ج14 - حج النيابة وشرائطه

المقصد الثالث

في حج النيابة وشرائطه

لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه يشترط في التائب شروط :

منها ـ كمال العقل فلا تجوز نيابة المجنون لانغمار عقله بالمرض المانع من النية والقصد. ولو كان ممن يعتريه الجنون أدوارا فلا مانع من نيابته إذا حصل الوثوق بتمكنه من العمل المستأجر عليه وإلا فلا. ومثله الصبي غير المميز.

وفي المميز قولان ، ظاهر الأكثر المنع.

وعلله في المعتبر بان حج الصبي انما هو تمريني ، والحكم بصحته بالنسبة الى ما يراد من تمرينه لا لانه يقع مؤثرا في الثواب.

وهو غير جيد ، لما قدمنا في كتاب الصوم من ان عبادة الصبي شرعية يستحق عليها الثواب لأنها مرادة للشارع.

نعم الوجه في المنع من نيابته أولا ـ انما هو عدم الدليل في المقام ، لان العبادات بأي كيفية وعلى اي نحو موقوفة على التوقيف ، ولم يرد في المقام نص بجواز نيابته.

وثانيا ـ انه لعلمه برفع القلم عنه (1) وعدم مؤاخذته بما يصدر منه فلا يمكن الوثوق باخباره.

وقيل بالجواز ، لانه قادر على الاستقلال بالحج. وهو ضعيف لما عرفت.

ونقل في المدارك عن بعض مشايخه المعاصرين ـ ولعله المولى المحقق الأردبيلي كما يشير اليه كثيرا بذلك ـ جواز نيابته مع الوثوق باخباره. ثم قال : وليس ببعيد من الصواب. انتهى. وفيه توقف.

ومنها ـ الإسلام فلا تصح نيابة الكافر ، لانه عاجز عن نية القربة التي هي شرط في صحة العمل المستأجر عليه.

قالوا : وكذا هذا الشرط في المنوب عنه ، فليس للمسلم ان يحج عن الكافر لقوله (عزوجل) (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) (2) ولأنه في الآخرة مستحق للخزي والعقاب لا للأجر والثواب ، وهما من لوازم صحة الفعل.

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من مقدمة العبادات ، وسنن البيهقي ج 8 ص 264.

(2) سورة التوبة الآية 113.


وفي اشتراط الايمان في النائب قولان ، ظاهر أكثر المتأخرين ـ حيث حكموا بإسلام المخالفين ـ صحة نيابتهم فلا يشترط الايمان عندهم.

قال العلامة في التذكرة : أما المخالف فيجوز ان ينوب عن المؤمن ويجزئ عن المنوب إذا لم يخل بركن ، لأنها تجزئ عنه ولا تجب عليه الإعادة لو استبصر ، فدل ذلك على ان عبادته معتبرة في نظر الشرع يستحق بها الثواب إذا رجع الى الايمان إلا الزكاة ، لأنه دفعها الى غير مستحقها. ويدل على ذلك ما رواه بريد بن معاوية العجلي (1). ثم ساق الرواية.

وقيل بالعدم ، وهو الحق ، واليه مال في المدارك.

وقد تقدم تحقيق المسألة ودلالة جملة من الاخبار على بطلان عبادة المخالف وان اتى بها على الوجه المشترط عند أهل الإيمان فضلا عن أهل نحلته ، وان سقوط القضاء عنه بعد الرجوع الى الايمان انما هو تفضل من الله (عزوجل) لا لصحة عبادته كما توهمه (قدس‌سره).

ومنها ـ خلو ذمته عن حج واجب عليه بالأصالة أو بالنذر أو الاستئجار أو الإفساد ، فلو وجب عليه الحج بسبب أحد هذه الأمور لم يجز له ان ينوب عن غيره إلا بعد أداء ما في ذمته. كذا صرح به العلامة في التذكرة ، ومثله في غيرها.

والأظهر ان يقال : انه إنما يجب خلو ذمة النائب من الحج الواجب إذا كان مخاطبا في ذلك العام على الفور وحصول التمكن منه ، اما لو كان واجبا موسعا أو في عام بعد ذلك ـ كمن نذره كذلك أو استؤجر له ـ فإنه لا مانع من صحة نيابته قبله. وكذا لو وجب عليه في ذلك العام وعجز عنه ولو مشيا حيث لا يشترط فيه الاستطاعة ، كالمستقر من حج الإسلام ، فإنه يجوز له الاستنابة في ذلك

__________________

(1) ص 159.


العام ، لسقوط الوجوب فيه بالعجز وان كان ثابتا في الذمة. ولكن ينبغي ان يراعى في جواز الاستنابة ضيق الوقت بحيث لا يحتمل تجدد الاستطاعة أو القدرة عادة. وبالجملة فإن المنافاة لا تحصل بمجرد الوجوب كيف اتفق كما هو مقتضى كلامهم ، بل بالفورية في ذلك العام ، فما لم يكن كذلك فإنه لا مانع يمنع الاستنابة.

ومن الاخبار الواردة في المقام ما رواه ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن سعد بن ابي خلف (1) قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال : نعم إذا لم يجد الصورة ما يحج به عن نفسه ، فان كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزئ عنه حتى يحج من ماله. الحديث».

وما رواه في الصحيح أو الحسن على المشهور عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (2) : «في رجل صرورة مات ولم يحج حجة الإسلام وله مال؟ قال : يحج عنه صرورة لا مال له».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن سعيد الأعرج (3) : «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصرورة أيحج عن الميت؟ فقال : نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به ، فان كان له مال فليس له ذلك حيث يحج من ماله. الخبر».

والمراد بالصرورة هو من لم يحج بالمرة.

وهل العدالة شرط في صحة النيابة أم لا؟ ظاهر جملة من المتأخرين اعتبارها في الحج الواجب ، لا من حيث الحكم ببطلان عبادة الفاسق ، بل من حيث ان الإتيان بالحج انما يعلم بخبره ، والفاسق لا يقبل خبره ، للآية (4) والرواية (5).

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.

(4) وهو قوله تعالى في سورة الحجرات ، الآية 6 «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا».

(5) الظاهر ان المراد بها الروايات الواردة في رد شهادته ، وقد أوردها في الوسائل في الباب 30 و 32 و 33 و 34 و 41 من كتاب الشهادات.


قال في المدارك واكتفى بعض الأصحاب فيه بكونه ممن يظن صدقه ويحصل الوثوق باخباره وهو حسن. انتهى.

أقول : التحقيق هنا ان يقال : ان الناس على أقسام ثلاثة : ظاهر العدالة وظاهر الفسق ومجهول الحال ، اما الأول فلا ريب في جواز نيابته ، واما الثاني فالظاهر عدم جواز نيابته ، لما ذكرناه من ان الحكم بالصحة مبني على خبره ، وخبره غير مقبول ، للآية (1) والرواية (2) واما الثالث فهذا هو الذي ينبغي ان يجعل محل الخلاف ، وهذا هو الذي ينبغي ان يحمل عليه كلام بعض الأصحاب الذي نقله واستحسنه ، من انه متى كان ممن يظن صدقه ويحصل الوثوق باخباره جازت نيابته.

أقول : وهذا هو الذي جرى عليه من شاهدناه وسمعناه من مشايخنا (رضوان الله عليهم) في الاستئجار للحج في جميع الأعصار والأمصار.

وبما ذكرناه من التفصيل يظهر لك ما في كلام شيخنا الشهيد في الدروس حيث قال : العدالة شرط في الاستنابة عن الميت وليست شرطا في صحة النيابة ، فلو حج الفاسق عن غيره أجزأ. وفي قبول اخباره بذلك تردد أظهره القبول ، لظاهر حال المسلم ، ومن عموم قوله تعالى (فَتَبَيَّنُوا) (3).

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه ـ ونعم ما قال ـ ويتوجه عليه أولا ـ ان

__________________

(1) وهو قوله تعالى في سورة الحجرات ، الآية 6 «إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا».

(2) الظاهر ان المراد بها الروايات الواردة في رد شهادته ، وقد أوردها في الوسائل في الباب 30 و 32 و 33 و 34 و 41 من كتاب الشهادات.

(3) سورة الحجرات ، الآية 6.


ما استدل به على القبول من ظاهر حال المسلم لا يعارض الآية الشريفة المتضمنة لوجوب التثبت عند خبر الفاسق. وثانيا ـ انه لا وجه للمنع من استنابة الفاسق إلا عدم قبول اخباره ، فمتى حكم بقبول اخباره انتفى المانع من جواز الاستنابة.

وذكر بعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان من جملة الشروط ايضا قدرة الأجير على العمل وفقهه في الحج. واكتفى الشهيد في الدروس بحجه مع مرشد عدل.

ومن شرائط النيابة في الواجب ايضا موت المنوب عنه أو عجزه كما سبق بيانه. اما الحج المستحب فلا يشترط فيه ذلك إجماعا بل تجوز النيابة عن الحي ، وفيه فضل كثير.

قال شيخنا الشهيد في الدروس : وقد أحصي في عام واحد خمسمائة وخمسون رجلا يحجون عن علي بن يقطين صاحب الكاظم عليه‌السلام وأقلهم تسعمائة دينار وأكثرهم عشرة آلاف دينار.

تنبيهات

الأول ـ قد عرفت في ما تقدم الخلاف في اشتراط الايمان في النائب وان الأصح ذلك. وكذا وقع الخلاف المذكور في المنوب عنه ، والمنقول عن الشيخين وأتباعهما انه لا تجوز النيابة عن غير المؤمن.

قال في المعتبر : وربما كان التفاتهم الى تكفير من خالف الحق ، ولا تصح النيابة عن من اتصف بذلك. ونحن نقول : ليس كل مخالف للحق لا تصح منه العبادة ونطالبهم بالدليل عليه. ونقول : اتفقوا على انه لا يعيد عباداته التي فعلها مع استقامته سوى الزكاة. ثم قرب اختصاص المنع بالناصب خاصة.

أقول : لا يخفى ما في كلام هذا المحقق من الغفلة عن ملاحظة الأخبار الواردة في هذا الباب عن أهل العصمة (عليهم‌السلام) الدالة على بطلان عبادة


المخالفين ، كما قدمنا جملة منها في المسألة الثالثة (1) من المسائل الملحقة بالشروط المتقدمة في المقصد الأول.

واما ما ذكره ـ من انه ربما كان التفاتهم الى تكفير من خالف الحق ـ فالأمر كذلك ، وهو الحق الظاهر من الاخبار على وجه لا يقبل الإنكار ، إلا ممن لم يعط النظر حقه في تتبع الاخبار والوقوف عليها من مظانها ، كما أوضحنا ذلك ـ بحمد الله (سبحانه) ومنه ـ في كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب على تفصيل أودعناه الكتاب المشار اليه.

وما توهمه ـ من الاتفاق على انه لا يعيد عبادته التي فعلها في حال ضلاله متى دخل في الايمان ، من ان ذلك انما هو لصحتها في نفس الأمر ـ غلط محض وتوهم صرف ، بل انما ذلك تفضل من الله (عزوجل) عليه ، كما تفضل على الكافر المشرك بعد دخوله في الايمان بعدم وجوب إعادة شي‌ء من عباداته.

نعم قد ذكر الشيخان (رضوان الله عليهما) وأتباعهما جواز النيابة عن الأب خاصة متى كان مخالفا ، لصحيحة وهب بن عبد ربه المروية في الكافي (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيحج الرجل عن الناصب؟ فقال : لا. قلت : فكان ابي؟ قال : ان كان أباك فنعم». ورواه الصدوق مثله (3) إلا ان فيه : «ان كان أباك فحج عنه».

ومنع ابن إدريس من جواز النيابة عن الأب أيضا. ومال العلامة في المختلف الى جواز النيابة عن المخالف مطلقا قريبا كان أو بعيدا ، ومنع من النيابة عن الناصب مطلقا ، قال : ونعني بالناصب من يظهر العداوة لأهل البيت (عليهم

__________________

(1) ص 164.

(2 و 3) الوسائل الباب 20 من النيابة في الحج.


السلام) كالخوارج ومن ماثلهم ، أبا كان أو غير أب. وتقدم كلام المحقق الدال على ذلك ، ونحوه ما قدمنا نقله عن التذكرة. وقال في الدروس : والأقرب اختصاص المنع بالناصب ، ويستثني الأب.

وقال العلامة في المختلف بعد اختياره القول الذي ذكرناه : لنا على الحكم الأول : ان المنوب ممن تصح منه العبادة مباشرة فتصح منه تسبيبا ، لان الفعل من ما تدخله النيابة. ولأن عباداته تقع صحيحة ، ولهذا لا تجب عليه إعادتها إلا الزكاة مع استقامته ، فيصح الحج عنه. واما الناصب فلأنه لما جحد ما علم ثبوته من الدين ضرورة حكم بكفره ، فلا تصح النيابة عنه كما لم تصح مباشرته. ثم قال : احتج الشيخ بان من خالف الحق كافر فلا تصح النيابة عنه. وبما رواه وهب بن عبد ربه في الصحيح. ثم ساق الرواية. والجواب عن الأول بالمنع من الصغرى. وعن الرواية بالقول بالموجب ، فان الناصب عندنا لا تجوز النيابة عنه. ثم قال : بقي هنا اشكال يرد علينا خاصة حيث سوغنا النيابة عن المخالف مطلقا ومنعنا من النيابة عن الناصب مطلقا ، فان هذه الرواية فصلت بين الأب وغيره ، فنقول : المراد بالناصب ان كان هو المخالف مطلقا ثبت ما قاله الشيخ ، وان كان هو المعلن بالعداوة والشنآن لم يبق فرق بين الأب وغيره.

ولو قيل بقول الشيخ كان قويا. انتهى. أقول : إنما أطلنا بنقل كلامه (زيد في مقامه) ليظهروجه بما أبطلنا به‌المحقق. وبالجملة فإن كلامهم في‌المقام نفخ في غير ضرام

والمستفاد الأخبار الواردة عن العترة الأطهار ـ على‌لا يقبل الاستتار عنداطلع عليها ونظرها بعين التدبر والاعتبار ـ ان المراد بالناصب حيثما أطلق انما هو المخالف العارف بالإمامة والمنكر لها ، وما ذكروه من هذا المعنى للناصب فهو مجرد اختراع منهم لا مستند له ولا دليل عليه ، بل الأدلة واضحة في رده


وعدم الميل اليه. ومن أراد تحقيق ما قلناه فليرجع الى كتابنا المشار اليه آنفا فإنه قد أحاط في هذه المسألة بأطراف الكلام وإبرام النقض ونقض الإبرام بما لم يسبق اليه سابق من علمائنا الاعلام. والله الهادي لمن يشاء.

الثاني ـ ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف ـ كما قدمنا التنبيه عليه ـ انه من وجب عليه حجة الإسلام فلا يجوز له ان يحج تطوعا ولا عن غيره.

وعللوا المنع من التطوع لمنافاته الواجب الفوري المقدور عليه بالتمكن من التطوع. واما المنع من الحج عن الغير فيبني على التفصيل المتقدم.

والمقطوع به في كلامهم انه لو خالف والحال هذه فإنه يحكم بفساد التطوع والحج عن الغير.

قال في المدارك بعد نقل ذلك عنهم : وهو انما يتم إذا ورد فيه نهى بالخصوص ، أو قلنا باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، وربما ظهر من صحيحة سعد بن ابي خلف (1) خلاف ذلك ، فإنه قال : «سألت أبا الحسن موسى (عليه‌السلام) عن الرجل الصرورة يحج عن الميت؟ قال : نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به عن نفسه ، فان كان له ما يحج به عن نفسه فليس يجزئ عنه حتى يحج من ماله. وهي تجزئ عن الميت ان كان للصرورة مال وان لم يكن له مال».

والمسألة محل تردد. انتهى.

وقال بعد ذلك ـ في شرح قول المصنف : وكذا لا يصح حجه تطوعا ، ولو تطوع قيل يجزئ عن حجة الإسلام ، وهو تحكم ـ ما صورته : اما المنع من التطوع لمن في ذمته واجب فقد تقدم الكلام فيه. ولا يخفى ان الحكم بفساد التطوع انما يتم إذا ثبت تعلق النهي به نطقا أو التزاما ، والقول بوقوع التطوع

__________________

(1) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.


عن حج الإسلام للشيخ في المبسوط. وهو مشكل ، لان ما فعله قد قصد به خلاف حج الإسلام فكيف ينصرف اليه؟ ونقل عنه في الخلاف انه حكم بصحة التطوع وبقاء حج الإسلام في ذمته. وهو جيد ان لم يثبت تعلق النهي به المقتضى للفساد. انتهى.

وظاهر كلامه (قدس‌سره) ـ كما ترى ـ في الموضعين صحة حج التطوع وحج النيابة لمن كان مخاطبا بحج الإسلام ، حيث انه لم يرد عنده دليل يدل على النهي عن ذلك في حال وجوب حج الإسلام ، والأمر بالحج لا يقتضي النهي عن الأضداد الخاصة عنده ، فيقع الحج على كل من الوجهين صحيحا وان اثم ، وظاهر صحيحة ابن ابى خلف التي ذكرها موهم لما ذكره ، حيث ان ظاهر سياق الخبر ان الصرورة لا يحج عن الميت إلا إذا لم يجد ما يحج به عن نفسه ، فان وجد ما يحج به فليس يجزئ عنه إلا الحج من ماله. وحجه عن الميت لو فعل مجزئ عن الميت سواء كان له مال أو لم يكن له مال ، وان أثم باعتبار عدم الحج عن نفسه أولا. وربما دل الخبر بالإشارة الى ان الصرورة لو لم يكن له مال فهي تجزئ عنه وعن الميت كما تقدم في الاخبار المذكورة في المسألة الثانية عشرة (1) من المسائل الملحقة بالشرط الثالث من شروط حج الإسلام.

ومثل هذه الصحيحة ما رواه الصدوق في الفقيه عن سعيد الأعرج (2) «انه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصرورة أيحج عن الميت؟ فقال : نعم إذا لم يجد الصرورة ما يحج به ، فان كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من ماله. وهو يجزئ عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال».

__________________

(1) ص 116.

(2) الوسائل الباب 5 من النيابة في الحج.


