فهي لا تشتمل على أوصاف كثيرة بحيث يختلف القيمة باختلافها ، فيجوز السلم فيها وما ذكرنا من التفصيل مثل المعاجين خيرة الشهيدين رحمهما‌الله وهو جيد.

واما ما ذكروه من العقار والأرض فلم أقف فيه على خبر ، الا ان الحميري روى في قرب الاسناد عن على بن جعفر (1) عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن السلم في النخل قبل أن يطلع قال : لا يصلح السلم في النخل وفي موضع آخر قال : «سألته عن الرجل يسلم في النخل قبل ان يطلع قال : لا يصلح السلم في النخل».

والظاهر أن المراد منه ما هو ظاهره من كون السؤال عن السلم في العقار لا في الثمرة ، إذ لا اشكال ولا خلاف في جوازه ، فيكون الخبران المذكوران مستندا لعدم جواز السلم في العقار ، الا ان موردهما النخل كما ترى.

الثالثة شرط الشيخ في جواز السلم في البيض والجوز ضبطهما بالوزن لاختلافهما ، والأظهر الاكتفاء بالعدد مع ذكر النوع الذي يقل الاختلاف فيه بحيث يختلف الثمن باختلافه ، ومنع الشيخ من السلم في جوز القز محتجا بان في جوفه دودا ليس مقصودا ولا فيه مصلحة ، فإنه إذا ترك فيه أفسده ، لانه يقرضه ويخرج منه ،

__________________

(1) الوسائل الباب 1 ـ من أبواب بيع الثمار الرقم ـ 18 و 20.


وان مات فيه لم يجز من حيث انه ميتة ، والأشهر الأظهر الجواز ، لان المقصود بالبيع خال من هذه الموانع ، والدود غير مقصود ، وانما هو بمنزلة النوى الذي لا فائدة فيه.

ومنع الشيخ ايضا من السلم في الشاة معها ولدها ، محتجا بأنه لا يوجد الا نادرا ، وكذا في الجارية الحامل لجهالة الحمل ، وعدم إمكان وصفه ، ورد الأول بإمكان الوصف بالصفات المعتبرة في السلم من غير أداء الى عزة الوجود ، والثاني باغتفار الجهالة في الحمل ، لانه تابع ، ووافقه العلامة في الجارية الحسناء مع ولدها لعزة وجودها ، قيل وفي الفرق نظر.

وبالجملة فضابط المنع وعدمه عزة الوجود وعدمه ، ويجوز الإسلاف في شاة لبون ، والمراد بها ما من شأنها ذلك ، بان يكون لها لبن ، وان لم يكن موجودا بالفعل حال البيع ، بل لو كان موجودا حال البيع لم يجب تسليمه ، بل له أن يحلبه ويسلمها بعد ذلك ، وبالجملة فضابط اللبون ما يكون لها لبن يحلب في اليوم أو الليلة.

واما الحامل فالمراد بها ما كان الحمل موجودا فيها بالفعل ، لا ما يمكن ان تحمل فان الحامل لا يطلق عرفا الا على الأول ، بخلاف اللبون ، فإنه يطلق على ما يحلب في اليوم أو الليلة لا ما كان موجودا بالفعل خاصة.

الشرط الرابع : قبض الثمن قبل التفرق فيبطل بدونه على الأشهر ، بل نقل في التذكرة عليه الإجماع ، قال : فلا يجوز التفرقة قبله ، وان تفارقا قبل القبض بطل السلم عند علمائنا اجمع ، وظاهره انه مع البطلان يحصل الإثم أيضا وقد تقدم.

قولهم في الصرف ايضا بنحو ذلك. وقد بينا ما فيه ثمة ونقل عن ابن الجنيد جواز تأخير القبض ثلاثة أيام ، ولم أقف في الحكم المذكور على نص ، والظاهر أن دليل الأصحاب انما الإجماع المدعى مع ما عرفت من خلاف ابن الجنيد ، وكأنه غير ملتفت اليه عندهم بناء على قاعدتهم من عدم الاعتداد بمخالفة معلوم النسب.


ولعله لعدم وجود النص هنا توقف صاحب البشرى (1) في الحكم المذكور كما نقل عنه وهو في محله.

قالوا ولو قبض بعض الثمن خاصة ، صح فيما يخصه من المبيع وبطل في الباقي ، ثم انه لو كان عدم الإقباض بتفريط المسلم اليه وهو البائع فلا خيار له ، والا تخير لتبعيض الصفقة ، ولو شرط تأجيل بعض الثمن قالوا : بطل في الجميع ، لجهالة ما يواذى المقبوض (2) واحتمل في الدروس الصحة وانه يقسط فيما بعد البيع سلعتين فيستحق إحديهما.

ولو كان للمشتري دين في ذمة البائع فأراد جعله ثمنا فهنا صورتان إحديهما أن يشترط ذلك في العقد بمعنى أن يجعل الثمن ما في الذمة بأن يقرنه بالباء ، والمشهور بين الأصحاب بطلان العقد لانه بيع دين بدين ، قالوا : أما كون المسلم فيه دينا فواضح ، وأما ، الثمن الذي في الذمة فلانه دين في ذمة المسلم اليه ، فإذا جعل عوضا للمسلم فيه الذي هو دين كما عرفت صدق بيع الدين بالدين ، وقيل بالجواز على كراهة وهو اختيار المحقق في الشرائع والعلامة في التحرير (3) ووجهه أن ما في الذمة بمنزلة المقبوض.

الثانية ـ المحاسبة به قبل التفرق ، بمعنى أن يتقابضا في المجلس من غير أن يعينه

__________________

(1) هو السيد الفاضل أبو الفضائل أحمد بن طاوس أخ السيد رضى الدين على بن طاوس منه رحمه‌الله.

(2) ووجهه أنه بتأجيل البعض كما هو المفروض يبطل البيع في المؤجل لاشتراط قبض الثمن قبل التفرق المنافي له ، وإذا بطل البيع في المؤجل بطل في الحال لجهالة قسطه من الثمن وان جعل كلا منهما قسطا معلوما عين للتأجل خمسين من مائة لان المعجل يقابل قسطا من المبيع أكثر مما يقابله المؤجل بتعيين الثمن على الآجل والنسبة عند العقد غير معلوم منه رحمه‌الله.

(3) حيث قال في التحرير ولو شرط ان يكون الثمن بأجمعه من دين عليه فالوجه الكراهة وقيل بالمنع ، انتهى منه رحمه‌الله.


ثمنا لانه استيفاء دين قبل التفرق ، مع عدم ورود العقد عليه فلا يقصر عما لو أطلقا الثمن ، ثم أحضره في المجلس ، وينبغي أن يعلم انه انما يفتقر إلى المحاسبة مع تخالفهما جنسا أو وصفا أو هما معا ، اما لو اتفق ما في الذمة وما عينه ثمنا فيهما وقع التهاتر قهريا ولزم العقد ، وظاهر شيخنا الشهيد في الدروس (1) الاستشكال في صحة العقد على هذا التقدير من حيث ان مورد العقد دين بدين ، ورد بان بيع الدين بالدين المنهي عنه انما يتحقق إذا جعلا جميعا في نفس العقد متقابلين في المعاوضة بمقتضى الباء وهي هنا منتفية ، لأن الثمن هنا أمر كلي ، وتعيينه بعد العقد في شخص لا يقتضي كونه هو الثمن الذي جرى عليه العقد ، ومثل هذا التقابض والتحاسب استيفاء لا معاوضة ، ولو اثر مثل ذلك للزم مثله فيما لو أطلق ثم أحضره في المجلس ، لصدق بيع الدين بالدين ابتداء مع انه لا يقول به.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذا الفرع ما رواه الشيخ عن إسماعيل بن عمر (2) «انه كان له على رجل دراهم فعرض عليه الرجل ان يبيعه بها طعاما إلى أجل مسمى فأمر إسماعيل من يسأله ، فقال : لا بأس بذلك قال : ثم عاد إليه إسماعيل فسأله عن ذلك وقال : انى كنت أمرت فلانا فسألك عنها فقلت : لا بأس ، فقال : ما يقول فيها من عندكم؟ قلت : يقولون : فاسد ، قال : لا تفعله فإني أوهمت».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن طلحة بن زيد (3) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يباع الدين بالدين».

__________________

(1) قال في الدروس : ولو أطلقا ثم تقابضا في المجلس فالظاهر الجواز ويقع التقابض قهرا ان كان الجنس والوصف واحدا ، ويلزم منه كون مورد العقد دينا بدين فيشكل انتهى. منه رحمه‌الله.

(2) الوسائل الباب ـ 8 ـ من أبواب السلف الرقم ـ 1.

(3) الكافي ج 5 ص 100 التهذيب ج 8 ص 189.


وما رواه عبد الله الجعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جده على بن جعفر (1) عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن المسلم في الدين قال : إذا قال : اشتريت منك كذا وكذا بكذا وكذا فلا بأس».

والكلام في هذه الاخبار مع أصل المسألة يتوقف على بيان مقدمة ، وهي ان بيع الدين بالدين الممنوع منه كما دل عليه خبر طلحة هل هو عبارة عما كان دينا قبل العقد كان يكون العوضان دينا قبل العقد كما لو باعه الذي في ذمته بدين آخر له في ذمته أيضا أو في ذمة ثالث أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر للآخر فيخص المنع بهذه الصورة ، أو يشمل ما صار دينا بسبب العقد وان لم يكن دينا قبله كما إذا بيع بمؤجل في العقد ، ويدخل ذلك في بيع الدين بالدين بناء على ان الثمن مؤجل غير حال. المشهور الثاني ، وقيل بالأول وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني في كتاب الدين من الروضة الا انه ناقض نفسه في باب السلم من الروضة أيضا في مسألة اشتراط قبض الثمن قبل التفرق أو المحاسبة به من دين عليه فقال بعد ذكر المصنف «لو جعل الثمن نفس ما في الذمة بطل لانه بيع الدين بالدين» ما لفظه اما كون المسلم فيه دينا فواضح واما الثمن الذي في الذمة فلانه دين في ذمة المسلم اليه انتهى. (2)

وفيه انما صار دينا بالعقد لا قبله وهو في كتاب الدين قد منع من كون ذلك من باب بيع الدين بالدين ، حيث قال ـ بعد قول المصنف «ويصح بيعه اى الدين بحال لا بمؤجل ما صورته لانه بيع الدين بالدين ، وفيه نظر لان الدين الممنوع منه ما كان عوضا حال كونه دينا بمقتضى تعلق الباء به ، والمضمون عند العقد ليس بدين وانما يصير دينا بعد ، فلم يتحقق بيع الدين بالدين الى آخر كلامه زيد في إكرامه.

__________________

(1) الوسائل الباب ـ 8 ـ من أبواب السلف الرقم ـ 3.

(2) اما المسلم فيه فظاهر واما الثمن فلأنه أمر كلي ثابت في الذمة فهو دين وان كان غير مؤجل منه رحمه‌الله.


وسؤال الفرق متجه فان المسلم فيه ايضا كذلك انما يصير دينا بعد العقد لا قبله ، وبذلك يظهر ان الحكم بالبطلان في الصورة الاولى من الصورتين المتقدمتين انما يتجه على القول بالعموم ، كما هو المشهور ، واما على القول الأخر فلا ، وحينئذ فموافقة الأصحاب في البطلان هنا غفلة عما اختاره ، وخالفهم فيه في تلك المسألة وعلى هذا فيمكن ان يقال : ان نفى البأس في خبر إسماعيل بن عمر المتقدم انما وقع بناء على القول الثاني الذي اختاره شيخنا المتقدم ذكره من عدم دخول بيع الطعام سلما في الدين وان صار دينا بعد العقد فلا يدخل في بيع الدين بالدين ، وحينئذ يصح البيع سواء كان الدراهم التي جعلت ثمنا حالة أو مؤجلة ، ويحتمل على بعد ، في الخبر المذكور ـ ان وجه الصحة ونفى البأس انما هو من حيث الثمن ، وان تلك الدراهم التي في الذمة كانت حالة ، والبيع انما وقع بعد حلولها ، وان بيع الطعام سلما داخل في الدين كما هو المشهور ـ والصحة انما اتجهت من جهة كون الثمن حالا والمبيع وان كان دينا لكن الثمن حال فلا يدخل في بيع الدين بالدين ، والى هذا الاحتمال جنح صاحب الوافي فذكر الخبر المشار إليه في باب بيع الدين بالدين ، واما على ما ذكرناه فالأنسب به باب السلف كما أوضحناه في حواشينا على الكتاب المذكور.

واما خبر قرب الاسناد فالظاهر ان المراد بقوله وسألته عن السلم في الدين في حال كون الثمن دينا وجوابه عليه‌السلام بنفي البأس «فيما إذا قال : اشتريت منك كذا وكذا بكذا وكذا» فالظاهر ان مراده كون الثمن كليا في الذمة ، لا عين ما في الذمة والا لقال : بما في ذمتك ، وحينئذ يصير من قبيل الصورة الثانية المتقدمة ، وتحصل المقاصة والمحاسبة بعد العقد أو التهاتر والتساقط على الوجهين المتقدمين.

واما رجوعه عليه‌السلام عما افتى به أولا في رواية إسماعيل بن عمر ونسبة نفسه الى الوهم فإنما خرج مخرج التقية كما ينادى به سياق الكلام ، وكيف كان فقد عرفت ان أصل المسألة خال من النص ، وبه ينقدح الإشكال في بعض فروع


المسألة ، وان كان الاحتياط في الوقوف على ما ذكروه والله العالم.

الشرط الخامس تقدير المبيع والثمن بالكيل والوزن ، ولا خلاف فيه نصا وفتوى لما تقدم في أحكام البيع المطلق وهذا أحد أقسامه.

ومن الاخبار هنا ما رواه المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم عن غياث بن إبراهيم (1) عن ابى عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لا بأس بالسلف بكيل معلوم إلى أجل معلوم لا يسلم الى دياس ولا الى حصاد». والدياس دق السنبل يخرج منه الحب.

وما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد الحلبي (2) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السلف في الطعام بكيل معلوم قال : لا بأس به».

وما رواه في الفقيه عن صفوان بن يحيى عن عبد الله بن سنان (3) في الصحيح والحسن بإبراهيم بن هاشم عن ابى عبد الله عليه‌السلام «قال سالته عن الرجل يسلم في غير زرع ولا نخل قال : يسمى كيلا معلوما إلى أجل معلوم» الحديث.

وما رواه الشيخ عن الشحام (4) عن ابى عبد الله عليه‌السلام «في رجل اشترى من رجل مأة من صفرا وليس عند الرجل شي‌ء منه قال : لا بأس به إذا وفى بالوزن الذي اشترط له». ورواه الصدوق بإسناده عن ابى الصباح الكناني (5) عن الكناني عن ابى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وفي صحيحة الحلبي (6) عن ابى عبد الله عليه‌السلام «والزعفران يسلم فيه الرجل الدرهم في عشرين مثقالا أو أقل أو أكثر من ذلك قال : لا بأس» الحديث.

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 184 الفقيه ج 3 ص 167 التهذيب ج 7 ص 27.

(3) الفقيه ج 3 ص 165.

(4) التهذيب ج 7 ص 44 ، بتفاوت الفقيه ج 3 ص 175.

(5) الفقيه ج 3 ص 179.

(6) الكافي ج 5 ص 186 الفقيه ص 166.


ولا بد في الكيل والوزن من المعلومية فيما يكال به ويوزن كما صرح به في رواية غياث المتقدمة ، وصحيحة محمد الحلبي ، فلا يجزى ما كان مجهولا من مكيال أو ضنج وان تراضيا عليه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في البيع ، وظاهر الأصحاب هنا انه لا فرق في ذلك بين ما يعتاد كيله ووزنه وما يعتاد بيعه جزافا كالحطب والقصب والحجارة ونحوها ، لأن المشاهدة ترفع الضرر ، وفي السلم حيث كان ما سلم فيه غائبا أو معدوما فلا بد من معلوميته بأحد الوجهين ليصح العقد عليه ، فعلى هذا لا يجوز السلم في القصب اطنابا ولا في الحطب حزما ولا في المجز ورجزا لما عرفت من اختلاف المذكورات الموجب للغرر في عقد السلف ، بخلاف ما لو بيع مشاهدا فإن المشاهدة ترفع الغرر عنه ، ويجوز السلم في الثوب أذرعا وان قلنا بجواز بيعه مع المشاهدة بدون الذرع ، لما عرفت من ان المشاهدة ترفع الغرر بخلاف ما لم يشاهد ، وهل يجوز الإسلاف في المعدود عددا قيل لا ، لعدم انضباط المعدود فلا يحصل العلم بقدره بدون الوزن ، وقيل بالتفصيل وعدم جواز ذلك في مثل الرمان لحصول التفاوت في أفراده ، وجواز ذلك في مثل الجوز واللوز والبيض لعدم التفاوت في بعض وقلته في آخر بحيث يتسامح به.

وفي الدروس الحق البيض بالرمان الممتنع فيه ، وعلى كل تقدير لا بد في البيض من تعيين الصنف ، ولا بد في الثمن أيضا ان يكون مقدرا بالكيل أو الوزن ، فلا يكفى مجهولا كقبضة من دراهم وصبرة من طعام ، ولا يجوز الاقتصار على مشاهدته إذا كان مما يكال أو يوزن أو يعد ، اما لو كان مما يباع جزافا جاز الاقتصاد على مشاهدته كما لو بيع ، ولو كان الثمن من المذروعات كالثوب فهل يكتفى بمشاهدته عن ذرعه كما لو بيع حسبما تقدم ، فكذا إذا كان ثمنا أم لا بد من ذرعه ، قطع الشيخ باشتراط ذرعه وتوقف العلامة في المختلف واختار في المسالك بناءه على جواز بيعه كذلك فان قلنا به في البيع أجزناه هنا ، وخالف المرتضى رضى الله عنه في ذلك كله فاكتفى بالمشاهدة في الثمن مطلقا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا قال في المسائل


الناصرية حيث ذكر المسألة أن معرفة مقدار رأس المال شرط في صحة السلم ، ما أعرف لأصحابنا إلى الان نصا في هذه المسألة ، الا أنه يقوى في نفسي أنه رأس مال السلم إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة لم يفتقر الى ذكر صفاته ومبلغ وزنه وعدده ، وهو المعمول عليه من قول الشافعي ، ثم نقل عن أبي حنيفة القول بما عليه الأصحاب من الاشتراط إذا كان مكيلا أو موزونا أو معدودا ، والمشهور الأول وبه صرح الشيخ في المبسوط والخلاف.

احتج العلامة في المختلف للقول المشهور قال : لنا انه غرر فيكون منهيا عنه ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (1) «نهى عن الغرر». ولانه عقد لا يمكن إتمامه في الحال ولا تسليم المعقود عليه ، ولا يؤمن انفساخه فوجب معرفة مقدار رأس المال ليرد بدله ، ولانه لولاه لأفضى إلى التنازع والشارع أرشد إلى المصالح النافية للتنازع ، كالشهادة وغيرها ، ومعلوم أن الضرر الناشي من تجهيل الثمن أشد من ضرر ترك الشهادة ولانه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقا فيفسخ العقد في قدره ، فلا يدرى كم بقي وكم انفسخ.

ونقل عن المرتضى أنه احتج بما روى عن النبي (2) (صلى‌الله‌عليه‌وآله) «انه قال : من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم». فاذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في السلم على هذه الصفات ولم يشترط سواها» ثم أجاب عنه بأنه بين أولا النهي عن الغرر ، ومن جملته جهالة الثمن ، فالإذن في السلم بعد ما بين أولا غير دال على ما ادعاه انتهى. وحاصله أن الخبر مطلق يجب تقييده بما دل على النهى عن الغرر.

وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور لأنه الأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية مع موافقته للاحتياط المطلوب في الدين كما لا يخفى على الحاذق المكين.

__________________

(1) الوسائل الباب 40 من أبواب آداب التجارة الرقم 4.

(2) المستدرك ج 2 ص 478.


ويمكن أن يستدل على ذلك زيادة على ما ذكر بما رواه في الكافي عن ابى مريم الأنصاري (1) في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام «أن أباه لم تكن يرى بأسا بالسلم في الحيوان بشي‌ء معلوم إلى أجل معلوم». فان الظاهر ان الشي‌ء المعلوم عبارة عن الثمن بمعنى أنه يشتريه سلما بشي‌ء معلوم ، ومن الظاهر ان المعلومية في المكيل لا يتحقق الا بكيله والموزون الا بوزنه وهكذا في المعدود والله العالم.

الشرط السادس اعتبار الأجل بما لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فلو ذكر أجلا مجهولا كان يقول : حتى أردت أو ما يحتمل الزيادة والنقصان كقدوم الحاج أو إدراك الثمن كان كان باطلا ، وقد تقدم ما دل عليه في رواية غياث بن إبراهيم وصحيحة الحلبي وصحيحة عبد الله بن سنان أو حسنته ونحوها قوله عليه‌السلام في رواية أبي مريم الأنصاري المتقدمة بشي‌ء معلوم إلى أجل معلوم وفر له عليه‌السلام في رواية قتيبة الأعشى (2) «أليس يسلم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم قلت : بلى قال : لا بأس». الى غير ذلك من الاخبار المؤيدة باتفاق الأصحاب.

وتحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مواضع الأول ـ قال في الشرائع ولو اشتراه حالا قيل يبطل ، وقيل يصح ، وهو المروي ، لكن يشترط أن يكون عام الوجود في وقت العقد أقول قال الشيخ في النهاية لو أخل بالأجل كان البيع غير صحيح ، وفي الخلاف السلم لا يكون إلا مؤجلا ، ولا يصح أن يكون حالا ، وتبعه ابن إدريس وهو قول ابن أبى عقيل.

قال في المختلف بعد نقل ذلك والتحقيق أن نقول ان قصد السلم وجب ـ الأجل ، واما لو قصد الحال مثل ان يقول أسلمت إليك هذا الدينار في هذا الكتاب أو في قفيز حنطة فالأقرب الصحة ، وينعقد بيعا مطلقا ، لا سلما ، لنا أن البيع جزء من السلم ويصح إطلاق اسم الكل على جزئه فإذا قصداه وجب انعقاده عملا بالقصد ، ولانه عقد يصح مؤجلا فيصح حالا لبيوع الأعيان ، ولأنه إذا جاز مؤجلا كان الحال

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 220.


أولى بالجواز ، لانه من الغرر أبعد ، ثم نقل عن الشيخ انه احتج بإجماع الفرقة ، وبالإجماع على الصحة مع الأجل ، وما عداه لا دليل عليه ، وبما رواه ابن عباس (1) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «أنه قال : من أسلف فليسلف في كيل معلوم وأجل معلوم». والأمر يقتضي الوجوب ، ولأنه أمر بهذه الأمور تثبيتا للسلم ، ولهذا لا يصح إذا انتفى الكيل أو الوزن ، فكذا الأجل ، ثم أجاب بالقول بموجب هذه الأدلة قال : لأنا نسلم ان مع قصد السلم يجب ذكر الأجل ، وليس صورة النزاع ، بل البحث فيما لو تبايعا حالا بحال بلفظ السلم انتهى.

وظاهر كلامه (قدس‌سره) أن محل الخلاف في هذه المسألة صحة وبطلانا انما هو فيما إذا تبايعا بقصد الحلول ، سواء صرح به في العقد أم لم يصرح به ، فإنه هل يكون بيعا كسائر أفراد البيوع وان وقع بلفظ السلم كما اختاره ، أو يكون باطلا بناء على أن وضع السلم على التأجيل. وأنت خبير بأنه على هذا التقدير يرجع الى الخلاف المتقدم في صدر البحث في أن البيع المطلق هل ينعقد بلفظ السلم أم لا ، فعلى القول بالانعقاد كما هو المشهور تثبت الصحة هنا ، وعلى العدم العدم.

وظاهر عبارة المحقق المتقدمة أن موضع الخلاف انما هو فيما إذ قصد السلم لا البيع المطلق ، وأخل بذكر الأجل على ذلك التقدير وأظهر منها عبارة الشهيد في الدروس حيث قال : الثالث ان يكون المسلم فيه دينا (2) لانه موضوع لفظ السلم لغة وشرعا ، فلو أسلم في عين كان بيعا ، ولو باع موصوفا كان سلما نظرا الى المعنى في الموضعين

__________________

(1) المستدرك ج 2 ص 487.

(2) قال المحقق الشيخ على في شرح القواعد ـ بعد قول المصنف الخامس كون المسلم فيه دينا الى آخره ـ ما لفظه وذلك لان السلم لا يكون إلا مؤجلا ، فإذا وقع حالا امتنع كونه من افراد السلم ، وكون العين موصوفة لا يصيره سلما لانتفاء الأجل ، ولكن سيأتي أنه لا بد من التصريح بالحلول. انتهى وهو ظاهر في خلاف ما اختاره في الدروس من كون ذلك سلما وأنه ليس الأجل شرطا في السلم مطلقا. منه رحمه‌الله.


وليس المانع من السلف في العين اشتراط الأجل الذي لا يحتمله العين ، لأن الأصح انه لا يشترط الأجل ، نعم يشترط التصريح بالحلول وعموم الوجود عند العقد ، ولو قصد الحلول ولم يتلفظا به صح أيضا ، ولو قصد الأجل اشترط ذكره ، فيبطل العقد بدونه ولو أطلقا العقد حمل على الحلول انتهى.

وظاهره أن الأصح أنه لا يشترط الأجل في السلم بقول مطلق لجواز السلم في العين حالا بالشرطين المذكورين ، وانما يشترط ذكر الأجل فيه فيما إذا قصد التأجيل وخلاف الأصح هو اشتراط الأجل في السلم مطلقا ، كما هو ظاهر كلام الشيخ المتقدم ومن تبعه ، واستجود في المسالك أن هذا هو محل الخلاف دون الأول.

والظاهر ان الرواية التي أشار إليها في عبارة الشرائع هي ما رواه الصدوق في الفقيه عن عبد الرحمن بن الحجاج (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يشترى الطعام من الرجل ليس عنده ، فيشترى منه حالا قال : ليس به بأس قلت : انهم يفسدونه عندنا ، قال : وأي شي‌ء يقولون في السلم؟ قلت : لا يرون به بأسا ، يقولون هذا إلى أجل ، وإذا كان الى غير أجل وليس عند صاحبه فلا يصلح ، فقال : إذا لم يكن أجل كان أجود ، ثم قال : لا بأس بأن يشترى الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل ، وحالا (2) لا يسمى له أجلا ، الا أن يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه. فلا ينبغي شراء ذلك حالا».

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 179 التهذيب ج 7 ص 49.

(2) الذي في التهذيب في هذه الرواية «قال : لا بأس بان يشترى الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل ، فقال لا يسمى له أجلا» فأبدل لفظ «وحالا» كما في الفقيه بلفظ «فقال» ولا ريب انه غلط من قلمه ، والعجب انه في الوافي نقل الرواية عن الكتابين بلفظ (فقال) مع ما عرفت فيه من الاختلال ، ولم ينبه على ما في الفقيه ، وكذا في بعض نسخ التهذيب ايضا وهو الأصح ـ منه رحمه‌الله.


أقول : والذي يقرب عندي أنه لا ثمرة في هذا الخلاف على كل من التقديرين المذكورين ، وملخص الكلام في المقام أنه اما ان قلنا بوقوع البيع بلفظ السلم كما هو المشهور فلا مانع من البيع حالا بهذا اللفظ ، والا فلا ، وعلى هذا لو تبايعا بهذا اللفظ بشرط الحلول بنى في الصحة والبطلان على الخلاف المذكور ، وأما لو قصد السلم الذي هو عبارة عن شراء ما في الذمة فلا بد من الأجل ولا يصح بدونه كما صرح به الشيخ واتباعه ، واليه أشار في الدروس في صدر العبارة المنقولة ، واما قوله في الدروس «وليس المانع من السلف في العين اشتراط الأجل» الى آخره فإنه لا يخرج عما ذكرناه من جواز البيع والاشتراء بلفظ السلم كما هو المشهور ، والرواية المذكورة لا دلالة فيها على أزيد من جواز بيع الإنسان ما ليس عنده بشرط أن يكون عام الوجود وقت العقد ، ومثلها في هذا المعنى أخبار عديدة ولا إشارة في شي‌ء منها فضلا عن التصريح بكون ذلك سلما.

نعم المفهوم من الاخبار أن البيع قد يقع على ما في الذمة من غير اشتراط التأجيل بل قصد الحلول كما دلت عليه الأحاديث المذكورة ، وقد يقع مع اشتراط التأجيل وهو السلم المشهور وقد يقع على العين المشخصة الموجودة ، فإن أريد أن الأول من حيث كونه في الذمة يطلق عليه السلم كالثاني ويسمى سلما فلا مشاحة في ذلك.

والثاني قالوا : ولا بد أن يكون الأجل معلوما للمتعاقدين على وجه يكون مضبوطا في نفسه بما لا يحتمل الزيادة والنقصان ، فلا يكفى تعينه في نفسه بحيث يحتاج إلى مراجعة غيرهما في معرفته كالنيروز الذي هو عبارة عن انتهاء الشمس إلى أول برج الحمل ، وهو الاعتدال الربيعي ، والمهرجان الذي هو عبارة عن انتهائها إلى أول برج الميزان وهو الاعتدال الخريفي ولو قال : الى جمادى فهل يحمل على أقربهما ويكون العقد صحيحا أم لا لكون اللفظ مشتركا واحتمال الأمرين متساويا فلا يمكن حمل الإطلاق على أحدهما وجهان بل قولان : للأول أنه قد


علق العقد على هذا الاسم وبدخول الأول من الشهرين يصدق الاسم فلا يعتبر غيره فيكون الإطلاق دالا عليه بالتقريب المذكور فيحمل عليه ويصح العقد.

وللثاني ما تقدم من أن اللفظ مشترك ومحتمل لهما معا فلا يمكن حمل الإطلاق على أحدهما ، وهل يكون الحكم كذلك فيما لو شرط التأجيل إلى يوم معين من أيام الأسبوع كالخميس والجمعة أم لا ، فرق في التذكرة فحكم في اليوم بحمله على الأول ، لدلالة العرف عليه ، وتردد في الأول ، واحتمل في المسالك التساوي بينهما في الحمل على الأول.

والتحقيق أن يقال : أنه ان كان فهم المتعاقدين متفقا على إرادة الأول فلا إشكال في الصحة ، وحمل إطلاقهما عليه ، لان قصد ذلك في قوة ذكره في اللفظ والا كان باطلا ، سواء اعتقد نقيضه أم لا لان ما جعلا ، من الأجل محتمل للزيادة والنقصان فلا يمكن حمل الإطلاق على أحدهما.

الثالث يحمل الشهر على الهلالي إن اتفق التأجيل في أوله سواء كان ثلاثين يوما أو أقل ، وعلى ثلاثين يوما ان اتفق في الأثناء ، ويعتبر في الأولية والأثناء العرف لا الحقيقة لانتفائها غالبا أو دائما ، إذ لا يتفق المقارنة المحضة لغروب الشمس ليلة الهلال ، فعلى هذا لا يقدح فيه نحو اللحظة ، والظاهر أن الساعة غير قادحة ايضا ، أما نصف الليل فقد صرحوا بأنه قادح ، فيرجع حينئذ إلى العدد.

ولو قال : الى شهر كذا حل بأول جزء منه ليلة الهلال ، والغاية وان اختلفت دخولا وخروجا (1) الا أن العرف هنا قاض بالخروج فيحكم به لانه المرجع حيث لا حقيقة شرعية ، كما أنه قاض بالدخول لو قال : الى شهر وأطلق ، فإنه يتمه بآخره ويكون الغاية داخلة ، والوجه فيه انه لولا ذلك للزم خلو السلم عن الأجل.

__________________

(1) فإنها قد تكون داخلة ، كما إذا قلت قرأت القرآن الى آخره ، وقد تكون خارجة ، كقوله سبحانه «ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ» وقد تكون محتملة لكل من الأمرين كغسل اليد الى المرفق منه رحمه‌الله.


ولو قال : الى شهرين فان كان في أول شهر فلا اشكال ولا خلاف في انه يعد شهرين هلاليين ، لأن الأصل في الشهر عند الإطلاق هو الهلالي ، وانما يعدل عنه إلى العددي عند تعذر حمله على الهلالي.

وان كان في الأثناء فأقوال أحدها اعتبار الشهرين المذكورين بالهلالي ، اما الثاني فظاهر لوقوعه بأجمعه هلاليا ، واما الأول فلصدق معنى القدر الحاصل منه عرفا كنصفه وثلثه مثلا ، فيتم من الثالث قدر ما فات منه حتى لو كان ناقصا كفى إكمال ما يتم تسعة وعشرين يوما ، لان النقص جاء في آخره ، وهو من جملة الأجل والثابت من الأول لا يختلف بالزيادة والنقصان ، وهذا القول نقله المحقق في الشرائع.

وثانيها اعتبار ما عدا الأول هلاليا وأنه يتمم الأول ثلاثين يوما ، والوجه فيه اما بالنسبة إلا ما عدا الأول فلصدق الهلالي ، وقد عرفت ان الأصل في الشهر ذلك ، واما بالنسبة إلى الشهر الأول المكسور فلأنه بإهلال الثاني لا يصدق عليه انه شهر هلالي فيكون عدديا ، ولا يمكن اعتبار الجميع بالهلالي لئلا يلزم اطراح المنكسر وتأخر الأجل عن العقد مع الإطلاق ، وحينئذ فيكمل الأول ثلاثين يوما بعد انقضاء المقصود من الهلالي من شهر أو أكثر قال في المسالك وهو قول الأكثر.

أقول : وهو اختيار المحقق في الشرائع وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ونقله في المختلف عن الشيخ ايضا وهو الأوفق بالقواعد المقررة.

وثالثها انكسار الجميع بكسر الأول فيقدر الكل بالعدد ذهب اليه الشيخ في أحد قوليه ، ونفى عند البعد في المختلف قال : ولا استبعد بكونها كلها عددية بناء على المتعارف من الحمل عليه عند قرب الهلال ، وفيه ما يأتي ذكره إنشاء الله (تعالى) ، والوجه في هذا القول أن الشهر الثاني لا يعقل دخوله الا بعد انقضاء الأول ، فالأيام الباقية اما ان لا تحتسب من أحدهما أو من الثاني وكلاهما محال ، أو من الأول فلا يعقل دخول الثاني حتى يتم الأول بعدد ما فات منه من الثاني فينكسر الثاني وهكذا ، وفيه ـ زيادة


على ما تقدم ـ أن الأشهر الباقية يمكن إجراؤها على حكم الأصل ، وهو الاعتبار بالهلال إذ لا مانع منه فيتعين الحمل عليه ، ولا يلزم إكمال الشهر الأول المنكسر من الذي يليه بلا فاصلة لصدق الإكمال مما بعده سواء كان مما يليه أو يتأخر عنه ، إذ لا محذور لازم من الإكمال من غيره ، بخلاف ما لو أكمل من الذي يليه فإنه يلزم اختلال الشهر الهلالي مع إمكان اعتباره بالهلالي ، ولأن الأجل إذا كان ثلاثة أشهر مثلا فبعد مضى شهرين هلاليين وثلاثين يوما ملفقة من الأول والرابع يصدق أنه قد مضى ثلاثة أشهر عرفا فيحل الأجل ، والا كان أزيد من المشترط ، ولأنه إذا وقع العقد في نصف الشهر مثلا ومضى بعده شهران هلاليان يصدق انه مضى من الأجل شهران ونصف ، فيكفي إكمالها خمسة عشر يوما لصدق الثلاثة معها ، وهذا أمر ثابت في العرف حقيقة والله العالم.

الشرط السابع ـ غلبة الوجود وقت الحلول إذا اشترط الأجل كما هو الأشهر الأظهر ، والمراد غلبة الوجود في البلد الذي شرط تسليمه فيه ، أو بلد العقد حين يطلق على أحد الأقوال الاتية. أو فيما قاربه بحيث ينتقل إليه عادة ، وظاهر الأكثر انه لا يكفى وجوده نادرا ، وفي القواعد جعل الشرط إمكان وجوده (1) في ذلك الوقت وهو يشعر بدخول النادر وتأولوه بما يرجع الى قول الأكثر ، ولم نقف في أصل هذا الشرط على دليل واضح ، بل ربما الظاهر من الاخبار ما ذكره القواعد ولم أقف على مخالف لما ذكروه في هذا المقام سوى المحقق الأردبيلي طاب ثراه حيث قال بعد قول المصنف «وغلبة وجوده وقت الحلول» ما لفظه هذا هو الثامن من الشروط ودليله غير واضح بل الظاهر عدم ذلك والاكتفاء بإمكان وجوده كما هو ظاهر

__________________

(1) قال المحقق الشيخ على في شرح القواعد : المراد بإمكان وجوده كونه بحيث يوجد كثيرا عادة بحيث لا يندر تحصيله ، فالمراد بإمكان وجوده عادة هو الذي لا يعز وجوده انتهى ، ولا يخفى ما فيه من التكلف والخروج عن ظاهر العبارة. منه رحمه‌الله.


عبارة القواعد والتذكرة على ما نقل في شرح الشرائع (1) بمعنى القدرة على تسليم المبيع حين الأجل بناء على ظنه ، كما تشعر به عبارة الدروس حيث جعل الشرط القدرة على التسليم عند الأجل ويؤيده ما في موثقة عبد الرحمن بن الحجاج (2) عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا بأس بان يشترى الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل ، وحالا لا يسمي أجلا الا ان يكون بيعا لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه فلا ينبغي شراء ذلك حالا».

وصحيحة زرارة (3) «قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل اشترى طعام قرية بعينها؟ فقال : لا بأس ان خرج فهو له وان لم يخرج كان دينا عليه.

ورواية خالد بن الحجاج (4) عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يشترى طعام قرية بعينها ، وان لم يسم له قرية بعينها أعطاه من حيث شاء».

وهما يدلان على جواز اشتراط القرية المعينة ، والمشترطون غلبة وجود المسلم فيه لا يقولون به ، بل صرحوا بأنه لو شرطت بطل السلم ، ويظهر ان ظن الوجود وإمكانه حين الأجل في الجملة يكفي ، ولا شك في حصول الظن بحصول غلة قرية وان كانت صغيرة ، بل ولو أرضا معينة قليلة ، ولهذا يتكل صاحبها على غلة تلك الأرض ، ولا يزرع غيرها ظنا بأنه يحصل له منها غلة ، ويبيع ويشترى رجاء للوفاء منها ، وكذا غزل امرأة معينة ، ولا اعتبار بإمكان موتها لحصول الظن بالحياة للاستصحاب ، ولهذا يكتب إليها كتابة ويبعث إليها هدايا بعد الغيبة بمدة طويلة

__________________

(1) أقول الموجود في شرح الشرائع انما هو النقل عن القواعد ، واما عن التذكرة فليس فيما حضرني من نسخ المسالك له اثر ولعله كان في النسخ التي كانت عنده (قدس‌سره) والله العالم : منه رحمه‌الله.

(2) الفقيه ج 3 ص 179 التهذيب ج 7 ص 49.

(3) الوسائل الباب ـ 12 ـ من أبواب السلف الرقم ـ 1 الفقيه ج 3 ص 132.

(4) الكافي ج 5 ص 187 التهذيب ج 7 ص 39.


وبمثل هذا جعل الاستصحاب دليلا فعدم صحة مثله على ما قالوه محل التأمل انتهى وهو جيد وجيه.

المقام الثاني في الأحكام

وفيه مسائل الأولى ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط ذكر موضع التسليم في العقد ـ مع اعتراف جملة منهم بأنه لا نص فيه ـ على أقوال : أحدها اشتراطه مطلقا ، وهو مذهب الشيخ في الخلاف ، وتبعه عليه جمع ممن تأخر عنه ، واستقر به الشهيد (رحمة الله عليه) وعللوه بان مكان التسليم مما يختلف فيه الأغراض ، ويختلف باختلافه الثمن والرغبات ، فإنه قد يكون بعيدا من المشترى ولا يرغب في تكثير الثمن ، ولا في الشراء على بعض الوجوه ، وقد يكون قريبا فينعكس الحكم ، وكذا القول في البائع.

أقول فيه ما أشرنا إليه في غير مقام مما تقدم من ان مثل هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، على انه لو صلح كون ذلك علة كما ذكروه لما خفي على الأئمة (صلوات الله عليهم) فكيف لم ينبهوا عليه ، ولم يذكروا في شروط السلم موضع التسليم ، كما ذكروا غيره مما تقدم ذكره ، أرأيت انهم (رضوان الله عليهم) اهتدوا الى ما لم يهتد إليه الأئمة (صلوات الله عليهم) على تطاول مدتهم وأزمانهم ، ولم يهتد إليه أحد من نقلة اخبارهم ، بل الحق ان ذلك انما هو من باب اسكتوا عما سكت الله عنه ، كما في جملة من الاخبار (1).

__________________

(1) وهكذا ما ذكروه ايضا من ان المطالبة بالمبيح فرع ثبوته في الذمة واستحقاق المطالبة وذلك في السلم المؤجل غير معلوم ، لأنه انما يكون عند الحلول ، ولا يعلم في أي مكان يتحقق الحلول على البائع ، ولهذا يفرق بينه وبين القرض حيث الصرف الى مكان العقد وكذا البيع لا يلزم مثله في بيع النسيئة لخروجه بالإجماع على عدم اشتراط تعيين محله ، والا لكان الدليل قائما فيه فلا يلحق به المختلف فيه انتهى


وثانيها عدمه مطلقا وهو ظاهر الشيخ في النهاية واختاره العلامة في التحرير والإرشاد والمحقق في الشرائع وجمع آخرون وهو ظاهر ابن ابى عقيل على ما نقله في المختلف ووجهه مضافا الى أصالة العدم إطلاق الأوامر بالوفاء بالعقود «وحل البيع» والإجماع على عدم اشتراطه في باقي أنواع البيع وان كان مؤجلا وهذا هو الأظهر عندي.

واختار هذا القول ابن إدريس وادعى عليه الإجماع ، قال : وليس من شرط صحة السلم ذكر موضع التسليم بغير خلاف بين أصحابنا والأصل براءة الذمة وقوله تعالى «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وهذا بيع وقوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وما ذكره الشيخ في الخلاف لم يذهب إليه أحد من أصحابنا ولا ورد به خبر عن أئمتنا (عليهم‌السلام) وانما هو أحد قولي الشافعي اختاره شيخنا أبو جعفر (رحمة الله عليه) الا تراه في استدلاله لم يتعرض بإجماع الفرقة ولا أورد خبرا في ذلك لا من طريقنا ولا من طريق المخالفين.

واعترضه العلامة في المختلف فقال : ومن العجب قول ابن إدريس انه لا يشترط بغير خلاف بين أصحابنا ، مع وجود ما نقلناه من الخلاف بين أصحابنا وقوله الأصل براءة الذمة يعارضه أصالة بقاء المال على صاحبه ، «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» مصروف الى البيع الصحيح دون الفاسد ، ونحن نمنع من صحة المتنازع فيه.

وكذا قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ونسبة ما ذكره الشيخ في الخلاف الى أحد قولي الشافعي وليس قولا لأحد من أصحابنا يدل على قلة معرفته بمواضع الخلاف ، وقوله لم يوجد في أحاديث أصحابنا ولا غيرهم ممنوع ، لأنهم عليهم‌السلام نصوا

__________________

وفيه ان ما ذكروه كله مبنى على ما اصطلحوا عليه وذكروه في التعليلات التي من هذا القبيل والا فلا نص في شي‌ء من ذلك ، والواجب مع الحلول ما حل عليه في أي مكان كان وفي سلف أو بيع أو قرض ، والفرق بين بعضها وبعض في الأمكنة لا اعرف عليه دليلا واضحا والله العالم منه رحمه‌الله.


على اشتراط الوصف ، وهو يتناول المكان ، لأن الأين من جملة الأوصاف اللاحقة بالماهية ، فكون الشيخ لم يستدل بالإجماع ولا بالاخبار لا يدل على بطلان الحكم ، لإمكان الاستدلال عليه بغيرها انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما فيه من الوهن الظاهر لكل ناظر ، ولا سيما معارضته لأصالة براءة الذمة بأصالة بقاء المال على صاحبه ، فان هذه الأصالة يجب الخروج عنها بالأدلة العامة والخاصة بالسلف ، من الآيات والروايات الدالة على حل البيوع ، وصحتها بجميع أنواعها ـ وخصوصا أخبار بيوع السلف حيث أنها خالية عن ذلك ـ الا ما قام الدليل الواضح على فساده ، وكان الواجب عليه اقامة الدليل على فساد البيع في موضع البحث ، ليتجه له تخصيص تلك الأدلة ، والا فتخصيصها بمجرد الدعوى مصادرة محضة ، ومجازفة ظاهرة ، وأضعف من ذلك دعواه دلالة الاخبار على ذلك ، بتقريب أنها دلت على اشتراط الوصف ، والمكان من جملة الأوصاف ، فإن الوصف عندهم انما هو عبارة عما يفرق به بين أصناف النوع كما تقدم ذكره في كلام الدروس.

ولهذا انهم عدوا من الشروط الوصف على حدة ، وعدوا ذكر موضع التسليم على حده ، على أنك قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا أنه ليس في الاخبار ما يدل على استقصاء الأوصاف على الوجه الذي ذكروه ، حتى أنه يتعدى الى ما يحمله هنا ، وادعى أنه من جملة الأوصاف ، وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) انما هو محض تعصب على ابن إدريس كما هو عادته ، وقبله المحقق «عطر الله مرقديهما» ، من الرد عليه غالبا بما هو حق تارة وباطل أخرى.

وثالثها التفصيل بأنه ان كان في حمله مؤنة وجب تعيين محل حمله ، والا فلا ، وذهب اليه الشيخ في المبسوط وابن حمزة ، ووجهه ظاهر مما تقدم في القول الأول ، فإن الأغراض إنما تختلف في محل يفتقر الى المؤنة ، وأما غيره فلا ، وفيه ما أوردناه على القول الأول.


ورابعها التفصيل أيضا لكن بنحو آخر ، وهو أنه ان كانا في برية أو بلد غربة قصدهما مفارقته اشترط تعيينه ، والا فلا ، اختاره العلامة في القواعد والمختلف ، والوجه فيه ما ذكره في المختلف قال : لنا انهما متى كانا في برية أو بلد لا يجتمعان فيه لم يمكن التسليم في مكان العقد ، ويتعين غيره ، وليس أحد الأمكنة أولى من الأخر ، وذلك يفضى الى التنازع لجهالته ، وأما إذا كانا في بلد يجتمعان فيه فان إطلاق العقد يفتضى التسليم في بلده ، ولأن في تعيين المكان غرضا ومصلحة لهما فالأشبه تعيين الزمان.

أقول : وفيه ما تقدم في القول الأول ، ويزيد هنا بأن مبنى الاشكال الذي أوجب له القول بالتفصيل المذكور هو ما ذكروه من أن إطلاق العقد يقتضي وجوب التسليم في مكان العقد ، وهذا مما لم نقف له على دليل من النصوص ، لا بالعموم ولا الخصوص ، بل الواجب مع حلول الدين هو الأداء في أي مكان كان ، وسيأتي ـ إنشاء الله تعالى ـ ما فيه مزيد إيضاح لما ذكرنا وبيان.

وخامسها أنه ان كان لحمله مؤنة أو لم يكن المحل صالحا كالقرية اشترط تعيينه والا فلا ، وهو خيرة العلامة في التذكرة ، ووجهه مركب من القولين السابقين عليه.

قال في المسالك بعد نقل الأقوال المذكورة (1) : ولكل من الأقوال وجه ، الا أن الأخير يضعف السابقين عليه ، ويبقى الإشكال في ترجيح أحد الثلاثة ، فأصالة البراءة وحمل الإطلاق في نظائره على موضع العقد يرجح الأول ، واختلاف الأغراض وعدم الدليل الدال على تعيين موضع العقد في المتنازع يؤيد الثاني ، ووجه الأخير ظاهر ولا ريب أن التعيين مطلقا أولى ، وانا في ترجيح أحدهما من

__________________

(1) أقول صورة نقل شيخنا المذكور للأقوال حسبما ذكرنا الا انه جعل الأول هو الثاني والثاني أولا وباقي الأقوال الثلاثة حسبما أوردناه من الترتيب وبه ينكشف غشاوة الإجمال عن عبارته التي نقلناها في الأصل ـ منه رحمه‌الله.


المترددين انتهى.

أقول والتحقيق أن ما ذكروه من هذه التعليلات فيما عدا القول الأول غاية ما تفيده الأولوية دون الوجوب كما يدعونه ، فإن الأحكام الشرعية من الوجوب والتحريم ونحوهما لا تثبت بمثل هذه التخريجات ، بل لا بد فيها من التعليل الشرعي الواضح من آية أو رواية ، والا كان قولا على الله بغير علم ، وقد استفاضت الآيات والروايات بالمنع منه والزجر عنه ، والتحقيق عندي في هذا المقام هو ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) وان كان قد هجس بفكري قبل الوقوف على كلامه (قدس‌سره) حيث قال بعد قول المصنف «وليس ذكر موضع التسليم شرطا» ما صورته : دليل عدم الاشتراط هو عموم أدلة جواز هذا البيع وخصوصها مع خلوها عن سبب اشتراط ذكر موضع التسليم مع عدم المانع ، والجهالة واحتمال النزاع واختلاف الأغراض يندفع بانصرافه الى موضع يقتضيه العرف ، كما في سائر البيوع والعقود خصوصا النسيئة.

نعم الأحوط ذلك خصوصا مع وقوعه في موضع يعلمان مفارقته قبل حلول الأجل ، أو يحتاج نقله إلى مؤنة ولم تكن عادة ، فإن كان مقتضى العادة والقرينة شيئا والا انصرف الى موضع الحلول ، لان مقتضى العقد وجوب تسليم المبيع عند الحلول في أي مكان كان مع وجود المسلم فيه عادة ، وعدم قرينة إرادة خلافه ، ولكن ظاهر كلام الأصحاب أن موضع التسليم موضع العقد ، فان كان لهم دليل من الإجماع والا فالظاهر ما مر لما مر. انتهى وهو جيد نفيس.

المسألة الثانية لو أراد بيع ما أسلف فيه فهنا صور ، احديها بيعه قبل حلول الأجل حالا ، والظاهر أنه لا خلاف في عدم الجواز لعدم استحقاقه له (1).

__________________

(1) أقول عبائر جملة الأصحاب حتى الأصحاب المتون انه لا يجوز بيعه قبل حلوله وهو أعم من أن يكون المبيع حالا أو مؤجلا ، والثمن ايضا حالا أو مؤجلا ، وقال في المهذب : الدين المؤجل منع ابن إدريس من بيعه مطلقا


وثانيها الصورة المذكورة الا انه يبيعه مؤجلا ، وظاهر الأصحاب العدم ايضا ، قال بعض المحققين بعد نقل ذلك عنهم : وكان دليله الإجماع ، واحتمال دخوله تحت بيع الدين بالدين ، ثم قال : فتأمل خصوصا على من هو عليه ، لانه مقبوض له انتهى.

وثالثها بيعه بعد الحلول وبعد القبض ، ولا خلاف في صحة البيع.

ورابعها بعد الحلول وقبل القبض ، والمشهور أنه يجوز بيعه من البائع بزيادة ونقصان ، سواء كان من جنس الثمن أم لا ، ومنع الشيخ في التهذيب من بيعه بعد الأجل بجنس الثمن مع الزيادة ، وبه قال ابن الجنيد وابن ابى عقيل وابن البراج وابن حمزة ، والروايات في هذه الصورة لا يخلو من اختلاف ، فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا منها ثم الكلام فيما يحصل به الجمع بينها.

الاولى ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (1) عن ابى جعفر عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من اشترى طعاما أو علفا إلى أجل فلم يجد صاحبه وليس شرطه الا الورق ، فان قال : خذ منى بسعر اليوم ورقا فلا يأخذ إلا شرطه ، طعامه أو علفه ، فان لم يجد شرطه وأخذ ورقا لا محالة قبل ان يأخذ شرطه فلا يأخذ إلا رأس ماله ، لا تظلمون ولا تظلمون». وروى هذه الرواية في الاستبصار بإسقاط قوله فلم يجد الى قوله فان لم يجد وهو أوضح.

الثانية ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (2)

__________________

(1) التهذيب ج 7 ـ ص 32 الاستبصار ج 3 ص 75.

(2) الكافي ج 5 ص 220 التهذيب ج 7 ص 32.


عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في رجل أعطى رجلا ورقا في وصيف إلى أجل مسمى فقال له صاحبه : لا أجد لك وصيفا خذ منى قيمة وصيفك اليوم ورقا قال : لا يأخذ إلا وصيفه أو ورقه الذي أعطاه أول مرة لا يزاد عليه شيئا».

الثالثة ما رواه في التهذيب عن الحلبي (1) في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بالسلم في الحيوان إذا سميت الذي تسلم فيه فوصفته ، فان وفيته والا فأنت أحق بدراهمك».

الرابعة ـ ما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن الحلبي (2) عن ابى عبد الله عليه‌السلام «أنه سئل عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك الى أجل مسمى قال : لا بأس ان لم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه ، ان يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم».

الخامسة ـ ما رواه الشيخ عن على بن جعفر (3) قال : «سألته عن رجل له على آخر تمرا وشعير أو حنطة أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال : إذا قومه دراهم فسد ، لأن الأصل الذي يشترى به دراهم ، فلا تصلح دراهم بدراهم».

السادسة ما رواه في التهذيب عن يعقوب بن شعيب (4) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يسلف في الحنطة والتمر بمأة درهم فيأتي صاحبه حين يحل له الذي له فيقول : والله ما عندي إلا نصف الذي لك فخذ منى ان شئت بنصف الذي لك حنطة ، وبنصفه ورقا فقال : لا بأس إذا أخذ منه الورق كما أعطاه».

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 41.

(2) الكافي ج 5 ص 221.

(3 و 4) التهذيب ج 7 ص 30 و 32.


السابعة ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبان (1) عن بعض ، أصحابنا عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، «في الرجل يسلف الدراهم في الطعام إلى أجل فيحل الطعام فيقول : ليس عندي طعام ، ولكن انظر ما قيمته فخذ منى ثمنه قال : لا بأس بذلك».

الثامنة ما رواه الشيخ عن الحسن بن على بن فضال (2) قال : «كتبت الى ابى الحسن عليه‌السلام الرجل يسلفني في الطعام فيجي‌ء الوقت وليس عندي طعام أعطيه بقيمته دراهم؟ قال : نعم».

التاسعة ما رواه عن على بن محمد (3) قال : «كتبت اليه رجل له على رجل تمر أو حنطة أو شعير أو قطن فلما تقاضاه قال : خذ بما لك عندي دراهم يجوز ذلك له أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : يجوز ذلك عن تراض منهما إنشاء الله تعالى».

العاشرة ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن سنان (4) «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، الى ان قال : أرأيت إن أوفاني بعضا وعجز عن بعض أيجوز ان آخذ بالباقي رأس مالي؟ قال : نعم ما أحسن ذلك».

الحادي عشر ـ ما رواه ايضا عن سليمان بن خالد (5) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يسلم في الزرع فيأخذ بعض طعامه ويبقى بعض ، لا يجد وفاء فيعرض عليه صاحبه رأس ماله؟ قال : يأخذه فإنه حلال» الحديث.

الثانية عشر ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (6) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل أسلفته دراهم في طعام فلما حل طعامي عليه بعث الي بدراهم فقال :

__________________

(1 ـ 2) التهذيب ج 7 ص 30 والكافي ج 5 ص 185.

(3) التهذيب ج 7 ص 44.

(4) الكافي ج 5 ص 185 التهذيب ج 7 ص 41.

(5 و 6) الكافي ج 5 ص 185 التهذيب ج 7 ص 29.


اشتر لنفسك طعاما فاستوف حقك ، قال : أرى ان يولى ، ذلك غيرك وتقوم معه حتى تقبض الذي لك ولا تتولى أنت شراءه».

الثالثة عشر ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله (1) في الموثق «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أسلف دراهم في طعام فحل الذي له فأرسل إليه بدراهم فقال : اشتر طعاما واستوف حقك ، هل ترى به بأسا؟ قال : يكون معه غيره يوفيه ذلك».

الرابعة عشر ما رواه في التهذيب عن يعقوب بن شعيب (2) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل يكون له على الرجل أحمال من رطب أو تمر فيبعث اليه بدنانير فيقول : اشتر بهذه واستوف منه الذي لك قال لا بأس إذا ائتمنه». ورواه في الفقيه عن صفوان عن يعقوب بن شعيب ، قال سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، مثله.

الخامس عشر ما رواه في التهذيب والفقيه عن ابن بكير (3) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل أسلفه في شي‌ء يسلف الناس فيه من الثمار فذهب زمانها ولم يستوف سلفه قال : فليأخذ رأس ماله أو لينظره».

السادس عشر ما رواه في التهذيب عن ابن حجاج الكرخي (4) عن ابى عبد الله عليه‌السلام ، قال : «كل طعام اشتريته في بيدر أو طسوج فأتى الله عليه فليس للمشتري إلا رأس ماله ، ومن اشترى من طعام موصوف ولم يسم فيه قرية ولا موضعا فعلى صاحبه ان يؤديه». ورواه في الفقيه مرسلا.

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 186 والتهذيب ج 7 ص 30.

(2) التهذيب ج 7 ص 42 مع اختلاف يسير الفقيه ج 3 ص 164.

(3) التهذيب ج 7 ص 31 الفقيه ج 3 ص 165.

(4) التهذيب ج 7 ص 39 الفقيه ج 3 ص 131.


السابع عشر : ما رواه المشايخ الثلاثة عن الحلبي (1) في الصحيح قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل يسلف دراهم في خمسة مخاتيم حنطة أو شعير إلى أجل مسمى وكان الذي عليه الحنطة والشعير لا يقدر على أن يقضيه جميع الذي له إذا حل فشاء صاحب الحق أن يأخذ نصف الطعام أو ثلثه أو أقل أو أكثر ويأخذ رأس ماله ما بقي من الطعام دراهم؟ قال : لا بأس به وسئل عن الزعفران يسلم فيه الرجل دراهم في عشرين مثقالا أو أقل من ذلك أو أكثر قال : لا بأس ـ ان لم يقدر الذي عليه الزعفران ان يعطيه جميع ماله ـ ان يأخذ نصف حقه أو ثلثه أو ثلثيه ويأخذ رأس مال ما بقي من حقه دراهم». ولفظ دراهم في آخر الخبر في الفقيه دون الكتابين الآخرين.

الثامن عشر ما رواه في الكافي والفقيه عن العيص بن القاسم (2) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل أسلف رجلا دراهم بحنطة حتى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام ووجد عنده دوابا ودقيقا ومتاعا أيحل له أن يأخذ من عروضه تلك بطعامه ، قال : نعم يسمى كذا وكذا بكذا وكذا صاعا». هذا جملة ما حضرني من الاخبار ، والمشهور بين الأصحاب في هذه المسألة هو جواز البيع على من عليه الحق وغيره بزيادة أو نقيصة ، وان كان على كراهية في المكيل والموزون ، لان هذه المسألة عندهم أحد جزئيات مسألة بيع الشي‌ء قبل قبضه ، وقد تقدم الكلام عليها في فصل بيع النقد والنسية والمشهور بينهم ثمة هو الجواز على كراهية في المكيل والموزون فجروا هنا على ذلك ، وقد عرفت آنفا أن المختار في تلك المسألة هو التحريم ، وفاقا لجمع من المتقدمين ولشيخنا الشهيد الثاني من المتأخرين.

ولكن أخبار هذه المسألة كما سيظهر لك إنشاء الله مما يؤذن بمغايرة المسألتين ، ويعضده أن مورد أخبار هذه المسألة كلها على كثرتها واختلافها مخصوصة بالبيع على من عليه الدين ، بخلاف أخبار تلك المسألة فإنها بعد ضم مطلقها الى مقيدها ومجملها

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 186 التهذيب ج 7 ص 29 الفقيه ج 3 ص 166.

(2) الكافي ج 5 ص 186 الفقيه ج 3 ص 165.


الى مفصلها ظاهرة في البيع على الغير ، ويدل على القول المشهور الخبر السابع والثامن والتاسع ، فإنها ظاهرة في الجواز بزيادة أو نقيصة.

ويؤيده أيضا أنه كسائر أمواله له الاختيار في بيعها بزيادة عما اشترى أو نقيصة ، الا أن جل الأخبار المتقدمة قد منعت من الزيادة على رأس المال صريحا في بعض وظاهرا في آخر ، وهذا مما يؤذن بالمغايرة بين المسألتين أيضا ، والأصحاب رضوان الله عليهم لم ينقلوا إلا صحيحتي محمد بن قيس ، وحملوهما على كراهة البيع قبل القبض ، أو الاستحباب :

والأقرب في الجمع بين الاخبار المذكورة انما هو حمل ما دل على أخذ رأس المال خاصة ـ والمنع من الزائد ـ على ما إذا فسخ العقد الأول (1) لتعذر المبيع كلا أو بالنسبة الى ما تعذر منه من نصفه أو ثلثه ، فإنه في هذه الحال لا يجوز أخذ الزائد على رأس المال ، لاستلزامه الربا ، والاخبار الدالة على القول المشهور على ظاهرها من بقاء المبيع من غير فسخ ، فله بيعه بما شاء زيادة ونقيصة.

وأما ما دل عليه الخبر الثاني عشر والثالث عشر ـ من النهى عن الشراء بالدراهم المرسلة اليه الا ان يكون معه آخر يشترى ويوفيه فهي محمولة على خوف التهمة ، بدليل الخبر الرابع عشر ، لا ما حمله عليه في الوافي من فسخ البيع والوقوع في الربا ، فان ظاهر الاخبار الثلاثة أنه أرسل إليه الدراهم وجعله وكيلا عنه في الاشتراء والإقباض ، ولكن حصل النهي في بعضها للعلة التي ذكرناها ، كما أفصح به

__________________

(1) وانما حملت الأخبار المذكورة على فسخ العقد لأن الحق الثابت في الذمة انما هو الجنس الذي أسلم فيه ، فالواجب دفعه أو قيمته ان كان قيميا أو مثله ان كان مثليا ، فان هذا هو مقتضى القواعد الشرعية ، لكن لما دلت هذه الاخبار على خلاف ذلك من أخذ رأس المال خاصة فلا بد من حملها على فسخ العقد ، لتعين أخذ رأس المال خاصة ، ولا يجوز الزيادة حينئذ لوقوع الربا بذلك. منه رحمه‌الله.


البعض الأخر.

واستند الشيخ فيما تقدم نقله عنه الى الخبر الخامس ، قال في التهذيب بعد إيراد الخبر السابع والثامن ثم الخبر الخامس قال محمد بن الحسن : الذي افتى به ما تضمنه الخبر الأخير من أنه إذا كان الذي أسلف فيه دراهم لم يجز له أن يبيع عليه بدراهم ، لانه يكون قد باع دراهم بدراهم.

وربما كان فيه زيادة ونقصان ، وذلك ربا ، ولا تنافي بين هذا الخبر والخبرين الأولين ، لأن الخبر الأول مرسل غير مسند ، ولو كان مسندا لكان قوله «انظر ما قيمته على السعر الذي أخذت منى» فإنا قد بينا أنه يجوز له أن يأخذ القيمة برأس ماله من غير زيادة ولا نقصان ، والخبر الثاني أيضا مثل ذلك ، وليس في واحد من الخبرين أنه يعطيه القيمة بسعر الوقت ، وإذا احتمل ما ذكرناه فلا تنافي بينهما على حال ، على أن الخبرين يحتملان وجها آخر وهو أن يكون انما جاز له أن يأخذ الدراهم بقيمته إذا كان قد أعطاه في وقت السلف غير الدراهم ، ولا يؤدى ذلك الى الربا لاختلاف الجنسين انتهى.

ولا يخفى بعد ما ذكره ، سيما الاحتمال الأخير فإن أحد الخبرين المذكورين في كلامه وهو مرسلة أبان صريح في كونه أسلف دراهم ، وقد اعترضه في هذا الاستدلال بعض من تأخر عنه ، بأن الخبر الذي استند اليه يدل على خلاف ما ذهب اليه ، فلا يصح له الاعتماد عليه ، لانه عليه‌السلام منع من التقويم بالدراهم مطلقا سواء كان بقدر الثمن أو أقل أو أزيد ، والشيخ قد جوز بالمساوي فما يدل عليه الحديث بإطلاقه لا يقول به ، وما يقول به لا يدل عليه الخبر ، إذ لا دلالة للعام على الخاص فلا يمكنه الاحتجاج به وهو جيد.

وكيف كان فان روايات المسألة كلها متفقة على الجمع الذي قدمنا ذكره (1)

__________________

(1) أقول وملخص الكلام في اخبار هذا الباب بعد الجمع بينها كما ذكرناه في الأصل ان جملة منها قد دل على انه الفسخ يرجع الى رأس ماله ومع عدم


وأما هذه الرواية فهي مخالفة للقواعد الفقهية المتفق عليها نصا وفتوى ، فإنه بالبيع قد استحق المال المسلم فيه وصار ماله ، يتصرف فيه كيف شاء ، سواء اشتراه بدراهم أو عروض ، وله بيعه بما شاء من الدراهم والعروض ، الا أن يفسخ البيع ، فيلزم رأس المال خاصة.

وأما مع عدم الفسخ فلا وجه للمنع من تقويمه بالدراهم ، وكون المدفوع في قيمته دراهم وبيعه الان بدراهم لا يوجب ذلك الربا ، لأنه إنما باع المتاع الذي أسلم فيه لا الثمن الذي دفعه قيمة ، وأما ما دل عليه الخبر الخامس عشر فسيأتي الكلام فيه في محله إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فالظاهر من الاخبار المذكورة بمعونة الجمع الذي قدمنا ذكره أنه مع عدم فسخ البيع الأول فله ان يبيع ما في ذمة المسلم اليه بما أراد من زيادة ونقيصة عليه أو على غيره ، لانه ماله يتصرف فيه كيف شاء ولا مانع من ذلك شرعا إلا ما ربما يتخيل مما تقدم في مسألة البيع قبل القبض ، وان المختار ثمة هو التحريم كما دل عليه جل روايات تلك المسألة.

والجواب عن ذلك ان الظاهر عندي ان هذه المسألة غير مترتبة على تلك ، بل هي مسألة على حيالها كما لا يخفى على المتأمل في أخبار المسألتين وموضوع اخبار هذه المسألة انما هو بيع مال السلم على من هو عليه ، واخبار تلك المسألة انما هو الشراء على غير وجه السلم وبيعه على الغير قبل قبضه كما لا يخفى على المتأمل

__________________

الفسخ فان بعضها دل بأنه يبيعه عليه بما شاء كما هو القول المشهور ، وبعضها دل على انه يعطيه دراهم يشترى بها وكالة عنه ويقبض جنسه الذي اشتراه من وجه طلبه ، وبعضها دل على انه مع قبض بعض له الفسخ في الباقي وأخذ رأس ماله ، وبعضها دل على انه يجوز عوض سلفه عروضه يكون قيمة سلفه ، والجميع موافق لمقتضى الأصول والقواعد ولم يخرج من تحت رواية على بن جعفر لما عرفت في الأصل منه رحمه‌الله.


فيها وان اشترك الجميع في كونه بيعا قبل القبض ، والمختار عندنا هنا هو الجواز كما عرفت من الاخبار التي أشرنا إليها ، وهي الخبر السابع والثامن والتاسع بالتقريب المتقدم ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني اختيار التحريم هنا بناء على اختياره التحريم في تلك المسألة كما قدمنا نقله عنه (1) وهو غفلة عن ملاحظة روايات هذه المسألة المذكورة فإنها صريحة في الجواز كلا وانما اختلفت في الزيادة عن رأس المال منعا وتجويزا وإلا فأصل البيع لا خلاف فيه لا في الاخبار ولا في كلام الأصحاب بخلاف روايات تلك المسألة ، فإنها مختلفة في جواز البيع وعدمه ، وجل الاخبار على العدم ، كما رجحناه ثمة ، والظاهر ان الكراهة التي

__________________

(1) حيث قال بعد قول المصنف «ويجوز بيعه على من هو عليه وعلى غيره وان لم يقبضه على كراهية : ما صورته هذا إذا كان بما يكال أو يوزن» اما لو كان مما يعد ففي الكراهية نظر ، لعدم الدليل ، وقد تقدم في ذلك وان الأقوى التحريم إذا كان طعاما أو إذا كان مما يكال أو يؤزن على ما فصل انتهى.

وهو ظاهر في بناء هذه المسألة على تلك المسألة فإن قوله وقد تقدم الكلام إشارة الى ما قدمه في تلك المسألة وان عنده التحريم هنا وان من اختار في تلك المسألة الكراهية اختار الكراهية هنا ايضا وأنت خبير في الجميع فإن الكراهة التي جمعوا بها بين اخبار تلك المسألة راجعة إلى أصل البيع حيث ان اخبار تلك المسألة اختلفت في صحة البيع وبطلانه.

واما اخبار هذه المسألة فلم يختلفن في أصل البيع وانما اختلفت في الثمن فالكراهة إنما ترجع الى الثمن وزيادته على رأس المال لا إلى أصل البيع ، فإنه لا دلالة في شي‌ء من هذه الاخبار على بطلان البيع وانما قيد المنع من الزيادة على رأس المال وفي رواية على بن جعفر المنع من خصوص الدراهم وهم حملوا على الكراهة وعلى ما ذكرناه من الجمع باعتبار فسخ العقد وعدمه فلا يحتاج الى ما ذكروه وبالجملة فإن كلامه هنا مبنى على تلك المسألة وغفلته عن روايات هذه المسألة والله العالم ـ منه رحمه‌الله.


ذكرها القائلون بالجواز في هذه المسألة حيث انهم صرحوا بجواز بيع السلم على من هو عليه على كراهية ، إنما استندوا فيها الى اخبار تلك المسألة لاختلافها في جواز البيع قبل القبض وعدمه ، فجمعوا بينها بالكراهة ، والا فأخبار هذه المسألة على كثرتها متفقة على الجواز ، وانما اختلفت في الزيادة على رأس المال.

والظاهر ان السبب في ذلك كله هو ادراجهم هذه المسألة تحت تلك المسألة والغفلة عن ملاحظة أخبار هذه المسألة مع كثرتها وتعددها ، والتحقيق بالنظر الى اخبار كل من المسألتين هو تغاير الحكمين ، وان الأظهر في هذه المسألة هو الجواز للاخبار المتقدم ذكرها بلا كراهة بناء على ما جمعنا به بين اخبارها ، وفي تلك المسألة هو التحريم لما قدمناه فيها والله العالم.

تذنيبان : الأول ـ المشهور بين الأصحاب أنه إذا حل الأجل وتأخر التسليم لعارض.

ثم طالب المشترى بعد انقطاعه كان بالخيار بين الفسخ والصبر ـ ونقل عن ابن إدريس إنكار الخيار في هذه المسألة ، تمسكا بأن العقد ثابت بالإجماع ، وآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وانه لا دليل على فسخه ، ويدل على القول المشهور الخبر الخامس عشر من الاخبار المتقدمة ، وهو نص في الباب.

ويؤيده الأخبار المذكورة ثمة الدالة على جواز أخذ رأس المال ، فإنك قد عرفت انها محمولة على فسخ العقد ، مع ان ظاهرها أن المسلم فيه غير معدوم يومئذ وان لم يوجد عند البائع فإذا جاز الفسخ مع وجوده ، فمع تعذره بطريق اولى ، وبه يظهر بطلان ما ذهب اليه ابن إدريس ، وقيل في المسألة قول ثالث ، وهو انه لا يفسخ ولا يصبر بل يأخذ قيمته الآن ، قال في المسالك : وهو حسن لأن الحق هو العين ، فإذا تعذرت رجع الى القيمة حيث يتعذر المثل.

أقول لا ريب ان هذا القول هو الموافق للأصول الشرعية ، والقواعد المرعية


ويؤيده الأخبار المتقدمة الدالة على القول المشهور ، وهو بيعه على من هو عليه ، وأخذ قيمته يومئذ ، الا ان موثقة ابن بكير المذكورة ظاهرة الدلالة على القول المشهور هنا ، والمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال ، قالوا : لو كان العارض الموجب لتأخر التسليم من جهة المشترى مع بذل البائع ، فإنه لا فسخ لاستناد الفوات الى تقصير ، قالوا : والخيار ليس على الفور ، وحينئذ لا يسقط بالتأخير بل قيل انه لو صرح بالإمهال لم يسقط وتوقف في الدروس.

ولو قبض البعض قالوا : تخير بين الصبر به وبين فسخ العقد من أصله لتبعيض الصفقة التي هي عيب عندهم ، وان لم نقف لها على دليل إذ المسلم فيه انما هو المجموع ، وقد تعذر ، فتبعيضه ضرر عليه ، وبين الفسخ في المختلف خاصة لأنه الذي تعذر فله الرجوع الى ثمنه ، لان الصبر ضرر لا يلتزم به ، ويدل على هذا الوجه الثالث ـ من الاخبار المتقدمة ـ الخبر الرابع ، والخبر العاشر ، والحادي عشر والسابع عشر.

الثاني قد عرفت في صدر المسألة أن من جملة صورها بيع السلف على من هو عليه ، أو على غيره قبل حلوله ، يعنى حال كونه دينا وانه لا خلاف بينهم في عدم الجواز ، لعدم استحقاقه له يومئذ ، وظاهرهم أن ذلك أعم من أن يبيعه حالا أو مؤجلا للعلة المذكورة ، وظاهر المحقق المتقدم ذكره ثمة أن دليلهم الإجماع ، مع أنه في المسالك نقل عن العلامة في التذكرة القول بالجواز ، واليه يميل ايضا كلامه في المسالك مستندا إلى أنه حق مالي إلى آخر ما يعتبر في البيع فينبغي أن يصح بيعه على حالته التي هو عليها ، وان لم يجز المطالبة قبل الأجل. ثم اعترض على نفسه بأنه ربما أشكل بعدم إمكان قبضه الذي هو شرط في الصحة ، ثم أجاب بمنع اشتراط إمكان القبض حين العقد ، بل إمكانه مطلقا ويمكن تحققه بعد الحلول ، كما لو باعه عينا غائبة منقولة لا يمكن قبضها الا بعد مضى زمان يمكن فيه الوصول إليها.

أقول والاشكال المذكور انما يتوجه فيما إذا كان البيع على غير من عليه الحق ،


والا فلو كان على من هو عليه فإنه مقبوض ، لكونه في ذمته ، والى ذلك يميل أيضا كلام المحقق الشيخ حسن بن شيخنا الشهيد الثاني في حواشيه على شرح اللمعة على ما نقله عنه ابنه الشيخ محمد ، حيث أن شيخنا المشار إليه جرى في الكتاب المذكور على القول المشهور ، فقال : واما بيعه قبل حلوله فلا ، لعدم استحقاقه حينئذ ، فكتب عليه ابنه المحقق المذكور ان أريد بالاستحقاق استحقاق أصل الملك على أن المراد أنه لا يملك أصل المسلم فيه الا بعد الأجل فتوجه المنع اليه ظاهر ، وان أريد به عدم استحقاقه المطالبة ، فمنع ذلك البيع غير واضح انتهى : ثم ان ابنه الشيخ محمد كتب على ما ذكره أبوه الجواب نختار الشق الثاني ومنعه البيع واضح ، لاشتراط القدرة على التسليم انتهى.

أقول وكأنه غفل عما ذكره جده في المسالك ، ولم يقف عليه من الجواب عما ذكره ، واليه يميل ايضا كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد وهو الذي عبرنا عنه ببعض المحققين في صدر المسألة ، وقد تقدم كلامه في صدر المسألة ، وبالجملة فالمسألة لخلوها عن النص لا يخلو عن اشكال ، وان كان ما ذكره هؤلاء المحققون ظاهر القوة خصوصا في البيع على من هو عليه ، وكذا في صورة ما لو كان البيع مع تأجيل المبيع إلى المدة المضروبة أو لا ، وان كان على غير من هو عليه ، لحصول الاستحقاق بعد المدة.

ثم ان ظاهر القول المشهور من المنع من بيعه قبل حلوله أنه لا فرق بين أن يكون الثمن حالا أو مؤجلا ، لما عرفت من التعليل المذكور في كلامهم ، وهو عدم الاستحقاق ، وأما على القول بالجواز فلا إشكال في صحته بالحال ، مشخصا كان أو مضمونا ، ولا إشكال أيضا في عدم الصحة لو كان الثمن دينا قبل العقد ، للزوم بيع الدين بالدين المنهي عنه ، وانما الكلام فيما لو شرط تأجيله في العقد بمعنى أنه انما يكون دينا بعد العقد لا قبله ، فظاهر جملة من الأصحاب دخوله في بيع الدين بالدين ، والظاهر انه المشهور.


وظاهر جملة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والروضة العدم ، قال في المسالك بعد قول المصنف في مسألة بيع الدين بعد حلوله بما شرط تأجيله قيل يبطل ، لانه بيع دين بدين ، وقيل يكره ، وهو الأشبه ما لفظه :

وأما بيعه بمؤجل فقد ذهب جماعة إلى المنع منه ، اعتمادا على أن المؤجل يقع عليه اسم الدين ، وفيه أنهم ان أرادوا إطلاق اسم الدين عليه قبل العقد ، وحالته فظاهر منعه ، لانه لا يعد دينا حتى يثبت في الذمة ، ولا يثبت الا بعد العقد ، فلم يتحقق بيع الدين بالدين ، وان أرادوا أنه دين بعد ذلك لزم مثله في المضمون الحال ، ولا يقولون ببطلانه ، وأما دعوى إطلاق اسم الدين على المؤجل قبل ثبوته في الذمة دون الحال فهو تحكم.

والحق أن اسم بيع الدين بالدين لا يتحقق إلا إذا كان العوضان معا دينا قبل المعاوضة ، كما لو باعه الدين الذي في ذمته بدين آخر له في ذمته ، أو في ذمة ثالث أو تبايعا دينا في ذمة غريم لأحدهما بدين في ذمة غريم آخر للآخر ، ونحو ذلك لاقتضاء الباء كون الدين نفسه عوضا ، والمضمون الذي لم يكن ثابتا في الذمة قبل ذلك لا يعد جعله عوضا بيع دين بدين ، وأما ما يقال : اشترى فلان كذا بالدين ، مريدين به أن الثمن في ذمته لم يدفعه ، فهو مجاز يريدون به أن الثمن بقي في ذمته دينا بعد البيع ، ولو لا ذلك لزم مثله في الحال لإطلاقهم فيه ذلك نعم. الدين المبيع يطلق عليه اسم الدين قبل حلوله وبعده ، فلا بد في المنع من دين آخر يقابله ، فظهر أن ما اختاره المصنف من جواز ذلك على كراهية أوضح. انتهى وهو جيد ، الا ان ما ذكره من ان الدين المبيع كالسلم مثلا يطلق عليه اسم الدين بعد الحلول أيضا وان كان هو الظاهر من كلام غيره من الأصحاب أيضا ، الا ان الدين لغة كما صرح به جملة من أرباب اللغة مخصوص بالمؤجل دون الحال ، قال في القاموس : الدين ماله أجل ، وما لا أجل له فقرض.

وقال في النهاية الأثيرية فيه انه نهى عن الكالي أي النسيئة ، بالنسيئة وذلك ان يشترى الرجل شيئا الى أجل ، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضى به فيقول بعينه


إلى أجل آخر بزيادة شي‌ء فيبيعه منه ، ولا يجرى بينهما تقابض.

وقال في كتاب الغريبين قوله تعالى «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ» الدين ما له أجل ، والقرض ما لا أجل له ، وهو عين ما ذكره في القاموس ، الا ان الظاهر من كلام الفيومي في المصباح المنير خلاف ذلك ، قال بعد ذكر كلمات جملة من أهل اللغة في مادة الاشتقاق : تشتمل على إطلاق الدين على القرض ، ثم ذكر قوله سبحانه «إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ» اى تعاملتم بدين من سلم وغيره : ما لفظه فثبت بالآية وبما تقدم ان الدين لغة هو القرض ، وثمن المبيع الى آخره ، وربما ظهر منه الاختصاص بما ذكره ، والحال كما ترى لا يخلو من الاشكال ، ومثله يأتي فيما ألزمهم به من إطلاق الدين على المضمون الحال ، فإنه يمكن الجواب عنه بأنه بناء على ما ذكره من تخصيص الدين بالمؤجل لغة لا يرد ما أورده ، الا ان يكون مراده الإطلاق عرفا كما هو ظاهر سياق الكلام ، وكيف كان فالمسألة لا تخلو عن شوب الاشكال كما تقدمت الإشارة اليه والله العالم.

المسألة الثالثة إذا دفع دون الصفة ورضى المشترى فلا إشكال في الجواز ، وبراءة ذمة البائع ، وان دفع فوق الصفة فظاهر الأصحاب وجوب قبوله ، اما لو دفع أكثر لم يجب قبول الزيادة.

قال في المسالك : الفرق بين العين والصفة ان زيادة الصفة لا تنافي عين الحق ، بل تؤكده ، إذ المفروض كونه مساويا للحق في النوع وغيره ، ويزيد الصفة ، اما العين فهي خارجة عن الحق زائدة عليه ، فلا يجب قبولها ، لأنها عطية جديدة ، ويمكن تخليصها والحق معها غير متعين انتهى.

ولا يخفى ما فيه فان ما ذكره في العين يمكن إجراءه في زيادة الصفة ، فان الحق الذي له موصوف بصفة خاصة ، والمدفوع موصوف بصفة أخرى ، وبه يحصل التغاير ، فكيف لا تنافي عين الحق ، واما قوله في الزيادة فلا يجب قبولها لأنها عطية ، فإنه يجري في زيادة الوصف ، فإنها مشتملة على المنة ، ولا يجب قبولها ايضا كما صرحوا به في غير موضع ،


ومنه قبول ما يوهب مما يستطيع به الحج ، والمنقول عن ابن الجنيد التسوية بين الأمرين في عدم وجوب القبول ، ويدل عليه بعض الاخبار الآتية ، وبالجملة فإنه مع التراضي من الطرفين لا اشكال ولا خلاف في جواز الأخذ ناقصا وزائدا في العين أو الصفة ، وانما الكلام في وجوب القبول وتحتمه شرعا.

والذي وقفت عليه من الاخبار في المقام ما رواه في الكافي عن قتيبة الأعشى (1) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام وانا عنده فقال رجل : ان أخي يختلف الى الجبل فيجلب الغنم فيسلم في الغنم في أسنان معلومة إلى أجل معلوم ، فيعطى الرباع جذاعا مكان الثني فقال له : أبطيبة من نفس صاحبه؟ قال : نعم قال : لا بأس».

وما رواه المشايخ الثلاثة نور الله تعالى مراقدهم ، عن أبى بصير (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السلم في الحيوان؟ قال : ليس به بأس ، قلت : أرأيت أن أسلم في أسنان معلومة أو شي‌ء معلوم من الرقيق فأعطاه دون شرطه أو فوقه بطيبة النفس منهم؟ قال : لا بأس».

وما رواه في الكافي عن الحلبي (3) في الصحيح قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، عن الرجل يسلم في وصفاء أسنان معلومة ولون معلوم ثم يعطى دون شرطه أو فوقه فقال : إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس». ورواه الشيخ عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وعن معاوية بن عمار (4) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل أسلف في وصفاء أسنان معلومة وغير معلومة ثم يعطى دون شرطه؟ قال : إذا كان بطيبة النفس منك ومنه فلا بأس ، الى أن قال : ولا يأخذ دون شرطه إلا بطيبة نفس صاحبه».

وعن الحلبي (5) في الصحيح ورواه في الفقيه أيضا عن الحلبي في الصحيح

__________________

(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 222 التهذيب ج 7 ص 46.

(3) الكافي ج 5 ص 221 التهذيب ج 7 ص 46 و 41.

(4 و 5) الكافي ج 5 ص 221.


عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، في حديث قد تقدم قال : «ويأخذون دون شرطهم ولا يأخذون فوق شرطهم ،».

ورواه الشيخ في الصحيح أيضا عن سليمان بن خالد (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله ، ويمكن الاستدلال بهذا الخبر لما نقل آنفا عن ابن الجنيد من عدم وجوب أخذ ما زاد على الوصف ، والمراد أنه لا يجب عليهم قبول ما زاد على الوصف ، ولا ينافيه ما تقدم في صحيحة الحلبي من نفى البأس مع طيبة النفس منهما إذا كان فوقه ، لان الكلام كما عرفت في وجوب الأخذ عليه لا في الجواز ، بل هذه الرواية أيضا ظاهرة فيما ذكره ابن الجنيد حيث شرط فيها أخذ ما فوق الشرط بطيبة نفسي الآخذ ، فلا يجبر عليه ، كما هو ظاهر كلامهم من وجوب القبول.

وبالجملة فإن الظاهر هو قوة ما ذهب اليه ابن الجنيد لما عرفت من ضعف التعليل الذي ذكره في المسالك ، مع اعتضاد قول ابن الجنيد بظاهر الصحيحة المذكورة ، ولو دفع اليه ما هو على الصفة المشروطة وجب القبول أو الإبراء من حقه ، ولو امتنع من الأمرين جبره الحاكم ، والا قبضه له إذا سأل المسلم اليه ذلك ، والظاهر انه يبرئ لو عزله له ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في المسألة الثالثة (2) من المطلب الأول في النقد والنسيئة من الفصل الرابع في أحكام العقود ومتى قبضه برئت ذمة المسلم إليه.

المسألة الرابعة لو وجد في المبيع أو الثمن عيب بعد القبض فهنا مقامان الأول ـ لو وجد بالمبيع عيبا بعد القبض فإنه يتخير بين الرضاء به مجانا وبين رده ، فيرجع الحق إلى ذمة المسلم اليه ، بمعنى أن المدفوع لا يتعين بمجرد الدفع ، وان كان من الجنس وعلى الوصف ، للعيب المذكور ، لأنه إنما أسلفه في صحيح ، ولا أرش هنا ، لانه لم يتعين الحق حتى يجب قبوله ويجبر بالأرش ، بل الحق في الذمة أمر كلي ، ودفع هذا المعيب عنه بعد ظهور العيب يكون ملكا متزلزلا يتخير فيه بين الرضاء به

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 32 ـ.

(2) ح 19 ص 131.


مجانا فيستقر ملكه عليه ، وبين أن يرده ، فيرجع الحق إلى الذمة سليما بعد ان خرج خروجا متزلزلا.

بقي الكلام في النماء المنفصل المتجدد زمن الخيار بعد القبض وقبل الرد متى اختار الرد ، والظاهر من كلامهم أنه للقابض ، فإنه متجدد في ملكه وان كان متزلزلا ، كنظائره من النماء المتجدد زمن الخيار ، واما المتصل كالسمن فإنه تابع للعين.

الثاني : قالوا : إذا ظهر في الثمن بعد قبضه عيب فان كان من غير الجنس كان يكون نحاسا والثمن فضة ، بطل العقد ، وان كان من جنسه رجع بالأرش ان اختار البيع ، وان اختار الرد كان له ذلك ، وهو لا يخلو من إجمال ، وتفصيل الكلام في ذلك بمعونة ما تقدم في باب الصرف أن يقال هنا ان العيب اما أن يكون من الجنس أو من غيره ، وعلى كل من التقديرين فاما أن يكون في جملة الثمن أو بعضه ، وعلى كل من هذه التقادير اما ان يظهر قبل التفرق أو بعده ، وعلى كل من هذه التقادير اما أن يكون الثمن معينا أو كليا.

وجملة الأقسام تنتهي إلى ستة عشر ، أحدها ان يكون العيب من غير الجنس ، ويكون في جملة الثمن بعد التفرق ، وكان معينا ولا إشكال في البطلان هنا ، لانتفاء شرط السلم ، وهو القبض قبل التفرق ، كما تقدم.

ثانيها : الصورة بحالها ولكن قبل التفرق ، والحكم هو المطالبة بالبدل قبل التفرق.

ثالثها : الصورة الأولى بحالها ولكن كان العيب في بعض الثمن ، والحكم فيها صحة البيع فيما هو من الجنس ، والبطلان في غيره.

رابعها : الصورة بحالها ولكن قبل التفرق ، والحكم فيها الصحة فيما هو من الجنس ، والمطالبة بالبدل قبل التفرق.

خامسها : العيب من غير الجنس في جملة الثمن بعد التفرق ، ولكن الثمن كلي في


الذمة وحكمها كالصورة الأولى لعدم العيب للعلة المذكورة ثمة.

سادسها : الصورة بحالها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الصورة الثانية سابعها : العيب من غير الجنس بعد التفرق وكون الثمن كليا لكن العيب في بعض الثمن ، والحكم فيها كما في الصورة الثالثة.

ثامنها : الصورة كسابقها ولكن قبل التفرق والحكم فيها كما في الرابعة ، فهذه ثمان صور فيما لو كان من غير الجنس.

تاسعها : العيب من الجنس كخشونة الجوهر واضطراب السكة ونحوهما وكون ذلك في جملة الثمن بعد التفرق ، مع كون الثمن معينا والحكم فيها التخيير بين الرد والرضاع مع الأرش ، كما تقدم في كلامهم.

عاشرها : الصورة بحالها لكن مع كون الثمن كليا في الذمة ، فهل يكون العقد صحيحا لحصول التقابض سابقا ولو في الجملة أو يكون باطلا لعدم التقابض حقيقة قبل التفرق؟ اشكال تقدم بيانه في المسألة الحادية عشر من مسائل الصرف.

الحادي عشر : الصورة كسابقتها لكن ظهور العيب قبل التفرق ، والحكم هنا وجوب الإبدال ، لأن الثمن أمر كلي في الذمة محمول على الصحيح السالم من العيب ، فمتى كان المدفوع معيبا وجب رده قبل التفرق ، لان المقبوض في حكم العدم ، ويرجع الحق إلى الذمة ، فيجب الأبدال ولا خيار هنا ولا أرش ، لاختصاص ذلك بما إذا كان الثمن معينا.

الثانية عشر : الصورة الاولى من صور العيب الجنسي لكن مع ظهور العيب قبل التفرق ، والحكم فيها كما في تلك الصورة من التخيير ، وهذه الصور الأربع في العيب الجنسي مبنية على ما إذا كان العيب في جملة الثمن ، وقس عليها ما إذا كان العيب في بعض الثمن ، فإنه يأتي فيه الصور الأربع المذكورة ، والحكم فيما قابل الصحيح صحة البيع ، وفيما قابل المعيب ما تقدم في كل من الصور الأربع من الخيار في الاولى ، والاشكال في الثانية ، ووجوب الإبدال في الثالثة ، والتخيير في الرابعة.


المسألة الخامسة لو اختلفا في قبض الثمن هل كان قبل التفرق أو بعده؟ أو ادعى البائع انه قبضه ثم رده قبل التفرق.

والكلام هنا في موضعين الأول ـ ما إذا اختلفا في القبض هل هو قبل التفرق أو بعده؟ ومقتضى هذا الكلام أنهما قد اتفقا على القبض ، الا أن أحدهما ادعى أن القبض وقع قبل التفرق ، فيصح العقد حينئذ لوجود شرطه.

والأخر ادعى انه بعده فيبطل ، ومقتضى قواعد الأصحاب أن القول قول مدعى الصحة ، وبه أفتوا في المسألة ، أما لو اختلفا في أصل قبض الثمن ، فان القول قول منكر القبض وان تفرقا واستلزم البطلان ، والنزاع في الحقيقة في كل من المسألتين يرجع الى طرو المفسد ، والا فهما متفقان على أصل الصحة ، ولا نزاع بينهما فيها ، لاتفاقهما على وقوع العقد.

ولكن في المسألة الأولى ادعى أحدهما أن القبض انما وقع بعد التفرق ، وهو موجب لبطلان العقد ، وفي الثانية ادعى البائع عدم القبض ، وحصول التفرق الموجب للبطلان ، وفي الأولى قدم قول مدعى الصحة المتفق عليها ، لأن الأصل عدم طرو المفسد ، وفي الثانية المقتضي للفساد قائم وهو التفرق ، ويترتب على ما هو الأصل من عدم قبض الثمن ، فان مقتضى الأصل ذلك ، فمن أجل ذلك حكم بالبطلان.

هذا مع عدم البينة ، ولو أقام كل منهما بينة بالنسبة إلى المسألة الأولى ، بنى على تقدم بينة الداخل ـ وهو هنا مدعى الصحة ـ أو الخارج ، واختار في المسالك الثاني ، ونقل عن العلامة تقديم بينة الأول لقوة جانبه بدعوى أصالة عدم طرو المفسد ، ولكون دعواه مثبتة ، والأخرى نافية ، وبينة الإثبات مقدمة.

الثاني لو قال البائع : قبضت الثمن ثم رددته إليك ، وأنكر المشتري القبض ، وظاهرهم أن القول قول البائع مع يمينه ، مراعاة لجانب الصحة ، وتفصيل ذلك أنهما الان متفقان على أن الثمن عند المشترى ، اما في ذمته ، أو أمانة عنده (1) وانما

__________________

(1) أقول كون الثمن في ذمته بناء على إنكار المشتري الإقباض ، وكونه عنده يعني امانة بناء على دعوى البائع أنه رده عليه ـ منه رحمه‌الله.


اختلفا في كون ذلك على وجه مفسد للعقد بأن لا يكون البائع قبضه بل بقي في ذمة المشترى ، فلم يحصل التقابض ، أو على وجه مصحح بأن يكون قبضه البائع ثم رده اليه ، والأصحاب قدموا قول البائع رعاية لصحة العقد.

وقد يقال : ان أصالة صحة العقد معارضة بأن الأصل عدم حصول القبض ، الا انه يمكن أن يقال أيضا أنه مع تعارض الأصلين المذكورين يحصل الشك في طرو المفسد ، والأصل عدمه ، أو يقال المقتضى للفساد مشكوك فيه ، إذ لا يعلم ان التفرق كان قبل القبض ، والأصل عدمه ، فيتمسك بأصل الصحة.

وكيف كان فإنه يبقى هنا إشكال في المقام ، وهو ان دعوى البائع مشتملة على شيئين ، قبض الثمن ورده ، وانما قدم قوله في القبض مراعاة لصحة العقد ، وأما في الرد فمقتضى القواعد الشرعية أنه غير مقبول كنظائره ، إذ لا مدخل له في الصحة وحينئذ فمع قبوله في القبض هل له مطالبة المشتري بالثمن أم لا؟ إشكال ينشأ من عدم قبوله في الرد مع اعترافه بحصول القبض ، فليس له المطالبة ، ومن اتفاق المتبايعين على أن الثمن عند المشترى ، اما على دعوى البائع فظاهر ، وأما على دعوى المشترى فلاعترافه بعدم الإقباض ، فإذا قدم قول البائع في صحة العقد ألزم المشتري بالثمن ، فيجوز المطالبة حينئذ ، الا أنه يشكل أيضا بأن المشتري بناء على فرض المسألة لا يدعى شيئا في ذمة البائع ، لاعترافه بفساد البيع ، وأنه لم يقبضه الثمن قبل التفرق ، فلا تبقى الا دعوى البائع ، وهي مشتملة على الاعتراف بالقبض ، ودعوى الرد ، والثانية غير مقبول بمقتضى القواعد الشرعية فكيف تجوز له المطالبة.

وبالجملة فأمثال هذه الفروع الخالية من النصوص على العموم والخصوص سيما مع تعارض الاحتمالات العقلية فيها محل الاشكال ، وان كان الأقرب بالنظر الى هذه التعليلات هو عدم المطالبة ، إلزاما له بالاعتراف بالقبض الذي بنوا عليه صحة العقد ، وعدم سماع دعوى الرد ، والله العالم.


الفصل الحادي عشر في بيع الغرر والمجازفة

وفيه مسائل الاولى قال الشيخ في النهاية من اشترى شيئا بحكم نفسه ولم يذكر الثمن بعينه كان البيع باطلا ، فان هلك في يد المبتاع كان عليه قيمته يوم ابتياعه ، الا أن يحكم على نفسه بأكثر من ذلك ، فيلزمه ما حكم به دون القيمة ، وان كان الشي‌ء قائما بعينه كان لصاحبه انتزاعه من يد المبتاع ، فإن أحدث المبتاع فيه حدثا نقص به ثمنه كان له انتزاعه منه وأرش ما أحدث فيه ، فان كان الحدث يزيد في قيمته وأراد انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه فيه ، فان ابتاعه بحكم البائع فحكم بأقل من قيمته كان ذلك ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وان حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع ، الا أن يتبرع المبتاع بالتزام ذلك على نفسه ، فان لم يفعل لم يكن عليه شي‌ء وكذا قال الشيخ المفيد وابن البراج وأبو الصلاح على ما نقله في المختلف.

وقال سلار : من لم يسم ثمنا بطل بيعه وشراؤه فإن هلك المبيع في يد من ابتاع ولم يسم الثمن كان عليه قيمته يوم أخذه ، فإن كان باقيا فللبائع أخذه ، فإن كان قد أحدث فيه حدثا فان نقصت به قيمته فللبائع أرش النقصان ، وان زادت فالأرش للمبتاع.

وقال العلامة في المختلف : لا يجوز البيع بحكم أحدهما في الثمن ، فان بيع كذلك بطل البيع ، ولو حكم الحاكم منهما بأي شي‌ء كان لم يلزم بل يبطل البيع ، فان كانت السلعة قائمة استردها البائع ، وان كانت تالفة وجب على المشترى قيمتها ولا اعتبار بما يحكم به أحدهما ، هذا إذا كانت من ذوات القيم ، وان كانت من ذوات الأمثال وجب عليه مثلها ، فان تعذر المثل فقيمة المثل يوم الإعواز ثم قال : وقال ابن إدريس كما قلناه إلا في موضعين.

أحدهما أن مع التلف ولا مثل يجب عليه أكثر القيم من وقت القبض الى وقت التلف كالغصب.


والثاني ـ أن الحدث الذي أبره المشترى ان كان عين مال له أخذه ، وان كان فعلا لم يكن له الرجوع على البائع بشي‌ء ، ثم انه احتج في المختلف على البطلان ، قال : لنا على بطلان البيع مع الجهالة الإجماع عليه ، والنهى عن الغرر والحكم غير لازم ، إذ ذلك لا يصير ما ليس بثابت في الذمة ثابتا ، أقول : الظاهر من كلام الشيخ ومن تبعه ممن تقدم ذكره هو التفصيل في البيع بحكم أحدهما ، وأنه ان كان الحاكم هو المشترى فالبيع عندهم باطل ، وان كان الحاكم هو البائع ، فإن حكم بأقل من قيمته كان البيع ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وان حكم بأكثر فالبيع أيضا صحيح ولكن ليس له أكثر من القيمة في حال البيع ، الا أن يرضى المشترى بتلك الزيادة ، وظاهر ابن إدريس ومن تأخر عنه كالمحقق والعلامة وغيرهما من المتأخرين هو البطلان مطلقا.

وابن إدريس قد خالف الشيخ في مواضع ، منها في قوله فان هلك في يد المبتاع كان عليه قيمة يوم ابتاعه ، فقال : هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والذي يقتضيه أصول المذهب أن الشي‌ء ان كان له مثل فعليه مثله لا قيمته ، وان أعوز المثل فعليه ثمن المثل يوم الإعواز ، وان كان المبيع مما لا مثل له فإنه يجب عليه قيمة أكثر ما كانت الى يوم الهلاك ، لان هذا بيع فاسد ، والبيع الفاسد عند المحصلين يجرى مجرى الغصب في الضمان.

أقول : ما ذكره من التفصيل بالمثلي والقيمي جيد كما هو المتكرر في كلامهم ، وأما تعيين وقت القيمة فقد تقدم الكلام فيه ، ومنها في قول الشيخ فان كان الحدث يزيد في قيمته وأراد انتزاعه من يده كان عليه أن يرد على المبتاع قيمة الزيادة لحدثه.

فقال : هكذا قال شيخنا في نهايته ، والاولى أن يقسم الحدث فيقول : ان كان آثار أفعال لا أعيان أموال ، فلا يرد على المبتاع شي‌ء ، وان كان الحدث أعيان أموال فهو على ما قاله رحمه‌الله.


أقول : وبما أطلقه الشيخ هنا أفتى المحقق في الشرائع ، ووافقه في المسالك لكن قيده بصورة الجهل ، والظاهر أن مراده الجهل بصحة البيع ثم قال : أما مع علمه فليس له الا الزيادة العينية التي يمكن فصلها ، فالوصفية كالصنعة لا يستحق بسببها شي‌ء ، وبالجملة حكمه حكم الغاصب ، وهذا هو أصح الأقوال في المسئلة انتهى : وحينئذ يصير هذا قولا ثالثا في المسألة.

ومنها في قوله «فان ابتاعه بحكم البائع فحكم بأقل من قيمته» الى آخر الكلام فقال : هكذا أورده في نهايته والاولى أن يقال البيع باطل ، لان كل مبيع لم يذكر فيه الثمن يكون باطلا بغير خلاف بين المسلمين ، فإذا كان كذلك فان كان باقيا بعينه فللبائع انتزاعه من يد المشترى ، وان كان تالفا وتحاكما فلصاحبه مثله ان كان له مثل ، وان كان لا مثل له فله قيمته أكثر القيم الى يوم الهلاك ، لا قيمته في حال البيع ، فإن أقر البائع بشي‌ء لزمه إقراره على نفسه ، الا أن يقر بأزيد من قيمته التي يوجبها الشارع ، وانما هذه أخبار آحاد أوردها في نهايته إيرادا لا اعتقادا انتهى.

وأنت خبير بأنه قد تقدم في المسئلة السابعة من مسائل المقام الثالث من الفصل الأول نقل صحيحة رفاعة الدالة على بيع الجارية بحكم المشترى وعدم قبول البائع لما حكم به بعد أن دفع الجارية إلى المشترى ، ووطأها المشترى ، وحكمه عليه‌السلام ، في الصورة المذكورة بأن يقوم الجارية قيمة عادلة ، فإن كان قيمتها أكثر مما بعث اليه كان عليه أن يرد عليه ما نقص من القيمة ، وان كان قيمتها أقل مما بعث فهو له ، ولا يسترد منه شيئا ، ولكن الأصحاب لم يذكروها ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك بما خطر بالبال العليل ، والفكر الكليل.

وأما ما ذكره الشيخ هنا من الصحة في صورة حكم البائع على الوجه الذي ذكره فلم أقف فيه على دليل ، واما ما ذكروه من الضمان على المشترى للقاعدة المقررة عندهم «من ان كل عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» فقد تقدم الكلام


فيه أيضا في بعض المواضع المشار إليها آنفا.

الثانية قال في المختلف : لا خلاف بيننا في ان الثمن إذا كان مجهولا بطل البيع الا عن ابن الجنيد ـ فإنه قال : لو وقع على مقدار معلوم بينهما ، والثمن مجهول لأحدهما جاز إذا لم يكن بواجبه ، وكان للمشتري الخيار إذا علم ، وذلك كقول الرجل يعنى كر طعام بسعر ما بعت ، فاما ان جهلا جميعا قدر الثمن وقت العقد لم يجز ، وكان البيع منفسخا ـ والا من السيد المرتضى في المسائل الناصرية ، فإنه قال : لا يشترط العلم برأس مال السلم إذا كان معلوما بالمشاهدة مضبوطا بالمعاينة ـ والا من الشيخ في المبسوط في كتاب الإجارة فإنه قال : إذا باع شيئا بثمن جزاف جاز إذا كان معلوما مشاهدا وان لم يعلم وزنه ، وكذا مال السلم ، لنا انه غرر فيكون منهيا عنه انتهى.

أقول ـ ونحو هذا الكلام ذكر في الدروس ، وقد تقدم نقل عبارته ، والكلام في حكم هذه المسألة صحة وبطلانا تقدم في المسألة السابعة المشار إليها في سابق هذه المسألة.

الثالثة قال في المختلف : بيع الصبرة باطل الا ان يعلما قدرها أو يعلمه أحدهما ويخبر الآخر حالة العقد ، ولو جهلاها وقت العقد أو أحدهما بطل ، سواء شاهداها أم لا ، وسواء كالاها بعد ذلك أو لا ، ذهب إليه علماؤنا أجمع ، إلا ابن الجنيد فإنه جوز ذلك ، والشيخ قال في المبسوط : إذا قال : بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم صح البيع ، لأن الصبرة مشاهدة ، ومشاهدة المبيع تغني عن معرفة مقداره ، وقد روى أن ما يباع كيلا لا يباع جزافا وهو الأقوى عندي ، ثم فرع على الوجهين بعض الفروع وهو مشعر بتردده ، وان قوى أحدهما ، ورده المختلف بأنه غرر منهي عنه بالإجماع ، وجزم في الخلاف بالبطلان.

أقول وقد تقدم الكلام في ذلك في المسألة المشار إليها آنفا فيما يصح بيعه من صور بيع الصبرة وما يبطل.


الرابعة قال الشيخ في النهاية : لا بأس أن يعطى الإنسان الغنم والبقر بالضريبة مدة من الزمان بشي‌ء من الدراهم والدنانير والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة أجود في الاحتياط ، ونقل عن المختلف عن ابن إدريس أنه لا يجوز ذلك ، وقال في المختلف بعد نقل ذلك : والتحقيق أن هذا ليس ببيع ، وانما هو نوع معاوضة ومراضاة غير لازمة ، بل سائغة ولا منع في ذلك.

أقول : والذي حضرني من الاخبار الواردة في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (1) عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كل شاة كذا وكذا قال : لا بأس بالدراهم ، ولست أحب أن يكون بالسمن».

وما رواه في الكافي عن إبراهيم بن ميمون (2) «أنه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : نعطي الراعي الغنم بالجبل يرعاها وله أصوافها وألبانها ويعطينا الراعي لكل شاة درهما قال : ليس بذلك بأس ، فقلت : ان أهل المسجد يقولون : لا يجوز لان منها ما ليس له صوف ولا لبن ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وهل يطيبه الا ذاك يذهب بعضه ويبقى بعض».

ورواه في التهذيب مثله. وما رواه في الكافي والتهذيب عن مدرك بن الهزهاز (3) عن ابى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يكون له الغنم فيعطيها بضريبة شيئا معلوما من الصوف أو السمن أو الدراهم فقال : لا بأس بالدراهم وكره السمن».

وما روياه في الكتابين ايضا عن عبد الله بن سنان (4) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ، عن رجل دفع الى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكل شاة كذا وكذا في كل شهر قال : لا بأس بالدراهم ، واما السمن فما أحب ذلك الا ان تكون حوالب فلا بأس بذلك».

__________________

(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 223 التهذيب ج 7 ص 127.

(3 ـ 4) الكافي ج 5 ص 224 التهذيب ج 7 ص 127.


وما رواه في التهذيب عن إسماعيل بن الفضل (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يدفع الى الرجل بقرا وغنما على ان يدفع اليه كل سنة من ألبانها وأولادها كذا وكذا قال : ذلك مكروه».

أقول : الظاهر تقييد ما أطلق من الاخبار في كراهة أخذ الثمن بصحيحة عبد الله بن سنان الدالة على الجواز إذا كانت حوالب ، ويستفاد من الجميع ان المراد السمن من تلك الغنم التي يدفعها للراعي ، والمستفاد من هذه الاخبار بعد ضم بعضها الى بعض هو أنه يجوز أن يعطى الغنم ونحوها الى من يرعاها بضريبة يضربها المالك على الراعي من نقد أو سمن بالشرط المتقدم ، وان ما عدا ما شرطه مما حصل من الغنم من لبن ودهن وصوف ونحو ذلك فهو للراعي في مقابلة قيامه بها وحفظها ودورانه بها في مواضع القطر والعلف ، وحينئذ يكون ذلك أجرة عمله.

لكن يشكل ذلك على قواعد الأصحاب من وجوب معلومية الأجرة وتعيينها ، والمفهوم من كلام ابن إدريس ان منعه لذلك ، لان دفعها على هذا الوجه من قبيل الإجارة ، وان الإجارة هنا باطلة ، لأن ثمرة الإجارة تمليك المنفعة ، دون العين ، والذي أخذه الراعي انما هو من الأعيان لا المنافع.

قال في السرائر : وقد روى «انه لا بأس ان يعطى الإنسان الغنم والبقر بالضريبة مدة من الزمان بشي‌ء من الدراهم والدنانير والسمن» وإعطاء ذلك بالذهب والفضة أجود في الاحتياط ويمكن ان يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه وهو ان يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان على ما وردت به الاخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأن الإجارة لا تصح هيهنا ، لأن الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة دون الأعيان منها ، والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لانه غرر وبيع مجهول والرسول عليه‌السلام نهى عن بيع الغرر ، فمن اثبت ذلك عقدا يحتاج الى دليل شرعي والذي ورد فيه اخبار

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 121.


آحاد شذاذ ، وقد بينا أن اخبار الآحاد عند أصحابنا لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى إلى الأدلة القاطعة انتهى.

والمراد من قوله «ويمكن ان يعمل بهذه الرواية الى آخره ، ان المالك يبيع الراعي ما في ضروع الغنم من الألبان مدة من الزمان بضميمة يضمها الى ذلك من لبن يحلبه منها أو عرض ، فتصير الألبان أو ما يخرج منها من سمن ونحوه للراعي بالبيع ، ويشترط عليه المالك بما يريد من سمن أو لبن أو دراهم ، فيكون ما يأخذه الراعي من السمن والألبان حلالا خاليا من الشبهة ، بخلاف ما لو لم يعمل كذلك ، فإنه لا وجه لاستحقاقه شيئا منها حتى انه يشترط عليه المالك بعضا ويترك له بعضا ، لأن أخذه للغنم بطريق الإجارة لها أو لالبانها غير صحيح ، لما ذكر من أن الإجارة انما تفيد تمليك المنفعة لا العين ، ولهذا ان العلامة إنما تفصى عن ذلك بان هذه المعاملة ليست من قبيل البيع ، ولا الإجارة ، وانما هي نوع معاوضة وتراض من الطرفين ، وان كان غير لازم شرعا لو أريد فسخه وإبطاله ، وهو جيد وقوفا على ظواهر الأخبار المذكورة والله العالم.

الخامسة قال الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع اللبن في الضرع ، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا واشتراه مع ما بقي منه في الضرع في الحال أو مدة من الزمان ، وان جعل معه عرضا آخر كان أحوط ، وبه قال ابن البراج وابن حمزة وابن الجنيد ، وقال الشيخ المفيد : لا يجوز بيع اللبن من الغنم الى وقت انقطاعه ، لان ذلك جزاف ومجهول ، ولا بأس ببيعه أرطالا مسماة ، وبه قال أبو الصلاح ، نقل جميع ذلك العلامة في المختلف.

ثم قال : وقال ابن إدريس لا يجوز ذلك ، وهو المعتمد ، لنا انه بيع مجهول ضم الى معلوم ، وكان المجهول أصلا في البيع ، فلم يصح لتطرق الجهالة ، إلى المبيع ، إذ انضمام المعلوم اليه لا يصير جملة المبيع ـ بل المقصود الذاتي ـ معلوما ، فيكون غررا انتهى.


أقول أما ما نقله عن ابن إدريس ففيه أن الذي وقفت عليه في كتابه ظاهر بل صريح في موافقة كلام الشيخ المتقدم ، حيث قال في باب بيع الغرر والمجازفة ما لفظه : ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك حلب منه شيئا واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال أو مدة من الزمان على ما رواه أصحابنا ، وان جعل معه عرضا آخرا كان أحوط انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر الجميع الاتفاق على المنع من بيعه في الضروع حالا من غير ضم شي‌ء الا أن الشيخ ومن تبعه جوزوه مع الضميمة ، سواء كان بالنسبة إلى الموجود في الضروع وقت العقد ، أو ما يتجدد في الزمان المستقبلة ، والشيخ المفيد جوز ذلك أرطالا معينة ، ولم يتعرض لبيعه مع الضميمة نفيا ولا إثباتا ، والعلامة على الجواز مع الضميمة لكن بشرط ان يكون الضميمة هي المقصودة بالبيع ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

قال في المسالك في مسألة بيع السمك في الآجام مع القصب : والقول بالجواز مع الضميمة مذهب الشيخ وجماعة ، استنادا الى أخبار ضعيفة ، والذي أجازه المتأخرون أن المقصود بالبيع ان كان هو القصب ، وجعل السمك تابعا له صح البيع ، وان انعكس أو كانا مقصودين لم يصح ، وهو الأقوى ، وكذا القول في كل مجهول ضم الى معلوم كالحمل واللبن في الضرع وغيرهما انتهى.

ثم ان الذي وقفت عليه من الاخبار هنا اما بالنسبة الى ما ذكره الشيخ المفيد (نور الله تعالى مرقده) فهو ما رواه في الكافي والفقيه عن أبى ولاد الحناط (1) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له الغنم يحلبها لها ألبان كثيرة في كل يوم ما تقول فيمن يشترى منه الخمسمائة رطل أو أكثر من ذلك ، المأة رطل بكذا وكذا درهما فيأخذ منه في كل يوم أرطالا حتى يستوفى ما يشترى منه؟ قال : لا بأس بهذا ونحوه». ورواه الشيخ في التهذيب عن أبى ولاد في الموثق مثله على اختلاف

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 222 ، الفقيه ج 3 ص 145 التهذيب ج 7 ص 126.


في ألفاظه :

وهذا الخبر يحتمل أن يكون البيع حالا وان كان يأخذ منه في كل يوم ما يريده ويحتمل أن يكون مؤجلا بآجال مختلفة فيكون من باب السلم ، ولعل الأظهر الأول كما هو ظاهر عبارة الشيخ المفيد ، والرواية ظاهر الدلالة على ما ذكره (قدس‌سره).

وأما ما يدل على ما ذكره الشيخ فهو ما رواه في الموثق ومثله الصدوق في الفقيه عن سماعة (1) قال : «سألته عن اللبن يشترى وهو في الضرع فقال : لا ، الا أن يحلب لك منه سكرجة فتقول : اشترى منك هذا الذي في السكرجة وما بقي في ضروعها بثمن مسمى وان لم يكن في الضرع شي‌ء كان ما في السكرجة».

والسكرجة بضم السين والكاف والراء المشددة إناء صغير فارسي معرب ، وأجاب العلامة في المختلف ـ ومثله غيره ممن تأخر ـ عن هذه الرواية بضعف السند ، وأنها غير مسندة الى امام ، وفيه ما لا يخفى على المتأمل المنصف ، فإنهم قد صرحوا بالاعتماد على مضمرات سماعة وغيره ، واستدلوا بها في غير موضع ، ثم قال في المختلف : ويحمل على ما إذا كان المحلوب يقارب الثمن ، ويصير أصلا.

واما ما ذكروه في اشتراط صحة البيع بالضميمة بأن يكون الضميمة هي المقصودة بالبيع دون المضموم اليه فلا إشعار في شي‌ء من روايات الضمائم على تعددها وكثرتها بذلك ، بل الظاهر منها انما هو العكس ، وهو أن المقصود بالبيع انما هو المضموم اليه ، وانما جعلت الضميمة تفاريا من ذهاب الثمن مجانا ، على تقدير عدم التمكن من البيع المقصود بالذات ، ولذا اعتبروا في الضميمة بأن يكون مما يتمول في الجملة وان قل ، وكان الثمن في غاية الكثرة كما لا يخفى على من نظر في تلك الاخبار بعين التأمل والاعتبار.

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 123 الفقيه ج 3 ص 141.


ومنها أخبار بيع الآبق وغيرها ، وقد تقدم في المسألة السابعة من المقام الثالث من مقامات الفصل الأول ما يوضح ما ذكرناه ، ومن اخبار المسألة أيضا ما رواه في الكافي عن عيص بن القاسم (1) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل له نعم يبيع ألبانها بغير كيل قال : نعم حتى ينقطع أو شي‌ء منها». وفيه إجمال موجب لتعدد الاحتمال وقد تقدم الكلام في المسألة المشار إليها آنفا والله العالم.

السادسة اختلف الأصحاب في بيع الصوف على ظهر الغنم مع المشاهدة ، فجوزه الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) ومنعه الشيخ الا أن يضم اليه غيره ، وتبعه أبو الصلاح وابن البراج ، واختار العلامة في المختلف مذهب الشيخ المفيد ، وكذلك ابن إدريس نظرا إلى أنه مشاهد ، والوزن فيه حال كونه على ظهور الغنم غير معتبر ، وإلا لما جاز بيع الثمر على رءوس الأشجار ، وان كانت موزونة أو مكيلة بعد القطع ، وصرح المحقق في الشرائع بالمنع وان ضم اليه غيره ، وحينئذ ففي المسألة أقوال ثلاثة وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة أيضا في الموضع الثاني عشر من المسألة المتقدم ذكرها قريبا.

السابعة قال الشيخ في النهاية : لا يجوز بيع ما في بطون الانعام والأغنام وغيرهما من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ، فان لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في مقابل الآخر ، وتبعه ابن البراج وابن حمزة ، وقال ابن إدريس : لا يجوز بيع ما في بطون الانعام والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك جعل معه شيئا آخر ليسلم من الغرر ، وان لم يكن ما في البطون حاصلا كان الثمن في الأخر على ما روى في الاخبار من طريق الآحاد ، والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع لأنه غرر وجزاف منهي عنهما ، وقد روى أن من اشترى أصواف الغنم مع ما في بطونها في عقد واحد كان البيع صحيحا ماضيا ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنها زيادة غرر إلى

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 193 التهذيب ج 7 ص 123.


غرر انتهى.

أقول : ما ذكره أخيرا من زيادة غرر الى غرر في الصورة المذكورة انما يتم بناء على المنع من بيع الصوف على ظهور الغنم ، كما هو أحد الأقوال في المسألة وأما على ما اختاره من الجواز كما قدمنا نقله عنه فليس الا غرر واحد ، كما لا يخفى.

والرواية التي أشار إليها أخيرا هي رواية إبراهيم الكرخي (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مأة نعجة وما في بطونها من حمل بكذا وكذا درهما؟ فقال : لا بأس ان لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف».

واما الاخبار التي أشار إليها وطعن فيها بأنها من طريق الآحاد فلم نقف على شي‌ء منها سوى الرواية المذكورة ، وبالجملة فإن ما ذكره جيد على أصله الغير الأصيل ، وهذه الرواية المذكورة مما يؤيد مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه في جواز بيع الصوف على ظهور الانعام بمجرد المشاهدة ، لأن جعله ضميمة لما لا يجوز بيعه لولا ذلك أظهر ظاهر في جواز بيعه وحده خاصة كما هو شأن سائر الضمائم ، فلا يتوهم من الرواية الدالة على مذهب الشيخ في تلك المسألة ، بمعنى جعل الحمل ضميمة إلى جواز بيع الصوف كما يشعر به كلام العلامة في المختلف ، لان الحمل لا يجوز بيعه وحده ، ومن شأن الضميمة صحة بيعها وحدها ، لتكون مصححة لبيع ذلك المجهول.

ثم انه لا يخفى أن ما ذكره ابن إدريس من عدم جواز البيع بالضميمة في هذا الموضع يجري في جميع ما ورد جواز بيعه بالضمائم ، لعدم جواز بيعه منفردا مع تكاثر الاخبار بذلك في جملة من المواضع.

وفي ارتكاب ردها من الشناعة ما لا يرتكبه محصل ولا متدين ، لان مقتضى كلامه أن العلة المانعة من جواز بيعه منفردا وهو الغرر هنا باقية مع الضميمة ، فكذلك العلة

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 194 التهذيب ج 7 ص 123 الفقيه ج 3 ص 146.


المانعة من بيع الآبق مثلا ، وهو عدم التسليم الى المشتري باقية ، وهكذا في كل موضع ورد صحة بيعه بالضميمة ، كما تقدم في فصل بيع الثمار ايضا وغيره ، مع أنه في بيع الآبق جوزه مع الضميمة (1) وهو ترجيح بغير مرجح ، وسؤال الفرق متجه.

الثامنة قال الشيخ في النهاية : لا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشي‌ء معلوم جزية رؤس أهل الذمة ، وخراج الأرضين وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك إذا كان قد أدرك شي‌ء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ولا يجوز ذلك ما لم يدرك منه شي‌ء على حال ، ومنع ابن إدريس من ذلك ، قال : لان هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا الى أخبار الآحاد ، وظاهر العلامة في المختلف موافقة ابن إدريس هنا.

أقول والذي يدل على ما ذكره الشيخ ما رواه الشيخ والكليني عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يتقبل بجزية رؤس الرجال وبخراج النخل والآجام والطير ، وهو لا يدرى لعله لا يكون من هذا شي‌ء أبدا أو يكون؟ قال : إذا علم من ذلك شيئا واحدا أنه قد أدرك اشتراه وتقبل به».

وما رواه في الفقيه عن أبان بن عثمان عن إسماعيل بن الفضل (3) عن ابى عبد الله (ع) قال : «سالته عن الرجل يتقبل خراج الرجال وجزية رؤوسهم وخراج النخل والشجر والآجام والمصايد والسمك والطير ولا يدرى هذا لا يكون أبدا أو يكون أيشتريه وفي أي زمان يشتريه ويتقبل به منه ، فقال : إذا كان علمت ان من ذلك شيئا واحدا قد أدرك فاشتراه وتقبل به». وطريق الصدوق الى أبان بن عثمان هنا صحيح

__________________

(1) قال : ولا يجوز أن يشترى الإنسان عبدا آبقا على الانفراد فان اشتراه لم ينعقد البيع إلا إذا اشتراه مع شي‌ء آخر من متاع أو غيره منضم الى العقد ، ويكون العقد ماضيا انتهى منه رحمه‌الله.

(2) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 125.

(3) الفقيه ج 3 ص 141.


والعلامة في المختلف طعن في رواية إسماعيل بن الفضل بعد أن نقل استدلال الشيخ بها ، فقال : والرواية ضعيفة السند ومقطوعة ، مع أنها محمولة على أنه يجوز شراء ما أدرك ، ومقتضى اللفظ ذلك من حيث عود الضمير إلى الأقرب ، على أنا نقول : ان هذا ليس بيعا في الحقيقة ، وانما هو نوع مراضاة غير لازمة ، ولا محرمة انتهى.

أقول : أما الطعن بضعف السند فإنما يتجه على روايتي الشيخين الأولين ، والطعن بالقطع انما يتجه على رواية الشيخ في التهذيب حيث أن في السند ابن سماعة عن غير واحد ، والا فرواية الكليني ليست كذلك ، الا أن في طريقها عبد الله بن محمد ، وهو مجهول أو مشترك ، وبالجملة فالرواية بطريق الصدوق صحيحة ، فينتفى الطعن بالضعف ، هذا مع تسليم صحة هذا الاصطلاح ، والا فإن الطعن بالضعف لا يرد على الشيخ ونحوه من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح المحدث عندهم ، بل الاخبار عندهم كلها صحيحة ، كما اعترف به جملة من متأخري أصحاب هذا الاصطلاح ، وأما الحمل على شراء ما أدرك خاصة دون الباقي فهو تعسف محض ، والظاهر من الخبرين المذكورين انما هو المجموع ، وأن هذا الذي أدرك انما هو بمنزلة الضميمة المتقدم ذكرها ، بمعنى أنه لو لم يحصل شي‌ء من هذه الأشياء كان وجه القبالة بإزاء هذا الذي أدرك.

وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) للخبرين المذكورين بالتقريب الذي قلناه من كون ذلك ضميمة للصحة ، سواء كان المعاملة المذكورة بيعا أو صلحا أو قبالة.

بقي هنا شي‌ء وهو أن القبالة هل هي من قبيل الصلح ، أو عقد برأسها قال شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) : ظاهر الأصحاب أن للقبالة حكما خاصا زائدا على البيع والصلح ، لكون الثمن والمثمن واحدا وعدم ثبوت الربا ، وظاهر الشهيد (رحمة الله عليه) في الدروس أنها نوع من الصلح ، وقال في كتاب مجمع البحرين : والقبالة بالفتح الكفالة. وهي في الأصل مصدر قبل إذا كفل ، وقبالة


الأرض أن يتقبلها الإنسان من الامام بأن يعطيها إياه مزارعة أو مساقاة وذلك في ارضن الموات وأرض الصلح انتهى.

والظاهر أن ما هنا من قبيل الكفالة ، فإنه تكفل بهذا المبلغ المعلوم الذي تراضيا به من هذه الأشياء المعدودة في الخبرين ، سواء حصل منها ما هو أزيد أو أنقص والله العالم.

التاسعة قال الشيخ في النهاية لا بأس أن يشترى الإنسان تبن البيدر لكل كر من طعام تبنة بشي‌ء معلوم وان لم يكل بعد الطعام ، وبه قال ابن حمزة ، وقال ابن إدريس لا يجوز بيعه ، لانه مجهول وقت العقد غير معلوم ، ولا بد أن يكون معلوم القدر وقت العقد عليه ، وهذا غير معلوم ولا محصل ، فالبيع باطل ، لانه لا فرق بين ذلك وبين من قال : بعتك هذه الصبرة من الطعام كل قفيز بدينار ، ولم يختبر كم فيها وقت العقد ولا كالها ذلك الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها فإذا كالها صح البيع المتقدم ، وهذا باطل بالإجماع انتهى.

واختار في المختلف قول الشيخ (رحمة الله عليه) قال : لنا أنه مشاهد فيصح بيعه لانتفاء الغرر فيه ، وما رواه زرارة (1) في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن رجل اشترى تبن بيدر قبل أن يداس تبن كل بيدر بشي‌ء معلوم يأخذ التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام؟ قال : لا بأس». والجهالة ممنوعة إذ من عادة الزراعة قد يعلم مقدار ما يخرج من الكر غالبا ولا يشترط الإحاطة بجميع المبيع بحيث ينتفي الجهالة من كل أحواله ، بل يبنى في ذلك على المتعارف انتهى.

أقول : هذه الرواية قد رواها الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه عن جميل عن زرارة في الصحيح ، الا أن الذي في الفقيه كل كر بشي‌ء معلوم ، وهو أظهر.

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 125 الفقيه ج 3 ص 142.


ورواها أيضا المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جميل (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : اشترى رجل تبن بيدر كل كر بشي‌ء معلوم فيقبض التبن ويبيعه قبل أن يكال الطعام قال : لا بأس به».

قال بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) بعد نقل خبر جميل المذكور : هذا مخالف لقواعد الأصحاب من وجهين الأول من جهة جهل المبيع ، لان المراد به اما كل كر من التبن ، أو تبن كل كر من الطعام ، كما هو ظاهر من قوله قبل أن يكال الطعام ، وعلى التقديرين فيه جهالة.

الثاني من جهة البيع قبل القبض ، ثم أجاب عن الأول بما ذكره في المختلف وقال في الجواب عن الثاني : فعلى القول بالكراهة لا اشكال ، وعلى التحريم فلعله لكونه غير موزون ، أو لكونه غير طعام ، أو لأنه مقبوض وان لم يكتل الطعام يعد ، كما هو مصرح به في الخبر ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه في المسألة التي تقدم مكررا الإشارة إليها من سهولة الأمر في معرفة المبيع الموجبة للخروج من الجهالة والغرر ، وانها تكفي ولو بوجه ما ، ان الأمر في هذه المسألة انما خرج ذلك المخرج ، فان التبن لا اشتباه ولا تعدد في أفراده بحيث يحتاج الى وصفه ، وليس بمعدود ولا مكيل ولا موزون حتى يحتاج إلى شي‌ء من ذلك ، فيكفي في قصد بيعه تخصيصه ببيدر مخصوص ، واشتراط تبن كل كر من الطعام بكذا وكذا كما تضمنته الرواية ، فإن بذلك تحصل المعلومية في الجملة ، وبالجملة فالواجب الوقوف على النص المذكور وعدم الالتفات الى هذه التعليلات العليلة ، سيما مع تأيده بما قدمناه من النصوص التي من هذا القبيل والله العالم.

العاشرة قد روى الشيخ في التهذيب عن غياث بن إبراهيم (2) عن جعفر

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 180 عن جميل التهذيب ج 7 ص 125 مع اختلاف يسير الفقيه ج ص 142.

(2) الوسائل الباب 16 من أبواب أحكام العقود الرقم ـ 20.


عن أبيه عن على عليهم‌السلام «أنه كره بيع صك الورق حتى يقبض». قال في النهاية الأثيرية في حديث أبي هريرة قال المروان : أحللت بيع الصكاك ، هي جمع صك وهو الكتاب ، وذلك أن الأمراء كانوا يكتبون الناس بأرزاقهم وعطياتهم كتبا فيبيعون ما فيها قبل أن يقبضوها معجلا ، ويعطون المشترى الصك ليمضي ويقبضه فنهوا عن ذلك لانه بيع ما لم يملك ولم يقبض ، انتهى.

وقال ابن إدريس في السرائر : ولا يجوز أن يبيع الإنسان رزقه على السلطان قبل قبضة له ، لان ذلك بيع غرر ، وبيع ما ليس يملك له ، لانه لا يملكه الا بعد قبضه إياه ، ولا يتعين ملكه الا بعد قبضه إياه ، وكذلك بيع أهل مستحق الزكوات والأخماس قبل قبضها ، لانه لا يتعين ملكها لهم الا بعد قبضها ، فجميع ذلك غير مضمون ، وبيعه غير جائز ولا صحيح ، انتهى.

وقد تقدم كثير من مسائل هذا الفصل في الفصول المتقدمة.

الفصل الثاني عشر

في نكت متفرقة وهي بمنزلة النوادر لكتاب البيع ، الاولى : لو أمر العبد آمر أن يبتاع له نفسه من مولاه فظاهر كثير منهم الجواز ، وقيل : بالعدم ، وعلل العدم بأمرين ، أحدهما اعتبار التغاير بين المتعاقدين ، وعبارة العبد كعبارة سيده ، وثانيهما اشتراط اذن المولى في تصرف العبد ، ولم يسبق له منه اذن ، ورد الأول بأن المغايرة الاعتبارية كافية ، ومن ثم اجتزئنا بكون الواحد الحقيقي موجبا قابلا وهنا أولى ، والثاني بأن مخاطبة السيد له بالبيع في معنى التوكيل له في تولى القبول ، ويظهر من بعض محققي متأخري المتأخرين المناقشة في الثاني قال : إذ ينبغي ثبوت الوكالة قبل العقد ، ويمكن القول بأنه حاصل هنا لان خطابه بأن يبيعه من موكله يدل على تجويز الوكالة سابقا والرضا ، الا أن يقال : لا بد من التصريح حتى يعلم العبد الذي هو الوكيل ، وذلك غير معلوم ، وقد يناقش في القبلية أيضا ، إذ قد يكفي المعية وحين العقد ، بحيث لا يقع جزء من العقد قبل الوكالة ، انتهى.


أقول : والمسألة لخلوها عن النص موضع إشكال ، فإن مقتضى قواعدهم وهو ظاهر الاخبار أيضا أن المملوك محجور عليه ، لا يصح شي‌ء من أفعاله من بيع وغيره الا بإذن مولاه ، وظاهر تفرع الصحة على تقدم الاذن والوكالة ، والذي هنا ليس كذلك والله العالم.

الثانية : قد صرح جملة من الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه ـ بأنه يجوز للحاكم الشرعي أن يبيع على السفيه والمفلس والغائب مع المصلحة ، وظاهر أخبار نيابته عن الامام عليه‌السلام يقتضي ذلك ، فإن للإمام عليه‌السلام ذلك لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

وكما ورد في خصوص المفلس مثل رواية عمار (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «قال كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر فيقسم ماله بينهم بالحصص ، فان أبى باعه فيقسم بينهم يعنى ماله».

ومثلها رواية غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام وفي مرسلة جميل (2) عن جماعة من أصحابنا عنهما عليهما‌السلام قالا الغائب يقضى عنه إذا قامت عليه البينة ويباع ماله ويقضى عنه دينه وهو غائب ويكون الغائب على حجته إذا قدم» الحديث.

وهو ظاهر في بيع الحاكم الشرعي الذي قد ثبت الدين عنده بالبينة ، ويتعدى ذلك الى عدول المؤمنين مع فقد الحاكم الشرعي كما يدل عليه بعض الاخبار من جواز تولى عدول المؤمنين لبعض الحسبيات مع فقد الحاكم ، ولأنه إحسان محض ، ولا سبيل على المحسنين.

الثالثة : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجوز الجمع في عقد واحد بين لمختلفات كبيع ، واجارة ، ونكاح ، وسلف ، بعوض واحد ، ويقسط عن ثمن المثل ،

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 102 الوسائل الباب ـ 6 من أبواب أحكام الحجر الرقم ـ 1.

(2) الكافي ج 5 ص 102.


وأجرة المثل ومهره ، كان يقول : بعتك هذا الثوب ، وآجرتك هذا الدار سنة ، وأنكحتك ابنتي ، وبعتك مأة من حنطة إلى شهر ، بمأة دينار ، فيقول : قبلت ، فإنه صحيح عندهم ، واعترضهم في هذا المقام المحقق الأردبيلي (عطر الله مرقده) فقال : بعد نقل ذلك عنهم ، دليله عموم أدلة جواز العقود ، وعدم ظهور المانع ، ويمكن عدم الجواز ، لجهالة ثمن المبيع ، وأجرة السكنى ، ومهر الابنة حال البيع ، وهو ليس أقل في الجهل مما إذا قال : بعتك هذه الصبرة كل قفيز بكذا ، وهو غير جائز عندهم للجهالة ، ولهذا نقل في التذكرة عن الشيخ عدم جواز بيع عبدين يكون كل واحد منهما لشخص وباعاهما صفقة لجهالة ثمن كل واحد ، ويمكن الفرق بأن هذا الكل لشخص واحد ، والظاهر أنه لا ينفع على أن المهر للبنت ، وأنهم ما يفرقون ويؤيد عدم الجواز ما روى من طرقهم وطرقنا المنع من جواز بيع وشرط مثل رواية عمار (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله رجلا من أصحابه واليا فقال له : انى بعثتك الى أهل الله يعني الى أهل مكة فأنهاهم عن بيع ما لم يقبض وعن شرطين في بيع وعن ربح ما لم يضمن». ويطلق الشرط على البيع كثيرا.

ورواية سليمان بن صالح (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع ، وعن بيع ما ليس عندك ، وعن ربح ما لم يضمن».

والمصنف في التذكرة رد دليل الشيخ بأنه يكفي معلومية ثمن الكل ، ولا يحتاج إلى معرفة ثمن الاجزاء لان الصفقة الواحدة يكفي معلومية الثمن الذي فيها وقال : ليس المراد بالشرط كل الشرط لجواز البعض بالاتفاق فكأنه محمول على الشرط المخالف للكتاب والسنة فحمل الشرط على معناه ، والظاهر ما قلناه كما يفهم من هذه الرواية ، ويمكن أن يقال : الروايتان غير صحيحتي السند ، فلا يصلحان لمعارضة عموم أدلة الكتاب والسنة والأصل ، ويمكن حملها على بعض الشرائط المخالفة للكتاب والسنة ، والبيوع الغير الجائزة فتأمل والاحتياط واضح ، انتهى كلامه زيد مقامه.

__________________

(1 ـ 2) التهذيب ج 7 ص 231.


أقول : ويمكن تطرق النظر إليه في مقامين : أحدهما ما ذكره من جهالة ثمن المبيع وأجرة السكنى ، فان فيه ما ذكره العلامة هنا ، وهو المفهوم من قواعدهم في أمثال هذا المقام ، وحاصله أن اعتبار معلومية القيمة انما هو باعتبار العقد الواقع والصفقة التي انعقد عليها البيع ، سواء كان ما وقع عليه متحدا أو متعددا وان احتيج بعد ذلك الى التقسيط في المتعدد ، كما لو باع ملكه وملك غيره ، والجهالة بالنسبة إلى قسط كل واحد مما وقع عليه العقد غير مؤثر.

قال في المسالك : لا خلاف عندنا في صحة ذلك كله ، لان الجميع بمنزلة عقد واحد ، والعوض فيه معلوم بالإضافة إلى الجملة ، وهو كاف في انتفاء الغرر والجهالة ، وان كان عوض كل منها بخصوصه غير معلوم ، وكون كل واحد بخصوصه بيعا في المعنى ، وبعضه إجارة أو غيرها الموجب لعوض معلوم لا يقدح ، لان لهذا العقد جهتين ، فبحسب الصورة هو عقد واحد ، فيكفي العلم بالنسية اليه ، ثم ان احتيج الى التقسيط قسط على ما ذكر ، وهو نص فيما قلنا ، الا أن يحمل كلامه (قدس‌سره) على منع ذلك ، وأنه حيث كان مرجع هذا العقد في المعنى الى عقود متعددة فإنه يشترط في كل من تلك العقود ، وهذا التفريع الذي ذكره في المسالك انما يتجه لو قام الدليل على صحة مثل هذا العقد ، وقد عرفت أنه لا دليل عليه زيادة على ما يدعونه من الإجماع بينهم.

وثانيهما ما استند اليه من الخبرين المذكورين ، فانى لا أعرف لذلك وجها ظاهرا وان سلمنا إطلاق الشرط على البيع ، فإنه ليس في العقد المفروض أولا بيعان في بيع ، ليدخل تحت هذين الخبرين ، وبيان معنى الخبرين المذكورين أن معنى بيعين في بيع على ما ذكره بعضهم هو أن يقول بعتك هذا الثوب نقدا بعشرة ، ونسيئة بخمسة عشر ، قال : وانما نهى عنه لانه لا يدرى أيهما الثمن الذي يختاره ليقع عليه العقد.

أقول فيه أن ما ذكره ، وان كان هو المصرح به في كلام الأصحاب لكنه مردود بما صرحت به الاخبار من صحة البيع ، وأنه ليس له الا أقلهما نظرة ، وقيل : ان


معناه هو أن يقول : بعتك هذا بعشرين على أن تبعني ذلك بعشرة ، وأما معنى بيع وسلف فهو أن يقول : بعتك منا من طعام حالا بعشرة ، وسلفا بخمسة.

وأما النهي عن بيع ما ليس عنده فيجب تخصيصه بما إذا كان البيع حالا ، والمبيع غير موجود في ذلك الوقت ، كالبطيخ ونحوه في غير أوانه ، والا فلا مانع من الصحة اتفاقا نصا وفتوى.

وأما النهي عن ربح ما لم يضمن فالمراد ان يبيع المتاع الذي اشتراه مرابحة قبل أن يوجب البيع ، فإنه قد ورد النهى عنه في عدة أخبار.

وأما بيع ما لم يقبض ، فقد تقدم الكلام والخلاف فيه تحريما وكراهة بالنسبة إلى المكيل والموزون ، أو الطعام بخصوصه ، وبالجملة فإني لا أعرف لاستناده الى هذين الخبرين وجها ظاهرا.

نعم يمكن ان يقال : ان الأصل بقاء كل شي‌ء على أصله حتى يثبت الناقل شرعا ، ولم يثبت كون مثل هذا العقد المشتمل على هذه الأشياء المختلفة ناقلا ، والذي علم من الاخبار وهو الذي استمر عليه عمل الناس وعادتهم انما هو استقلال البيع بعقد على حدة ، والنكاح بعقد على حدة ، والسلف كذلك ، والإجارة ونحو ذلك ، والأحكام التي بحثوا عنها في هذه العقود انما تترتب على ذلك ، ثبوت ذلك في بيع أمتعة متعددة في عقد واحد وتقسيط الثمن على الجميع لو سلم الدليل على صحته ، لا يقتضي قياس هذا العقد عليه كلية ، لظهور الفارق ولا سيما بالنسبة إلى عقد النكاح ، فإنهم إنما حكموا هنا بمهر المثل ، مع أن الظاهر أن هذه من قبيل المفوضة ، وهي التي لم يعين لها مهر ، وقد صرحوا بأنها ترجع الى مهر السنة لو زاد مهر المثل عنه ، فلا يتم إطلاق مهر المثل هنا ، وبالجملة فالمسألة محل توقف واشكال.

واما كيفية التقسيط بناء على ما ذكروه من صحة العقد المذكور فهو أن يقوم كل من تلك الأشياء منفردا وتنسب قيمته الى المجموع ، ثم يؤخذ من ذلك


العوض الذي وقع عليه العقد بتلك النسبة (1).

الرابعة : لو تضمن عقد البيع شرطا فاسدا قال الشيخ يبطل الشرط خاصة دون البيع ، وبه قال ابن الجنيد وابن البراج ، وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك : والمعتمد عندي بطلان العقد والشرط معا ، قال لنا أن للشرط قسطا من الثمن ، فإنه قد يزيد باعتباره ، وقد ينقص ، وإذا بطل الشرط بطل ما بإزائه من الثمن وهو غير معلوم فتطرقت الجهالة إلى الثمن ، ويبطل البيع ، وأيضا البائع إنما رضي بنقل سلعته بهذا الثمن المعين على تقدير سلامة الشرط له وكذا ، المشتري إنما رضي ببذل هذا الثمن في مقابلة العين على تقدير سلامة الشرط ، فإذا لم يسلم لكل منهما ما شرطه ، كان البيع باطلا ، لانه يكون تجارة عن غير تراض ثم نقل عن الشيخ انه احتج بقوله تعالى (2) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وهذا بيع فيكون صحيحا ، والشرط باطلا ، لانه مخالف للكتاب والسنة.

وبما روى عن عائشة (3) «أنها اشترت بريرة بشرط العتق ، ويكون ولائها لمولاها فأجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله البيع وأبطل الشرط ، وصعد المنبر ، وقال : ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وكتاب الله أحق ، وشرطه أوثق». ثم قال مجيبا عن ذلك : والجواب عن الأول أن المبيع انما يكون حلالا لو وقع على الوجه المشروع ، ونحن نمنع من شرعيته ،

__________________

(1) وتوضيحه أن يقال : قيمة الثوب يومئذ بخمسة دنانير ، وأجرة الدلال ديناران ، ومهر المثل عشرون دينارا وقيمة الحنطة إلى المدة المذكورة ثلاثة دنانير ، مجموع هذه الدنانير ثلاثون دينارا ، ونسبة قيمة الثوب وهي الخمسة إلى الثلاثين السدس ، فيؤخذ من العوض المذكور في العقد سدسه ، وهكذا باقي تلك الأشياء المذكورة في العقد. منه رحمه‌الله.

(2) سورة البقرة الآية ـ 275.

(3) المستدرك ج 2 ص 473.


وعن الثاني من وجوه الأول الطعن في السند ، الثاني الحديث ورد هكذا (1). «قالت عائشة : جائتني بريرة فقالت : كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينينى فقالت لها عائشة : ان أحب أهلك ان أعدها لهم ، ويكون ولاؤك لي فعلت فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم : ذلك فأبوا عليها ، فجائت من عند أهلها ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) جالس ، فقالت : انى عرضت ذلك عليهم فأبوا الا أن يكون الولاء لهم ، فسمع ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألها فأخبرت عائشة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق ، ففعلت عائشة ، ثم قام : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله عزوجل فهو باطل وان كان مأة شرط ، فقضاء الله أحق وشرط الله أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق».

وهذا ينافي ما ذكره الشيخ واستدل به عليه ، لأن بريرة أخبرت بأنها كوتبت وطلبت الإعانة من عائشة ، فسقط الاستدلال به بالكلية.

الثالث المراد بقوله عليه‌السلام «اشترطي لهم الولاء» اى عليهم لانه عليه‌السلام أمرها به ، ولا يأمرها بفاسد ، وكيف يتأتى عن الرسول مع تحريم خائنة الأعين وهو الغمز وضع حيلة لا تتم انتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى ما فيه على الفطن النبيه الذي قد جاس خلال ديار الاخبار وما جرت به في هذا المضمار وان كان قد تبعه على هذا القول جل المتأخرين بل كلهم على ما يظهر من كلام من وقفنا على كلامه ، ومنهم شيخنا الشهيد الثاني وسبطه السيد السند في شرح النافع وغيرهم.

وما ذكره (قدس‌سره) من التعليل لبطلان العقد بالعلل الاعتبارية المذكورة وان كان مما يتسارع الى الذهن قبوله ، الا أن الاخبار ترده وتدفعه ، وما ذكره من خبري بريرة هنا من كلام الشيخ الذي نقله عنه وفي كلامه هو «قدس‌سره» الظاهر انه من طرق العامة.

__________________

(1) سنن البيهقي ج ـ 10 ـ 295.


والذي وقفت عليه من طرقنا هو ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن الحلبي (1) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، أنه ذكر أن بريرة كانت عند زوج لها وهي مملوكة فاشترتها عائشة فأعتقتها ، فخيرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال : ان شائت تقر عند زوجها وان شائت فارقته ، وكان مواليها الذين باعوها اشترطوا على عائشة أن لهم ولاءها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولاء لمن أعتق».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن عيص بن القسم (2) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قالت عائشة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان أهل بريرة اشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الولاء لمن أعتق».

والحديثان كما ترى صحيحان صريحان في صحة البيع مع فساد الشرط ، وبه يظهر أن خبر الشيخ وان كان عاميا الا انه هو الأصح لموافقته لاخبار أهل البيت عليهم‌السلام بخلاف خبره. وبذلك ايضا يظهر بطلان ما ذكره من تلك التعليلات العليلة.

ومن الاخبار الواردة في المسألة المذكورة بالنسبة إلى النكاح ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن قيس (3) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل يتزوج المرأة إلى أجل مسمى ، فان جاء بصداقها إلى أجل مسمى فهي امرأته وان لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك شرطهم بينهم حين انكحوا ، فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم». ونحوها صحيحة ثانية له أيضا.

وما رواه في الكافي عن الوشاء (4) عن الرضا عليه‌السلام قال : «سمعته يقول لو ان رجلا تزوج امرأة جعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا والذي جعله لأبيها فاسدا».

__________________

(1) الفقيه ج 3 ص 79.

(2) الكافي ج 5 ص 198 التهذيب ج 6 ص 250.

(3) الوسائل الباب ـ 10 من أبواب المهور الرقم ـ 2.

(4) الوسائل الباب ـ 9 ـ من أبواب المهور الرقم ـ 1.


قال السيد السند في شرح مختصر النافع يستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد انتهى ، وقدم تقدم الكلام في هذه المسألة مرارا عديدا سيما في مقدمات الكتاب في جلد كتاب الطهارة ، وقد ذكرنا ثمة ورود بعض الاخبار دالة أيضا على القول المشهور (1) وان الاولى هو الوقوف على الاخبار في كل جزئي من الأحكام من غير أن يكون ذلك قاعدة كما ادعوه.

ثم انه لا يخفى أن ما أجاب به عن حجة الشيخ الاولى محض مصادرة ، وأن حديثه الثاني الذي أورده على الشيخ دال على ما دل عليه خبر الشيخ ، فان قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعائشة :

خذيها اشترطي لهم الولاء ، ثم خط بعد ذلك بما يدل بطلان الشرط خاصة ، أظهر ظاهر في المدعى ، والعجب منه «قدس‌سره» اعتذاره عما دل عليه الخبر المذكور من الغمز وخيانة الأعين ، مع كون الخبر عاميا ، وأعجب من ذلك جعل الاعتذار المذكور وجها ثالثا من وجوه الجواب عن حديث الشيخ ، مع أن ذلك انما هو في حديثه ، وبالجملة فإن الاستعجال وعدم التدبر في المقال مما يوجب مزيد الاختلال.

الخامسة : قال العلامة في المختلف : المشهور بين علمائنا الماضين ومن عاصرناه الا من شذ أنه يجوز بيع الشي‌ء اليسير بأضعاف قيمته بشرط أن يقرض البائع المشتري شيئا ، لأنهم نصوا على جواز أن يبيع الإنسان شيئا ويشترط الإقراض أو الاستقراض ، أو الإجارة أو السلف أو غير ذلك من الشروط السابقة ، وقد كان بعض من عاصرناه يتوقف في ذلك ، لنا وجوه.

__________________

(1) أقول : ومن الاخبار الظاهرة في القول المشهور ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة ، قال لا يصلح أن يأخذه بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباع بأكثر من ثمنه رد على صاحبه الأول ما زاد». وهو كما ترى ظاهر في بطلان الإقالة لبطلان اشتراط الوضيعة وأن الثوب باق على ملك الأول فله زيادة الثمن إذا باعه بأكثر من ثمنه. منه رحمه‌الله.


الوجه الأول : قوله تعالى (1) «وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» وهذا أحد جزئياته.

الثاني : قوله تعالى (2) «إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» دل الاستثناء على تسويغ التجارة المقترنة بالرضا ، وصورة النزاع داخل تحته.

الثالث : أنه لا خلاف بين علماء الأمصار في جواز بيع الشي‌ء بأضعاف قيمته ، فنقول انضمام الشرط اليه لا يغير حكمه ، لأنه شرط سائغ يجوز اشتراطه في البيع بثمن المثل ، أو في الإجارة أو غيرهما من العقود إجماعا فيجوز في صورة النزاع ، إذ الحكمة الداعية إلى شرعيته في تلك الصور موجودة هنا ، ولقولهم عليهم‌السلام (3) «المؤمنون عند شروطهم».

الرابع : اتفاق علماء الإمامية السابقين ، فإنهم قالوا لا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو حيوانا أو غير ذلك بالنقد والنسية ، ويشترط أن يسلفه البائع شيئا في مبيع أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل. أو يستقرض منه ، فيكون حجة ، لما ثبت من أن إجماع الإمامية حجة.

قال المفيد : لا بأس ان يبتاع الإنسان من غيره متاعا أو حيوانا أو عقارا بالنقد والنسيئة معا على أن يسلف البائع شيئا في مبيع أو يستسلف منه في مبيع ، أو يقرضه مأة درهم الى أجل أو يستقرض منه.

قال : وقد أنكر ذلك جماعة من أهل الخلاف ولسنا نعرف لهم حجة في الإنكار وذلك ان البيع وقع على وجه حلال ، والسلف والقرض جائزان ، واشتراطهما في عقد البيع غير مفسد له بحال ، قال :

وقد سئل الباقر عليه‌السلام عن القرض يجر النفع «فقال : خير القرض ما جر المنفعة».

الخامس : تظاهر الروايات عليه وتطابقها من غير معارض ، فيتعين العمل عليه ، روى سليمان بن محمد الديلمي (4) عن أبيه عن رجل «كتب الى العبد

__________________

(1) سورة البقرة الآية ـ 275.

(2) سورة النساء الآية ـ 29.

(3) الكافي ج 5 ص 196 التهذيب ج 7 ص 22.

(4) التهذيب ج 7 ص 33 لكن فيه عن محمد بن سليمان الديلمي.


الصالح (عليه‌السلام) : يسأله أنى أعامل قوما أبيعهم الدقيق أربح عليهم في القفيز درهمين إلى أجل معلوم ، وهم يسألوني أن أعطيهم عن نصف الدقيق دراهم ، فهل من حيلة لا أدخل في الحرام؟ فكتب إليه أقرضهم الدراهم قرضا وازدد عليهم في نصف القفيز ما كنت تربح عليهم».

وفي الصحيح عن عبد الملك بن عتبة (1) قال : «سألته عن الرجل يريد أن أعينه المال ويكون لي عليه مال قبل ذلك فيطلب منى مالا أزيده على مالي الذي عليه أيستقيم أن أزيده مالا وأبيعه لؤلؤة تسوى مأة درهم بألف درهم ، فأقول له : أبيعك هذه اللؤلؤة بألف درهم على أن أؤخّرك بثمنها وبمالي عليك كذا وكذا شهرا؟ قال : لا بأس».

وعن محمد بن إسحاق بن عمار (2) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مأة درهم بألف درهم ويؤخر عنه المال الى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي ففعلت ذلك وزعم أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام : عنها فقال له : مثل ذلك».

ثم أطال في الاستدلال الى أن بلغ خمسة وعشرين دليلا وأوضحها ما ذكرناه. ثم نقل حجة المانعين فقال : احتج المانعون بما رواه يعقوب بن شعيب (3) في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام : قال : «سألته عن رجل يسلم في بيع أو تمر عشرين دينارا ويقرض صاحب السلم عشرة دنانير أو عشرين دينارا قال : لا يصلح ، إذا كان قرضها يجر نفعا فلا يصلح».

وعن محمد بن قيس (4) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «من أقرض رجلا ورقا

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 206 التهذيب ج 7 ص 52.

(2) الكافي ج 5 ص 205 التهذيب ج 7 ص 53.

(3) الوسائل الباب 19 من أبواب الدين الرقم ـ 9.

(4) الوسائل الباب ـ 19 ـ من أبواب الدين الرقم 11.


فلا يشترط الا مثلها ، فإن جوزي بأجود منها فليقبل ، ولا يأخذ أحد منكم ركوب دابة أو عارية متاع يشترط من أجل قرض ورقه».

وما رواه خالد بن الحجاج (1) قال : «جاء الربا من قبل الشروط».

وما رواه الوليد بن صبيح (2) عن الصادق عليه‌السلام قال : «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والفضل بينهما هو الربا المنكر». ولان البيع بالمحاباة نفع وهو مشترط في القرض ، فيجب ان يكون حراما.

ثم أجاب عن ذلك قال : والجواب عن الروايات بعد سلامة سندها أنها دالة على الكراهة لا التحريم ، على أنا نقول الرواية الاولى ـ وهي الصحيحة ـ معارضة برواية محمد بن مسلم ، ونقول بموجب الرواية الثانية ، فإن اشتراط النفع في القرض حرام بالإجماع ، وهو غير صورة النزاع ، وكذا عن الرواية الثلاثة ، فإن كل شرط لو تضمن الربا لكان باطلا بالإجماع ، مع انا نصحح أكثر الشروط بالإجماع ، فإذا لا محل لها الا مع اشتراط الزيادة في المتساوي جنسا مع عقد البيع ، وهذا هو الربا بعينه ، وهو غير محل النزاع.

وكذا الرابعة فإنها صريحة في تناول الربا إذ لا قائل بإباحة الفضة بالفضة مع الزيادة ، ولا الذهب بالذهب مع الزيادة.

وعن الثاني بوجهين الأول ـ المعارضة بما روى من قولهم عليهم‌السلام (3) «خير القرض ما جر نفعا». ولان المتنازع اباحة البيع بالمحاباة مع اشتراط القرض ، لا العكس انتهى ملخصا.

أقول منشأ شبهة القائل المذكور هو أنه لما كان السبب في هذا القرض من

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 112.

(2) التهذيب ج 7 ص 98.

(3) الوسائل الباب ـ 19 ـ من أبواب الدين الرقم 5.


البائع للمشتري هو كون المشتري أخذ سلعته بأضعاف قيمتها ، فيصير الحامل للبائع على القرض هو ذلك ، والقرض إذا جر المنفعة كان باطلا ، فالواجب الحكم ببطلان البيع المذكور ، وهو توهم فاسد ، لان المستفاد من الاخبار ـ كما سيأتي ذكرها إنشاء الله تعالى جميعا في كتاب الديون والجمع بينهما ـ هو أن المحرم انما هو القرض الذي يشترط فيه النفع ، لا ما يجر النفع بقول مطلق ، والمستفاد من بعضها أن تحريم ما يجر النفع مطلقا مذهب العامة ، كما تقدم ذكره في كلام شيخنا المفيد رحمه‌الله.

وحينئذ فما دل على خلاف ما ذكرناه من الاخبار كصحيحة يعقوب بن شعيب المذكورة فهو محمول على الاشتراط أو التقية ، والعلامة إنما أجاب عنها بالمعارضة لصحيحة محمد بن مسلم ، والظاهر أنها ما رواه المشايخ الثلاثة عنه (1) وعن غيره قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يستقرض من الرجل قرضا ويعطيه الرهن اما خادما واما آنية واما ثيابا ، فيحتاج إلى شي‌ء من منفعته ، فيستأذنه فيه فيأذن له؟ قال : إذا طابت نفسه فلا بأس به ، فقلت : ان من عندنا يرون أن كل قرض يجر منفعة فهو فاسد ، فقال : أو ليس خير القرض ما جر منفعة».

وهذه الرواية هي التي أشرنا إليها في الدلالة على ان ذلك مذهب العامة ونحوها في الدلالة على ان خير القرض ما جر منفعة غيرها ايضا.

والعجب انه سكت عن الجواب عن رواية محمد بن قيس ، مع انها ظاهرة في الدلالة على ان التحريم انما هو من حيث الشرط لا مطلقا ، لقوله أو لا «فلا يشترط الا مثلها ، وان جوزي بأجود منها فيقبل ، وقوله ثانيا «يشترط من أجل قرض ورقه» يعنى لا يجعل عارية المتاع أو ركوب الدابة شرطا في القرض ، وهو ظاهر.

ومما ذكرنا يعلم أن ما أطال به (قدس‌سره) من الوجوه التي ذكرها غير محتاج إليه ، لأن بيع الشي‌ء بأضعاف ثمنه مما لا نزاع فيه ، وكذا وقوع الشروط

__________________

(1) الوسائل الباب ـ 19 ـ من أبواب الدين الرقم 4.


في العقود في الجملة ، وانما منشأ الشبهة هو ما ذكرناه.

والجواب عنها هو ما عرفت ، على أن النهى في الصورة المفروضة انما هو كون القرض شرطا في البيع ، والممنوع منه شرعا انما هو شرط النفع في القرض ، واليه أشار العلامة آنفا ، وبالجملة فالإشكال انما يقع فيما لو أقرضه بشرط أن يشترى ماله بأضعافه (1) بأنه موجب لاشتراط النفع في القرض المنهي عنه في الاخبار ، وان كانت الصورة المفروضة راجعة الى هذا في المعنى ، الا أنه انما يحلل ويحرم الكلام ، كما ورد في بعض الاخبار (2) لا مجرد القصد بأي وجه اتفق والله العالم.

السادسة : قال الشيخ المفيد (عطر الله مرقده) : إذا قوم التاجر على الواسطة المتاع بدراهم معلومة ـ ثم قال له : بعه فما تيسر لك فوق هذه القيمة فهو لك والقيمة لي جاز ولم يكن بين التاجر والواسطة بيع مقطوع ، فان باعه الواسطة بزيادة على القيمة كانت له ، وان باعه بها لم يكن على التاجر شي‌ء ، وان باعه بدونها كان عليه تمام القيمة لصاحبه ، وان لم يبعه كان له رده ، ولم يكن للتاجر الامتناع من قبوله ولو هلك المتاع في يد الواسطة من غير تفريط منه كان من مال التاجر ، ولم يكن على الواسطة ضمان ، وإذا قبض الواسطة المتاع من التاجر على ما وصفناه لم يجز أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضيلة على القيمة في الشراء ، وإذا قال الواسطة للتاجر خبرني بثمن هذا الثوب واربح على فيه شيئا لأبيعه ، ففعل التاجر ذلك وباعه الواسطة بزيادة على رأس المال والربح كان ذلك للتاجر ، دون الواسطة ، الا أن يضمنه

__________________

(1) ومن ثم ورد في موثقة إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الرجل يكون له عند الرجل المال قرضا فيطول مكثه عند الرجل لا يدخل على صاحبه منفعة ، فينيله الرجل الشي‌ء بعد الشي‌ء كراهية أن يأخذ ماله حيث لا يصيب منه منفعة ، أيحل ذلك؟ قال : لا بأس إذا لم يكن بشرط». ونحوها رواية الحسين بن ابى العلاء منه رحمه‌الله.

(2) الكافي ج 5 ص 201.


الواسطة ، وأوجبه على نفسه ، فان فعل ذلك جاز له أخذ الفضل على الربح ، ولم يكن للتاجر الا ما تقرر بينه وبينه انتهى ، ونحوه قال الشيخ في النهاية وابن البراج.

وقال ابن إدريس بعد إيراد كلام الشيخ في النهاية : ما أورده الشيخ غير واضح ، وأشار به الى ما ذكره أولا من أنه إذا قوم التاجر متاعا على الواسطة بشي‌ء معلوم ، وقال له بعه فما زدت على رأس المال فهو لك والقيمة لي ، ثم زاد كانت الزيادة للواسطة ، ولا يجوز له أن يبيعه مرابحة قال : لان هذا جميعه لا بيع مرابحة ولا اجارة ، ولا جعالة محققة ، وإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه لم يكن للواسطة في الزيادة شي‌ء ، لأنها من جملة ثمن المتاع ، والمتاع للتاجر لم ينتقل عن ملكه بحال وللواسطة أجرة المثل ، لانه لم يسلم له العوض ، فيرجع الى المعوض ، وكذلك أن باعه برأس المال ، وان باعه بأقل كان البيع باطلا ، وان تلف المبيع كان الواسطة هنا ضامنا ، ثم أى شراء بين التاجر والواسطة حتى يخبر بالثمن ، وليس هذا موضع بيع المرابحة في الشريعة بغير خلاف ، وانما أورد أخبار الآحاد في هذا الكتاب إيرادا لا اعتقادا ، وقول الشيخ ثانيا وإذا قال الواسطة خبرني بثمن هذا المتاع واربح على فيه كذا ففعل كانت الزيادة للتاجر ، وله أجرة المثل يوضح ما نبهنا عليه انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (1) عن أبى عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل قال لرجل : بع ثوبي بعشرة دراهم فما فضل فهو لك ، قال ليس به بأس».

وما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن سماعة (2) في الموثق عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة ، فيقولون بع فما ازددت فلك ، قال : لا بأس بذلك ، ولكن لا يبيعهم مرابحة».

__________________

(1 ـ 2) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 54.


وما رواه الشيخ في التهذيب عن زرارة (1) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يعطى المتاع فيقال : ما ازددت على كذا وكذا فهو لك ، فقال : لا بأس». ورواه بسند آخر في الموثق عن زرارة عن أبى جعفر عليه‌السلام مثله.

وهذه الاخبار كما ترى متفقة الدلالة على ما قاله الشيخان ، وردها بأنها أخبار آحاد خارج عن جادة السداد.

بقي الكلام في ان الظاهر أن هذا من باب الجعالة ، ومال الجعالة يجب أن يكون معلوما ، وهنا ليس كذلك ، وهذا هو السبب في منع ابن إدريس هنا من صحة ما ذكره الشيخ ، وفيه ما ذكره جمع من الأصحاب من أن وجوب معلومية الجعالة انما هو في موضع يؤدى الجهل بها الى التنازع ، وهو منفي هنا ، إذ الزيادة للواسطة متى زاد على ما قومه عليه التاجر مهما كانت الزيادة قليلة أو كثيرة ، والا فلا شي‌ء له لحصول التراضي على ذلك ، بخلاف الجعالة المجهولة المؤدية إلى التنازع ، وبذلك يظهر الفرق بين ذلك ، وبين ما إذا قال الواسطة : خبرني بثمن المتاع واربح على فيه ففعل ، فإن الزيادة للتاجر وللواسطة أجرة المثل ، فإنه على هذه الصورة لا بيع ولا جعالة ، فمن أجل ذلك حكم بالزيادة للتاجر ، وللواسطة بأجرة المثل ، فاعتضاد ابن إدريس بهذه الصورة في الرد على الشيخ حيث قال : وقول الشيخ ثانيا الى آخره ليس في محله ، لظهور الفرق ، وقد تقدم تحقيق القول في هذا المقام في الفصل الخامس في المرابحة والمواضعة والتولية هذا.

والنهى عن البيع مرابحة في موثق سماعة اما من حيث أنه لم ينتقل المبيع اليه بهذا الكلام الذي وقع بينهما ، لعدم تحقق البيع بمجرد التقويم عليه هذا ان كان باع لنفسه ، وان كان للتاجر وكالة فرأس المال غير معلوم ، لان تقويمه على الدلال بقيمة أعم من أن يكون برأس المال أو بزيادة فيه ، بل الغالب هو الثاني ، والواجب في بيع المرابحة معلومية رأس المال والربح ، وأما ما حكم به الشيخان ـ من صحة البيع لو باعه

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 54.


بأقل مما قومه عليه ، وأن على الدلال تمام القيمة ، وقول ابن إدريس ان البيع هنا باطل ـ فالظاهر أنه متفرع على الكلام في صحة البيع الفضولي وبطلانه وظاهر ابن إدريس الثاني ، وأما على تقدير القول بصحته فينبغي التفصيل في المقام بأنه ان رضى المالك ، وأجاز البيع المذكور فليس له المطالبة بما زاد على القيمة التي باع بها الواسطة ، وان لم يجز البيع فان له المطالبة بعين ماله ان كانت العين قائمة ، فيلزم الدلال بتخليصها وإرجاعها ، وان تعذر ذلك كان له الرجوع على الدلال بالقيمة ، وعلى هذا فينبغي أن يحمل كلام الشيخين هنا على ما إذا لم يجز البيع ، وتعذر الرجوع الى العين.

السابعة : قد صرح الأصحاب بأن أجرة الكيال والوزان على البائع ، وأجرة الناقد ووزان الثمن على المشترى ، وأجرة الدلال على الآمر ، ولو باع واشترى فأجرة البيع على الآمر به ، وأجرة الشراء على الآمر به.

أقول : والوجه في الأولين ظاهر ، لانه يجب على البائع توفية المشترى المبيع وتسليمه بعد معلوميته بالكيل والوزن ، وحينئذ فأجرة هذا العمل عليه لو لم يفعله بنفسه ، ونقد الثمن ووزنه ، واجب على المشترى ، لأنه يجب عليه توفية الثمن وتسليمه فيجب عليه أجرة هذا العمل لو لم يفعله بنفسه.

واما الثالث فكذلك ، لان الدلال بمنزلة الأجير ، فإن كان وكيلا في البيع فأجرته على البائع ، وان كان في الشراء فأجرته على المشترى.

بقي هنا شي‌ء وهو أن الشيخ رحمه‌الله ، قال في النهاية : لو نصب نفسه لبيع الأمتعة كان له أجر البيع على البائع ، ولو نصب نفسه للشراء كان له أجرة على المبتاع ، فان كان ممن يبيع ويشترى كان له أجرة على ما يبيع من جهة البائع ، وأجرة على ما يشترى من جهة المبتاع انتهى.

وقال ابن إدريس : في قوله فان كان ممن يبيع ويشترى الى آخره ولا يظن ظان أن المراد بذلك في سلعة واحدة يستحق أجرين ، وانما المراد بذلك ان من كان صنعته يبيع تارة للناس ، ويشترى لهم تارة ، فيكون له أجرة على من يبيع له


في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها كان له أجرة على من اشترى له تلك السلعة ، لا أنه يشترى سلعة واحدة ويبيعها في عقد واحد ، لأن المشتري غير البائع ، والبائع غير المشترى ، وانما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه فليتأمل ذلك انتهى.

واعترضه العلامة في المختلف بأنه ليس بجيد ، لأنا يجوز كون الشخص الواحد وكيلا للمتعاقدين كالأب يبيع على ولده من ولده الأخر ، وحينئذ يستحق اجرة البيع على آمره ، وأجرة الشراء على آمره ، وقوله العقد لا يكون الا بين اثنين مسلم وهو هنا كذلك لتعدد المنتسب اليه كالأب العاقد عن ولديه. انتهى.

وهو جيد الا ان المفهوم من كلام شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ـ حيث قال : المصنف وأجرة الدلال على الأمر ولو أمراه فالسابق (1) ولو أمراه بتولي الطرفين فعليهما ـ ان الذي عليهما متى أمراه بتولي الطرفين الإيجاب والقبول انما هو أجرة واحدة بالتنصيف ، حيث قال بعد قول المصنف في آخر العبارة المذكورة فعليهما : ما صورته أجرة واحدة بالتنصيف اقترنا أم تلاحقا ، ثم قال : ولو منعنا من تولى الطرفين من الواحد امتنع أخذ أجرتين ، لكن لا يتجه حمل كلام الأصحاب أنه لا يجتمع بينهما لواحد عليه ، لانه قد عبر به من يرى جوازه ، بل المراد أنه لا يجمع بينهما لعمل واحد ، وان أمره البائع بالبيع ، والمشترى بالشراء ، بل له أجرة واحد عليهما ، أو على أحدهما كما فصلناه انتهى. وهو ظاهر في أنه مع تولى الطرفين ليس الا أجرة واحدة بالتنصيف ، ومن الظاهر أنه لا فرق في تولى الطرفين بين الولي الشرعي كما تقدم في كلام العلامة ،

__________________

(1) أقول : قوله ولو امراه في السابق حاصل معنى هذه العبارة على ما يفهم من الشرح أنه لو أمراه يعني كل من البائع والمشترى فالأجرة على الآمر أو لا ان كان مراد كل منهما المماكسة فقط من غير تولى طرفي العقد ، وان كان مرادهما الأمر بتولي طرفي العقد فالأجرة عليهما معا بالمناصفة ، سواء أقترنا أو تلاحقا لكن بقيت هنا صورة ثالثة وهي ما لو أمراه بالمماكسة ولكن اقترنا من غير تقدم أحدهما الأخر ، وربما ظهر من فحوى كلام الشارح أنها ملحقة بالصورة الثانية وهو الأمر بالعقد منه رحمه‌الله.


ولا بين الوكيل فيهما من جهة البائع والمشترى. وكيف كان فهو ظاهر المنافاة لما تقدم في كلام العلامة ، وقوله ولو منعناه الى آخره خرج مخرج الرد على المصنف في الدروس حيث قال : ولو منعنا من تولية الطرفين امتنع أخذ أجرتين ، وعليه يحمل كلام الأصحاب أنه لا يجمع بينهما لواحد ، وحاصله أنه فسر كلامهم بأن معناه انه لا يجمع بين الأجرتين لشخص واحد ، وان ذلك مبنى على المنع من تولية الطرفين لشخص واحد بأن يتولى الإيجاب والقبول ، فقولهم ذلك إشارة إلى المنع في هذه الصورة على تقدير القول به.

والشارح رده بأنه قد صرح بهذا الكلام من جوز تولى الطرفين لشخص واحد ، وحينئذ فلا يصح تفسير كلامهم بما ذكره ، بل مرادهم بذلك الكلام انما هو أنه لا يجمع بين الأجرتين لعمل واحد ، وان كان هنا أمران أحدهما البيع ، والآخر الشراء ، فإنه عمل واحد يستحق عليه أجرة واحدة منهما أو من أحدهما على التفصيل الذي قدمه ، ولا مدخل لبنائه على تولى الطرفين وعدمه.

وبالجملة فإن كلامه هنا ظاهر في أنه مع تولى الطرفين ليس له الا أجرة واحدة وهو ظاهر في خلاف ما قدمنا نقله عن العلامة.

والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام ، وأنا أستمع فقال له : ربما أمرنا الرجل فيشترى لنا الأرض والغلام والدار والخادم والجارية ونجعل له جعلا قال : لا بأس بذلك». ورواه الشيخ بسندين آخرين مثله.

وما رواه في الكتابين المذكورين عن ابن ابى عمير (2) في الصحيح عن بعض أصحابنا من أصحاب الرقيق قال : «اشتريت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، جارية فناولني أربعة دنانير فأبيت قال : لتأخذنها فأخذتها فقال : لا تأخذ من البائع».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن أبى ولاد (3) عن أبى عبد الله عليه‌السلام

__________________

(1 ـ 2 ـ 3) الكافي ج 5 ص 285 التهذيب ج 7 ص 156.


وغيره عن ابى جعفر عليه‌السلام «قالوا : قالا : لا بأس بأجر السمار انما هو يشترى للناس يوما بعد يوم بشي‌ء معلوم ، وانما هو مثل الأجير». والسمار بالكسر المتوسط بين البائع والمشترى ، ومرسل ابن أبى عمير ظاهر في النهي عن أخذ الأجرة من البائع بعد أخذها من المشترى ، والظاهر أن الوجه في ذلك أن الآمر له انما هو المشترى ، والبائع لم يأمره بالبيع له ، فلا يستحق عليه شيئا ، بل لو فرضنا أن المشترى لم يدفع اليه أجرة فإنه لا رجوع له ، على البائع متى كان لم يأمره ، وهو ظاهر.

الثامنة : قد تكاثرت الاخبار باستحباب الإقالة ، وقدمنا طرفا منها في المقدمة الثانية من مقدمات هذا الكتاب.

ومنها زيادة على ما تقدم ما رواه الصدوق (1) (قدس الله روحه) في المقنع مرسلا عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أيما مسلم أقال مسلما بيع ندامة أقاله الله عثرته يوم القيامة».

والكلام فيها يقع في مواضع الأول ـ الإقالة عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) من غير خلاف يعرف فسخ لا بيع ، سواء كان في حق المتعاقدين أو غيرهما ، وسواء وقعت بلفظ الفسخ أو الإقالة ، وأشير بهذه القيود الى خلاف العامة في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى انها بيع مطلقا ، وبعض آخر إلى أنها بيع ان وقعت بلفظ الإقالة ، وفسخ ان وقعت بلفظ الفسخ ويلحقها أحكامه وذهب بعض إلى انها بيع بالنسبة إلى الشفيع خاصة ، فيستحق الشفعة بها وان كانت فسخا في حق المتعاقدين ، (2) وبطلان الجميع ظاهر ، إذ لا يطلق

__________________

(1) الوسائل الباب ـ 3 ـ من أبواب آداب التجارة الرقم 4.

(2) القائل بأنها بيع في حق غير المتبايعين أبو حنيفة ، والقائل بالتفصيل بالفسخ وغيره بعض الشافعية ، والقائل بأنها بيع مطلقا جماعة منهم المالك والشافعي في القديم ، كذا نقله بعض مشايخنا (عطر الله مراقدهم) منه رحمه‌الله.


عليها اسم البيع في شي‌ء من هذه الصور ، وللبيع ألفاظ خاصة ليست هذه منها (1) وصيغتها أن يقول كل منهما تقايلنا أو تفاسخنا ، أو يقول أحدهما أقلتك العقد الواقع بيننا فيقبل الآخر ، أو يقول تفاسخنا ، ولا فرق في ذلك بين النادم وغيره ، ولا يكفى التماس أحدهما عن قبوله أو إيجابه ، بل لا بد فيها من الإيجاب والقبول بالألفاظ المذكورة ، ولا يعتبر فيها سبق الالتماس ، بل لو ابتدء أحدهما بالصيغة فقبل الآخر صح.

الثاني ـ قالوا : لا تصح بزيادة في الثمن الذي وقع عليه العقد ولا نقيصة لأنها فسخ ، ومقتضاه رجوع كل عوض الى مالكه ، فلو شرط فيها ما يخالف مقتضاها فسد الشرط ، ويترتب عليه فسادها كما في كل شرط فاسد ، لأنهما لم يتراضيا على الفسخ الا على ذلك الوجه ، ولم يحصل لبطلانه ، فما تراضيا عليه لم يحصل ، وما حصل لم يتراضيا عليه.

أقول ويشير الى ما ذكروه من عدم الزيادة والنقيصة بعض الاخبار التي لا يحضرني الآن موضعها ، وأما ما ذكروه من بطلان العقد هنا لاشتماله على شرط فاسد بناء على ما اشتهر بين المتأخرين من جعل ذلك قاعدة كلية ، فقد عرفت ما فيه آنفا في بعض نكت هذا الفصل.

الا أن ما يؤيد كلامهم هنا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) ، عن الحلبي (2) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اشترى ثوبا ولم يشترط على صاحبه شيئا فكرهه ، ثم رده على صاحبه فأبى أن يقبله إلا بوضيعة قال : لا يصلح أن يأخذه بوضيعة ، فإن جهل فأخذه فباع بأكثر من ثمنه رد على الأول ما زاد».

__________________

(1) أقول : قال الشيخ في المبسوط : الإقالة فسخ سواء كان قبل القبض أو بعده في حق المتعاقدين وفي غيرهما ، بدلالة أنه لا يجوز الزيادة في الثمن ولا النقصان إجماعا. انتهى. منه رحمه‌الله.

(2) الكافي ج 5 ص 195 التهذيب ج 7 ص 56 الفقيه ج 3 ص 137.


وبه يظهر ما قدمنا ذكره من أن الاولى الوقوف في كل حكم حكم على ما يرد به الاخبار فيه من غير أن يكون ذلك قاعدة كلية كما ادعوه ، فإن الاخبار في بعض العقود توافق ما ذكروه ، كهذا الخبر ونحوه غيره أيضا ، وبعض كالاخبار التي قدمناها تخالف ما ذكروه ، فكيف يمكن جعل ذلك قاعدة كلية.

ثم انهم قالوا بناء على هذه القاعدة ايضا : أنه لا فرق في المنع من الزيادة والنقيصة بين العينية والحكمية ، فلو أقاله على أن ينظره بالثمن أو يأخذ الصحاح عوض المكسور ونحو ذلك لم يصح.

الثالث ـ الظاهر أنه لا خلاف بينهم في أنها تصح في العقد وفي بعضه ، سلما كان أو غيره ، خلافا لبعض العامة حيث منع من الإقالة في بعض السلم ، محتجا بأنه يصير حينئذ سلما وبيعا ، وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، وفيه مع تسليم الخبر أنه مبنى على كون الإقالة بيعا كما تقدم نقله عن بعضهم ، وهو ممنوع على أنه قد تقدم في النكتة الثالثة ذكر معنى لهذا اللفظ ، فلا يتعين الحمل على ما ذكروه ، والاخبار الواردة باستحباب الإقالة شاملة بإطلاقها للكل والبعض ، بل هو صريح جملة من الاخبار المتقدمة في المسألة الثانية من المقام الثاني من الفصل العاشر في السلم كما أوضحناه ذيل تلك الاخبار ، وعلى هذا فمتى وقع التقابل في البعض خاصة اقتضى تقسيط الثمن على المثمن ، فيرتجع في نصف المبيع نصف الثمن ، وفي ربعه ربعه وهكذا.

الرابع ـ قالوا : ولا تسقط أجرة الدلال لسبق استحقاقه الأجرة ، فإنه كان على السعى المتقدم وقد حصل ومثله أجرة الكيال والوزان والناقد وهو جيد.

الخامس ـ قد عرفت أنه بالإقالة يرجع كل عوض الى مالكه وحينئذ فإن كان باقيا أخذه ونماءه المتصل به فإنه تابع للعين ، واما المنفصل فلا رجوع به وان كان حملا لم تضعه يومئذ ولم ينفصل ، أما اللبن في الضرع فهل يكون كالولد منفصلا أو يكون متصلا كالسمن؟ اشكال وان كان الأقرب الأول.

وأما الصوف والشعر قبل الجز فأشد إشكالا واستظهر في المسالك أنه من


المتصل مع احتمال العدم ، وان كان تالفا رجع بمثله ان كان مثليا وبقيمته ان كان قيميا وكذا يرجع بالقيمة في المثلي لو تعذر المثل ، وفي تعيين وقت القيمة الخلاف المتقدم في الأبحاث السابقة من أنه يوم تلف العين ، أو يوم القبض ، أو يوم الإقالة ، أو الأعلى من هذه القيم ، ولو وجده معيبا فله أرش العيب ، لان الجزء الفائت بالعيب بمنزلة التالف فيضمنه كما يضمن الجميع.

التاسعة : قد تكاثرت الروايات بذكر العينة ولم أقف في الكتب الفقهية على من تعرض لذكرها بهذا العنوان الا ما سيأتي من نقل كلام لابن إدريس في السرائر قال ابن الأثير في النهاية وفي حديث ابن عباس أنه كره العينة ، وهو أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى ، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به ، فان اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها فباعها من طالب العينة إلى أجل ، فقبضها ثم باعها المشترى من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة ، وهي أهون من الاولى ، وسميت عينة لحصول النقد الذي لصاحب العينة ، لأن العين هي المال الحاضر من النقد ، والمشترى إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة يصل إليه معجلة انتهى.

وقال ابن إدريس في كتاب السرائر على ما نقله عنه بعض الأصحاب وذكر شيخنا في الاستبصار في كتاب المكاسب باب العينة وهي بالعين غير المعجمة المكسورة ـ والياء الساكنة والنون المفتوحة مخففة والهاء المنقلبة عن تاء ، ومعناها في الشريعة هو أن يشترى السلعة بثمن مؤجل ثم يبيعها بدون ذلك (1) نقدا ليقضى دينا عليه ممن قد حل له عليه ويكون الدين الثاني وهو العينة من صاحب الدين الأول روى ذلك أبو بكر الحضرمي ، مأخوذ ذلك من العين : وهو النقد الحاضر انتهى وهو يرجع الى المعنى الأول ، الذي ذكره في النهاية ، والواجب نقل ما وقفت عليه

__________________

(1) قوله بدون ذلك : يعني بأدون وأنقص ، لا أن الدون بمعنى الغير.


من الاخبار الواردة بذلك في المقام. والكلام ذيل كل منها بما يكشف عن معناه نقاب الإبهام.

الأول : ما رواه في الكافي عن إسماعيل ابن عبد الخالق (1) في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام ، عن العينة وذلك أن عامة تجارنا اليوم يعطون العينة فأقص عليك كيف نعمل قال : هات قلت : يأتينا الرجل المساوم يريد المال فيساومنا وليس عندنا متاع فيقول : أربحك ده يازده وأقول أنا : ده دوازده ، فلانزال نتراوض حتى نتراوض على أمر ، فإذا فرغنا قلت له : أى متاع أحب إليك ان اشترى لك؟ فيقول : الحرير لانه لا يجد شيئا أقل وضيعة منه ، فأذهب وقد قاولته من غير مبايعة فقال : أليس إن شئت لم تعطه وان شاء لم يأخذ منك؟ قلت : بلى ، قلت فأذهب فأشترى له ذلك الحرير وأماكس بقدر جهدي ثم أجي‌ء به الى بيتي فأبايعه فربما ازددت عليه القليل على المقاولة ، وربما أعطيته على ما قاولته ، وربما تعاسرنا ولم يكن شي‌ء ، فإذا اشترى منى لم يجد أحدا أغلى به من الذي اشتريته منه ، فيبيعه منه ، فيجيئني ذلك فيأخذ الدراهم ، فيدفعها اليه وربما جاء فيحيله على ، فقال : لا تدفعها الا الى صاحب الحرير ، قلت : وربما لم يتفق بيني وبينه البيع به ، فأطلب اليه ليقيله منى فقال : أو ليس لو شاء لم يفعل وان شئت أنت لم ترد ، فقلت : بلى لو أنه هلك فمن مالي قال : لا بأس بهذا إذا أنت لم تعد هذا فلا بأس».

أقول : ما اشتمل عليه هذا الخبر هو المعنى الثاني من المعنيين اللذين ذكرهما في النهاية ، وإطلاق كلام ابن إدريس شامل لهذه الصورة أيضا ، لأن قوله ثم يبيعها بدون ذلك أعم من أن يكون البيع على من اشترى منه أو على غيره.

وفي الخبر أيضا دلالة على أنه لا يختص العينة بما إذا كان الغرض منها قضاء دين عليه كما يشعر به كلام ابن إدريس ، وان كان قد ورد ذلك في جملة من أخبار المسألة لأن ظاهر الخبر المذكور انما هو أخذ المال لينتفع به.

وظاهر هذا الخبر وغيره من أخبار العينة أن الغرض من ذلك هو الحيلة في

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 203.


الخروج من الربا ، بأن يجي‌ء الرجل محتاجا الى مبلغ من النقد يريده إلى مدة بنفع يكون لصاحب النقد في ذلك المال ضمن المدة المذكورة ، فيشتري منه متاعا بقيمة زائدة على القيمة الواقعية مؤجلة عليه إلى مدة معلومة بينهما ، فإذا اشتراه واستقر الثمن في ذمة المشترى وهو طالب العينة باعه من صاحبه الأول أو غيره بثمن أنقص مما اشتراه وقبض ثمنه ، وبقي ذلك المبلغ الأول عليه الى حلول الأجل ، فربما تعذر عليه بعد حلول الأجل فيتعين أيضا من ذلك الشخص أو غيره ليوفي دينه ، السابق.

فقوله في الخبر يأتينا الرجل المساوم يريد المال ، أى المال النقد ، وانما يريد اقتراضه إلى مدة بنفع يكون فيه ، وهذه المساومة بده دوازده ونحوها الى آخر ما ذكر انما هو حيلة في التخلص من الوقوع في الربا ، قوله لم يجد أحدا أغلى به ، أى لم يجد أحدا يشترى منه بثمن غال كثير ، وأما منعه عليه‌السلام لقبول الحوالة ومنعه من الدفع الا الى صاحب الحرير فلا أعرف له وجها ، ولهذا حمله بعض مشايخنا على الكراهة.

قوله وربما لم يتفق بيني وبينه البيع الى آخر الخبر معناه أنه ربما لم يتفق بيني وبين طالب العينة البيع ، فالتمس من الذي باعني المتاع أن يفسخ البيع الذي بيني وبينه ، ويقبل متاعه ، فقال عليه‌السلام أو ليس البيع الأول الذي وقع بينك وبينه لازما بحيث أنه لو شاء لم يفسخ البيع ، ولو شئت أنت عدم الرد لم يجب عليك الرد ، فقال : بلى الأمر كذلك ، ولو هلك المتاع قبل الفسخ كان من مالي فقال عليه‌السلام إذا لم تعد هذا الشرط أي إنشاء لم يقبل ، وان شئت لم ترد فلا بأس ، فهو من عدا يعدو أى تجاوز.

الثاني : ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحسين بن المنذر. (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يجيئني الرجل فيطلب العينة فاشترى له المتاع من أجله ثم أبيعه إياه ثم أشتريه منه مكاني قال : فقال : إذا كان بالخيار إنشاء باع ، وان شاء لم يبع ، وكنت أيضا بالخيار ان شئت اشتريت وان شئت لم تشتر فلا بأس ، قال :

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 202 التهذيب ج 7 ص 51.


فإن أهل المسجد يزعمون أن هذا فاسد ويقولون : ان جاء به بعد أشهر صلح فقال انما هذا تقديم وتأخير فلا بأس به».

أقول ما ذكره في هذا الخبر هو المعنى الأول من المعنيين المذكورين في النهاية ، ومن هذا الخبر يظهر أن مذهب العامة تحريم العينة ، لأن المراد بأهل المسجد علماء العامة الذين كانوا يجلسون في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأجل نشر العلوم ، وتعليم الناس والى ذلك يشير كلام صاحب النهاية المتقدم ، وقوله عليه‌السلام «إذا كان بالخيار» الى آخره كناية عن تحقق البيع ولزومه واقعا ، بمعنى أنه إذا تحقق البيع الأول وجميع شروط الصحة فلا بأس بشراءك منه ، وكان العامة كانوا يشترطون الفصل بين البيعين بمدة مديدة ، فقال عليه‌السلام : انما هذا تقديم وتأخير ، فلا مدخل له في الجواز ثم لا يخفى أن الخبر المذكور وان كان مطلقا بالنسبة إلى التأجيل وعدمه ، وحصول النفع وعدمه ، الا أنه يجب حمله على غيره من أخبار المسألة كالخبر المتقدم وغيره ، وكان ذلك لمعلومية الحكم من لفظ العينة كما عرفت من معناها آنفا.

الثالث : ما رواه في الكافي والتهذيب عن منصور بن حازم (1) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلب من رجل ثوبا بعينة ، فقال : ليس عندي وهذه دراهم فخذها واشتر بها فأخذها ، واشترى ثوبا كما يريد ، ثم جاء به ليشتريه منه؟ فقال : أليس ان ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم؟ فقلت : بلى ، فقال : ان شاء اشترى وان شاء لم يشتر قال : فقال : لا بأس به».

أقول : الاشتراء هنا قد وقع وكالة عن صاحب الدراهم ، والغرض هنا انما تعلق بالسؤال عن الشراء على هذه الكيفية ، وقوله عليه‌السلام ، «أليس ان ذهب الثوب» الى آخره بمعنى أن ضمان الثوب على الذي اعطى الدراهم : وأن الذي اشتراه بالخيار بين أن يشتريه من صاحب الدراهم ، وأن لا يشتريه ، مما يوضح أن الشراء الأول انما كان وكالة عن صاحب الدراهم ، لا أنه أقرضه الدراهم فشرى بها لنفسه

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 203 التهذيب ج 7 ص 52.


لانه لو كان كذلك لكان الزيادة التي يوقعها صاحب العينة ربا ، ولا معنى لقوله في الخبر ثم جاء به ليشتريه منه ، والظاهر كما استظهره بعض مشايخنا عطر الله مراقدهم أنه قد سقط لفظ «قلت : بلى» بعد قوله «وان شاء لم يشتر» من قلم النساخ ، فان المعنى لا يستقيم الا بذلك ، وحاصله أنه عليه‌السلام قال للسائل أولا : أليس ان ذهب الثوب فمن مال الذي أعطاه الدراهم ، فأجاب بلى ، فقال له ثانيا : «أليس ان شاء اشترى وان شاء لم يشتر» فأجاب بلى ، قال : «فقال : لا بأس» والخبر لم يذكر فيه بقية أحكام العينة ، لأن الغرض انما تعلق بالسؤال عن هذا الأمر الخاص.

الرابع : ما رواه في التهذيب عن منصور بن حازم (1) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يريد أن يتعين من الرجل عينة ، فيقول له الرجل أنا أبصر بحاجتي منك ، فأعطني حتى اشترى فيأخذ الدراهم فيشترى حاجته ثم يجي‌ء بها الى الرجل الذي له المال فيدفعها اليه ، فقال : أليس إنشاء اشترى وان شاء ترك ، وان شاء البائع باعه وان شاء لم يبع؟ قلت : نعم ، قال : لا بأس». والتقريب في هذا الخبر كما في سابقه وهو أوضح دلالة لما عرفت في الأول (2).

الخامس : ما رواه المشايخ الثلاثة برد الله مضاجعهم ، عن بشار بن يسار (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبيع المتاع بنسإ ويشتريه من صاحبه الذي

__________________

(1) التهذيب ج 7 ص 52.

(2) قال ابن إدريس في كتاب السرائر : وإذا أخذ الإنسان من تاجر مالا واشترى به متاعا يصلح له ثم جاء به الى التاجر ثم اشتراه منه لم يكن بذلك بأس ، لأنه وكيل التاجر نائب عنه في الشراء ، ويكون التاجر مخيرا بين أن يبيعه ، وان لا يبيعه ، فان كان الإنسان الذي هو الوكيل اشتراه لنفسه في ذمته لا بعين مال موكله ثم نقد الثمن على أنه ضامن له لم يكن للتاجر عليه سبيل ، وان اختلفا في ذلك فالقول قول الوكيل دون الموكل ، وان كان الوكيل شراه بعين مال موكله فان الملك يقع للتاجر الذي هو الموكل دون الوكيل انتهى منه رحمه‌الله.

(3) الكافي ج 5 ص 208 التهذيب ج 7 ص 47 الفقيه ج 3 ص 134.


يبيعه منه؟ قال : نعم لا بأس ، فقلت : أشترى متاعي؟ قال : ليس هو متاعك ولا بقرك ولا غنمك». أقول هذه هي العينة على ما عرفت ، وأنه يدفع له قيمة ما اشتراه منه ويجعل الأول دينا عليه إلى الأجل المعلوم بينهما ، والسائل توهم المنع ، لأنه يشترى متاع نفسه ، وأجابه عليه‌السلام بأنه قد انتقل عنك بالبيع الأول الذي جعلت ثمنه نسيئة ، فليس هو متاعك ، وانما هو متاع المشترى وأنت تريد شراءه منه».

السادس : ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى بكر الحضرمي (1) في الحسن قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل تعين ثم حل دينه فلم يجد ما يقضى أيتعين من صاحبه الذي عينه ويعطيه؟ قال : نعم».

السابع : ما روياه أيضا عن الحضرمي (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : يكون لي على الرجل الدراهم فيقول لي : بعني شيئا أقضيك فأبيعه المتاع ثم أشتريه منه فاقبض مالي؟ قال لا بأس به».

الثامن : ما رواه في الكافي عن هارون بن خارجة (3) «قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : عينت رجلا عينة فقلت له : اقضني فقال : ليس عندي تعينى حتى أقضيك قال : عينه حتى يقضيك».

ورواه في الفقيه عن صفوان الجمال (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، عينت رجلا عينة فحلت عليه فقلت : اقضني» الحديث. دلت هذه الاخبار على التعين ثانيا من صاحب العينة الأولى كما ذكره ابن إدريس ، وكأنه لم يطلع إلا على خبر الحضرمي ولا اختصاص لها بهذه الصورة ، لما عرف في ما تقدم وهو أن يشترى طالب العينة من صاحب الطلب متاعا بما يزيد على قيمته السوقية مؤجلا عليه ، ثم يشتريه البائع بأنقص ويدفع الثمن الى صاحب العينة ، ثم ان طالب العينة يدفعه لصاحب الطلب عن طلبه

__________________

(1 و 2) الكافي ج 5 ص 204 التهذيب ج 7 ص 48.

(3) الكافي ج 5 ص 205.

(4) الفقيه ج 3 ص 83.


السابق ، ويبقى قيمة ما باعه عليه أولا في ذمته دينا عليه.

العاشرة قال ابن الجنيد : العربون من جملة الثمن ، ولو شرط المشترى للبائع أنه ان جاء بالثمن ، والا فالعربون له كان عوضا عما منعه من البيع ، وهو التصرف في سلعته ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عن ابن الجنيد : والمعتمد أن يكون من جملة الثمن ، فان امتنع المشترى من دفع الثمن وفسخ البائع العقد وجب عليه رد العربون.

لنا الأصل بقاء الملك على المشترى ، فلا ينتقل عنه الا بوجه شرعي ، وما رواه وهب (1) عن الصادق عليه‌السلام قال : «كان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، يقول : لا يجوز بيع العربون الا ان يكون هذا من الثمن». ثم نقل عن ابن الجنيد انه احتج بقوله عليه‌السلام (2) «المؤمنون عند شروطهم». ثم أجاب عنه بان المراد الشروط السائغة.

أقول : ما نقله من الرواية بلفظ هذا من الثمن هو الموجود في التهذيب ، وفي غيره ، «الا أن يكون نقدا من الثمن» والظاهر على هذا أن يكون من الثمن بدلا من نقد.

وكيف كان فالظاهر ضعف ما ذكره ابن الجنيد ان لم يكن ذلك الشرط في عقد صحيح لازم ، لوجوب الوفاء بالشرط ـ ومنع كونه سائغا كما ذكره العلامة ـ لا أعرف له وجها ، نعم لو وقع ذلك من غير أن يكون في عقد لم يلزم ، الا ان يقال : بوجوب الوفاء بالوعد كما دل عليه ظاهر القرآن ، ويدل عليه أيضا بعض الاخبار ، واليه جنح بعض مشايخنا المتأخرين وهو قوي.

الحادية عشر : روى الشيخ في التهذيب عن حكم بن حكيم الصيرفي (3) قال : «سمعت أبا الحسن عليه‌السلام ، وسأله حفص الأعور فقال : ان السلطان يشرون منا القرب والادواة فيوكلون الوكيل حتى يستوفيه منا ، فنرشوه حتى لا يظلمنا ، فقال :

__________________

(1) الكافي ج 5 ص 233 التهذيب ج 7 ص 234.

(2) الكافي ج 5 ص 169.

(3) التهذيب ج 7 ص 235.


لا بأس ما تصلح به مالك ، ثم سكت ساعة ثم قال : إذا أنت رشوته يأخذ أقل من الشرط؟ قلت : نعم قال : فسدت رشوتك».

أقول : فيه دلالة على جواز الرشوة لدفع الظلم المتعدي ، والظاهر أن الجواز انما هو بالنسبة الى المعطى لا الى القابض ، فإنها محرمة عليه البتة ، لأنه إنما أعطى لأجل دفع ظلمه ، وهذا انما يوجب زيادة في التحريم.

واما إعطاء الوكيل هنا لأجل أن يقبل أقل من الحق الواجب أداؤه ، فإنه محرم البتة ، ولهذا قال عليه‌السلام لما سأله أنه بعد أخذ الرشوة يأخذ أقل من الشرط يعني الحق الذي شرط عليه فقال نعم : «فسدت رشوتك» فان ذلك خيانة وظلم ، وهو ظاهر. والله العالم بحقائق أحكامه وأولياؤه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *