ج18 - البيع - الصيغة والمتعاقدان
أحكام العقود والمعاملات
الفصل الأول
وأركانه ثلاثة : الصيغة ، والمتعاقدان ، والعوضان.
والبحث عن ذلك يقتضي بسطه في مقامات : ـ
الأول : المشهور ـ بل
كاد يكون إجماعا ـ هو اشتراط الصيغة الخاصة في البيع كغيره من العقود ، فلا يكفى
التقابض من غير تلك الصيغة ، وان حصل من الألفاظ والأمارات ما يدل على ارادة البيع
، سواء كان في الخطير والحقير.
قال في الشرائع : ولا ينعقد الا بلفظ الماضي (1) ، فلو قال :
اشتر ، أو ابتع أو أبيعك لم يصح ، وان حصل القبول. وكذا في طرف القبول ، مثل ان
يقول : بعني
__________________
(1) قالوا : لا بد من صيغة الماضي ، لأنه صريح في إرادة نقل
الملك. واما المستقبل فإنه شبيه بالوعد. والأمر بعيد عن المراد جدا. وكذا في سائر
العقود اللازمة. منه رحمهالله.
أو تبيعني ، لأن ذلك أشبه بالاستدعاء
أو بالاستعلام.
وهل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أم لا؟ فيه تردد ، والأشبه
: عدم الاشتراط.
وقال في الدروس : فالإيجاب : بعت وشريت وملكت. والقبول :
ابتعت واشتريت وتملكت وقبلت ـ بصيغة الماضي. فلا يقع الأمر والمستقبل ، ولا ترتيب
بين الإيجاب والقبول على الأقرب ، وفاقا للقاضي ـ الى ان قال ـ : ولا تكفي
المعاطاة وان كان في المحقرات ، نعم يباح التصرف في وجوه الانتفاعات ، ويلزم بذهاب
احدى العينين ويظهر من المفيد الاكتفاء بها مطلقا وهو متروك. انتهى.
وعلى هذا النهج كلام العلامة وغيره.
وبالجملة ، فإنه لا بد عندهم من لفظ دال على الإيجاب
وآخر على القبول ، وان يكون بلفظ الماضي.
ومنهم من أوجب قصد الإنشاء.
ومنهم من أوجب تقديم الإيجاب على القبول.
ومنهم من أوجب فورية القبول وانه لا يضر الفصل بنفس أو
سعال ونحوهما.
ومنهم من أوجب وقوع الإيجاب والقبول بالعربية إلا مع
المشقة. الى غير ذلك مما يقف عليه المتتبع لكلامهم.
قال الشهيد الثاني ـ في شرح قول المصنف «ولا يكفى
التقابض من غير لفظ. الى آخره» ـ هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعا ،
غير ان ظاهر كلام المفيد يدل على الاكتفاء في تحقق البيع بما يدل على الرضا من
المتعاقدين ، إذا عرفاه وتقابضا. وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب الى ذلك ايضا
، ولكن يشترط في الدال كونه لفظا ، وإطلاق كلام المفيد أعم منه ، والنصوص المطلقة
من الكتاب والسنة الدالة على حل البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة تدل على
ذلك ، فانا لم نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معين ، غير ان الوقوف مع المشهور
هو الأجود ،
مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كل واحد
لعوضه الى ان يعلم الناقل.
وقال في أواخر البحث ـ بعد ان نقل عن متأخري الشافعية
وجميع المالكية انعقاد البيع بكل ما دل على التراضي وعده الناس بيعا ـ ما صورته :
وهو قريب من قول المفيد وشيخنا المتقدم ، فما أحسنه وأتقن دليله ، ان لم ينعقد الإجماع
على خلافه. انتهى.
أقول : والى هذا القول مال جملة من محققي متأخري
المتأخرين ، وبه جزم المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وأطال في نصرته والاستدلال
عليه ، وبه جزم ايضا المحقق الكاشاني في المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية
، واليه يميل والدى ، والشيخ عبد الله بن صالح البحراني ، ونقلاه ايضا عن شيخهما
العلامة الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني.
وهو الظاهر عندي من اخبار العترة الاطهار التي عليها
المدار في الإيراد والإصدار ، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى على وجه لا تعتريه
غشاوة الإنكار. هذا.
واما ما ذكره في المسالك من ان الأجود القول المشهور ،
فلا اعرف له وجها في المقام ، بعد ما صرح به من الكلام ، واما الاعتضاد بأصالة
بقاء ملك كل واحد لعوضه الى ان يعلم الناقل. ففيه : انه قد اعترف هو بأن إطلاق
الكتاب والسنة دال على حصول البيع بكل ما دل على التراضي من قول أو فعل ، وصرح في
آخر كلامه بأنه ما أحسنه وامتن دليله ، وهو اعتراف منه بوجود الناقل ، فكيف يصح
منه الحكم بأجودية القول المشهور لهذا التعليل العليل المذكور ، ولم يبق الا
التعلق بالشهرة بين الأصحاب ، وهي ليست بدليل شرعي في هذا الباب ولا غيره من
الأبواب.
ثم انه ينبغي ان يعلم أنه لا بد في هذا البيع (1) من جميع
الشرائط المعتبرة في صحة البيوع ، سوى الصيغة الخاصة التي أدعوها ، فإنه لا دليل
عليها.
بل ظاهر الروايات الواصلة إلينا في أبواب البيوع
والأنكحة ونحوهما من
__________________
(1) يريد به بيع المعاطاة الخالية من الصيغة الخاصة.
سائر العقود والمعاملات : ان المعتبر
فيها ، انما هو الألفاظ الجارية في البين ، مما يدل على الرضا من الطرفين.
ولا بأس بإيراد ما خطر بالبال من الاخبار الجارية على
هذا المنوال :
فمنها : صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : سألته عن
الرجل يأتي بالدراهم إلى الصيرفي فيقول له : آخذ منك المأة بمأة وعشرة ، أو بمأة
وخمسة ، حتى يراوضه على الذي يريد ، فإذا فرغ جعل مكان الدراهم الزيادة دينارا أو
ذهبا ، ثم قال له : قد راددتك البيع (1) وانما أبايعك على هذا ، لأن الأول لا
يصلح ، أو لم يقل ذلك ، وجعل ذهبا مكان الدراهم : فقال : إذا كان اجرى البيع على
الحلال فلا بأس بذلك (2).
وظاهر الخبر ـ كما ترى ـ ان البيع انما وقع بهذا اللفظ
المذكور الذي وقع بينهما أولا من المحاورة على الزيادة ، حتى تراضيا على قدر معلوم
، غاية الأمر انه لما كان البيع باطلا بسبب الزيادة الجنسية المستلزمة للربا ،
فمتى أبدلها بغير الجنس صح البيع وتم.
ومنها : حسنة الحلبي عن الصادق عليهالسلام قال قدم لأبي
متاع من مصر فصنع طعاما ، ودعى له التجار ، فقالوا له : نأخذه منك بده دوازده (3) فقال لهم ابى
: وكم يكون ذلك؟ فقالوا في العشرة آلاف ألفان ، فقال لهم أبي : فإني أبيعكم هذا
المتاع باثني عشر الف درهم. فباعهم مساومة (4).
والحديث ـ كما ترى ـ صريح في صحة البيع بهذا اللفظ ، مع
انه غير جار على مقتضى قواعدهم التي اشترطوها ، من تقديم الإيجاب على القبول ، كما
__________________
(1) اى فسخت البيع الأول.
(2) التهذيب ج 7 ص 105 حديث : 55.
(3) بزيادة اثنين على كل عشرة.
(4) الوسائل ج 12 ص 385 حديث : 1.
هو المشهور بينهم ، وكونهما بلفظ
الماضي لا المستقبل والأمر ، كما عليه ظاهر اتفاقهم ، فإنه لا قبول في الحديث
بالكلية إلا ما يفهمه قولهم أولا : «نأخذ منك بده دوازده» يعنى على جهة المرابحة.
وهو عليهالسلام باعهم بهذه
القيمة مساومة. ويفهم من الخبر ان رأس المال كان عشرة آلاف درهم. والإيجاب هنا
انما هو بلفظ المستقبل.
ومنها : رواية زرارة عن الصادق عليهالسلام في زرع بيع
وهو حشيش ثم سنبل. قال : لا بأس إذا قال : ابتاع منك ما يخرج من هذا الزرع. فإذا
اشتراه وهو حشيش فان شاء أعفاه وان شاء تربص به (1).
والتقريب ظاهر ، فإن صيغة البيع هي هذه التي حكاها
الامام عليهالسلام عن لسان
المشترى ورضاء البائع بذلك.
ومنها : رواية إسحاق بن عمار قال : قلت للصادق عليهالسلام : يكون للرجل
عندي الدراهم الوضح ، فيلقاني فيقول : كيف سعر الوضح اليوم؟ فأقول : كذا وكذا. فيقول
: أليس لي عندك كذا وكذا الف درهما وضحا؟ فأقول : نعم فيقول : حولها لي دنانير
بهذا السعر ، وأثبتها لي عندك. فما ترى في هذا؟ فقال لي : إذا كنت قد استقصيت له
السعر يومئذ فلا بأس بذلك. فقلت : انى لم أوازانه ولم أناقده ، وانما كان كلام منى
ومنه. فقال أليس الدراهم والدنانير من عندك؟ قلت : بلى. قال : فلا بأس (2). أقول : الوضح
الدرهم الصحيح. فانظر الى بيع هذه الدراهم بالدنانير بأي نحو وقع ، والراوي انما
استشكل من حيث كونه صرفا يجب فيه النقد والتقابض في المجلس ، فأزال عليهالسلام استشكاله بأنه
لما كان النقدان كلاهما عنده كفى تحويل أحدهما بالاخر في صحة الصرف.
ومنها : رواية محمد بن مسلم عن الباقر عليهالسلام قال : جاءت
امرأة إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(1) الوسائل ج 13 ص 22 حديث : 9.
(2) التهذيب ج 7 ص 102 حديث : 47.
فقالت : زوجني. فقال : من لهذه؟ فقام
رجل فقال : انا يا رسول الله ، زوجنيها. فقال : ما تعطيها؟ فقال : ما لي شيء ،
فقال : لا ، فأعادت فأعاد رسول الله الكلام. فلم يقم غير الرجل ، ثم أعادت ، فقال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المرة
الثالثة : أتحسن من القرآن شيئا؟ قال : نعم. قال : قد زوجتكها على ما تحسن من
القرآن ، فعلمها إياه (1).
وهذه الرواية مخالفة لقواعدهم من وجوه ، منها : وقوع
القبول من الزوج بلفظ الأمر ، والظاهر من كلامهم وجوب كونه بلفظ الماضي. ومنها :
تقديم القبول على الإيجاب. ومنها : الفصل بين الإيجاب والقبول بزيادة على ما
اعتبروه.
وفي حديث تزويج الجواد عليهالسلام بابنة المأمون
، المروي في إرشاد المفيد وغيره ، قال الجواد عليهالسلام في خطبة
النكاح : ثم ان محمد بن على بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون ، وقد بذل
لها من الصداق مهر جدته فاطمة بنت محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو خمسمائة
درهم جياد ، فهل زوجته يا أمير المؤمنين على هذا الصداق المذكور؟ قال : نعم ، قد
زوجتك يا أبا جعفر ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت ذلك؟ قال أبو جعفر : قبلت
ذلك ورضيت به (2).
وفي رواية أبان بن تغلب ، قال : قلت للصادق عليهالسلام : كيف أقول
لها إذا خلوت بها؟ قال : تقول : أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه صلىاللهعليهوآله لا وارثة ولا
موروثة كذا وكذا يوما ، وان شئت كذا وكذا سنة ، وبكذا وكذا درهما. وتسمى من الأجر
ما تراضيتما عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، فإذا قالت : نعم ، فقد رضيت ، فهي امرأتك
(3) الحديث.
وبمضمون هذه الرواية أخبار عديدة في صورة عقد المتعة
بلسان الزوج.
وفي موثقة سماعة. قال : سألته عليهالسلام عن بيع الثمرة
، هل يصلح شراؤها قبل
__________________
(1) الوسائل ج 14 ص 195 حديث : 3.
(2) الوسائل ج 14 ص 194 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 14 ص 466 حديث : 1.
ان يخرج طلعها؟ فقال : لا ، الا ان
يشترى معها شيئا من غيرها. رطبة أو بقلا ، فيقول : اشترى منك هذه الرطبة وهذا
النخل وهذا الشجر (1) بكذا وكذا ،
فان لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشترى في الرطبة والبقل (2).
وفي صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما ـ عليهماالسلام ـ انه قال في
رجلين كان لكل واحد منهما طعام عند صاحبه ، ولا يدرى كل واحد منهما كم له عند
صاحبه ، فقال : كل واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي ، فقال : لا بأس
بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما (3).
أقول : وهذا من صيغ الصلح الدالة هنا على انتقال ما في
يد كل منهما اليه ، وبراءة ذمته من مال الأخر من ذلك المال المشترك وبمثل ذلك في
باب الصلح أخبار عديدة.
وفي صحيحة الحلبي عن الصادق عليهالسلام انه قال في
الرجل يعطى الرجل المال فيقول له : ائت أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها ، قال
: فان جاوزها وهلك المال فهو ضامن (4) الحديث.
أقول : وهذه من صيغ المضاربة التي أوجبت للعامل استحقاق
حصة من الربح ، وان لم يصرح بها في الخبر ، لكون الغرض من سياقه بيان مخالفة
العامل في تجاوزه عن البلدة المأمور بها. الى غير ذلك من الاخبار التي يقف عليها
المتتبع. الدالة على سهولة الأمر في العقود ، وان الألفاظ الجارية بين المتعاقدين
الدالة على الرضا ، والمقصود من تلك العقود الرافعة للنزاع والاشتباه بأي نحو كان
، كافية في صحة العقد وترتب أحكام الصحة عليه.
__________________
(1) أي ثمرة هذا الشجر ، لأن السؤال كان عنها.
(2) الوسائل ج 13 ص 90 حديث : 1.
(3) الوسائل ج 13 ص 166 حديث : 1.
(4) الوسائل ج 13 ص 181 حديث : 2.
* * *
وتمام الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور : ـ
(الأول) : المفهوم مما نقله في المسالك عن بعض مشايخه
المعاصرين ، هو اشتراط وجود اللفظ الدال على التراضي من الطرفين.
والمفهوم مما نقل عن المفيد : الاكتفاء بمجرد التراضي ،
ولو بالإشارة والقرائن ، وان لم يحصل بينهما ألفاظ دالة على ذلك ، واختاره في
المفاتيح وسجل عليه.
والظاهر هو الأول ، لتطرق القدح الى ما ذكره ، فإن الأصل
بقاؤ ملك كل واحد لمالكه حتى يعلم الناقل شرعا ، وغاية ما يفهم من الاخبار الجارية
في هذا المضمار ـ مما تلوناه عليك ونحوه ـ هو النقل وصحة العقد بالألفاظ الجارية
من الطرفين ، الدالة على التراضي بمضمون ذلك العقد ، دون الصيغ الخاصة التي اعتبرها
الأكثر.
واما مجرد التراضي والتقابض من غير لفظ يدل على ذلك فلم
يقم عليه دليل ، وحديث «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام» (1). مؤيد ظاهر
لما قلنا ، وغاية ما تدل عليه الأدلة التي استند (2) إليها ، من
الهدايا والهبة ووقوع الشراء قديما وحديثا من البائع بغير كلام إذا كان السعر
معهودا ونحو ذلك ، هو جواز التصرف ، وهو مما لا نزاع فيه ولا إشكال ، اما كونه
موجبا للنقل من المالك السابق ما دامت العين موجودة ، بحيث لا يجوز لصاحبها الرد
فيها ، فغير معلوم ، كيف وقد صرحوا بأنه لا خلاف في جواز الرد في الهدايا ما دامت
العين موجودة ، وحديث «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام». مؤيد أيضا ، إذ لم يحصل من
الكلام ما أوجب الانتقال حتى يحرم الرد والرجوع ، واما جواز التصرف فلا ينافي
الخبر المذكور ، لانه محمول على اللزوم وعلى ما بعد
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 376 حديث : 4.
(2) صاحب المفاتيح.
الرجوع ، جمعا بينه وبين ما دل على
الإباحة بالتراضي.
وبالجملة فالتمسك بأصالة بقاء الملك حجة قوية ، الى ان
يحصل المخرج عن ذلك من الحجج الشرعية ، وغاية ما يستفاد من الاخبار ـ كما عرفت ـ هو
الاكتفاء بالتراضي الحاصل من الألفاظ ، دون مجرد التراضي.
(الثاني) : المشهور بين القائلين بعدم لزوم بيع المعاطاة
: هو صحة المعاطاة المذكورة ، إذا استكملت شروط البيع غير الصيغة المخصوصة ، وانها
تفيد اباحة تصرف كل منهما فيما صار اليه من العوض المعين ، من حيث اذن كل منهما في
التصرف ، وتسليطه على ما دفعه اليه الا انه لا يفيد اللزوم ما دامت العين باقية ،
بل لكل منهما الرجوع فيما دفعه للآخر.
وعن العلامة ـ في النهاية ـ القول بفساد بيع المعاطاة ،
وانه لا يجوز لكل منهما التصرف فيما صار اليه ، من حيث الإخلال بالصيغة الخاصة ،
الا ان جمعا من الأصحاب نقلوا رجوعه عن هذا القول في باقي كتبه.
قال في المسالك ـ على اثر الكلام الذي قدمنا نقله عنه في
صدر المسألة ـ : فلو وقع الاتفاق بينهما على البيع ، وعرف كل منهما رضا الأخر بما
يصير اليه من العوض المعين ، الجامع لشرائط البيع غير اللفظ المخصوص ، لم يفد
اللزوم. لكن هل يفيد اباحة تصرف كل منهما فيما صار اليه من العوض؟ نظرا إلى اذن كل
منهما للآخر في التصرف ، أو يكون بيعا فاسدا ، من حيث إخلال شرطه وهو الصيغة
الخاصة ، المشهور الأول. فعلى هذا يباح لكل منهما التصرف ، ويجوز له الرجوع في
المعاوضة ، ما دامت العين باقية ، فإذا ذهبت لزمت. اما جواز التصرف ، فلما فرض من
تسليط كل منهما الأخر على ما دفعه اليه واذنه له فيه ، ولا نعني لإباحة التصرف الا
ذلك. واما لزومها مع التلف ، فلرضاهما بكون ما أخذه كل منهما عوضا عما دفعه ، فإذا
تلف ما دفعه كان مضمونا عليه ، الا انه قد رضى بكون عوضه هو ما بيده ، فان كان
ناقصا فقد رضى به ، وان كان زائدا فقد رضى به الدافع ، فيكون بمنزلة ما لو دفع
المديون عوضا عما في ذمته ورضى به صاحب الدين. انتهى.
أقول : لقائل أن يقول : انه لا يخفى ما في هذا الكلام من
تطرق المناقشة اليه ، وان كان ظاهرهم الاتفاق عليه. وذلك فإنه متى كانت الصيغة
الخاصة عندهم أحد أركان البيع (1) كما صرحوا به مع تصريحهم هنا باشتراط
جميع شروط البيع في صحة المعاطاة ما عدا الصيغة الخاصة ، فقضية ذلك هو بطلان هذه
المعاطاة وفسادها ، لفوات أحد أركان الصحة ، وهو الصيغة الخاصة ، كما ذكره العلامة
في النهاية. وهم انما تمسكوا في صحة المعاطاة وإفادتها الإباحة مع وجود العين ،
واللزوم مع تلفها ، بالرضا من كل من المتعاقدين ، كما يدور عليه كلامه في المسالك.
ولا ريب ان افادة الرضا لما ذكروه فرع المشروعية ، الا
ترى انهما لو تراضيا على بيع المجهول وشرائه ، أو الربوي أو نحو ذلك ، مما لا يصح
بيعه شرعا ، فإنه لا يصح. ولا ثمرة لهذا الرضا بالكلية ، فكذا فيما نحن فيه ، بناء
على ما حكموا به من ركنية الصيغة الخاصة ، ودوران الصحة والابطال مدارها ، وجودا
وعدما.
وبالجملة فإنه بالنظر الى مقتضى الأدلة الشرعية ،
فاللازم هو صحة المعاطاة ، وان حكمها حكم البيع المترتب على الصيغة الخاصة ، من
غير فرق ، كما هو المختار. واليه ذهب من عرفت من علمائنا الأبرار. وبالنظر الى
قواعدهم وتصريحاتهم بما قدمنا ذكره ، فالواجب هو الحكم بالفساد ، لما عرفت. وما
ذكروه تفريعا على الصحة من اباحة التصرف وعدم اللزوم ، الا بعد ذهاب العين ، بناء
على ما عرفت من تعليلات المسالك ، فإنه غير موجه عندي ولا ظاهر كما أوضحناه.
فإن قيل : ان اشتراط الصيغة الخاصة انما هو في البيع ،
وهذا ليس ببيع ، وانما هي معاملة أخرى تفيد الإباحة على الوجه المذكور في كلامهم.
قلنا : فيه ـ أولا ـ : ان صحة هذه المعاملة على الوجه
الذي ذكروه ، موقوفة
__________________
(1) حيث انهم عبروا بأن أركان البيع ثلاثة : العقد والمتعاقدان
والعوضان. صرح به العلامة في القواعد والإرشاد ، وغيره في غيرها. ومرادهم بالعقد ـ
كما عرفت ـ هو الصيغة الخاصة التي ذكروا شروطها بما نقلناه عنهم في الأصل. منه رحمهالله.
على الدليل الشرعي ، وليس الا مجرد
هذه التعليلات التي ذكروها ، وقد عرفت ما فيها.
وثانيا : اشتراطهم جميع شروطهم البيع عدا الصيغة الخاصة
في ترتب تلك الأحكام على المعاطاة ، ينافي ما ذكرت. فان الناظر في ذلك يجزم بأنه
بيع (1) فان ثبت
اشتراط صحة البيع بالصيغة الخاصة كان بيعا فاسدا ، وان لم يثبت ـ كما هو المختار ـ
كان بيعا صحيحا.
نعم لو لم يشترط شرط صحة البيع في المعاطاة لأمكن ان
يقال : انها معاملة أخرى غير البيع ، وان لم يقم عليها دليل ، الا ان الأمر ليس
كذلك ، كما عرفت.
وبالجملة ، فاللازم اما فساد هذه المعاملة أو كونها بيعا
حقيقيا ، وما ذكروه من التعليلات كما صرحوا به وان كانت ترى في بادئ النظر صحته ،
الا انه بالتأمل فيما ذكرناه يظهر فساده ، وهو مؤيد لما قلناه في غير مقام من
مجلدات كتابنا هذا ، من ان الاعتماد على أمثال هذه التعليلات في تأسيس الأحكام
الشرعية مما لا ينبغي العمل عليها ، بل الاعتماد انما هو على الاخبار ان صرحت به ،
أو أومأت إليه.
(الثالث) : قال في المسالك : هل المراد بالإباحة الحاصلة
بالمعاطاة قبل ذهاب العين ، افادة ملك متزلزل كالمبيع في زمن الخيار ، وبالتصرف
يتحقق لزومه ، أم الإباحة المحضة التي هي بمعنى الاذن في التصرف ، وبتحققه يحصل
الملك له وللعين الأخرى؟ يحتمل الأول ، بناء على ان المقصود للمتعاقدين انما هو
الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ولم يجز التصرف في العين ، وان الإباحة إذا لم
تقتض الملك فما الذي أوجب حصوله بعد ذهاب العين الأخرى؟ ويحتمل الثاني ، التفاتا
الى ان الملك لو حصل بها لكانت بيعا ، ومدعاهم نفى ذلك ، واحتجاجهم بان الناقل
للملك لا بد
__________________
(1) أقول : وممن صرح بأنها بيع ، المحقق الشيخ على في شرح
القواعد ، حيث قال في ضمن كلام في المقام : فان المعروف بين الأصحاب انها بيع ،
وان لم يكن كالعقد في اللزوم خلافا لظاهر عبارة المفيد. منه رحمهالله.
ان يكون من الأقوال الصريحة في
الإنشاء المنصوبة من قبل الشارع وانما حصلت الإباحة باستلزام إعطاء كل واحد منهما
للآخر سلعته مسلطا عليها الاذن في التصرف فيها بوجوه التصرفات ، فإذا حصل كان
الأخر عوضا عما قابله ، لتراضيهما على ذلك ، وقبله يكون كل واحد من العوضين باقيا
على ملك مالكه ، فيجوز الرجوع فيه ، ولو كانت بيعا قاصرا عن افادة الملك المترتب
عليه لوجب كونها بيعا فاسدا ، إذ لم تجتمع شرائط صحته ، ومن ثم ذهب العلامة في
النهاية إلى كونها بيعا فاسدا ، وانه لا يجوز لأحدهما التصرف فيما صار إليه أصلا.
انتهى.
أقول : وبالاحتمال الأول جزم المحقق الشيخ على في شرح
القواعد كما سيأتي نقل كلامه ، لما تقدم من التعليل.
ثم أقول : انه لما كان البناء في هذه المسألة ـ كما
قدمنا الإشارة اليه ـ على غير أساس ، حصل الشك فيه والالتباس ، إذ لم يقم لهم دليل
شرعي على صحة هذه الدعوى ، من إفادة المعاطاة جواز التصرف ، من غير ان تكون ملكا
حقيقيا ، سواء سمى ملكا متزلزلا أو اباحة ، وانما مقتضى الأدلة ـ كما عرفت ـ هو
كونها بيعا حقيقيا موجبا للانتقال وعدم جواز الرجوع ، وان كانت العين موجودة ،
حسبما قيل في البيع المشتمل على الصيغة الخاصة ، واللازم على تقدير ما ذهبوا إليه
في هذا المقام ، انما هو فساد البيع ، كما قدمنا ذكره ، لانه لا خلاف بينهم في ان
البيع المترتب عليه الانتقال وصحة التصرف ، مشروط بشروط عديدة ، بالنسبة إلى
الصيغة والمتعاقدين والعوضين وانه باختلال شرط من تلك الشروط يكون البيع فاسدا ،
وان حصل التراضي ، فإن التراضي لا اثر له في تصحيح ما حكم الشارع بإبطاله ، وبيع
المعاطاة عندهم مما يجب استكماله جميع شروط البيع غير الصيغة الخاصة ، مع تصريحهم
بكون الصيغة الخاصة أحد أركان البيع وقضية ذلك بطلان البيع بالإخلال بها كما في
الإخلال بغيرها من الشروط.
ودعوى استثنائها من تلك الشروط ، بان تركها لا يوجب
البطلان ، وانما يكون
الحكم هو الإباحة أو الملك متزلزلا ،
تحكم محض. ولم نظفر لهم بدليل الا ما عرفت من التعليلات المبنية على التراضي ، مع
انها جارية في صورة اختلال غيرها من الشروط ، لجواز تراضيهما على بيع المجهول
والربوي ونحوهما مما منع الشارع منه ، مع انهم لا يقولون به ، والكلام في الصيغة
الخاصة ـ بناء على دعواهم وجوبها وانه لا يلزم البيع الا بها ـ كذلك ، وبذلك يظهر
لك ما في قوله في المسالك في تعليل الاحتمال الأول من انه مبنى على ان المقصود
للمتعاقدين انما هو الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ، فإن فيه : انهم قد أوجبوا
في حصول القصد المذكور دلالة لفظ صريح عليه ، وخصوه بالصيغة الخاصة ولم تحصل ،
والى ذلك يشير قوله في الاحتجاج للاحتمال الثاني : ان الناقل للملك لا بد ان يكون
من الأقوال الصريحة ، فاللازم حينئذ هو فساد المعاطاة كما ذكرنا ، لانتفاء الدال
على ذلك المقصود ، وكذا في قوله ـ في تعليل الاحتمال الثاني ـ من انه انما حصل
باستلزام إعطاء كل واحد منهما للآخر سلعته ، فان فيه : ان هذا لو صلح وجها لما
ذكروه من الإباحة لا طرد في صورة الإخلال بغير هذا الشرط من شروط صحة البيع ولزومه
، مع انهم لا يلتزمونه ، وتخصيصه بهذا الموضع تحكم كما عرفت.
وقال المحقق الشيخ على في شرح القواعد ـ بعد قول المصنف «ولا
تكفي المعاطاة» ـ ما ملخصه : وظاهره انها لا تكفي في المقصود بالبيع ، وهو نقل
الملك ، وليس كذلك ، فان المعروف بين الأصحاب انها بيع وان لم تكن كالعقد في
اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد ، وقوله تعالى «أَحَلَّ
اللهُ الْبَيْعَ» (1) يتناولها ،
لأنها بيع بالاتفاق حتى من القائلين بفسادها ، لأنهم يقولون هي بيع فاسد ، وقوله «إِلّا
أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» (2) فإنه عام الا
فيما أخرجه الدليل ، وما يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب ، انها تفيد الإباحة
وتلزم بذهاب احدى العينين ، يرون به عدم
__________________
(1) سورة البقرة : 275.
(2) سورة النساء : 29.
اللزوم في أول الأمر ، وبالذهاب يتحقق
اللزوم ، لامتناع إرادة الإباحة المجردة عن أصل الملك ، إذ المقصود للمتعاطيين
انما هو الملك فإذا لم يحصل كانت فاسدة ولم يجز التصرف في العين ، وكافة الأصحاب
على خلافه. انتهى.
أقول : ما ذكروه من ان المعاطاة بيع وانها تفيد الملك ،
إذ مقصود المتعاطيين انما هو الملك ، وشمول الآيات الدالة على حل البيع وصحته لذلك
، جيد متين.
لكن يبقى الكلام في دعوى عدم اللزوم مع وجود العوضين ،
فإنه يحتاج الى دليل ، إذ مقتضى ما ذكروه هو الصحة واللزوم وكونه بيعا حقيقيا ،
ولا اعرف لهم دليلا على هذه الدعوى هنا ، الا الاستناد إلى الإخلال بالصيغة الخاصة
، بناء على ظاهر اتفاقهم على انها ركن من أركان البيع ، وقضية ذلك انما هو الفساد
لا الصحة مع عدم اللزوم.
فان قيل : انهم يستندون الى وقوع المعاطاة في الصدر
الأول مع الإخلال بالصيغة.
قلنا : فيه ـ أولا ـ انك قد عرفت ان هذه الصيغة الخاصة
لم يقم عليها دليل.
وثانيا : ان المعاطاة في الصدر الأول انما كانوا يقصدون
بها البيع الحقيقي كما عرفت من الاخبار المتقدمة ونحوها ، وتوقف ذلك على تلف احدى
العوضين غير معلوم ولا مدلول عليه بدليل.
وأنت إذا ضممت ما دلت عليه الاخبار المتقدمة ، من صحة
بيع المعاطاة وغيره من العقود بالألفاظ الدالة على مجرد التراضي ، مع الاخبار
الدالة على الخيار بأنواعه ، والاخبار الدالة على النزاع بين المشترى والبائع ونحو
ذلك ، مما يتفرع على البيع صحة وبطلانا ، ظهر لك ان ذلك كله مترتب على بيع
المعاطاة كالبيع بالصيغة الخاصة عندهم.
وبالجملة فإني لا اعرف لما ذكروه هنا وجه استقامة ،
واللازم اما كون المعاطاة بيعا حقيقيا ـ كما اخترناه ـ أو بيعا فاسدا ـ كما هو
مقتضى قواعدهم.
ثم انه مما يتفرع على الاحتمالين المذكورين في عبارة
المسالك من الملك أو الإباحة ، حصول النماء. فان قلنا بالملك كان تابعا للعين في
الانتقال والملك ، وان قلنا بالإباحة احتمل كونه مباحا لمن هو في يده كالعين ،
وعدمه.
واما وطي الجارية ، فقيل : الظاهر انه كالاستخدام يدخل
في الإباحة منها.
واما العتق فعلى القول بالملك (1) يكون جائزا
لأنه مملوك ، وعلى الإباحة يتجه العدم ، إذ لا عتق إلا في ملك ، ومقتضى حكمهم
بتجويز جميع التصرفات في بيع المعاطاة يدفع التفريع على الإباحة هنا ، فيكون هذا
مما يؤيد القول بالملك.
(الرابع) : لا اشكال ولا خلاف عندهم في انه لو تلف
العينان في بيع المعاطاة فإنه يصير لازما ، وانما الكلام في تلف إحداهما خاصة ،
وقد صرح جمع منهم بأنه كالأول ، فيكون موجبا لملك العين الأخرى لمن هي في يده ،
نظرا الى ما قدمنا نقله عن المسالك في الأمر الثاني ، واحتمل هنا ايضا العدم ،
التفاتا إلى أصالة بقاء الملك لمالكه ، وعموم «الناس مسلطون على أموالهم» (2).
ثم انه حكم بأن الأول أقوى ، وعلله بان من بيده المال
مستحق قد ظفر بمثل حقه باذن مستحقه فيملكه ، وان كان مغايرا له في الجنس والوصف ،
لتراضيهما على ذلك.
أقول : قد عرفت آنفا ان الاستناد إلى أمثال هذه
التعليلات في تأسيس الأحكام الشرعية مشكل ، وانما المدار على النصوص الدالة على
المراد بالعموم أو الخصوص. والمسألة عارية عن ذلك من أصلها ، فضلا عن فرعها. واما
على ما اخترناه فإنه لا إشكال
__________________
(1) أي القول بعدم جواز العتق تفريعا على القول بالإباحة ينافي
ما صرحوا به من جواز التصرف بجميع أنواعه في بيع المعاطاة ، فيكون ذلك مؤيدا للقول
بالملك ، إذ لو تم القول بالإباحة لصح هذا الفرع المترتب عليه ، مع خلاف ما صرحوا
به في المقام.
|
منه
رحمهالله. |
(2) بحار الأنوار ج 2 ص 272.
في هذا المجال.
ثم انه لو تلف بعض إحداهما فهل يكون حكمه حكم تلف الجميع
أولا ، وجهان. اختار أولهما المحقق الشيخ على في شرح القواعد. قال : ويكفى تلف بعض
احدى العينين لامتناع التراد في الباقي إذ هو موجب لتبعيض الصفقة والضرر ، ولان
المطلوب كون إحداهما في مقابلة الأخرى.
وتنظر فيه في المسالك ، قال : لان تبعيض الصفقة لا يوجب
بطلان أصل المعاوضة ، بل غايته جواز فسخ الأخر ، فيرجع الى المثل أو القيمة كما في
نظائره ، واما الضرر الحاصل من التبعيض المنافي لمقصودهما ، من جعل إحداهما في
مقابلة الأخرى ، فمستند الى تقصيرهما في التحفظ بإيجاب البيع ، كما لو تبايعا بيعا
فاسدا. ويحتمل حينئذ ان يلزم من العين الأخرى في مقابلة التالف ويبقى الباقي على
أصل الإباحة بدلالة ما قدمناه. انتهى.
وهو جيد بناء على قواعدهم. واما على ما اخترناه فالأمر
ظاهر ، إذ صحة المعاملة المذكورة ولزومها لا تتوقف على تلف أحد العوضين أو بعضه ،
بعين ما قرروه في العقد بالصيغة الخاصة عندهم.
(الخامس) : ان من فروع المسألة بناء على ما قرروه فيها ،
ما لو وقعت المعاوضة بقبض أحد العوضين خاصة ، كما لو دفع إليه سلعة بثمن وافقه
عليه أو دفع اليه ثمنا عن عين موصوفة بصفات السلم ، فتلف العوض المقبوض ، ففي لحوق
أحكام المعاطاة ولزوم الثمن المسمى والثمن الموصوف إشكال ، ينشأ من عدم صدق اسم
المعاطاة ، لأنها مفاعلة تتوقف على العطاء من الجانبين ، ولم يحصل.
ويعضده ايضا الاقتصار فيما يخرج عن الأصل على موضع
اليقين ان كان ، ومن صدق التراضي على المعاوضة ، وتلف العين المدعى كونه كافيا في
التقابض من الجانبين.
وبالصحة هنا صرح في الدروس فقال : ومن المعاطاة ان يدفع
إليه سلعة بثمن
يوافقه عليه من غير عقد ، ثم يهلك عند
القابض فيلزمه الثمن المسمى. انتهى.
أقول : ويؤيده أن التسمية بالمعاطاة في هذا البيع انما
وقعت في كلامهم ، إذ لا نص في المقام. فوجوب ترتب الصحة على الإعطاء من الجانبين ـ
بناء على هذا اللفظ ـ لا وجه له. نعم لو كان هنا نص ورد بهذه التسمية لاقتضى تفريع
ذلك عليه. وحينئذ فالمرجع في ذلك ـ بناء على أصولهم في هذه المسألة ـ الى ما علل
به في الوجه الثاني ـ بناء على ما اخترناه ـ دلالة النصوص على كون ذلك بيعا صحيحا
شرعيا ، لما عرفت آنفا من ان اشتراط هذه الصيغة الخاصة غير ثابت ، بل يكفى مجرد
الألفاظ الدالة على التراضي ، مع استكمال باقي الشرائط المعتبرة في البيع. والله
العالم.
السادس) : قال في المسالك : ذكر بعض الأصحاب ورود
المعاطاة في الإجارة والهبة ، بأن يأمره بعمل معين ويعين له عوضا ، فيستحق الأجرة
بالعمل ، ولو كانت إجارة فاسدة لم يستحقق شيئا مع علمه بالفساد ، بل لم يجز له
العمل والتصرف في ملك المستأجر ، مع اطباقهم على جواز ذلك ، واستحقاق الأجر. انما
يكون الكلام في تسمية المعاطاة في الإجارة. وذكر في مثال الهبة : ما لو وهبه بغير
عقد فيجوز للقابض إتلافه ، وتملكه به ، ولو كانت هبة فاسدة لم يجز. ولا بأس به ،
الا ان في مثال الهبة نظرا ، من حيث ان الهبة لا تختص بلفظ ، بل كل لفظ يدل على
التمليك بغير عوض كاف فيها كما ذكروه في بابه ، وجواز التصرف في المثال المذكور
موقوف على وجود لفظ يدل عليها ، فيكون كافيا في الإيجاب. اللهم الا ان يعتبر
القبول اللفظي مع ذلك ولا يحصل في المثال فيتجه ما قاله. انتهى.
أقول : لا يخفى على من مارس الاخبار أنه لا وجه لتخصيص
هذا البعض ما ذكره بالإجارة والهبة ، وذلك فإن غاية ما يستفاد منها بالنسبة الى
جميع العقود ، انه لا يعتبر فيها أزيد من الألفاظ الدالة على الرضا بمضمون ذلك
العقد ، كيف كانت ، وعلى اى نحو صدرت ، ومع استكمال جميع ما يشترط فيه ، من غير
توقف على الصيغ
الخاصة التي أوجبوها في كل عقد.
واما الإشكال في كون ذلك يسمى معاطاة أم لا ، كما يشير اليه
كلام شيخنا المذكور ، ففيه : ما أشرنا إليه آنفا ، من ان هذه التسمية انما هي
اصطلاحية ذكروها في باب البيع ، وجعلوها في مقابلة البيع بالصيغة التي اتفقوا
عليها فقسموها الى البيع بالعقد المخصوص والى بيع المعاطاة ، وجعلوا لكل منهما
أحكاما ، كما تقدم ذكره ، ولما كانت هذه الصيغة تتضمن المفاعلة من الطرفين ،
استشكلوا في إجرائها في هذه المواضع ونحوها.
وأنت خبير بأنه مع الرجوع الى الاخبار فلا وجود لهذه
التسمية ولا اثر يترتب عليها في باب البيع ولا غيره ، وقد عرفت انهم في باب البيع
قد خرجوا عنها في صحة المعاطاة بقبض أحد العوضين دون الأخر ، وظاهر كلامه ـ عليه
الرحمة ـ ان المستند في صحة الإجارة والهبة في هذا المقام انما هو اطباق الناس على
جواز التصرف في الصورتين المذكورتين ، واستحقاق الأجرة في الإجارة ، وأنت خبير بما
فيه : وان كان فيه نوع إيماء إلى الإجماع ، بل الحق في ذلك انما هو كون ذلك غاية
ما يستفاد من الأدلة في هذين الموضعين وغيرهما ولا يستفاد منها ما ادعوه من الصيغ
الخاصة التي جعلوا بها هذه الافراد قسيما لما اتفقوا على صحته. والله العالم.
(السابع) : الظاهر انه لا خلاف في ان اشتراط الإتيان
بالصبغة الخاصة أو مجرد ما دل من الألفاظ على الرضا ، انما هو بالنسبة الى من
يتمكن من التلفظ ، فأما من لم يمكنه ذلك كالأخرس ومن بلسانه آفة ، فإنه تكفيه
الإشارة المفهمة.
قيل : وفي حكمه الكتابة ايضا على ورق أو خشب أو نحو ذلك
واعتبر العلامة في الكتابة ان تدل على رضاه. والظاهر عدم وجوب التوكيل في الصورة
المذكورة وربما قيل بالوجوب.
قيل : ويجب وقوع الإيجاب والقبول باللفظ العربي ، مراعيا
فيهما أحكام الاعراب والبناء ، وكذا كل عقد لازم ، لان الناقل هو الألفاظ المخصوصة
، وغيرها
لم يدل عليه دليل ، ومعلوم ان العقود
الواقعة في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهماالسلام انما كانت
بالعربية ، نعم يجوز لمن لا يعلم ذلك ، الإيقاع بمقدوره ، ولا يجب التوكيل ،
للأصل. نعم يجب التعلم إن أمكن من غير مشقة عرفا. انتهى.
أقول. قد عرفت ان غاية ما يستفاد من الاخبار الواردة في
البيوع والصلح والأنكحة ونحوها وجود الألفاظ الدالة على التراضي بما دلت عليه بأي
نحو كانت ، وكون العقود في وقتهم ـ عليهمالسلام ـ كانت باللغة
العربية وعلى النهج العربي الصحيح ، لا يدل ما ذكروه من اشتراط ذلك ، لان ذلك انما
صدر من حيث ان محاوراتهم ومحادثاتهم وكلامهم كانت على ذلك النحو ، في عقد كان أو
غير عقد ، فهو من قبيل السليقة والجبلة التي طبعت عليها ألفاظهم ومحاوراتهم
وألسنتهم. واشتراط ذلك في صحة العقود يحتاج الى دليل واضح وبرهان لائح ، وأصالة
العدم أقوى متمسك في المقام ، وان كان الاحتياط فيما ذكروه ، لا سيما في باب
النكاح المبنى على الاحتياط. والله العالم.
المقام الثاني
قد عرفت ان أحد أركان البيع : المتعاقدان. فيشترط فيهما
البلوغ والعقل والاختيار والملك ونحوه ، بأن يكون مالكا أو مأذونا على خلاف في هذا
الموضع يأتي إنشاء الله تعالى بيانه فلا يصح بيع الصبي ولا شراؤه ولا المجنون ولا
المكره ولا المغمى عليه ولا السكران ولا غير المالك ومن في حكمه.
وتفصيل هذه الجملة يقع في مسائل : ـ
الاولى : ظاهر كلام جمهور الأصحاب انه لا يصح بيع الصبي
ولا شراؤه ولو اذن له الولي. وانه لا فرق في الصبي بين المميز وغيره. ولا فرق بين
كون المال له أو للولي أو لغيرهما. اذن مالكه أو لم يأذن.
ونقل جماعة من الأصحاب هنا قولا بجواز بيع الصبي وشرائه
إذا بلغ عشرا وكان عاقلا ، وردوه بالضعف.
قال في المسالك : والمراد بالعقل هنا الرشد ، فغير
الرشيد لا يصح بيعه ، وان كان عاقلا ، اتفاقا. انتهى.
قال العلامة في التذكرة : الصغير محجور عليه بالإجماع ،
سواء كان مميزا أولا ، في جميع التصرفات الا ما استثنى ، كعباداته وإسلامه وإحرامه
وتدبيره و
وصيته وإيصال الهدية واذنه في دخول
الدار ، على خلاف في ذلك. قال الله تعالى «وَابْتَلُوا
الْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ» (1) وقوله تعالى «وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً» (2) يعني أموالهم.
ولعل قوله «وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ» (3) قرينة له.
وقوله «فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً
أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ» (4).
قيل : السفيه المبذر ، والضعيف الصبي ، لأن العرب تسمى
كل قليل العقل ضعيفا ، والذي لا يستطيع التغلب مغلوب على عقله.
وظاهره دعوى الإجماع على الحكم المذكور ، مع انك قد عرفت
وجود المخالف في ذلك.
ويظهر من المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد المناقشة في
هذا المقام ، حيث قال ـ بعد ما نقل هذا الكلام ـ ما ملخصه : والإجماع مطلقا غير
ظاهر ، والآية غير صريحة الدلالة ، لأن عدم دفع المال إليهم وعدم الاعتداد
بإملائهم ، لا يستلزم عدم جواز إيقاع العقد وعدم الاعتبار بكلامهم ، خصوصا مع اذن
الولي والتمييز.
ويؤيده اعتبار المستثنى ، فإنه لو كان ممن لا اعتداد
بكلامه ما كان ينبغي الاستثناء ، ولهذا قيل بجواز عقده إذا بلغ عشرا أو عقده حال
الاختيار ، فان ظاهر الاية كون الاختبار قبل البلوغ ، ولئلا يلزم التأخير في الدفع
مع الاستحقاق ـ الى ان قال ـ : وبالجملة إذا جاز عتقه ووصيته وصدقته بالمعروف
وغيرها من القربات ، كما هو ظاهر الروايات الكثيرة ، لا يبعد جواز بيعه وشرائه
وسائر معاملاته ، إذا
__________________
(1) سورة النساء : 6.
(2) سورة النساء : 5.
(3) سورة النساء : 5.
(4) سورة البقرة : 282.
كان بصيرا مميزا (1) رشيدا يعرف
نفعه وضره بالمال ، كما نجده في كثير من الصبيان ، فإنه قد يوجد منهم من هو أعظم
في هذه الأمور من آبائهم ، فلا مانع له من إيقاع العقد ، خصوصا مع اذن الولي أو
حضوره بعد تعيينه الثمن. انتهى.
أقول : لا يخفى ان ما ذكره وان كان جيدا من حيث الاعتبار
بالنظر الى ما عده من الافراد ، الا انه بالنظر الى الاخبار لا يخلو من تطرق
الإيراد.
وها أنا اذكر ما وصل الى من الاخبار الجارية في هذا
المضمار.
فمنها : ما رواه في الكافي عن حمزة بن حمران عن حمران
قال : سألت أبا جعفر ـ عليهالسلام ـ قلت له :
متى يجب على الغلام ان يؤخذ بالحدود التامة ويقام عليه ويؤخذ بها؟ قال : إذا خرج
عن اليتم فأدرك ، قلت : فلذلك حد يعرف به؟ فقال : إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة
أو أشعر أو أنبت قبل ذلك ، أقيمت عليه الحدود التامة ، وأخذ بها ، وأخذت له ، قلت
: فالجارية متى تجب عليها الحدود التامة وتؤخذ بها ويؤخذ لها؟ قال : ان الجارية
ليست مثل الغلام ، لان الجارية إذا تزوجت ودخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم
ودفع إليها مالها وجاز أمرها في الشراء والبيع ، وأقيمت عليها الحدود التامة ،
وأخذ لها وبها. قال : والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع ولا يخرج من اليتم
حتى يبلغ خمس عشرة سنة ، أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك (2). ورواه في
مستطرفات السرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب الا انه رواه عن حمزة بن
حمران ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام من غير واسطة
حمران.
أقول : والخبر ـ كما ترى ـ ظاهر فيما ذكره الأصحاب ـ رضياللهعنهم ـ
__________________
(1) ظاهر الفاضل الخراساني في الكفاية التوقف في هذا المقام.
حيث قال : في المميز اشكال. والظاهر ان منشأه هو وقوفه على كلام المحقق المذكور
وعدم إمعان النظر في الاخبار التي ذكرناها.
|
منه
رحمهالله. |
(2) الوسائل ج 1 ص 30 حديث : 2.
من انه لا يجوز بيع الصبي ولا شراؤه ،
وكذا الصبية إلا بعد البلوغ ، المعلوم بأحد الأمور المذكورة ، والطعن بضعف السند
غير موجه عندنا ، مع رواية الخبر المذكور أيضا في كتاب المشيخة المشار إليه الذي
هو أحد الأصول المعتمدة.
وما رواه الصدوق في الخصال عن عبد الله بن سنان ، عن
الصادق عليهالسلام قال : سأله
ابى وانا حاضر عن اليتيم متى يجوز امره؟ قال حتى يبلغ أشده. قال : وما أشده؟ قال :
احتلامه قال : قلت : قد يكون الغلام ابن ثماني عشرة سنة أو أقل أو أكثر ولا يحتلم.
قال : إذا بلغ وكتب عليه الشيء جاز امره ، الا ان يكون سفيها أو ضعيفا (1).
والتقريب فيها : ان المراد بجواز أمره هو التصرف في ماله
بالبيع والشراء ونحوهما ، كما أفصح عنه في حديث حمران المتقدم ، وقد أناط عليهالسلام ذلك بالبلوغ ،
وهو ظاهر في انه ما لم يبلغ فإنه لا يجوز امره ولا تصرفه فيه بوجه من الوجوه ، الا
ما دل دليل من خارج على استثنائه ، فالقول بأنه لا منافاة بين صحة بيعه وبين عدم
دفع المال اليه ـ كما يظهر من كلام المحقق الأردبيلي المتقدم ذكره ـ لا معنى له ،
فان الخبر المذكور دل على عدم جواز أمره ، يعني تصرفه بجميع أنواع التصرفات ،
والعقد الواقع منه ان كان صحيحا موجبا لنقل الملك فهو التصرف الذي منع منه الخبر ،
والا فهو لغو لا عبرة به ولا ثمرة تترتب عليه ، واذن الولي والتميز انما يكون
مؤثرا في الصحة مع قيام الدليل ، وليس فليس.
وبالجملة فأصالة بقاء الملك لكل من المتعاقدين حتى يقوم
دليل واضح على النقل ، أقوى متمسك.
وما رواه الصدوق في الفقيه عن عبد الله بن سنان عن
الصادق عليهالسلام قال : إذا بلغ
الغلام أشده : ثلاث عشرة سنة ، ودخل في الأربع عشرة سنة ، وجب عليه ما وجب على المحتلمين
، احتلم أو لم يحتلم. وكتبت عليه السيئات وكتبت له
__________________
(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 97 ب 11 من أبواب المقدمات حديث
7.
الحسنات ، وجاز له كل شيء ، الا ان
يكون سفيها أو ضعيفا (1). والتقريب في
الخبر المذكور : دلالته بمفهوم الشرط ـ الذي هو حجة عند المحققين ، ودلت عليه
الاخبار التي قدمناها في مقدمات كتاب الطهارة ـ على انه ما لم يبلغ أشده (السنين
المذكورة) فإنه لا يجوز له شيء ، يعنى من التصرفات ، كما دل عليه الخبر ان
المتقدمان.
وما رواه على بن إبراهيم في تفسيره عن ابى الجارود ، عن
ابى جعفر عليهالسلام في حديث ، قال
فيه : قوله «وَابْتَلُوا الْيَتامى» قال : من كان
في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له ان يعطيه حتى يبلغ النكاح ويحتلم ، فإذا احتلم
وجب عليه الحدود واقامة الفرائض ، ولا يكون مضيعا ولا شارب خمر ولا زانيا ، وإذا
آنس منه الرشد دفع اليه المال وأشهد عليه ، فان كانوا لا يعلمون انه قد بلغ فإنه
يمتحن بريح إبطه ونبت عانته ، فإذا كان فقد بلغ ، فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا ،
ولا يجوز ان يحبس عنه ماله ويعتل عليه بأنه لم يكبر بعد (2).
أقول : والخبر المذكور ـ كما ترى ـ صريح في انه محجور
عليه حتى يبلغ ، وظاهر الخبر أن المراد بالآية المذكورة : انه يجب اختبار اليتامى
بالبلوغ وعدمه ، فإذا علم البلوغ بأحد أسبابه وجب دفع ماله إليه إذا آنس منه الرشد
، والا فلا يدفع اليه.
وبذلك يظهر ما في قول المحقق المتقدم ذكره.
ويؤيده اعتبار المستثنى ، فان استثناء عدم الدفع انما هو
بالنسبة إلى البالغ من حيث عدم الرشد بالنسبة إلى اليتيم قبل البلوغ ، كما يظهر من
كلامه ، والاختبار بالرشد وعدمه انما هو بعد تحقق البلوغ.
وما رواه العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان قال :
قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : متى يدفع
الى الغلام ماله؟ قال : إذا بلغ أو أونس منه الرشد ، ولم يكن سفيها و
__________________
(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 97 حديث : 9.
(2) تفسير البرهان ج 1 ص 343 حديث : 1.
لا ضعيفا «الحديث» (1).
والتقريب فيه : دلالته على انه محجور عليه لا يدفع اليه
ماله الا بعد البلوغ والرشد ، ومن الظاهر ان وقوع البيع والشراء منه فرع وجود مال
في يده ليأخذ به ويعطى ، ولا معنى لصحة عقده وجواز تصرفه بمجرد إنشاء صيغة البيع
وقبول الشراء ، مع كونه محجورا عليه في دفعه وقبضه.
على انك قد عرفت ان البيع لا يتوقف على صيغة خاصة ، بل
هو عبارة عن التراضي على القبض والإقباض بمجرد الكلام الجاري بينهما.
وبالجملة فإن الظاهر من هذه الاخبار التي ذكرناها ونحوها
غيرها مما يقف عليه المتتبع : ان الصبي ما لم يبلغ فإنه محجور عليه ولا يجوز بيعه
ولا شراؤه ، ودلالة بعض الاخبار على تصرفه بالعتق والوصية أو الصدقة ، لا يدل على
الجواز في محل البحث ، بل يجب الوقوف فيه على مورد تلك الأخبار المذكورة ، ويكون
ذلك مستثنى بها مما دلت عليه هذه الاخبار ونحوها ، وإلحاق غيره به قياس لا يوافق
أصول المذهب ، لا سيما مع تصريح بعض هذه الاخبار بعدم جواز البيع والشراء منه.
وبذلك يظهر لك قوة القول المشهور ، وانه المؤيد المنصور
، وضعف ما ذكره المحقق المذكور. والله العالم.
واما ما يتحقق به البلوغ فقد تقدم الكلام فيه مستوفى في
كتاب الصيام.
__________________
(1) جامع أحاديث الشيعة ج 1 ص 97 حديث : 10.
المسألة الثانية
لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الاختيار ، فلا يصح عقد
المكره ، لفوات الشرط المذكور.
وظاهرهم ـ ايضا ـ الاتفاق على انه لو اجازه ـ بعد وقوعه
حال الإكراه ـ صح بخلاف ما تقدم من عقد الصبي والمجنون ، إذ لا قصد لهما الى العقد
ولا أهلية ، لفقد شرطه وهو العقل ، بخلاف المكره فإنه بالغ عاقل ، وليس ثمة مانع
الا عدم القصد الى العقد حين إيقاعه ، وهو مجبور بلحوق الإجازة ، فيكون كعقد
الفضولي حيث انتفى القصد اليه من مالكه الذي يعتبر قصده حين العقد ، فلما لحقه
القصد بالإجازة صح ، وحينئذ فلا مانع من الصحة إلا تخيل اشتراط مقارنة القصد للعقد
، ولا دليل عليه.
وينبه على عدم اعتباره عقد الفضولي ، وعموم الأمر
بالوفاء بالعقد يشمله ، فلا يقدح فيه اختصاص عقد الفضولي بالنص ، كذا صرح به في
المسالك ، واليه يرجع كلام غيره ايضا.
وظاهر كلام المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : المناقشة
فيما ذكروه من الفرق بين عقد الصبي والمجنون وبين عقد المكره ، بصحة الثاني مع
لحقوق الإجازة ، بخلاف الأول. حيث قال ـ في أثناء البحث في بيان الأحكام التي
اشتملت عليها عبارة المصنف ، التي من جملتها استثناء عقد المكره من البطلان متى
لحقته الإجازة ـ ما لفظه : فالتفريع كله ظاهر ـ الى قوله ـ : ولو أجازا ، والا
المكره.
فان الاستثناء غير واضح ، بل الظاهر البطلان ايضا ، لعدم
حصول القصد ، بل وعدم صدور القصد عن تراض ، والظاهر اشتراطه على ما هو ظاهر الآية
، ولانه
لا اعتبار بذلك الإيجاب في نظر الشارع
، فهو بمنزلة العدم ، وهو ظاهر. لعدم الفرق بينه وبين غيره من الطفل ونحوه ،
والفرق في كلامهم بأنه لا اعتبار به بخلاف المكره فإنه معتبر الا انه لا رضاء معه
فإذا وجد الرضا صح لوجود شرطه ، بعيد جدا لما عرفت. وبالجملة لا إجماع فيه ولا نص
، والأصل الاستصحاب وعدم الأكل بالباطل الا ان تكون تجارة عن تراض مما يدل على عدم
الانعقاد ، الا ان المشهور الصحة وما نعرف لهم دليلا ، وهم اعرف. ولعل لهم نصا ما
نقل إلينا. انتهى. وهو جيد.
ويؤيده ـ بأظهر تأييد ـ ان الأحكام الشرعية مترتبة على
النصوص الجلية وليس للعقول فيها مسرح بالكلية ، والأصل بقاء الملك في كل من
العوضين لمالكه الأصلي حتى يقوم الدليل الشرعي على الانتقال. وهم قد سلموا بان عقد
المكره حال الإكراه باطل اتفاقا ، فتصحيحه بالإجازة أخيرا يتوقف على نص واضح يدل
على ذلك ، والتعلق في ذلك ، بعقد الفضولي مع قطع النظر عن كون ذلك قياسا لو ثبت
صحة العقد الفضولي ، مردود بما سنوضحه إنشاء الله تعالى في تلك المسألة من بطلانه.
وقوله : فلا يقدح اختصاص العقد الفضولي بنص ، مردود بأن
هذا النص انما هو من طريق العامة ، وهو حديث البارقي ، ونصوصنا ظاهرة بخلافه كما
ستقف عليه إنشاء الله.
وقوله : ان عموم الأمر بالوفاء بالعقد يشمله ، إشارة إلى
قوله عزوجل «أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ» مردود بالاتفاق
على ان المراد بالعقود : العقود الصحيحة ، والا لتناول العقد حال الإكراه.
ودعوى كون هذا العقد صحيحا بعد الإجازة مع اتفاقهم على
البطلان قبلها ، يتوقف على الدليل الواضح ، والا فهو محض المصادرة.
وقوله : ان مقارنة القصد للعقد لا دليل عليه ، مردود
بأنه هو المستفاد من النصوص ، وغيره لا دليل عليه ، فان المستفاد من النصوص التي
قدمناها في بيع المعاطاة ونحوها : أنه لا بد في صحة العقد من حصول الرضا بتلك
الألفاظ الجارية
بين المتعاقدين في أي عقد كان ، وهذا
هو القدر المحقق منها في شرط صحة العقد ، واما انه يصح بالإجازة بعد وقوعه على جهة
الإكراه ، بحيث يكون الرضا به والقصد إليه متأخرا عن العقد ، فهو المحتاج الى
الدليل.
وبالجملة فإن دعواه معكوسة عليه ، كما لا يخفى على من
رجع الى الإنصاف وجنح اليه.
والى ما ذكرنا هنا يشير كلام المحقق الشيخ على في شرح
القواعد ، حيث قال : واعلم ان هذه المسألة ان كانت اجماعية فلا بحث ، والا فللنظر
فيها مجال ، لانتفاء القصد أصلا ورأسا مع عدم الرضا ، ولا يتحقق العقد المشروط
بذلك إذا لم يتحقق ، لان الظاهر من كون العقود بالقصود : اعتبار القصد المقارن لها
دون المتأخر انتهى. وهو جيد.
واما قوله في المسالك ـ على اثر الكلام المتقدم نقله ـ :
«وبهذا يظهر ضعف ما قيل هنا من انتفاء القصد أصلا ورأسا مع عدم الرضا ، وان الظاهر
من كون العقود بالقصود : المقارن دون المتأخر» ، فهو إشارة إلى رد كلام المحقق
المذكور ، وقد عرفت ما فيه من القصور ، فان ما ذكره من الوجوه التي زعم بها ضعف
هذا الكلام ، قد كشفنا عن وجوه قصورها نقاب الإبهام.
على ان عود الصحة بعد البطلان غير معقول ، الا ان يقول
بان العقد حال الإكراه جائز صحيح ، ولزومه موقوف على الإجازة ، مع ان الأمر ليس
كذلك ، فإنهم لا يختلفون في البطلان لفقد شرط الصحة وهو الاختيار ، ولهذا انهم في
العقد الفضولي حكموا بجوازه وصحته ، وانما منعوا من لزومه ، فجعلوا لزومه وعدمه
مراعى بإجازة المالك وعدمها.
ثم انه قد أورد عليهم في هذا المقام اشكال ، وهو انهم قد
حكموا بفساد عقد الهازل ، ولم يذكروا لزومه لو لحقه الرضا ، مع ان ظاهر حاله انه
قاصد الى اللفظ دون مدلوله ، كما في المكره ، لانه بالغ عاقل ، فاللازم حينئذ اما
إلحاقه
بالمكره في لزوم عقده مع لحقوق الرضا
به ، أو بيان وجه الفرق بينهما.
ودعوى كونه غير قاصد للفظ ، بعيدة عن جادة الصواب.
* * *
هذا. وينبغي ان يعلم : ان الحكم ببطلان بيع المكره مخصوص
بما إذا كان الإكراه بغير حق ، فلو كان بحق كان صحيحا لا يضره الإكراه ، وقد ذكروا
لذلك مواضع :
منها : ان يتوجه عليه بيع ماله لوفاء دين عليه ، أو شراء
مال أسلم إليه قيمته فاكرهه الحاكم عليه ، صح بيعه وشراؤه ، لأنه إكراه بحق.
ومنها : تقويم العبد على معتق نصيبه منه ، وتقويمه في
فكه من الرق ليرث ، وإكراهه على البيع لنفقته ونفقة زوجته مع امتناعه ، وبيع
الحيوان إذا امتنع من الإنفاق عليه ، والعبد إذا أسلم عند الكافر ، والعبد المسلم
والمصحف إذا اشتراهما الكافر وسوغناه ، فإنهما يباعان عليه قهرا ، والطعام عند
المجاعة يشتريه خائف التلف ، والمحتكر مع عدم وجود غيره واحتياج الناس إليه ، فإن
جميع هذه الصور مستثناة من قولهم «ان بيع المكره غير صحيح» وضابطها : «الإكراه بحق»
والله العالم.
المسألة الثالثة
قد عرفت فيما تقدم ان من شروط صحة البيع : كون البائع
مالكا أو في حكمه على المختار ، الا انه قد وقع الخلاف بين أصحابنا في عقد
الفضولي.
والكلام فيه يقع في مقامين : ـ
المقام الأول : اختلف الأصحاب في صحة بيع الفضولي
وبطلانه ،
فالمشهور ـ بل كاد ان يكون إجماعا ـ :
هو الأول. وان توقف لزومه على الإجازة ، وذهب في الخلاف والمبسوط وتبعه ابن إدريس
الى الثاني. وهو الظاهر من عبارة أبي الصلاح في الكافي. ولم أر من نقل عنه ، الا
ان الذي يظهر من عبارته ذلك ، فإنه قال في الكتاب المذكور ـ بعد تعريف البيع بأنه
عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع والثمن وتسليمهما ـ ما صورته : ويفتقر صحته
الى شروط ثمانية : صحة الولاية في البيعين ـ الى ان قال ـ واعتبرنا صحة الولاية
لتأثير حصولها بثبوت الملك أو الاذن ، وصحة الرأي في صحة العقد ، وعدم ذلك في
فساده. ثم قال ـ في موضع آخر ـ : ومن ابتاع غصبا يعلمه كذلك فعليه رده الى المالك
، ولادرك له على الغاصب ، وان لم يعلمه فللمالك انتزاعه منه ، ويرجع بالدرك على من
باع. انتهى.
فإنه جعل المؤثر في صحة العقد هو حصول الولاية المسببة
عن الملك أو الاذن كالوكيل ونحوه : فالفضولي ليس له ولاية بشيء من المعنيين ، وفي
فساده عدم ذلك. وأوجب فيمن ابتاع غصبا رده الى المالك لا وقوفه على الإجازة.
ونقل الفاضل المقداد في التنقيح هذا القول عن شيخه. ولا
اعلم من أراد به من مشايخه.
واختار هذا القول ـ ايضا ـ فخر المحققين هنا وفي كل موضع
من العقود الفضولية ، وتبعه على ذلك العماد مير محمد باقر الداماد ، حيث قال في
رسالته الرضاعية ما هذا لفظه : عندي ان عقد النكاح بل مطلق العقد الصادر من
الفضولي ، وهو الذي ليس له ولاية ولا وكالة ، باطل من أصله ، والإجازة اللاحقة غير
مؤثرة في تصحيحه ، ولا كاشفة عن صحته أصلا. انتهى.
وممن ظاهره القول بالبطلان هنا ـ ايضا ـ المحقق
الأردبيلي في شرح الإرشاد ، حيث قال ـ بعد قول المصنف «ولو باع الفضولي وقف على
الإجازة» ما ملخصه : هذا هو المشهور ، وما نجد عليه دليلا. ثم نقل الرواية العامية
الاتية
إنشاء الله تعالى ، وبعض تعليلاتهم
العقلية. ثم قال : ومعلوم عدم صحة الرواية ومعارضتها بأقوى منها دلالة وسندا ،
لقوله عليهالسلام لحكيم بن حزام
: لا تبع ما ليس عندك. ومعلوم ـ ايضا ـ عدم صدوره من أهله ، لأن الأهل هو المالك
أو من له الاذن. وبالجملة : الأصل ، واشتراط التجارة عن تراض ، الذي يفهم من الآية
الكريمة ، والآيات والاخبار الدالة على عدم جواز التصرف في مال الغير إلا باذنه ،
وكذا العقل ، يدل على عدم الجواز ، وعدم الصحة وعدم انتقال المال من شخص الى آخر.
انتهى.
ويظهر ذلك ـ ايضا ـ من الشيخ الحر في الوسائل.
وهذا القول هو الظاهر عندي من الاخبار ، على وجه لا
يعتريه الشك والإنكار ، إلا ممن قابل بالصد عن الحق والاستكبار ، وسيأتيك اخباره
إنشاء الله تعالى في المقام ساطعة الأنوار علية المنار.
هذا وظاهر الأصحاب : ان المراد بالبيع الفضولي هو من باع
مال غيره مع عدم الاذن من مالكه ، أعم من ان يكون البيع لنفسه أو للمالك ، فيدخل
فيه بيع الغاصب ونحوه ، وأدلتهم التي استدلوا بها في المقام شاملة بعمومها لما
قلناه ، وكأن بنائهم في الحكم بصحة البيع المغصوب ، مع كونه منهيا عن التصرف فيه ،
انه لا منافاة بين الصحة والنهى ، لكون النهى انما يؤثر الإبطال في العبادات ،
واما في المعاملات فغاية ما يترتب عليه لحوق الإثم بالمخالفة ، فيصح بيعه وان أثم
البائع بالتصرف ، وسيجيء تحقيق الكلام في المقام إنشاء الله تعالى.
وقد احتج الأصحاب على ما ذهبوا اليه ـ هنا من الصحة ـ بأن
مقتضى الصحة موجود وهو العقد الجامع للشرائط ، وليس ثم مانع الا اذن المالك ،
وبحصوله يزول المانع ويجتمع الشرائط ، كذا قرره في المسالك.
واحتج على ذلك في المختلف بأنه بيع صدر من أهله في محله
فكان صحيحا
اما صدوره من اهله فلصدوره من بالغ
عاقل مختار ، ومن جميع الصفات كان أهلا للإيقاعات ، واما صدوره في محله فلانه وقع
على عين يصح تملكها وينتفع بها ، وتقبل النقل من مالك الى آخر ، واما الصحة فلثبوت
المقتضى السالم عن معارضة ، وكون الشيء غير مملوك للعاقد غير مانع من صحة العقد ،
فان المالك لو اذن قبل البيع لصح فكذا بعده ، إذ لا فارق بينهما.
واحتج ايضا بما رواه عن عروة البارقي : ان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاه دينارا
ليشتري به شاة ، فاشترى شاتين ثم باع إحداهما بدينار في الطريق. قال فأتيت النبي صلىاللهعليهوآله بدينار والشاة
فأخبرته ، فقال : بارك الله لك في صفقة يمينك (1).
واحتج الشيخ في الخلاف على ما ذهب اليه من القول
بالبطلان بإجماع الفرقة. قال : ومن خالف لا يعتد بقوله ، لانه لا خلاف في انه
ممنوع من التصرف في ملك غيره والبيع تصرف ، وايضا روى حكيم عن النبي صلىاللهعليهوآله انه نهى عن
بيع ما ليس عنده (2) ، وهذا نص. وروى
شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : لا طلاق
إلا فيما يملك ، ولا عتق الا فيما يملك ، ولا بيع الا فيما يملك (3). فنفى عليهالسلام البيع في غير
الملك ولم يفرق.
وأجاب القائلون بالصحة عن الإجماع بمنعه مع وجود المخالف
وهو من جملة المخالفين في نهايته ، وعن المنع من التصرف في ملك الغير بأنه مسلم ،
لكن إذا كان بغير اذنه والاذن هنا موجود ، وهو الإجازة القائمة مقامه. وعن النفي
بأنه إذا دخل على حقيقة ، أريد به نفى صفة من صفاتها ، فيكون المراد بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «لا بيع الا
فيما يملك». : لا لزوم للبيع الا فيما يملك ، والا لزم بطلان بيع الوكيل والوصي
والولي ، فيكون المراد : لا بيع الا فيما هو ملك أو كالملك بسبب الاذن وقد حصل.
__________________
(1) مسند احمد بن حنبل ج 4 ص 376.
(2) سنن الترمذي ج 3 ص 534.
(3) مستدرك الوسائل ج 2 ص 460 حديث : 3 و 4.
أقول : وعندي فيما ذكروه من الأدلة على الصحة ، وفيما
ذكروه من الأجوبة عن أدلة الشيخ نظر يتوقف بيانه على ذكرها واحدة واحدة ، ليتأكد
بذلك صحة ما اخترناه وقوة ما قويناه ، ويكون ذلك في مواضع :
(الأول) : ما احتج به في المسالك من كون المقتضي للصحة
موجودا وهو الجامع للشرائط ، ففيه : انه لم يقم لهم دليل على اعتبار هذا العقد
الذي ذكروه ، والصيغة التي اشترطوها ، وانما المتحقق من الناقل الذي يترتب عليه
أحكام البيع ، هو حصول التراضي من الطرفين ، وبذلك صرح هو أيضا في مسالكه ، فقال ـ
بعد ان نقل عن ظاهر المفيد الاكتفاء في تحقق البيع بما دل على الرضا به من
المتعاقدين ان عرفاه وتقابضا ، وعن بعض مشايخه المعاصرين انه يذهب الى ذلك لكن يشترط
في الدال كونه لفظا ـ ما صورته : والنصوص المطلقة من الكتاب والسنة الدالة على حل
البيع وانعقاده من غير تقييد بصيغ خاصة تدل على ذلك ، فانا لم نقف على دليل صريح
في اعتبار لفظ معين ، وقد عرفت فيما تقدم ميل جملة من العلماء الى هذا القول.
وحينئذ فإذا اعترف بأنه لا دليل على اعتبار هذا العقد
الذي ذكروه ، وانما المدار على حصول التراضي من الطرفين أعم من ان يكون بهذا اللفظ
أو بغيره مما يدل عليه ، كان الناقل المترتب عليه الأحكام انما هو الرضا من المالك
، وحيث لم يحصل ـ كما هو المفروض ـ فلا وجود للبيع من أصله ، ولا يترتب اثر عليه.
فكيف يحتج هنا بأن المقتضي للصحة موجود وهو العقد الجامع للشرائط.
لا يقال : ان لقائل أن يقول : ان البائع الفضولي يجوز ان
يتراضى مع المشترى على نحو من الوجوه ، ويكون ذلك التراضي بيعا موقوفا.
لأنا نقول : التراضي الذي دل عليه الدليل ـ عندنا ـ هو ما
يكون بين المالك والمشترى ، أعم من ان يكون مالك الأصل أو المتصرف كالولي والوصي
والوكيل ، وأيضا فإن ذلك القائل لا يرتضيه ولا يقول به لتصريحه بوجوب تلك الصيغة
المخصوصة.
(الثاني) : ما احتج به في المختلف من أنه بيع صدر من
اهله ، وجعله الأهلية عبارة
عن البلوغ والعقل والاختيار ، ففيه :
منع ظاهر ، لان الخصم يقول : ان الأهلية عبارة عن ذلك بإضافة المالكية للأصل أو
التصرف ، ولا يسلم له ما ادعاه من أهلية الفضولي ، وان الأهلية عبارة عما ذكره ،
بل هو أول المسألة.
واما ما ذكره من صدوره في محله باعتبار وقوعه على عين يصح
تملكها وتقبل النقل فيه ، ففيه : ما في الأول ، فإن الخصم يقول : ان محله المال
المملوك أصلا أو تصرفا ، لا ما يصلح للتملك ويقبله في حد ذاته.
وبالجملة فإن ما ذكره من الدليل مصادرة على المطلوب كما
لا يخفى.
واما ما ذكره من انه لا فرق بين الاذن قبل البلوغ أو بعده
فغير مسلم أيضا ، لأن التصرف بعد الإذن شرعي بلا خلاف فلا يترتب عليه اثم ولا ضمان
، واما قبله فغصبى يترتب عليه الضمان والإثم ، لقبح التصرف في مال الغير بغير اذنه
، ومنع الشارع من ذلك. وقد صرحوا بذلك في مواضع عديدة ، والا لجازت الصلاة في
الأماكن مطلقا ، وفي الثياب كذلك ، وجاز أكل الغير والتصرف فيه بأنواع التصرفات ،
بناء على الاذن المتأخر. حيث لا فرق بينه وبين الاذن المتقدم ، فان اذن المالك
والا غرم له اجرة ذلك ، وتكون التصرفات على التقديرين تصرفات شرعية ، وهو مخالف
للمعقول والمنقول.
واما ما احتج به من الرواية فلا تقوم بها حجة في هذا
المجال ، وان اشتهر نقلها في كتب الاستدلال ، حيث انها عامية والعجب منه ـ رحمهالله ـ وممن تبعه
في ذلك حيث انهم كثيرا ما يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويردونها لمخالفتها ما
اصطلحوا عليه من هذا الاصطلاح الجديد ، ويعتمدون هنا في أصل الحكم على رواية عامية
، ويفرعون عليها فروعا ، ويرتبون عليها أحكاما ، والحال كما ترى.
وأنت خبير بأن المفهوم من هاتين الحجتين : ان المراد
بالبائع : من باع لنفسه أو للمالك ـ كما أشرنا إليه سابقا.
ويؤيده : أنهم جعلوا بيع الغاصب من قبيل بيع الفضولي ،
ومن الظاهر ان الغاصب انما يبيع لنفسه لا لمالكه ، وقد صرح بذلك العلامة في
القواعد ، والشيخ على في
شرحه. فقال ـ بعد قول المصنف «وكذا
الغاصب» ما صورته : اى حكم الغاصب كالفضولي ، وهو أصح الوجهين ، وان احتمل الفساد
نظرا إلى القرينة الدالة على عدم الرضا ، وهي الغصب.
وكذلك في الدروس ، حيث قال ـ بعد ذكره البيع ـ : ولا
يقدح في ذلك علم المشترى بالغصب. انتهى.
ومن العجب هنا منعه في التذكرة في بيع مالا يملك ثم يمضى
ليشتريه من مالكه ويسلمه إلى المشتري. قال : ولا نعلم فيه خلافا ، لنهي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن بيع ما ليس
عندك ، ولاشتماله على الضرر فان صاحبها قد لا يبيعها وهو غير مالك لها ولا قادر
على تسليمها. انتهى.
وسؤال الفرق متجه ، فان ما ذكره من الدليلين الأولين على
المنع شامل لما نحن فيه ، ونسبة اجازة المالك في الفضولي بعد العقد كنسبة بيع
المالك على البائع الفضولي ، في ان حصول كل منهما مصحح ، ويلزم بالعقد السابق. وان
كان هناك غرر كما ذكره ففي الفضولي أيضا غرر بأنه قد لا يجيز المالك ايضا ، وعدم
المالكية ثابتة في الموضعين ، وعدم القدرة على التسليم مشترك أيضا ، لأن تسليم
البائع الفضولي من غير اذن المالك تصرف غصبي منهي عنه شرعا ، فيصدق في حقه انه غير
قادر على التسليم شرعا.
وبالجملة فإن تجويزه في بيع الفضولي الذي هو محل البحث ،
ومنعه هنا مما لا وجه له.
(الثالث) : ما أجابوا به عن حجة الشيخ من جهة المنع من
التصرف في مال الغير بأنه مسلم ، لكن إذا كان بغير الاذن ، والاذن هنا موجود وهو
الإجازة القائمة مقامه ، ففيه ما عرفت من حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه إلا
ما استثنى ، وليس منه هذا. ولا شك ان هذا العقد الواقع بغير اذن المالك وما يترتب
عليه من دفع المبيع وقبض الثمن من ذلك القبيل ، واذنه أخيرا لا يخرج تلك التصرفات
السابقة عن ان تكون غصبا. نعم يعفى عما جناه من ذلك ، كما لو جنى شخص على شخص ثم
أبرأه من ذلك. ولو لم يأذن المالك
فان حكم الغصب باق فيكون هو مؤاخذا
لجميع تصرفاته دينا ودنيا ، اما الأول فبالمعاقبة واما الثاني فبوجوب إرجاع كل حق
الى مستحقه.
(الرابع) : ما أجابوا به عن النهي بأنه لا يستلزم الفساد
في المعاملات ، فهو وان كان مشهورا بينهم ، إلا انا كثيرا ما نرى عقودا قد حكموا
ببطلانها بسبب النهى الوارد في الروايات ، ومن تتبع كتاب النكاح ، وكتاب البيع
فيما حرموه من بيع الخمر والكلب والخنزير ونحوها ، ظهر له ذلك ، وما ذكروه من هذه
الكلية انما هو اصطلاح أصولي لا تساعد عليه الآيات والروايات على إطلاقه ، كما لا
يخفى على من اعطى المسألة حقها من التتبع.
* * *
والذي يخطر بالبال في الجمع بين ما ذكروه ـ من هذه
القاعدة ـ وبين ما ورد من الاخبار الدالة على النهى ، وحكم الأصحاب بالفساد عملا
بمضمونها ، ان يقال :
ان النهى الواقع من الشارع عليهالسلام في ذلك العقد
اما ان يكون باعتبار عدم قابلية المعقود عليه لذلك كالكلب والخنزير ونجس العين
ونحوها في البيع مثلا. وإحدى المحرمات ونحوها في النكاح مثلا ، وحينئذ لا إشكال في
الفساد.
أو يكون باعتبار أمر خارج ، مثل كون ذلك في زمان مخصوص
أو حال مخصوصة أو نحو ذلك من الأمور الخارجية عن العوضين المتقابلين فربما يقال
بما ذكروه وتخص القاعدة المذكورة بهذا الفرد كالبيع وقت النداء ، فإن النهي عنه
وقع من حيث الزمان ، فيقال بصحة البيع لعدم تعلق النهى بذات شيء من العوضين ، باعتبار
عدم قابليته للعوضية ، بل وقع باعتبار أمر خارج من ذلك ، وان أثم باعتبار إيقاعه
في هذا الزمان المنهي عن الإيقاع فيه. وما نحن فيه انما هو من قبيل الأول ، لأن
الظاهر ان توجه النهي اليه انما هو من حيث عدم صلاحية المعقود عليه لذلك ، لكونه
تصرفا في مال الغير بغير اذنه ، وهو قبيح عقلا ونقلا كتابا وسنة. واذن المالك
أخيرا على تقدير وقوعه لا يخرج تلك التصرفات عن كونها غصبا كما تقدم بيانه في
الموضع الثالث.
وهذا التفصيل مما خطر ببالي العليل في
سابق الزمان ، وهو جيد وجيه ، وقد تقدم في المباحث السابقة من هذا الكتاب ما
يؤيده.
ويؤيد هذا التفصيل الذي ذكرناه ما وفق الله سبحانه
للوقوف عليه في كلام شيخنا زين الملة والدين في المسالك في مسألة العقد على بنت
الأخ وبنت الأخت على العمة والخالة بغير اذنها حيث انه قيل في المسألة ببطلان
العقد ، وقيل بالصحة وان للعمة والخالة الخيار في فسخه وعدمه.
وقد استدل القائل بالبطلان بالنهي عنه. ورده في المسالك
بأن النهي لا يدل على الفساد في المعاملات ، ثم قال ـ بعد ذلك ـ فان قيل : النهي
في المعاملات وان لم يدل على الفساد بنفسه ، لكنه إذا دل على عدم صلاحية المعقود
عليها للنكاح فهو دال على الفساد من هذه الجهة ، كالنهي عن نكاح الأخت ، وكالنهي
عن بيع الغرر ، والنهى في محل النزاع من هذا القبيل. قلنا : لا نسلم دلالتها هنا
على عدم صلاحية المعقود عليها للنكاح ، فإنها عند الخصم صالحة له ، ولهذا صلحت مع
الاذن ، بخلاف الأخت ، وبيع الغرر ، فإنهما لا يصلحان أصلا ، وصلاحية الأخت على
بعض الوجوه ـ كما لو فارق الأخت ـ لا يقدح ، لأنها حينئذ ليست أخت الزوجة ، بخلاف
بنت الأخت ونحوها فإنها صالحة للزوجية ، مع كونها بنت أخت الزوجة. والاخبار دلت
على النهى عن تزويجها ، وقد عرفت انه لا يدل على الفساد ، فصار النهى عن هذا
التزويج من قبيل ما حرم لعارض كالبيع وقت النداء لا لذاته. والعارض هو عدم رضاء
الكبيرة ، فإذا لحقه الرضا زال النهى. انتهى.
وقد ظهر منه ما ذكرناه من التفصيل ، باعتبار رجوع النهي
تارة إلى المعقود عليه من حيث عدم صلاحيته لإيقاع العقد عليه فيكون العقد باطلا ، وتارة
إلى أمر خارج عنه فلا يستلزم الفساد ، ومنه بنت الأخ وبنت الأخت ، كما اختاره. فإن
النهي عنهما انما وقع باعتبار أمر خارج ، وهو عدم رضاء العمة والخالة ، فيكون
العقد صحيحا مراعى بالرضا ، ولا يخفى انه قد تقدم لنا تحقيق في هذه المسألة في باب
صلاة
الجمعة من كتاب الصلاة بنحو ما ذكرناه
هنا ، الا انه ربما تعسر على الناظر في هذه المسألة الرجوع الى ذلك الكتاب ، فلم
نكتف بالحوالة على ذلك الموضع ، بل أوضحنا المسألة في المقام ، لدفع ثقل المراجعة
على الناظر في هذا الكلام.
ثم انه ينبغي ان يعلم ان ما ذكرناه هنا ، وأطلنا به
البحث ليس ذبا عن الحديث الذي استدل به الشيخ ، فإنه حديث عامي لا تنهض عندنا حجة
، وانما هو تحقيق في المسألة في حد ذاتها أولا. وثانيا انه على جهة المجاراة معهم
في الاستدلال بالخبر المذكور ، فإنه لا وجه لرده من هذه الجهة التي ذكروها ، بل
كان الاولى رده بما ذكرناه ، من انه حديث عامي لا ينهض حجة.
(الخامس) : ما أجابوا به عن النفي بأنه إذا دخل على
حقيقة أريد به نفى صفة من صفاتها فمسلم ، إلا انا نقول : ان تلك الصفة هي الصحة لا
اللزوم كما يقولونه ، وقولهم : والا لزم بطلان بيع الوكيل ، فيه : ان وجه الملازمة
غير ظاهر ، ومع ذلك نقول : المراد بالمملوك : ما هو أعم من ان يكون مملوك العين أو
التصرف ، كما تقدم ذكره ، وهو مستعمل في كلامهم كثيرا.
وبالجملة فإن ما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه من البطلان هو
الموافق لمقتضى الأصول الشرعية والعقلية ، وعليه تدل جملة من الأحاديث المعصومية ،
التي هي المعتمد في كل حكم وقضية ، والعجب انهم مع قولهم بالبطلان استدلوا بتلك
الرواية العامية في كتبهم الفروعية ، حتى من مثل المحقق الأردبيلي كما تقدم في
كلامه ، ودعواه انها أقوى دلالة وسندا من رواية البارقي ، مع ان الجميع من طريق
العامة ، وروايات أهل البيت ـ عليهمالسلام ـ مكشوفة
القناع ، صريحة الدلالة على هذه المقالة ، مع تعددها في كتب الاخبار ، فكيف غفلوا
عنها ، مع عكوفهم على كتب الأخبار ، مطالعة وتدريسا ، وبذلك يظهر لك صحة المثل
السائر «كم ترك الأول للآخر».
* * *
فمن الاخبار المشار إليها : صحيحة محمد بن الحسن الصفار
: أنه كتب الى ابى محمد الحسن العسكري عليهالسلام في رجل باع له
قطاع أرضين ، وعرف حدود القرية الأربعة ، وانما له في هذه القرية قطاع أرضين ، فهل
يصلح للمشتري ذلك وانما له بعض هذه القرية ، وقد أقر له بكلها؟ فوقع عليهالسلام : لا يجوز بيع
ما ليس بملك ، وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك (1).
والأصحاب قد أفتوا في هذه المسألة التي هي مضمون هذه
الرواية ـ بلزوم البيع فيما يملكه ووقوفه فيما لا يملك على الإجازة من المالك ،
بمعنى انه صحيح لكونه فضوليا موقوفا في لزومه على اجازة المالك ، والرواية ـ كما
ترى ـ تنادي بأنه «لا يجوز» الدال على التحريم. وليس ثمة مانع يوجب التحريم سوى
عدم صلاحية المبيع للنقل بدون اذن مالكه.
ومنها : صحيحة محمد بن القاسم بن الفضيل ، قال : سألت
أبا الحسن الأول عن رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم ، وكتب عليها كتابا
بأنها قد قبضت المال ولم تقبضه ، فيعطيها المال أم يمنعها؟ قال : قل له : ليمنعها
أشد المنع ، فإنها باعت مالا تملكه (2).
أقول : فلو كان البيع الفضولي صحيحا ـ كما يدعونه ـ ودفع
الثمن للبائع الفضولي جائزا ـ كما يقولونه ـ لما أمر عليهالسلام بمنعها من
الثمن أشد المنع ، معللا ذلك بأنها باعت مالا تملكه.
ومنها : صحيحة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليهالسلام في حديث قال
فيه : سأله رجل من أهل النيل عن ارض اشتراها بفم النيل ، وأهل الأرض يقولون : هي
أرضهم ، وأهل الأستان يقولون : هي من أرضنا. قال : لا تشترها الا برضاء أهلها (3).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 252 حديث 1 والمؤلف اختزل من الحديث.
(2) الوسائل ج 12 ص 249 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 249 حديث : 3.
لا يقال : ان السؤال في الرواية انما وقع عن ارض متنازع
فيها ، معلوم عدم اجازة المالك فيها على تقدير الفضولية ، لأنا نقول : موضع
الاستدلال في الخبر انما هو قوله «لا تشترها الا برضاء أهلها» الدال على تحريم
الشراء قبل تقدم الرضا. ودعوى قيام الإجازة المتأخرة مقام الرضا السابق ، مع كونه
لا دليل عليه ، مردود بما ينادى به الخبر من المنع والتحريم ، الا مع تقدم الرضا.
وحاصل معنى الجواب تطبيقا على السؤال : ان الأرض
المذكورة لما كانت محل النزاع فلا تشترها حتى تعلم مالكها من اى الفريقين ، ويكون
راضيا بالبيع.
ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن شراء الخيانة
والسرقة. فقال : إذا عرفت انه كذلك فلا (1) ، فقد نهى عليهالسلام عن الشراء مع
العلم. والنهى دليل التحريم ، وليس ذلك الا من حيث ان المبيع غير صالح للنقل ،
لكون التصرف فيه غضبا محضا ، والتصرف في المغصوب قبيح عقلا ونقلا. والأصحاب في مثل
هذا يحكمون بالصحة والوقوف على الإجازة ، وهل هو الا رد لهذا الخبر ونحوه ، ولكنهم
معذورون من حيث عدم الاطلاع على هذه الاخبار ، الا انه يشكل هذا الاعتذار بالمنع
من الفتوى الا بعد تتبع الأدلة من مظانها ، والاخبار المذكورة في كتب الأخبار
المتداولة في أيديهم مسطورة.
ومنها : ما رواه في الاحتجاج مما خرج من الناحية المقدسة
، في توقيعات محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري ، في السؤال عن ضيعة للسلطان فيها
حصة مغصوبة ، فهل يجوز شراؤها من السلطان أم لا؟ فأجاب عليهالسلام الضيعة لا
يجوز ابتياعها الا من مالكها أو بأمره أو رضا منه (2).
والتقريب فيها ما تقدم من تحريم الشراء الا بعد تقدم
رضاء المالك.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 250 حديث : 6.
(2) الوسائل ج 12 ص 250 حديث : 8.
ومنها : ما رواه في الفقيه بإسناده عن شعيب بن واقد ، عن
الحسين بن زيد ، عن الصادق عليهالسلام عن آبائه عن
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حديث
المناهي ، قال : ومن اشترى خيانة وهو يعلم فهو كالذي خانها (1).
ومنها : ما رواه الشيخ عن ابى بصير ، قال : سألت أحدهما
عن شراء الخيانة والسرقة ، قال : لا (2).
ومنها : ما رواه عن جراح المدائني عن الصادق عليهالسلام قال : لا يصلح
شراء الخيانة والسرقة إذا عرفت (3).
ومنها : ما في قرب الاسناد بسنده عن على بن جعفر عن أخيه
موسى عليهالسلام قال : سألته
عن رجل سرق جارية ثم باعها ، يحل فرجها لمن شراها؟ قال : إذا أنبأهم أنها سرقة لا
يحل ، وان لم يعلم فلا بأس (4).
فهذه جملة من الاخبار الواضحة الظهور كالنور على الطور
في عدم جواز بيع الفضولي وعدم صحته ، ولو كان ما يدعونه من صحة بيع الفضولي وتصرفه
بالدفع والقبض صحيحا وانما يتوقف على الإجازة ، لصرح به بعض هذه الاخبار أو أشير
اليه ولا جابوا ـ عليهمالسلام ـ بالصحة ،
وان كان اللزوم موقوفا على الإجازة ، في بعض هذه الاخبار ان لم يكن في كلها ، مع
انه لا اثر فيها لذلك ولو بالإشارة ، فضلا عن صريح العبارة.
ومنها : ما رواه الشيخ في المجالس بإسناده عن زريق قال :
كنت عند الصادق عليهالسلام ـ إذ دخل عليه
رجلان ـ الى ان قال ـ فقال أحدهما : انه كان على مال لرجل من بنى عمار ، وله بذلك
ذكر حق وشهود ، فأخذ المال ولم استرجع منه الذكر الحق ، ولا كتبت عليه كتابا ، ولا
أخذت عليه براءة ، وذلك لأني وثقت به وقلت له : مزق الذكر الحق الذي عندك ، فمات
وتهاون بذلك ولم يمزقها ، وعقب هذا أن طالبني بالمال
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 248 حديث : 1.
(2) الوسائل ج 12 ص 249 حديث : 4.
(3) الوسائل ج 12 ص 250 حديث : 7.
(4) الوسائل ج 12 ص 252 حديث : 12.
وراثه ، وحاكموني واخرجوا بذلك الذكر
الحق ، فأقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم فأخذت بالمال وكان المال كثيرا ، فتواريت
عن الحاكم ، فباع على قاضي الكوفة معيشة لي ، وقبض القوم المال ، وهذا رجل من
إخواننا ابتلى بشراء معيشتي من القاضي. ثم ان ورثة الميت أقروا ان المال كان أبوهم
قد قبضه ، وقد سألوه ان يرد على معيشتي ويعطونه في أنجم معلومة ، فقال : انى أحب
ان تسأل أبا عبد الله ـ عليهالسلام ـ عن هذا.
فقال الرجل ـ يعني المشتري ـ : جعلني الله فداك ، كيف
اصنع؟ فقال : تصنع ان ترجع بمالك على الورثة وترد المعيشة إلى صاحبها ، وتخرج يدك
عنها ، قال : فإذا فعلت ذلك له ان يطالبني بغير هذا؟ قال : نعم ، له ان يأخذ منك
ما أخذت من الغلة ثمن الثمار ، وكل ما كان مرسوما في المعيشة يوم اشتريتها ، يجب
عليك ان ترد ذلك ، الا ما كان من زرع زرعته أنت فإن للزارع قيمة الزرع ، فاما ان
يصبر عليك الى وقت حصاد الزرع ، فان لم يفعل كان ذلك له ورد عليك قيمة الزرع ،
وكان الزرع له.
قلت : جعلت فداك ، فان كان هذا قد أحدث فيها بناء وغرسا.
قال : له قيمة ذلك ، أو يكون ذلك الحدث بعينه يقلعه ويأخذه. قلت أرأيت ان كان فيها
غرس أو بناء ، فقلع الغرس وهدم البناء؟ فقال : يرد ذلك الى ما كان أو يغرم القيمة
لصاحب الأرض ـ فإذا رد جميع ما أخذ من غلاتها الى صاحبها ورد البناء والغرس وكل
محدث الى ما كان ، أو رد القيمة كذلك ، يجب على صاحب الأرض ان يرد عليه كلما خرج
عنه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة ، ودفع
النوائب عنها ، كل ذلك مردود عليه (1).
أقول : هذا الخبر ، وان تضمن ان البائع هو الحاكم وهو
صحيح بحسب الظاهر ، بناء على ما ورد عنهم ـ عليهمالسلام ـ من الأخذ
بأحكامهم في زمان الهدنة والتقية ، الا انه بعد ظهور الكاشف عن بطلانه واعتراف
الورثة بقبض الدين ، يكون من باب البيع الفضولي ، وهو كما سيأتي ـ إنشاء الله
تعالى ـ على قسمين : أحدهما ما يكون المشترى
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 253 حديث : 1.
عالما بالغصب ، وانه ليس ملكا للبائع
، وثانيهما : ان يكون جاهلا أو ادعى البائع الاذن من المالك ، وما اشتمل عليه
الخبر من القسم الثاني. الا ان ما اشتمل عليه الخبر المذكور من رجوع المشترى بما
اغترمه على المالك ، خلاف ما سيأتي في كلامهم ، من انه انما يرجع الى البائع ، وما
ذكره عليهالسلام هو الأوفق بالقواعد
، كما سيظهر لك إنشاء الله تعالى.
والعجب هنا كل العجب من صاحب المفاتيح ، حيث جرى في هذه
المسألة على ما هو المشهور في أصلها وفروعها ، كما لا يخفى على من راجعه ، مع ان
جل الأخبار التي ذكرناها مما نقله في الوافي ، ولكن العذر له على ما ذكره في
حواشيه على الكتاب المذكور من انه اعتمد في العبادات على كتاب المدارك ، وفي غيرها
على المسالك وهو عذر ضعيف واه من مثله ، لا سيما مع تصريحه في الكتاب المذكور
بجملة من متفرداته في الأحكام ، الدالة على انه من رؤوس العلماء الاعلام ، الذين
لا يجوز لهم الجمود على التقليد في الأحكام ، ولا الاعتماد على غيرهم من الأنام.
* * *
فإن قيل : ان البيع الفضولي عند الأصحاب هو ان يبيع مال
غيره أو يشترى ، بأن يكون ذلك البيع أو الشراء للمالك ، لكنه من غير اذنه ولا رضاه
، وما دلت عليه هذه الاخبار انما هو البيع أو الشراء لنفسه لا للمالك ، وأحدهما
غير الأخر! قلنا : فيه ـ أولا ـ ان المفهوم من كلام الأصحاب تصريحا في بعض ،
وتلويحا في آخر ، ان البيع والشراء الفضولي أعم من كل الفردين المذكورين ، وقد
تقدم ذكر ذلك ، وتصريح جملة منهم كالعلامة والشهيد في الدروس ، والمحقق الشيخ على
، بأن بيع الغاصب من افراد البيع الفضولي.
وثانيا ـ : ان السؤالات الواقعة في الاخبار المذكورة ،
وان تضمنت بيع البائع أو شرائه لنفسه ، الا ان الأجوبة منهم ـ عليهمالسلام ـ من قوله عليهالسلام في الرواية
الاولى «لا يجوز بيع ما ليس يملك» وقوله في الثانية ، في تعليل المنع من دفع الثمن
«فإنها
باعت مالا تملك» وقوله عليهالسلام في الثالثة «لا
تشترها الا برضاء أهلها» ونحوها رواية الاحتجاج ، ورواية قرب الاسناد ، ظاهرة
العموم للفردين المذكورين ، وخصوص السؤال لا يدافع عموم الجواب كما تقرر في أصولهم
، والعبرة انما هو بعموم الجواب فإنها ظاهرة بل صريحة في ان مالا يملكه الإنسان لا
يجوز وقوع البيع فيه ، أعم من ان يكون البيع للبائع أو لصاحب ذلك المبيع ، من غير
رضاه واذنه.
وبالجملة فالقول بما عليه الشيخ واتباعه من البطلان هو
المختار ، كما دلت عليه صحاح الاخبار ، على انا لا نحتاج في الإبطال إلى دليل ، بل
المدعي للصحة عليه الدليل ، كما هو القاعدة المعلومة بين العلماء جيلا بعد جيل ،
وقد عرفت ما في أدلتهم وانها لا تسمن ولا تغني من جوع كما لا يخفى.
المقام الثاني قال في
الشرائع ـ بعد ان صرح بوقوف البيع الفضولي على الإجازة ـ : فان لم يجز كان له
انتزاعه من المشترى ويرجع المشترى على البائع بما دفع اليه وبما اغترمه من نفقة أو
عوض عن اجرة أو نماء ، إذا لم يكن عالما انه لغير البائع أو ادعى البائع ان المالك
اذن له ، وان لم يكن كذلك لم يرجع بما اغترمه. وقيل : لا يرجع بالثمن مع العلم
بالغصب. انتهى.
وعلل في المسالك عدم رجوع المشترى بما اغترمه ، قال :
لأنه حينئذ غاصب مفرط فلا يرجع بشيء مما يغرمه للمالك مطلقا ، وعلل عدم رجوعه
بالثمن مع العلم بالغصب بأنه دفعه اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه ، فيكون
بمنزلة الإباحة.
أقول : الظاهر ان المراد بالغصب ـ هنا ـ المعنى الأعم من
الغصب الصرف ومن الفضولي ، وهو البيع من غير إذن ، فإنه حكم في شرح اللمعة بأنه لا
رجوع بالثمن مع العلم بكونه غير مالك ولا وكيل ، لانه سلطه على إتلافه مع علمه
بعدم استحقاقه له ، فيكون بمنزلة الإباحة.
هذه عبارته هناك بلفظها ، فعبر عن الغاصب الذي صرحت به
عبارة الشرائع بكونه غير مالك ولا وكيل.
ونحو ذلك وقع في عبارة الدروس ، فإنه قال : ان المالك
يرجع عند هلاك العين على المشترى مع العلم ، وعلى الغاصب مع الجهل ، أو دعوى
الوكالة. فعبر عن البائع الفضولي بالغاصب ، وظاهرهم هنا دعوى الإجماع على عدم رجوع
المشترى على البائع بالثمن مع تلفه ، نقله العلامة في التذكرة.
قال في المسالك في شرح قوله «وقيل لا يرجع بالثمن مع
العلم بالغصب» : هذا هو المشهور بين الأصحاب ، مطلقين الحكم فيه الشامل لكون الثمن
باقيا وتالفا ، ووجهوه بأن المشتري قد دفعه اليه وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه
له ، فيكون بمنزلة الإباحة. وهذا يتم مع تلفه ، اما مع بقائه فلا ، لانه له وهو
مسلط عليه بمقتضى الخبر ، ولم يحصل منه ما يوجب نقله عن ملكه ، لأنه إنما دفعه
عوضا عن شيء لا يسلم له لا مجانا ، فمع تلفه يكون إذنا فيه ، اما مع بقائه فله
أخذه ، لعموم النصوص الدالة على ذلك ، بل يحتمل الرجوع بالثمن مطلقا ، وهو الذي
اختاره المصنف في بعض تحقيقاته ، لعدم جواز تصرف البائع فيه ، حيث انه أكل مال
بالباطل ، فيكون مضمونا عليه ، ولو لا ادعاء العلامة في التذكرة الإجماع على عدم
الرجوع مع التلف ، لكان في غاية القوة ، وحيث لا إجماع مع بقاء العين فيكون العمل
به متعينا.
فان قيل : كيف يجامع تحريم تصرف البائع في الثمن عدم
رجوع المشترى به مع التلف ، فإنه حينئذ لا محالة غاصب آكل للمال بالباطل ، فاللازم
اما جواز تصرفه أو جواز الرجوع اليه مطلقا.
قلنا : هذا اللازم في محله ، ومن ثم قلنا : ان القول
بالرجوع مطلقا متجه ، لكن لما أجمعوا على عدمه مع التلف كان هو الحجة.
وحينئذ نقول : ان تحقق الإجماع فالأمر واضح والا فمن
الجائز ان يكون عدم
جواز رجوع المشترى العالم عقوبة له ،
حيث دفع ماله معاوضا به على محرم ، وعلى هذا يكون البائع مخاطبا برده أو رد عوضه
مع التلف ، فان بذله أخذه المشترى ، وان امتنع منه بقي للمشتري في ذمته ، وان لم
يجز له مطالبته به ، ونظير ذلك ما لو حلف المنكر على عدم استحقاق المال في ذمته ،
فإنه لا يجوز للمدعى مطالبته ولا مقاصته ، وان كان الحق مستقرا في ذمة المنكر في
نفس الأمر ، وذلك لا يمنع من تكليفه برده وعقوبته عليه لو لم يرده.
ولا فرق في هذا الحكم بين كون البائع غاصبا صرفا مع علم
المشترى به أو فضوليا ولم يجز المالك ، كما هو مقتضى الفرض. انتهى.
* * *
أقول : ظاهرهم : ان البيع الفضولي هو ما لو باع مال غيره
بغير اذن صاحبه ، أعم من ان يكون المشترى عالما بذلك أو جاهلا ، أو مع دعوى البائع
الاذن ، وهو كذلك بناء على قاعدتهم في المسألة المذكورة ، وظاهرهم انه مع الإجازة
يصح البيع المذكور بجميع افراده ، وانما يظهر الافتراق فيها مع عدم الإجازة ، فإنه
متى كان المشترى جاهلا أو ادعى البائع الإذن له في البيع فإنه يرجع المالك على
المشترى بعين ماله ان كانت موجودة ، والا فبالقيمة. وكذا يرجع عليه بمنافعها
ونمائها ، وبالقيمة مع التلف ، ويرجع المشترى على البائع بما اغترمه على ذلك
المبيع من نفقة ونحوها.
وأنت خبير بأن رواية زريق المتقدمة قد صرحت بان الرجوع
بما غرمه على ذلك المبيع انما هو على المالك لا على البائع ، وانما يرجع بالثمن
خاصة. فإنه عليهالسلام بعد ان حكم
برجوع المالك على المشترى بعد قبض المبيع بما استوفاه من منافعه وما أحدثه في
الضيعة المذكورة من الفساد أو قيمته ، حكم بعد ذلك برجوع المشترى على المالك بما
أنفقه في إصلاح الضيعة ودفع النوائب عنها.
وظاهر كلام شيخنا في الروضة : ان المشترى يرجع على
البائع أيضا بمنافع
المبيع ونمائه مما حصل له في مقابلته
نفع (1).
قال : لغروره ودخوله على ان يكون ذلك له بغير عوض ، اما
ما أنفقه عليه ونحوه مما لم يحصل له في مقابلته نفع فيرجع به قطعا. انتهى.
وفيه : ان المستفاد من الخبر المذكور ، وقوله فيه : «تصنع
ان ترجع بمالك على الورثة وترد المعيشة على صاحبها» ان الرجوع على البائع انما هو
بالثمن خاصة ، والمقام مقام بيان ، مع حكمه عليهالسلام في الخبر
برجوع المالك على المشترى بعوض المنافع ، فلو كان للمشتري الرجوع بها على البائع
لذكره عليهالسلام مع ذكره أخيرا
ان المشترى يرجع بما أنفقه على المالك لا على البائع.
وبالجملة فإن المطابق للأصول : انه لا رجوع هنا للمشتري
، لأن المالك انما أخذ منه عوض منافعه التي استوفاها من ماله ، فسبيلها كسبيل
العين في وجوب الرد على المالك ، وظهور البطلان الموجب لرد العين على مالكها موجب
لرد ما استوفاه المشترى من منافعها.
وتعليله بأن دخوله على ان يكون ذلك له بغير عوض ، عليل
لا يصلح لتأسيس حكم شرعي ، لا سيما مع دلالة الخبر على ما قلناه ، ومتى كان المشترى
عالما فإنه يرجع المالك على المشترى بجميع ما تقدم ذكره ، واما المشتري فإنه
بالنسبة الى ما غرمه للمالك لا يرجع به ، لما علله به في المسالك مما تقدم ذكره
واما بالنسبة إلى الثمن فقد عرفت من كلام شيخنا في المسالك ، ان المشهور عدم
الرجوع به عليه ،
__________________
(1) قال في المختلف : لو رجع المالك على المشترى الجامل بالعين
والمنافع ، رجع المشترى على البائع بالثمن إجماعا. واما المنافع التي استوفاها هل
يرجع بها أم لا؟ قال الشيخ في المبسوط : الأقوى انه لا يرجع ، لانه غرمه في مقابلة
نفع ، فلا يرجع به على أحد. وقال بعض علمائنا : له الرجوع ، لانه مغرور ، فكان
الضمان على الغار ، كما لو قدم اليه طعام الغير فأكله مع جهل ، فإنه إذا رجع على
الأكل رجع الأكل على الأمر بجهله وتغرير الأمر له. وسيأتي البحث في ذلك في باب
الغصب إنشاء الله تعالى. منه رحمهالله.
باقيا كان الثمن أو تالفا.
وقيل بالرجوع مطلقا ، كما نقل عن المحقق في بعض
تحقيقاته.
وقيل بالتفصيل ، بالتلف وعدمه ، فيرجع على الثاني دون
الأول ، وظاهره في المسالك الميل اليه.
والاشكال هنا في موضعين :
(أحدهما) : في عدم رجوع المشترى على البائع بما اغترمه
في صورة العلم ، لما علله به في المسالك من انه حينئذ غاصب مفرط ، فلا يرجع بشيء
مما يغرمه للمالك مطلقا.
فان فيه : ان مقتضى ما صرحوا به من صحة عقد الفضولي ،
وجوب الحكم بصحة ما يترتب عليه من التصرفات ، إذ لا ثمرة لهذه الصحة مع بطلان ما
يترتب عليها ، فكيف يكون مع عدم الإجازة غاصبا؟! اللهم الا ان يقول : ان العقد وان
كان صحيحا ، لكن لا يجوز للمشتري قبض الثمن الا بعد الإجازة ، والا فهو غاصب.
وصريح كلامهم خلافه.
ومتى حكم ببطلان هذه التصرفات انتفى الحكم بأصل العقد ،
فضلا عن صحته. مع ان العقد عندهم عبارة عن الإيجاب والقبول الدالين على نقل الملك
بعوض ، وانه يقتضي استحقاق التصرفات في المبيع والثمن. وتسليمهما كما تقدم نقله عن
ابى الصلاح وقد صرحوا بان حكم العقد تقابض العوضين ، الا ان يشترط تأخيرهما.
وبالجملة فالموافق لحكمهم بصحة العقد هو صحة ما يترتب
عليه من التصرفات.
نعم بعد ظهور الكاشف ، وهو عدم الإجازة ، يظهر ان تلك
التصرفات كلها كانت باطلة ، ويكون من قبيل البيع الصحيح بحسب ظاهر الشرع ثم يظهر
بطلانه ، فيجب عود كل شيء إلى محله ، وكل حق الى مستحقه.
فالقول بصحة البيع وجواز قبض المشترى المبيع لذلك ، مع
الحكم بأنه مع عدم الإجازة لا يرجع المشترى بما اغترمه لكونه غاصبا مفرطا فيما
أنفقه ، مشكل
لا اعرف له وجها.
و (ثانيهما) : في عدم الرجوع بالثمن في الصورة المذكورة
، موجودا كان أو تالفا ، فان فيه : ان ما عللوه به ، من ان المشترى قد دفعه اليه
وسلطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له فيكون بمنزلة الإباحة ، مردود :
أولا ـ بأن قضية تصحيح الفضولي ، وان كان موقوفا في
لزومه ، تصحيح دفع الثمن مع الموقوفية أيضا ، وان يجعل له التصرف في قبض الثمن مثل
تصرفه في البيع والإقباض.
وحينئذ فمع عدم الإجازة يرجع كل مال الى مقره ، وكل من
الثمن والمثمن الى مالكه.
ويؤيده : ما صرحوا به ـ كما نقله في الدروس عن الشيخ ـ من
انه لو قبض الفضولي الثمن دفع الى المالك عند أجازته.
ونقل عن العلامة : أنه اشترط اجازة قبض الثمن على حياله
، واستحسنه وان كان الثمن في الذمة. وظاهره موافقة الشيخ في الاكتفاء بإجازة العقد
، وان كان قد دفعه للبائع ، وحينئذ فكيف يحكم بصحة القبض مع الإجازة وانه يصير
للمالك ويحكم بكونه باطلا ومجانا مع عدمها ، فإنه ان كان صحيحا في حال الدفع فهو
في الموضعين المذكورين ، والا فيهما معا.
وثانيا ـ ان المشترى إنما دفع الثمن متوقعا للإجازة من
المالك ، فهو انما دفعه عوضا عن شيء لكن لم يسلم له ولم يدفعه مجانا حتى يصير
بمنزلة الإباحة.
وقوله في المسالك ـ بعد نقل التعليل المذكور ـ : وهذا
يتم مع تلفه. الى آخره ، مردود بأن ما علل به الرجوع مع بقائه جاز ايضا مع تلفه ،
فان الخبر الذي أشار اليه ـ وهو قوله عليهالسلام «الناس مسلطون
على أموالهم». لا اختصاص له بالعين ، بل يشمل في الذمم ايضا. وكذا قوله : ولم يحصل
منه ما يوجب نقله ، جار أيضا في صورة ما لو أتلفه.
واما قوله : فمع تلفه يكون إذنا فيه فإنه ضعيف في غاية
الضعف. بل بعيد الصدور من مثله ، مع ما عرفت.
وكيف يصح اجتماع الحكم بوجوب الرد مع وجود العين ، وعدم
جواز التصرف فيها مع الحكم ببراءة ذمة من يجب عليه ردها ويحرم عليه التصرف فيها لو
أتلفها.
واما اعتماده على الإجماع في أمثال هذه البقاع ، فهو
مردود بما حققه في رسالة صلاة الجمعة ـ كما قدمنا ذكره في كتاب الصلاة في باب صلاة
الجمعة ، حيث انه قد مزقه تمزيقا ، وجعله حريقا.
واما قوله : على تقدير عدم تحقق الإجماع ، والا فمن
الجائز ان يكون عدم جواز رجوع المشترى العالم عقوبة.
ففيه ـ أولا ـ : ما عرفت في غير موضع مما تقدم في مباحث
الكتاب ، ان أمثال هذه التعليلات لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، بل المدار انما
هو على النصوص الجلية والأحاديث المعصومية.
و ـ ثانيا ـ : ما عرفت آنفا ، من ان ذلك مناف لحكمهم
بصحة العقد ، فإن قضية صحته صحة ما يترتب عليه ، من قبض الثمن واقباض المثمن ،
وحينئذ فكيف يتم قوله «بأنه مع عدم الإجازة وقعت المعاوضة على محرم فلا يستحق عوض
ما دفعه» فان كان هذا التحريم ثابتا حال العقد فالمعاوضة باطلة ، والإجازة بعدها
لا تؤثر معها شيئا بالكلية ، وان كان انما علم بعد ذلك فالمعاوضة الأولى صحيحة ،
وبعد ظهور الكاشف عن بطلانها يحكم بالبطلان من حينه ، ورجوع كل شيء إلى مقره ،
وتحريم رجوع المشترى فيما دفعه من الثمن ، مع كونه انما دفعه بناء على صحة العقد
وتوقع الإجازة من المالك ، مما لا وجه له بالكلية.
وما نظره به من مسألة حلف المنكر قياس مع الفارق ، فان
تلك المسألة منصوصة ، قد دلت النصوص فيها على ذلك ، بخلاف محل البحث ، إذ ليس فيه
الا مجرد هذه
التعليلات العليلة التي أوضحنا ضعفها.
وبالجملة فتعليلاتهم في هذا المقام كلها عليلة ، لكون
البناء على غير أساس وثيق ، كما لا يخفى على من تأمل في ما ذكرناه من هذا التحقيق.
وأنت خبير بان هذه المسألة في كلامهم نظيره مسألة الهبة
قبل لزومها ، فإنهم صرحوا هناك بأن العقد صحيح غير لازم الا بالتصرف أو التعويض أو
نحوهما ، فمع قبض المتهب العين بناء على ما هو المشهور ، من ان القبض من شروط
الصحة لا اللزوم وعدم حصول شيء من الأسباب الموجبة للزوم العقد ، لو حصل هناك
نماء ، ثم بعد ذلك رجع الواهب في العين ، فإنهم قالوا ان النماء ، ان كان متصلا
كالسمن فهو للواهب ، وان كان منفصلا كالولد واللبن ونحوهما فهو للمتهب ، قالوا :
لانه نماء حدث في ملكه فيختص به ، وحكموا بأنه لو عابت العين والحال كذلك لم يرجع
الواهب في الأرش ، لأنه حدث في عين مملوكة.
ونحن نقول هنا ـ بناء على حكمهم بصحة الفضولي ـ : ان وجه
الصحة في الموضعين واحد ، والتصرفات المتفرعة عليهما كذلك ، ولا فرق بينهما ، الا
ان رجوع الواهب ليس كاشفا عن فساد العقد السابق ، فلا يؤثر فيما تقدم ، وفيما نحن
فيه ـ لكشفه عن فساد ما وقع فغايته وجوب رجوع كل مستحق الى مستحقه.
وبالجملة فهو من قبيل البيع الذي ظهر فساده ، فيوجب هنا
ما يوجبه هناك.
وحيث كانت المسألة على تقدير كلامهم خالية عن النص
الشرعي ، فالقول بها والجزم بالحكم في فروعها أمر مشكل جدا.
واما على ما اخترناه فلا اشكال ، لقيام النصوص عموما
وخصوصا على العدم.
اما الأولى ، فلما علم كتابا وسنة من تحريم التصرف في
مال الغير من غير اذنه ، ولو اكتفى بالإجازة المتأخرة لجاز التصرف في أموال الناس
بجميع وجوه التصرف بناء على ذلك ، وهو قبيح عقلا.
واما الثانية ، فهو ما قدمناه من النصوص الواردة في
البيع بخصوصه ، الدالة
على المنع الا بعد رضاء المالك.
ولم أقف على من تعرض لهذه المسألة بما ذكرناه من هذه
التنبيهات ، ولا كشف عن نقابها بمثل هذه التحقيقات. ولله سبحانه المنة على ما
منحنا به من التوفيق ، ونسأله النجاة من كل مضيق ، والهداية إلى سواء الطريق في
أحكامه عز شأنه بحسن التقريب لها والتحقيق ، انه أكرم مسئول وأجود مأمول.
المسألة الرابعة
قد صرح الأصحاب بأنه إذا باع ملكه وملك غيره بغير اذن من
ذلك الغير ، فإنه يصح فيما ملكه ويبقى موقوفا على الإجازة فيما لا يملكه.
وهو مبنى على ما هو المشهور بينهم ، من صحة عقد الفضولي
كما تقدم ، فان لم يجز المالك صح فيما ملكه وبطل فيما لا يملك.
هذا إذا كان المشترى عالما ، ولو كان جاهلا بكون بعض
المبيع غير مملوك للبائع تخير ـ لتبعيض الصفقة ـ بين الفسخ والإمضاء. فإن فسخ رجع
كل ملك الى مالكه ، وان رضى صح البيع فيما يملكه. وان كان الأمر فيما لا يملك ما
ذكرناه أولا.
قالوا : ويقسط الثمن بان يقوما جميعا ثم يقوم أحدهما
ويرجع على البائع بحصته من الثمن. وكذا يقسط الثمن ايضا فيما لو صح البيع في
الجميع ، بأن أجاز المالك في صورة بيع ما يملكه وما لا يملكه.
وكذا لو باع ما يملك ـ بالبناء للمجهول ـ ومالا يملك ،
كالعبد مع الحر ، والشاة مع الخنزير ، والخل مع الخمر.
وتفصيل هذا الإجمال يقع في مواضع :
(الأول) : قد عرفت ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على الصحة
فيما يملكه والبطلان فيما لا يملك مع عدم الإجازة.
واحتمل بعض المحققين (1) من متأخري المتأخرين بطلان العقد
رأسها. قال : فإنه انما حصل التراضي والعقد على المجموع وقد بطل ، ولم يحصل
التراضي بالعقد على البعض.
وفيه ـ مع تسليمه ـ انما يتجه على تقدير الجهل ، لانه مع
العلم قادم على انه ربما لا يسلم له عين المملوك لعدم رضا المالك.
نعم ان تم ذلك فإنما يتم في صورة الجهل ، الا انه مجبور
بالخيار في هذه الحال.
والظاهر ان بناء القول المشهور ، على ان العقد على الكل
بمنزلة عقود متعددة على الاجزاء ، ولهذا لو خرج بعض المبيع مستحقا للغير لا يبطل
الا فيه.
وظاهر كلامهم في هذا المقام انه لا نص في هذه المسألة ،
وانما بنوا الكلام فيها على ما قربوه من التعليلات المستفادة من قواعد أحكام
البيوع ، مع انه قد تقدم في صحيحة محمد بن الحسن الصفار المذكورة في المقام الأول (2) من المسألة
المتقدمة ، الدالة على عدم جواز البيع فيما لا يملك ، وثبوت الشراء فيما يملك ،
وهي دالة على بطلان ما احتمله المحقق المتقدم ذكره ، من بطلان العقد رأسا ، حيث
انه عليهالسلام حكم بالصحة
فيما يملك والبطلان فيما لا يملك.
وفيها ايضا رد لما ذكره الأصحاب من صحة بيع الفضولي وانه
موقوف على الإجازة ـ كما تقدم ذكره في ذيل الرواية المذكورة.
ثم ان ظاهر الصحيحة المذكورة : ان الحكم في المسألة على
ما ذكره عليهالسلام أعم من ان يكون
المشترى عالما أو جاهلا.
__________________
(1) هو المحقق الأردبيلي ـ قدسسره ـ في شرح الإرشاد. منه رحمهالله.
(2) في صفحة : 386.
وحينئذ فما ذكروه من الخيار في صورة الجهل لتبعيض الصفقة
مشكل ، الا ان يقوم دليل من خارج على ثبوت هذا الخيار ، وهو وان كان مشهورا في
كلامهم ومتداولا على رؤوس أقلامهم ، الا انه لا يحضرني الآن دليل عليه من الاخبار
، فإن وجد فلا بد من تخصيص هذا الخبر به ، والا كان العمل بإطلاق الخبر المذكور
متجها ، وسيجيء تحقيق المسألة إنشاء الله تعالى عند ذكر أقسام الخيار.
(الثاني) : قد عرفت انه لا فرق في اعتبار تقسيط الثمن
بين ما إذا صح البيع في الجميع بالإجازة ، أو صح في المملوك خاصة إذا لم يجز ،
فإنه يقسط الثمن بنسبة المالين ، ليأخذ المالك المجيز حصته منه في الأول ، ويرجع
المشترى على البائع بقسط غير المملوك في الثاني.
وطريق التقسيط المذكور ـ على ما صرح به جمع منهم ـ : ان
يقوما جميعا بقيمة عادلة ، ثم يقوم أحدهما منفردا ، ثم ينسب قيمة المنفرد إلى قيمة
المجموع ، ويؤخذ من الثمن الذي وقع عليه العقد بتلك النسبة.
فإذا قوما جميعا بعشرين درهما مثلا ، وقوم أحدهما بعشرة
، فالنسبة بينهما النصف. فيصح البيع في المملوك بنصف ذلك الثمن الذي وقع عليه
العقد.
وكذا في صورة اجازة المالك ، فان لكل من المالك البائع ،
والمالك المجيز ، النصف.
وانما أخذ بنسبة القيمة ، ولم يخصه من الثمن قدر ما قوم
به ، لاحتمال زيادة النسبة عن قدر ما يقوم به ونقصانها ، فربما جمع في بعض الفروض
بين الثمن والمثمن على ذلك التقدير.
كما لو اشترى المجموع بعشرة ، وقوم أحدهما بعشرة ، فإنه
لو أخذ قدر ما قوم به المملوك من الثمن المذكور وهو العشرة المذكورة ، للزم الجمع
بين العوض والمعوض ، وذهب الثوب عن المالك البائع عن نفسه بغير عوض. وعلى هذا فقس
زيادة ونقصانا.
قالوا : وانما يعتبر قيمتهما مجتمعين إذا لم يكن
لاجتماعهما مدخل في زيادة قيمة كل واحد منفردا ، كعبدين وثوبين مثلا. اما لو
استلزم زيادة القيمة كمصراعي باب ، كل واحد لمالك فإنهما لا يقومان مجتمعين إذ لا
يستحق كل واحد حصته الا منفردا ، فلا يستحق ما يزيد باجتماعهما.
وطريق تقويمهما ـ على هذا ـ : ان يقوم كل واحد منهما
منفردا وينسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين ، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة.
فإذا قوم كل منهما منفردا بعشرة يؤخذ نصف الثمن ، لانه
نسبة أحدهما إلى المجموع. وهذا واضح في بيع ما يملكه البائع وما لا يملكه في عقد.
فلو فرض كونهما لمالك واحد ، كما لو باع الفضولي
المصراعين معا فأجاز مالكهما في أحدهما خاصة دون الأخر ، ففي تقديرهما مجتمعين
كالغاصب ، أو منفردين كما لو كانا لمالكين ، نظر.
ولم أقف في هذا المقام ـ بعد التتبع ـ على خبر يدل على
ما ذكروه من التقسيط ولو مجملا ، الا ان الظاهر ان ما ذكروه لا يخرج عن مقتضى
القواعد ، وان كان الاحتياط بالمصالحة أولى.
(الثالث) : قد ذكر الأصحاب في طريق التقسيط ـ فيما لو
باع حرا مع عبد أو خمرا مع خل أو شاة مع خنزير ـ : ان يقوم الحر لو كان عبدا
بالوصف الذي هو عليه ، من كبر وصغر وبياض وغيرها ، فيصح البيع في العبد ونحوه
بنسبة قيمته الى مجموع القيمتين ، ويؤخذ من الثمن بتلك النسبة ، كما تقدم.
واما الخمر والخنزير فيرجع فيهما الى قيمتهما عند
مستحلهما ، لا بمعنى قبول قولهم في القيمة ، لاشتراط عدالة المقوم ، بل يمكن فرضه
في تقويم عدلين قد أسلما عن كفر كان يشتمل على استحلالهما. أو اخبار جماعة كثيرة
منهم يؤمن من تواطئهم على الكذب ، ويحصل بقولهم الظن الغالب المقارب للعلم كما
احتمله في المسالك. وهو يشعر بان المعتبر عند الأصحاب انما هو الأول.
قال في المسالك : وبقي في المسألة إشكال من وجهين.
أحدهما : ان المشترى لهذين الشيئين ان كان جاهلا بما لا
يملك توجه ما ذكروه ، لقصده إلى شرائهما ، فإذا لم يتم له الأمران وزع الثمن ، اما
إذا كان عالما بفساد البيع فيما لا يملك ، أشكل صحة البيع مع جهله بما يوجبه
التقسيط ، لإفضائه إلى الجهل بثمن المبيع حال البيع. لأنه في قوة : بعتك العبد بما
يخصه من ألف إذا وزعت عليه وعلى شيء آخر وهو باطل. وقد نبه على ذلك العلامة في
التذكرة ، وقال : ان البطلان ليس ببعيد من الصواب.
الثاني : ان هذا الحكم ـ اعنى التوزيع ـ انما يتم ايضا
قبل اقباض المشترى الثمن ، وبعده مع جهله بالفساد ، واما مع علمه فيشكل التقسيط
ليرجع بقسطه ، لتسليطه البائع عليه أو إباحته له ، فيكون كما لو دفعه الى بائع مال
غيره كالغاصب ، وقد تقدم ان الأصحاب لا يجيزون الرجوع بالثمن ، اما مطلقا أو مع
تلفه ، فينبغي هنا مثله.
الا ان يقال : ذلك خرج بالإجماع ، والا فالدليل قائم على
خلافه ، فيقتصر على مورده. وهو حسن. انتهى.
أقول : وهذه المسألة أيضا لم أقف فيها على نص ، الا ان
بعض أحكامها جار على مقتضى القواعد الشرعية.
المسألة الخامسة
كما انه يصح العقد من المالك ، كذا يصح من القائم مقامه.
وهم ستة ـ على ما ذكره الأصحاب ـ وسبعة ـ على ما يستفاد
من الاخبار ـ وبه صرحوا أيضا في غير هذا الموضع : ـ
الأب ، والجد له ـ لا الام ـ والوصي من أحدهما ـ على من
لهما الولاية عليه ـ والوكيل من المالك ، أو ممن له الولاية ، والحاكم الشرعي حيث
فقد الأربعة المتقدمة ، وأمينه ، وهو المنصوب من قبله لذلك ، أو لما هو أعم ،
وعدول المؤمنين ، مع تعذر
الحاكم ، أو تعذر الوصول اليه.
ولم يذكره الأصحاب هنا مع تصريحهم بجواز تولية بعض
الحسبيات التي هي وظيفة الحاكم لعدول المؤمنين مع عدمه ، أو عدم إمكان الوصول
اليه.
قالوا : ويحكم الحاكم المقاص ، وهو من يكون له مال على
غيره فيجحده أو لا يدفعه مع وجوبه.
قالوا : ويجوز للجميع تولى طرفي العقد.
واستثنى بعضهم الوكيل والمقاص ، فلا يجوز لهما تولي
طرفيه ، بل يبيعان من الغير.
* * *
وتحقيق الكلام في هذه المسألة يقع في مواضع : ـ (الأول)
: لا خلاف في ثبوت الولاية للأب والجد له على الطفل ، الى ان يبلغ رشيدا اى غير
سفيه ولا مجنون ، فلو عرض له الجنون والسفه قبل البلوغ واستمر به الى بعد البلوغ ،
استمرت الولاية عليه.
وظاهره في المفاتيح في كتاب النكاح : انه لا خلاف فيه ،
حيث قال : ثبت الولاية في النكاح للأب والجد وان علا ، على الصغير ، للنصوص
المستفيضة ، وعلى السفيه والمجنون ، ذكورا كانوا أو اناثا ، مع اتصال السفه
والجنون بالصغر ، بلا خلاف انتهى.
مع انه قال ـ بعد ذلك في الباب الخامس في التصرف
بالنيابة ، بعد ان صرح بتخصيص ما ذكرنا من التفصيل بالجنون ـ : قيل وكذا حكم
الولاية في مال من بلغ سفيها ، استصحابا لولاية الأب والجد ، اما من تجدد سفهه بعد
ان بلغ رشيدا فولايته للحاكم لا غير.
وقيل : بل الولاية في السفيه مطلقا للحاكم لا غير ، وهو
أشهر. انتهى.
ولا يخفى ما بين الكلامين من المدافعة ، فإن ظاهر الأول
: نفي الخلاف عن
عن ثبوت ولاية الأب والجد على من بلغ
سفيها ، استصحابا للولاية السابقة فتستمر مع استمرار السفه ، وظاهر الثاني ان هذا
القول خلاف الأشهر ، وان الأشهر ثبوت الولاية للحاكم على السفيه مطلقا ، تجدد سفهه
بعد البلوغ أو استمر الى بعد البلوغ (1).
والذي يفهم من الاخبار. كما ستمر بك إنشاء الله تعالى ـ هو
كون الولاية للأب والجد كما ذكره أولا.
والجواب عن المدافعة المذكورة بالفرق بين النكاح والمال
، لم أقف على قائل به.
والمفهوم من كلام الأصحاب ـ في كتاب النكاح ـ : ان هذا
الإجماع انما هو في الجنون خاصة ، بمعنى ان من بلغ مجنونا ، فان ولايته للأب والجد
بلا خلاف ، واما من بلغ سفيها ففيه خلاف ، فقيل بكونها لهما ، وقيل بكونها للحاكم.
هذا.
واما لو بلغ عاقلا ، ثم عرض له الجنون أو السفه ، فالذي
وقفت عليه في كلام جملة منهم : ان الولاية هنا للحاكم.
قال في المسالك ـ بعد قول المصنف «وتنقطع ولايتهما بثبوت
البلوغ والرشد» ـ ما لفظه : ويشترط في ثبوت ولايتهما على غير الرشيد استمرار سفهه
قبل البلوغ ، فيستصحب حكم الولاية لهما عليه من الصغر ، فلو بلغ رشيدا ثم زال رشده
لم تعد ولايتهما ، بل تكون للحاكم. وكذا القول في المجنون. انتهى.
وظاهره في المفاتيح ـ في كتاب النكاح ـ : ان في المسألة
قولا برجوع الولاية إلى الأب والجد ايضا.
__________________
(1) قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : وكذا من حصل له
جنون أو سفه بعد البلوغ ، فإن أمره ايضا الى الحاكم ، إذ قد انقطعت ولايتهم
بالبلوغ والرشد ، ولا دليل على العود ، فهم كالمعدوم ، فيكون للحاكم كما في غيره.
وقال في الكفاية : والأب والجد يبقى تصرفهما ما دام الولد غير بالغ وكذا إذا بلغ
واستمر عدم رشده. انتهى. ولم يشر أحد منهم الى خلاف هنا غير ما عرفت من عبارة
المفاتيح. منه رحمهالله.
قال : وان طرأ الوصفان بعد البلوغ والرشد ، ففي ثبوت
ولايتهما قولان.
ولم أقف فيما حضرني من كتب الأصحاب على من نقل الخلاف
هنا غيره.
ثم ان ما يدل على الولاية للأب والجد على من بلغ مجنونا
أو سفيها ، لا الحاكم بالنسبة إلى السفيه ، كما نسبه في المفاتيح إلى الأشهر ـ أولا
ـ أصالة بقائها ، حيث انها قبل البلوغ ثابتة لهما بالاتفاق ، فيستصحب الى ان يثبت
المزيل ، والبلوغ على الكيفية المذكورة في حكم العدم ، فإنهم كالصغير في الحجر
والمنع من التصرفات.
وثانيا : قوله عليهالسلام
في رواية هشام بن سالم : وان احتلم ولم يؤنس منه رشده ،
وكان سفيها أو ضعيفا ، فليمسك عنه وليه ماله (1).
وروى في الفقيه عن الصادق عليهالسلام : انه سئل عن
قول الله تعالى «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوالَهُمْ» قال : إيناس
الرشد حفظ المال (2).
ونقل في مجمع البيان عن الباقر ـ عليهالسلام ـ تفسير إيناس
الرشد بالعقل وإصلاح المال.
وحينئذ فالموجب لدفع ماله اليه من الولي هو البلوغ مع
الرشد ، فلو لم يحصل فالولاية ثابتة ومستمرة عليه.
وبه يضعف القول بكون الولاية للحاكم في الصورة المتقدم
ذكرها ، وان كان هو الأشهر ، كما في المفاتيح. والعجب انه لم يتنبه لذلك مع ظهور
الأخبار المذكورة فيه.
(الثاني) : قد عرفت مما قدمنا ، ان الولاية بعد الأب
والجد وكيلهما أو وصيهما للحاكم ، وهو مما لا خلاف فيه الا من ابن الجنيد ، فإنه
جعلها للام الرشيدة بعد الأب ، وهو شاذ متروك عند الأصحاب ، بل نقل عنه في المختلف
ثبوت الولاية للجد من قبلها في النكاح.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 268 حديث : 2.
(2) الوسائل ج 13 ص 143 حديث : 4.
بقي الكلام في تعارض ولايتي الأب والجد لو اختلفا أو
تصرفا دفعة ، هل يقدم الأب على الجد؟
ثم في ترتيب أجداد الأب أو اشتراكهم مع وجود الأعلى
والأدنى أقوال ، نقل ذلك في المفاتيح.
والذي وقفت عليه في كلام من حضرني كلامه هو تقديم الأب
على الجد الأدنى من الجدود ، والأدنى على الأعلى.
والظاهر انه المشهور ، الا ان بعض الاخبار دل على تقديم
الجد على الأب في النكاح مع التعارض.
قال في المسالك ـ في كتاب الوصايا ، بعد قول المصنف «وكذا
لو مات انسان ولا وصى له كان للحاكم النظر في تركته» ـ ما صورته : اعلم ان الأمور
المفتقرة إلى الولاية اما ان تكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا ، فان كان
الأول فالولاية فيهم لأبيه ثم لجده لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد ، على ترتيب
الولاية الأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، فإن عدم الجميع فوصى الميت ، ثم وصى الجد
، وهكذا. فان عدم الجميع فالحاكم. انتهى.
وعلى هذا النهج كلام غيره من غير نقل خلاف في المقام الا
انه قال في المسالك ـ في كتاب الحجر ايضا ـ : لا خلاف في كون الولاية عليهما للأب
والجد له وان علا ، وانما الكلام في انهما إذا تعارضا أو وقع العقد دفعة فهل يقع
باطلا ، لاستحالة الترجيح ، أو تقديم عقد الجد أو عقد الأب.
الذي اختاره في التذكرة في هذا الباب هو الثاني ،
والكلام في المال. واما في التزويج فسيأتي في كتاب الوصايا من التذكرة ، قال : ان
ولاية الأب مقدمة على ولاية الجد ، وولاية الجد مقدمة على ولاية الوصي للأب ،
والوصي للأب والجد اولى من الحاكم (1).
__________________
(1) قال في المختلف : المشهور عند علمائنا اجمع إلا ابن الجنيد
ان الأم والجد
أقول : والمسألة خالية من النص ، فمن أجل ذلك حصل التردد
فيها ، والاحتمال في تقديم كل من الجد والأب على الأخر.
ثم انه ينبغي ان يعلم : ان ولاية وصي الأب لا تنفذ الا
مع فقد الجد وان علا ، لأن الولاية له بعد الأب أصالة ، فلا يجوز ان يعين وصيا على
أطفاله مع وجود أحد آبائه وان علا ، لان ولايته ثابتة بأصل الشرع ، فليس للأب ان
ينقلها الى غيره ، ولا جعل شريك معه في ذلك وبذلك صرح الأصحاب.
(الثالث) : المشهور بين
الأصحاب انه مع فقد الإمام في موضع تكون الولاية على الأطفال راجعة إليه ، فلعدول
المؤمنين النظر في ذلك.
وعن ابن إدريس المنع ، قال : لان ذلك موقوف على الاذن
الشرعي وهو منتف.
والأول مختار الشيخ والأكثر ، لما فيه من المعاونة على
البر والتقوى المأمور بهما ، ولقوله عزوجل «وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» (1) خرج منه ما
اجمع على عدم ولايتهم فيه فيبقى الباقي تحت العموم.
ويمكن أيضا استفادة ذلك من عموم دلائل الأمر بالمعروف ،
وهذا كاف في رد ما ادعاه من عدم الإذن الشرعي.
ويؤيده ـ أيضا ـ تطرق الضرر الى مال الطفل بعدم القيم
الحافظ له. والمعارضة بطرو الضرر بالتصرف فيه مدفوعة باشتراط العدالة في الولي
المانعة من اقدامه على ما يخالف المصلحة للطفل.
__________________
لها لا ولاية لهما في النكاح. وقال ابن جنيد : فاما الصبية غير
البالغة فإذا عقد عليها أبوها فبلغت لم يكن لها اختيار ، وليس ذلك لغير الأب
وآبائه في حياته. والام وأبوها يقومان مقام الأب وآبائه في ذلك ، لان رسول الله صلىاللهعليهوآله أمر نعيم بن النجاح أن يستأمر أم بنته
في أمرها. وقال وأمروهن في بناتهن. انتهى. ولا ريب ان حديثه عامي ، وأخبارنا ترده
كما سيأتي تحقيق المسألة في محلها. منه رحمهالله.
(1) سورة براءة : 71.
ويؤيد ذلك بأوضح تأييد ما قدمناه في المسألة السابعة في
أحكام اليتامى وأموالهم من المقدمة الرابعة ، من صحيح محمد بن إسماعيل بن بزيع ،
وصحيح ابن رئاب (1) ومثلهما في
ذلك. بل أوضح من ذلك
رواية سماعة ، قال : سألته عن رجل مات وله بنون وبنات
صغار وكبار من غير وصية ، وله خدم ومماليك وعقار ، كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك
الميراث؟ قال : ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك كله فلا بأس (2).
وعن إسماعيل بن سعد ، قال : سألت الرضا عليهالسلام عن رجل مات
بغير وصية وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا وترك جواري ومماليك ، هل يستقيم ان
تباع الجواري؟ قال : نعم (3).
وإطلاق هذا الخبر محمول على الاخبار المتقدمة الصريحة في
التقييد بالعدل من المؤمنين.
وبذلك يظهر لك زيادة ضعف ما ذهب اليه ابن إدريس ، من
قوله بالمنع لمجرد خيال تخيله.
(الرابع) : لو كان له على غيره مال فجحده أو تعذر
استيفاؤه منه ، فإنه يجوز له الاستقلال بأخذ جنس ماله ان وجده ، والا فمن غيره
بالقيمة ، مخيرا بين بيعه من نفسه ومن غيره ولا يشترط اذن الحاكم وان أمكن بوجوده
ووجود البينة التي يثبت بها حقه ، على الأشهر الأظهر ، الا ان يحلف الجاحد أو يكون
وديعة. على خلاف في ذلك.
والأصل في ذلك الاخبار ، بعد ظاهر قوله عزوجل «فَمَنِ
اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (4).
__________________
(1) مرتا في صفحة : 323.
(2) الوسائل ج 13 ص 474 حديث : 1.
(3) المصدر ص 475 حديث : 3.
(4) سورة البقرة : 194.
ومنها : ما رواه الشيخ في الصحيح عن داود بن رزين قال :
قلت لأبي الحسن موسى عليهالسلام : انى أخالط
السلطان فتكون عندي الجارية ، فيأخذونها ، والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها ، ثم
يقع لهم عندي المال فلي ان آخذه؟ فقال : خذ مثل ذلك ولا تزد عليه (1).
وعن ابى بكر الأرمني ، قال : كتبت الى العبد الصالح عليهالسلام جعلت فداك ،
ان كان لي على رجل دراهم فجحدني فوقعت له عندي دراهم فاقبض من تحت يدي مالي عليه؟
فان استحلفني حلفت ان ليس له شيء على؟ قال : نعم ، فاقبض من تحت يدك ، وان
استحلفك فاحلف له انه ليس له عليك شيء (2).
وعن على بن مهزيار ، قال أخبرني إسحاق بن إبراهيم ، ان
موسى بن عبد الملك كتب الى ابى جعفر عليهالسلام يسأله عن رجل
دفع اليه مالا ليصرفه في بعض وجوه البر ، فلم يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي
أمره به ، وقد كان له عليه بقدر هذا المال ، فسأل هل يجوز لي ان أقبض مالي أو أرده
عليه؟ فكتب ـ عليهالسلام ـ اقبض مالك
مما في يدك (3).
وعن على بن سليمان قال : كتب اليه : رجل غصب رجلا مالا
أو جارية ثم وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل ما خانه أو غصبه ، أيحل له حبسه
عليه أم لا؟ فكتب اليه : نعم ، يحل له ذلك ان كان بقدر حقه ، وان كان أكثر فيأخذ
منه ما كان له عليه ويسلم الباقي إليه إنشاء الله (4).
أقول : الظاهر ان على بن سليمان هو الرازي ، والمكتوب
اليه صاحب الأمر ـ عليهالسلام. وفيه دلالة
على جواز المقاصة من الوديعة.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 157 حديث : 7.
(2) الوسائل ج 16 ص 214 حديث : 1 باب : 47.
(3) الوسائل ج 12 ص 204 حديث : 8.
(4) الوسائل ج 12 ص 204 حديث : 9.
وعن جميل بن دراج قال : سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن الرجل يكون
له على الرجل الدين فيجحده فيظفر من ماله بقدر الذي جحده ، أيأخذه وان لم يعلم
الجاحد بذلك؟ قال : نعم (1).
وروى المشايخ الثلاثة في الصحيح في بعضها ، عن ابى بكر
الحضرمي ، وهو ممدوح ، عن الصادق عليهالسلام قال : قلت له
: رجل كان له على رجل مال فجحده إياه وذهب به ، ثم صار بعد ذلك للرجل الذي ذهب
بماله مال قبله ، أيأخذه مكان ماله الذي ذهب به منه ذلك الرجل؟ قال : نعم ، ولكن
لهذا كلام ، يقول : اللهم انى آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني ، وانى لم
آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلما (2). الى غير ذلك من الاخبار.
وقيل : لو كان لصاحب الحق بينة يثبت بها الحق عند الحاكم
لو أقامها وأمكن الوصول الى حقه بذلك لم تجز له المقاصة مطلقا ، لان التسلط على
مال الغير على خلاف الأصل ، فيقتصر منه على موضع الضرورة ، وهي هنا منتفية ، ولان الممتنع
يتولى القضاء عنه الحاكم.
وأنت خبير بما في هذه الوجوه في مقابلة النصوص الصريحة.
وهل هو الا اجتهاد في مقابلة النص.
* * *
وظاهر الأصحاب ، وعليه دل أكثر النصوص ، انه لا تجوز
المقاصة فيما حلف عليه.
ومنها : ما رواه في الكافي والفقيه عن خضر بن عمرو
النخعي ، عن الصادق عليهالسلام في الرجل يكون
له على الرجل مال فيجحده ، قال : ان استحلفه فليس له ان يأخذ منه بعد اليمين شيئا
، وان احتسبه عند الله تعالى فليس له ان يأخذ شيئا ، وان تركه ولم يستحلفه فهو
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 205 حديث : 10.
(2) الوسائل ج 12 ص 204 حديث : 5.
على حقه (1).
أقول : لعل معنى احتسابه عند الله سبحانه هبته له أو قصد
التصدق به أو إبراء ذمته ، فان جميع ذلك احتساب عند الله.
وما رواه في الكافي والتهذيب عن خضر النخعي ، عن الصادق عليهالسلام في الرجل يكون
له على الرجل مال فيجحده ، قال : فان استحلفه فليس له ان يأخذ شيئا ، فإن تركه ولم
يستحلفه فهو على حقه (2).
وعن إبراهيم بن عبد الحميد عن بعض أصحابنا في الرجل يكون
له على الرجل المال فيجحده إياه فيحلف له يمين صبر ان ليس له عليه شيء؟ قال : لا
ليس له ان يطلب منه ، وكذلك ان احتسبه عند الله فليس له ان يطلب منه (3).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن ابن ابى يعفور ، عن
الصادق عليهالسلام قال : إذا رضى
صاحب الحق بيمين المنكر لحقه فاستحلفه فحلف ان لاحق له قبله ذهبت اليمين بحق
المدعى فلا دعوى له. قلت له : وان كانت عليه بينة عادلة؟ قال : نعم ، وان أقام بعد
ان استحلفه بالله خمسين قسامة ، ما كان له حق وكانت اليمين قد أبطلت كل ما ادعاه
قبله مما قد استحلفه عليه (4).
وما رواه في الفقيه مرسلا ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : من حلف
لكم بالله فصدقوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ذهبت اليمين بدعوى المدعى ولا دعوى
له (5).
وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح في بعضها ، عن
سليمان بن خالد ، قال :
__________________
(1) الوسائل ج 16 ص 215 حديث : 1.
(2) نفس المصدر.
(3) نفس المصدر حديث : 2.
(4) الوسائل ج 18 ص 179 حديث : 1 باب : 9.
(5) نفس المصدر حديث : 2.
سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل وقع لي
عنده مال فكابرني عليه وحلف ، ثم وقع له عندي مال فآخذه لمكان مالي الذي أخذه
وجحده وحلف عليه كما صنع؟ فقال : ان خانك فلا تخنه ولا تدخل فيما عتبة عليه (1).
وما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن وضاح ، قال
: كان بيني وبين رجل من اليهود معاملة فخانني بألف درهم ، فقدمته إلى الوالي
فأحلفته فحلف ، وقد علمت انه حلف يمينا فاجرة فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم
كثيرة ، فأردت ان اقتص الالف درهم التي كانت لي عنده وحلف عليها ، فكتبت الى ابى
الحسن عليهالسلام فأخبرته انى
قد أحلفته فحلف وقد وقع له عندي مال ، فإن أمرتني أن آخذ منه الالف درهم التي حلف
عليها فعلت. فكتب عليهالسلام لا تأخذ منه
شيئا ان كان ظلمك فلا تظلمه. ولولا انك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت
يدك ، ولكنك رضيت بيمينه ، وقد ذهبت اليمين بما فيها. فلم آخذ منه شيئا ، وانتهيت
الى كتاب ابى الحسن عليهالسلام (2).
* * *
واما ما رواه الشيخ في الصحيح الى ابى بكر الحضرمي وهو
ممدوح عندهم ، قال : قلت له : رجل لي عليه دراهم فجحدني وحلف عليها ، أيجوز لي ـ ان
وقع له قبلي دراهم ـ ان آخذ منه بقدر حقي؟ قال : فقال : نعم ، ولكن لهذا كلام. قلت
: وما هو؟ قال : تقول اللهم لم آخذه ظلما ولا خيانة ، وانما أخذته مكان مالي الذي
أخذه منى لم أزد عليه شيئا (3). فحمله الصدوق
والشيخ على انه حلف من غير ان يستحلفه صاحب الحق ، وهو جيد. هذا.
* * *
واما الوديعة فالمشهور ايضا انه لا يجوز المقاصة منها
لوجوب أداء الأمانات ،
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 204 حديث : 7.
(2) الوسائل ج 18 ص 180 حديث : 2.
(3) الوسائل ج 12 ص 203 حديث : 4.
ولجملة من الاخبار.
منها : ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن معاوية بن
عمار ، قال : قلت للصادق عليهالسلام : الرجل يكون
لي عليه حق فيجحدنيه ثم يستودعني مالا ، إلى أن آخذ مالي عنده؟ قال : لا ، هذه
خيانة (1).
وما رواه في التهذيب عن ابن ابى عمرو ، عن ابن أخي
الفضيل بن يسار ، قال : كنت عند الصادق عليهالسلام ودخلت امرأة
وكنت أقرب القوم إليها ، فقالت لي : اسأله ، فقلت : عما ذا؟ فقالت : ان ابني مات
وترك مالا ، كان في يد أخي فأتلفه ، ثم أفاد مالا فأودعنيه ، فلي أن آخذ بقدر ما
أتلف من شيء؟ فأخبرته بذلك ، فقال : لا ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أد الأمانة
الى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك (2).
وما رواه في الفقيه بإسناده عن زيد الشحام ، قال : قال
لي أبو عبد الله عليهالسلام : من ائتمنك
بأمانة فأدها اليه ، ومن خانك فلا تخنه (3).
والشيخ حمل هذه الاخبار على الكراهة ، جمعا بينها وبين
ما دل على الجواز ، مثل ما قدمناه من خبر على بن سليمان ، المتضمن لكون المال وديعة
، مع انه عليهالسلام جوز له
المقاصة منه.
ونحوه ما رواه في التهذيب في الصحيح عن ابى العباس
البقباق ، ان شهابا ما رآه في رجل ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك الف درهم ،
قال أبو العباس فقلت له : خذها مكان الألف الذي أخذ منك ، فأبى شهاب. قال : فدخل
شهاب على ابى عبد الله عليهالسلام فذكر له ذلك ،
فقال : اما انا فأحب أن تأخذ وتحلف (4).
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 205 حديث : 11.
(2) المصدر ص 202 حديث : 2.
(3) المصدر ص 205 حديث : 12.
(4) المصدر ص 202 حديث : 2. وقوله : «ماراه» من المراء
والمماراة بمعنى الجدل واللجاج.
قال في الوافي ـ بعد نقل هذا الخبر ـ وفيه. إشكالان :
أحدهما : جواز الأخذ من الوديعة ، مع انه خيانة كما مر. والثاني : محبته عليهالسلام ذلك. ويمكن
التفصي عنهما بحمله على ما إذا كان الغاصب المودع هو العامل ، فان ماله اما فيء
للمسلمين أو هو للإمام ، وللإمام الاذن في أخذه ، فان لم يكن كله للإمام فلا أقل
من الخمس. ويشعر بذلك عدم ذكر الغاصب ، والإتيان بصيغة المعلوم في الاستيذان ،
كأنه كان معلوما بينهما ، وكان ممن يتقى منه. انتهى.
* * *
أقول : ملخص الكلام في المقام ، ان هذه الاخبار قد خرجت
على أقسام ثلاثة :
(الأول) : من وقع بيده مال لرجل فجحده حقه أو امتنع من
إعطائه.
ولا خلاف ولا إشكال في جواز مقاصته. وعليه تدل الأخبار
الأولة.
(الثاني) : من جحد وحلف.
والظاهر ـ ايضا ـ انه لا إشكال في انه ان استحلفه المدعى
فلا تجوز المقاصة كما تدل عليه الاخبار الثانية. والخبر المنافي ظاهر ـ كما عرفت ـ
في انه محمول على حلف من عليه المال بدون استحلاف صاحب المال ، وهو كمن لم يحلف إذ
لا اثر لهذه اليمين اتفاقا ، بل لو أحلفه الحاكم بدون طلب صاحب الدعوى ، فإنها
لاغية.
(الثالث) : الوديعة.
وقد عرفت اختلاف الاخبار فيها.
وجمع الشيخ بينها بحمل اخبار المنع من المقاصة على
الكراهة.
وما ذكره صاحب الوافي من الحمل على كون ذلك الغاصب
المنكر عاملا ، فالظاهر انه بعيد عن سياق الخبرين المذكورين الدالين على ذلك.
ومن المحتمل عندي قريبا في المقام : هو الجمع بين
الاخبار المشار إليها بالإتيان بالدعاء المذكور وعدمه ، وان التصرف انما يكون
خيانة مع عدمه ، كما يشير اليه قوله عليهالسلام
في رواية الحضرمي الاولى «وانى لم آخذ الذي أخذته خيانة
ولا ظلما».
وكذا في الرواية الثانية.
والاولى وان كانت مطلقة حيث ذكرناها في عداد الروايات
الأولى ، الا ان الظاهر حملها على الوديعة ، فإن جواز المقاصة في غير الوديعة صحيح
شرعي ، لا يتوقف على هذا الدعاء.
ونحوها الرواية الثانية ـ أيضا ـ بحملها على ذلك ،
والحلف فيها ـ قد عرفت ـ انه بحكم العدم.
وهذا الدعاء يشير الى ما دلت عليه روايات المنع من
المقاصة من الوديعة ، من كون ذلك خيانة ، فهذا الدعاء في هذا المقام كأنه بمنزلة
الصيغ الشرعية والعقود الناقلة في المعاملات ، فيحتاج اليه لانتقال المال اليه
مكان ماله عليه ، كما يحتاج الى العقود الناقلة في المعاملات.
وقال في الفقيه ـ بعد ذكر خبر الحضرمي الأول ـ وفي خبر
آخر ليونس بن عبد الرحمن عن الحضرمي مثله الا انه قال : يقول : اللهم انى لم آخذ
ما أخذت خيانة ولا ظلما. قال : وفي خبر آخر : ان استحلفه على ما أخذ فجائز له ان
يحلف ، إذا قال هذه الكلمة.
وبالجملة فإن المقاصة في الصورة الأولى مما لا خلاف فيه
ولا إشكال في جوازها ـ كما دلت عليه اخبارها ـ من غير توقف على شيء بالكلية. وفي
الصورة الثانية لا اشكال ولا خلاف في عدمها. وانما محل الاشكال والخلاف في
الثالثة. والمستفاد من هذه الاخبار هو انه مع قول هذا الدعاء والإتيان به يجوز
المقاصة والا فلا. والله العالم.
* * *
(الخامس) قد صرح جمع من الأصحاب منهم في المسالك والروضة
والدروس :
بأنه يجوز لجميع من تقدم ذكره ممن له الولاية حتى المقاص
، تولى طرفي العقد ، بأن يبيع من نفسه وممن له الولاية عليه.
واستثنى بعضهم الوكل والمقاص من الحكم المذكور ، فمنع من
توليهما طرفي العقد.
واقتصر آخر على استثناء الوكيل خاصة ، على تفصيل فيه.
وممن ظاهره القول بالعموم هنا المحقق الأردبيلي في شرح
الإرشاد.
ولا فرق في ذلك في عقد البيع وغيره من العقود حتى النكاح
ايضا.
وتفصيل كلامهم في التوكيل ، هو انه إذا اذن الموكل
لوكيله في بيع ماله من نفسه ، أو وكلته المرأة على ان يعقد بها على نفسه ، فهل
يجوز له تولى طرفي العقد أم لا؟ المشهور بين أصحابنا هو الأول ، واليه مال في
المسالك ، قال : لوجود المقتضى ـ وهو الاذن المذكور ـ وانتفاء المانع. إذ ليس الا
كونه وكيلا ، وذلك لا يصلح للمانعية.
وعن الشيخ وجماعة : المنع ، للتهمة وانه يصير موجبا قابلا.
ورد بأن التهمة مع الإذن ممنوعة ، ومنع جواز تولى الطرفين على إطلاقه ممنوع. فإنه
جائز عندنا في الأب والجد ، كما قرر في محله.
وظاهر كلامهم ان ذلك جار في جميع العقود ، من بيع ونكاح
، مع انه قد روى عمار في الموثق ، قال : سألت أبا الحسن عليهالسلام عن امرأة تكون
في أهل بيت ، فتكره ان يعلم بها أهل بيتها ، أيحل لها ان توكل رجلا يريد ان
يتزوجها ، تقول له : قد وكلتك ، فاشهد على تزويجي. قال : لا. قلت : جعلت فداك ،
وان كانت أيما؟ قال : وان كانت أيما. قلت له : فان وكلت غيره فيزوجها؟ قال : نعم (1).
وهذه الرواية ـ كما ترى ـ صريحة في المنع من ذلك مع
الاذن صريحا بالنسبة إلى النكاح ، وليس في هذه الرواية ما يمكن استناد المنع اليه
، الا تولى طرفي العقد. واما غير النكاح من العقود فلم أقف فيه على خبر ، وما
عللوا به من الجواز لا ينهض
__________________
(1) الوسائل ج 14 ص 217 حديث : 4.
دليلا على إثبات حكم شرعي مخالف للأصل
، والأصل عصمة الفروج والأموال حتى يقوم دليل شرعي واضح على زوالها ، والأحوط
المنع ، كما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه.
هذا مع الاذن ، اما مع الإطلاق فهل يجوز البيع من نفسه
أم لا؟ ظاهر جملة من الأصحاب ـ وكأنه المشهور ـ المنع. واليه مال في المسالك ، لان
المفهوم من الاستنابة هو البيع على غيره ، فلا يتناوله الإطلاق. وللاخبار. وقيل
بالجواز على كراهة.
وقد مر شرح الكلام في هذا المقام في المقدمة الثانية في
آداب التجارة في مسألة «ما لو قال انسان للتاجر اشتر لي ، فهل يجوز ان يعطيه مما
عنده أم لا» ونقلنا القولين في المسألة والاخبار الدالة على المنع (1) وبها تظهر قوة
القول المشهور وصحته.
وما ذكرنا يعلم ان ليس الخلاف في هذه المسألة من جهة
اعتبار تولى الواحد طرفي العقد وعدمه
اما أولا ، فلان جماعة ممن قال بالجواز في الصورة الأولى
، منعوا في الصورة الثانية.
واما ثانيا ، فلانه يمكن المغايرة بالتوكيل في القبول
والإيجاب ، مع انه لا يجدى نفعا في مقام المنع ، كما لو وكل ذلك الوكيل أعم من ان
يكون مأذونا له أو مطلقا في الإيجاب والقبول ، فان ظاهر النصوص المشار إليها العدم
، لأن النهي فيها انما وقع عن إعطائه من الجنس الذي عنده ، وأخذه من الجنس الذي
وكل في بيعه ، أعم من ان يكون هو الموجب أو القابل ، أو يجعل غيره وكيلا في ذلك.
واما ثالثا ، فان المانع انما استند الى الاخبار ، مضافة
الى ما قدمنا نقله من عدم تناول الإطلاق لذلك ، لا الى عدم جواز تولى طرفي العقد.
__________________
(1) راجع : الصفحة : 32 ـ 36.
واما رابعا ، فلان الأخبار المشتملة على المنع قد علل
ذلك في بعضها بالتهمة ، فلو لم يخف التهمة جاز الشراء من نفسه أو لنفسه. وفي بعضها
ما يشير الى عدم دخول جواز البيع على نفسه تحت الإطلاق كما تقدم ذكر جميع ذلك في
الموضع المشار اليه.
قال في المسالك ـ في شرح قول المصنف في كتاب الوكالة : «إذا
اذن الموكل لوكيله في بيع ماله من نفسه فباع جاز ، وفيه تردد ، وكذا في النكاح» ـ ما
لفظه : والخلاف في المسألة في موضعين ، وينحل إلى ثلاثة :
أحدها : ان الوكيل هل يدخل في إطلاق الإذن أم لا. الثاني
: مع التصريح بالاذن هل له ان يتولاه لنفسه ، وان وكل في القبول أم لا. الثالث :
على القول بالجواز مع التوكيل ، هل يصح تولى الطرفين أم لا. والشيخ ـ عليه الرحمة
ـ على المنع في الثلاثة. والعلامة في المختلف على الجواز في الثلاثة. وفي غيره في
الأخيرين. والمصنف يجوز الأخير ويمنع الأول. وقد تردد في الوسط. انتهى.
* * *
ولو كان المتولي لطرفي العقد وكيلا فيهما بأن وكله شخص
على الشراء ، وآخر على البيع. فهل له ان يتولى العقد نيابة عنهما؟ المشهور ذلك.
قال في الروضة : وموضع الخلاف مع عدم الإذن توليه لنفسه
، واما لغيره بان يكون وكيلا لهما فلا إشكال في الصحة ، الا على القول بمنع كونه
موجبا قابلا. انتهى.
وهذا الكلام في الوصي أيضا جار عندهم ، فإنه ان كان
توليه الطرفين لنفسه فهو محل الخلاف المتقدم ، وان كان لغيره فالمشهور الجواز ،
الا عند من يمنع من كونه قابلا موجبا.
إذا عرفت ذلك فاعلم : ان جملة ما استدلوا به على صحة
تولى الواحد طرفي
العقد في جملة المواضع المتقدمة ، هو
عموم أدلة البيع ، مثل قوله سبحانه «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» ، ولانه عقد
صدر من أهله في محله مع الشرائط فيصح ، والأصل عدم اشتراط شرط آخر ، وعدم اشتراط
التعدد وعدم مانعية كونه من شخص واحد وللاتفاق على الجواز في الأب والجد ، وهو
صريح في عدم مانعية الوحدة ، وعدم اشتراط التعدد.
وأنت خبير بما في هذه الأدلة ، من إمكان تعدد المناقشة ،
فإن للخصم ان يتمسك بأن الأصل عصمة مال الغير حتى يثبت الناقل له شرعا ، وعصمة
الفرج حتى يثبت المبيح. والمعهود الذي جرى عليهم الأئمة ـ عليهمالسلام ـ وأصحابهم ،
وجملة السلف والخلف ، في العقود الناقلة في بيع كان ونحوه أو نكاح ، انما هو تعدد
المتولي للإيجاب والقبول ، وما ذكر هنا من جواز تولى الواحد انما وقع فرضا في
المسألة ولم ينقل وقوعه في عصر من الأعصار. وبذلك يظهر لك الجواب عن الاستدلال
بإطلاق الآيات المتقدمة ، حيث انهم قرروا في غير مقام ان الإطلاق في الاخبار انما
ينصرف الى الافراد المتكررة الشائعة ، دون الفروض النادرة التي ربما لا توجد ،
والأمر فيما نحن فيه كذلك. فالواجب حملها على ما هو المعهود المعلوم الذي جرى عليه
التكليف في هذه المدة المتطاولة ، وهو وقوع العقد من موجب وقابل ، ويخرج موثقة
عمار المتقدمة (1) شاهدا على ما
ذكرنا ، فان ظاهرها : ان وجه المنع مع اذنها ورضاها انما هو من حيث لزوم تولى طرفي
العقد وكونه موجبا قابلا ، وما استندوا اليه من الاتفاق على ذلك في الأب والجد ،
ففيه ـ مع الإغماض عن تطرق المناقشة إليه أيضا بعدم الدليل وعدم الاعتماد في
الأحكام على مثل هذا الإجماع ان تم وما عداه محل الخلاف في المقام كما عرفت ،
وقولهم انه عقد صدر من أهله في محله : ـ انها مصادرة محضة ، فإن الخصم لا يسلم ذلك
، بل هو محل النزاع والبحث ،
__________________
(1) مرت في الصفحة : 417.
كما عرفت.
وبالجملة فالمسألة محل اشكال.
* * *
(السادس) : المشهور بين
الأصحاب : انه يجوز للوصي أن يقوم على نفسه ويقترض إذا كان مليا ، وكثير منهم لم
ينقل خلافا في المقام ، فيشترط بعضهم مع ملائته الرهن عليه حذرا من إفلاسه وزيادة
ديونه فيحفظ بالرهن مال الطفل. قال في مسالك وهو حسن.
وكذا يعتبر الاشهاد حفظا للحق ، وانما يصح له التقويم مع
كون البيع مصلحة للطفل ، إذ لا يصح بيع ماله بدونها ، مطلقا. قالوا : واما
الاقتراض فيشترط عدم الإضرار بالطفل وان لم تكن المصلحة موجودة. ومنع ابن إدريس من
الاقتراض من مال الطفل مطلقا.
وجملة من الاخبار تدل على الجواز. وقد تقدم الكلام في
ذلك منقحا في المسألة السابعة من مسائل المقدمة الرابعة (1). ولا دلالة في
شيء من تلك الاخبار على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط الرهن ، وغاية ما تدل عليه
: اشتراط الملائة ، كما هو متفق عليه.
وبها فسر قوله سبحانه «وَلا
تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» (2).
فقيل : ان المراد بالتي هي أحسن : ان يكون للمتصرف مال
بقدر مال الطفل زائدا على المستثنيات في الدين ، وعن قوت يوم وليلة له ولعياله
الواجبي النفقة.
وفسره بعض المتأخرين بكون المتصرف بحيث يقدر على أداء
المال المأخوذ
__________________
(1) تقدمت في ص 322.
(2) سورة الانعام : 152.
من ماله إذا تلف بحسب حاله.
أقول : لم أقف في الاخبار على مستند لشيء من هذين
التفسيرين ، وحينئذ فيكون من قبيل التفسير بالرأي المنهي عنه في الاخبار ، وظاهر
الآية : ان يختار ما هو الأحسن لليتيم ، من حفظ ماله وإصلاحه وتنميته ونحو ذلك من
المصالح ، وفيها إشارة الى ما صرح به الأصحاب من اشتراط المصلحة والغبطة لليتيم في
التصرف في ماله.
وبالجملة فإن الاستناد الى الآية فيما ذكروه بعيد عن
ظاهر لفظها.
نعم قد دلت جملة من الاخبار المتقدمة في المسألة المشار
إليها على المنع من التصرف الا ان يكون مليا ، مثل قوله عليهالسلام في رواية أسباط
بن سالم «ان كان لأخيك مال يحيط بمال اليتيم ان تلف فلا بأس به ، وان لم يكن له
مال فلا يعرض لمال اليتيم» (1). ونحوه في
روايته الأخرى (2). ونحوهما
غيرهما ايضا. والجميع خال من اشتراط الرهن.
وكيف كان فإنه أحوط ، لكن لا على جهة الاشتراط في صحة
القرض ، إذ لم يقم عليه دليل كما عرفت والله العالم.
المسألة السادسة
قد صرح جملة من الأصحاب بأنه يجب ان يكون المشترى مسلما
إذا ابتاع عبدا مسلما.
__________________
(1) تقدمت في ص 328.
(2) تقدمت في ص 328.
قال في المسالك ـ بعد قول المصنف ذلك ـ : يمكن ان يريد
بالمسلم من حكم بإسلامه ظاهرا لان ذلك هو المتبادر من لفظ المسلم ، وإجراء أحكامه
عليه ، فيدخل فيه فرق المسلمين المحكوم بكفرهم ، كالخوارج والنواصب ، ويمكن ان
يكون يريد به المسلم حقيقة نظرا الى ان غيره إذا حكم بكفره دخل في دليل المنع
الدال على انتفاء السبيل للكافر على المسلم ، وهذا هو الاولى ، لكن لم أقف على
مصرح به ، وفي حكم العبد المسلم المصحف وأبعاضه دون كتب الحديث النبوية ، وتردد في
التذكرة فيها. انتهى.
أقول : فيه ـ أولا ـ ان قوله «لان ذلك هو المتبادر من
لفظ المسلم» ان أراد بحسب عرف الناس فيمكن ، ولكن لا يجدى نفعا ، وان أراد في
الاخبار التي عليها المدار في الإيراد والإصدار ، فهو ممنوع أشد المنع. لان منها
الأخبار الكثيرة المستفيضة بأنه بني الإسلام على خمسة وعد منها الولاية ، وانه لم
يناد بشيء كما نودي بالولاية ، وهي أعظمهن واشرفهن. (1) ومن الاخبار
المستفيضة المتكاثرة الواردة في بيان الفرق بين الايمان والإسلام ، بأن الإسلام ما
يحقن به الدم والمال ويجرى عليه النكاح والمواريث والطهارة.
ومنها قوله عليهالسلام في حسنة
الفضيل بن اليسار «والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء» (2) الحديث.
وقوله عليهالسلام في صحيحة
حمران «والإسلام ما ظهر من قول وفعل ، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها ،
وبه حقنت الدماء ، وعليه جرت المواريث ، وجاز النكاح» الحديث (3). الى غير ذلك
من الأحاديث التي وردت بهذا المضمون ، ولا
__________________
(1) الوسائل ج 1 ص 10 حديث : 10. والكافي ج 2 ص 21.
(2) الكافي ج 2 ص 26 حديث : 3.
(3) الكافي ج 2 ص 26 حديث : 5.
ريب انه من المتفق عليه بينهم : عدم
جواز إجراء شيء من هذه الأحكام على من ذكره من الخوارج والنواصب ، فكيف يدعى انه
المتبادر من لفظ المسلم ، وإجراء أحكامه عليه ، وأي أحكام يريد؟ وهذه أحكام
الإسلام المترتبة عليه في الاخبار ، والاخبار مستفيضة بكفر هؤلاء ، مصرحة به ،
بأوضح تصريح ، ولا سيما النواصب ، وإطلاق الإسلام عليهم انما وقع في كلام الأصحاب
، مع تعبيرهم بمنتحلي الإسلام ، بمعنى انه لفظي محض ، لاحظ لهم في شيء مما يترتب
عليه من الأحكام التي ذكرناها فكيف يدخلون تحت تبادر هذا اللفظ والحال كما عرفت.
وثانيا : ان المستفاد من كلامه هنا وكلام غيره ايضا : ان
المستند في أصل هذه المسألة انما هو الآية الكريمة ، أعني قوله عزوجل «وَلَنْ
يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» (1) وأنت خبير بما
فيه ، فإنه لو أريد بالسبيل هنا ما يدعونه من سلطنة الكافر على المسلم بالملك
والدخول تحت طاعته ووجوب الانقياد لأمره ونهيه ، لا تنقض ذلك ـ أولا ـ بما أوجبه
الله تعالى على أئمة العدل من الانقياد إلى أئمة الجور ، والصبر على ما ينزل بهم
من ائمة الجور ، وعدم الدعاء عليهم ، كما ورد في تفسير قوله عزوجل «قُلْ
لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ
قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ». (2)
و ـ ثانيا ـ بما أوقعوه بالأنبياء والأئمة ـ عليهمالسلام ـ من القتل
فضلا عن غيره من أنواع الأذى ، واى سبيل أعظم من هذا السبيل.
و ـ ثالثا ـ بما رواه الصدوق في العيون (3) من انه قيل له
: ان في سواد الكوفة قوما يزعمون ان النبي صلىاللهعليهوآله لم يقع عليه
السهو ، فقال : كذبوا ـ لعنهم الله ـ ان الذي لا يسهو هو الله ، لا إله الا هو.
__________________
(1) سورة النساء : 141.
(2) سورة الجاثية : 14.
(3) عيون اخبار الرضا ـ ع ـ ج 2 ص 203.
قيل : ومنهم قوم يزعمون ان الحسين بن على لم يقتل وانه
القى اليه شبهة على حنظلة بن أسعد الشامي ، فإنه رفع الى السماء كما رفع عيسى بن
مريم عليهالسلام ، ويحتجون
بهذه الآية «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً».
فقال : كذبوا ـ عليهم غضب الله ولعنته ـ وكفروا بتكذيبهم
النبي صلىاللهعليهوآله في اخباره بأن
الحسين ـ عليهالسلام ـ سيقتل ،
والله لقد قتل الحسين وقتل من كان خيرا من الحسين عليهالسلام أمير المؤمنين
والحسن بن على وما منا الا مقتول ، وانى والله لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني ،
اعرف ذلك بعهد معهود الى من رسول الله صلىاللهعليهوآله أخبره به
جبرئيل عن رب العالمين عزوجل.
واما قوله تعالى «وَلَنْ
يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» فإنه يقول : لن
يجعل الله للكافر على مؤمن حجة. ولقد أخبر الله عن كفار قتلوا نبيين بغير حق ، ومع
قتلهم إياهم لم يجعل لهم على أنبيائه ـ عليهمالسلام ـ من طريق
الحجة.
أقول : والخبر ـ كما ترى ـ صريح في تفسير السبيل المنفي
في الآية بالحجة والدليل ، فتعلق أصحابنا بظاهر هذه الآية في مواضع من الأحكام ،
بناء على المعنى الذي نقلناه عنهم ، مع ظهور انتقاضه بما قدمنا ذكره ، وورود هذا
الخبر ، مما لا ينبغي ان يصغى اليه ، والعذر لهم ظاهر في عدم الوقوف على الخبر
المذكور.
وهذا مما يؤيد ما صرحنا به في مواضع من أبواب العبادات
من هذا الكتاب ، انه لا ينبغي المسارعة إلى الاستدلال بظواهر الآيات قبل مراجعة
الأخبار الواردة في تفسيرها عن أهل العصمة ـ عليهمالسلام ـ
وبالجملة فإني لا اعرف لهم دليلا في هذا المقام سوى ما
عرفت مما لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا.
نعم يمكن ان يستدل على ذلك بمفهوم رواية حماد بن عيسى عن
الصادق عليهالسلام ان أمير
المؤمنين ـ عليهالسلام ـ اتى بعبد
ذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا فبيعوه من
المسلمين وادفعوا ثمنه لصاحبه ، ولا
تقروه عنده (1). رواه الكليني
والشيخ في التهذيب والنهاية.
والتقريب فيه : انه ليس للأمر ببيعه قهرا سبب ولا علة
إلا رفع السلطنة والسبيل عنه ، وعدم جواز تملكه ، وحينئذ فيمتنع شراؤه ويحرم تملكه
، لما فيه من وجود السلطنة والسبيل على المسلم. والله العالم.
فروع
الأول : قد صرحوا ـ بناء على ما قدمنا ذكره من تحريم
شراء الكافر للمسلم ـ باستثناء ما لو كان العبد المسلم ممن ينعتق عليه بعد الشراء
كالأب ونحوه ، فإنه يجوز شراؤه لأنه ينعتق عليه قهرا بعد الدخول في ملكه.
وهو اختيار العلامة في المختلف ، ونقله عن والده.
ونقل عن المبسوط وابن البراج عدم الجواز وعدم ترتب العتق
عليه.
والمشهور الأول ، قالوا : وفي حكمه كل شراء يستعقب العتق
، كما لو أقر بحرية عبد غيره ثم اشتراه فإنه ينعتق عليه بمجرد الشراء.
وصرحوا ـ أيضا ـ بأنه انما يمتنع دخول العبد المسلم في
ملك الكافر اختيارا كالشراء والاستيهاب اما غيره كالإرث وإسلام عبده الكافر ، فإنه
يجبر على بيعه بثمن المثل على الفور ، ان وجد راغب والا حيل بينهما الى ان يوجد
الراغب ، ونفقته زمن المهلة عليه وكسبه اليه. وفي حديث حماد بن عيسى المتقدم (2) ما يشير الى
ذلك.
__________________
(1) الوسائل ج 12 ص 282 حديث : 1 باب 28.
(2) نفس المصدر.
الثاني : قد صرح جملة
من الأصحاب ـ رضى الله عنهم ـ بأنه لا يجوز للكافر استيجار المسلم ، وعللوه بحصول
السبيل المنفي في الآية المتقدمة ، وفصل آخرون بأنه ان كانت الإجارة لعمل في الذمة
فإنه يجوز وتكون حينئذ كالدين الذي في ذمته لو استدان منه دراهم مثلا ، ونفى
السبيل في هذه الصورة كما في صورة الدين ، وان كانت على العين ، حرمت للعلة
المتقدمة ، وهو وجود السبيل المنفي في الآية.
واختار هذا التفصيل جملة من المتأخرين ، كالمحقق الشيخ
على في شرح القواعد ، والشهيد الثاني في المسالك. وممن صرح بالأول الشهيد في
الدروس ، وهو ظاهر العلامة في القواعد.
وأنت خبير بما في الجميع ـ بعد ما عرفت ـ ويؤيده جملة من
الاخبار بأن عليا عليهالسلام كان يؤجر نفسه
من اليهود يسقى لهم النخل. وكفاك ما ورد من الاخبار في قصة نزول سورة هل أتى
الدالة على غزل فاطمة ـ عليهاالسلام ـ الصوف
لليهود بأصواع من الشعير (1).
الثالث : قد صرح جملة
من الأصحاب بأنه يجوز رهن العبد المسلم عند الكافر ان وضع على يد مسلم ، وان وضع
عند الكافر حرم.
وعللوا الأول بأن استحقاق أخذ الدين من قيمته لا يعد
سبيلا. وعللوا الثاني بوجود السبيل متى وضع عنده.
وفي عاريته قولان ، قال في المسالك : أجودهما المنع. قال
: وفي إيداعه وجهان أجودهما الصحة ، لأنه فيها خادم لا ذو سبيل.
وأنت خبير بما في هذه التفريعات ، بعد ما عرفته في الأصل
، من عدم ثبوته وعدم قراره ، فكيف يتم ما يبنى عليه.
الرابع : مقتضى شرطية
الإسلام في المشتري ـ متى كان المبيع مسلما أو مصحفا
__________________
(1) راجع : إما لي الصدوق ص 155 فما بعد.
ـ هو بطلان البيع لو لم يكن كذلك وقيل
بصحة البيع ولكن يجبر على بيعه ويؤمر بإزالة ملكه للاية المتقدمة بالنسبة إلى
المسلم ، ولما في ملك الكافر للقرآن من الإهانة ومنافاة التعظيم المأمور به.
قيل : وفي حكم المسلم ولده الصغير والمجنون ومسبيه المنفرد به ، ان ألحقناه به فيه ، ولقيط يحكم بإسلامه ظاهرا ، بان يكون في دار الإسلام أو في دار الحرب وفيها مسلم يمكن تولده منه.