أقول : والذي يقرب عندي ان ظاهر هذين الخبرين ـ سيما الثاني ـ هو النهي عن الحج نيابة حتى يحج عن نفسه ، لقوله في رواية سعيد الأعرج ـ بعد تقييد الجواب عن جواز حج الصرورة عن الميت بما إذا لم يجد الصرورة ما يحج به الدال بمفهومه على عدم الجواز لو وجد ما يحج به : «فان كان له مال فليس له ذلك حتى يحج عن نفسه (1)» وهو تصريح بالمفهوم المتقدم ، وصريح في عدم جواز النيابة حتى يحج حجة الإسلام من ماله. ونحو ذلك سياق صدر صحيحة سعد بن ابي خلف المتقدمة ، وقوله فيها : «فليس يجزئ عنه حتى يحج من ماله» بمنزلة قوله في الرواية الثانية : «فليس له ذلك» وان كانت العبارة الثانية واضح في الدلالة على ما ذكرناه ، فكأنه أريد بمعنى «فليس يجزئ عنه» اي ليس يجوز له ذلك ، وباب التجوز في الكلام واسع. ويعضد ذلك ما تقدم (2) في صحيحة معاوية بن عمار : «يحج عنه صورة لا مال له». ومثلها صحيحة أخرى له (3).

وبذلك يظهر ان ما ذكره في المدارك ـ من انه انما يتم ذلك لو ورد النهي نطقا أو التزاما عن النيابة في الصورة المذكورة ـ ليس في محله ، فإن النهي ظاهر بالتقريب الذي ذكرناه وليس النهي مخصوصا ب «لا وليس» ونحوهما ، بل قول الشارع : «لا يجوز» أصرح في الدلالة.

بقي الكلام في قوله عليه‌السلام في آخر رواية سعد بن ابي خلف : «وهي تجزئ عن الميت ان كان للصرورة مال وان لم يكن له مال» وقوله في الثانية : «وهو يجزئ عن الميت كان له مال أو لم يكن له مال» فإنه ربما أوهم تعلقه بأصل السؤال ، بان يكون حاصل المعنى : انه لا تجوز له النيابة إذا كان له مال

__________________

(1) اللفظ : «حتى يحج من ماله».

(2) ص 241.

(3) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه.


حتى يحج حجة الإسلام ، لكن لو حج عن الميت أجزأ عن الميت وان أثم بتركه الحج عن نفسه. وفيه انه متى كان صدر الحديث دالا على انه لا تجوز النيابة في الصورة المذكورة ، فكيف يحكم بالجواز بعد ذلك؟ وهل هو إلا تناقض ظاهر وتدافع؟ إذ مقتضى عدم الجواز هو البطلان لو وقع لا الصحة.

وبعض مشايخنا المحدثين ـ بعد ذكر صحيحة سعد والكلام فيها ـ أجاب عن قوله في هذه الزيادة في آخر الرواية بتأويلين : الأول ـ ان الضمير يرجع الى الجزء الأول من الحديث دفعا لنوهم الراوي أن نيابة الصرورة غير جائزة ، والضميرين المجرورين في آخر الحديث الى الميت ، يعني سواء كان على الميت حج واجب أو لم يكن وحج عنه ندبا. الثاني ـ ان المراد دفع توهم من توهم انه إذا لم يكن على أحدهما حجة الإسلام فليس لهما ثواب حجة الإسلام ، فدفع هذا التوهم بان كليهما مثابان ثواب حجة الإسلام ، فإن استطاع النائب بعد وحج حجة الإسلام كتب الله له ثواب حجة الإسلام ثانيا. وثواب الاولى تفضلى والثانية استحقاقي ، كما دل على مضمونه الأحاديث الصحيحة. انتهى. ولا يخفى ما فيه.

والذي يقرب عندي ان هذه الجملة الأخيرة غير متعلقة بالكلام المتقدم لما عرفت من المناقضة ، بل هي مبنية على مقدمة مطوية في البين مفهومة من سياق الكلام المتقدم ، وهي انه لما منع في صدر الخبر جواز النيابة متى كان صرورة ذا مال جوز له النيابة بعد الحج من ماله سواء كان ذا مال أو لم يكن ، فإنه لما قال في الرواية الثانية ـ : «فإن كان له مال فليس له ذلك حتى يحج من ماله» الدال على عدم جواز النيابة حتى يحج أولا من ماله ـ قال : «وهو يجزئ عن الميت» يعني متى حج من ماله سواء كان له مال يومئذ أو لم يكن ، فإن الأجزاء حاصل على كلا الوجهين. وبعين ذلك نقول في صحيحة سعد. ولا ينافي ذلك التعبير بالصرورة فيها فإنه تجوز باعتبار ما كان عليه. وهذا التقدير في


مقام الجمع غير بعيد بل شائع في الأخبار ، وليس هو إلا من تقييد المطلق وتخصيص العام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

الثالث ـ المقطوع به في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا بد من تعيين المنوب عنه قصدا في موضع يفتقر إلى النية ، لتوقف حقيقة النيابة على ذلك ولا يجب التلفظ باللسان ، لخروجه عن معنى النية وان أعتقده الجهال نية.

ويدل على ذلك ما رواه الصدوق في الصحيح عن البزنطي (1) قال : «سأل رجل أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن الرجل يحج عن الرجل ، يسميه باسمه؟ قال : الله (عزوجل) لا تخفى عليه خافية».

وما رواه الصدوق والشيخ عن مثنى بن عبد السلام في القوى عن ابي عبد الله عليه‌السلام (2) : «في الرجل يحج عن الإنسان ، يذكره في جميع المواطن كلها؟ قال : ان شاء فعل وان شاء لم يفعل ، الله يعلم انه قد حج عنه ، ولكن يذكره عند الأضحية إذا ذبحها».

وقد ورد ايضا ما يدل على استحباب ذكره في المواطن ، لما رواه الكليني والشيخ عنه في الصحيح عن محمد بن مسلم عن ابي جعفر عليه‌السلام (3) قال : «قلت له : ما الذي يجب على الذي يحج عن الرجل؟ قال : يسميه في المواطن والمواقف».

وما رواه الصدوق في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (4) قال : «سألته عن الرجل يقضي ـ عن أخيه أو عن أبيه أو رجل من الناس ـ الحج ، هل

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج.

(4) الفقيه ج 2 ص 278 ، وفيه هكذا : «يقول عند إحرامه بعد ما يحرم» وفي الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج.


ينبغي له ان يتكلم بشي‌ء؟ قال : نعم يقول بعد ما يحرم : اللهم ما أصابني في سفري هذا من نصب أو شدة أو بلاء أو شعث فأجرني فلانا فيه وأجرني في قضائي عنه».

وروى في الصحيح أو الحسن على المشهور عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «قيل له : أرأيت الذي يقضي عن أبيه أو امه أو أخيه أو غيرهم ، أيتكلم بشي‌ء؟ قال : نعم يقول عند إحرامه : اللهم ما أصابني من نصب أو شعث أو شدة فأجر فلانا فيه وأجرني في قضائي عنه».

الرابع ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) جواز حج المرأة عن الرجل وعن المرأة ، صرورة كانت أو قد حجت. ونقل عن الشيخ في الاستبصار المنع من نيابة المرأة الصرورة عن الرجل. وفي النهاية أطلق المنع من نيابة المرأة الصرورة ، وهو ظاهر اختياره في التهذيب.

يدل على المشهور ما رواه الشيخ في الصحيح عن رفاعة عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) انه قال : «تحج المرأة عن أختها وعن أخيها. وقال : تحج المرأة عن أبيها».

قال في الوافي بعد ان نقل الحديث بلفظ : «ابنها» بالنون بعد الباء عن الكافي والتهذيب : ونقل عن التهذيبين انه فيهما بالمثناة التحتانية بعد الباء.

وفي الحسن عن معاوية بن عمار (3) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يحج عن المرأة والمرأة تحج عن الرجل؟ قال : لا بأس».

__________________

(1) الوسائل الباب 16 من النيابة في الحج. والرواية للكليني في الكافي ج 4 ص 311.

(2 و 3) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.


وما رواه الكليني في الصحيح أو الحسن عن أبي أيوب (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : امرأة من أهلنا مات أخوها فأوصى بحجة وقد حجت المرأة فقالت : ان صلح حججت انا عن أخي وكنت أنا أحق بها من غيري؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا بأس ان تحج عن أخيها ، وان كان لها مال فلتحج من مالها فإنه أعظم لأجرها».

وما رواه الصدوق عن بشير النبال (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان والدتي توفيت ولم تحج؟ قال : يحج عنها رجل أو امرأة. قال : قلت : أيهما أحب إليك؟ قال : رجل أحب الي».

احتج الشيخ على ما نقلوه عنه

بما رواه زيد الشحام عن ابي عبد الله عليه‌السلام (3) قال : «سمعته يقول : يحج الرجل الصرورة عن الرجل الصرورة ولا تحج المرأة الصرورة عن الرجل الصرورة».

وما رواه عن مصادف (4) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : أتحج المرأة عن الرجل؟ قال : نعم إذا كانت فقيهة مسلمة وكانت قد حجت ، رب امرأة خير من رجل».

وأجاب عنهما في المدارك أولا ـ بالطعن في السند. وثانيا ـ بالحمل على الكراهة واستدل على ذلك برواية سليمان بن جعفر (5) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن امرأة صرورة حجت عن امرأة صرورة؟ قال : لا ينبغي». قال : ولفظ «لا ينبغي» صريح في الكراهة. انتهى.

أقول : ورواية مصادف هذه قد روى مثلها الكليني أيضا بسنده فيه

__________________

(1 و 2 و 4) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.

(3 و 5) الوسائل الباب 9 من النيابة في الحج.


عن مصادف عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) : «في المرأة تحج عن الرجل الصرورة؟ فقال : ان كانت قد حجت وكانت مسلمة فقيهة ، فرب امرأة أفقه من رجل».

ومن الاخبار المؤيدة لما ذكره الشيخ ايضا ما رواه في التهذيب في الموثق عن عبيد بن زرارة (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل الصرورة يوصي أن يحج عنه ، هل تجزئ عنه امرأة؟ قال : لا ، كيف تجزئ امرأة وشهادته شهادتان؟ قال : إنما ينبغي ان تحج المرأة عن المرأة والرجل عن الرجل وقال : لا بأس ان يحج الرجل عن المرأة».

أقول : ومرجع كلام الشيخ الى حمل إطلاق الاخبار المتقدمة على هذه الاخبار المتأخرة ، وهو ان المرأة إنما تنوب عن غيرها إذا كانت قد حجت ، سيما إذا كانت فقيهة عارفة. ولا يخفى انه هو الأوفق بقواعد الجمع بين الاخبار ولكن أصحاب هذا الاصطلاح المحدث ـ حيث انهم يطرحون الأخبار الضعيفة في المقام إذا لم تبد لهم الحاجة إليها ـ كان الأوفق باصطلاحهم ما ذكروه ، ومن يحكم بصحة الأخبار كلا فالوجه عنده ما ذهب اليه الشيخ ، ولهذا ان ظاهر المحدث الكاشاني في الوافي الميل الى ما ذكره الشيخ (قدس‌سره).

واما قوله في المدارك ـ : ولفظ : «لا ينبغي» صريح في الكراهة ـ فهو مسلم بالنسبة إلى عرف الناس الآن ، واما استعمال هذا اللفظ في الاخبار بمعنى التحريم فأكثر من ان يحصى. وقد نبهنا في ما سبق على ان هذا اللفظ بالنسبة إلى وروده في الاخبار من الألفاظ المتشابهة ، لوروده فيها بالمعنى العرفي تارة وبمعنى التحريم اخرى. ومثله لفظ : «ينبغي» في الوجوب أو بمعنى الاولى

__________________

(1) الوسائل الباب 8 من النيابة في الحج.

(2) الوسائل الباب 9 من النيابة في الحج.


وظاهر موثقة عبيد بن زرارة هو استعمال لفظ : «ينبغي» فيها في الوجوب ، فإنه منع أولا من اجزاء حج المرأة عن الرجل الصرورة ، ثم قال : «إنما ينبغي ان تحج المرأة عن المرأة. الى آخره» فان ما تقدم قرينة على ذلك.

وكيف كان فما ذكره الشيخ هو الأوفق بالاحتياط ، ولا سيما في باب الحج الذي قد عثرت فيه اقدام جملة من صرورة العلماء فضلا عن غيرهم ، فالواجب تقييد نيابة المرأة بكونها قد حجت أولا ، سيما مع كونها فقيهة عارفة. والله العالم.

مسائل

الأولى ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان من استؤجر ومات في الطريق ، فإن أحرم ودخل الحرم فقد أجزأت عن من حج عنه واستحق الأجرة كملا ، ولو مات قبل ذلك ولو بعد الإحرام لم يجزئ عند الأكثر ، قالوا : ويجب على الأجير إعادة ما قابل المتخلف من الطريق ذاهبا وآئبا.

وهذا الكلام ينحل إلى المسألتين يجب تحقيق كل منهما على حدة :

الاولى ـ ان النائب إذا مات بعد الإحرام ودخول الحرم فقد أجزأت حجته عن من حج عنه بلا خلاف.

وانما الخلاف في ما إذا مات بعد الإحرام وقبل دخول الحرم ، فذهب الشيخ في الخلاف وابن إدريس الى ان حكمه كالأول من غير فرق. ولم نقف لهم على دليل ، كما تقدمت الإشارة الى ذلك في المسألة الأولى من المسائل الملحقة بالشروط (1).

واما ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) فاحتج عليه في المدارك بالإجماع ، وبرواية بريد ورواية ضريس المتقدمتين (2) في المسألة المشار إليها. ثم قال :

__________________

(1) ص 151.

(2) ص 149 و 150.


لا يقال : ان الروايتين مختصتان بمن حج عن نفسه فلا يتناولان حج النائب ، لأنه إذا ثبت ذلك في حق الحاج ثبت في نائبه ، لأن فعله كفعل المنوب عنه. انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الوهن ، وهل هو إلا مجرد مصادرة؟ مع انه لا يخرج عن القياس.

ويأتي على مقتضى كلامه هنا ـ من انه يجب ان يكون فعله كفعله ـ ان الحاج متى استطاع في بلده ووجب عليه الحج من بلده ، فإذا مات يجب ان يحج عنه النائب من البلد لان فعله كفعله. وهو لا يقول به بل يوجب الاستئجار من الميقات.

وبالجملة فكلامه هنا في البطلان أوضح من ان يحتاج الى البيان. والظاهر ان الحامل له على ذلك هو عدم وجود نص صحيح صريح في هذه المسألة كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، فالتجأ الى ما ذكره.

ثم قال بعد الكلام المتقدم : ويدل على حكم النائب صريحا الإجماع المنقول ، وما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن الرجل يموت فيوصي بحجة فيعطى رجل دراهم يحج بها عنه فيموت قبل ان يحج؟ قال : ان مات في الطريق أو بمكة قبل ان يقضي مناسكه فإنه يجزئ عن الأول». قال : وهي مخصوصة بما إذا حصل الموت بعد الإحرام ودخول الحرم لعدم ثبوت الاكتفاء بما دون ذلك. انتهى.

أقول : لا يخفى انه لا دليل في هذه المسألة سوى الإجماع ، لأن الرواية (أولا) من قسم الموثق الذي عادته ـ كما عرفت ـ جعله في قسم الضعيف. و (ثانيا) ما في دلالتها من عدم الوضوح في ما ادعاه ، ولهذا أردفها بما ذكره من انها مخصوصة بما إذا حصل الموت بعد الإحرام ودخول الحرم. وهذا المعنى

__________________

(1) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج. واللفظ هكذا : «فيموت قبل ان يحج ثم اعطى الدراهم غيره؟ فقال».


انما استفيد هنا من الإجماع ، إذ لا دليل من الاخبار غير هذه الرواية ، لما عرفت من عدم دلالة صحيحتي بريد وضريس المتقدمتين.

مع ان ما تضمنته هذه الرواية من الاكتفاء بالموت في الطريق مطلقا معتضد بجملة من الاخبار الواردة في هذا المضمار :

ومنها ـ ما رواه في الكافي عن الحسين بن عثمان عن من ذكره عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) : «في رجل اعطى رجلا ما يحجه فحدث بالرجل حدث؟ فقال : ان كان خرج فأصابه في بعض الطريق فقد أجزأت عن الأول وإلا فلا».

وما رواه في التهذيب عن ابن أبي حمزة والحسين بن يحيى عن من ذكره عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (2) : «في رجل اعطى رجلا مالا يحج عنه فمات؟ قال : ان مات في منزله قبل ان يخرج فلا يجزئ عنه ، وان مات في الطريق فقد أجزأ عنه».

والشيخ (رحمه‌الله) قد حمل موثقة إسحاق بن عمار ورواية الحسين بن عثمان على من اصابه حدث بعد دخول الحرم. وهذا المعنى وان أمكن في موثقة إسحاق بن عمار إلا انه بعيد في رواية الحسين المذكورة ، وأبعد منه في الرواية التي بعدها ، لمقابلة الموت في الطريق الموجب للاجزاء بالموت في المنزل الموجب لعدم الاجزاء.

ومن روايات المسألة ما رواه في التهذيب مرفوعا عن عمار الساباطي عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (3) : «في رجل حج عن آخر ومات في الطريق؟

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج.

(3) الوسائل الباب 15 و 35 من النيابة في الحج.


قال : قد وقع اجره على الله ، ولكن يوصي ، فإن قدر على رجل يركب في رحله ويأكل زاده فعل».

أقول : والذي يقرب عندي في الجمع بين هذه الأخبار هو انه متى مات الأجير بعد الإحرام ودخول الحرم فلا اشكال ، ولو مات في الطريق قبل الإحرام فإن أمكن استعادة الأجرة وجب الاستئجار بها ثانيا ، والى ذلك تشير رواية عمار المذكورة ، وان لم يمكن فإنها تجزئ عن الميت ، وعليه يحمل الاجزاء بالموت في الطريق في الأخبار المتقدمة.

وهذا الوجه الأخير وان لم يوافق قواعد الأصحاب إلا انه مدلول جملة من الأخبار :

مثل ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن ابي عمير عن بعض رجاله عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) : «في رجل أخذ من رجل مالا ولم يحج عنه ومات ولم يخلف شيئا؟ قال : ان كان حج الأجير أخذت حجته ودفعت الى صاحب المال ، وان لم يكن حج كتب لصاحب المال ثواب الحج». ورواه في الفقيه (2) مرسلا مقطوعا.

وروى في الفقيه مرسلا (3) قال : «قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يأخذ الحجة من الرجل فيموت فلا يترك شيئا؟ فقال : أجزأت عن الميت ، وان كان له عند الله حجة أثبتت لصاحبه».

__________________

(1 و 3) الوسائل الباب 23 من النيابة في الحج.

(2) ج 2 ص 144 ، وفي الوافي باب (من يحج عن غيره فيخالف الشرط أو اجترح شيئا أو مات) ولم ينقله في الوسائل ، ولعله لظهوره في كونه من كلام الصدوق (قدس‌سره).


وروى في التهذيب (1) عن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل أخذ دراهم رجل ليحج عنه فأنفقها فلما حضر أوان الحج لم يقدر الرجل على شي‌ء؟ قال : يحتال ويحج عن صاحبه كما ضمن. سئل : ان لم يقدر؟ قال : ان كانت له عند الله حجة أخذها منه فجعلها للذي أخذ منه الحجة».

وظاهر إطلاق هذه الاخبار ان الحج فيها أعم من ان يكون حج الإسلام أو غيره ، للميت مال بحيث يمكن الاستئجار عنه مرة أخرى أم لا.

ولعل الوجه فيه هو انه لما اوصى الميت بما في ذمته من الحج انتقل الخطاب إلى الوصي ، والوصي لما نفذ الوصية واستأجر فقد قضى ما عليه وبقي الخطاب على المستأجر ، وحيث انه لا مال له سقط الاستئجار مرة أخرى.

بقي انه مع التفريط فان كان له حجة عند الله (تعالى) نقلها الى صاحب الدراهم وإلا تفضل الله (تعالى) عليه بكرمه وكتب له ثواب الحج بما بذله من ماله والنية تقوم مقام العمل.

ومن ما يعضد ذلك ما رواه في التهذيب ـ وفي الفقيه مرسلا ـ عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) : «في رجل أعطاه رجل مالا يحج عنه فحج عن نفسه؟ فقال : هي عن صاحب المال».

ورواه في الكافي عن محمد بن يحيى مرفوعا (3) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام. الحديث».

ولعل الوجه فيه ما عرفت في الأخبار الأولة من ان من أخذ مالا ليحج به

__________________

(1) ج 5 ص 461 ، وفي الوسائل الباب 23 من النيابة في الحج.

(2) التهذيب ج 5 ص 461 ، وفي الوسائل الباب 22 من النيابة في الحج.

(3) الوسائل الباب 22 من النيابة في الحج.


عن غيره وفرط فيه ، فإنه متى كانت له عند الله حجة جعلها لصاحب المال ، وهذا من جملة ذلك ، فان هذا الحج الذي حج به عن نفسه ولم يكن له مال يحج به مرة أخرى عن المنوب عنه يكتبه الله (تعالى) لصاحب المال.

ولم أقف على من تعرض للكلام في هذه الاخبار من أصحابنا ، بل ظاهرهم ردها لمخالفتها لمقتضى قواعدهم ، وهو مشكل مع كثرتها وصراحتها ، فالظاهر ان الوجه فيها هو ما ذكرناه.

قال السيد السند في المدارك : ومتى مات الأجير قبل إكمال العمل المستأجر عليه أو ما يقوم مقامه بطلت الإجارة ان كان المطلوب عمل الأجير بنفسه ـ كما هو المتعارف في أجير الحج والصلاة ـ ورجع الحال الى ما كان عليه ، فان كانت الحجة عن ميت تعلق بماله وكلف بها وصيه أو الحاكم أو بعض ثقات المؤمنين ، وان كانت عن حي عاجز تعلق الوجوب به. ولو كانت الإجارة مطلقة بأن كان المطلوب تحصيل العمل المستأجر عليه بنفسه أو بغيره لم تبطل بالموت ووجب على وصيه ان يستأجر من ماله من يحج عن المستأجر من موضع الموت خاصة ، إلا ان يكون بعد الإحرام فيجب من الميقات. انتهى.

أقول : وهو جيد على قواعدهم التي بنوا عليها ، ولكن ظاهر الأخبار المتقدمة ـ كما عرفت ـ يدفعه ، واطراحها مع كثرتها وصراحتها ـ من غير معارض ظاهر سوى هذه القواعد التي بنوا عليها ـ مشكل. وهذا من قبيل ما قدمنا لك قريبا من انهم يبنون على أصول مسلمة بينهم ويردون الأخبار في مقابلتها ، والواجب هو العمل بالاخبار وتخصيص تلك القواعد بها لو ثبتت بالنصوص.

وسيأتي قريبا ـ ان شاء الله تعالى ـ ما يؤيد ذلك في مسألة من استؤجر على حج الافراد أو القران فعدل الى التمتع ، أو استؤجر على طريق فعدل إلى أخرى فإن القول بصحة الفعل مع هذه المخالفة وورود الاخبار بذلك دليل على ما ذكرناه


من ان الواجب هو العمل بالدليل لا بتلك القواعد.

وما ذكره ـ من توجه الخطاب في الصورة المفروضة إلى الوصي وهو قد نفذ الوصية أولا ـ يحتاج الى دليل.

قولكم : ـ ان التنفيذ المبرئ للذمة مراعى بإتيان الأجير بالعمل فلو لم يأت به لم يخرج الوصي عن عهدة الخطاب.

قلنا : هذه الاخبار قد دلت على انه في هذه الصورة يكتب الله حجة الأجير ان حج سابقا لصاحب المال ، وان لم يكن له حج فان الله (عزوجل) بسعة فضله يكتب له ثواب الحج ، وحينئذ فإذا دلت الاخبار على براءة ذمة الميت الأول ـ وان ثواب الحج يكتب له وانه قد سقط الخطاب عنه ـ فلما ذا يجب تكليف الوصي بالاستئجار ثانيا؟

وبالجملة فإن كلامهم مبني اما على عدم الاطلاع على هذه الاخبار أو على طرحها ، والأول عذر ظاهر لهم ، والثاني مشكل لما عرفت.

وكيف كان فان تكليف الوصي والورثة بعد تنفيذ ما اوصى به الميت يحتاج الى دليل ، وليس فليس.

المسألة الثانية ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن النائب إذا مات قبل الإحرام ودخول الحرم وجب ان يعاد من الأجرة ما قابل المتخلف من الطريق ذاهبا وعائدا. وقد صرح العلامة وغيره بان النائب إذا مات بعد الإحرام ودخول الحرم استحق جميع الأجرة ، لأنه فعل ما أبرأ ذمة المنوب عنه فكان كما لو أكمل الحج.

قال في المدارك بعد نقل ذلك : وكلا الحكمين يحتاج الى التقييد ، اما الثاني فلأنه إنما يتم إذا تعلق الاستئجار بالحج المبرئ للذمة ، اما لو تعلق بالأفعال المخصوصة لم يتوجه استحقاقه لجميع الأجرة وان كان ما اتى به مبرئا للذمة ، لعدم


الإتيان بالفعل المستأجر عليه. واما الأول فلأنه انما يستقيم إذا تعلق الاستئجار بمجموع الحج مع الذهاب والإياب ، وهو غير متعين ، لأن الحج اسم للمناسك المخصوصة والذهاب والعود خارجان عن حقيقته وان كان الإتيان به متوقفا على الذهاب ، لكن يجوز الاستئجار عليهما وعلى أحدهما لأنهما عملان محللان مقصودان. انتهى.

أقول : لا ريب ان المسألة هنا عارية عن النصوص والأصحاب انما بنوا الكلام فيها على قواعد الإجارة ، فلهذا استدرك عليهم السيد إطلاقهم في المسألتين المذكورتين بما ذكره ، وقبله جده في المسالك. وهو حق بناء على القواعد المذكورة. إلا انك قد عرفت في ما تقدم انه ربما خرجت أحكام لبعض المسائل على خلاف ما تقتضيه تلك القواعد التي يبنون عليها. ولهذا قلنا ان الواجب في كل جزئي جزئي من الأحكام النظر الى الدليل الدال عليه فان وجد وإلا فالتوقف ، والأمر هنا كذلك.

إلا ان ما ذكره (قدس‌سره) من المناقشة الظاهر انه يمكن خدشه :

أما المناقشة الأولى (1) فإن ما ذكره وان كان متجها بالنسبة إلى قواعد الإجارة إلا انهم انما عولوا في هذا الحكم على الإجماع والاتفاق ، وقد عرفت ان أصل المسألة لا دليل عليه من الأخبار وليس إلا الإجماع. وحينئذ فيكون هذا الحكم مستثنى من تلك القواعد بالإجماع المذكور.

قال جده (قدس‌سره) في المسالك ـ بعد ان ذكر ان الطريق لا مدخل لها في الاستئجار للحج ـ ما صورته : وان كان قد أحرم ودخل الحرم فمقتضى الأصل ان لا يستحق إلا بالنسبة ، لكن وردت النصوص باجزاء الحج عن المنوب

__________________

(1) وهو الاشكال على الإطلاق في الحكم الثاني.


وبراءة ذمة الأجير ، واتفق الأصحاب على استحقاقه جميع الأجرة. فهذا الحكم ثبت على خلاف الأصل ، فلا مجال للطعن فيه بعد الاتفاق عليه. انتهى.

واما المناقشة الثانية (1) ففيها أولا ـ ان كلامه مبني على عدم مدخلية الطريق في الحج مطلقا ، وقد عرفت من ما حققناه سابقا والأخبار التي أوردنا ثمة خلاف ذلك.

واما ثانيا ـ فان الظاهر ان الاستئجار على الحج من الآفاق يلاحظ فيه الطريق سواء أدخلها في الإجارة أم لا ، لأنه من الظاهر البين لكل ذي عقل وروية انه لا يستأجر رجل من خراسان بأجرة الحج من الميقات ويتكلف الزاد والراحلة وجميع أسباب الطريق من ماله في هذه المسافة ، هذا لا يكون ابدا. ومجرد كونه يصح الاستئجار من الميقات لا يمكن اعتباره هنا. وبالجملة فالأحكام إنما تبنى على الافراد المتكررة والمتكثرة لا الفروض النادرة.

والأصحاب انما فرضوا المسألة كما ذكروه بناء على ما ذكرناه ، إلا انه ينقدح عليهم الاشكال من وجه آخر ، وهو انهم قد صرحوا بان الواجب في الاستئجار عن من مات مشغول الذمة بالحج انما هو من الميقات ، والحكم الشرعي فيه انما هو ذلك لما عرفت من كلامهم. وحينئذ لا يتجه هذا الكلام في الطريق إلا ان يكون الاستئجار وقع عليها مضافة الى الحج ، وكلامهم أعم من ذلك.

قال في المدارك بعد الكلام المتقدم : وكيف كان فمتى اتى الأجير ببعض ما استؤجر عليه استحق من الأجرة بتلك النسبة إلى المجموع ، وعلى هذا فان تعلق الاستئجار بالحج خاصة لم يستحق الأجير مع موته قبل الإحرام شيئا من الأجرة ، لخروجه عن العمل المستأجر عليه وان كان من مقدماته ، لأن الأجرة انما

__________________

(1) وهو الاشكال على الإطلاق في الحكم الأول.


توزع على اجزاء العمل المستأجر عليه لا على ما يتوقف عليه من الأفعال الخارجة عنه. ولو مات بعد الإحرام استحق بنسبة ما فعل إلى الجملة. ولو تعلق الاستئجار بقطع المسافة ذاهبا وعائدا والحج وزعت الأجرة على الجميع واستحق الأجير مع الإتيان بالبعض بنسبة ما عمل. ولو استؤجر على قطع المسافة ذاهبا والحج وزعت الأجرة عليهما خاصة. وذلك كله واضح موافق للقواعد المقررة. انتهى. وهو ملخص من ما ذكره جده (قدس‌سره) في المسالك.

وفيه انه لا ريب ان مقتضى قواعد الإجارة ذلك ، إلا ان الكلام هنا انما هو في ما ادعوه من عدم مدخلية الطريق في الحج ، بناء على ما ذكروه من ان الحج انما هو عبارة عن المناسك المخصوصة. إلى آخر ما عرفت من كلامهم ، فان النصوص التي قدمناها تدل على مدخليتها ، فالاستئجار وان وقع على الحج خاصة إلا ان الطريق ملحوظة ومراعاة في الإجارة ، ولهذا ان الأجير لا يقبل الإجارة إلا إذا بذل له من الأجرة ما يقوم بمؤنة طريقه ذاهبا وعائدا ، وعلى هذا جرت الناس من زمن الأئمة (عليهم‌السلام) الى يومنا هذا ، وحينئذ فلا بد ان يوزع للطريق بنسبة ما مضى منها مطلقا.

ومن ما يعضد ما ذكرناه هنا رواية عمار المتقدم نقلها (1) من التهذيب في الرجل الذي حج عن آخر ومات في الطريق ، حيث قال عليه‌السلام : «فان قدر على رجل يركب في رحله ويأكل زاده فعل» فان ظاهر الخبر ـ كما ترى ـ ان الاستئجار وقع على الحج من البلد مع انهم يقولون ان الواجب انما هو من الميقات وان ما مضى من مؤنة الطريق كان مستحقا للميت ، فلم يأمر باستعادته منه بناء على ما يقولونه من انه لا يستحق على الطريق اجرة ، والحديث مطلق شامل

__________________

(1) ص 256.


بإطلاقه لما لو كان الاستئجار واقعا على الحج مع الطريق أو الحج خاصة

ثم ان كلامهم هنا مبني على ان الطريق مقدمة للحج والمقدمة خارجة عن ذي المقدمة ، وان الأجرة انما توزع على اجزاء العمل المستأجر عليه دون مقدماته التي يتوقف عليها.

وللمناقشة فيه مجال ، فلم لا يجوز ـ باعتبار التوقف عليها وانه لا يمكن الإتيان بالفعل إلا بها ـ ان يجعل لها قسط من الأجرة؟ فنفيه يحتاج الى دليل ، ومقتضى الاستئجار على عمل من الأعمال أن تكون الأجرة في مقابلة ما يأتي به المكلف من الأمور والأفعال التي بها يحصل ذلك الشي‌ء المستأجر عليه ـ دخلت في حقيقة ذلك اللفظ أو لم تدخل ـ إذا كان لا يمكن إلا بها.

ومن ما يعضد ذلك دخول الطريق ذهابا وإيابا في الاستطاعة وانه لا يجب عليه الحج حتى يكون له ما يقوم بمؤنته ذهابا وإيابا زيادة على أفعال الحج ، وان كان الواجب عليه انما هو الحج الذي هو عبارة عن المناسك المخصوصة ، إلا انه لما كان هذا الفعل لا يمكن الوصول اليه إلا بقطع هذه المسافة اعتبر ذلك في الاستطاعة وجعل لها جزء من المال بإزائها ، فمجرد كونها مقدمة لا يمنع من ان يجعل لها جزء من الأجرة بحيث انه مع الموت يوزع عليها وعلى الحج. والله العالم.

تنبيه

قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو صد الأجير استعيد من الأجرة ما قابل المتخلف ذاهبا وآئبا ، وربما ظهر من بعض العبارات كعبارة الشرائع انه لو كان الصد بعد الإحرام ودخول الحرم فإن الأجير يستحق جميع الأجرة كما في الموت ، إلا ان السيد السند في المدارك وقبله جده في المسالك صرحا بعدم قائل بذلك.


قال في المدارك ـ بعد ان صرح بتوزيع الأجرة على ما اتى به من العمل المستأجر عليه وما بقي ـ ما صورته : ولا فرق بين ان يقع الصد قبل الإحرام ودخول الحرم أو بعدهما أو بينهما وان أشعرت العبارة بخلاف ذلك ، لأن عدم الاستعادة مع الموت ـ لو وقع بعد الإحرام ودخول الحرم ـ انما ثبت بدليل من خارج فلا وجه لا لحاق غيره به.

وأطلق المحقق في النافع انه مع الصد قبل الإكمال يستعاد من الأجرة بنسبة المتخلف.

وكيف كان فالظاهر أن الاستعادة انما تثبت إذا كانت الإجارة لسنة معينة بأن تكون مقيدة بتلك السنة ، اما المطلقة فإنها لا تنفسخ بالصد ويجب على الأجير الإتيان بالحج بعد ذلك.

قال في التذكرة : ان كانت الإجارة في الذمة وجب على الأجير الإتيان بها مرة ثانية ، ولم يكن للمستأجر فسخ الإجارة ، وكانت الأجرة بكمالها للأجير. وان كانت معينة فله ان يرجع عليه بالمتخلف. ونسب إطلاق الرجوع بالمتخلف الى الشيخين ، يعني من غير تفصيل بين الإجارة المعينة والمطلقة ، فيرجع عليه مطلقا.

المسألة الثانية ـ مقتضى القواعد المقررة عندهم في باب الإجارة انه متى استؤجر على عمل معين ، أو شرط عليه في ذلك العمل شرط غير مخالف للكتاب والسنة ، فإنه يجب عليه الإتيان بذلك الفعل المعين ولا يجوز له التجاوز الى غيره والإتيان بذلك الشرط ، وإلا للزم بطلان الإجارة في الموضعين.

وقد وقع الخلاف في هذه المسألة في باب الإجارة للحج في موضعين :

أحدهما ـ في جواز العدول الى التمتع لمن شرط عليه الافراد أو القران ، فهل يجوز له العدول في الصورة المذكورة ، ويصح حجه ، ويستحق الأجرة أم لا؟

وينبغي ان يعلم أولا انه لا ريب أن أنواع الحج ثلاثة : تمتع وقران وافراد


ومقتضى قواعد الإجارة انه يعتبر في صحة الإجارة على الحج تعيين النوع الذي يريده المستأجر ، لاختلاف الأنواع المذكورة في الكيفية والأحكام ، وان الأجير متى عين له نوع من هذه الأنواع فلا يكون الآتي بغيره آتيا بما استؤجر عليه.

وينبغي ان يعلم ايضا ان جواز العدول على القول به انما يكون في الموضع الذي يكون المستأجر مخيرا بين الأنواع الثلاثة ، كالمتطوع ، وذي المنزلين المتساويين في الإقامة ، وناذر الحج مطلقا ، لان التمتع لا يجزئ مع تعين الافراد فضلا عن ان يكون أفضل منه.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الشيخ (رضوان الله عليه) في جملة من كتبه قد صرح بأنه لو استأجره للتمتع فقرن أو أفرد لم يجزئ عنه ، ولو استأجره للإفراد فتمتع أجزأه. وفي المبسوط : ولو استأجره للقران فتمتع أجزأه.

وقال ابن إدريس : هكذا رواية أصحابنا وفتياهم ، وتحقيق ذلك ان من كان فرضه التمتع فحج عنه قارنا أو مفردا فإنه لا يجزئه ، ومن كان فرضه القران أو الافراد فحج عنه متمتعا فإنه لا يجزئه ، إلا ان يكون المستنيب قد حج حجة الإسلام ، فحينئذ يصح إطلاق القول والعمل بالرواية. ويدل على هذا التحرير قولهم : «لانه يعدل إلى الأفضل» فلو لم يكن المستنيب قد حج حجة الإسلام بحسب حاله وفرضه وتكليفه لما كان التمتع أفضل. الى آخره. وهو يرجع الى ما ذكرناه أولا ، لكنه خص موضع جواز العدول بصورة الاستحباب ، وقد عرفت انه يجزئ في الواجب على أحد الوجهين المتقدمين.

وظاهر صاحب المدارك هنا تضعيف هذا القول واختيار القول بعدم جواز العدول ، قال : لأن الإجارة انما تعلقت بذلك المعين فلا يكون الآتي بغيره آتيا بما استؤجر عليه ، سواء كان أفضل من ما استؤجر عليه أم لا ، قال : ويؤيده ما رواه الشيخ (قدس‌سره) في الحسن عن الحسن بن محبوب عن على ـ والظاهر


انه ابن رئاب (1) ـ في رجل اعطى رجلا دراهم يحج بها عنه حجة مفردة؟ قال : ليس له ان يتمتع بالعمرة إلى الحج ، لا يخالف صاحب الدراهم». ثم نقل رواية أبي بصير عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) : «في رجل اعطى رجلا دراهم يحج عنه حجة مفردة ، أيجوز له ان يتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال : نعم انما خالف الى الفضل». قال : وهي ضعيفة السند باشتراك الراوي بين الثقة والضعيف ، وبمضمونها افتى الشيخ وجماعة. انتهى.

أقول : والعجب منه (قدس‌سره) مع تصلبه في هذا الاصطلاح المحدث زيادة على غيره من أرباب هذا الاصطلاح ـ كما لا يخفى على من راجع كلامه وعرف طريقته في الكتاب ـ كيف يغض النظر ويبني على المجازفة متى احتاج الى الرواية الضعيفة.

ولا يخفى على المتأمل بعين الإنصاف ان رواية أبي بصير في هذه المسألة أقوى واثبت من رواية على بن رئاب :

أما أولا ـ فلان في طريق رواية علي الهيثم بن ابي مسروق النهدي ، والمنقول عن النجاشي في وصفه انه قريب الأمر. وعن الكشي عن حمدويه انه قال : لأبي مسروق ابن يقال له الهيثم ، سمعت أصحابي يذكرونهما ، كلاهما فاضلان. وهو قد طعن في مواضع من شرحه في رواية النهدي المذكور ، وكتب في حواشيه على الخلاصة ما صورته : هذا مدح لا يعتد به حتى يدخله في الحسن.

واما ثانيا ـ فلان الرواية مقطوعة غير مسندة الى امام. مع ما في علي

__________________

(1) الوسائل الباب 12 من النيابة في الحج.

(2) التهذيب ج 5 ص 415 و 416 ، والكافي ج 4 ص 307 ، وفي الوسائل الباب 12 من النيابة في الحج.


المروي عنه هذا الحكم من تعدد الاحتمال وان استظهر كونه ابن رئاب إلا انه غير متعين ولا متيقن ، فكيف يعتمدها ويعدها في الحسن مع ما علم من تصلبه في هذا الاصطلاح؟ ما هذه إلا مجازفة ظاهرة.

واما ثالثا ـ فإن رواية على هذه لم يروها إلا الشيخ في التهذيب ، ورواية أبي بصير قد رواها المشايخ الثلاثة بأسانيدهم الصحيحة الى ابي بصير ، وفي رواية الصدوق : «انما خالفه الى الفضل والخير» وهو في إحدى روايتي الشيخ ايضا. ولا يخفى ان تكررها في الأصول من أقوى المرجحات لها. على ان عد حديث ابي بصير ب «يحيى بن القاسم» في الضعيف ـ كما هو المشهور بينهم ـ محل بحث ليس هذا محله ، والمستفاد من تتبع الاخبار جلالة الرجل المذكور عند الأئمة (عليهم‌السلام) ولهذا ان الفاضل الخراساني يعد حديثه في الصحيح حيثما ذكره.

وبالجملة فإن الظاهر هو العمل برواية أبي بصير ، وحمل خبر علي ـ على ما ذكره الشيخ بعد طعنه فيه أولا بالقطع ـ على ما إذا كان المعطى من سكان الحرم. وجوز في الاستبصار حمله على التخيير ايضا. ويرده قوله عليه‌السلام : «ليس له» ومقتضى التعليل في الرواية المذكورة وقوله : «انما خالفه الى الفضل» اختصاص الحكم بما إذا كان المستأجر مخيرا بين الأنواع ، كما قدمنا ذكره.

قال في المدارك : ومتى جاز العدول استحق الأجير تمام الأجرة ، ومع عدمه يقع الفعل عن المنوب عنه ولا يستحق الأجير شيئا. وقد صرح بذلك جماعة : منهم ـ المصنف في المعتبر فقال : والذي يناسب مذهبنا ان المستأجر إذا لم يعلم منه التخيير وعلم منه ارادة التعيين يكون الأجير متبرعا بفعل ذلك النوع ويكون للمنوب عنه بنية النائب ولا يستحق اجرا ، كما لو عمل في ماله عملا بغير إذنه. اما في الحال التي يعلم ان قصد المستأجر تحصيل الأجر لا حجا معينا فإنه يستحق الأجر ، لأنه معلوم من قصده فكان كالمنطوق. انتهى.


أقول : الاستدلال بكلام المحقق في المعتبر على ما ذكره لا يخلو من نظر ، لان الظاهر من صدر العبارة ان استحقاق الأجرة وعدمه يدور مدار جواز العدول وعدمه ، فعلى تقدير القول بالجواز ـ كما هو أحد القولين في المسألة ـ يستحق الأجير الأجرة كملا ، وعلى تقدير القول الثاني وهو عدم الجواز ـ بناء على العمل برواية على وطرح رواية أبي بصير ـ فإنه لا يستحق شيئا لعدم الإتيان بما استؤجر عليه. والظاهر من كلام المحقق في المعتبر هو حمل رواية أبي بصير على ما إذا علم ان قصد المستأجر انما هو تحصيل الأجر لا حجا معينا وتخصيص إطلاقها بهذا الفرد. وهذا أمر آخر غير محل الخلاف في المسألة الذي بنى عليه استحقاق الأجرة وعدمه. نعم ظاهر كلامه انه في صورة ما إذا علم من حال المستأجر التعيين وعدم التخيير ، فان هذه الصورة تكون ملحقة بالقول بعدم جواز العدول في التبرع بالحج الذي أوقعه وعدم استحقاقه الأجرة.

وكيف كان فما ذكره في المعتبر من تخصيص الرواية المذكورة بالصورة التي ذكرها محل نظر بل الظاهر منها الإطلاق ، بل هي بالدلالة على الفرد الذي ذكره أولا أشبه ، فإنه لا يخفى ان الظاهر من تعيين حج الإفراد للنائب كما تضمنته الرواية هو ارادة التعيين لذلك الفرد وعدم التخيير ، مع انه عليه‌السلام حكم بالاجزاء وعلله بأنه انما خالفه الى ما فيه الفضل وزيادة الثواب له.

والحمل على المعنى الثاني ـ وهو تخصيص الاجزاء بصورة ما إذا علم ان قصد المستأجر تحصيل الأجر لا حجا معينا ـ لا دليل عليه ولا اشارة اليه في الرواية المذكورة. والظاهر ان الحامل لهم على حمل الرواية على ما ذكروه هو تطبيقها على قواعد الإجارة. وقد عرفت ما فيه. والظاهر هو العمل بالخبر على إطلاقه. والله العالم.

وثانيهما ـ ما لو شرط عليه الحج على طريق مخصوص ، فهل يجوز له المخالفة أم لا؟ أقوال : أحدها ـ جواز العدول مطلقا ، وهو المنقول عن الشيخ والمفيد


في المقنعة ، وهو ظاهر الصدوق في من لا يحضره الفقيه ، والعلامة في الإرشاد وثانيهما ـ انه لا يجوز له العدول مع تعلق الغرض بتلك الطريق المعينة. وهو اختيار المحقق في الشرائع ، بل الظاهر انه المشهور بين المتأخرين. وثالثها ـ انه لا يجوز العدول إلا مع العلم بانتفاء الغرض.

قال في المدارك بعد نقل القول الأول عن الشيخ في جملة من كتبه والمفيد في المقنعة : والأصح ما ذهب اليه المصنف من عدم جواز العدول مع تعلق الغرض بذلك الطريق المعين ، بل الأظهر عدم جواز العدول إلا مع العلم بانتفاء الغرض في ذلك الطريق وانه هو وغيره سواء عند المستأجر ، ومع ذلك فالأولى وجوب الوفاء بالشرط مطلقا.

استدل الشيخ على ما ذهب اليه بما رواه في الصحيح عن حريز بن عبد الله (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اعطى رجلا حجة يحج عنه من الكوفة فحج عنه من البصرة؟ قال : لا بأس إذا قضى جميع المناسك فقد تم حجه».

وروى الصدوق هذه الرواية في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن علي ابن رئاب عن حريز عن ابي عبد الله عليه‌السلام (2). الحديث وفيه : «لا بأس إذا قضى جميع مناسكه فقد تم حجه».

والرواية ـ كما ترى ـ صحيحة ظاهرة بل صريحة في ما ادعاه ، ولا معارض لها في الباب إلا مخالفة قواعد الإجارة ، فلهذا اضطربوا في الجواب عنها.

قال في المدارك بعد نقلها دليلا للشيخ : وهي لا تدل صريحا على جواز المخالفة ، لاحتمال ان يكون قوله : «من الكوفة» صفة ل «رجل» لا صلة

__________________

(1) الوسائل الباب 11 من النيابة في الحج. وليست في النسخ جملة «فقد تم حجه».

(2) الفقيه ج 2 ص 261 ، وفي الوسائل الباب 11 من النيابة في الحج.


ل «يحج». ولا يخفى ما فيه من التعسف والبعد الذي لا يخفى على المنصف.

وقال في الذخيرة : والرواية غير مصرحة بالدلالة على مدعاه ، لجواز ان يكون قوله : «من الكوفة» متعلقا بقوله : «اعطى» لا بقوله : «يحج عنه». وهو أشد تعسفا وبعدا. وبذلك اعترف قائله فقال على اثر كلامه المذكور : لكن الأظهر تعلقه به. ثم نقل احتمال صاحب المدارك واعترف بأنه بعيد.

وقال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد نقله : ثم ان الحديث محمول على عدم تعلق غرض المعطي بخصوص الطريق وان التعيين وقع عن مجرد اتفاق. وهو راجع الى ما ذكره المحقق من ما تقدم نقله عنه. ثم زاد احتمالا آخر وهو كون المدفوع اليه على وجه الرزق لا الإجارة.

أقول : حمل الرواية على الوجه الأول الذي ذكره في المنتقى غير بعيد ، وبه تنطبق على قواعد الإجارة والعمل بها على ظاهرها كما هو ظاهر المشايخ المتقدم ذكرهم. واستثناء هذا الحكم من قواعد الإجارة أيضا ممكن لا بعد فيه

وقال في المدارك : وقد قطع المصنف وغيره بصحة الحج مع المخالفة وان تعلق الغرض بالطريق المعين ، لانه بعض العمل المستأجر عليه وقد امتثل بفعله. ويشكل بأن المستأجر عليه الحج المخصوص وهو الواقع عقيب قطع المسافة المعينة ولم يحصل الإتيان به. نعم لو تعلق الاستئجار بمجموع الأمرين من غير ارتباط لأحدهما بالآخر اتجه ما ذكروه. انتهى.

المسألة الثالثة ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه إذا استؤجر لحجة لم يجز له ان يؤجر نفسه لأخرى حتى يأتي بالأولى.

وفصل آخرون بأنه إذا استؤجر الأجير للحج عن غيره فاما ان يعين له السنة أم لا ، فمع التعيين لا يصح له ان يؤجر نفسه للحج عن آخر في تلك


السنة قطعا ، لاستحقاق الأول منافعه في تلك السنة لأجل الحج فلا يجوز صرفها الى غيره. ويجوز ان يستأجر لسنة اخرى غيرها ، لعدم المنافاة بين الاجارتين لكن يعتبر في صحة الإجارة الثانية إذا تعلقت بسنة متأخرة عن السنة الأولى كون الحج غير واجب فوري أو تعذر التعجيل.

والذي وقفت عليه من ما يدل على ذلك ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن إسماعيل (1) قال : «أمرت رجلا يسأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يأخذ من رجل حجة فلا تكفيه ، إله أن يأخذ من رجل اخرى ويتسع بها وتجزئ عنهما جميعا ، أو يتركهما جميعا ان لم تكفه إحداهما؟ فذكر انه قال : أحب الي ان تكون خالصة لواحد فان كانت لا تكفيه فلا يأخذها».

وان كانت الإجارة الأولى مطلقة فقد أطلق جمع : منهم ـ الشيخ (قدس‌سره) المنع من استئجاره ثانيا ، بل الظاهر انه هو المشهور بناء على القول باقتضاء الإطلاق التعجيل.

قال في المدارك : وان كانت الإجارة الأولى مطلقة فقد أطلق الشيخ المنع من استئجاره ثانيا ، واحتمل المصنف الجواز ان كان الاستئجار لسنة غير الاولى. وهو حسن ، بل يحتمل قويا جواز الاستئجار للسنة الأولى إذا كانت الإجارة الأولى موسعة ، اما مع تنصيص المؤجر على ذلك أو على القول بعدم اقتضاء الإطلاق التعجيل. ونقل عن شيخنا الشهيد (قدس‌سره) في بعض تحقيقاته أنه

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 309 ، والفقيه ج 2 ص 271 و 272 ، وفي الوسائل الباب 19 من النيابة في الحج. والمصدران يختلفان في اللفظ بعض الاختلاف وفي الكافي «أو يشركهما» بدل «أو يتركهما».


حكم باقتضاء الإطلاق في كل الإجارات التعجيل ، فتجب المبادرة بالعمل بحسب الإمكان. ومستنده غير واضح. نعم لو كان المستأجر عليه حج الإسلام أو صرح المستأجر بإرادة الفورية ووقعت الإجارة على هذا الوجه اتجه ما ذكره. انتهى.

أقول : نسبة إطلاق المنع الى الشيخ وحده مع ان ظاهر الأصحاب ذلك لا يخلو من نظر.

قال العلامة في المنتهى ـ بعد ان نقل عن الشيخ انه إذا أخذ الأجير حجة عن غيره لم يكن له ان يأخذ حجة أخرى حتى يقضي التي أخذها ـ ما هذا لفظه : ونحن نقول : ان استأجره الأول لسنة معينة لم يكن له ان يؤجر نفسه لغيره تلك السنة بعينها ، وان استأجره الأول مطلقا ، فإن استأجره الثاني للسنة الأولى ففي صحة الإجارة نظر أقربه عدم الجواز ، لانه وان كانت الإجارة الأولى غير معينة بزمان لكن يجب إتيانها في السنة الاولى ، فلا يجوز حينئذ صرف العمل فيها الى غيره ، وان استأجره للثانية أو مطلقا جاز. انتهى. وهو ظاهر في اختياره اقتضاء الإطلاق التعجيل.

وقال في الإرشاد في هذا البحث : والإطلاق يقتضي التعجيل. وفي الشرائع في هذا المقام أيضا : فإن أطلق الإجارة اقتضى التعجيل ما لم يشترط الأجل. وعلى هذا النحو عبارات جملة منهم ، واليه يشير قول المحقق هنا : «ان كان الاستئجار لسنة غير الأولى» فإنه مثل عبارة المنتهى المذكورة.

والعجب من السيد السند انه استحسن ذلك مع ان آخر كلامه ينادي بأنه يتم ذلك في حجة الإسلام من حيث اشتراط الفورية فيها أو صرح المستأجر بإرادة الفورية وإلا فلا.

وأنت خبير بان ما بنوا عليه المسألة هنا من اقتضاء الإطلاق للتعجيل غير واضح المستند.


وقد احتج المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد على صحة هذه الدعوى بان الحج فوري ، وان مطلق الإجارة يقتضي اتصال زمان مدة يستأجر له بزمان العقد ، وهذا يقتضي عدم التأخير عن العام الأول. ثم قال : ولعله لا خلاف فيه ، انتهى.

ولا يخفى عليك ان دليله الأول مدخول بمنع فورية الحج بجميع أفراده إذ المندوب والمنذور مطلقا لا فورية فيهما. ومع تسليم ذلك فان الاستئجار هنا عن حج الإسلام ، والأخبار الدالة على الفورية انما دلت بالنسبة الى من وجب عليه الحج ـ فإنه تجب عليه المبادرة به ولا يجوز له التأخير ـ لا بالنسبة إلى نائبه ، وفوريتها على الأول لا تستلزم الفورية على الثاني كما لا يخفى. ودليله الثاني مجرد مصادرة على المطلوب. ودعوى ذلك في مطلق الإجارة لم يقم عليه برهان كما ذكره السيد السند (قدس‌سره) وقد رد بذلك القول المنقول عن الشهيد ، ومثله جده في المسالك. وحينئذ فلم يبق إلا ما يشير اليه آخر كلامه من دعوى الإجماع ، والاعتماد عليه في أمثال هذه المقامات لا يخلو عن مجازفة.

وقال الشهيد في الدروس : ولو أطلق اقتضى التعجيل ، فلو خالف الأجير فلا اجرة له ، ولو أهمل لعذر فلكل منهما الفسخ في المطلقة في وجه قوي ، ولو كان لا لعذر تخير المستأجر خاصة.

وظاهر هذا الكلام لا يخلو من تدافع ، لان ظاهر صدر الكلام انه على تقدير اقتضاء الإطلاق التعجيل ، فلو أخر الأجير عن السنة الأولى الى الثانية اختيارا ثم حج في الثانية ، فإنه وان صح حجه وأجزأ عن المنوب ـ كما صرح به الأصحاب ـ واثم بالتأخير فإنه لا يستحق اجرة ، مع ان آخر كلامه ـ باعتبار حكمه بأن الأجير المطلق لو أهمل لغير عذر تخير المستأجر بين الفسخ والإمضاء ـ دال على انه يستحق الأجرة في الصورة المذكورة ، حيث ان المستأجر رضي بالتأخير ولم يفسخ


وبالجملة فإن الظاهر تفريعا على القول المذكور هو صحة حج الأجير واجزائه عن المنوب واستحقاقه الأجرة وان اثم بالتأخير ، كما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، وجنح اليه سبطه السيد السند في المدارك.

ولو انعكس الفرض بان قدم الحج عن السنة المعينة فإشكال ينشأ ، من انه زاد خيرا ولم يخالف إلا الى الفضل كما تقدم في رواية أبي بصير (1) ومن مخالفة الشرط وإمكان تعلق الغرض بالتأخير ، فان مراتب الأغراض لا تنحصر. وقرب في التذكرة الإجزاء مطلقا. وظاهر المسالك والمدارك اختيار الصحة مع العلم بانتفاء الغرض في التعيين. والمسألة محل توقف لعدم النص.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه لو استأجره اثنان لإيقاع الحج في عام واحد صح السابق منهما دون الآخر ، لاستحقاق الأول منافعه في تلك السنة للحج كما قدمنا بيانه. وان لم يتحقق سابق بان اقترنا في عقد واحد واشتبه السابق بطلا معا ، لامتناع وقوعها عنهما ، لأن الحجة الواحدة لا تكون عن اثنين ، ولا عن أحدهما لامتناع الترجيح من غير مرجح. هذا في الحج الواجب.

اما المندوب فقد دلت الاخبار على انه يجوز الاشتراك فيه ، وإذا جاز ذلك جازت الاستنابة فيه على هذا الوجه. كذا ذكره جمع من الأصحاب. والأظهر تخصيص جواز الاستنابة في المستحب على وجه التشريك بما إذا أريد إيقاع الفعل عنهما معا ليشتركا في ثوابه ، اما لو أريد من النيابة فعل الحج عن كل واحد منهما فهو كالحج الواجب ، كما نبه عليه في المسالك.

ومن الاخبار الدالة على جواز التشريك في الحج المستحب صحيحة معاوية ابن عمار أو حسنته عن ابي عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «قلت له : أشرك أبوي في حجتي؟

__________________

(1) ص 267.

(2) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.


قال : نعم. قلت : أشرك اخوتي في حجتي؟ قال : نعم ان الله (عزوجل) جاعل لك حجا ولهم حجا ، ولك أجر لصلتك إياهم».

وعن هشام بن الحكم بإسنادين. أحدهما ـ صحيح أو حسن عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) : «في الرجل يشرك أباه وأخاه وقرابته في حجة؟ فقال : إذا يكتب لك حج مثل حجهم وتزداد اجرا بما وصلت».

وفي صحيحة محمد بن إسماعيل عن ابي الحسن عليه‌السلام (2) : «كم أشرك في حجتي؟ قال : كم شئت».

وفي رواية محمد بن الحسن عن ابي الحسن عن ابي عبد الله عليه‌السلام (3) قال : «لو أشركت ألفا في حجتك لكان لكل واحد حجة من غير ان تنقص حجتك شيئا».

الى غير ذلك من الاخبار.

وقد يتفق ذلك في الواجب ايضا ، كما إذا نذر جماعة الاستنابة بالاشتراك في حج يستنيبوا فيه كذلك. والله العالم.

فائدة

روى الصدوق (عطر الله تعالى مرقده) في الفقيه في الصحيح عن البزنطي عن ابي الحسن عليه‌السلام (4) قال : «سألته عن رجل أخذ حجة من رجل فقطع عليه الطريق ، فأعطاه رجل حجة أخرى ، أيجوز له ذلك؟ فقال : جائز له ذلك محسوب للأول والآخر ، وما كان يسعه غير الذي فعل إذا وجد من يعطيه الحجة».

قال المحقق الشيخ حسن في كتاب المنتقى بعد ذكر الخبر : قلت : هذا الخبر لا يلائم مضمونه ما هو المعروف بين الأصحاب في طريق إخراج الحجة ، وهو

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.

(4) الوسائل الباب 19 من النيابة في الحج.


دفعها الى من يحج على وجه الاستئجار ، وانما يناسب القول بان الدفع يكون على سبيل الرزق ، وليس بمعروف عندنا وانما يحكى عن بعض العامة (1) وأخبارنا خالية من بيان كيفية الدفع رأسا على حسب ما وصل إلينا منها وبلغه تتبعنا. والظاهر انه لا مانع من الدفع على وجه الرزق ، وانما الكلام في صحة وقوعه بطريق الإجارة ، لما يتراءى من منافرته للإخلاص في العمل باعتبار لزوم القيام به في مقابلة العوض وكونه مستحقا به ، كما هو مقتضى عقد المعاوضة ، بخلاف الرزق فإنه بذل أو تمليك مراعى بحصول العمل ، والعامل فيه لا يخرج عن التخيير بين القيام به فيسقط عنه الحق للزوم وفاء الدافع بالشرط وبين تركه فيرد المدفوع أو عوضه. ولعل الإجماع منعقد بين الأصحاب على قضية الإجارة فلا يلتفت الى ما ينافيه. وإذا كان الدفع على غير وجه الإجارة سائغا أمكن تنزيل هذا الحديث عليه مع زيادة كون الحجتين تطوعا. وانما جاز أخذ الثانية والحال هذه لفوات التمكن من الاولى وعدم تعلق الحج بالذمة على وجه يمنع من غيره كما يفرض في صورة الاستئجار. ومعنى كونه محسوبا لهما حصول الثواب لكل منهما بما بذلك ونوى. ويستفاد من هذا انه لا يكلف برد شي‌ء على الأول. والوجه فيه ظاهر ، فان ما يدفع على سبيل الرزق غير مضمون على الآخذ إلا مع تعدي شرط الدافع ولم يحصل في الفرض الذي ذكر. وينبغي ان يعلم انه ليس المراد بقطع الطريق في الحديث منعه من الحج وانما المراد أخذ قطاع الطريق ما معه بحيث تعذر عليه الوصول الى الحج. انتهى.

أقول : لما كان هذا الخبر بحسب ظاهره يدل على جواز نيابة واحد عن شخصين في عام واحد ـ وقد عرفت في صدر المسألة امتناعه للصحيحة المتقدمة

__________________

(1) المغني ج 3 ص 207.


المؤيدة بقواعد الإجارة المتفق عليها نصا وفتوى ـ فلا مندوحة عن سلوك جادة التأويل فيه ، وهو حمل الحجتين على الاستحباب ، وان احدى الحجتين لا على وجه الإجارة سواء كانت الأولى أو الثانية ، فإن هذا المعطي لا على وجه الإجارة يكتب له ثواب الحج بنيته وإعانته.

واحتمل بعض مشايخنا في الخبر وجوها أخر : منها ـ ان المعطي الأول انما أعطاه مالا ليحج به عن نفسه لا عن المعطي ، ولما ذهب ذلك من يده جاز له ان يستأجر. وفيه بعد. ومنها ـ انه على تقدير وجوب الحج على المعطيين كليهما وفرض استنابتهما إياه فينبغي حمل الاستئجار الثاني على الحج في سنة أخرى بعدها ، وان الغرض من الاستئجار الثاني التوصل الى قطع الطريق بالمال الثاني ليحج عنهما في سنتين. والظاهر ايضا بعده ، لان ظاهر الخبران تلك الحجة الأولى مجزئة عنهما معا

المسألة الرابعة ـ قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو كان عند أحد وديعة لشخص ومات صاحب الوديعة وعليه حجة الإسلام ، وعلم ان الورثة لا يؤدون ، جاز ان يقتطع اجرة الحج فيستأجر به من يحج عنه ، لانه خارج عن ملك الورثة.

والسند في ذلك

ما رواه الصدوق والشيخ (طاب ثراهما) في الصحيح عن بريد العجلي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن رجل استودعني مالا فهلك وليس لولده شي‌ء ولم يحج حجة الإسلام؟ قال : حج عنه وما فضل فأعطهم».

وإطلاق الرواية المذكورة يقتضي عدم الفرق بين ان يكون المستودع عالما بعدم أداء الورثة أم لا ، متمكنا من الحاكم أيضا أم لا.

__________________

(1) الوسائل الباب 13 من النيابة في الحج. ورواه في الكافي ج 4 ص 306 في الصحيح ايضا.


وقد صرح جملة من الأصحاب : منهم ـ المحقق والعلامة وغيرهما بتقييد جواز الإخراج بعلم المستودع ان الورثة لا يؤدون وإلا وجب استئذانهم ، نظرا الى تخيير الورثة في جهات القضاء ، لان مقدار اجرة الحج وان كان خارجا عن ملك الوارث إلا انه مخير في جهات القضاء ، وله الحج بنفسه والاستقلال بالتركة ، والاستئجار بدون اجرة المثل ، فيقتصر في منعه من التركة على موضع الوفاق. وأنت خبير بأنه ليس تخصيص الخبر بهذه الأمور المتفق عليها بينهم اولى من تخصيصها به.

واعتبر في التذكرة مع ذلك من الضرر فلو خاف على نفسه أو ماله لم يجز له ذلك. وهو ظاهر ، فان الضرورات تبيح المحظورات.

واعتبر ايضا عدم التمكن من الحاكم وإثبات الحق عنده وإلا وجب الاستئذان. وهو تقييد للنص بغير دليل.

وحكى الشهيد في اللمعة قولا باعتبار اذن الحاكم مطلقا واستبعده. وعلل الشارح وجه البعد بإطلاق النص الوارد بذلك وإفضائه إلى مخالفته حيث يتعذر. ووجهه ان الأمر في الرواية وان كان انما وقع لبريد بذلك إلا ان خصوصية السائل غير ملحوظة في الأحكام ، فكأنه عليه‌السلام قال : «فليحج عنه من بيده الوديعة» وحينئذ فيكون الخبر مطلقا شاملا لكل من بيده وديعة على الوجه المذكور ، تمكن من استئذان الحاكم أم لا. مع ما يلزم زيادة على ذلك من انه لو لم يمكنه إثبات الحق عند الحاكم لزم سقوطه بناء على هذا الشرط والرواية دالة على وجوب الإخراج.

واما ما أورده السيد السند في المدارك على جده هنا ـ حيث نقل عن جده في تعليل البعد الذي ذكره في اللمعة انه قال : وجه البعد إطلاق النص الوارد بذلك. ثم رده بأنه غير جيد ، فإن الرواية إنما تضمنت أمر الصادق


عليه‌السلام لبريد بالحج عن من له عنده الوديعة ، وهو اذن وزيادة ـ

ففيه ان الظاهر من الخبر المذكور بل وسائر الأخبار الواردة في الأحكام انما هو افادة قانون كلي وحكم عام ، وهو هنا بيان حكم حج الودعي مطلقا ـ بريد أو غيره ـ بالقيود التي تضمنها الخبر ، ولو خصت الجوابات الخارجة عنهم (عليهم‌السلام) بأشخاص السائلين لم يمكن ان يستنبط من اخبارهم حكم عام إلا نادرا.

وبذلك يظهر كون النص مطلقا ـ ويكون المراد منه ان كل من بيده وديعة لغيره وعلم بالحج في ذمته فإنه يحج عنه ـ لا خاصا بناء على ما توهمه من خصوصية أمر الصادق عليه‌السلام لبريد هنا ، فإنها غير ملحوظة ولا مرادة ، لما عرفت.

ثم قال في المدارك بعد الكلام السابق ، ولا ريب ان استئذان الحاكم مع إمكانه أولى.

أقول : لا ريب في الأولوية بناء على ما ذكره ، واما على ما ذكرناه ـ من إطلاق الخبر وان محصل معناه ما أشرنا إليه ـ فلا اعرف لهذه الأولوية وجها ، أمكن إثبات الحق عنده أو لم يمكن ، بل العمل بالخبر على إطلاقه هو الوجه ، لصحته وصراحته وعدم ما ينافيه.

ثم انه لا يخفى ان مورد الخبر الوديعة وألحق بها غيرها من الحقوق المالية حتى الغصب والدين ، بمعنى انه لو كان له دين عند شخص أو مال مغصوب عند شخص فإنه يجيب عليهما إخراج الحج على الوجه الوارد في الخبر.

وقوى في المدارك اعتبار استئذان الحاكم في الدين فإنه لا يتعين إلا بقبض المالك أو ما في معناه. وهو محل توقف.

ومقتضى الخبر ان المستودع يحج ، والأصحاب قد ذكروا أنه يستأجر ، قال في المدارك ـ بعد ان اعترف بان مقتضى الرواية ان المستودع يحج ـ ما لفظه :


لكن جواز الاستئجار ربما كان اولى ، خصوصا إذا كان الأجير انسب بذلك من الودعي.

وهل الأمر له بالحج ـ كما في الخبر ـ رخصة أو للوجوب؟ ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الثاني ، حيث صرح بأن إخراج الحج واجب على المستودع لظاهر الأمر ، فلو دفعه الى الوارث اختيارا ضمن ان لم يتفق منه الأداء. قال في المدارك : وهو حسن.

أقول : الأحوط الوقوف على ظاهر الخبر ، لكن يجب تقييده بما إذا كان صاحب الوديعة له أهلية النيابة.

وهل يتعدي الحكم الى غير حجة الإسلام من الدين والخمس والزكاة؟ قيل : نعم ، لاشتراك الجميع في المعنى المجوز ، وقيل : لا ، قصرا للرواية المخالفة للأصل على موردها.

قال في المدارك بعد نقل القولين المذكورين : والجواز بشرط العلم بامتناع الوارث من الأداء في الجميع حسن ان شاء الله تعالى.

والمسألة عندي محل توقف. ولعل مبني كلام الأصحاب ـ في الإلحاق بالوديعة كما تقدم ، والإلحاق بالحج هنا ـ هو ان ذلك من باب تنقيح المناط القطعي ، لعدم ظهور خصوصية للوديعة دون غيرها من الدين والمال المغصوب ، وعدم ظهور خصوصية للحج دون الدين والخمس ونحوهما. إلا ان فيه ان عدم ظهور الخصوصية لا يدل على العدم ، إذ يجوز ان يكون للحج خصوصية في ذلك ليست لغيره ، كما تقدم نظيره في تزاحم دين الحج مع غيره من الديون.

ويمكن ان يرجح ما ذهب إليه الأصحاب بما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن عيسى بن عبيد عن سليمان بن حفص المروزي (1) : «انه كتب الى

__________________

(1) الوسائل الباب 20 من كتاب الرهن.


ابي الحسن عليه‌السلام في رجل مات وله ورثة ، فجاء رجل فادعى عليه مالا وان عنده رهنا؟ فكتب عليه‌السلام : ان كان له على الميت مال ولا بينة له عليه فليأخذ ماله من ما في يده وليرد الباقي على ورثته ، ومتى أقر بما عنده أخذ به وطولب بالبينة على دعواه واوفى حقه بعد اليمين ، ومتى لم تقم البينة والورثة ينكرون فله عليهم يمين علم : يحلفون بالله ما يعلمون ان له على ميتهم حقا». ورواه الصدوق ايضا عن محمد بن عيسى (1).

والتقريب فيه انه جعل حكم الرهن هنا كالوديعة والدين كالحج في وجوب تقديمه على حق الورثة ، اما بشرط عدم إمكان إثبات الحق عند الحاكم الشرعي وللمحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) كلام في المنتقى في هذه الرواية لا بأس بإيراده :

قال (قدس‌سره) : ولبعض متأخري الأصحاب في تحقيق معنى هذا الحديث كلام لا أراه سديدا ، لابتنائه على توهم مخالفته للأصول من حيث قبول دعوى المقر بالوديعة ان في ذمة الميت حجة الإسلام ، وهو مقتضى لتضييع المال على الوارث بغير بينة ، ومآله الى نفوذ إقرار المقر في حق غيره ممن ليس له عليه سبيل ، ومخالفته للأصل المعروف في باب الإقرار واضحة. والتحقيق انه ليس الحال هنا على ما يتوهم ، فإن الإقرار الذي لا يسمع في حق غير المقر والدعوى التي لا تقبل بغير البينة إنما يتصوران إذا كان متعلقهما المال المحكوم بملكه لغير المقر والمدعي شرعا ولو بإقرار آخر سابق عليهما منفصل بحسب القوانين العربية عنهما ، واما مع انتفاء ذلك كله ـ كما في موضع البحث ـ فإن الإقرار بالوديعة إذا وقع متصلا بذكر اشتغال ذمة الميت المستودع بالحج أو غيره لم يكن إقرارا للوارث مطلقا ، بل هو

__________________

(1) الوسائل الباب 20 من كتاب الرهن.


في الحقيقة اعتراف بمال مستحق للإخراج في الوجه الذي يذكره من حج أو غيره اما بأجمعه وذلك على تقدير مساواته للحق ، أو بعض منه بتقدير الفضلة عنه أو على تقدير التخيير بينه وبين غيره إذا كان للميت مال آخر ، الى غير ذلك من الأحكام المقررة في مواضعها. وكيف يعقل ان يكون مثل هذا إقرارا للوارث مع كون الكلام المتصل جملة واحدة لا يتم معناه ولا يتحصل الغرض منه إلا باستيفائه على ما هو محقق في محله. وخلاصة الأمر ان المتجه في نحو هذا الفرض ان يكون المقر به هو ما يتحصل من مجموع هذا الكلام لا ما يقع في ابتدائه بحيث يجعل أوله إقرارا وآخره دعوى. وتمام تنقيح هذا المقام بمباحث الإقرار أليق. إذا تقرر ذلك فاعلم ان المستفاد من الحديث بعد ملاحظة هذا التحقيق وجوب إخراج الحجة من الوديعة حيث لا مال سواها بحسب فرض السائل وكون ما يفضل عنها للوارث. وامره عليه‌السلام بالحج اذن له في تعاطيه بنفسه لا في استنابة غيره ، فلا بد في غير صورة السؤال والجواب من استئذان من له الولاية العامة في مثله إذا لم يكن الودعي ممن له ذلك. وكذا القول في ما لو تضمن الإقرار نوعا آخر من الحق ، فإن القدر الذي يحكم به حينئذ انما هو تقديم الحق على الوارث ، واما طريق تنفيذه فيرجع فيه الى القواعد. ولا يقاس على امره عليه‌السلام في الخبر للسائل بالحج فإنه مختص بتلك الصورة الخاصة فلا يتعداها. انتهى كلامه زيد مقامه.

وهو جيد نفيس ، إلا ان قوله في آخر الكلام : «وامره عليه‌السلام بالحج اذن له في تعاطيه بنفسه لا في استنابة غيره ، فلا بد في غير صورة السؤال والجواب من استئذان من له الولاية العامة في مثله» فان فيه من الإجمال وسعة دائرة الاحتمال ما ربما أوجب الاختلال ، وذلك انه ليس في المسألة ـ كما عرفت ـ إلا هذا الخبر خاصة ، وحينئذ فقوله : «ان امره عليه‌السلام بالحج اذن له في تعاطيه بنفسه لا في استنابة غيره» اما ان يحمل على خصوصية السائل ويكون قوله : «فلا بد في غير


صورة السؤال والجواب من استئذان الحاكم» محمولا على ما عدا السائل المخصوص ممن يكون مثله في هذه المسألة. وفيه أولا ـ ما عرفت آنفا في الكلام على صاحب المدارك حيث ادعى الخصوص وعدم الإطلاق في الخبر. وثانيا ـ انه متى خص الخبر بذلك السائل فمورد الخبر مقصور عليه ، فقوله ـ : «لا بد في غير صورة السؤال والجواب من استئذان الحاكم» ـ لا وجه له لعدم دخوله تحت الخبر وليس سواه. وان أراد بكلامه الأول ما قدمنا بيانه وشددنا أركانه ـ من ان المراد من الخبر بيان قاعدة كلية لكل من كانت عنده وديعة لغيره مع الشروط المذكورة لا خصوصية السائل ـ فهو صحيح لكن قوله : «فلا بد في غير صورة السؤال والجواب. الى آخره» لا معنى له ظاهرا إلا ان يحمل على غير الحج من الدين والخمس والزكاة مثلا ، بان يكون حكمها حكم الحج في التقديم على الوارث لكن لا بد من استئذان الحاكم. وفيه انه قد صرح بذلك بعد هذا الكلام بقوله : «وكذا القول في ما لو تضمن الإقرار نوعا آخر. الى آخره» وحينئذ فلا يمكن حمل الكلام المذكور عليه. وبالجملة فإن ظاهر الكلام المذكور لا يخلو من القصور ، ولعله لقصور ذهني الكليل وفتور فهمي العليل. والله العالم

المسألة الخامسة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما إذا أفسد الأجير حجة المستأجر عليه ، فقال في المبسوط والخلاف : إذا أحرم الأجير بالحج عن المستأجر ثم أفسد حجه انقلب عن المستأجر اليه وصار محرما بحجة عن نفسه فاسدة فعليه قضاؤها عن نفسه ، والحج باق عليه للمستأجر يلزمه ان يحج عنه في ما بعد ان كانت الحجة في الذمة ولم يكن له فسخ هذه الإجارة ، وان كانت معينة انفسخت الإجارة وكان على المستأجر ان يستأجر من ينوب عنه. وهو اختيار ابن إدريس والعلامة في جملة من كتبه. وهو صريح في وجوب حج ثالث عن المنوب عنه في الإجارة المطلقة واستحقاقه الأجرة ، واما المعينة فإنه تنفسخ


الإجارة وتسترد الأجرة.

واستدل العلامة في المنتهى بان من اتى بالحج الفاسد فقد أوقع الحج على غير وجهه المأذون فيه ، لأنه انما اذن له في حج صحيح فاتى بفاسد فيقع عن الفاعل ، كما لو اذن له في شراء عين بصفة فاشتراها بغير تلك الصفة فإن الشراء يقع له دون الآمر ، وإذا ثبت انه ينقلب اليه فنقول : انه قد أفسد حجا وقع منه فلزمه قضاؤه عن نفسه وكان عليه الحج عن المستأجر بعد حجة القضاء ، لأنها تجب على الفور. انتهى. وضعفه أظهر من ان يحتاج الى بيان.

واختار المحقق في المعتبر والعلامة في المختلف اجزاء القضاء عن المستأجر ، لأنها قضاء عن الحجة الفاسدة ، والقضاء كما يجزئ الحاج عن نفسه فكذا عن من حج عن غيره. ولأن إتمام الفاسدة إذا كان عقوبة تكون الثانية هي الفرض فلا مقتضى لوجوب حج آخر.

وقال في الدروس : ولو جامع قبل الوقوف أعاد الحج وأجزأ عنهما ، سواء كانت الإجارة معينة أو مطلقة على الأقوى. وهو ظاهر في موافقة هذا القول وهو الأقوى.

ويدل عليه من الاخبار ما رواه الشيخ في الموثق عن إسحاق بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) : «في رجل حج عن رجل فاجترح في حجه شيئا يلزمه فيه الحج من قابل أو كفارة؟ قال : هي للأول تامة وعلى هذا ما اجترح».

وعن إسحاق بن عمار (2) في خبر تقدم صدره (3) قال : قال : «قلت : فان ابتلى بشي‌ء يفسد عليه حجه حتى يصير عليه الحج من قابل ، أيجزئ عن الأول؟ قال :

__________________

(1) التهذيب ج 5 ص 461 ، وفي الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج.

(2) الوسائل الباب 15 من النيابة في الحج.

(3) ص 255.


نعم. قلت : لأن الأجير ضامن للحج؟ قال : نعم».

وظاهر الخبرين المذكورين ان الحجة الأولى مجزية عن المنوب عنه ، وبموجب ذلك يكون الأجير مستحقا للأجرة على هذا القول سواء كانت الإجارة مطلقة أو معينة ، وقد عرفت على القول الأول استحقاقه الأجرة متى كانت الإجارة مطلقة ، لوجوب الإتيان بالحج عليه ، واما مع التعيين فتنفسخ الإجارة فلا يستحق اجرة.

وبما ذكرناه يتضح ما في بناء المحقق ومن تبعه استعادة الأجرة وعدمها على القولين في من حج عن نفسه وأفسد حجه ، من انه هل تكون الأولى هي الفرض وتسميتها فاسدة مجاز والثانية عقوبة أو بالعكس؟ فان قلنا : ان الاولى فرضه والثانية عقوبة ـ كما اختاره الشيخ ودلت عليه حسنة زرارة (1) التي هي مستند تلك المسألة ـ فقد برئت ذمة المستأجر بإتمامه واستحق الأجير الأجرة ، وان قلنا الأولى فاسدة والإتمام عقوبة والثانية فرضه كان الجميع لازما للنائب ، وتستعاد منه الأجرة ان كانت الأجرة متعلقة بزمان معين ، وذلك فإنه متى كانت حسنة زرارة الواردة في من حج عن نفسه دلت على ان الفريضة هي الأولى ، وروايتا إسحاق ابن عمار المختصتان بالنائب دلتا على ان الفرض هي الأولى كما قدمنا ذكره ، فان الواجب هو القول بذلك وعدم الالتفات الى القول الآخر ، لخلوه من الدليل فلا يصلح لأن يفرع عليه بل ولا يلتفت اليه. ومن ذهب الى كون الفرض هي الثانية في من حج عن نفسه إنما بنى على الطعن في حسنة زرارة من حيث الإضمار. وهو مع قطع النظر عن ضعفه وعدم الإضرار بصحة الرواية أو حسنها لا يجري في النائب ، لدلالة الروايتين المتقدمتين الواردتين في خصوص النائب على ان الأولى هي الفرض.

__________________

(1) الوسائل الباب 3 من كفارات الاستمتاع.


وبالجملة فإن الظاهر هو صحة الحج ـ مطلقا كان الاستئجار أو مقيدا بالسنة الاولى ـ وانه قد قضى ما عليه بالحجة الاولى واستحق الأجرة. وما أطالوا به من الاحتمالات والمناقشات والتفريعات كله تطويل بغير طائل ، فإن ما ذكرناه هو مدلول الأخبار التي هي المعتمد في الإيراد والإصدار. والله العالم.

المسألة السادسة ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في انه لو تبرع انسان بالحج عن غيره بعد موته فإنه يكون مجزئا عنه وتبرأ ذمته به. وظاهرهم انه لا فرق في ذلك بين ان يختلف الميت ما يحج به عنه أم لا ، ولا في المتبرع بين ان يكون وليا أو غيره.

ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عبد الله بن مسكان عن عمار بن عمير (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

بلغني عنك انك قلت : لو ان رجلا مات ولم يحج حجة الإسلام فحج عنه بعض أهله أجزأ ذلك عنه؟ فقال : نعم اشهد بها على ابي أنه حدثني ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه رجل فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان ابي مات ولم يحج؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : حج عنه فان ذلك يجزئ عنه».

وما رواه في الكافي في الموثق عن حكم بن حكيم (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : انسان هلك ولم يحج ولم يوص بالحج ، فأحج عنه بعض اهله رجلا أو امرأة ، هل يجزئ ذلك ويكون قضاء عنه ، أو يكون الحج لمن حج

__________________

(1) الوسائل الباب 31 من وجوب الحج وشرائطه. ورواه في الكافي ج 4 ص 277 في الصحيح عن ابن مسكان عن عامر بن عميرة.

(2) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه. والظاهر ان الحديث من الصحيح ، لأن الكليني يرويه عن ابي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن حكم ، وكلهم ثقات صحيحو المذهب.


ويؤجر من احتج عنه؟ فقال : ان كان الحاج غير صرورة أجزأ عنهما جميعا وأجزأ الذي أحجه».

قال في الوافي ذيل هذا الخبر : واما إذا كان صرورة فإنما أجزأ عنه الى ان أيسر كما في اخبار أخر أقول : والأقرب ان لفظ : «غير» هنا وقع مقحما سهوا من بعض الرواة ، لتكاثر الروايات بالأمر بحج الصرورة الذي لا مال له.

وما رواه في الكافي مرفوعا وفي الفقيه مضمرا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سئل عن رجل مات وله ابن لم يدر أحج أبوه أم لا؟ قال : يحج عنه فان كان أبوه قد حج كتب لأبيه نافلة وللابن فريضة ، وان كان أبوه لم يحج كتب لأبيه فريضة وللابن نافلة».

أقول : لما كان من يحج عن غيره لله (عزوجل) يتفضل الله عليه بثواب مثل حجة الذي ناب فيه عن غيره ، فهذا الذي قد حج عن أبيه في هذا الخبر ان كان أبوه لم يحج حجة الإسلام كانت هذه الحجة سادة مسدها ويكتب له ثواب حجة مستحبة ، وإلا كتب له ثواب الفريضة ووقعت عن الأب نافلة.

واستدل على ذلك أيضا بصحيحة رفاعة (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل يموت ولم يحج حجة الإسلام ولم يوص بها ، أتقضى عنه؟ قال : نعم». ومثلها رواية أخرى له ايضا (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل والمرأة يموتان ولم يحجا ، أيقضى عنهما حجة الإسلام؟ قال : نعم». والظاهر عندي منهما انما هو القضاء من ماله ، كما ورد في جملة من الاخبار

__________________

(1) الوسائل الباب 31 من النيابة في الحج. والظاهر ان يقول : «مرسلا» بدل «مضمرا» ولعله من تحريف النساخ.

(2 و 3) الوسائل الباب 28 من وجوب الحج وشرائطه.


ان من مات وفي ذمته حجة الإسلام ولم يوص بها فإنها تخرج من أصل ماله (1) وان لم يكن ما ذكرناه هو الأقرب فلا أقل من ان يكون مساويا لاحتمال تبرع الأجنبي عنه ، فلا يمكن الاستدلال لما ذكرناه من الاحتمال.

وربما ظهر من تخصيص الاجزاء بالتبرع عن الميت عدم اجزاء التبرع عن الحي. وهو كذلك متى كان متمكنا من الإتيان بالحج ، اما مع العجز عنه المسوغ للاستنابة ـ كما تقدم ـ فإشكال ينشأ ، من انه كالميت ، لأن الذمة تبرأ بالعوض فكذا بدونه ، ولان الواجب الحج عنه وقد حصل فيمكن الاجزاء ، ومن ان براءة ذمة المكلف بفعل الغير تتوقف على الدليل وهو منتف هنا فيرجح العدم.

هذا كله في الحج الواجب ، واما في الحج المندوب فيجوز التبرع عن الحي والميت إجماعا نصا (2) وفتوى.

ومن الاخبار في ذلك صحيحة حماد بن عثمان (3) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان الصلاة والصوم والصدقة والحج والعمرة وكل عمل صالح ينفع الميت حتى ان الميت ليكون في ضيق فيوسع عليه ويقال : هذا بعمل ابنك فلان أو بعمل أخيك فلان. أخوه في الدين».

وموثقة إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (4) قال : «سألته عن

__________________

(1) الوسائل الباب 28 من النيابة في الحج.

(2) الوسائل الباب 28 من الاحتضار ، والباب 12 من قضاء الصلوات ، والباب 25 من النيابة في الحج.

(3) الوسائل الباب 12 من قضاء الصلوات.

(4) الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج.


الرجل يحج فيجعل حجته وعمرته أو بعض طوافه لبعض اهله وهو عنه غائب ببلد آخر ، قال : قلت : فينقص ذلك من اجره؟ قال : لا هي له ولصاحبه ، وله أجر سوى ذلك بما وصل. قلت : وهو ميت هل يدخل ذلك عليه؟ قال : نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له أو يكون مضيقا عليه فيوسع عليه. قلت : فيعلم هو في مكانه ان عمل ذلك لحقه؟ قال : نعم. قلت : وان كان ناصبا ينفعه ذلك؟ قال : نعم يخفف عنه».

وصحيحة موسى بن القاسم البجليّ (1) قال : «قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : يا سيدي إني أرجو أن أصوم بالمدينة شهر رمضان؟ قال : تصوم بها ان شاء الله. قلت : وأرجو ان يكون خروجنا في عشر من شوال ، وقد عود الله زيارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وزيارتك ، فربما حججت عن أبيك ، وربما حججت عن ابي ، وربما حججت عن الرجل من إخواني ، وربما حججت عن نفسي ، فكيف اصنع؟ فقال : تمتع. فقلت : اني مقيم بمكة منذ عشر سنين؟ فقال : تمتع».

ورواية صفوان الجمال (2) قال : «دخلت على ابي عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه الحارث بن المغيرة ، فقال : بأبي أنت وأمي لي ابنة قيمة لي على كل شي‌ء وهي عاتق فاجعل لها حجتي؟ فقال : اما انه يكون لها أجرها ويكون لك مثل ذلك ولا ينقص من أجرها شي‌ء». أقول : العاتق : البكر الشابة تكون في بيت أبيها.

وروى في الفقيه مرسلا (3) قال : «قال رجل للصادق عليه‌السلام : جعلت فداك

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 314 ، وفي الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج.

(2) الوسائل الباب 25 من النيابة في الحج.

(3) الوسائل الباب 29 من النيابة في الحج.


انى كنت نويت ان ادخل في حجتي العام أمي أو بعض أهلي فنسيت؟ فقال عليه‌السلام : الآن فأشركهما».

وحسنة الحارث بن المغيرة (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام وانا بالمدينة بعد ما رجعت من مكة : إني أردت أن أحج عن ابنتي؟ قال : فاجعل ذلك لها الآن».

وقد ورد أيضا في جملة من الاخبار النيابة في الطواف عن الميت وعن الحي ما لم يكن حاضر مكة إلا مع العذر كالإغماء والبطن ونحوهما.

فمن الأخبار الدالة على جواز النيابة فيه رواية داود الرقي (2) قال : «دخلت على ابى عبد الله (عليه‌السلام) ولي على رجل مال قد خفت تواه فشكوت ذلك اليه ، فقال لي إذا صرت بمكة فطف عن عبد المطلب طوافا وصل ركعتين عنه ، وطف عن ابى طالب طوافا وصل عنه ركعتين ، وطف عن عبد الله طوافا وصل عنه ركعتين ، وطف عن آمنة طوافا وصل عنها ركعتين ، وطف عن فاطمة بنت أسد طوافا وصل عنها ركعتين ، ثم ادع الله ان يرد عليك مالك. قال : ففعلت ذلك ثم خرجت من باب الصفاء فإذا غريمي واقف يقول : يا داود حبستني تعال فاقبض مالك».

وصحيحة معاوية بن عمار عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) في حديث قال فيه : «فأطوف عن الرجل والمرأة وهم بالكوفة؟ فقال : نعم تقول

__________________

(1) الوسائل الباب 29 من النيابة في الحج.

(2) الكافي ج 4 ص 544 ، والفقيه ج 2 ص 307 ، وفي الوسائل الباب 51 من الطواف.

(3) الوسائل الباب 18 من النيابة في الحج.


حين تفتتح الطواف : اللهم تقبل من فلان ، الذي تطوف عنه».

ورواية أبي بصير (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : من وصل أباه أو ذا قرابة له فطاف عنه كان له اجره كاملا ، وللذي طاف عنه مثل اجره ويفضل هو بصلته إياه بطواف آخر».

واما ما يدل على عدم النيابة مع الحضور فهو ما رواه في التهذيب عن عبد الرحمن بن ابى عبد الله عن من حدثه عن ابى عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «قلت له : الرجل يطوف عن الرجل وهما مقيمان بمكة؟ قال : لا ولكن يطوف عن الرجل وهو غائب عن مكة. قلت : وكم مقدار الغيبة؟ قال : عشرة أميال».

وغاية ما استدل به في المدارك على هذا الحكم ـ حيث صرح به المصنف في المتن ـ هو انها عبارة تتعلق بالبدن فلا تصح النيابة فيه مع التمكن. وفيه ما لا يخفى والظاهر انه لم يقف على الخبر المذكور.

واما جواز النيابة مع الحضور والعذر فتدل عليه أخبار عديدة :

منها ـ صحيحة حبيب الخثعمي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ان يطاف عن المبطون والكسير».

وتمام تحقيق المسألة يأتي في محله ان شاء الله تعالى.

المسألة السابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأن الأجير

__________________

(1) الوسائل الباب 18 من النيابة في الحج ، والباب 51 من الطواف.

(2) الوسائل الباب 18 من النيابة في الحج. والراوي عبد الرحمن بن ابي نجران.

(3) الوسائل الباب 49 من الطواف.


يستحق الأجرة بالعقد ويملكها ، لان ذلك مقتضى صحة المعاوضة ، فلو كانت عينا فزادت بعد العقد أو نمت فهما للأجير ، إلا انه لا يجب تسليمها إلا بعد العمل كما هو المقرر في باب الإجارة ، وعلى هذا فليس للوصي التسليم قبله ولو سلم كان ضامنا ، إلا مع الاذن من الموصي المستفاد من نصه على ذلك ، أو اطراد العادة لأن ما جرت به العادة يكون كالمنطوق به. ولو توقف عمل الأجير وإتيانه بالفعل على دفع الأجرة اليه ولم يدفعها الوصي فقد استقرب الشهيد في الدروس جواز فسخه ، للضرر اللازم من اشتغال الذمة بما استؤجر عليه مع عدم تمكنه منه. ويحتمل عدمه فينتظر وقت الإمكان ، لأن التسلط على فسخ العقد اللازم يتوقف على الدليل ، ومثل هذا الضرر لم يثبت كونه مسوغا. نعم لو علم عدم التمكن مطلقا تعين القول بجواز الفسخ.

أقول : ما ذكروه ـ من انه ليس للوصي التسليم قبل العمل ولو سلم كان ضامنا ـ لا يخلو عندي هنا من اشكال وان كان هذا من جملة القواعد المسلمة بينهم في باب الإجارة مطلقا ، وذلك فإنه قد تقدم في المسألة الأولى (1) من مسائل هذا المقصد نقل جملة من الاخبار الدالة على ان من أخذ حجة عن ميت فمات ولم يحج ولم يخلف شيئا ، أو لم يمت ولكن أنفقها وحضر أوان الحج ولم يمكنه الحج انه ان كان له حج عند الله أثبته الله للميت وإلا كتب للميت بفضله وكرمه (عزوجل) ثواب الحج. وهذا لا يجامع الحكم بضمان الوصي بتسليم الأجرة.

ويعضد ذلك ايضا ما رواه في الكافي في الموثق عن عمار بن موسى الساباطي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل يأخذ

__________________

(1) ص 257.

(2) الوسائل الباب 10 من النيابة في الحج.


الدراهم ليحج بها عن رجل ، هل يجوز له ان ينفق منها في غير الحج؟ قال : إذا ضمن الحجة فالدراهم له يصنع بها ما أحب وعليه حجة».

وظاهر هذا الخبر انه متى استقرت الحجة في ذمته بطريق الإجارة وكان ضامنا لها بسبب ذلك استحق الأجرة وجاز تسليمها اليه وصارت ملكه كسائر أمواله من غير ان يتعقب ذلك ضمان على الوصي ، ويصير الأجير مطلوبا بالحج خاصة فإن حج فقد برئت ذمته ، وإلا فالحكم فيه ما جرى في الاخبار المشار إليها.

وبالجملة فإن الرجوع على الوصي بعد ما عرفت لا يخلو من نظر. إلا ان يقال : ان عدم الرجوع هنا انما هو بما ذكروه من حيث جريان العادة بدفع الأجرة أولا وهو في حكم المنطوق. وفيه بعد ، فان ظاهر الأخبار المشار إليها ان هذا الحكم كلي في المسألة ، جرت العادة بما ذكر أو لم تجر.

وكيف كان فقد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم) هنا انه يستحب للأجير رد فاضل الأجرة بعد الحج ، وللمستأجر إعانته ان نقصت الأجرة عن الوفاء بالحج.

وعلل الحكم الأول في المعتبر بأنه مع الإعادة يكون قصده بالنيابة القربة لا العوض.

قال في المدارك : وكأن مراده انه مع قصد الإعادة ابتداء يكون قصده بالنيابة القربة لا العوض. وهو حسن.

أقول : لا يخفى ان ما تأول به عبارة المعتبر بعيد عن ظاهرها وكذا ظاهر غيرها ، والظاهر ان مرادهم ان اعادة الزائد بعد الفراغ من الحج يكون كاشفا عن ان قصده بالإجارة والنيابة القربة لا العوض. وإثبات الاستحباب الذي هو حكم شرعي بمثل هذه التخرصات والتخريجات مشكل.

نعم قال شيخنا المفيد في المقنعة ـ بعد ان حكم بان الرجل إذا أخذ حجة


ففضل منها شي‌ء فهو له وان عجزت فعليه ـ ما لفظه : وقد جاءت رواية بأنه ان فضل من ما أخذه فإنه يرده ان كان نفقته واسعة وان كان قتر على نفسه لم يرده. وعلى الأول العمل. انتهى. وهذه الرواية على تقدير صحتها أخص من المدعى.

وعلل الحكم الثاني بما في ذلك من المساعدة للمؤمن والرفق به والتعاون على البر والتقوى. ولا بأس به.

وقد وردت الاخبار بان ما فضل من الأجرة فهو للأجير ، وظاهرها ان ذلك غير مؤثر في صحة الحج وقصد القربة به وان قصد العوض. وفيه رد لما عللوا به الحكم الأول.

فروى الشيخ في الصحيح عن مسمع (1) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : أعطيت الرجل دراهم يحج بها عني ففضل منها شي‌ء فلم يرده على؟ فقال : هو له لعله ضيق على نفسه في النفقة لحاجته إلى النفقة».

وروى ثقة الإسلام في الصحيح عن احمد بن محمد بن ابي نصر عن محمد بن عبد الله القمي (2) قال : «سألت أبا الحسن الرضا (عليه‌السلام) عن الرجل يعطى الحجة يحج بها ويوسع على نفسه فيفضل منها ، أيردها عليه؟ قال : لا هي له».

ثم انه لو خالف ما استؤجر عليه فظاهر الأكثر انه لا اجرة له ، لانه متبرع بما اتى به. وقيل ان له اجرة المثل ، حكاه العلامة في المنتهى عن الشيخ ، قال في المدارك : وهو بعيد جدا ، قال : بل الظاهر انه (رحمه‌الله) لا يقول بثبوتها في جميع الموارد ، فان من استؤجر على الحج فاعتمر وعلى الاعتمار فحج لا يعقل استحقاقه بما فعل أجرة لأنه متبرع محض ، وانما يتخيل ثبوتها مع المخالفة في وصف من أوصاف العمل الذي تعلقت به الإجارة ، كما إذا استؤجر على الحج

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 10 من النيابة في الحج.


ماشيا فركب ، أو على الإحرام من ميقات معين فأحرم من غيره. مع ان المتجه مع صحة الفعل استحقاقه من الأجرة بنسبة ما عمل الى المسمى لا اجرة المثل. الى ان قال : والأجود ما أطلقه المصنف من سقوط الأجرة مع المخالفة. انتهى.

وهو جيد ، إلا انه ينبغي ان يستثني من ذلك ما تقدم من الخلاف في مسألتي الطريق والنوع ، كما قدمنا بيانه في المسألة الثانية من مسائل هذا المقصد. والله العالم.

المسألة الثامنة ـ لو اوصى ان يحج عنه سنين متعددة واوصى لكل سنة منها بمال معين ـ اما مفصلا كمائة درهم أو مجملا كغلة بستان ـ فقصر ذلك عن اجرة الحج ، فظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف انه يجمع ما زاد على سنة بما تكمل به الأجرة التي يحج بها ثم يحج عنه لسنة ، وهكذا.

واستدلوا عليه بان القدر المعين قد انتقل بالوصية عن ملك الورثة ووجب صرفه في ما عينه الموصى بقدر الإمكان ، ولا طريق إلى إخراجه إلا بهذا الوجه فيتعين.

أقول : والأظهر هو الاستدلال بالنصوص ، فان الاعتماد على مثل هذه التخريجات سيما مع وجود النص مجازفة ظاهرة ، وان كانت هذه طريقتهم زعما منهم ان هذا دليل عقلي وهو مقدم على النقلي. وفيه ما حققناه في غير موضع من مؤلفاتنا ولا سيما في مقدمات الكتاب.

واستدل في المدارك على ذلك بما رواه الكليني (رضوان الله عليه) عن إبراهيم بن مهزيار (1) قال : «كتبت الى ابي محمد (عليه‌السلام) : ان مولاك على بن مهزيار اوصى ان يحج عنه من ضيعة صير ربعها لك في كل سنة حجة

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 310 ، وفي الوسائل الباب 3 من النيابة في الحج.


بعشرين دينارا ، وانه منذ انقطع طريق البصرة تضاعفت المؤن على الناس فليس يكتفون بعشرين دينارا. وكذلك اوصى عدة من مواليك في حجهم؟ فكتب عليه‌السلام : تجعل ثلاث حجج حجتين ان شاء الله تعالى».

وعن إبراهيم (1) قال : «كتب اليه علي بن محمد الحضيني : ان ابن عمي اوصى ان يحج عنه بخمسة عشر دينارا في كل سنة فليس يكفي ، فما تأمر في ذلك؟ فكتب عليه‌السلام : تجعل حجتين حجة ، ان الله (تعالى) عالم بذلك».

ثم قال : وفي الروايتين ضعف من حيث السند. اما الوجه الأول فلا بأس به ، وان أمكن المناقشة فيه بان انتقال القدر المعين بالوصية انما يتحقق مع إمكان صرفه فيها ، ولهذا وقع الخلاف في انه إذا قصر المال الموصى به عن الحج هل يصرف في وجوه البر أو يعود ميراثا؟ فيمكن اجراء مثل ذلك هنا لتعذر صرف القدر الموصى به في الوصية. والمسألة محل تردد ، وان كان المصير الى ما ذكره الأصحاب لا يخلو من قوة. انتهى.

أقول : فيه أولا ـ ان الروايتين وان كانتا ضعيفتين إلا ان الحكم اتفاقي بين الأصحاب كما صرح به في صدر كلامه ، حيث قال : وهذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب. وهو في غير موضع من شرحه قد وافقهم على جبر الخبر الضعيف بالاتفاق على العمل بمضمونه.

وثانيا ـ ان الخبرين وان كانا ضعيفين بناء على نقله لهما من الكافي إلا انهما في من لا يحضره الفقيه (2) صحيحان ، فإنه رواهما فيه عن إبراهيم بن مهزيار ، وطريقه إليه في المشيخة (3) : أبوه عن الحميري عنه. وهو في أعلى مراتب الصحة. وثالثا ـ ان ما ذكره ـ من انه يمكن المناقشة في الوجه الأول بأن انتقال

__________________

(1) الكافي ج 4 ص 310 ، وفي الوسائل الباب 3 من النيابة في الحج.

(2) ج 2 ص 272.

(3) ص 44 ملحق الجزء الرابع.


القدر المعين بالوصية انما يتحقق مع إمكان صرفه فيها ـ وهم محض نشأ من عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار المتعلقة بهذه المسألة ، فإن المفهوم منها على وجه لا يعتريه الشك والإنكار هو ما ذكره جل علمائنا الأبرار (رفع الله أقدارهم في دار القرار) من أنه بالوصية ينتقل عن الموصى ولا يعود الى ورثته ، ومع عدم إمكان صرفه في المصرف الموصى به يرجع الى المصرف في أبواب البر ، كما سيأتي تحقيق ذلك قريبا عند ذكر المسألة المشار إليها.

وبذلك يظهر لك ما في كلامه (قدس‌سره) من قوله : «ولهذا وقع الخلاف في انه إذا قصر المال الموصى به. الى آخره» فان هذا الخلاف بعد دلالة النصوص على التصدق ـ كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ـ مساهلة وجزاف ، فان الخلاف مع عدم الدليل بل قيام الدليل على العدم انما هو اعتساف واي اعتساف.

قالوا : ولو اوصى ان يحج عنه ، فان لم يعلم منه ارادة التكرار اقتصر على المرة ، وان علم منه ارادة التكرار حج عنه ما دام شي‌ء من ثلثه.

وعللوا الحكم الأول بحصول الامتثال بالمرة. والثاني بأنه وصية ومنفذها الثلث خاصة مع عدم اجازة الوارث.

والذي وقفت عليه من ما يتعلق بهذه المسألة ما رواه الشيخ في التهذيب (1) عن محمد بن الحسن الأشعري قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك إني سألت أصحابنا عن ما أريد أن أسألك فلم أجد عندهم جوابا وقد اضطررت إلى مسألتك ، وان سعد بن سعد اوصى الي فاوصى في وصيته : حجوا عني. مبهما ولم يفسر ، فكيف اصنع؟ قال : يأتيك جوابي في كتابك. فكتب الي : يحج ما دام له مال يحمله».

__________________

(1) ج 9 ص 226 ، وفي الوسائل الباب 4 من النيابة في الحج.


وما رواه أيضا في الكتاب المذكور (1) بسند آخر عن محمد بن الحسين «انه قال لأبي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك قد اضطررت إلى مسألتك. فقال : هات. فقلت : سعد بن سعد اوصى : حجوا عني. مبهما ولم يسم شيئا ، ولا ندري كيف ذلك؟ فقال : يحج عنه ما دام له مال».

ورواه أيضا في موضع آخر (2) بسند غير الأولين عن محمد بن الحسن بن ابي خالد قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل اوصى ان يحج عنه (مبهما)؟ فقال : يحج عنه ما بقي من ثلثه شي‌ء».

وهذه الاخبار متفقة في انه يحج عنه من ثلثه ، وهو المشار اليه بماله في الخبرين الأولين ، لأن الميت ليس له من ماله إلا الثلث.

والظاهر من قول السائل : «مبهما» يعني : انه لم يعين المرات. فكأن ارادة التكرار معلومة عند الوصي وانما استشكل في المقدار.

قال في المدارك ـ بعد ان ذكر وجوب الحج عنه الى ان يستوفى الثلث إذا علم منه ارادة التكرار ، ثم أيده بالرواية الثالثة ـ ما صورته : ولا يخفى ان ذلك انما يتم إذا علم منه ارادة التكرار على هذا الوجه وإلا اكتفى بالمرتين ، لتحقق التكرار بذلك ، كما يكتفى بالمرة مع الإطلاق.

أقول : لا يبعد ان يقال : ان الظاهر من إطلاق هذه الاخبار انه بمجرد هذا القول المحتمل لأن يراد منه حجة واحدة أو اثنتان أو عشر أو نحو ذلك يجب الحج عنه حتى يفنى ثلثه. ولان يقين البراءة من تنفيذ الوصية لا يحصل إلا بذلك

__________________

(1) ج 5 ص 408 ، وفي الوسائل الباب 4 من النيابة في الحج. وارجع الى الاستدراكات.

(2) ج 5 ص 408 ، وج 9 ص 226 ، وفي الوسائل الباب 4 من النيابة في الحج.


وهذا هو الأنسب بقول السائل : «مبهما» وحينئذ فلا معنى لقولهم : فان لم يعلم منه ارادة التكرار اقتصر على المرة. بل الأظهر ان يقال : فان علم منه عدم ارادة التكرار اقتصر على المرة. وبالجملة فإن جميع ما ذكروه تقييد للنص المذكور وإطلاقه أعم من ذلك كما عرفت. والله العالم.

المسألة التاسعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو عقد الأجير الإحرام عن المنوب عنه ثم نقل النية إلى نفسه ، فقيل بوقوعها عن المنوب عنه ، وهو منقول عن الشيخ في المبسوط واختاره المحقق في المعتبر.

قال في المبسوط : إذا أحرم عن من استأجره ـ سواء كانت في حجة الفرض أو التطوع ـ ثم نقل الإحرام إلى نفسه لم يصح نقله ، ولا فرق بين ان يكون الإحرام بالحج أو بالعمرة ، فان مضى على هذه النية وقعت الحجة عن من بدأ بنيته ، لأن النقل ما يصح ويستحق الأجرة على من وقعت عنه. انتهى.

وقيل بعدم اجزائها عن واحد منهما ، وهو اختيار المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه ، والظاهر انه هو المشهور بين المتأخرين.

واستدل في المعتبر على القول الأول بان ما فعله وقع عن المستأجر فلا يصح العدول بها بعد إيقاعها. ولأن أفعال الحج استحقت لغيره فلا يصح نقلها وإذا لم يصح النقل فقد تمت الحجة لمن بدأ بالنية له وله الأجرة لقيامه بما شرط عليه.

حجة القول المشهور ، اما على عدم الاجزاء عن النائب فلعدم صحة النقل اتفاقا ، واما عن المنوب عنه فلعدم النية عنه في باقي الأفعال حيث انه انما نواها الأجير عن نفسه. وبالجملة فإنهم متفقون على عدم صحة النقل بعد الإحرام عن المستأجر ، وانما الإشكال بالنسبة الى هذه الأفعال التي نواها الأجير عن نفسه فإنها لا تصح عنه لعدم صحة النقل فلا تقع عنه ، ولا تقع عن المستأجر لأنه لم ينوها


عنه ، والعبادات تابعة للنيات والقصود.

ومن ما يعضد القول الأول هنا ما تقدم (1) من الاخبار في المسألة الاولى من مسائل هذا المقصد الدالة على ان من اعطى رجلا مالا يحج عنه فحج عن نفسه فإنها تقع عن صاحب المال. فإنه متى صح كونها عن صاحب المال بدون نية الإحرام عنه فمعها اولى.

وبذلك صرح شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد فقال : ويمكن ان يحتج للشيخ برواية ابن أبي حمزة عن الصادق عليه‌السلام. ثم ساق الرواية كما قدمناه (2) ثم قال (قدس‌سره) : فإذا كان يجزئ عن المنوب لا مع نية الإحرام فلأن يجزئ بنيته اولى.

ورد ذلك في المدارك بضعف الرواية. وفيه انك قد عرفت من ما قدمنا ثمة ان بعض هذه الروايات من مرويات صاحب الفقيه ، وهو كثيرا ما يعتضد بها بناء على ما ذكره في ديباجة كتابه.

وبالجملة فالمسألة لا تخلو من شوب الاشكال وان كان قول الشيخ ـ لما عرفت ـ لا يخلو من قوة. والله العالم.

المسألة العاشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لو اوصى للحج بقدر معين ، فان كان الحج واجبا أخرج أجرة المثل من الأصل ، وما زاد ـ ان كان في ذلك المقدار زيادة ـ من الثلث كما هو شأن الوصايا ، وان كان الحج ندبا فالجميع من الثلث.

وما ذكروه في الواجب ، اما في حجة الإسلام فلا اشكال فيه ، واما في غيره من النذر وشبهه فهو مبني على الخلاف المتقدم ، وان كان المشهور عندهم انه كحج الإسلام من الأصل.

__________________

(1 و 2) ص 258.


ومن ما يدل على ان حج الإسلام من الأصل والمندوب من الثلث ما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليه‌السلام (1) «في رجل مات واوصى ان يحج عنه؟ فقال : ان كان صرورة حج عنه من وسط المال وان كان غير صرورة فمن الثلث».

وما رواه الصدوق ايضا عن الحارث بياع الأنماط (2) : «أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام وسئل عن رجل اوصى بحجة؟ فقال : ان كان صرورة فمن صلب ماله ، انما هي دين عليه ، فان كان قد حج فمن الثلث».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مات واوصى ان يحج عنه؟ قال : ان كان صرورة فمن جميع المال ، وان كان تطوعا فمن ثلثه».

وروى نحوه في الصحيح عن الحلبي عن ابي عبد الله عليه‌السلام (4) وزاد : «فإن اوصى ان يحج عنه رجل فليحج ذلك الرجل».

__________________

(1) الفقيه ج 4 ص 158 ، وفي الوسائل الباب 25 من وجوب الحج وشرائطه ، والباب 41 من الوصايا. واللفظ هكذا : «سألته عن رجل مات ...».

(2) الفقيه ج 2 ص 270 ، وفي الوسائل الباب 25 و 29 من وجوب الحج وشرائطه. واللفظ في الراوي هكذا : «حارث بياع الأنماط» وفي المتن هكذا : «انه سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل» وما ذكر من اللفظ في الراوي والمتن انما هو في التهذيب ج 9 ص 229.

(3) الوسائل الباب 25 من وجوب الحج وشرائطه ، والباب 41 من الوصايا.

(4) الوسائل الباب 25 من وجوب الحج وشرائطه.


وهذه الاخبار وما جرى مجراها انما دلت على الوصية بالحج من غير الوصية بقدر معين له ، والظاهر ان التعيين يرجع فيه الى أجرة المثل كما فهمه الأصحاب فيكون المخرج من الأصل والثلث هو اجرة المثل ، وحينئذ فيكون الزائد عليها مع التعيين يخرج من الثلث كما تقدم.

ولبعض الأصحاب في المسألة تفصيل حسن لا بأس بذكره قال : من اوصى بالحج ، فاما ان يعين الأجير والأجرة معا أو لا يعينهما أو يعين الأجير دون الأجرة أو بالعكس ، ثم اما ان يكون الحج واجبا أو مندوبا ، فالصور ثمان :

الاولى ـ ان يعين الأجير والأجرة معا ويكون الحج واجبا ، فيجب اتباع ما عينه الموصي ، ثم ان كانت الأجرة المعينة مقدار اجرة المثل أو أقل نفذت من الأصل ، وان زادت كانت اجرة المثل من الأصل والزيادة من الثلث ان لم يجز الورثة. ولو امتنع الموصى له من الحج بطلت للوصية واستؤجر غيره بأقل ما يوجد من يحج به عنه.

أقول : الحكم ببطلان الوصية هنا مطلقا بامتناع الموصى له ـ حتى انه يصير في حكم ما لو لم يوص بالكلية ، فيستأجر غيره بأقل ما يوجد من يحج به عنه ـ لا اعرف له وجها ظاهرا ، لأنه قد أوصى بأمرين الأجير والأجرة والحج واجب لا بد من إخراجه ، وتعذر الأجير لامتناعه لا يوجب بطلان تعيين الأجرة ، إلا ان يعلم ان التعيين انما وقع من حيث خصوصية ذلك الأجير الموصى له وهو هنا غير معلوم. وسيأتي في كلامه ما يشير الى ما ذكرناه.

قال العلامة في المنتهى في هذه الصورة : فإن رضي الموصى له فلا بحث وإلا استؤجر غيره بالمعين ان ساوى اجرة المثل أو كان أقل ، وان زاد فالوجه ان الزيادة للوارث لأنه اوصى بها لشخص معين بشرط الحج ولم يفعل الموصى له فتكون للوارث ، ولا شي‌ء للموصى له ، لأنه إنما اوصى له بشرط قيامه بالحج. انتهى.


وبذلك يظهر ان حكمه بالاستئجار بأقل ما يوجد من يحج بها عنه محل نظر.

ثم قال الثانية ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، فيجب إخراج الوصية من الثلث إلا مع الإجازة فتنفذ من الأصل. ولو امتنع الموصى له من الحج فالظاهر سقوطه ، لأن الوصية انما تعلقت بذلك المعين فلا تتناول غيره. نعم لو علم تعلق غرض الموصى بالحج مطلقا وجب إخراجه ، لأن الوصية على هذا التقدير في قوة شيئين فلا يبطل أحدهما بفوات الآخر.

أقول : هذا من ما يؤيد ما ذكرناه آنفا ، لانه متى ثبت ذلك في التعدد الضمني ففي التعدد المصرح به أظهر.

ثم قال الثالثة ـ ان يعين الأجير خاصة والحج واجب ، فيجب استئجاره بأقل اجرة يوجد من يحج بها عنه. واحتمل الشهيد في الدروس وجوب إعطائه أجرة مثله ان اتسع الثلث. وهو حسن ، بل لا يبعد وجوب اجابته الى ما طلب مطلقا مع اتساع الثلث تنفيذا للوصية بحسب الإمكان ، فيكون الزائد عن الأقل محسوبا من الثلث إلا مع الإجازة. ولو امتنع الموصى له من الحج وجب استئجار غيره بمهما أمكن.

أقول : ما ذكره هنا ـ من وجوب استئجاره بأقل اجرة يوجد من يحج بها عنه ـ قد نقله في الدروس عن المبسوط. ونحوه قال العلامة في المنتهى حيث قال : وان عين الأجير دون الأجرة فقال : أحجوا عني فلانا. ولم يذكر مبلغ الأجرة فإنه يحج عنه بأقل ما يوجد من يحج عنه.

إلا ان الظاهر من عبارة التذكرة هنا هو ان الواجب الاستئجار بأجرة المثل حيث قال : إذا اوصى ان يحج عنه ، فاما ان يكون الحج واجبا أو مندوبا ، فان كان واجبا فلا يخلو اما ان يعين قدرا أولا ، فإن عين فان كان بقدر اجرة المثل أخرجت من الأصل وان زادت عن اجرة المثل أخرجت أجرة المثل من الأصل والباقي


من الثلث ، وان لم يعين أخرجت أجرة المثل من أصل المال. وهو ظاهر في كون المخرج في هذه الصورة هو اجرة المثل لا أقل اجرة يوجد من يحج بها.

وعلى هذا فإنما يرجع الى الثلث في ما زاد على اجرة المثل لا ما زاد عن الأقل كما ذكروه.

وما ذكروه من التخصيص بهذا الأقل لم يوردوا عليه دليلا ولم يذكروا له وجها ، وكأنهم لحظوا في ذلك رعاية جانب الوارث ، مع ان المستفاد من الأخبار التي قدمناها في الوصية بالحج هو البناء على سعة المال من البلد فنازلا الى الميقات ، وهو لا يلائم هذا التقييد بل انما ينطبق على اجرة المثل كما لا يخفى. على انهم قد صرحوا بأنه إذا اوصى ان يحج عنه ولم يعين الأجرة انصرف ذلك الى أجرة المثل وتخرج من الأصل. والفرق بين المسألتين غير واضح.

ثم قال الرابعة ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، والكلام فيه كما سبق من احتساب الأجرة كلها من الثلث. فلو امتنع الموصى له من القبول سقطت الوصية ، إلا إذا علم تعلق غرض الموصى بالحج مطلقا كما بيناه.

الخامسة ـ ان يعين الأجرة خاصة والحج واجب ، فان كانت مساوية لاجرة المثل صرفها الوارث الى من شاء ممن يقوم بالحج ، وكذا ان نقصت ، وان كان أزيد كان ما يساوي أجرة المثل من الأصل والزائد من الثلث.

السادسة ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، وحكمها معلوم من ما سبق من احتساب الأجرة كلها من الثلث إلا مع الإجازة.

السابعة ـ ان لا يعين الأجير ولا الأجرة والحج واجب ، فالحج عنه من أصل المال بأقل ما يجد من يحج به عنه. أقول : قد عرفت ما في ذلك من الاشكال ، ومقتضى إطلاق كلام التذكرة الذي قدمناه هو اجرة المثل.


الثامنة ـ الصورة بحالها والحج مندوب ، والأجرة من الثلث إلا مع الإجازة كما تقدم. انتهى.

المسألة الحادية عشرة ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لو قصر ما عينه اجرة للحج عن ذلك بحيث لا يرغب فيه أجير أصلا فإنه يصرف في وجوه البر ، وقيل يعود ميراثا.

واستدل في المنتهى على القول المشهور ـ بعد ان قطع به ـ بان هذا القدر من المال قد خرج عن ملك الورثة بالوصية النافذة ، ولا يمكن صرفه في الطاعة التي عينها الموصى ، فيصرف الى غيرها من الطاعات لدخولها في الوصية ضمنا.

واعترضه في المدارك بأنه يتوجه عليه أولا ـ منع خروجه عن ملك الوارث بالوصية ، لأن ذلك انما يتحقق مع إمكان صرفه فيها والمفروض امتناعه ، ومتى ثبت الامتناع المذكور كشف عن عدم خروجه عن ملك الوارث.

وثانيا ـ ان الوصية انما تعلقت بطاعة مخصوصة وقد تعذرت ، وغيرها لم يدل عليه لفظ الموصى نطقا ولا فحوى ، فلا معنى لوجوب صرف الوصية إليه. الى ان قال : ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا.

وفصل المحقق الشيخ علي (قدس‌سره) في هذه المسألة فقال : ان كان قصوره حصل ابتداء بحيث لم يمكن صرفه في الحج في وقت ما كان ميراثا ، وان كان ممكنا ثم طرأ القصور بعد ذلك لطروء زيادة الأجرة ونحوه فإنه لا يعود ميراثا ، لصحة الوصية ابتداء فخرج بالموت عن الوارث ، فلا يعود اليه إلا بدليل ولم يثبت ، غاية الأمر انه قد تعذر صرفه في الوجه المعين فيصرف في وجوه البر كما في المجهول المالك. واستوجهه الشارح (قدس‌سره) ولعل الحكم بعوده ميراثا مطلقا أقرب. انتهى.


أقول : والقول بالعود ميراثا منقول عن ابن إدريس والشيخ في أجوبة المسائل الحائريات.

ثم لا يخفى ان كلامهم (رضوان الله عليهم) في هذه المسألة ـ وخلافهم فيها وتعليل كل منهم ما اختاره بهذه التعليلات الواهية ـ انما نشأ عن عدم الوقوف على الاخبار التي وردت في هذه المسألة ، وإلا فهي مكشوفة القناع واجبة الاتباع لا يعتريها مناقشة ولا نزاع ، وهي متفقة الدلالة على القول المشهور متعاضدة المقالة على ذلك لا يعتريها قصور ولا فتور.

ومنها ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) عن علي بن مزيد صاحب الصابري (1) قال : «اوصى الي رجل بتركته وأمرني أن أحج بها عنه فنظرت في ذلك فإذا شي‌ء يسير لا يكفي للحج. فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة ، فقالوا : تصدق بها عنه. فلما حججت لقيت عبد الله بن الحسن في الطواف فسألته وقلت له : ان رجلا من مواليكم من أهل الكوفة مات واوصى بتركته الي وأمرني أن أحج بها عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج ، فسألت من قبلنا من الفقهاء فقالوا : تصدق بها. فتصدقت بها ، فما تقول؟ فقال لي : هذا جعفر بن محمد في الحجر فأته واسأله. قال : فدخلت الحجر فإذا أبو عبد الله عليه‌السلام تحت الميزاب مقبل بوجهه الى البيت يدعو ، ثم التفت الي فرآني فقال : ما حاجتك؟ فقلت : جعلت فداك اني رجل من أهل الكوفة من مواليكم فقال : دع ذا عنك ، حاجتك. قلت : رجل مات واوصى الي بتركته ان أحج بها

__________________

(1) الفروع ج 2 ص 239 الطبع القديم ، والتهذيب ج 9 ص 228 ، والفقيه ج 4 ص 154 ، وفي الوسائل الباب 37 و 87 من الوصايا. واسم الراوي في الفروع هكذا : «علي بن فرقد صاحب السابري».


عنه ، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج ، فسألت من عندنا من الفقهاء فقالوا : تصدق بها. فقال : ما صنعت؟ قلت : تصدقت بها ، فقال : ضمنت إلا ان لا يكون يبلغ ان يحج به من مكة ، فإن كان لا يبلغ ان يحج به من مكة فليس عليك ضمان ، وان كان يبلغ ان يحج به من مكة فأنت ضامن».

والشيخ في التهذيب (1) رواه بحذف حكاية لقاء عبد الله بن الحسن هكذا : «فلما حججت جئت الى ابي عبد الله عليه‌السلام فقلت : جعلني الله فداك مات رجل واوصى. الحديث» وهو ـ كما ترى ـ صريح في المدعى.

ومن ما يدل على ان المال بالوصية ينتقل عن الورثة ـ وانه مع تعذر صرفه في ما اوصى به يجب صرفه في أبواب البر ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (رضوان الله عليهم) بأسانيدهم عن محمد بن الريان (2) قال : «كتبت الى ابي الحسن عليه‌السلام ـ وفي الفقيه (3) يعني : علي بن محمد ـ اسأله عن إنسان أوصى بوصية فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها ، كيف يصنع بالباقي؟ فوقع (عليه‌السلام) : الأبواب الباقية اجعلها في البر».

ومن ما ينتظم في سلك هذا النظام ويلج في حيز هذا المقام ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (4) والشيخ في التهذيب (5) عن ياسين الضرير عن ابي جعفر عليه‌السلام (6) في حديث يتضمن ان رجلا أوصى بألف درهم للكعبة فسأل أبا جعفر

__________________

(1) ج 9 ص 228.

(2) الوسائل الباب 61 من الوصايا.

(3) ج 4 ص 162 ، واللفظ هكذا : «كتبت إليه ـ يعني : علي بن محمد عليهما‌السلام ـ اسأله ...».

(4) ج 4 ص 241.

(5) ج 9 ص 212.

(6) الوسائل الباب 22 من مقدمات الطواف.


عليه‌السلام فقال : ان الكعبة غنية عن هذا انظر الى من أم هذا البيت فقطع به أو ذهبت نفقته أو ضلت راحلته ، وعجز ان يرجع الى أهله ، فادفعها إلى هؤلاء».

وهذه الاخبار كلها ـ كما ترى ـ متفقة الدلالة واضحة المقالة في انه متى تعذر إنفاذ الوصية في الوجوه الموصى بها فإنها لا ترجع ميراثا كما توهموه ، بل يجب صرفها في أبواب البر ، وان دل هذا الخبر الأخير على هذا المصرف الخاص.

وبذلك يظهر لك ما في قول صاحب المدارك بعد جوابه عن كلام العلامة : ومن هنا يظهر قوة القول بعوده ميراثا. وكذا ما في تفصيل الشيخ علي (قدس‌سره) بل استدلال العلامة (رفع الله مقامهم ومقامه) ولكن العذر لهم ظاهر في عدم الوقوف على هذه الاخبار. وهذا من ما يؤيد ما قدمناه في غير مقام من ان بناء الأحكام على هذه التخريجات ـ وان كان ربما يتراءى منه الموافقة للقواعد ـ غير جيد ، بل لا بد من النص القاطع في المسألة وإلا فالوقوف عن الحكم.

والظاهر ان المتقدمين انما ذكروا هذه المسألة استنادا الى هذه الاخبار ولكن حيث لم تصل للمتأخرين تكلفوا هذه التعليلات العليلة. والله العالم.

المسألة الثانية عشرة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان الحج كما يصح بالاستئجار يصح ايضا بالارتزاق بان يقول : حج عني وأعطيك نفقتك أو أعطيك كذا وكذا. ولو استأجره بالنفقة لم يصح للجهالة. كذا صرح به في التذكرة.

ثم ان الاستئجار ضربان : أحدهما ـ استئجار عين الشخص بان يقول المؤجر : آجرتك نفسي لا حج عنك أو عن ميتك بنفسي بكذا وكذا. وثانيهما ـ إلزام ذمته بالعمل بأن يستأجره ليحصل له الحج اما بنفسه أو بغيره.

وقال العلامة في المنتهى : الإجارة على الحج على ضربين : معينة وفي الذمة فالمعينة ان يقول له استأجرتك لتحج عني هكذا بكذا. فههنا يتعين على الأجير


فعلها مباشرة ولا يجوز له ان يستنيب غيره ، لأن الإجارة وقعت على فعله بنفسه. ولو قال : على ان تحج عني بنفسك. كان تأكيدا ، لأن إضافة الفعل إليه في الصورة الأولى تكفي في ذلك. فلو استأجر النائب غيره لم تنعقد الأجرة. واما التي في الذمة بأن يستأجره ليحصل له حجة فيقول : استأجرتك لتحصل لي حجة ويكون قصده تحصيل النيابة مطلقا ، سواء كانت الحجة الصادرة عنه من الأجير أو من غيره ، فان هذا صحيح ويجوز للأجير ان يستنيب فيها ، لأنه كالمأذون له في فعل ما استؤجر فيه لغيره ، وكان كما لو صرح له بالاستنابة.

أقول : وينبغي ان يحمل على هذا القسم الثاني ما رواه الشيخ عن عثمان بن عيسى عن الصادق عليه‌السلام (1) قال : «قلت له : ما تقول في رجل يعطى الحجة فيدفعها الى غيره؟ قال : لا بأس». وما رواه في موضع آخر (2) عن عيثم ابن عيسى.

وبعض الأصحاب حمله على الاذن لفهمه منه الحمل على الصورة الاولى والأظهر ما ذكرناه. والله العالم.

__________________

(1) التهذيب ج 5 ص 417 ، وفي الوسائل الباب 14 من النيابة في الحج. والمروي عنه هو الرضا (عليه‌السلام) واللفظ هكذا : «قلت لأبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) : ما تقول في الرجل ...».

(2) التهذيب ج 1 ص 579 الطبع القديم ، وفي الطبع الحديث ج 5 ص 462 عن «عثمان بن عيسى» ايضا كما هو احدى النسختين في الطبع القديم.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *