الحقائق ج2 - كتاب الكفارات
كتاب الكفارات
وكان مقتضى ما قصده المصنف – رحمه الله – في كتابه هذا من التزام ترتيب كتاب الشرائع أن يذكر أحكام الكفارات عقيب الظهار، لكنه قد اكتفى بما تقدم منهما في كتاب الصوم وكتاب الحج، فأوجبنا على أنفسنا أن نذكرها في هذا المحل لمناسبتها للعهد واليمين والنذر، لان هذه الثلاثة من أسبابها الظاهرة التي لا خلاف فيها، وقد عليها الكتاب والسنة والاجماع، وفيه مقاصد:
المقصد الأول
في ضبط الكفارات وبيان أقسامها
والكفارة في الاصل اسم للتكفير، وأصلها الستر، ومنه الكفار لانه يستر الحق. ويقال لليل كافر لانه يستر من يفعل فيه شيئا. وقد ورد القرآن بلفظ الكفارة كقوله تعالى في كفارة اليمين (فكفارته إطعام عشرة مساكين) (1). وقد عرفها بعضهم شرعا بأنها مخصوصة فيها فإنها ليست أو مخففة غالبا، وقيد الاغلبية لادخال كفارة قتل الخطأ فيها فإنها ليست عقوبة، وينقتض في طرده بالتوبة فإنها طاعة مخصوصة بل هي أعظم الطاعات، ثم قد تكون مسقطة للذاب كما إذا كان الذنب حق الله تعالى ولم يجب قضاؤه، وقد تكون مخففة له كما إذا افترقت بوجوب رد الحق ونحوه. وكذا ينتقض بقضاء العبادات فإنه
(1) سورة المائدة – آية 89.
[ 299 ]
طاعة مسقطة للذنب المترتب على التهاون في الفعل إلى أن خرج الوقت، أو مخففة له من حيث افتقار سقوطه رأسا إلى التوبة. واعلم الكفارة الواجبة إن لم تكن عن ذنب – مثل قتل الخطأ – فإن وجوبها على التراخي لان مطلق الامر بها لا يقتضي الفور في الاصح كما مر في الاصول، وإن كانت مسقطة للذنب أو مخففة له ففي وجوبها على الفور وجهان: من أنها في معنى التوبة من حيث كانت مسقطة للذنب أو مخففة، والتوبة من الذنوب واجبة على الفور. ومن أصالة عدم وجوب الفورية، ولا يلزم من مشاركتها للتوبة في ذلك مساواتها لها في جميع الاحكام لكونها في الاصل حقا ماليا أو بدنيا، وفي نظائرها من العبادات والحقوق ما يجب على الفور ومنها ما لا يجب، وأصل وجوبه متوقف على دليل يقتضية غير أصل الامر، وأطلق بعضهم وجوبها على الفور مستدلا بأنها كالتوبة الواجبة لذلك لوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب ولا يخفى فساده على إطلاقه لان منها ما ليس مسببا عن قبيح. ثم على تقدير فعلها لا تكون كافية في رفع استحقاق العقاب إذا كان عن ذنب بل لابد معها من التوبة المشتملة على ترك الذنب في الحال والندم على فعله فيما سلف والعزم على عدم العود إليه في الاستقبال، ولو وجب معها قضاء العبادة كإفساد الصوم فلابد معها من القضاء من القادر عليه، ومثله القول في الحدود والتعزيرات على المعاصي، ويشتمل هذا المقصود على مسائل:
المسألة الاولى: في عدد أقسامها، فمنها مرتبة ومنها كفارة جمع ومنها مخيرة وما هي مخيرة مع ترتيب. فالمرتبة في المشهور ثلاث كفارات: كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأو كفارة من أفطر يوما من شهر رمضان بعد الزوال، ويجب في الاولين في كل واحدة العتق لرقبه مسلمة أو ما هو محلق بالمسلم، فإن عجز فصوم شهرين متتابعين، فإن عجز فإطعام ستين مسكينا، وقد دل
[ 300 ]
الكتاب في آية الظهار على ذلك، قال الله تعالى (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة مؤمنة) ثم قال: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) وقال تعالى: (فمن قتل مومنا خطا فتحرير رقبة مؤمنة) الى قوله تعالى (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) (2) وذلك نص في الترتيب فيهما. وقد جاءت الاخبار الكثيرة المستفيضة على ما تقدم في ظهار ما هو نص كالاية وفي القتل كذلك. فروى عبد الله بن سنان (3) في الصحيح عن الصادق عليه السلام (قال: إذا قتل سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المظاهر، قال: عليه تحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، والرقبة تجزي ممن ولد في الاسلام) و (أو) ظاهرة في التخيير كما ترى، فالاولى حملها على التنويع وبيان خصالها المرتبة موافقة للاية والفتوى وإن كان ذلك خلاف الظاهر. وأما قتل الخطأ فالاكثر على أن كفارته مرتبة لما ذكرناه من الادلة، وسيجئ في أحكام القصاص. وقال سلار: إنها مخيرة، وهو ظاهر المفيد – رحمه الله – حيث جعلها الكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان، وذكر في كفارة رمضان أنها مخيرة، ولم نقف لهما على مستند من الاخبار، ولو وجد لوجب إطراحه أو تأويله، والمختار هو الاول.
(1) سورة المجادلة – آية 3 و 4. 1 (2) سورة النساء – آية 92. (3) التهذيب ج 8 ص 322 ح 12، الوسائل ج 15 ص 559 ب 10 ح 1. (4) التهذيب ج 8 ص 321 ح 8 وفيه (والرقبة يجزى فيها الصبى ممن)، الوسائل ج 15 ص 549 ب 1 ح 3.
[ 301 ]
المسألة الثانية: قد تقدم في أحكام الصوم وكفارات إفطاره أن المشهور بين الاصحاب رواية وفتوى أن كفارة المفطر في قضاء شهر رمضان بعد الزوال مرتبة، وهي إطعام عشرة مساكين. فإن عجز صام ثلاثة أيام متتابعات. وقد دل عليه من الادلة رواية بريد العجلي (1) عن الباقر عليه السلام (في رجل أتى أهله في يوم يقضيه عن شهر رمضان قبل الزوال، قال: لا شئ عليه إلا يوما مكان يوم، وإن أتى أهله بعد زوال الشمس فإن عليه أن يتصدق على عشرة مساكين لكل مسكين مد، فإن لم يقدر صام يوما مكان يوم وصام ثلاثة أيام كفارة ما صنع). قال الصدوق في فقهيه (2) عقيب ذكر هذه الرواية: وقد روي أنه إن أفطر قبل الزوال فلا شئ عليه، وإن أفطر بعد الزوال فعليه الكفارة، مثل ما على من أفطر يوما من شهر رمضان. وهذا يدل على أن اختياره واختيار المشهور سواء. وفي المقنع (3) عكس الحال، فجعل المشهور رواية والثاني فتوى فقال: وإذا قضيت صوم شهر رمضان كنت بالخيار في الافطار إلى زوال الشمس، فإن أفطرت بعد الزوال فعليك الكفارة مثل ما على من أفطر يوما من شهر رمضان. وروي أن عليه إذا أفطر بعد الزوال إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد من طعام، فإن لم يقدر عليه صام يوما بدل يوم وصام ثلاثة أيام كفارة لما فعل. في طريق الرواية الاولى ما هو مجهول وهو الحارث بن محمد، والرواية الثانية الدالة على أنها كفارة شهر رمضان من الموثق قد رواها زرارة (4) عن الباقر عليه السلام (قال: سألته عن رجل صام قضاء من شهر رمضان فأتي النساء، قال: عليه من الكفارة ما على الذي أصاب في رمضان ذلك اليوم عند الله من أيام رمضان).
(1) الكافي ج 4 ص 122 ح 5، الوسائل ج 7 ص 253 ب 29 ح 1 وفيهما اختلاف يسير. (2) الفقيه ج 2 ص 96 ح 7، الوسائل ج 7 ص 255 ب 29 ح 5. (3) الجوامع الفقهية ص 17 س 17. (4) التهذيب ح 4 ص 279 ح 19، الوسائل ج 7 ص 254 ب 29 ح 3 وفيه (لان ذلك اليوم عند الله).
[ 302 ]
إلا أنه ليس فيهما تقييد يكون الافطار قبل الزوال كما قيدوه، وحمله على المقيد بعيد لانه مخالف له في الحكم، وفي طريقها علي بن فضال وباقي سندها صحيح فهو من الموثق، لكن بقأوها على إطلاقها مشكل لا قائل به، وحملت على استحباب عند جماعة. وروى الشيخ في الصحيح عن هشام بن سالم (1) (قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: رجل وقع أهله وهو يقضي شهر رمضان، قال: إن كان وقع عليها قبل صلاة العصر فلاشئ عليه يصوم يوما بدل يوم، وإن فعل بعد العصر صام ذلك اليوم وأطعم عشرة مساكين، فإن لم يمكنه صام ثلاثة أيام كفارة لذلك). وهي كرواية بريد في الكفارة لكنها مخالفته لها في الوقت، وهي أصح ما في الباب من الروايات ولكن لم يعمل بمضمونها أحد. والشيخ في كتابي الاخبار حمل الخبر الدال على أنها كفارة شهر رمضان على من فعل ذلك استخفاقا ونهاونا بما يجب عليه من فرض الله تعالى، فيجب عليه حينئذ من الكفارات ما يجب عليه من على من أفطر يوما من شهر رمضان عقوبة له وتغليظا عليه، فأما من اعتقد أن الافطار مما لا ينبغي وكا عليه الاتمام فليس عليه إلا ما تقدم من إطعام عشرة مساكين أو صيام ثلاثة أيام. وهذا الحمل يوجب قولا آخر للشيخ في المسألة. وله قول ثالث في النهاية أنها كفارة يمين، وهو قول سلار. وقال العماني: ليس عليه شئ مطلقا، ويدل على مذهبه رواية عمار الساباطي (2) عن أبي عبد الله عليه السلام وفيهما (فإن نوى الصوم ثم أفطر بعد ما زالت الشمس فقد أساء وليس عليه شئ إلا قضاء ذلك اليوم الذي أراد أن يقضيه). والشيخ – رحمه الله – حمل قوله عليه السلام (وليس عليه شئ) على أنه ليس عليه
(1) التهذيب ج 4 ص 279 ح 18، الوسائل ج 7 ص 254 ب 29 ح 2. (2) التهذيب ج 4 ص 280 ح 20، الوسائل ج 7 ص 254 ب 29 ح 4.
[ 303 ]
شئ من العقاب لان من أفطر في هذا اليوم لا يستحق العقاب وإن أفطر بعد الزوال ويلزمه الكفارة. وفي هذا اعتراف من الشيخ بعدم تحريم الافطار فكيف يجامع عدم الكفار ؟ ولو حملوها على الاستحباب لاختلاف تقديرها في الروايات واختلاف تحديدها وقت ثبوتها وقصورها من حيث السند عن إفادة الوجوب لكان قويا جدا. قاله الشهيد الثاني في المسالك ثم أيده بخبر أبي بصير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (في المرأة تقضي شهر رمضان فيكرهها زوجها على الافطار، قال: لا ينبغي له أن يكرهها بعد الزوال) زعما منه أن (لا ينبغي له) دالة على الكراهة. وفيه نظر على أن المكرهة لا تفطر بذلك الاكراه، وقد قدح في الرواية بأن في طريقها سماعة وهو واقفي. وعلى كل تقدير فالحكم مختص بقضاء شهر رمضان ولا يتعدى إلى قضاء غيره وإن كان معينا على الاقوى للاصل وعدم وجود كثيرة تقدمت فح الصوم. منها صحيحة عبد الله بن سنان (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل أفطر في شهر رمضان متعمدا يوما من غير عذر، قال: يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا، فإن لم يقدر تصدق بما يطيق). وفي المبسوط قول آخر بأنها مرتبة إذا كان الافطار بالجماع. وذهب العماني إلى أنها مرتبة مطلقا كما عليه أكثر العامة لما رواه الصدوق (3) – رحمه
(1) الكافي ج 4 ص 122 ح 6، الوسائل ج 7 ص 8 ب 4 ح 2. (2) الكافي ج 4 ص 101 ح 1، الوسائل ج 7 ص 28 ب 8 ح 1. (3) الفقيه ج 2 ص 72 ح 2، الوسائل ج 7 ص 30 ب 8 ح 5 وفيهما (فإتى النبي (ص) بعذق في مكتل فيه خمسة عشر صاعا).
[ 304 ]
الله – وغيره (من أن رجلا من الانصار أتى النبي صلى الله وعليه واله فقال: هلكت وأهلكت، فقال: ما أهلكك ؟ قال: أتيت امرأتي في شهر رمضان وأنا صائم، فقال له النبي صلى الله وعليه واله: اعتق رقبة، قال: لاأجد، قال: صم شهرين متتابعين، قال: لا اطيق، قال: تصدق على ستين مسكينا، قال: لا أجد قال: فأتى النبي صلى الله وعليه واله بعذق ثمانية عشر صاعا من ثمر فقال له النبي صلى الله وعليه واله: خذها فتصدق بها، فقال له الرجل: والذي بعثك بالحق ليس مابين لابتيها أحوج مني إليها، فقال: خذه وكله وأطعم عيالك فإنه كفارة لك). واجيب بعدم دلالتها صريحا على الترتيب لانه يجوز إطلاق الامر بأحد أفراد الواجب المخير كذلك، مع أن الشيخ في كتابي الاخبار (1) رواه في الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام وفيه (أن رجلا أتى النبي صلى الله وعليه واله فقال: هلكت يا رسول الله، قال: مالك ؟ قال: النار يا رسول الله، قال: ومالك ؟ قال: وقعت على أهلي قال تصدق واستغفر ربك فابدأ بالصدقة) وهو دليل على عدم الترتيب على الخصلتين الاخيرتين وإلا لبين له صلى الله وعليه واله، وفي نمامه أن الرجل قال: والذي عظم حقك ما تركت في البيت شيئا قليلا ولا كثيرا، قال: فدخل رجل من الناس بمكتل من عشرين صاعا يكون عشرة أصيع بصاعنا، فقال له رسول الله صلى الله وعليه واله: خذ هذا التمر فتصدق به، فقال: يا رسول الله على من أتصدق وقد أخبرتك أن ليس في يدي قليل ولا كثير، قال: فخذه وأطعمه عيالك واستغفر الله عزوجل، قال: فلما رجعنا قال أصحابنا: إنه بدأ بالعتق، قال: اعتق أو صم أو تصدق). وهذا نص في التخيير وفيه دلالة على أن الاستغفار يجب عند العجز، وهو أولى من جعل إطعام أهله كفارة كما في الخبر السابق، وقد أطلق الاكثر الحكم في من أفطر بأحد الاسباب الوجبة للتكفير، وهو شامل للمحلل منها والمحرم
*) (1) التهذيب ج 4 ص 206 ح 2، الاستبصار ج 2 ص 80 ب 38 ح 2، الوسائل ج 7 ص 29 ب 8 ح 2 وفيهما اختلاف يسير.
[ 305 ]
كما هو مقضى إطلاق الرواية الصحيحة المتقدمة، والحكم به كذلك هو المشهور بين الاصحاب. وذهب جماعة منهم الشيخ في كتابي الاخبار والصدوق إلى أن ذلك مختص بمن أفطر على المحلل، أما من أفطر على المحرم – يعني أفسد صومه به – فإن كفارته كفارة جمع كالقتل عمدا لخبر عبد السلام بن صالح الهروي (1) (قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله قد روي عنهم أيضا كفارة واحدة، فبأي الخبرين آخذ ؟ قال: بهما جميعا، فمتى جامع الرجل حراما أو أفطر على حرام في شهر رمضان فعليه ثلاث كفارات عتق رقبة وصيام شهرين متتابعين وإطعام ستين مسكينا وقضاء ذلك اليوم، وإن كان قد نكح حلالا أو أفطر على حلال كفاء كفارة واحدة). وليس في طريق هذه من يتوقف في وثاقته عدا ابن عبدوس فإن حاله مجهول، قال في المختلف: إن ابن عبدوس لا يحضرني حاله، فإن كان ثقة فالرواية صحيحة متعين العمل بها. وفي التحرير جزم بصحتها فقال: روى ابن بابويه في حديث صحيح عن الرضا عليه السلام وساق الحديث. وذكر ابن بابويه في الفقيه (2) أنه وجد ذلك في روايات أبي الحسين الاسدي فيما ورد عليه من الشيخ – رحمه الله – أبي جعفر بن عثمان العمري أحد نواب صاحب الزمان عليه السلام وطريقه جيد أيضا، فلا بأس بالعمل بمضمونه، وهو مذهب قوي جدا وعليه العمل، وقد وقع مثل ذلك في كتاب الغيبة له وكتاب الاحتجاج للطبرسي – رحمه الله -.
المسألة الرابعة: قد جعل من القدماء والمتأخرين كفارة من أفطر يوما نذر صومه كفارة مخيرة كشهر رمضان، وأسنده إلى أشهر الروايتين المحقق في الشرائع. وهذا المذهب للشيخين وأتباعهما والمحقق والعلامة في المختلف وأكثر
(1) التهذيب ج 4 ص 209 ح 12، الوسائل ج 7 ص 35 ب 10 ح 1 وفيهما اختلاف يسير. (2) الفقيه ج 2 ص 73 ح 10، الوسائل ج 7 ص 36 ب 10 ح 3.
[ 306 ]
المتأخرين لصحيحة عبد الملك بن عمرو (1) بناء على توثيق ابن داود عن الصادق عليه السلام (قال: من جعل لله عليه أن لا يركب محرما سماه فركبه قال: ولا أعلمه إلا قال: فليعتق رقبة أو ليصم شهرين متتابعين أو ليطعم ستين مسكينا). وهو كما ترى ليس نصا في النذر، ومع ذلك فمورده مطلق النذر لا مخصوصا بالصوم، قيل: إنها كفارة يمين مطلقا كما هو المختار. وقد ذهب إليه الصدوق والمحقق في الشرائع لحسن الحلبي (2) بل صحيحه عن الصادق عليه السلام (قال: إن قلت: لله علي كذا وكذا فكفارة يمين). ورواية حفص بن غياث (3) عنه عليه السلام (قال: سألته عن كفارة النذور، فقال: كفارة النذور كفارة اليمين). ورواه العامة (4) عن النبي صلى الله وعليه واله (أنه قال: كفارة النذر كفارة اليمين). وقيل بالتفصيل، فإن كان النذر صوما فكفارة شهر رمضان وإن كان غير ذلك فكفارة يمين، ذهب إليه المرتضى والحلبي والعلامة في غير المختلف، ووجهه الجمع بين الروايات حيث دل بعضها على أنه كفارته كفارة رمضان، فيناسبه الحمل على إفطار نذر صونم معين لمشاركته لصوم رمضان في الصوم المعين، وحمل غيره على غيره، وهو أولى من العمل بأحد الجانبين خاصة لاستلزام طرح الاخر مع تقاربهما في القوة. ويدل على حكم إفطار النذور روايات اخر. منها: رواية القاس بن الصيقل (5) (أنه كتب إليه: يا سيدي رجل نذر أن
(1) التهذيب ج 8 ص 314 ح 42، الوسائل ج 16 ص 243 ب 19 ح 1. (2) الكافي ج 7 ص 456 ح 9، الوسائل ج 16 ص 574 ب 23 ح 1 وفيهما (لله على فكفارة يمين). (3) الكافي ج 7 ص 457 ص 13، الوسائل ج 15 ص 575 ب 23 ح 4 وفيهما (كفارة النذر). (4) سنن أبى داود ج 3 ص 241 ح 3323. (5) التهذيب ج 4 ص 286 ح 38 وفيه (فوقع فيه في ذلك اليوم على)، الوسائل ج 7 ص 277 ب 7 ح 3 وفيه (فوقع في ذلك اليوم على اهله).
[ 307 ]
يصوم يوما لله فوقع ذلك على أهله، ما عليه من الكفارة ؟ فأجابه: يصوم يوما بدل يوم وتحرير رقبة مؤمنة). ومثله عن ابن مهزيار (1) أنه كتب إليه يسأله عن ذلك. وهذا هو الموجب لجزم المحقق – رحمه الله – بحكم المفطر في شهر رمضان، وتردد غيره لكن في طريق الروايتين محمد بن عيسى، والمسؤول فيهما غير مصرح به وإن كان الظاهر أنه الامام عليه السلام. لا يقال: إن الاول من الاخبار – أعني خبر عبد الملك بن عمرو – صحيح فيجب تقديمه على الحسن ووالضعيف لو أردنا الجمع، كيف والحسن لا يشتمل رواية على وصف العدالة التي هي شرط في قبول رواية الراوي، قيتعين العمل بذلك. لانا نقول: إن الاول وإن كان قد وصفه بالصحة جماعة من المحققين كالعلامة في المختلف وولده في شرح القواعد وأول الشهيدين في شرح الارشاد إلا أن فيه مناقشة ومنعا بينا يظهر لمن تتبع كتب الرجال، لان عبد الملك بن عمرو لم ينص عليه أحد بالتعديل وإنما هو ممدوح مدحا غير صريح فلم يقرب من التعديل، فلم يذكره النحاشي ولا الشيخ في كتابيه، وذكر العلامة في خلاصته ونقل عن المثنى أن الصادق عليه السلام قال له: إني لادعو لك حتى اسمي دابتك. وهذا غايته اقتضاء المدح لا التوثيق، مع أن الرواية منقولة عنه، وشهادة الانسان لنفسه غير مقبولة، ومثل هذا لا يثبت به حكم. وغايته أن يكون من الحسن، وكأنهم أرادوا بصحتها توثيق رجال أسنادها إلى عبد الملك المذكور، وهي صحة إضافية في اصطلاح كثير فلاتتر جح على باقي الروابات الاخر، بل يمكن القلب عليهم في ذلك بترجيح تلك الروايات عليها بوجوه: أحدها: أن حسنة الحلبي في ذلك الجانب من الحسن في أعلى مراتب لان حسنها في دخول إبراهيم بن هاشم في طريقها وهو من الاجلاء الاعيان، بل وثقه
(1) التهذيب ج 4 ص 286 ح 39، الوسائل ج 7 ص 277 ب 7 ح 1.
[ 308 ]
ابنه في التفسير، ولا ينبئك مثل خيبر، فخبره من الصحيح على الصحيح بخلاف تلك الروايات، فإن الظاهر أنها لا تحل في أدنى مراتب الحسن فضلا عما فوقه، فكانت تلك أرحج على كل حال، فالعمل بمضومها أولى.
وثانيها: تأيدها برواية حفص بن غياث وهو وإن كان عاميا إلا أن الشيخ في العدة وفي كتابي الرجال قال: إن كتابه معتمد عليه.
وثالثها: اتفاق روايات العامة التي صححوها عن النبي صلى الله وعليه واله وسلم عليه، وهي إن لم تكن حجة إلا أنها لا تقصر عن أن تكون مرجحة.
ورابعها: تأيدها بصحيحة علي بن مهزيار (1) (قال: كتب بندار مولى إدريس: يا سيدي إني نذرت أن أصوم كل سبت فإن لم أصمه ما يلزمني من الكفارة ؟ فكتب وقرأته: لا تتركة إلا من علة، وليس عليك صومه في سفر ولا مرض إلا أن يكون نويت ذلك، وإن افطرت فيه من غير علة فتصدق كل يوم على سبعة مساكين). وبمثله عبر الصدوق – رحمه الله – في المقنع، إلا أنه قال بدل سبعة (عشرة) فيكون بعض أفراد كفارة اليمين، ولعل السبعة وقعت سهوا في رواية التهذيب. وتؤيده رواية الصدوق لها من الصحيح وقال في المقنع: وإن نذر الرجل أن يصوم كل سبت أو أحد أو سائر الايام فليس عليه أن يتركه إلا من علة، وليس عليه صومه في سفر ولا مرض إلا إن يكون نوى ذلك، فإن أفطر من غير علة تصدق مكان كل يوم على عشرة مساكين. هكذا عبر الصدوق – رحمه الله -. وقال ثاني الشهيدين في المسالك بعد ذكره عبارة هذا الكتاب وهو عندي بخطه الشريف: وهو لفظ الرواية. فيكون اقتصاره على إحدى كفارة اليمين كاقتصاره رواية المنذور (2) في مكاتبة الصيقل على تحرير رقبة المحتمل أن يكون من خصال كفارة شهر رمضان أو كفارة اليمين لاشتراكهما في ذلك، فلا دلالة
(1) التهذيب ج 4 ص 286 ح 40، الوسائل ج 7 ص 277 ب 7 ح 4. (2) كذا في النسخة.
[ 309 ]
فيه على كفارة شهر رمضان. والشيخ – رحمه الله – جمع بين الاخبار بحمل الخبر الاول على التمكن من إحدى الخصال الثلاث والاخبار المتضمنة اليمين لمن عجز عن ذلك، واستدل عليه بصحيحة جميل بن صالح (1) عن أبي الحسن موسى عليه السلام (أنه قال: كل من عجز عن نذر نذره فكفارته كفارة يمين). وذلك قول رابع له. ولسلار والكراجكي قول خامس أنها كفارة ظهار، وفيه أقوال اخر نادرة لامستند لها.
المسألة الخامسة: إن مما اختلف فيه كفارة خلف العهد، فأصحاب القول الاول في النذر ألحقوه به، وقد تقدمت رواية علي بن جعفر (2) عن أخيه موسى عليه السلام عن قريب، وفيه (أنه سأله عن رجل عاهد الله في غير معصية ما عليه إن لم يعهد الله ؟ قال: يعتق رقبة أو يتصدق بصدقة أو يصوم شهرين متتابعين). والظاهر أن المراد بالصدقة فيها إطعام ستين مسكينا لرواية أبي بصير (3) المتقدمة أيضا عن أحدهما عليهما السلام (أنه قال: من جعل عليه عهد الله وميثاقه في أمر فيه طاعة فحنث فعليه عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا). ومثلهما رواية أحمد بن عيسى (4) في نوادره عن الجواد عليه السلام وقد تقدمت أيضا. ولا يضر ضعف هذه الروايات في الاصطلاح الجديد لصحتها في القديم ولانها لامعاررض لها، والمفيد جعلها كفارة قتل الخطأ، ولم نقف على مستنده. وللعلامة
(1) الكافي ج 7 ص 457 ح 17، الوسائل ج 15 ص 575 ب 23 ح 5. (2) التهذيب ج 8 ص 309 ح 25، الوسائل ج 15 ص 576 ب 24 ح 1 وفيهما (ان لم يف يعهده). (3) التهذيب ج 8 ص 315 ح 47، الوسائل ج 15 ص 576 ب 24 ح 2 وفيهما (في أمر لله طاعة). (4) الوسائل ج 16 ص 248 ب 25 ح 4.
[ 310 ]
اضطراب في واحد (1) من القواعد والارشاد، فأفتى في القواعد أولا بأن كفارة خلف العهد كبيرة مخيرة مطلقا، ثم أفتى في موضع آخر من باب الكفارات بأنها كفارة يمين مطلقا. وفي الارشاد أفتى أولا بالتفضيل فيه كالنذر، فإن كان صوما فأفطره فكفارة رمضان، وإلا فكفارة يمين، ثم بعد ذلك أفتى بأنها كفارة يمين مطلقا. ولا يخفى عليك أن الموجب للتفصيل في المنذور هو اختلاف الروايات للتوصل في الجمع بينها، وفي العهد مفقود بل إما أن نحكم فيه بالكبيرة المخيرة نظر إلى ما ذكرناه كاليمين في الاحكام ولاصالة البراءة من الزائد، إلا أن المعتمد على تلك الادلة في أنها كبيرة مخيرة. وأما استدلال القول الاخر فيرجع إلى القياس ونحن لانقول به. المسألة
السادسة: إن ما يحصل فيها الامران – أعني التخيير والترتيب – كفارة اليمين كما دل عليه الكتاب، فيجتمع فيها التخيير والترتيب، والتخيير في الخصال الثلاث. والثاني – أعني الترتيب – في الصيام فإنه مرتب على العجز عن الثلاث السابقة، والحكم في هذه الكفارة محل وفاق بين المسلمين من حيث إنها منصوصة في القرآن وانعقد عليها الاجماع وتواترت الاخبار بها فلا محيص عنها.
المسألة السابعة: إن كفارة الجمع المتفق عليها إلا ما شذهي كفارة قتل المؤمن عمدا ظلما، وهي رقبة وإطعام ستين مسكينا وصوم شهرين متتابعين. والمراد بالمؤمن هنا المسلم أو من بحكمه كولده الصغير والمجنون، ولا فرق فيه بين الذكر والانثى والحر والعبد، ويشترط كون القتل مباشرة لاتسبييا كما سيأتي بيانها في أحكام القتل.
(1) كذا في النسخة.
[ 311 ]
المسألة الثامنة: من حلف بالبراءة من الله ورسوله صلى الله عليه واله أو من الائمة عليهم السلام كان مأثوما وفعل محرما، واختلفوا في كفارته إلى أقوال: فقيل كفارة ظهار، وإليه ذهب الشيخان وجماعة، فإن عجز عنها فكفارة يمين، وهذا الذي نقله المحقق عنهم، وهي مترتبة على نفس الحلفق بالبراءة، وقد تقدمت الاخبار الدالة على ذلك في أحكام اليمين. وقال ابن حمزة: تلزمه كفارة النذر. وقال الصدوق – رحمه الله -: إنه يصوم ثلاثة أيام ويتصدق على عشرة مساكين. وقد طعن على الجميع بالضعف في المستند، فلذلك عدل المحقق وجماعة إلى أنه يأثم ولا كفارة عليه، لكن قد روى محمد بن يحيى (1) في الصحيح (قال: ورسوله صلى الله عليه واله فحنث، ما توبته وما كفارته ؟ فوقع عليه السلام: يطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد ويستغفر الله عزوجل). وبمضمونه أفتى العلامة في المختلف وتبعه عليه جماعة من متأحري المتأخرين. ويدل على ما ذهب إليه الصدوق خبر عمرو بن حريث كما في التهذيب (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: سألته عن رجل قال: إن كلم ذا قرابة له فعليه المشي إلى بيت الله وكل ما يملكه في سبيل الله وهو برئ من دين محمد صلى الله وعليه واله، قال: يصوم ثلاثة أيام ويتصدق على عشرة مساكين). لكن في تلك الصحيحة ترتب الكفارة على نفص الحنث لا على مجرد الحلف بها، وظاهر هذا الخبر ترتبها على نفس الحلف. ويمكن حمل قوله في الصحيحة (فحنث) أي فأذنب بحلفه بالبراءة، فسمى نفس الحلف حنثا، فلا منافاة إذن بين الخبرين. وهذا هو الذي يظهر من الفتوى من مثبتي الكفارة.
(1) الكافي ج 7 ص 461 ح 7، الوسائل ج 16 ص 152 ب 7 ح 3. (2) التهذيب ج 8 ص 310 ح 30، الوسائل ج 16 ص 241 ب 17 ح 10.
[ 312 ]
وقال المحقق في نكت النهاية: الحق عندي أنه لا كفارة في شئ من ذلك لان ما ذكره الشيخان لم يثبت، وما تضمنته الرواية فلا تنهض المكاتبة بالحجة لما يتطرق إليها من الاحتمال. وظاهر عبارات كما يقتضيه إطلاق الشيخ والقاضي والصدوق وجماعة، والمفيد قد صرح بترتبها على المخالفة، وكذا العلامة في المختلف اشتنادا إلى ظاهر تلك المكاتبة. وقد قواه في المسالك وقوعا على ما خالف الاصل على مورد النص، وقد عرفت إمكان التأويل فيها بحمل الحنث على ما ذكرناه من فعل ما يوجب الذنب. ويؤيده خبر عمرو بن حريث كما سمعته وإطلاق هؤلاء الجماعة، فالاحوط اعتبار التكفير بمجرد الحلف بالبراءة لانه من أعظم الذنوب.
المسألة التاسعية: إن من الكفارات المخيرة الكبرى كفارة جز المرأة شعرها في المصاب، وهو قول القاضي استنادا إلى رواية خالد بن سدير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: إذا خدشت المرأة وجهها أو جزت شعرها أو نتفته ففي جز الشعر عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا). إذ المفهو من لفظة (في) الايجاب والوجوب، مثل: مثل في أربعين شاة شاة، وفي قتل النفس المؤمنة مائة من الابل لانها للسببية، وإنكار بعضهم إفادتها ذلك مردود. وقد طعن على الرواية بضعف الطريق، فإن خالد بن سدير غير موثق، بل قال الصدوق: إن كتابه موضوع. وقيل: تجب به كفارة الظهار، وهو مذهب سلار والحلبي، وأسنده في السرائر إلى رواية بعض الاصحاب، وهو مستند واه، فلذلك قال المحقق – رحمه الله – في الشرائع: إنه يأثم ولا كفارة تمسكا بالاصل واستضعافا للحكم الناقل عنه. وقال: ثاني الشهيدين: إنه هو الاقوى، فيجب حمل الخبر على الاستحباب عندهم.
التهذيب ج 8 ص 325 ح 23، الوسائل ج 15 ص 583 ب 31 ح 1.
[ 313 ]
واعلم أن الكفارة على تقدير وجوبها مرتبة على جزه في المصاب، والمفهوم منه جز جميعه، وأنه مرتب على الجز وهو القص، فلا يلحق به النتف ولاالاحراق ولا القرض بالسن، واحتمل بعضهم قويا إلحاق الحلق، وكذا لا يلحق جزه في غير المصاب به على الاقوى، والاولوية ممنوعة لجواز اختصاص المصاب به لما فيه من إشعار السخط بقضاء الله وظاهر الرواية وقوع ذلك منها مباشرة، فلو امرت به ففي إلحاقه نظر للامر به فيكون كالمباشرة، والوقوف فيما خالف الاصل على موضع اليقين يقتضي العدم، ولو فعلت ذلك لحاجة سائغة فلا شئ اتفاقا، والاقوى تلقي الخبر بالقبول لايراد الخبر في كتب المشايخ المعتمدة مع عدم التعرض لرده، وقدح الصدوق في كتابه لم يثبت لتكثر النقل له من المحدثين حتى من الصدوق نفسه.
المسألة العاشرة: قد أوجب جماعة على المرأة في نتف شعرها في المصاب وخدش وجهها وشق الرجل ثوبه في موت ولده أو زوجته كفارة يمين، ولم ينقل المحقق في ذلك خلافا، وكذلك العلامة في المختلف، مع أنه في الشرائع قد صدر المقصد بالمواضع المختلف فيها، وكأن الوجه في ذلك عدم ظهور مخالف في أكثرها مع ضعف المستند في الجميع فإن المستند فيها الرواية السابقة عن خالد بن سدير (1) بطريق محمد بن عيسى (قال: سألت الصادق عليه السلام عن رجل شق موسى بن عمران على أخيه هارون، ولا يشق الوالد على ولده ولا زوج على امرأته، وتشق المرأة على زوجها، وإذا شق زوج على امرأته أو والد على ولده فكفارته حنث يمين، ولا صلاة لهما حتى يكفرا أو يتوبا من ذلك – إلى أن قول: – وفي الخدش إذا ادميت وفي النتف كفارة حنث يمين، ولا شئ في اللطم على الخدود سوى الاستغفار
(1) التهذيب ج 8 ص 325 ح 23، الوسائل ج 16 ص 583 ب 31 ح 1.
[ 314 ]
والتوبة) الحديث. وقدح فيها كثير من المتأخرين بضعف سندها، ولم يقدموا على المخالفة التامة مع أنها بمنزلتها في جز الشعر، فكان ينبغي أن يكون مع مواضع الخلاف. والمراد من الشعر هنا هو شعر الرأس لانه المفهوم منه عرفا. والمراد بخدش الوجه قطع شئ من جلده وإن لم يبلغ إلى اللحم، وفي الرواية المذكورة تقييد بكونه مدميا، والفتاوى مطلقة، بل صرح بعضهم بعدم اعتباره، وهو مطالب بالمستند، لعله اعتمده على ما يظهر من الاجماع لاعلى الفتوى مجردا، ولا يلحق به اللطم من غير خدش غير الوجه من سائر الجسد، ولا يتعدى إلى الرجل. كما أن حكم محرما على الجميع لما فيه من إضاعة المال، ويشمل الولد الذكر والانثى وإن نزل لا ولد الاثنى على الاظهر، ولا كفارة بشقه على غير هما من الاقارب مطلقا وإن حرم عند كثير من أصحابنا، وظاهر الرواية الجواز، ولا يختص الجواز بالاب والاخ، وتلحق ام الولد والسرية والزوجة. نعم تدخل المتمتع بها والمطلقة رجعيا، والمعتبر مسمى الشق لمسمى الثوب.
الحادية عشرة: من نام عن صلاة العشاء الاخرة وتجاوز نصف الليل وجب عليه أن يصبح صائما كفارة عن ذلك النوم، ذهب إلى ذلك المرتضى مدعيا عليه الاجماع، وكذلك الشيخ في النهاية استنادا إلى مرسلة عبد الله ين المغيرة (1) عمن حدثه عن الصادق عليه السلام (في رجل نام عن العتمة ولم يقم إلا بعد انتصاف الليل فإنه يصليها ويصبح صائما). وهذه الرواية كما ترى لا تنهض بالوجوب لارسالها، و الاجماع ممنوع لان الاكثر على عدم الوجوب إذ لا أمر، ولا يلزم من عطفه على الصلاة الواجبة وجوبه فالاصح الاستحباب، ولسقوط تلك الكفارة في تاقي الاخبار الواردة فيمن نام عن
(1) الكافي ج 3 ص 295 ح 11، الوسائل ج 3 ص 157 ب 29 ح 8.
[ 315 ]
العشاء إلى أن ينتصف أو يصبح.
الثانية عشرة: من تزوج امرأة في عدتها فارقها وكفر بخمسة أصوع من دقيق، وفي وجوبها خلاف، والاستحباب أشهر وأشبه، والقول بوجوبها للشيخ في النهاية ظاهرا ولابن حمزة صريحا وكذلك العلامة في القواعد والتحرير وولده في الشرح. والمستند رواية أبي بصير (1) عن الصادق عليه السلام (قال: سألته عن امرأة تزوجها رجل فوجد لها زوجا، قال عليه الحد وعليها الرجم لانه قد تقدم بعلم وتقدمت هي بعلم، وكفارته إن لم يقدم إلى الامام أن يتصدق بخمسة أصوم دقيقا). وروى الصدوق – رحمه الله – عن أبي بصير (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل تروج امرأة ولها زوج، فقال: إذا لم يرفع خبره إلى الامام فعليه أن يتصدق بخمسة أصوع دقيقا بعد أن فارقها). والمفهوم من لفظ (عليه) الوجوب. وهذان الخبران موردهما ذات البعل مع أنهم لم يذكروه فيها، فلا يتم ما قالوه في توجيه الاستدلال من حمل المعتمدة على ذات البعل لتوقفه على الاولوية عندهم، لا لما قالوه من أن العدة الرجعية قريبه من ذات البعل. وأما في اللباس فلعدم فرق بين العدتين، فالفرق قول الثالث، ولا يخفى عليك ضعف هذا الاستدلال، وعدم المانع من إحداث مثل هذا القول الثالث لمن يعتمد مثل هذه الرواية لان قول المعصوم ليس بمتحقق في أحد القولين، ويجوز كونه قائلا بخلاف قولهما كما لا يخفى على المنصف، والقدح في الرواية بالضعف لاشتراك أبي بصير بين جماعة منهم الثقة والضعيف، وفي طريقها أيضا إسماعيل بن مرار وحاله مجهول ليس في محله لما عرفت غير مرة من أن الاعتماد على لقرائن ومن أقواها عمل الطائفة بها وعدم العثور على معارض، لكن فرض المسألة في المعتدة
(1) الكافي ج 7 ص 193 ح 3، الوسائل ج 18 ص 397 ب 27 ح 5 وفيهما اختلاف يسير. (2) الفقيه ج 3 ص 301 ح 23 وفيه (هذا بعد أن يفارقها).
[ 316 ]
دون المزوجة مع كونها مورد الدليل ليس بجيد، وإن تم الحمل فلا وجه لجعل الفرع أصلا. ومن ثم أنكر ابن إدريس الوجوب وكذا المحقق عملا بالاصل وهو أقوى. نعم لا بأس بالاستحباب لما ذكرناه وجعل محله المزوجة مع أن الرواية لم تقع بصيغة الامر حتى يحمل على الوجوب. وبالجملة: فكلامهم في هذه المسألة بعيد القبول والالتئام مختل النظام لا يرتكب إلا ببعد من الجمع بمراحل، فقصر الحكم على المزوجة وجعل الوجوب احتياطا، لان صيغة الماضي هنا معناها الامر كما وقع كثيرا في الاخبار قوي جدا وإن كان لا قائل به.
المقصد الثاني
في خصال الكفارات
سواء كانت معينة أو مخيرة أو مرتية أو مركبة منهما وهي العتق والاطعام والصيام، وهذا هو الغالب فيهما. وأما الكسوة فإنها وإن كانت من خصال الكفارة إلا أنها مختصة بكفارة اليمين، وقد جرت عادتهم بإدراجها في بحث الاطعام وفيه مسائل:
المسألة الاولى: في العتق، ويتعين على الواجد في الكفارات المرتبة ككفارة الظهار، ويتحقق الوجدان بملك الرقبة أو ملك الثمن مع إمكان الابتياع، فيكون حكم الشارع على من وجب عليه الكفارة بالعتق مرتبا على وجودها بالفعل أو بالقوة كما ينبه عليه قوله تعالى بعد قوله: فتحرير رقبة (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) إذا الوجدان أعم من الملك لانه بشتمل لغة وعرفا من لا يملك الرقبة ولكنه يقدر على شرائها بما يملكه من الثمن فاضلا عن المستثنيات كما يعتبر فيها مع وجودها على ملكه أن تكون فاضلة عنه، وسيأتي تفصيله
[ 317 ]
إن شاء الله تعالى. المسألة التانية: يعتبر في المملوك الذي يعتق في كفارة القتل الايمان، وقد اتفق عليه العلماء قاطبة لقوله تعالى في كفارة قتل الخطأ (فتحرير رقبة مؤمنة). واختلفوا في اشتراطه في باقي الكفارات حيث يجب فيها العتق، فالاكثر على الاشتراط حملا للمطلق على المقيد وإن اختلف السبب على ما ذهب إليه جم من الاصوليين. ولرواية سيف بن عميرة (1) عن الصادق عليه السلام (قال: سألته أيجوز للمسلم أن يعتق مملوكان مشركا ؟ قال: لا). ولقوله تعالى (ولاتيموا الخبيث منه تنفقون) (2) والكافر خبيث، والكفارة إنفاق، والنهي يدل على الفساد. ولان الذمة مشغولة بالعتق يقينا، وبدون المؤمن (لا يخرج) عن عهدة التكليف يقينا، فلا يجزي في رفع ما وجب باليقين إلا اليقين. والمراد بالايمان هنا الاسلام أو ما في حكمه، ويستوي في الاجزاء الذكر والانثى والصغير والكبير، والطفل في حكم المسلم إذا كان أبواه مسلمين أو أحدهما ولو حين الولادة، لكن في الروايات الكثيرة المعتبرة: لا يجوز في القتل خاصة إلا البالغ المكلف. ومن هنا طعن في دليل المشهور المتقدم من اعتبار الايمان بوجوه:
أما الاول: فلان الجمع بين المطلق والمقيد إنما يجب حيث يحصل التنافي بينهما، وذلك مع اتحاد السبب لامع اختلافه، إذ لا منافاة بين أن يقول الشارع. اعتق رقبة مؤمنة في الكفارة القتل ولا يجزي الكافرة، وبين قوله في كفارة الظهار ونحوها: تجزي الكافرة. والقول بوجوب حمل المطلق على المقيد مع اختلاف السبب قد تبين عفه في الاصول، وهؤلاء المحقون (3) القائلون باشتراط الايمان
(1) التهذيب ج 8 ص 218 ح 15، الوسائل ج 16 ص 24 ب 17 ح 5. (2) البقرة – آية 267. (3) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (المحققون).
[ 318 ]
مطلقا لا يقولون بذلك القول وإنما مشوا فيه هنا مع قائله. وأما خبر سيف – وهو الثاني من الادلة – فضعيف السند وأخض من المدعى لان مورده عدم جواز عتق المشرك مطلقا، وليس الكلام في الكفارات. وأما النهي عن انفاق الخبيث – وهو الثالث من الادلة – فالظاهر منه وهو الذي صرح به المفسرون ودلت عليه الاخبار أنه الردي من المال يعطي الفقير في الزكاة والصدقة أو ما كان حراما عند الشارع، وربما كانت المالية في الكافر إذا عليه الانفاق لغة ولا عرفا. وأما شغل الذمة بالعتق – وهو الرابع من الادلة – فيحصل الفراغ منه بامتثال ما أمر به الشارع، فإذا أمر به الشارع، فإذا أمر بتحرير رقبة وأطلق برئت الذمة بامتثال الامر كذلك، ولا يراد من الخروج من العهدة بعد التكليف في هذا وغيره إلا ذلك. نعم يتوجه للقائلين به إذا كانوا أصحاب قياس أن يقيسوا الكفارة على اشتراط العدالة في الشاهدين مطلقا لقوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (1) مع ورودها في الطلاق مع إطلاق قوله (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) (2) وقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) (3) ومثل لا يجري عند أصحابنا. ومن هنا ذهب أصحابنا – منهم الشيخ في المبسوط والخلاف وابن الجنيد – إلى عدم اشتراط الايمان في غير كفارة القتل للاصل وعملا بالاطلاق. إذا تقرر ذلك فالمراد بالايمان هنا – كما سمعت – الاسلام وهو الاقرار بالشهادتين، ولا معناه الخاص وهو التصديق القلبي بهما لان ذلك لا يمكن الاطلاع عليه وإنما التكليف متعلق بإظهار الشهادتين، ولا معناه الاخص إعني اعتقاد إمامة الائمة الاثني عشر لان ذلك أمر متأخر عن الايمان المعتبر في الكفارة واصطلاح
(1) سورة الطلاق – آية 2. (2) و (3) سورة البقرة – آية 782.
[ 319 ]
خاص، والاصل عدم اشتراطه إلى غيره. وربما قيل – وهو الاقوى – باشتراط الايمان الخاص لان الاسلام لا يتحقق بدونه. وتدل عليه الاخبار الدالة على المنع من عتق الناصب في الكفارات وغيرها، وخصوص حسنة معمر بن يحيى (1) عن الصادق عليه السلام (قال: سألته عن الرجل يظاهر من امرأته يجوز عتق المولود في الكفارة ؟ فقال: كل العتق يجوز فيه المولود إلا كفارة القتل فإن الله تعالى يقول: (فتحرير رقبة مؤمنة) يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث). وصحيحة محمد بن مسلم (2) عن أحدهما عليهما السلام (في حديث الظهار قال: والرقبة يجزئ عنه صبي ممن ولد في الاسلام). وفي رواية الحلبي (3) عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عزوجل (فتحرير رقبة مؤمنة) قال: يعني مقرة بالامامة). وفي قرب الاسناد (4) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام (قال: سألته عن الظهار هل يجوز فيه عتق رقبة صبي ؟ فقال: إذا كان مولودا ولد في الاسلام أجزأه). ومرسلة حسين بن سعيد (5) أو مستفيضته عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله وعليه واله: كل العتق يجوز المولود إلا في كفارة القتل فإن الله تعالى يقول (فتحرير رقبه مؤمنة) يعني مقرة بلغت الحنث، ويجزي في الظهار صبي ممن ولد في الاسلام).
(1) الكافي ج 7 ص 462 ح 15، الوسائل ج 15 ص 556 ب 7 ح 6. (2) لم نعثر على الرواية بهذا السند بل في الكافي ج 6 ص 158 ح 22 (عن معاوية ابن وهب قال: سألت أبا عبد الله)، وكذلك في الوسائل ج 15 ص 549 ب 1 ح 3. (3) التهذيب ج 8 ص 249 ح 134، الوسائل ج 15 ص 556 ب 7 ح 5. (4) قرب الاسناد ص 111، الوسائل ج 15 ص 557 ب 7 ح 9. (5) التهذيب ج 8 ص 320 ح 3، الوسائل ج 15 ص 556 ب 7 ح 6.
[ 320 ]
وفي هذه الاخبار دلالة كما ترى على أن سائر الكفارات لا يكفي (1) فيها الاسلام بالتبعية بخلاف القتل، فلابد من الايمان بالاصالة وهو ما تحقق معه التكليف والبلوغ. والذي يدل على تحقق الاسلام بالتبعية لابويه أو أحدهما أنه يقتل به المسلم، ولا فرق في تبعيته لهما بين كونهما حين يولد وبعده، ولابين موته قبل أن يبلغ ويعرب عن الاسلام وبعده عندنا. وللعامة في هذا المقام اختلاف، وقد عمل الاسكافي بما قلناه من اشتراط البلوغ والايمان في كفارة القتل، وهو قول متعين لهذه الاخبار المذكورة. وبهذا يظهر لك ما في المسالك بعد نقله لكلام الاسكافي حيث قال: وهو قول موجه. إلا أن المختار الاول للحوق أحكام الايمان به وحصول الارتداد بعد البلوغ ولو لم يسبق تلفظه بالشهادة بعد البلوغ فيكون حقيقة، ولقوله تعالى (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنابهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) (2) بمعنى ألحقنا بهم ذرياتهم في الايمان، فدل على أنهم مؤمنون ولدخوله في الوصية للمؤمنين. ولولا الحقيقة لما دخل من القصور لان هذه الادلة لا تخلو من شئ كما اعترف به، ولانها على تقدير تمامها لا تعارض تلك الروايات الدالة على اشتراط البلوغ بالفعل مجامعا للايمان. نعم لا يجري الحمل وإن كان أبواه مسلمين وإن كان بحكم المسلم. ولا يكفي في ذلك لو انفصل حيا، فلا يجزي فيه العتق إلا بعد الولادة لان الحمل لا تلحقه أحكام الاحياء شرعا ومن ثم لا تجب فطرته. ويصح إسلام الاخرس بالاشارة المفهمة كما تصح عقوده بها، فإذا كان أبواه كافرين فأسلم بالاشارة المفهمة حكم بإسلامه وأجزأ عتقه.
(1) كذا في النسخة، والظاهر زيادة (لا). (2) سورة الطور – آية 21.
[ 321 ]
وفي حكمه الاعجمي الذي لا يفهم اللغة العربية، فقد روي (1) (أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه واله ومعه جاريته أعجمية أو خرساء، فقال: يا رسول الله علي صلى الله وعليه واله لها: من أنا ؟ فأشارت إلى أنه رسول الله، فقال له: أين الله ؟ فأشارت، ثم قال صلى الله وعليه واله لها: من أنا ؟ فأشارت إلى أنه رسول الله، فقال له: اعتقها فإنها مؤمنة). وإنما جعلت الاشارة إلى السماء دليلا على إيمانها لانهم كانوا عبدة الاصنام، وفأفهمت بالاشارة البراءة منها لان الله الذي في السماء ليس هو الاصنام، ولا يراد بكونه فيها التخيير بل على حد قوله (وهو الذي في السماء إله) (2). ولا يفتقر الاخرس مع إسلامه بالاشارة المفهمة إلى فعله الصلاة لانها فرع الاسلام والمعتبر ثبوت أصله، ولما ذكرناه من الادلة. وخالف بعض العامة فاعتبر في إسلامه الصلاة بعد إشارة المذكورة محتجا بأن الاشارة غير صريحة في الغرض فتؤكد بالصلاة، وحمله بعضهم على ما إذا لم تكن الاشارة مفهمة. ويعتبر في اتصافه بالاسلام أن يشهد الشهادتين لاكتفاء النبي صلى الله عليه واله في الصدر الاول، ولا يحكم بإسلام المسبي من أطفال الكفار بتبعية السابي، سواء كان معه أبواه الكافران أم لا، كما هو المشهور بين الاصحاب – سيما المتأخرين – لعدم دليل للحكم على التعيين، وثبوت كفره قبل الانفراد عنهما، فيستصحب. وأما الخبر النبوي (3) المروي من الفريقين من قوله صلى الله وعليه واله (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه) لا يدل على الحكم بإسلامه على تقدير انفراده لانه قد حكم عليه بالكفر قبل الانفراد، ولا دليل على زوال ذلك ومجرد ولادته على الفطرة لو سلم كون المراد بها الاسلام المحض، فقد تحقق
(1) كنز العرفان ج 1 ص 333 ح 29687 وفيه اختلاف. (2) سورة الزخرف – آية 84. (3) الجامع الصغير ج 2 ص 94، عوالي اللئالى ج 1 ص 35 ح 18 وفيهما اختلاف يسير.
[ 322 ]
زوله بتبعية الابوين، وليست التبعية بعلة (1) في رجل وجودها خاصة، بدليل أنهما لو ماتا على تلك الحال لم نحكم بإسلامه إجماعا وإن كان في دار الاسلام. وقال في المبسوط بتبعيته السابي في الاشلام محتجا بأن هذا الطفل لاحكم له بنفسه، وليس هاهنا غير للسابي فيحكم بإسلامه، فكما حكم بانتقاله بذلك من الحرية إلى الرقية. واختار هذا القول في الدروس. وللاصحاب هنا قول ثالث أنه يتبعه في الطهارة لا غير لمكان الحرج، وتظهر ثمرة هذا الخلاف في جواز عتقه في الكفارة إن اعتبرنا الاسلام، وفي لحوق أحكام المسلمين به من الصلاة عليه ودفنه على تقدير موته قبل البلوغ. وفي اشتراط إعرابه بالاسلام بعد البلوغ بغير فصل إن لم نحكم بإسلامه بالتبعية. والاقوى الحكم بطهارته وبقاء الشك في غيرها لمباشرة الناس له في أزمانهم عليهم السلام ولئلا يلزم الحرج. ولو أسلم المراهق للبلوغ لم نحكم بإسلامه على الاشهر، وتردد فيه المحقق وهل يفرق بينه وبين أبويه على تقدير الاسلام ؟ قيل: نعم صوما له أن يستزلاه عن عزمه وإن كان بحكم الكافر. ووجه التردد من المحقق ارتفاع القلم عنه الموجب لسلب عباداته وتصرفاته التي من جملتها الاسلام، ومن تمام عقد المميز واعتبار الشارع له في مثل الوصية والصدقة، فاعتباره في الاسلام أولى، ولان مع عدم إيمان أبوية أولى وأقوى، والوجه عدم الحكم بإسلامه الحقيقي لذلك، فالقول بالتفرقة بينهو بين أبويه حذرا أن يستزلاه عما عزم عليه من الاسلام حسن.
المسألة الثالثة: يشترط في العتق السلامة من العيوب الموجبة للعتق، فلا يجزي الاعمى ولا الاجذم ولا المقعد ولا المتكل به لتحقق العتق بحصول هذه
(1) كذا في النسخة.
[ 323 ]
الاسباب كما تقدم في العتق، بخلاف غيرها من العيوب، فإنه لا خلاف في كونه مجزيا وإن أوجب نقص المالية، هكذا في المشهور، وقد نقل عليه الاجماع لعدم الاعتداد بخلاف البعض كابن الجنيد حيث قال: لا يجزي الناقص في خلقه ببطلان الجارية إذا لم يكن في البدن سواها كالخصمي والاصم والاخرس، فإن كان أشل من يد واحدة وأقطع منها جاز، وقد تقدمت الاخبار الدالة على ذلك مفصلة. واختلفوا في جواز عتق ولد الزنا وعدمه، فمنعه قوم استنادا إلى وصفه بالكفر بالاصالة لانه الاصل فيه، وقد تقدمت الاخبار كثيرة شاهدة بكفرة، وأخبار كثيرة معارضة لها، وقد جمعنا بينها بما لم يسبقنا إليه سابق من حمل الاخبار الكفر كثيرة معارضة لها، وقد جمعنا بينها بما لم يسبقنا إليه سابق من حمل الاخبار الكفر هو الاصل فيه، إلا أن يظهر الايمان فتجري عليه أحكامه بحسب الظاهر، وإن كان في نفس الامر لايدخل الجنة فإيمانه مستودع، فما اشتهر بين الاصحاب من أن ولد الزنا كغيره من المتكلفين بالنسبة إلى الاسلام والايمان، فإذا بلغ وأعرب عن نفسه فهو مسلم، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق. فالمراد منه ما قلناه لانه ما دام صغيرا فلا ينسب إلى الاسلام وإن تولد من مسلمين الانتفاء شرط التبعية، فلا يجزي عتقه بالاجماع لان إسلامه متوقف على بلوغه ورشده وإظهاره لتلك العقائد، لكنه محكوم بطهارته على الاصح لتولده من مسلمين. ولو كان متولدا من كافرين ففي الحكم بنجاسته إشكال: من عدم إلحاقه بهما حتى يتبعهما في النجاسة، ومن أنه من أجزائهما لغة وإن انتفى شرعا. ويقوى الاشكال لو تولد من مسلم وكافر، ويمكن القول بعدم إجزائه في العتق لخصوص الدليل وإن حكم بإسلامه، كما وجب رد شهادته وعدم جواز إمامته في الجماعة، ولكن روى سعيد بن يسار (1) عن الصادق عليه السلام (أنه قال: لا بأس بأن يعتق ولد الزنا). وهو شامل للكفارة وغيرها، وهذا يستلزم حمل الاخبار
(1) الكافي ج 6 ص 182 ح 2، الوسائل ج 16 ص 22 ب 16 ح 1.
[ 324 ]
المانعة من عتقه على الكراهة، أو تخصيص هذا الفرد بما لو ثبت إيمانه، ويمكن حمله على التقية أيضا. وفي صحيحة عمار بن مروان كما في الكافي والتهذيب (1) (قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: أن أبي أوصى بنسمة مؤمنة عارفة، فلما أعتقناه بان لنا أنه لغير رشده، فقال: قد أجزات عنه، إنما مثل ذلك رجل اشترى اضحية على أنها سمينة فوجدها مهزولة فقد أجزأت). وممن ذهب إليه المنع السيد المرتضى والصدوق – رحمهما الله – محتجا عليه السيد بإجماع الفرقة وبقوله تعالى (ولا تيموا الخبيث منه تنفقون) (2) وقلبهما الاسكافي محتجا بالاية أيضا. واجيب بمنع الاجماع لان الاشهر جوازه ومنع دلالة الاية كما قدمناه لعدم دخول العتق في الانفاق، فالاقوى ما قدمناه من إجزاء أحكام الايمان على ولد الزنا بعد إظهاره له عتقا وغيره. ومن شروطه أيضا على خلاف فيه، أن يكون تام الملك، فلا يجزي المدبر ما لم ينقص تدبيره، كما عليه الشيخ في النهاية وتلميذه القاضي ابن البراج وقبلها الاسكافي لحسنة الحلبي (3) بل صحيحته عن الصادق عليه السلام (في رجل يجعل العتق إن حدث به حدث وعلى الرجل تحرير رقبة في كفارة يمين أو ظهار، أيجزي عنه أن يعتق عبده ذلك في تلك الرقبة الواجبة ؟ قال: لا). ومثلها موثقة عبد الرحمن (4). وذهب الشيخ – رحمه الله – في كتابي الفروغ والحلي والمتأخررن من علمائنا
(1) الكافي ج 7 ص 62 ح 17، التهذيب ج 9 ص 236 ح 13، الوسائل ج 13 ص 481 ب 95 ح 2. (2) سورة البقرة – آية 267. (3) التهذيب ج 8 ص 25 ح 56، الوسائل ج 15 ص 558 ب 9 ح 2 وفيهما (أيجزى عنه أن). (4) التهذيب ج 8 ص 265 ح 30، الوسائل ج 16 ص 97 ب 12 ح 1.
[ 325 ]
إلى الاجزاء، ويكون عتقه فسخا للتدبير لانه بمنزلة الوصية، فيبطلها التصرف الناقل عن الملك ويقع صحيحا كما مر في بابه، وهذا هو الاشهر بينهم، وحملت الروايتان على من جعل ذلك بوجه لازم ويحملان على الكراهة. وفيهما نظر لصراحة هاتين الروايتين وعدم قبولهما لهذين الحملين لتوقفهما على وجود المعارض، وليس فليس، فلا يمكن حملها على ما ورد في رواية الكرخي (1) حيث قال: (قلت لابي عبد الله عليه السلام: إن هشام بن رزين سألني أن أسالك عن رجل جعل لعبده العتق إن حدث بسيده حادث الموت وعليه تحرير رقبة واجبة في كفارة، أيجزي عن الميت عتق الذي كان السيد جعل العتق بعد موته في تحرير الرقبة التي كانت على اليمت ؟ فقال: لا) لانها صريحة في انعتاق العبد بالتدبير المجرد بموته، فكيف يجزي عما وجب عليه من جهة الكفارة ؟ بخلاف هاتين الروايتين، فإنهما صريحتان في عتق المدبر وهو حي، وقد نفى الاجزاء. نعم يمكن أن يقرأ الفعل فيهما (يعتق) مبنيا للمجهول ويكون المعتق هو الوصي، فذلك لا يجزي قطعا، فيتحد مدلول فيهما أن العتق بغير رجوع عن التدبير لا يجوز، فيرجع إلى كلام الشيخ في النهاية ومن قال بمقالته. وكذا اختلفوا في المكاتب المطلق إذا لم يؤد شيئا أو كان مشروطا، فقال الشيخ في الخلاف: لا يجزي. ولعله نظر إلى نقصان الرق بتحقق الكتابة، وظاهر كلامه في النهاية أنه يجزي، وجعله المحقق أشبه لتحقق الرق، ويمكن توجيه عدم الاجزاء بأن الكتابة معاملة بين السيد والمملوك، وهي لازمة من قبل السيد كما تقدم، وقد خرج بها من عن الملك خروجا متزلزلا حتى قيل: إنها بيع للعبد من نفسه، والاصل لزوم العقود كما ف 0 الايه لوجوب الوفاء به، والعتق
*) (1) التهذيب ج 8 ص 231 ح 70 وفيه (هشام بن اذينة)، الكافي ج 6 ص 194 ح 3، الوسائل ج 15 ص 558 ب 9 ح 1 وفيهما (هشام بن ادين).
[ 326 ]
يستلزم الملك، وبقاؤه في المكاتب غير معلوم، ومن ثم لا تجب فطرته ولا نفقته، فانتفت عنه لوازم الملك من المنع من التصرف وغيره وإن نهاه السيد، والحجر عليه في بعض التصرفات مراعاة الدين لا يقتضي بقاؤه في الرق، وعوده إليه على تقدير المعجز أمر متجدد، وقد بينا أن خروجه غير مستقر، فالقول بعدم الجواز متوجه بذلك. ويمكن أن يوجه الجواز بأن تعجيل عتقه محض الاحسان إليه وتحريره المحض متوقف على أداء المال، فهو متردد بين الامرين، ولا يرد أن الامر منحصر في الرقية أو الحرية لان المدعى وجود الحرية المتزلرلة فيه، وفيها معنى الرقية من وجه والحرية من آخر، وهي إلى الاول أقرب. وبالجملة: فالحكم موضع تردد إن لم نرحج جانب المنع، وقد مال إليه في المختلف، والاقوى صحة عتقه ما لم يتحرر منه شئ استصحابا لحكم الرقية إلى أن يثبت المزيل، ولا ثبوت قبل أن يؤدي المطلق شيئا من مال الكتابة، أو أنه مشروط بحكم الرق فيستصحب، وللاتفاق على جواز التبرع بعتقه وذلك دليل على بقاء الرقية، وكونها بيعا للمملوك من نفسه غير صحيح عندنا كما بيناه فيما سبق، وكذا اختلفوا في جواز عتق الابق إذا لم يعلم موته، والمشهور الجواز لاصالة بقائه حيا، ومن ثم وجبت فطرته، فيستصحب حكم الرق إلى أن ينقطع خبره ويمضي عليه مدة لا يعيش إليها عادة. وتدل عليه رواية أبي هاشم الجعفري (1) الحسنة (قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل قد أبق منه مملوكه بجوزأن يعتقه في كفارة الظهار ؟ قال: لا بأس به ما لم يعرف منه موتا).
(1) الكافي ج 6 ص 199 ح 3، الوسائل ج 16 ص 62 ب 48 ح 1.
[ 327 ]
واستوجه في المختلف الرجوع فيه إلى الظن فيصح عتقه مع ظن حياته ويبطل مع ظن وفاته ومع اشتباه الحال. وأما المنع من عتقه مطلقا فليس من مذهبنا وإنما هو لبعض الشافعية، وخصة بالكفارة لنقصان الملك، وهو ممنوع. والمغصوب كالابق. وفي خبر أحمد بن هلال (1) (قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام: كان علي عتق رقبة فهرب لي مملوك لست أعلم أين هو، يجزيني عتقه ؟ فكتب عليه السلام: نعم). ومما اختلف فيه أيضا عتق ام الولد، إلا أن المشهور بين الاصحاب جواز عتقها في الكفارة كما يجوز عتقها تبرعا لبقاء الملك وإن امتنع بيعها على بعض الوجوه، فإن عدم جواز البيع لا يقتضي زوال الملك ولجواز بيعها على بعض الوجوه. وفي الخبر (2) عن زيد العابدين عليه السلام (أن ام الولد تجزي في الظهار). وقد نسب المنع لبعض الاصحاب ولم نعرف قائله، وهو مذهب العامة إيضا لنقصان الرق باستحقاقها العتق لجهة الاستيلاد، وهو ممنوع، فإنها إنما تستحفق العتق بعد الموت لا مطلقا، والثابت في حياة المولى إنما هو المنع من التصرف مما يوجب نقل الملك مع أن تنجير العتق إحسان محض وتعجيل لما سيثبت وفيما بعد هذا أعتقها المولى عن كفارته، أما عتقاعن كفارة غيره إما بأن يبيعها لتعتق عن الكفارة أو بمجرد أمر من عليه الكفارة للمالك بالعتق عنه، ففي الصحة هنا إشكال من حيث نقلها عن ملك المولى حقيقة. أو ضمنا وهو ممتنع، وفيه وجه بالجواز من حيث استلزمه تعجيل العتق.
المسألة الرابعة: فيما لو أعتق نصفين من عبدين مشتركين لم يجز لانه لا يسمى بعتق الرقبة لعدم تحققها بذلك، إذا لمأمور به آية ورواية في الكفارات إنما هو تحرير رقبة وهي حقيقه في الواحدة الكاملة.
(1) الفقيه ج 3 ص 85 ح 12، الوسائل ج 16 ص 63 ب 48 ح 2. (2) التهذيب ج 8 ص 319 ح 1، الوسائل ج 15 ص 577 ب 26 ح 1.
[ 328 ]
وخالف بعض العامة تنزيلا للاشقاص منزلة الاشخاص، ولذلك تجب الزكاة على ملك نصف ثمانين شاة. ولهم قول آخر: إن باقي العبدين إن كان حرا أجزأ وإلا فلا، والفرق عندهم أنه إذا كان الباقي حرا أفاد الاعتاق التخلص من الرق وهو مقصود مع الاعتقاق. وكذا القول فيمن أعتق ثلثا من واحد وثلثين من آخر وهكذا. وأما لو أعتق شقصا من عبد مشترك وقلنا بالسراية ابتداء فقدانعتق أجمع، فإن نو الكفارة وهو مؤسر أجزأه إن قلنا إنه ينعتق بنفس إعتاق الشقص، وإن قلنا: إنه لا ينعتق إلا بأداء قيمة الشريك فقد اختلف في أنه هل يجزي عند أدائها حيث إنه صار كاشفا عن حصول العتق من وقت اللفظ أم لا ؟ المشهور عند الاصحاب عتقه إعتاق نصيبه وقد نويت به الكفارة، فالعتق في الباقي يتبع العتق في نصيبه، فكما بعه في أصل العتق جاز أن يتبعه في الوقوع عن الكفارة، ولا فرق في الاجزاء على هذا التقدير بين أن يوجه العتق على جميع العبد وبين أن يوجهه على نصيبه خاصة لحصول عتق الجميع بالسراية في الحالين. ويحتمل قويا – كما ذكره في المسالك – اشتراط نية العتق لجميعه لكونه مأمورا بإعتاق رقبة بالنية، فلا يكفي نصيبه وإن تبعه الباقي لحكم الشارع لانه خبر مقصود له ابتداء وذلك غير كاف في صرفه إلى الكفارة. هذا إذا قلنا بالسراية عند اللفظ أو به وأداء القيمة. وإن قلنا: إن العتق إنما يحصل بأداء القيمة ففي الاجزاء قولان، وقد تردد المحقق في ذلك، لتحقق عتق الرقبة التي هي مقصود الشارع. ومن منع كون المقصود عتقها بل عن الكفارة، وعتق الباقي إنما يحصل بسبب بذل العوض لا بسبب الكفارة. وعلى تقدير الاجزاء فهل يكفي النية الاولى لنصيب الشريك أم يحتاج إلى تجديد النية عند الاداء ؟ قولان:
[ 329 ]
أحدهما: للمبسوط وهو أنه يكفي نيته عند اللفظ لان النية اقترنت بالعتق، إلا أن العتق حصل على الترتيب والتدريج.
والثاني: أنه لابد من التجديد لتقترن النية بعتق نصيبه، ولو نوى في الحال صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة ونو ى عند القيمة صرف نصيب الشريك إليها أجزأه أيضا لاقتران النية بحال حصول العتق، هذا كله مع اليسار. أما مع الاعسار فإن عتقه يوجد في نصيبه ولا يسري إلى نصيب شريكه، فإن ملك بعد ذلك مالا وأيسر لم ينفذ عتقه فيه لان الرق قد استقر فيه للشريك فلا يتأتى إزالته بعد استقراره، لكن إن ملكه وأعتقه ابتداء أجزأ لان عتق الرقبة قد حصل وإن كان متفرقا. ومنع الاسكافي من أجزاء هذا العتق عن الكفارة لان عتق السراية قد حصل بغير قصد، ويصدق أن يقال: ما أعتق جميع العبد وإنما أعتق نصيبه وعتق عليه الباقي بحكم الشرع. وهذا وإن كان قولا وجيها إلا أن الاشهر الاجزاء، والنصوص خالية عن ذلك فيما وصل إلينا، فتردد المحقق – رحمه الله – في محله.
المسألة الخامسة: لو أعتق عنه معتق بأمره صح ولم يكن له عوض لانه متبرع إلا أن ينص حال الامر بعتقه عنه على العوض، مثل أن يقول: (اعتق) عبدك عن كفارتي ولك علي عشرة دنانير، وفي الموضعين يقع الاجزاء عن الكفارة. ووجهه أن المعتق كالنائب عن الامر على التقديرين وكالو كيل عنه في الاعتاق، فيكون الامر كأنه المعتق للرقبة عن الكفارة فيدخل في عموم قوله فتحرير رقبة ولا مانع من ذلك إلا عدم كونه مالكا لها في تلك الحال، لكن قد تقرر فيما سبق في العتق أن الملك ينتقل إليه ليصح العتق. وبه الخبر المرسل الموجود في الكتب الاستدلالية، وقد نقله ابن أبي جمهور الاحسائي في عوالي اللئالى، هذا إذا أمره بذلك. أما لو تبرع عنه من غير سؤال فالشيخ في المبسوط حكم بصحة العتق من
[ 330 ]
المعتق دون أعتق عنه، سواء كان المعتق عنه حيا أو ميتا إن يكن المعتق وارثا، فإن كان ذلك صح عتقه عن الميت وإن لم يكن من مال الميت، وقد جاء في أخبار كثيرة ذكرناها في أحكام القضاء عن الميت، لكن في كثير منها إطلاقا وشمولا للمتبرع الاجنبي، وهم حملوها على الولي. وإنما فرق بين الاجنبي في جهات القضاء، وقائم مقامه في قبول قوله فيه وفي تخيير الوصية المبهمة والمطلقة على وجه مع تكليفه مما عليه من الصلاة والصوم بخلاف الاجنبي. ولا يخفى عليك أن هذه الوجوه الفارقة خارجة عن موضع الفرض، ولا يقتضي عموم الولاية لان الفرض كونه غير وصي. ومن ثم قال المحقق – رحمه الله -: إن الوجه التسوية بين الاجنبي والوارث جوازا ومنعا لان التبرع حاصل في كل واحد منها لما ذكرناه من الفرض من كونه غير وصي، وكونه قائما مقامه في بعض الاحكام لا يستلزم قيامه مقامه في غيره، وحينئذ فإما أن نمنع من الاجزاء فيهما نظرا إلى وقوع العتق من غير مالك ولا من هو في حكمه كالوكيل والمأمور لانه لاعتق إلا في مالك كما هو مجمع عليه فتوى ورواية، أو صحته فيهما، التفاتا إلى أن المتبرع نوى العتق عن ذي الكفارة، فيقع عنه لعموم قوله صلى الله وعليه واله (إنما الاعمال بالبينات) (1). ولانه لو لم يقع عنه لما وقع أصلا، أما عن المعتق فلعدم نيته له عن نفسه ولا عمل إلا بنية، وأما عن الاخر فلانه الفرض ولانه جار مجرى قضاء الدين الجائز تبرعا من الاجنبي والوارث، ودين الله أحق أن يقضى، وتوقف العتق على ملك مدفوع بالملك الضمني كما قيل به مع السؤال. والمحقق في الشرائع لم يرجح أحد الامرين وإنما منع الفرق، والاقوى الاجزاء عن الميت مطلقا لدلالة تلك الاخبار الكثيرة. أما عن الحي ففيه نظر وإشكال وإن كان الوقوع لا يخلو من قوة لما
(1) عوالي اللئالى ج 1 ص 81 ح 3.
[ 331 ]
ثبت في الدين. أما إذا قال: اعتق عبدك عني فأجابه في الحال بقوله: أعتقت عنك فقد وقع الاتفاق من الاصحاب على الاجزاء. ولكن اختلفوا في أنه متى ينتقل ؟ إلى أقوال: أحدها: إن الملك يحصل عقيب الفراغ من لفظ الاعتاق على الاتصال 7 وفيه أنه يستلزم تأخر العتق عن الاعتاق بقدر ما يتوسطهما الملك، واعتذر عنهم بأن تأخر الاعتاق عن العتق بسبب أنه أعتق عن الغير، ومثله واقع في قوله (أعتقت عبدي عنك بكذا) فإن عتقه يتوقف على قبول المعتق عنه، ويلزم منه تأخر العتق عن الاعتاق. المحقق – رحمه الله – نسب هذا القول إلى التحكم البحث لان الدليل الدال على صحة هذا العتق إن سلم دلالته على انتقاء الملك فليس فيه توقيت له، فتخصيصه بهذا الوقت تحكم.
وثانيها: أنه يحصل الملك بشروعه في لفظ الاعتاق، ويعتق إذا تم اللفظ بمجموع الصيغة، فالجزء عله للعتق وهو ملك الامر، والكل سبب لزوال ملكه عنه بالاعتاق. وهذا قول المفيد والعلامة وولده. وفيه أنه يستلزم صيرورته ملكا للامر قبل تمام الصيغة، فلو فرض تركه إكمالها خرج عن ملكه ولم يقع العتق. وثالثها: أنه يحصل الملك للمستدعي بالاستدعاء ويعتق عليه إذا تلفظ المالك بالاعتاق، ويرد كل ما ورد على السابق وزيادة.
ورابعها: أن يحصل الملك والعتق معا عند تمام الاعتاق، وفيه سلامة من المحذور السابق، إلا أن اشتراط وقوع في ملك يقتضي تقدم الملك على العتق ولا يتم وقوعهما معا في زمن واحد عند تمام لفظ العتق.
وخامسها: أنه يحصل بالامر المقترن بصيغة العتق فيكون تمام الصيغة كاشفا عن سبق الملك عليها وعدم أيقاعها بعد الاستدعاء أو قطعها، أو وقوع خلل فيها
[ 332 ]
دال على عدم حصول الملك بالامر لعدم حصول ما يعتبر في صحته وهو اقترانه بالامر بالعتق. وفيه أن ذلك الاقتران المذكور يكون شرطا في سبق الملك، فلا يتحقق الاقتران إلا بتمام صيغة العتق، فيلزم تأخر الملك عن الاعتاق وإلا لتأخر الشرط عن المشروط. ومن حيث هذه الاشكالات الواقعة على هذه الوجوه عدل المحقق ومن تبعه عنها أجمع وقال – ونعم ما قال -: والوجه الاقتصار على الشهرة وهو صحة العتق عن الامر وفراغ ذمته من الكفارة. ولا يجب علينا البحث عن وقت انتقال الملك إليه فإن ذلك تخمين محض لا يرجع إلى دليل صالح يعتمد عليه، وقد ذكروا لهذه المسألة نظيرا سيأتي في مباحث المطاعم والمشارب وهو أنه إذا قال مالك الطعام لاجنبي: كل هذا الطعام فقد اختلفوا في الوقت الذي يملكه الاكل. والاقوى من تلك الاقوال ما عليه المحقق أيضا من عدم انتقاله إلى ملك المأذون له في الاكل مطلقا، وإنما يستبيح الاكل بالاذن لاصالة بقاء الملك على مالكه وعدم حصول شئ من الاسباب الناقلة عنه شرعا، فهو إباحة محضة من غير تمليك، لكنها مختصة بالنوع الذي اذن فيه لفظا أو بقرينة الحال، فيرجع في تكريم الضيفان بععضهم بعضا ووضع شئ منه بين يديه وإطعام غيرهم من السائل والهرة وغيرهما إلى الاذن المستفاد من اللفظ أو القرينة، ومع الشك يحرم ما سوى الاكل عملا بالمتيقن من الاباحة.
المسألة السادسة: لو قتل العبد عمدا شخصا آخر فأعتقه في الكفارة فالمسألة موضع خلاف حتى أن للشيخ قولين، والمشهور على المنع. واختلاف كلام الشيخ في هذه المسألة اختلاف فاحش، لانه في الخلاف منع من صحة عتق الجاني عمدا وجو زعتقه إذا كانت الجناية خطأ، واستدل على ذلك بإجماع الفرقة. وعكس في المبسوط وقال: الذي يقتضيه مذهبنا أنه إن كان عامدا
[ 333 ]
نفد العتق لان القود لا يبطل كونه، وإن كان حرا، وإن كان خطا لا ينفذ لانه يتعلق برقيتة. والسيد بالخيار بين أن يفديه أو يسلمه. والمحقق بما اختار مذهبه في الخلاف وهو صحة العتق مع كون الجناية خطا وبطلانه مع العمد لانه مع العمد يكون الخيار إلى أولياء المقتول، إن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا استرقوه، وصحة عتقه يلزم إبطال ذلك. أما الخطأ فاليخار للمولى، إن شاء فكه بالارش أو القيمة على الخلاف وإن شاء دفعه لاولياء المقتول، فإذا أعتقه يكون مختارا فكه لكنه لايتم إلا مع يساره، فإن كان معسرا لم ينفذ عتقه لتضرر أولياء المقتول بعدم تسلطهم على حقهم. أما العبد المرهون قبل فك رهانته فالمشهور عدم صحة عتقة للحجر عليه بالرهانة. وخلف الشيخ فصحح عتقه مطلقا إن كان مؤسرا، ويكلف أداء المال إذا كان حالا أو رهنا بدله إذا كان موجلا، وهو بعيد. ووجه العبد ظاهر لان الراهن ممنوع من التصرف في المرهون بالاجماع والروايات، فإخراج هذا الفرد من التصرف تحكم. نعم لو أجاز المرتهن نفذلان المنع من جهة حقه، فإذا جاز زال المانع وصادف وقوع العتق من أهله. واستدل الشيخ – رحمه الله – على ذلك بعموم قوله تعالى (فتحرير رقبة) فإن الراهن مالك لها وهو مع يساره واجد فيتناوله العموم، وهو ممنوع بالاجماع والادلة.
المسألة السابعة: شرط صحة العتق النية المشتملة على القربة لانه عبادة نحتمل وجوها، فلا تختص بأحدها إلا بالنية، وشرط اشتمالها على القربة يمنع من عتق الكافر ذميا كان أم غيره لعدم تأتي القربة منه. هكذا ذكره المحقق – رحمه الله – وغيره. وتنظر في ذلك في المسالك لانه إن أراد بنية القربة المتعذرة نية إيقاع الفعل طلبا للتقرب إلى الله تعالى بواسطة نيل الثواب أو ما جرى مجراه، سواء
[ 334 ]
حصل له ما نواه أم لا، منعنا من تعذر نية القربة من مطلق الكافر لان من اعترف منهم بالله تعالى وكان كفره بجحود نبوة النبي صلى الله وعليه واله أو غيره من الانبياء أو بعض شرائع الاسلام يمكن منه هذا النوع من التقرب. وإنما يمنع من الذي لا يقر بوجود الله تعالى كالدهري وبعض عبدة الاصنام وإن أراد بها إيقاعه على وجه التقرب إلى الله تعالى بحيث يستحق بها الثواب طالبناه بدليل على اشتراط مثل ذلك وعارضناه بعبادة المخالفين وعتقهم لانهم من فرق المسلمين وأنهم لا يستحقون الثواب عندنا مع صحة عتقهم وفي صحة عبادتهم، بحيث قد قرر في محله. وبالجملة: فكلامهم في هذا المقام مضطرب لا يمكن فيه الالتئام غير منقح للمرام، لكونهم تارة يحكمون ببطلان عبادة الكافر مطلقا ويستندون إلى تعذر القربة ومقتضى ذلك إرادتهم المعنى الثاني لان ذلك هو المتعذر منه لا الاول وتارة يجو زون منه بعض العبادات كالعتق فإنه يجوز عند جماعة عند جماعة من الاصحاب مع اشتراطهم القربة نظرا إلى ما ذكرناه من الوجه في الاول، وقد وقع الخلاف بينهم في وقفه وصدقانه وعتقه المتبرع به ونحو ذلك من التصرفات المالية مما اعتبروا فيها القربة مع أنهم اتفقوا على عدم صحة العبادات البدنية منه، نظرا إلى أن المال يراعى فيه جانب المدفوع إليه ولو بفك الرقبة من الرق فيرجح فيه جانب القربات بخلاف العبادات البدنية، ومن ثم ذهب بعض المخالفين إلى عدم اشتراط النية في العتق والاطعام واعتبروها في الصيام، إلا أن هذا الاعتبار غير منضبط عند الاصحاب كما ذكرناه فيما سبق. وأما ما ذهب إليه بعض المخالفين من أن الكافر مطلقا لايعرف الله على الوجه المعتبر ولو عرفه لاقربجميع رسله ودين الاسلام فهو كلام بعيد عن التحقيق جدا، إذ لا ملازمة بين الامرين كما لا ملازمة بين معرفة المسلم لله تعالى ومعرفة دين الحق من فرق الاسلام لان كل حزب بما لديهم فرحون.
المسألة الثامنة: تعتبر نية التعيين إذا اجتمعت أجناس مختلفة على الاقوى
[ 335 ]
ولو كانت الكفارات من جنس واحد، فالشيخ على إجزاء نية التكفير مع القربة ولا يفتقر إلى التعيين، وهو مشكل. أما الصوم فمقتضى المذهب أنه لابد فيه من نية التعيين، ويجوز تجديدها إلى الزوال، ومعنى تعدد الكفارات على واحد كأن يكون عليه كفارت عديدة عن أسباب مختلفة، ومعنى اتحادها جنا هو اتحادها نوعا كما هو استعمال الفقهاء في نظائره. والمراد باتحادها نوعا أن يتحد سببها وهو في مقابلة تعددها لتعدد السبب، لكنه على تعددها إما تتمائل ككفارة قتل الخطأو الظهار أو تختلف كإحدى الكفارتين مع كفارة اليمين وكفارة شهر رمضان على المشهور من أنها مخيرة، فإن اختلفت الاسباب والمسببات فالشيخ في الخلاف على وجوب التعيين لقوله صلى الله وعليه واله (إنما الاعمال بالنيات) فما لم يحصل فيه النية فهو غير مجز، ولان الاصل شغل الذمة ولا يقين ببراءتها مع الاطلاق ولامتناع الصرف إليهما جميعا، وللبعض ترجيح بلا مرجح، وهذا مختار المحقق – رحمه الله – والحلبي وأكثر المتأخرين. وفي المبسوط اكتفى بالاطلاق لاصالة البراءة من اشتراطة ولحصول الامتثال، وجاز انصرافه إلى واحدة بعينها فتبقى في ذمته الاخرى، ويشكل بأنه حالة اختلافها حكما ككفارة الظهار واليمين إن تخير بعد العتق ثانيا كان منصرفا إلى المخيرة، وهو خلاف التقدير. ومن هذا الاشكال فصل في المختلف فالتزم مع اختلاف الكفارات حكما لامع اتفاقها، وأورد عليه ما لو كانت إحداهما كفارة جمع والاخرى مرتبة، فإن حكمها مختلف والمحذور مندفع لكون العتق ثانيا متعينا من غير المحذور المذكور لكون ذمته مشغولة بعتق معين ثانيا على كل تقدير، إلا أن يقال بأن هذا من أفراد متفق الحكم لاشتراكهما في تعيين العتق ابتداء لكنه خلاف المفهوم من مختلف الحكم.
[ 336 ]
ويمكن اندفاعه بأن الشيخ في المبسوط مصرح بجواز التعيين بعد الابهام فينصرف العتق إلى التي صرفه إليها، كما لو عين في الابتداء ونفى حكم الاخرى بحاله فلا محذور حينئذ. ويمكن دفعه أيضا بالتزام تعيين ثانيا على تقدير كون إحداهما مرتبة والاخرى مخيرة، ويلزم انصراف العتق أولا إلى المخيرة لانها تنصرف إلى الكفارة مطلقة مما في ذمته والاخرى باقية على إطلاقها أيضا مترددة بين المرتبة والمخيرة، فإذا اختار العتق فقد برئت ذمته على التقديرين، فتعين العتق كفارة لا لانصرافه إلى المخيرة وإن كان مشاركا له في المعنى، وهذا كمن عليه كفارة مشتبهة بين المخيرة والمرتبة فإنه يتعين عليه العتق لتيقن براءة الذمة منها وإن لم يكن العتق متعينا عليه في نفس الامر، بل من باب مقدمة الواجب ليتوقف البراءة عليه، وإن تعددت الكفارات واتحد جنس سببها فهو أيضا موضع خلاف، إلا أن المشهور بين الاصحاب – حتى قال الشهيد في الشرح على الارشاد: إنه لا يعرف لاحد من العلماء قولا بغيره – عدم وجوب التعيين. والشيخ في الخلاف نقل الاجماع على عدم اشتراطه. لكن المحقق – رحمه الله – في الشرائع جعل فيه إشكالا، وكأن وجهه اشتراك الجميع في أن كل واحدة عمل وكل عمل مفتقر إلى النية، فكل كفارة تفتقر إلى النية. والجواب عنه القول بالموجب، فإنه إذا نوى الكفارة مطلقا فقد حصل العمل مقرونا بالنية وبرئت ذمته من واحدة مطلقة مما في الذمة، وبقي الكلام كذلك. والذي دل عليه الخبر المذكور من اشتراط النية في العمل هو وجوب القصد إلى العمل لاكونه مشخصا بجميع وجوهه، فإنه لا يدل عليه، وهذا الكلام كله إذا كفر بالعتق، وفي معناه التكفير بالاطعام والكسوة. أما الصوم فقد سمعت من أنهم كالمجمعين على أنه لابد فيه من نية التعيين
[ 337 ]
مطلقا، والذي يظهر من الشيخ في المبسوط اشتراك جميع خصال الكفارات في جواز الاطلاق لانه قال – بعد أن فرض المسألة في الكفارات المتحدة الجنس ككفارات اليمين -: فإن أبهم النية فلم يعين بل نوى كفارة مطلقا أجزأه لقوله تعالى (فكفارته إطعام عشرة مساكين) ولم يفرق. ثم قال بعد: فأما إذا كانت أجناسا مثل أن حنث وقتل وظاهر ووطأ في شهر رمضان فالحكم فيها كلها كما لو كان الجنس متحدا فهي لا تفتقر إلى تعيين النية. وظاهر هذا الكلام عدم الفرق بين الصوم وغيره. وباقي الاصحاب في هذا المقام لم يتعرضوا للبحث عن التعيين وعدمه إلا في العتق، والظاهر منهم أنهم أحالوا الباقي عليه. وفي الحقيقة أن تلك الفروق لا تخلو عن تكلف ولا توجد بغير نية التعيين مطلقا.
المسألة التاسعة: لو كان عليه ثلاث كفارات متساوية في الخصال الثلاث وهي: العتق والصوم والصدقة فأعتق ونوى القربة والتكفير ثم عجز وصام شهرين متتابعين بنية القربة والتكفير ثم عجز فأطعم ستين مسكينا كذلك برئت ذمته من الثلاث، وذلك مبني على عدم اشتراط التعيين مطلقا. فلو اشتمل عليه كفارة ظهار وقتل وإفطار رمضان فأعتق ناويا الكفارة مطلقا حصل البراءة من واحدة غير معينة إن لم يعينة بعد ذلك لواحدة لاحدها. فإذا عجز عن العتق ثانيا فصام شهرين متتابعين برئ من اخرى كذلك، فإذا عجز عن الصوم فأطعم ستين مسكينا برئ من الجميع، وإنما اشترط العجز عن المرتبة السابقة ليجزي الحكم على المرتبة والمخيرة، فإن الثلاث إن كانت مرتبة أو مجتمعة من الامرين فاشتراط العجز في محله، وإن كانت كلها مخيرة وفعل الثلاث الخصال كما ذكر برئ من الثلاث وإن كان حال فعل الصوم والاطعام عاجزا عن السابق، لكن فائدة القيد شمول الاقسام، ولا يضر هنا أيضا حيث إن العجز لا يغير الحكم، فإن لم يكن معتبرا وقد بقي من الاقسام ما لو اجتمع عليه ثلاثة
[ 338 ]
كفارات جمع فأعتق، وقد نوى الكفارة مطلقا فإنه يبرأ من عتق واحدة غير معينة، فإذا كذلك برئ من صوم واحدة كذلك، فإذا أطعم فكذلك، ثم إذا لم يصرفه إلى واحدة معينة منها وإلا افتقر في بقية الخصال إلى الاطلاق. ولو كان عليه كفارة وشك في أنها عن قتل أو ظهار فأعتق ونوى القربة والتكفير أجزأ، وهذا مبني على القول بعدم وجوب التعيين لان هذه النية مجزية على هذا القول وإن علم بنوع الكفارة، فمع الشك فيها أولى. ولو اشتراطنا التعيين مع العلم احتمل سقوطه مع الجهل كما في هذه الصورة، ووجوب الترديد فيها بين الامرين كما في الصلاة المشتبهة حيث وجب بعينها ابتداء، فكذا مع الجهل فيردد النية بين الاقسام المشكوك فيها، وهذا أولى. أما لو شك بين نذر وظهار فنوى التكفير لم يجز لان النذر لا يجزي فيه نية التكفير، ولو أيهما كان جاز ولو نوى الوجوب لانه قد يكون لا عن الكفارة، والمعتبر من النية المطلقة حيث لا يجب التعيين فيه أن يشرك فيها جميع ما في ذمته من الامور المتعددة من كفارات وغيرها، فإذا علم أن في ذمته عتق رقبه وشك في سببه بين أن يكون عن نذر عتق رقبة أو كفارة ظهار فالامر الجامع بين الامرين أن ينوي أمرا يشترك فيه النذر والكفارة بأن ينوي العتق عما في ذمته من النذر والكفارة، فنية التكفير وحدها لا تجزي لاحتمال كون ما في ذمته منذورا، والنذر لا يجزي فيه نية التكفير وبالعكس، بخلاف ما لو علم أنه عن كفارة. واشتبه الامر بين ظهار ويمين مثلا وقتل وغير ذلك من الاسباب الموجبة للكفارة، فإن نية التكفير مجزية لان الجميع مشترك فيه. وكذا لا يجزي لو نوى العتق مطلقا وإن كان فيه نوع اشتراك بين الامرين لانه ظاهر في إرادة التطوع به فيحتاج إلى ضميمة تدل على صرفه إلى ما في ذمته كنية العتق الواجب عليه ونحوه، ولو نوى به الوجوب مطلقا فمذهب المحقق
[ 339 ]
– رحمه الله – ومن تبعه أنه غير مجز، معللا بأن الوجوب قد يكون لاعن كفارة فلا يجزي عنهما، كما لو نوى العتق الواجب وفي ذمته كفارة محققة فإنه غير مجز، بل لابد من ضميمة كونه عن كفارة. وذهب العلامة في القواعد إلى أنه لو نوى العتق الواجب أجزأ، مع أنه قد وافق على عدم أجزأء نية الوجوب، والفرق غير واضح.
المسألة العاشرة: لو كان عليه كفارتان فيهما العتق وله عبدان فأعتقهما ونوى نصف كل واحد منهما عن كفارة والنصف الاخر عن الاخرى سرى العتق إليهما و انعتق كل واحد عن الكفارة التي نوى بها عتق نصفه مباشرة، هذا إذا نوى بعتق النصف المعين مباشرة الكفارة دون ما يحصل بالسراية لم يصح العتق عن الكفارة مطلقا. أما النصف الواقع مباشرة فلانه غير كاف، وعدم إجزإ ضميمة الباقي من رقبة آخر لعدم صدق الرقبة على النصف كما تقدم. وأما الجزء المعتق بالسراية فلعدم نية الكفارة به بل نية عدمه. ومثله ما لو لم يكن عليه إلا كفارة واحدة وأعتق نصف عبده عنها، وقد تقدم البحث في ذلك وذكرنا أن الاسكافي منع من صحة العتق عن الكفارة على هذا الوجه، وهو قول وجيه.
الحادية عشرة: لو اشترى أباه أو غيره ممن ينعتق عليه ونوى به التكفير ففي الاجزاء خلاف، حتى أن للشيخ – رحمه الله – قولين، ففي المبسوط يجزي وفي الخلاف لا يجزي. واستوجهه المحقق لان نية العتق توثر في ملك المعتق لا في ملك غيره، فالسراية سابقة على النية فلا يصادف حصولها ملكا مع أنه في المبسوط أيضا في باب الكفارات صرح بعدم الاجزاء لقوله تعالى (فتحرير رقبة) وظاهرها فعل الحرية بالاختيار، وهنا الحرية إجباريه، ولان النية معتبرة وهي هنا متعذرة لانها قبل الملك لاستحالة إيقاعها على ملك الغير ولا بعده لحصول
[ 340 ]
العتق ولا في، إذ لااستقرار له. وبهذا يحصل لك الفرق بينهما وبين ما سبق من عتق المملوك المشترك لان النية في ذلك قد صادفت ملكا للبعض فأثرت فيه. وتبعه الباقي بخلاف هذه، فإن الملك الشراء الذي هو محل النية منتف عن العتق وبعده يحصل العتق. وقد نقل المحقق – رحمه الله – عن الشيخ في المبسوط الاجزاء، واستدلوا له بأن الملك كان سابقا على السراية قطعا ومتقدما عليها كتقدم العلة على المعلول لا العتق مشروط بالملك والسبب سابق على الملك ضرورة سبق السبب على مسببه والنية مقارنة للسبب، فالسراية لم تصادف إلا عبدال معتقا عن كفارة، فلا سراية. وحينئذ نمنع حصول العتق هنا إلا عن الكفارة لانه إنما ينعتق بالقرابة لو لم يوجد سبب أسبق وقد وجد نية الكفارة، وهذا متجه جدا، لكنه مشروط باستصحاب الينة فعلا إلى عقد البيع ليصادف الملك ويصدق مقارنتها للسبب إلى عتق الملك. وما ذكروه من الفرق بين هذه وعتق المشترك بأن النية إنما أثرت في المملوك، أما سرى إليه العتق من ملك الغير فلم يكن مملوكا حال النية والسراية إنما ترتبت على ملك البعض وحكم بملك المعتق له ضمنا قيل السراية والامر هنا كذلك، بل الملك هنا حقيقي لا ضمني لان الانعتاق متسبب عن ملك القريب له، فإذا قارنت النية فقد قارنت العتق واشتركا في مقارنتها للسبب. وربما فرق البعض بين الامرين بأن العنق بالنسبة الى السراية إلى حصة الشريك بسبب فاعل له، والشراء بالنسبة إلى عتق القريب سبب معد لافاعل لانه يجعل المحل قابلا لتأثير السبب في العتق، والسبب الفاعلي فيه هو النسب وفاعل الكفارة كون المعتق فاعلا له كما مر، وفيه بحث لاشتراك الامرين في أصل السببية التي يدخل في التأثير في العتق، والفاعل له حقيقة هو الله تعالى، وإنما
[ 341 ]
هذه اعتبارات نصبها الله علامة لحمكه لافاعلة في الحكم، فإما أن يصح العتق عن الكفارة فيهما نظرا إلى السببية، أولا يقع فيهما لعدم مباشرته للصيغة التي جعلها الشارع موجبة للعتق بذاتها.
الثانية عشرة: لو قال لعبدة: أنت حر وعليك كذا وكذا من الدراهم والعوض لم يجز عن الكفارة لانه قصد العوض. وكذا لو قال له قائل: اعتق مملوكك عن كفارتك ولك علي كذا فأعتقه لم يجز. وفي وقوع أصل العتق تردد وقع لجماعة منهم المحقق – رحمه الله – في الشرائع، ولو قيل بوقوعه هل يلزم العوض أم لا ؟ قولان، فالشيخ – رحمه الله – نعم يلزم، واستحسنه المحقق – رحمه الله -. ولو رد المالك العوض بعد قبضه لم يجز عن الكفارة لانه لم يجز حال الاعتاق، فلم يجز فيما بعد لان من شرائط صحة العتق عن الكفارة تمحضه للقربة، وهو يستلزم تجريده عن اشتراط عوض عن المملوك أو على غيره أو عليهما لان عتقه على العوض يعاند تمحض الاخلاص في عتقه سواء ابتدأ المالك بذلك فقال: أعتقك وعليك كذا أو على فلان كذا، أم جعله جوابا للسؤال كقوله: أعتقني ولك علي كذا، أو أعتق مملوكك عن كفارتك ولك علي كذا لاشترك الجميع في المقتضي لعدم الاجزاء، فلا يقع عن الكفارة إجماعا، كما نقله غير واحد لما ذكر. وهل يقع العتق مجردا عنها ؟ قولان ناشئان من أنه عتق صدر عن أهله في محله ولان قصده للعتق عن الكفارة، فيستلزم قصد مطلق العتق في ضمنه لان المطلق، لان العوض لا يمنعه لجواز اشتراطه على المملوك ابتداء كما مر في كتاب العتق، ودلت عليه المعتبرة التي سمعتها وحمل الاجنبي عليه، وهذا قول المبسوط. ومن أنه لم ينو مطلق العتق وإنما نواه عن الكفارة، فلو وقع عن غيرها
[ 342 ]
لزم صدوره بغير نية وقد قال صلى الله وعليه واله (إنما الاعمال بالنيات). ويتفرع على ذلك لزوم العوض للامر أو العبد، فحكم به الشيخ – رحمه الله – تفريعا على القول بصحه العتق المطلق لانه قد فعل ما أمره به فاستحق العوض مثل غيره من الاعمال واستجوده المحقق – رحمه الله – وأورد عليه العلامة في المختلف أن الحكم بلزوم العوض وعدم إجزائه عن الكفارة مما لا يجمعان. والثاني ثابت بالاجماع فيلزم انتفاء الاول، وبيانه أن الجعل إنما بدل من العتق في الكفارة لا عن مطلق العتق وهو لم يقع فلا يلزم العوض. وأجاب عن ذلك السيد عميد الدين بأنا لا نسلم عدم اجتماعهما لانه جعل له العوض عن الكفارة وقد امتثل وفعل ولم يجعل له العوض عن الاجزاء عن الكفارة لان الاجزاء حكم شرعي ليس فعلا للمكلف حتى يصح الجعل عليه. وأورد عليه أول الشهيدين – رحمهما الله – بأن الجاعل على فعل شرعي جعالة كالحج مثلا إنما أراد الصحيح الذي له صلاحية الاجزاء بفراغ ذمة المكلف من العهدة لانه المتبادر من اللفظ حقيقة، ولم يطلب صورته التي هي أعم من الصحيح أو الفاسد فيكون الجاعل عن الكفارة كذلك، فهو إنما جعل على عتق مجز عن الكفارة حمل اللفظ على حقيقة، وصرف له عن المجاز وهو الحمل على صورة المجردة سواء أجزأت أو لم تجز، وحيث لم يوجد ما طلبه لم يستحق شيئا. وأجاب السيد عميد الدين بأن الحقيقة وإن كانت مطلوبة إلا أن هذا الموضوع تمتنع فيه الحقيقة لان وقوع العتق عن الكفارة محال فكان طالبا للمحال فيجب حمل لفظه على الصورة لا وقوع العتق القرينة، والمجاز يصار إليه عندها بالاتفاق. و رده الشهيد – رحمه الله – بأن المقتضي للمجاز هنا تحصيل حكم شرعي لئلا تخرج أفعال المكلف عن الشرع، والبطلان وعدم صحة الجعالة على شئ لا يستحق أفعال المكلف إلا بفعل مقتضي الجعالة بجميع أوصافها، وخروج هذا الفرع عن القاعدة لا وجه له.
[ 343 ]
ولا فرق بين عجز المجعول له عن فعل مقتضي الجعالة وقدرته عليه، فإذا لم نقل بصحته عن الكفارة لا يستحق عليه جعالة. نعم لو علم بالقرائن أن وسيلة إلى إجابة المالك إلى ملتمسه اتجه القول باستحقاق الجعل عليه وإن كان لم يقع عن الكفارة لانها ليست مقصودة بالذات حينئذ، وإنما المقصود العتق المقتضي للخصوص من الرق كيف اتفق، وقد حصل. وقوله (إنه على تقدير عدم وقوعه عن الكفارة يكون طالبا للمحال فيحمل على الصورة) إنما يتوجه إذا كان عالما بالحكم وهو عدم وقوعه عن الكفارة شرعا، أما مع الجهل به فلا يكون طلبه لوقوعه طلب في زعمه وإن كان في نفس الامر كذلك، فصرفه إلى الصورة غير جيد لعدم القرينة الموجبة لحمله على المجاز على هذا التقدير. وإذا تقرر هذا فقال المعتق بعد ظهور الحال له أو مطلقا: أنا أرد العوض ليكون العتق مجزيا عن كفارتي أو رده بالفعل لم ينقلب إلى الاجزاء لانه إذا لم يجز حال الاعتاق فكيف بعده كما قلناه. وللشافعية قول بصحة العتق وإجزائه عن الكفارة وسقوط العوض لان العتق حاصل كما تقرر والعوض ساقط، فأشبه ما إذا قال: صل الظهر لنفسك ولك علي كذا فصلى فإنها تجزيه صلاته ولا يستحق العوض، وهو من القياس بمكان لان العوض لا ينعقد في بدله على ما وجب عليه، كما لا يجوز له أخذ الاجرة عليه بخلاف العتق فإنه لم ينفك عن الحق المالي، ولهذا جاز اشتراط المال في مقابلته إذا كان تبرعا.
الثالثة عشره: والعجز يتحقق للمكلف به إما بعدم الرقبة أصلا وإن كان
[ 344 ]
قادرا على الثمن أو لعدم القدرة على الثمن أو لعدم التمكن من الشراء وإن وجد الثمن، وحد العجز عن الاطعام أن لا يكون معه ما يفضل عن قوته وقوت عياله وليلة ولو وجد الرقبة واضطر إلى خدمتها أو ثمنها لنفقته أو كسوته لم يجب العتق لها، ولا يباع المسكن ولا ثياب الجسد ويباع ما يفضل عن قدر الحاجة من المسكن، ولا يباع الخادم في الكفارة على المرتفع عن مباشرة الخدمة، ويباع على من جرت عادته لخدمة نفسه إلا مع المرض المحوج إلى الخدمة. وتقرير هذه الاحكام على وجه التفصيل: أن من وجبت عليه كفارة مرتبة ككفارة الظهار يتوقف فرض الصوم فيها على عدم وجدان تحرير الرقبه كما في الاية والروايات، فإذا كان في ملكه عبد قاضل عن خدمته فواجب له الاعتاق، وإن احتاج لخدمته لمرضه أو كبره أو زمانيته المانعة له من خدمة نفسه عادة فهو كالمعدوم كالماء المحتاج إليه للعطش في جواز التيمم وكذا الذي هو من أهل المروات ومنصبه يأبي عن أن يخدم نفسه بمباشرة الاعمال التي تستخدم فيها المماليلك فلا يجب صرفه إلى الكفارة، والمعتبر في ذلك العادة الغالبة. وإذا لم يملك عين الرقبة وملك ثمنها وقدر على شرائها فهو واجد لها، فلا ينتقل للصوم، ويشترط أن يكون فاضلا أيضا عن حاجة دينه وإن لم يطالب به وعن مسكنه وثياب بدنه اللائق به عادة ودابة ركوبه المحتاج إليها في العادة ونفقته وكسوته اللائقة بحاله ونفقة الواجبي النفقة عليه، ومنها كسوتهم وما لابد منه من الاثاث الضروريه، إلا أن الاكثر هنا لم يقدروا النفقة والكسوة بمدة، فيمكن أن يكون المعتبر كفاية العجز، ويتحقق ذلك بملك أعيان يحصل من نمائها إدرار النفقة في كل سنة بما يقوم بكفايته. ويمكن أن يريدوا مؤونة السنة لان المؤونات تتكرر فيها وتتجدد الاعداد لها. ويحتمل أن يريدوا به قوت يوم وليلة زيادة على المحتاج إليه في الوقت الحاضر من الكسوة والامتعه، وحيث فقد التقدير المذكور في كلامهم تبعا للنصوص إذ لا تقدير فيها عدل جماعة منهم
[ 345 ]
المحقق – رحه الله – فحددوا العجز في الطعام بما ذكرناه، ولم يتعرضوا للعجز عن الرقبة لفقدانه في النصوص والفتوى. ويظهر من المبسوط ترجيح المعنى الاول حيث قال: إما أن يكون له فضل عن كفايته على الدوام، فإن كان له فضل لم يكن من أهل الصيام لانه واجد، وإن كان له وفق كفايته على الدوام لا يزيد عليه شيئا فإن فرضه القيام. وفي الدروس قطع بالمعنى الثالث وهو اعتبار قوت يوم وليلة. وقواه في المسالك لان الكفارة بمنزلة الدين فيستثنى فيها ما يستثنى فيه. وأما الكسوة المحتاج إليها في الوقت فهي مستثناة وإن بقيت مدة مديدة بعد ذلك بلا خلاف، ومثلها المسكن والخادم. وحيث إن المعتبر في ذلك قوت اليوم والليلة فلو كانت مؤونته تستدر من ضعيفة أو تجاوزة ويحصل منهما كفايته بلا مزيد ولو باعهما لتحصيل عبد لوصل إلى حد المكنة (1) كلف ذلك واستثنى من ثمنه ما ذكر. أما لو اعتبرنا قوت السنة أو الدوام لم يقع، وقد اضطرب كلام العلامة – رحمه الله – ففي التحرير أوجب بيعها. وفي القواعد قطع بعدم الوجوب مع أنه لم يبين المراد من النفقة المستثاة له لكنه مشعر باستثناء أزيد من قوت اليوم والليلة، ولا فرق مع القدرة على الثمن والرقبة بين بذل مالكها له بثمن المثل فما دون وأزيد منه على المذهب الاقوى لتحقق القدرة إلا مع حصول الاجحاف المفرط المؤدي إلى الضرر. ولو لم يملك الرقبة ولا قدرة له على ثمنها وبذل له أحدهما بهبة فالاكثر والاقوى على عدم وجوب القبول عليه دفعا للمنة. واختلفوا في استحبابه إلى قولين، والارجح الاستحباب، أما الجواز فلا ريب فيه كما يجزي لو تكلفه العاجز أصلا بالاستدانة ومع الاستيعاب بالدين إذا كان
*) (1 المسكنة خ ل.
[ 346 ]
غير مطالب به وبالنفقة المستثناة حيث يستثنى له ما يحتمل ذلك. ولو كان الخادم غالبا بحيث يتمكن من الاستبدال عنه بما ينقص عن ثمنه فقيل: يلزمه بيعه لامكان الغنى عنه بذلك. وكذا قيل في المسكن إذا كان غاليا وأمكن تحصيل البدل ببعض الثمن. وذهب المحقق وأكثر المتأخرن إلى أنه لا يباع تمسكا بعموم النهي عن بيع المسكن والخادم المستثنى له، ولان المسكن والخادم إذا كانا معدومين استثنى له ثمن ما يليق به عادة كيفية وكمية، ولا يستثنى له النفيس الزائد عن المعتاد وإن كان موجودا له بالفعل وهو بقدر الحاجة واللائق بحاله، فلا كلام أيضا وإن زاد في النفاسة بحيث يمكن الاعتياض بثمنة ما يكفيه، ويفضل منه ثمن رقبة مع كونه غير زائد عن حاله عادة، فهو موضع الخلاف المشار إليه من جهة تحقق القدرة على الرقبة مع مراعاة المستثنى، فإن المعتبر منه النوع لا الشخص، فيجب البيع لتوقف الواجب عليه، ومن أنه عين المستثنى كما ذكرناه مع عموم النهي عن بيع الخادم والمسكن في الدين. ولما كان هذا النهي أظهر جعل هذا القول أقوى خصوصا إذا كان ماء لوفاء (1) نعم جاء في المسكن بالنسبة إلى الدين إذا كان يكفيه البعض في الاسكان أو في الشراء فانه يباع الزائد فيصرف في الدين، ولعل ذلك جار في الكفارة أيضا، فيتوجه القول الاول هنا، وليس من باب القياس بل من تنقيح المناط.
الرابعة عشرة: إذا تحقق العجز في الكفارة المرتبة بما ذكرنا عن العتق كالظهار والقتل خطأ انتقل إلى صوم شهرين متتابعين إن كان حرا قادرا، وعلى المملوك صوم شهر متتابعا لانه على النصف وإن خالف جماعة من الاصحاب في الظهار كأبي الصلاح والحلي وابن زهرة وكذا الشيخ – رحمه الله – فأوجبوا عليه في الظهار كالحر صيام شهرين متتابعين استنادا إلى عموم الاية والاقوى المشهور للصحاح المستفيضة مثل:
(1) كذا في النسخة، ولعل الصحيح (ماء الوجه).
[ 347 ]
صحيحة محمد بن حمران (1) عن الصادق عليه السلام (قال: سألته عن المملوك عليه ظهار ؟ فقال: نصف ما على الحر صوم شهر، وليس عليه كفارة من صدقة ولا عتق). وصحيح جميل بن دراج كما في الكافي والتهذيب والفقيه (2) عن الصادق عليه السلام (في حديث الظهار قال: إن على الحر والمملوك سواء، غير أن على المملوك نصف ما على الحر من الكفارة، وليس عليه عتق رقبة ولا صدقة، إنما عليه صيام شهر). وخبر أبي حمزة الثنالي (3) عن الباقر عليه السلام (قال: سألته عن المملوك أعليه ظهار ؟ فقال: نصف ما على الحر من الصوم، وليس عليه كفارة صدقة ولا عتق). فالاية مخصصة بهذه الاخبار وذلك ثابت بالاخبار المستفيضة في عمومات الكتاب وإن كانت الاخبار أخبار آحاد، على أن الاية لاشمول لها للعبد حيث إن الامر فيها متوجه إلى من يلزمه تحرير الرقبة والاطعام فتكون مخصوصة ابتداء ويتحقق التتابع في الشهرين بصوم شهر متتابع ومن الثاني ولو يوما، فإذا فرق بعد ذلك لم يخل بالتتابع إجماعا منا كما تقدم في صوم الكفارات، ولكن وقع الخلاف بيننا في أنه هل يأثم بذلك أم لا ؟ فالاكثر على عدم الاثم بذلك، والمفيد على الاثم، واحتج الاكثر بأخبار عديدة مر ذكرها هناك. ففي صحيح الحلبي (4) عن الصادق عليه السلام (أنه قال: والتتابع أن يصوم شهرا ومن الاخر أياما أو شيئا منه).
(1) الكافي ج 6 ص 156 ح 13، الوسائل ج 15 ص 522 ب 12 ح 1 وفيهما (سألت أبا عبد الله (ع) عن المملوك أعليه ظهار ؟). (2) الكافي ج 6 ص 155 ح 10، الفقيه ج 3 ص 343 ح 10، التهذيب ج 8 ص 9 ح 3، الوسائل ج 15 ص 522 ب 12 ح 2 وفيها اختلاف يسير. (3) الكافي ج 6 ص 156 ح 15، الوسائل ج 15 ص 522 ب 12 ح 3. (4) الكافي ج 4 ص 138 ح 2 وفيه (ويصوم من الشهر الاخر)، الوسائل ج 7 ص 273 ب 3 ح 9.
[ 348 ]
والاخبار بهذا المضمون كثيرة جدا، وأيضا أن التتابع وقع صفة للشهرين لا للايام، وتتابع الشهرين يحصل بالشروع في الثاني متتابعا للاول. وتنظر في هذا ثاني الشهيدين – رحمهما الله – حيث إن حقيقة التتابع في الشهرين إذا كان وصفا يحصل إلا بتتابع أيامهما، فالاولى الاعتماد في ذلك على النص لا غير، والمتابعة في الشهر قد مر في النذر، ويتحقق في المشهور بصوم خمسة عشر يوما، فيجوز تفريق الباقي، وقد قدمنا جملة من الاخبار في ذلك في النذر لان موردها النذر، مثل: رواية الفضيل بن يسار (1) عن الباقر عليه السلام (قال في رجل جعل على نفسه صوم شهر فصام خمسه عشر يوما فعرض له أمر فقال: جائز له أن يقضي ما بقي عليه، وإن كان أقل من خمسة عشر يوما لم يجز له حتى يصوم شهرا تاما). ومثله خبر موسى بن بكر (2) وقد قدح في هذاا الاستدلال بما مر ذكره لضعف طريق الروايتين. واجيب بأن مضمونهما مشهور بين الاصحاب أو متفق عليه. نعم هما ظاهران في الشهر المنذور، أما يجب كفارة على العبد فلا. لكن الشيخ – رحمه الله – وأتباعه ألحقوه به. والمحقق في الشرائع تردد فيه في الصوم وجزم به هنا. واعلم أنه مع الاخلال بالمتابعه حيث تعتبر يفسد الصوم ما مضى ويجب عليه الاستئناف، وهل يأثم بذلك أم لا ؟ قولان، فقيل: نعم، لانه إبطال للعمل وهو منهي عنه. ويحتمل عدم الاثم، حيث إن العبادة لم تبطل في نفسها لان صوم كل يوم منفك عن الاخر، فإذا مضى النهار حكم بانعقاده فلا يلحقه البطلان بعد ذلك.
(1) التهذيب ج 4 ص 285 ح 37، الوسائل ج 7 ص 276 ب 5 ذيل ح 1. (2) التهذيب ج 4 ص 285 ح 36، الوسائل ج 7 ص 276 ب 5 ح 1.
[ 349 ]
نعم يلزم من الاخلال بالمتابعة المأمور بها انتفاء الاجزاء عن الكفارة لا بطلان ما مضى رأسا، وتظهر الفائدة في حصول الثواب على ما مضى صحيحا في الجملة على الثاني دون الاول. ويظهر من فخر المحققين في الايضاح دعوى الاجماع على الاثم بالاخلال بالمتابعة، وفيه نظر يظهر وجهه مما ذكرناه.
الخامسة عشرة: قد تقدم في كتاب الصوم أن الاعذار التي يصح معها البناء إذا انتفى التتابع بها الحيض والنفاس والمرض والاغماء والمجنون. أما السفر فإن كان مضطر إليه كان عذرا وإلا كان قاطعا للتتابع. ولو أفطرت الحامل أو المرضع خوفا على أنفسهما لم ينطقع التتابع. ولو أفطرتا خوفا على الولد كان موضع خلاف. فالشيخ – رحمه الله – في المبسوط ينقطع، وفي الخلاف لا ينقطع، وهو الاشبه. أما لو اكره على الافطار لم ينقطع التتابع سواء كان إجبارا محضا كما وجر الماء في حلقه، أو لم يكن كمن ضرب حتى أكل، وهذا مختار الشيخ في الخلاف. وفي المبسوط قال بالفرق، حيث بين اشتراط التتابع في صوم الشهرين نبه على مواضع تمنع الصوم ولا تقطع التتابع ومواضع مختلف فيها. فمنها: عروض الحيض والنفاس وهما غير قاطعين للتتابع إجماعا لانهما طبيعيان لا اختيار فيهما للمكلف، فلو قطع التتابع لزم عدم إمكان الصوم عن الكفارة لذات الحيض غالبا، وهو حرج منفي آية ورواية، وتأخيرها إلى سن اليأس تغرير بالواجب وغير موثوق بالبقاء إليه، وفي معناهما المرض المانع من الصوم والاغماء لاشتراك الجميع في المقتضي وهو عدم اختيار المكلف في الافطار. ويدل على حكم الامرين من الاخبار صحيح رفاعة (1) عن الصادق عليه السلام (قال: سألته عن رجل عليه صيام شهرين متتابعين فصام شهرا ومرض، قال: يبني عليه الله حبسه، قلت: امرأة كان عليها صيام شهرين متتابعين فصامت وأفطرت
(1) التهذيب ج 4 ص 284 ح 32، الوسائل ج 7 ص 274 ب 3 ح 10.
[ 350 ]
أيام حيضها، قال: تقيضيها، قلت: فإن قضتها ثم يئست من الحيض، قال: لا تعيدها، أجزأها ذلك). ومثله صحيح محمد بن مسلم (1) عن أبي جعفر عليه السلام، والاخبار بذلك مستفيضة تقدمت في الصيام. وأما السفر فإن عرض في الاثناء ولم يكن ضروريا قطع التتابع اتفاقا لان القطع من قبل المكلف فكان كالافطار بغيره، وإن كان مضطرا إليه وهو الذي يتركه يخاف على نفسه وماله أو ما في معناه جاز له الافطار ولم يقطع التتابع لان اضطراره إليه كاضطراره إلى الافطار بالمرض ونحوه، ويجب تقييده بما إذا يعلم قبل الشروع فيه بحاجته إلى السفر في أثنائه، وإلا كان الشروع فيه بكل مع العلم بحاجته إليه في الاثناء كالشروع فيه في زمان لا يتم له صوم ما يحصل له التتابع. ومن المواضع المختلف في قطعه بها ولم يذكره الاكثر ما لو نسي النية في بعض أيام الشهر الاول ولم يذكر إلا بعد الزوال، فإن الصوم يفسد، ولكن هل يقطع التتابع أم لا ؟ وجهان: من ارتفاع حكم النسيان بالخبر وانقطاع التتابع حكم من أحكامه فيكون مرتفعا، ومن أن المعتبر شرعا وجوب شهرين متتابعين وبطلان يوم منها لاتتحقق المتابعة لترك النية بإهماله، إذ هو مخاطب بإيقاعها كل ليلة، فالتفريط منسوب إليه كان يجب عليه الاستعداد لها. وتنظر شهيد المسالك في هذا الدليل من الجانبين لان ظاهر الحديث المشهور من النبوي (2) وغيره وهو (وضع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) هو ارتفاع المؤاخذة عليه والعقوبة لاجميع الاحكام، والقدرة على دفعه النسيان
(1) التهذيب ج 4 ص 284 ح 33، الوسائل ج 7 ص 274 ب 3 ح 11. (2) الوسائل ج 16 ص 173 ب 16 ح 5.
[ 351 ]
مطلقا بديهي البطلان، فالاقوى أنه عذر لا تقصير، ولو عرض في أثناء الشهر الاول زمان لا يصح صومه عن الكفارة ولا غيرهما كشهر رمضان والاضحى بطل التتابع حيث يكون واجبا، ووجب تحري رمضان بحيث يسلم فيه القدر المعتبر من باب مقدمة الواجب، فلو شرع فيه في زمان لا نسلم فيه شهر ويوم مثلما لو شرع في أول شعبان أو بعد العشر الاول من ذي القعدة ونحو ذلك لم يصح. ففي صحيح منصور بن حازم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (أنه قال في رجل صام في ظهار شعبان ثم أدر كه شهر رمضان قال: يصوم شهر رمضان ويستأنف الصوم، فإن صام في الظهار فزاد في النصف يوما قضى بقيمة). ثم إنن علم ابتداء بعدم السلامة لم ينعقد الصوم أصلا لعدم اجتماع الشرائط المعتبرة فيه أيضا، وإن لم يعلم بذلك حتى شرع فيه كما لو ابتدأ به تاسع ذي القعدة فاتفق نقصان الشهر انقطع التتابع حينئذ لانكشاف عدم الشرط، ويحتمل قويا عدم جواز الشروع فيه على هذا الوجه أيضا لعدم الوثوق بإكمال العدد. وربما ضعف بأن الوثوق غير شرط والاصل عدم نقصان الشهر، وعلى هذا فيحتمل أن يعذر في انقطاع التتابع لان النقصان إنما وقع باختياره بعد أن حكم بصحته، هذا كله في حق من صام بالاهلة. أما المحبوس الذي يصوم بالظن والتوخي لو توخى شهرين فعرض له المانع من الصوم قبل أن يكمل شهرا ويوما فالاقوى عدم انقطاع التتابع لان ذلك عذر في حقه كالمرض والحيضو غيرهما.
السادسة عشرة: في بيان الاطعام وأحكامه، فيتعين في المرتبة مع العجز عن الصيام للشهرين فإنه ينتقل فرضه إليه، قال الله تعالى (فمن لم يستطع فإطعام
(1) الكافي ج 4 ص 139 ح 5، الوسائل ج 7 ص 275 ب 4 ح 1 وفيهما (فان هو صام في الظهار).
[ 352 ]
ستين مسكينا (1) ويتحقق العجز عنه بالمرض المانع منه، وما تحصل به مشقة شديدة وإن رجا برؤه أو بالخوف من زيادة أو بالهرم ونحوه. ولا يلحق به السفر وإن منع في وقته شرعا لكونه مستطيعا للصوم بالاقامة غالبا. نعم لو تعذرت أمكن الجواز، والكلام في هه الجملة يقع في مواضع: أحدها: في قدره وكميته، والمشهور بين الاصحاب خصوصا بين المتأخرين أنه مد لكل مسكين، وقد تقدم في الاخبار ما يدل عليه كحديث الاعرابي (2) المروي من الطرفين حيث أمر له بخمسة عشر صاعا وأمره بأن يطعمه ستين مسكينا، وإذا قسم هذا المبلغ على الستين كان لكل واحد منهم مد لان الصاع أربعة أمداد بالانفاق نصا وفتوى. وروى عبد الله بن سنان (3) في الصحيح عن الصادق عليه السلام (أنه قال: إذا قتل الرجل خطأ أدى ديته ثم أعتق رقبه، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا مدا مدا). وقد تقدمت أخبار في الصيام بهذا المعنى وبإزائها أخبار دلت على الدين كما ذهب إليه الشيخ في كتبه الثلاثة الفروعية، واحتج عليه بإجماع الفرقة وحصول الاحتياط. ومن الاخبار صحيحه أبي بصير (4) عن أحدهما عليهما السلام (في كفارة الظهار قال: تصدق على ستين مسكينا ثلاثين صاعا لكل مسكين مدين مدين). وقد تكثرت الاخبار مع تعارضها في المد والمدين في الكفارة اليمين، وحمل ما دل على المدين على الاستحباب وهو جمع حسن، والمعتبر من المد
(1) سورة المجادلة – آية 4. (2) الكافي ج 6 ص 155 ب 2 ح 1، مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 516. (3) التهذيب ج 8 ص 323 ذيل ح 12، الوسائل ج 15 ص 559 ب 10 ح 1. (4) التهذيب ج 8 ص 23 ح 50، الوسائل ج 15 ص 556 ب 14 ح 6.
[ 353 ]
الوزن لا الكيل عندنا لان المد الشرعي كما تقدم في الفطرة وفي القتل مركب من الارطال، والرطل مركب من الدراهم، والدارهم يركب من وزن الحبات ويركب من المد الصاع، ومن الصاع الوسق، فالوزن أصل الجميع، وإنما عدل إلى الكيل في بعض المواضع تخفيفا. وتظهر الفائدة في اعتبار الشعير بالكيل والوزن فإنهما مختلفان جدا بالنسبة إلى مقدار البر بالكيل.
وثانيها: المصروف إليه، وهو ستون، كما هو صريح الاية والرواية، فلا يجزي الصرف إلى ما دون الستين، وأن يراعى العدد في الدفع بأن دفع ألى مسكين واحد في ستين يوما خلافا لابي حنيفة حيث اجتزى بذلك الصرف الى واحد في ستين يوما. أما الصرف إليه دفعة فلا يجزي أجماعا، وظاهر الاية اعتبار ذلك لان إطعام الستين مسكينا قد اشتمل على وصف وهو المسكنة وعلى عدد وهو الستون، فكما لا يجوز الاخلال بالوصف لا يجوز الاخلال بالعدد، كما أن قوله تعالى (وأشهدوا ذوي عدل منكم) (1) فيه تعرض وصف وعدد، فكما لا يجزي الاخلال بالوصف لا يجزي الاخلال بالعدد حتى لا يكون شاهد مرتين كشهادة اثنين، ولا فرق بين كون ذلك العدد مجتمعين في بلد واحد أو بلدان كثيرة حيث يمكن التوصل إليها، فيجب السعي إلى إطعام العدد لتوقف الواجب عليه، فإن تعذر الوصول إلى العدد جاز الاقتصار على الممكن، وفرق العدد عليهم بحسب الايام حتى لو لم يجد سوى واحد فرق عليه في ستين يوما كما هو المشهور بين الاصحاب، ومستنده الاتي ذكره، والاية ظاهرة في عدم إجزاء ما دون العدد مطلقا فيبقى في الذمة إلى أن يوجد. وفي موثقة إسحاق بن عمار (2) بل صحيحته (قال: سألت أبا إبراهيم عليه السلام
(1) سورة الطلاق – آية 2. (2) التهذيب ج 8 ص 298 ح 95، الوسائل ج 15 ص 569 ب 16 ح 2.
[ 354 ]
عن إطعام عشرة مساكين أو إطعام ستين مسكينا أيجمع ذلك لانسان واحد يعطاه ؟ فقال: لا ولكن يعطي إنسانا إنسانا بقدره كما قال عزوجل) الحديث. وفي خبر السكوني (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن لم يجد في الكفارة إلا الرجل والرجلين فيكرر عليهم حتى يستكمل العشرة يعطيهم اليوم ثم يعطيهم غدا). وهذه الرواية وإن ضعف إسنادها في الاصطلاح الجديد لكن الحكم بها مشهور لا راد له. ويجب حمل المعتبرة الاولى على إمكان العدد وقصر الثانية على موردها وهو عدم الامكان.
وثالثها: جنس الطعام الذي يجب إخراجه في الكفارة، والمعتبر منه في المشهور القوت الغالب من الحنطة والشعير ودقيقهما وما خبز منهما، ويجزي التمر والزبيب. وأما قوله تعالى في كفارة اليمين (من أوسط ما تطعمون أهليكم) (2) فإما كناية عن الغالب أو محمول على الفضل، وسيأتي في الاخبار ما يدل على غير هذين المعنيين وهو الوسط باعتبار الادام كرواية أبي بصير (3) ورواية أبي جملة (4) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام. والذي يدل على كونه من الحنطة صحيحة هشام بن الحكم (5) عن أبي عبد الله عليه السلام (في كفارة اليمين مدمن حنطة وحفنة لتكون الحنفة في طحنه وحطبه). وصحيحة محمد بن مسلم (6) كما في تفسير العياشي. وصحيح عبد الله بن سنان (7)
(1) التهذيب ج 8 ص 298 ح 94 وفيه (فليكرر)، الوسائل ج 15 ص 569 ب 16 ح 1. (2) سورة المائدة – آية 89. (3) الكافي ج 7 ص 454 ح 14، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 5. (4) الكافي ج 7 ص 452 ح 5، الوسائل ج 15 ص 655 ب 14 ح 2. (5) الكافي ج 7 ص 453 ح 9، الوسائل ج 15 ص 565 ب 14 ح 4. (6) تفسير العياشي ج 1 ص 336 ح 167، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 7. (7) تفسير العياشي ج 1 ص 337 ح 171، الوسائل ج 15 ح 566 ب 14 ح 8.
[ 355 ]
كما فيه أيضا لقوله (في كفارة اليمين لكل مسكين مد على قدر ما تقوت إنسانا من أهلك في كل يوم، وقال: مد من حنطة يكون فيه طحنه وحطبه). والذي يدل على مطلق الطعام صحيحة محمد بن مسلم (1) كما في نوادر أحمد ابن محمد بن عيسى عن أبي جعفر عليه السلام (في كفارة اليمين قال: أطعم رسول الله صلى الله وعليه واله عشرة مساكين لكل مسكين مد من طعام في أمر مارية وهو قول الله تعالى: يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) (2) الخبر. وفي صحيح زرارة (3) عن أبي جعفر عليه السلام كما في كتاب النوادر أيضا (في كفارة اليمين قال: عشرة أمداد نقي طيب لكل مسكين مد). والنقي – بكسر النون مع القاف – هو الدقيق الخالص من الحنطة. وأما ما يدل على التمر والزبيب فلم نقف عليه في الكفارات، نعم قد ورد في كفارة الصوم لمن لم يقدر على الصيام من الشيخوخة ونحوها، ولعل الحامل لهم على ذلك إجزاء هذه الاصناف في زكاة الفطرة، والا حتياط في التزام الحنطة والشعير وما يتفرع عنهما، ويستحب أن يضم إليه الادم أو ما جرت العادة من أكله مع الخبز مائعا كان كالزيت والدبس أو جامدا كالجبن واللحم. وقال المفيد: يجب ضمه إليه. وتبعه تلميذه سلار لرواية أبي بصير (4) عن أبي جعفر عليه السلام وقد سأله عن أوسط ما تطعمون أهليكم (قال: ما تقوتون به عيالكم من أوسط ذلك، قلت: وما أوسط ذلك ؟ فقال: الخل والزيت والتمر الخبز يشبعهم به مرة واحدة). ورواية أبي جملية (5) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: كفارة اليمين عتق رقبة أو
(1) الوسائل ج 15 ص 567 ب 14 ح 14. (2) سورة التحريم – آية 1. (3) الوسائل ج 15 ص 567 ب 14 ح 11. (4) الكافي ج 7 ص 454 ح 14، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 5. (5) الكافي ج 7 ص 452 ح 5، الوسائل ج 15 ص 565 ب 14 ح 2.
[ 356 ]
إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، والوسط الخل والزيت وأرفعه الخبز واللحم). وحملتا على الاستحباب لصدق الاطعام بدونه. وفي حسنة الحلبي (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عزوجل (من أوسط ما تطعمون أهليكم) قال: هو كما يكون أن يكون في البيت من يأكل المد ومنهم من يأكل أكثر من المد ومنهم من يأكل أقل من المد فبين ذلك، وإن شئت جعلت لهم ادما، والادم أدناه ملح وأوسطه الخل والزيت وأرفعه اللحم).
السابعة عشرة: يجوز أن يعطي العدد متفرقين ومجتمعين لصنف الاطعام على التقديرين، ثم إن سلم المد فلا فرق بين الصغير والكبير، وإن اقتصر على الاطعام اشترط كونهم كبارا أو مختلطين من الصغار والكبار، فلو انفرد الصغار بالاكل احتسب الاثنان منهم بواحد، أما جواز المختلطين فلصدق إطعام العدد على ذلك. وفي حسنة الحلبي المتقدمة إشارة إليه لقوله (لانه يكون في البيت من يأكل أكثر من المد ومنهم من يأكل أقل من المد فبين ذلك) بقوله تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) وظاهر النص والفتوى عدم الفرق عند الاختلاط بين كون الكبار بقدر الغار وأقل. ويدل على عدم أجزاء الصغار منفردين خبر غياث (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: لا يجزي إطعام الصغير في كفارة اليمين ولكن صغيرين بكبير). والرواية المذكورة وإن كانت ضعيفة المستند في الاصطلاح الحادث لكن ضعفها منجبر بالشهرة عندهم، وظاهرها وإن كان يقتضي عدم إجزاء الصغير مطلقا إلا أنها قد حملت حالة انفراد الصغار جمعا بينها وبين الرواية السابقة. ورواية يونس بن عبد الرحمن (3) عن أبي الحسن عليه السلام (قال: سألته عن رجل عليه إطعام عشرة مساكين أيعطي الصغار والكبار سواء أو الرجال والنساء أو يفضل
(1) الكافي ج 7 ص 453 ح 7 وفيه اختلاف يسير، الوسائل ج 15 ص 565 ب 14 ح 3. (2) الكافي ج 7 ص 454 ح 12، الوسائل ج 15 ص 570 ب 17 ح 1. (3) التهذيب ج 8 ص 297 ح 93، الوسائل ج 15 ص 570 ب 17 ح 3.
[ 357 ]
الكبار على الصغار والرجال على النساء ؟ فقال: كلهم سواء). ويمكن المناقشة في هذه الرواية بأن موردها حكم التسليم لا الاكل ونزاع في التسوية في هذه الحالة كما مر مثلها الكلام في الاطعام، وهي لا تدل عليه. وأيضا رواية أبي بصير المتضمنة لاختلاف الاكلين في البيت لا تدل على على التسوية في الاكل بين الصغير والكبير، لان الاختلاف في الاكل متحقق في الكبار أيضا كما هو مشاهد. فتبقي رواية غياث لا معارض لها إن اعتبرت، لكن عموم الاية والاخبار يقتضي الاكتفاء في الاطعام في الصغير كالكبير مطلقا، وحينئذ فيمكن القول بخروج ما إذا انفرد الصغار بالاتفاق عليه فيبقي الباقي، ولا حاجة إلى دلالة الروايات وإن كانت هي أصل الوفاق على حكم الصغار، فتمام البحث يتوقف على امور: منها: أن الواجب على تقدير الاطعام إشباعه مرة واحدة على المشهور لحصول الامتثال لصدق الاطعام المأمور به في الاية بها، ولرواية أبي بصير السابقة وما جرى مجراها حيث عينت المرة بقوله فيها (يشبعهم بها مرة واحدة) وقال المفيد وجماعة: يشبعه في يومه. وقال الاسكافي: يشبعه في الغداء والعشاء. والاصح الاول لدلالة الروايات عليه صريحا، ولا مستند لهذين لقولين منها. ومنها: أنه لا يتقدر الاشباع بقدر معين بل ما يحصل به عادة سواء كان قد زاد عن المد أم نقص، فلو لم يكفه المد وجبت الزيادة عليه حتى يشبع، كما أنه لو شبع بدونه كفاه. ومنها: أن إخراج المد من الحنطة والدقيق والخبز كاف في ذلك الامتثال وإن توقف الاولان على عمل زائد حتى يصير مأ كولا بالفعل للعموم، بل لصريح تلك المعتبرة المتقدمة لقوله فيها (مد لكل مسكين) ويكون فيه طحنة وخبزة. وقال ابن الجنيد: يجب مؤونة طحنه وخبزه وادمه.
[ 358 ]
وقد تقدم في حسنة هشام بن الحكم (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (في كفارة اليمين مدمن حنطة وحفنة، لتكون في طحنه وخبزه). وفي صحيحة محمد بن مسلم (2) المتقدمة من العياشي ما يدل على ما قلناه من أن الموظف أقل من مد، وإنما جعل المد من حنطة ليكون فيه وطحنه وحطبه. وفي رواية الحلبي (3) المروية في العياشي أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام (في كفارة اليمين يطعم عشرة مساكين مدين من حنطة ومد من دقيق وحفنة). وكان ذلك محمول على الاستحباب حتى في تضعيف الحنطة وإفراد الدقيق، وحينئذ تجتمع الاخبار سيما أخبار المد فإنها مستفيضة بهذا القدر، فيكون هو الواجب لا غير، وما زاد يكون استحبابا. ومنها: أن المعتبر إخراج عن الطعام فلا تجزي القيمة، نعم لو أراد الاقتصار على بعض الواجب جاز شراؤه من المستحق بعد احتسابه عليه ثم احتسابه على غيره على كراهة فيتأدى الواجب بمد واحد. ومنها: أن المعتبر إخراج نقصان المستحق عن المد على تقدير التسليم إليهم وإن كثر المستحقون، بل يتخير منهم بعدد الواجب، فلو دفع الستين إلى مائة وعشرين أجزأ في نصف المخرج ووجب عليه أن يكمل لستين منهم ثلاثين مدا كل واحد نصف مد. ثم إن كان علم الباقون بالحال جاز لهم الرجوع بما جاز، وإل فلا يجوز إلا مع بقاء العين خاصة. وكذا لو دفع إلى الواحد أزيد من مد لا على جهة الاستحباب ولا تقدير في الصغير والكبير شرعا فيرجع فيهما إلى العرف. ولا يختص الكبير بالبالغ بل العبرة بكثرة الاكل وقلته بحيث يقارب أكل المتوسط
(1) الكافي ج 7 ص 453 ح 9، الوسائل ج 15 ص 565 ب 14 ح 4 وفيهما (في طحنه وحطبه). (2) تفسير العياشي ج 1 ص 336 ح 167، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 7. (3) تفسير العياشي ج 1 ص 338 ح 147، الوسائل ج 15 ص 567 ب 14 ح 10.
[ 359 ]
من الكبار، ولكل بلوغ عشر سنين يقارب ذلك غالبا. ولو أخرج الحنطة أو الزبيب أو نحوهما على تقدير الاجزاء اشترط كونه سليما من العيب ومن ممازجة غيره كالتراب والزوان ويعفى عن المعتاد منهما ومن نحوهما.
الثامنة عشرة: قد اختلفت الاصحاب – رضوان الله عليهم – في اشتراط الايمان بالنسبة إلى المستحق لاخذ الكفارات إلى أقوال: أحدها: أنه ليس بشرط بل يكفي الاسلام العام بحيث لا يحكم بكفره من فرق المسلمين كالناصب، وهو مختار المحقق – رحمه الله – لعموم آيات الكفارات الكبرى والصغرى ككفارة الظهار والقتل واليمين لا طلاق المساكين، ولخصوص صحيحة يونس بن عبد الرحمن (1) عن أبي الحسن عليه السلام (قال: سألته عن رجل عليه كفارة إطعام عشرة مساكين) وساق الخبر كما تقدم إلى أن قال: (كلهم سواء، ويتمم إذا لم يقدر من المسلمين وعيالاتهم العدة التي تلزمه من أهل الضعف ممن لا ينصب). وموثقة إسحاق بن عمار (2) عن الكاظم عليه السلام وقد سأله عن الكفارة إلى أن قال: (قلت: فيعطيه ضعفاء من غير أهل الولاية ؟ قال: نعم وأهل الولاية أحب إلي).
وثانيها: اشتراطه مع الامكان، قال: فإن لم يجد تمام العدة كذلك جاز إعطاه المستضعف من المخالفين. وهو للشيخ في النهاية، وقواه في المختلف، وليس في النصوص ما يدل عليه بالخصوص لكنه حمله على الزكاة في الفطرة، فإنه قد اختلف الاخبار في اشتراط الايمان فيها، فجمع الشيخ بينها بحمل أخبار الجواز على المستضعف.
وثالثها: اشتراط كونه مؤمنا أو مستضعفا. وهو للشيخ – رحمه الله – في المبسوط والعلامة في الارشاد. أما المبسوط فقد جعل مصرفها مصرف زكاة الفطرة
(1) التهذيب ج 8 ص 297 ح 93، الوسائل ج 15 ص 570 ب 17 ح 3. (2) التهذيب ج 8 ص 298 ح 95، الوسائل ج 15 ص 571 ب 18 ح 2.
[ 360 ]
وجوز صرف زكاة الفطرة إلى المستضعف منهم. وأما الارشاد فمنع عن إعطائها المخالف مطلقا، واستحب أن يكون من المؤمنين وأولادهم، فيكون المستضعف خارجا عن القسمين، وهو يقتضي جواز إطعامه منها.
ورابعها: اشتراط الايمان مطلقا، فإن وجد وإلا أخرها إلى أن يتمكن منهم. وهو قول الاسكافي والقاضي والحلي والعلامة في القواعد والتحرير.
وخامسها: اشتراط الايمان كذلك مع العدالة المعتبرة في الزكاة عند القائل بذلك، وهو ابن إدريس لانه جعل مصرفها مصرف الزكاة واشترط في مستحقها العدالة. ودليل هذه الاقوال كلها راجع إلى دليلهم في الزكاة لان الملازمة ممنوعة لعدم الدليل عليه من الاخبار ولا من الفتوى المتفق عليه. فالاقوى إذن ما دل عليه المعتبران من جواز إعطائها المسلمين، فإن عجز عنهم فالمستضعفون ممن لا ينصب، وفيه دلالة على مختار المحقق – رحمه الله – ولهذا انفرد بهذا المذهب. ولا ريب في اعتبار المسكنة لانها منصوص عليها في الايات والروايات، فلا يتعدى إلى غير هم من أصناف مستحقي الزكاة وغير الفقير حتى الغارم وإن استغرق دينه ماله إذا ملك مؤونة السنة. وكذا ابن السبيل إن أمكنه أخذ الزكاة والاستدانة، وإذا ففي جواز أخذه نظر لانه في معنى المسكين، ومن أنه قسيم له مطلقا. ويظهر من الدروس جواز أخذه لها حينئذ. واختلفوا في الفقير، فعلى تقدير الترادف يجوز له سواء جعلناه أسوأ حالا أو بالعكس، فإن الاقوى الجواز سيما إذا كان هو أسوأ حالا. وإن أثبتنا التغاير بينهم وجعلنا المسكين أسوأ حالا لم يصح دفعها إليه، والاقوى أنهما مع الاطلاق مترادفان، واعتبار التغاير بينهما بما ذكر مخصوص بما إذا كانا صنفين.
التاسعة عشرة: قد ثبت أن كفارة اليمين مخيرة بين الاطعام والعتق والكسوة وقد مضى معنى العتق والاطعام وبقي معنى الكسوة. وقد اختلف في المراد منها
[ 361 ]
حيث ورد الامر بها مطلقا. فمنهم من حملها على عرف الشرع في الصلاة ففرق بين الرجل والمرأة، وهو الاسكافي، فاعتبر للمرأة درع وخمار واكتفي للرجل بثوب يجزيه في مثله الصلاة، ومنهم من أطلق الثوبين، وهو المفيد وسلار. ومنهم من أطلق الثوب كالشيخ في المبسوط والحلي والمحقق والعلامة – رحمهم الله – في المختلف والتحرير والارشاد. ومنهم من فصل فاعتبر الثوبين مع القدرة واكتفى بالواحد مع العجز، وهو قول الشيخ في النهاية والقاضي والحلبي والعلامة في القواعد وابنه في شرحها. وهذا الاختلاف ناش من اختلاف الاخبار، ففي صحيح الحلبي (1) عن الصادق عليه السلام (في كفارة اليمين يطعم عشرة مساكين لكل مسكين مد من حنطة أو من دقيق وحفنة أو كسوتهم لكل إنسان ثوبان). ومثله رواية علي بن أبي حمزة (2) عنه عليه السلام. وخبر عبد الله بن سنان (3) كما في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (في كفارة اليمين ثوبان لكل مسكين). وخبر أبي خالد القماط (4) كما فيه أيضا (أنه سمع أبا عبد الله عليه السلام يقول في كفارة اليمين: من كان له ما يطعم وليس له أن يصوم فأطعم عشرة مساكين مدا مدا أو عتق رقبة أو كسوتهم، والكسوة ثوبان، أي ذلك فعل أجزأ عنه). وخبر سماعة (5) كما فيه أيضا وفيه عن الصادق عليه السلام (أو كسوتهم، قال:
01) تفسير العياشي ج 1 ص 338 ح 174 وفيه (لكل مسكين مدين مد ين حنطة ومد من دقيق وحفنة)، الوسائل ج 15 ص 567 ب 14 ح 10 وفيه (لكل مسكين مدين من حنطة ومد من دقيق وحفنة). (2) الكافي ج 7 ص 452 ح 3، الوسائل ج 15 ص 560 ب 12 ح 2. (3) تفسير العياشي ج 1 ص 337 ح 171، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 8. (4) تفسير العياشي ج 1 ص 338 ح 178، الوسائل ج 15 ص 563 ب 12 ح 13 وفيهما اختلاف يسير. (5) تفسير العياشي ج 1 ص 337 ح 168، الوسائل ج 15 ص 562 ب 12 ح 9 والخبر فيهما هكذا: (قال: سألته غن قول الله (من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) في كفارة اليمين، قال: ما يأكل أهل البيت يشبعهم يوما، وكان يعجبه مد لكل مسكين، قلت: (أو كسوتهم) ؟ قال: ثوبين لكل رجل).
[ 362 ]
ثوبان لكل رجل). وخبر زرارة (1) كما فيه أيضا حيث قال عليه السلام: (والكسوة ثوبان). وخبر محمد بن مسلم (2) كما فيه أيضا عن أحدهما عليهما السلام حيث قال: (فكسوتهم لكل مسكين إزار ورداء وللمرأة ما يواري ما يحرم منها إزار وخمار ودرع). وروى أبو بصير (3) في الصحيح (قال: سألت الباقر عليه السلام وساق الخبر إلى قوله: (قلت: كسوتهم ؟ قال: ثوب واحد). وروى الحسين بن سعيد (4) عن رجاله عن الصادق عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله وعليه واله: في كفارة اليمين ثوب يواري عورته). وروى محمد بن قيس (5) عن أبي جعفر عليه السلام إلى أن قال: (فمتى وجد الكسوة وهي ثوب يواري عورته). وروى معمر بن عثمان (6) (قال: سألت الباقر عليه السلام عمن وجب عليه الكسوة في كفارة اليمين ؟ قال: ثوب يواري عورته). والشيخ – رحمه الله – بين هذه الاخبار بحمل وجوب الثوبين على القادر عليهما ووجوب الواحد على من لم يقدر إلا عليه، وهو حمل يعيد ليس في الاخبار
(1) تفسير العياشي ج 1 ص 338 ح 173، الوسائل ج 15 ص 567 ب 14 ح 9. (2) تفسير العياشي ج 1 ص 336 ح 167، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 7. (3) الكافي ج 7 ص 454 ح 14، الوسائل ج 15 ص 566 ب 14 ح 5. (4) التهذيب ج 8 ص 320 ح 3، الوسائل ج 15 ص 568 ب 15 ح 3. (5) الكافي ج 7 ص 452 ح 4 وفيه (قلنا: فما حد الكسوة ؟ قال: ثواب يوارى به عورته)، الوسائل ج 15 ص 568 ب 15 ح 1 وفيه (فمن وجد الكسوة قال: ثوب يوارى عورته. (6) الكافي ج 7 ص 453 ح 6 وفيه (معمر بن عمر – يوارى به)، الوسائل ج 15 ص 568 ب 15 ح 2 وفيه (معمر بن عمر (خ ل) عثمان).
[ 363 ]
إشعار به. فالجمع بينهما بحمل الثوبين على الافضلية والثوب على الاجزاء كما ذكره ثاني الشهيدين في المسالك وتبعه الاكثر من متأخري المتأخرين. وربما رجح أخبار الثوبين مطلقا لتعدد أخبارهما وصحتها لان ما قابلها في الاية فإنها صادقة بالثوب الواحد، والمعتبر في الثوب أو الثوبين ما يتحقق به الكسوة في الاية والروايات المطلقة فإنها صادقة بالواحد عرفا كالجبة والقميص والازار والسراويل والمقنعة للانثى دون المنطقة والخف والقلنسوة، وأقله ما يستر العورتين كالميزر إن اعتيد لبسه، وإلا فلا. ولو صح كسوة للصغير دون الكبير كفي إن دفعه بنية الصغير دون الكبير والمعتبر في جنسه ما يعد به كسوة عرفا فيدخل القطن والكتان والصوف والحرير للنساء والفرو والجلد المعتادان، وكذا القبب والشعر إن اعتاداه، وإلا فلا. ويجزي كسوة الصغار وإن انفردوا للعموم ويستحب الجديد ويجزي غيره إلا المنسحق والمتخرق.
العشرون: لا يجوز صرف الكفارات في المشهور إلى من تجب نفقته على الدافع كالابوين وإن علوا والاولاد وإن سفلوا والزوجة الدائم والمملوك لانهم أغنياء بالدافع، يدفع لمن سواهم وإن كانوا أقارب، وذلك لان المسكنة المتحققة هنا بعدم القدرة على مؤونة السنة شرط في المستحق، وكانت نفقة العمودين والزوجة الدائمة والمملوك واجبة على الاب والابن والزوج، والمولى كان المنفق عليه غنيا بذلك فلا يجامعه الاعطاء من الكفارة لفقد شرط الاستحقاق. ولا فرق في جواز عدم الصرف بين كون الدافع هو من تجب عليه النفقة أو غيره، وإنما ذكر الاكثر الحكم لمن تجب عليه النفقة لنكتة هو أن عدم جواز دفعه إليهم منها غير مقيد ببذله النفقة لهم ولا بعدمه لان قدرته على الانفاق عليهم تجعلهم بالنسبة إليه بمنزلة الاغنياء، فلا يجوز إليه صرفها إليهم حتى
[ 364 ]
لو منعهم منها واحتاجوا، فحكمهم كذلك بالنسبة إليه لكون الشرط مقدورا عليه له والتقصير واقع منه، فلو لم يكن باذلا لهم وصاروا محتاجين جاز لغيرهم صرفها إليهم لتحقق الوصف فيهم، عدم قدرة الدافع على تحصيل الشرط لانه متعلق بفعل غيره. اللهم إلا أن يكون الدافع حاكما شرعيا ويمكن إجبار المنفق عليهم فيكونون حينئذ كالاغنياء بالقوة بالنسبة إليه أيضا. ولا تحتاج إلى تقبيد واجبي النفقة. ولا فرق في الزوجة بين الناشز والمطيعة وإن كانت الناشز لا تجب نفقتها وهي فقيرة بذلك لقدرتها على تحصيل الغناء بالطاعة فكانت غنية بالقوة كغناء المكتسب لقوت سنة عند ما يترك التكسب مختارا، والحكم في الاب ونحوه من الاقارب مخصوص بنفقة نفسه، فلو كان له زوجة لم يجب على الولد الانفاق عليها. وهل يجوز للولد إعطاء الاب لاجل الانفاق عليها ؟ ظاهر عبارات كثير منهم العدم، ويؤيده أن المعطي غني بالنظر إلى نفقة نفسه فلا يستحقها، وفقير بالنظر إلى نفقة الزوجة فلا يجب الانفاق عليها لانه المفروض، فلا يجوز. نعم لو كانت فقيرة جاز الدفع إليها كغيرها. وكذا القول في أولاد الاب لانهم إخوة وفي زوجة الابن، أما أولاده فإنهم أولاد.
الحادية والعشرون: المعتبر في كفارة المرتبة حال الاداء لاحال وجوبها لان خصال الكفارة عبادات، فيراعى فيها حالة الاداء كنظائرها من العبادات، فإن النظر في القدرة على استعمال الماء مثلا والعجز عنه إلى حالة الاداء وكذلك في الصلاة بالنظر إلى القيام والعجز عنه إلى حالة الاداء حتى لو عجز عن القيام حالة الوجوب وقدرعند الاداء صلى صلاة القادر، ولو انعكس الحال انعكس الحكم. ولم يخالف فيه إلا بعض العامة هنا، فجعلوا الاعتبار بحال الوجوب نظرا
[ 365 ]
إلى أن الكفارة نوع تطهير يختلف حاله باختلاف الوقت كما في الحد الشرعي مثلا فإنه لو زنى وهو رقيق ثم اعتق (1). ويتفرع على ذلك ما لو كان قادرا على العتق حال الوجوب فلم يعتق ثم اعسر فينتقل إلى الصوم على الاول، ولو كان عاجزا عن العتق قادرا على الصوم ثم تجدد عجزه عنه وجب عليه الاطعام مع تمكنه منه وعلى الثاني يبقى الواجب وقت الوجوب في ذمته فلا ينتقل عنه. ولو انعكس فكان معسرا وقت الوجوب ثم ايسر وجب العتق على الاول، أو كان عاجزا كما لو تكلف الفقير العتق ولو بالاقتراض مع احتمال بالعدم لانه ليس من أهله. ومم يتفرع عليه أيضا ما لو كان المكفر عبدا حالة الوجوب فاعتق قبل أن يشرع في الصوم وايسر فإنه يجب عليه العتق لقدرته عليه بناء على اعتبار حالة الاداء، وعلى القول الثاني لا يجب عليه. وربما قيل بعدم وجوبه عليه على القولين بناء على أن كفارة العبد لا يكون بالعتق. ويفرق بينه وبين العاجز الحر حيث تتجدد قدرته بأن الرقية مانع السبب والعجز مانع الحكم، فإذا قرر عمل السبب عمله بخلاف ما إذا اعتق لفقد سبب الحكم بالعتق حين وجوب الكفارة وعدم كونه من أهل الاعتاق حينئذ. ثم إنه على تقدير الاعتبار بحالة الاداء لا يخلو تعيين الواجب قبله من غموض وخفاء وذلك لان المحكوم بوجوبه حال المخاطبة بها من الخصال ليس هو المراد عند الاداء لعدم اجتماع الشرائط، بل إما أن يقال الواجب حينئذ أصل الكفارة ولا يوجب خصلة على التعيين بمجرد الوجوب، ثم إذا تبدل الحال تبدل الواجب كما أنه يجب على القادر صلاة القادرين، فإذا تبدلت صفة الصلاة، ولعل هذا أظهر.
(1) كذا في النسخة، والظاهر سقوط كلمات من هنا.
[ 366 ]
ثم إنه إذا كان له مال يصل إليه بعد مدة غالبا لم ينتقل فرضه بل يجب الصبر. ولو كان مما يتضمن المشقة بالتأخير كاظهار ففيه وجهان، وتردد فيه المحقق – رحمه الله – وهذان الوجهان فيه مبنيان على ما ذكروه على لزوم الضرر والمشقة، وهما منفيان شرعا، فكان بسبب ذلك بمنزلة الفاقد، وفي الانتقال إلى الصوم قوة. ووجه الفرق بينه وبين المريض المتضرر بالصوم حيث يجوز له الانتقال إلى الطعام وإن كان راجيا للبرء لان الله تعالى قال: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) (1) ولم يقل لم يملك مالا جما غائبا عنه أنه غير واجد للرقبة وقال في الصيام (فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) (2) ويقال للعاجز بالمرض: إنه غير مستطيع للصوم. وأيضا فوصول الماء يتعلق بوصوله غالبا، والاختيار إذا كان في مقدمات الشئ والتسبيب إليه كالاختيار في نفسه وزوال المرض لا يدخل تحت الاختيار. ولو وجد من يبيعه نسية إلى أن يحضر ماله الغائب فهل يجب عليه الشراء أم لا ؟ قولان: من تحقق الوجدان حينئذ والعوض موجود في نفسه، ومن احتمل تلف المال قبل أن يصل إليه فيتضرر بالدين. وقد أطلق كثير من الاصحاب هنا وجوب الاستدانة عليه حينئذ، لكن ينبغي تقييده بالوثوق بسلامته غالبا، وإلا فعدمه أوجه.
الثانية والعشرون: إذا عجز عن العتق من وجب عليه وانتقل إلى الصوم ثم وجد ما يعتق لم يلزمه وإن كان أفضل. وكذا لو عجز عن الصيام فدخل في الاطعام ثم زال العجز. ووجه عدم لزوم العتق في الاثناء مع صدق الوجدان الموجب لعدم إجزاء
(1) و (2) سورة المجادلة – آية 4.
[ 367 ]
الصوم أنه عند الشروع كان فاقدا ومن ثم شرع في البدل، فلو لم يكن مسقطا للتعبد بالعتق لم يكن الصوم بدلا، ومتى ثبت الصوم شرعا وجب استصحابه، والخطاب قد تعلق بالعتق قبل شروعه في الصوم لابعده. ويدل عليه من الاخبار صحيح محمد بن مسلم (1) عن أحدهما عليهما السلام (قال: سئل عمن ظاهر في شعبان ولم يجد ما يعتق، قال: ينتظر حتى يصوم شهرين متتابعين، فإن ظاهر وهو مسافر انتظر حتى يقدم، فإن صام وأصاب مالا فليمض الذي ابتدأ فيه). وخالف الاسكافي في ذلك فأوجب قبل صوم أكثر من شهر العتق عليه لصحيحة محمد بن مسلم (2) أيضا عن أحدهما عليهما السلام (قال في رجل صام شهرا من كفارة الظهار ثم وجد نسمة، قال: يعتقها ولا يعتد بالصوم). وهي محمولة في المشهور على الافضل جمعا بينها وبين الصحيحة المتقدمة، ولا بأس به. وقد عرفت أن العجز عن الصيام بعد الشروع في الاطعام لا يجب عليه العود إليه لما ذكر من التعليل، وإلا فهو غير منصوص بالخصوص، ويزيد هنا أنه لا معارض من جهة النص، ويتحقق الشروع في الصوم بدخول جزء من اليوم ولو لحظة، وفي الاطعام بشروع المسكين في الاكل إن كفر به، ويدفع مد إليه إن كفر بالتسليم. واعلم أن سقوط الحكم بالعتق على تقدير الشروع في الصوم المراعى بإكماله على الوجه المأمور به، فلو عرض في أثنائه ما يقطع التتابع وحصلت القدرة على العتق حينئذ إما باستمرار السابق أو بأمر متجدد وجب العتق لحصول المقتضي له وهو القدرة عليه قبل الشروع في الصوم المجزي، لانه ببطلان السابق ينزل منزلة
(1) الكافي ج 6 ص 156 ح 12، الوسائل ج 15 ص 552 ب 4 ح 1 وفيهما (يصوم شهر رمضان ثم يصوم شهرين). (2) التهذيب ج 8 ص 17 ح 29، الوسائل ج 15 ص 553 ب 5 ح 2.
[ 368 ]
العدم وهو من لم يصم أصلا بالنسبة إلى الكفارة وإن يحكم ببطلان ذلك اليوم من أصله بالنسبة إلى الثواب عليها. ولو فقدت القدرة على الاعتاق قبل أن يجب استئناف الصوم بقي حكم الصوم بحالة. ومثل هذا ما تقرر في التيمم لو وجد الماء وقد شرع في الصلاة إذا لم نقل بالقطع مطلقا، فإنه لايقسد التيمم إلا أن يستمر وجدان الماء إلى أن يفرغ من الصلاة ويتمكن من الاستعمال له، فإن فقد قبل ذلك بقي التيمم بحاله ولو فرض المائية.
الثالثة والعشرون: من وجب عليه شهران متتابعان، فإن صام هلالين تحقق الامتثال وأجزأه ولو كانا ناقصين، وإن صام بعض الشهر وأكمل الثاني اجتزى به وإن كان ناقصا، ويكمل الاول عدديا ثلاثين يوما. ونقل في الشرائع قولا بأن يتمه خاصة، والاول هو الاشهر والاشبه، وإنما اكتفى بجعل الثاني هلالين بحصول الامتثال بصدق اسم عليه، فلا مانع من حمله على الهلالين. وأما الثاني فلبنائه من حين الشروع فيه على أنه عددي، فيلزم إكماله ثلاثين. ولا يتعين إكماله من الشهر الذي يليه لان الغرض من الاكمال حاصل سواء أكمل من الذي يليه أم من غيره، لكن إكماله منه يلزم اختلال الشهر الثاني وصيرورته عدديا مع إمكان جعله هلاليا على أصل وضعه، بخلاف إكماله من الثالث فكان أولى. وأما القول الذي في الشرائع – من إنه يكفي إكمال الاول من الثالث بقدر ما فات من الاول خاصة – فلو فرض كونه ناقصا وقد مضى منه عشرة أيام مثلا فصام الباقي منه وهو تسعة عشر يوما أكلمه من الشهر الثالث عشرة أيام خاصة. ووجه هذا القول ما أشرنا إليه من أن المعتبر شرعا في الشهر هو الهلالي، فإذا
[ 369 ]
فات شئ منه وجب استدراكه فيتحقق كماله. وعلى القول الاول يصوم من الثالث أحد عشر يوما، وهو الاقوى. وفي المسألة قول ثالث قد مر في العدد والسلم أنه مع انكسار الاول ينكسر الجميع، ويبطل اعتبار الاهلة لان الشهر الثاني لا يدخل حتى يكمل الاول، وتمامه بعدد من الثاني فينكسر الثاني أيضا، والجواب عن هذا ما مر عن قريب.
الرابعة والعشرون: من جنسين بأن يعتق نصف رقبة مثلا ويصوم شهر أو يطعم ثلاثين مسكينا أو يطعم خمسة ويكسي في كفارة اليمين، وإنما لم يجز ذلك لان الله تعالى قد أوجب الخصال المخصوصة مفصلة على ذلك الوجه المرتب والمخير، والتفصيل يقطع الاشتراك، ولان من أعتق نصف رقبة وصام شهرا مثلا غير صادق عليه مضمون الايات والروايات من كونه حرر رقبة ولا صام شهرين متتابعين، فلا يكون قد أتى بالمأمور به فيبقى تحت العهدة. نعم يجوز له في الخصلة الواحدة التفريق في أصنافها بأن يطعم بعض المستحقين ويسلم إلى بعض أو يطعم البعض نوعا من القوت الغالب والبعض الاخر غيره أو يغاير بينهم في الكسوة ونحو ذلك لصدق إطلاق اسم الاطعام والكسوة على هذا الوجه، ولا يجزيه دفع القيمة في جميع المراتب لاشتغال الذمة بعين تلك الخصال لا بقيمتها، فلا يصدق على من دفع فيمة الطعام أنه أطعم ولا من دفع قيمة الكسوة أنه كسى، والامر متعلق بعين هذه الخصال. وقد قام على ذلك الاجماع من علماء الامامية وعليه أكثر العامة، وإنما خالف بعضهم من حيث اشتراكهما في المقتضي وهو منفعة المسكين، وضعفه بين لان مطلق المنفعة غير مجز وإنما هو المنفعة على الوجه المأمور به، وهو منتف على تقدير القيمة.
[ 370 ]
تتمسة لا تدفع الكفارة إلى الطفل لانه مسلوب الاهلية لذلك بل تدفع إلى وليه وذلك إذا كانت العطية بتسليم المد لان الطفل محجور عليه في أمواله وقبضها إلا بإذن وليه. وخالف في الخلاف فجوز دفعها إلى الطفل محتجا بإجماع الفرقة وبعموم قوله (فإطعام ستين مسكينا) مع أنه قال في المبسوط: لا تدفع الكفارة إلى الصغير لانه لا يصح منه القبض لكن يدفع إلى وليه كي يصرفها في مصالحه مثلما لو كان له دين لم يصح قبضه. وإن كانت بالاطعام فالاقوى جوازه بدون إذن الولي إذ ليس فيه تسليط للطفل على ماله، لان الطعام للدافع لا ينتقل إلى ملك الاكل إلا بالازدراد في الاصح فلا يصادف ذلك تصرفه في ماله فكان سائغا، ولان الغرض من فعل الولي إطعامه وذلك حاصل، ولان الدافع محسن محض فينتفي عنه السبيل، لعموم الاخبار والاية. ويحتمل المنع كالتسليم إلا بإذن الولي لان مقتضى عموم ولايته توقف التصرف في مصالح الطقل على أمره، وأما الكسوة فهي موضع التسليم لا قتضائها التمليك بخلاف الاطعام. وربما احتمل في الكسوة عدم توقفها على الاذن أيضا لكونها من ضرورات الطفل ولا يمكن الولي ملازمتها وهي ملبوسة فتكون في معنى الاطعام، والاصح الاول.
الخامسة والعشرون: كل من وجب عليه صوم شهرين فعجز عنهما صام ثمانية عشر يوما، فإن يقدر تصدق عن كل يوم بمد من طعام، فمن لم يستطع فكفارته الاستغفار الله سبحانه وتعالى ولا شئ عليه بعد ذلك. وإطلاق وجوب الشهرين في كلامهم يشمل جميع ما وجب بأحد الاسباب
[ 371 ]
كفارة أو نذرا وما في معناه وما لو وجب الكفارة تعيينا أو تخييرا لان الواجب المخير بعض أفراد الواجب، وقد مضى الكلام على هذه المسألة في الصوم إلا أن الحكم بذلك التعميم لا يخلو من إشكال لان في مستنده قصورا لكن العمل بذلك مشهور بين الاصحاب. ففي رواية أبي بصير (1) عن الصادق عليه السلام الواردة في الظهار فإنها قد دلت على وجوب صوم ثمانية عشر يوما للعاجز عن الخصال الثلاث المرتبة. وفي حسن عبد الله بن سنان (2) بل صحيحه عن أبي عبد الله عليه السلام (في رجل وقع على أهله في شهر رمضان فلم يجد ما يتصدق به على ستين مسكينا، قال: يتصدق بما يطيق). والشهيد في الدروس جمع بين هذين الخبرين بالتخيير بين الامرين، وقد اختلفوا في اشتراط التتابع في الثمانية عشر وعدمها، فمنهم من راعى فيها التتابع لانها بدل عما يجب فيه التتابع، ومنهم من لم يعتبر ذلك لان الملازمة ممنوعة. وصرح العلامة بوجوب الاتيان بالممكن عن الصوم والصدقة وإن تجاوز الثمانية عشر عملا بعموم (3) (إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) حتى لو أمكن الاتيان بالشهرين متفرعا وجب مقدما على الثمانية عشر. وفي الجمع بين ذلك والحكم بالثمانية عشر بخصوصه نظر، لان قطع الاستفصال بين القادر وغيره دليل على الانتقال إليه وإن قدر على الاكثر، فقطع النظر عن هذا البدل والرجوع إلى العموم أولى من تكلف هذا الجمع، وعلى تقدير ثبوته لا وجه لوجوب الزائد عنه وإن قدر عليه لان قضية البدلية توجب ذلك.
(1) التهذيب ج 8 ص 23 ح 49، الوسائل ج 15 ص 558 ب 8 ح 1. (2) الكافي ج 4 ص 102 ح 3، الوسائل ج 7 ص 29 ب 8 ح 3 وفيهما (يتصدق بقدر ما يطيق). (3) عوالي اللئالى ج 4 ص 58 ح 206.
[ 372 ]
وجعل بعضهم الصدقة بعد العجز عن الصوم ثمانية عشر عن كل يوم من أيام الستين لا الثمانية عشر وهو لا يتم على إطلاقه لان من جملة موجب الشهرين الكفارة المخيرة كما تقرر، والانتقال فيها إلى صوم الثمانية عشر مشروط بالعجز عن الستين فكيف يرجع إليها بعد الخروج منها ! ! ثم على تقدير إرادة ما يعم المخيرة لا وجه لهذا التقييد بالعجز عن الشهرين في الانتقال إلى الثمانية عشر لما ثبت من أنها مشروطة بالعجز عن الاطعام أيضا. وبالجملة: فليس لهذا الحكم مرجع يعتد به حتى يعتمد عليه ويلاحظ ويترتب عليه ما يناسبه من الاحكام، وبقية الكلام فيه قد تقدم في الصيام من المصنف – قدس الله روحه -. وأما الاستغفار بعد العجز عن جميع هذه الخصال وما هو بدل عنها فهو بدل مشهور بين الاصحاب ومختص بهم، فلم يذهب إليه أحد من العامة، ولا يختص عندهم بكفارة دون كفارة، بل يجزي في جميع الكفارات بعد العجز عن خصالها. إلا الظهار فإن فيه خلافا، وقد تقدم هناك لاختلاف الاخبار فيه. ففي خبر أبي بصير (1) عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: كل من عجز عن الكفارة التي تجب عليه من صوم أو صدقة في يمين أو نذر أو قتل أو غير ذلك مما يجب على صاحبه فيه الكفارة فالاستغفار له كفارة ما خلا يمين الظهار). وروى زرارة (2) عن الباقر عليه السلام (قال: سألته عن شئ من كفارة اليمين) وساق الحديث إلى أن قال: (قلت: فإنه عجز عن ذلك، قال: فليستغفر الله ولا يعود) وفي طريقها ابن بكير وابن فضال فتكون من الموثق وهو أقوى من الضعيف، على أنه لم ينقل جعله بدلا في أكثر الكفارات التي سئل عنها النبي صلى الله وعليه واله والائمة عليهم السلام في شهر رمضان والظهار وغيرهما، وقد تقدم في الاخبار ما
(1) الكافي ج 7 ص 461 ح 5، الوسائل ج 15 ص 554 ب 6 ح 1. (2) الكافي ج 7 ص 453 ح 11، الوسائل ج 15 ص 562 ب 12 ح 6.
[ 373 ]
يدل على ذلك لاعتراف السائل بالعجز عن الخصال أجمع، والذي يظهر من كلمات الاصحاب الاتفاق على جعل الاستغفار بدلا في غير الظهار، وأن المعتبر منه مرة واحدة بالنية عن الكفارة ضاما إلى اللفظ الندم على ما فعل والعزم على عدم العود إن كانت عن ذنب وإلا كفى مجرد الاستغفار وكان وجوبه تعبدا أو عن ذنب غيره على تقديره ولو تجددت القدرة بعد ذلك على الكفارة ففي وجوبها وجهان، ومعتبرة إسحاق ابن عمار (1) المتقدمة الواردة في المظاهر (أنه يستغفر الله ويطا، فإذا وجد الكفارة كفر) وقد تقدم البحث في ذلك كله مستوفيا فليراجع من هناك.
السادسة والعشرون: قد تقدم في كتاب العتق أن من ضرب مملوكه فوق الحد فكفارته عتقه، وقد اختلف في هذه الكفارة إيجابا واستحبابا، فالشيخ وأتباعه على الوجوب، والمحقق والعلامة وأكثر المتأخرين على الاستحباب. واستندوا في ذلك إلى صحيحة أبي بصير (2) عن الباقر عليه السلام (قال: من ضرب مملوكه حدا من الحدود من غير حد أوجبه المملوك على نفسه لم يكن لضاربه كفارة إلا عتقه). وهذه العبارة لا تفي بالوجوب، ومن هنا احتج له في المختلف زيادة على الرواية بأنه فعل محرم والعتق مسقط لذنب القتل وهو أعظم من الضرب فاستحب العتق، وهو استدلال غريب ولو استند للرواية كان أجود. وأنكره الحلي رأسا لعدم دليل يدل عليه وهو على قاعدته ظاهر لعدم عمله بأخبار الاحاد محدث الوسائل فيها أن هذه الكفارة مستحبة وإن ضربه
(1) الكافي ج 7 ص 461 ح 6، الوسائل ج 15 ص 555 ب 6 ح 4 وقد نقل بالمضمون. (2) الكافي ج 7 ص 263 ح 17، الوسائل ج 18 ص 337 ب 27 ح 1 وفيهما (من ضرب مملوكا).
[ 374 ]
بحق ولم يتجاوز الحد، واستدل على ذلك بما رواه الحسين بن سعيد في كتاب الزهد في الضعيف عن أبي بصير (1) عن الباقر عليه السلام (قال: إن أبي ضرب غلاما له واحدة بسوط وكان قد بعثه في حاجة فأبطأ عليه، فبكى الغلام فقال: الله تبعثني في حاجتك ثم تضربني ! ! قال: فبكى أبي وقال: يا بني ذهب إلى قبر رسول الله صلى الله وعليه واله فصل ركعتين وقل: اللهم اغفر لعلي بن الحسين خطيئته، ثم قال للغلام: اذهب فأنت حر، فقلت: كان العتق كفارة للذنب ؟ فسكت). وما رواه فيه عن عبد الله بن طلحة (2) عن أبي عبد الله عليه السلام (أن رجلا من بني فهد كان يضرب عبدا له والعبد يقول: أعوذ بالله فلم يقلع عنه، فقال: أعوذ بمحمد فأقلع الرجل عنه الضرب، فقال رسول الله صلى الله وعليه واله: يتعوذ بالله فلا تعيذه ويتعوذ بمحمد فتعيذه ! والله أحق أن يجار عائذه من محمد، فقال الرجل: هو حر لوجه الله: فقال: والذي بعثني بالحق نبيا لو لم تفعل لواقع وجهك حر النار). وقد تقدم في الوصايا (3) ما بدل على ذلك بأوضح دلالة حيث إنه عليه السلام عمد إلى عبيده فأوصى بعتق شرارهم وأبقي خيارهم بغير عتق، فسئل عن ذلك فقال: لاني أو جعتهم ضربا (4). وهذا أظهر الدلالة من هذين الخبرين (أما الاول) فلانه سئل عليه السلام عن كون هذا العتق كفارة له فسكت (وأما الثاني) فلعله من جهة التعويذ فلم يفعل فلا يكون كفارة من جهة ضربه وإن كان له مدخل في الجملة. وقد رتب الاصحاب الحكم – كما ترى – على الحد، والمتبادر من الحد المتجاوز هو المقدار من العقوبة المستحقة على ذلك الفاعل مع إطلاق الحد عليه شرعا، فلا يدخل التعزير، ويعتبر فيه حد العبيد لا الاحرار. وقيل: يعتبر فيه
(1) الزهد ص 43 ح 116 طبع قم، الوسائل ج 15 ص 582 ب 30 ح 1 وفيهما اختلاف يسير. (2) الزهد ص 44 ح 119، الوسائل ج 15 ص 582 ب 3 ح 2. (3) الحدائق الناضرة ج 22 ص 639. (4) الكافي ج 7 ص 55 ح 13، الوسائل ج 13 ص 472 ب 84 ح 1 وقد نقل بالمعنى.
[ 375 ]
حد الاحرار لانه المتيقن ولا صالة بقاء الملك سليما عن تعلق حق العتق على مالكه، وهذا يتأتى على القول بالوجوب. أما على القول بالاستحباب فلا، لان المعلق على مفهوم كلي يتحقق في ضمن أي فرد وجد من أفراده، وحمله على حد لا يتعلق بالمحدود بعيد جدا، ولا فرق في المملوك بين الذكرو الانثى لتناوله لهما. وبقي من الكفارات الواجبة كفارة إتيان المرأة في حيضها، وإنما تركنا الكلام عليها هنا لانه قد مر تقريرها وبيان أحكامها في الحيض، فاستغني بذلك عن ذكرها هنا. وقد ذكر جماعة من الاصحاب كفارات على سبيل الاستحباب لم يتعرض لها الاكثر مثل: كفارة الغيبة وهو الاستغفار لمن اعتابه كما في خبر جعفر بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام كما في النفقة (1) (قال: سئل رسول الله صلى الله وعليه واله: ما كفارة الاغتياب ؟ قال: الاستغفار لمن اغتبته كما ذكرته). وجاء في خبر آخر (2) (أن الاستغفار إنما يكون كفارة له لو تعذر التحلة من المستغاب بموت ونحوه وإلا فلا كفارة سوى طلب البراءة منه). ومنها: كفارة عمل السلطان كما رواه في الفقيه (3) مرسلا (قال: قال الصادق عليه السلام: كفاره عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان). ومنها: كفارة الضحك المتعددي فيه الحد من التبسم لما رواه في الفقيه (4) أيضا مرسلا (قال الصادق عليه السلام: كفارة الضحك أن يقول: اللهم لا تمقتني).
(1) الفقيه ج 3 ص 237 ح 55 وفيه (حفص بن عمر)، الوسائل ج 15 ص 583 ب 32 ح 1 وفيهما (قال: تسغفر لمن). () (2) لم نعثر عليه، ولعل ما يناسبه هو هذا الحديث (قال الصادق عليه السلام: الغيية حرام على كل مسلم – الى أن قال: – فان اغتبت فبلغ المغناب فاستحل منه، فان لم تبلغه ولم تلحقه فاستغفر الله له) الحديث، راجع مستدرك الوسائل ج 2 ص 105 ب 132 ح 19. (3) الفقيه ج 3 ص 237 ح 57، الوسائل ج 15 ص 584 ب 33 ح 1. (4) الفقيه ج 3 ص 237 ح 56، الوسائل ج 15 ص 854 ب 34 ح 1.
[ 376 ]
ومنها: كفارة الطيرة وهو التوكل لما رواه السكوني (1) عن الصادق عليه السلام (قال: قال رسول الله صلى الله وعليه واله: كفارة الطيرة التوكل). وذلك لان الطيرة منهي عنه وهي قابلة للتشديد والتهوين. ومنها: كفارة المجالس والسكون فيها لما رواه في الفقيه (2) مرسلا أيضا (قال: قال الصادق عليه السلام: كفارات المجالس أن تقول عند قيامك منها: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين). ومنها: كفارة من قال رمضان بغير شهر لما رواه في الجعفريات (3) بأسناد المشهور عن علي عليه السلام (قال: لا تقولوا رمضان وقولوا شهر رمضان، فمن قال رمضان فليصم وليتصدق كفارة). وبقيت كفارات مفرقة في أبواب النكاح والعدد والطلاق والعبادات لا يسع المقام ذكرها لانها مذكورة في خلال تلك الاحكام.
وليختم الكلام ونحبس الاقلام عن الجري في هذا المجلد، ونسأله الاكمال والاتمام لما بقي علينا من هذه التنمات مقرونا بالعناية الالهية والاعتصام، ونصلي على محمد وآله الكرام. وجرى ذلك الختام بأشرف الايام وهو اليوم الخامس عشر من شهر رمضان المبارك المعظم وهو شهره عليه السلام، وهو أحد شهور سنة 1213 من هجرته صلى الله وعليه واله، وذلك بإملاء أقل عباد الله المنغمس في بحار الاثام، الراجى عفوربه المجازي حسين ابن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني، مستعينا بقلم – الموفق إن شاء الله تعالى للجري بسفينة عزمه على الاعانة لنا في هذا التأليف وغيره مما يوجب
(1) الكافي ج 8 ص 198 ح 236، الوسائل ج 15 ص 584 ب 35 ح 1. (2) الفقيه ج 3 ص 238 ح 63، الوسائل ج 15 ص 585 ب 37 ح 1. (3) الجعفريات (قرب الاسناد) ص 59، وفيه اختلاف يسير، الوسائل ج 7 ص 232 ب 19 ح 3.
[ 377 ]
الاجلال والاكرام وفيوض الملك العلام – الولد الشفوق مرزوق بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن حسين الشويكي مولدا والنعميمي أصلا والاصبعي (1) مسكنا، حامدا مصليا مستغفرا، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين، آمين.
(1) نسبة الى قرية (أبو اصيبع) مصغر: اصبع (أحد أعمال البحرين) والنسبة إليها (اصبعي). (ماضى البحرين وحاضرها للشيخ ابراهيم المبارك البحراني ص 14 من النسخة الخطية بيد المؤلف).