ج3 - كيفية غسل الجنابة

المقصد الثالث

في الكيفية ، وهي ـ على ما وردت به نصوص أهل الخصوص (سلام الله عليهم) ـ على وجهين :

(أحدهما) ـ الترتيب ، وهو غسل الرأس أولا ، ومنه الرقبة من غير خلاف يعرف بين الأصحاب ولا اشكال يوصف في هذا الباب ، الى ان انتهت النوبة إلى جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخراساني في الذخيرة وشيخنا المحقق صاحب رياض المسائل في الكتاب المذكور ، فاستشكلوا في الحكم لفقد صريح النص في الدخول وعدمه كما ذكره شيخنا المشار اليه ، ووقع مثل ذلك لشيخنا المعاصر المحدث الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (طيب الله تعالى مرقده) فاستشكل في المسألة وجعلها من المتشابهات ، وطول زمام الكلام في ان الرقبة غير داخلة في غسل الرأس ، وقال : ان المعروف من كتب اللغة والشرع ان الرقبة ليست من الرأس ، وانه لم يعرف في كلام أهل العصمة (سلام الله عليهم) نص يتضمن دخول الرقبة في الرأس وان هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي افتى بها المجتهدون من غير دليل ، وعين فيها الاحتياط بالجمع


بين غسلها مع الرأس حينئذ كما قاله الأصحاب وغسلها مع البدن كما استظهره. وقد أجاب الوالد (نور الله ضريحه وطيب ريحه) عن ذلك بما يطول به زمام الكلام ، الا انه مع طوله لجودة محصوله مما يستحق ان يسطر في المقام ، قال (قدس‌سره) بعد نقل كلام المحدث المشار إليه : «أقول : المفهوم من كلام علمائنا (قدس الله أرواحهم) ـ تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى بحيث لم يعلم خلاف منهم بل هو كالإجماع فيما بينهم ـ ان الواجب هو غسل الرقبة مع الرأس من غير فرق بين كون الرقبة جزء من الرأس أو خارجة ، وكون إطلاق الرأس على ما يشمل الرقبة حقيقة على سبيل الاشتراك اللفظي أو مجازا على سبيل التبع ، بل المراد انهما من حيث تعلق حكم الغسل بهما أمر واحد وعضو واحد بحيث يغسلان معا بلا ترتيب بينهما ويجوز مقارنة النية لكل منهما ، ولذا ترى الأصحاب (رضوان الله عليهم) تارة يقولون يجب غسل الرأس مطلقا ، وتارة يقولون غسل الرأس والرقبة ، وتارة غسل الرأس ومنه الرقبة ، وتارة يصرحون بان الرأس والرقبة في الغسل عضو واحد ، الى غير ذلك من العبارات التي غرضهم منها وقصدهم مجرد كون الرقبة تغسل مع الرأس سواء كانت جزء من الرأس أو خارجة عنه ، فلا فائدة حينئذ في هذا الخلاف بعد تصريح الأصحاب بل اتفاقهم على غسلها مع الرأس. ولنعم ما قال شيخنا في بعض مؤلفاته : «ولا ثمرة في هذا الخلاف بعد الاتفاق على عدم الترتيب بينهما» انتهى وهو ـ كما ترى ـ صريح في الإجماع على غسلها مع الرأس ، ويؤيد ذلك ما صرح به بعض المحققين من علمائنا المتأخرين ، حيث قال : «ان الرأس عند الفقهاء (رضوان الله عليهم) يقال على معان : (الأول) ـ كرة الرأس التي هي منبت الشعر وهو رأس المحرم (الثاني) ـ انه عبارة عن ذلك مع الأذنين وهو رأس الصائم (الثالث) ـ انه ذلك مع الوجه وهو رأس الجناية في الشجاج (الرابع) ـ انه ذلك كله مع الرقبة وهو رأس المغتسل» انتهى كلامه زيدا كرامة ، وهو صريح في ان الرأس في الغسل عند الفقهاء عبارة عما يشمل الرقبة ، وكأنه حقيقة عرفية عندهم في ذلك. وظاهره الإجماع على ذلك


كما يفهم من الجمع المحلى. وأنت خبير بان جميع تلك المعاني المذكورة للرأس مفهومة من الاخبار المروية عن العترة الاطهار ، كما لا يخفى على من جاس خلال تلك الديار ونظر بعين التأمل والاعتبار ، لا انه مجرد اجتهاد بحت وقول على الله بلا دليل ، كما زعمه ذلك الفاضل الجليل نسجا منه على منوال طائفة من المتأخرين قد سموا أنفسهم بالأخباريين. وادعوا انهم وفقوا لتحصيل الحق واليقين واطلعوا على اسرار الدين التي قد خفيت على المجتهدين ، كما يتبجح به مقدمهم في ذلك صاحب الفوائد محمد أمين ومما يمكن ان يستدل به من الاخبار على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس حسنة زرارة المذكورة آنفا (1) حيث قال (عليه‌السلام): «... ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين.». فان الخبر ـ كما ترى ـ ظاهر الدلالة بل صريح في دخول الرقبة في غسل الرأس ، إذ لا تدخل في المنكبين قطعا ، ولا تبقى متروكة بلا غسل قطعا ، ولا تغسل عضوا واحدا بانفرادها قطعا ، فتحتم دخولها في غسل الرأس وهو المطلوب ، سواء كان اسم الرأس شاملا لها حقيقة أم مجازا ، فلا يلتفت اذن الى ما ذكره المعاصر (سلمه الله) واستظهره من خروج الرقبة عن الرأس كما عرفته ، واستناده ـ فيما استظهره إلى انه المعروف في كتب اللغة والشرع ـ وهم ظاهر ، لأن غاية ما قاله أهل اللغة ان رأس الإنسان معروف ، وهو لا يفهم منه شي‌ء ، واما في كتب الشرع فإن أراد بها كتب الفقهاء فقد عرفت دلالتها على دخول الرقبة في حكم غسل الرأس تصريحا في مواضع وتلويحا في أخرى ، وان أراد بها كتب الاخبار فلا يخفى انه ليس في شي‌ء دلالة ظاهرة فضلا عن الصريحة على خروجها عن حكم غسل الرأس ، بل فيها ما هو صريح في دخولها كحسنة زرارة المذكورة آنفا ، اما ما في صحيحة يعقوب بن يقطين (2) من عطف الوجه على الرأس لقوله (عليه‌السلام): «... ثم يصب الماء على

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.


رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله.». فالظاهر ان المراد به التنصيص على غسل الوجه من قبيل عطف الجزء على الكل ، لا لكونه خارجا عن اسم الرأس وان غسل الرأس لا يشمله لو لم يذكر حتى تكون الرقبة خارجة عن غسل الرأس بالطريق الأولى ، إذ لو تم ذلك لزم الإخلال بذكر غسل الوجه في الاخبار الخالية عن التصريح بالوجه مع ورودها في معرض البيان وجواب السؤال عن كيفية الغسل ، فلا مندوحة عن التزام دخوله في الرأس البتة كالتزام دخول الرقبة فيه في حسنة زرارة بل في سائر الأخبار. هذا ، والعجب منه (سلمه الله) انه جعل المسألة من المتشابهات ، والظاهر انه عنى بها ـ كما فسره جماعة من الأخباريين ـ ما حصل فيه الاشتباه في نفس الحكم الشرعي بحيث لم يعلم وجهه ولذا عين فيها الاحتياط ، والحال انه استظهر خروج الرقبة عن حكم غسل الرأس كما هو صريح عبارته ، فان كان هذا الاستظهار علم مأخذه من الاخبار وظهر لديه صحته من الآثار ، فالواجب عليه العمل بمقتضاه وعدم الالتفات الى ما سواه ، فمن اين يجب إذ ذاك الاحتياط؟ ومن اين تكون المسألة من المتشابهات التي حصل فيها الاشتباه؟ إذ مع الاستظهار للخروج لا اشتباه في الحكم الشرعي عنده ، نعم الاحتياط أمر راجح للخروج عن عهدة التكليف على اليقين لكنه ليس بواجب على التعيين الا مع عدم ظهور الحكم الشرعي واشتباهه ، وان كان منشأ هذا الاستظهار مجرد التخمين والاعتبار من غير دليل واضح من الاخبار ، فهو خلاف ما يتفوه به (سلمه الله) من عدم تعدي الآثار والوقوف على مقتضى ما ورد عن الأئمة الأطهار ، وبالجملة فالمسألة ليست من الشبهات كما ادعاه (سلمه الله) اما عندنا فلحكمنا بل جزمنا بدخول الرقبة في حكم غسل الرأس كما حققناه فيما سلف ، واما عنده فلتصريحه باستظهار خروجها عن غسل الرأس والشبهة لا تجامع ظهور أحد الطرفين كما هو ظاهر» انتهى كلام الوالد عطر الله مرقده.

أقول : حيث كان شيخنا المحدث الصالح (قدس‌سره) شديد التصلب في مذهب الأخباريين اجترأ قلمه على المجتهدين ، وكان الوالد (نور الله تربته) شديد


التعصب للمجتهدين جرى قلمه بالتعريض بالأخباريين ، وقد عرفت في المقدمة الثانية عشرة من مقدمات الكتاب ما هو الأليق بالعلماء الأنجاب ، من سد هذا الباب حذرا من طغيان الأقلام بمثل هذا الخطاب ، وانجراره للقدح في العلماء الأطياب ، وارتكاب مخالفة السنة في ذلك والكتاب ، وقد أخبرني بعض الثقات انه بعد وقوف المحدث الصالح على كلام الوالد (قدس‌سرهما) رجع عما هو عليه إلى موافقة الأصحاب ، وحينئذ فالظاهر ان ما ذهب اليه ناشى‌ء عن عدم التأمل في المسألة وملاحظة أدلتها. واما الفاضلان الآخران فظاهر كلاميهما يؤذن بالوقوف على الحسنة المتقدمة لكنهما يدعيان عدم صراحتها في الحكم المذكور. وفيه ما عرفت من كلام الولد (قدس‌سره)

أقول : ومما يستأنس به لدخول الرقبة في غسل الرأس ظاهر موثقة سماعة (1) حيث قال فيها : «... ثم ليصب على رأسه ثلاث مرات مل‌ء كفيه ثم يضرب بكف من ماء على صدره وكف بين كتفيه ثم يفيض الماء على جسده كله. الحديث».

ثم ان وجوب الترتيب بين غسل الرأس والبدن مما انعقد عليه إجماعنا واستفاضت به أخبارنا ، وربما نقل عن الصدوقين وابن الجنيد العدم ، الا ان كلام الفقيه في صدر الباب فيما نقله عن أبيه في رسالته اليه وان أشعر بذلك ، حيث انه في بيان الكيفية عطف البدن على الرأس بالواو ، الا انه في آخر الباب قال فيما نقله عن الرسالة أيضا : «فإن بدأت بغسل جسدك قبل الرأس فأعد الغسل على جسدك بعد غسل رأسك» وهذا الكلام وما قبله مما أسنده إلى رسالة أبيه عين عبارة كتاب الفقه الرضوي ، وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المدارك من توهم عدم اعتبار الصدوقين الترتيب هنا لعدم تعرضهما له في بيان الكيفية مع اشمال ما ذكراه على الواجب والمستحب ، ولهذا ان جملة من متأخري المتأخرين إنما نقلوا خلاف الصدوقين وابن الجنيد في نفس البدن.

ومما يدل على وجوب الترتيب هنا من الاخبار حسنة زرارة (2) قال : «قلت كيف

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


يغتسل الجنب؟ فقال : ان لم يكن أصاب كفه شي‌ء غمسها في الماء ثم بدأ بفرجه فأنقاه بثلاث غرف ثم صب على رأسه ثلاث أكف ثم صب على منكبه الأيمن مرتين وعلى منكبه الأيسر مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». وقد رواه في المعتبر عن زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) وحينئذ فيخرج عن وصمة الإضمار الذي ربما طعن به في الاخبار ولعله (قدس‌سره) نقله عن بعض الأصول القديمة التي كانت عنده.

وصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ، ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد طهر».

وموثقة سماعة المتقدمة آنفا (2) وحسنة زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «من اغتسل من جنابة فلم يغسل رأسه ثم بدا له ان يغسل رأسه لم يجد بدا من اعادة الغسل».

ومقطوعة حريز (4) قال فيها : «وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. الحديث».

واما ما ورد بإزاء هذه الاخبار مما يدل بظاهره على عدم وجوب الترتيب مطلقا ـ

كصحيحة زرارة (5) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة فقال : تبدأ فتغسل كفيك ثم تفرغ بيمينك على شمالك فتغسل فرجك ومرافقك ثم تمضمض واستنشق ، ثم تغسل جسدك من لدن قرنك الى قدميك ، ليس بعده ولا قبله وضوء ، وكل شي‌ء أمسسته الماء فقد أنقيته. الحديث».

وصحيحة أحمد بن محمد (6) قال : «سألت أبا الحسن (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تغسل يدك اليمنى ، الى ان قال : ثم أفض على رأسك وجسدك ، ولا وضوء فيه».

__________________

(1 و 5 و 6) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(2) ص 69.

(3) المروية في الوسائل في الباب 28 من أبواب الجنابة.

(4) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الوضوء.


وصحيحة يعقوب بن يقطين عن ابي الحسن (عليه‌السلام) (1) وفيها «ثم يصب الماء على رأسه وعلى وجهه وعلى جسده كله ثم قد قضى الغسل ولا وضوء عليه». فان ظاهرها من حيث إطلاقها وإجمالها وورودها في مقام البيان وجواب السؤال عن الكيفية عدم وجوب الترتيب بين الرأس والجسد ـ فمقتضى الجمع بينه وبين ما تقدم تقييد إطلاق هذه الاخبار بالاخبار المتقدمة كما هو مقتضى القاعدة المسلمة.

واما ما ورد في صحيحة هشام بن سالم (2) ـ قال : «كان أبو عبد الله (عليه‌السلام) فيما بين مكة والمدينة ومعه أم إسماعيل فأصاب من جارية له فأمرها فغسلت جسدها وتركت رأسها. الحديث». ـ ففيه ان هشام المذكور قد روى القصة المشار إليها في الصحيح عن محمد بن مسلم (3) قال : «دخلت على ابي عبد الله (عليه‌السلام) فسطاطه وهو يكلم امرأة فأبطأت عليه ، فقال : ادن هذه أم إسماعيل جاءت وانا أزعم ان هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجها عام أول ، كنت أردت الإحرام فقلت ضعوا لي الماء في الخباء ، فذهبت الجارية بالماء فوضعته فاستخففتها فأصبت منها ، فقلت اغسلي رأسك وامسحيه مسحا شديدا لا تعلم به مولاتك فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك فتستريب مولاتك ، فدخلت فسطاط مولاتها فذهبت تتناول شيئا فمست مولاتها رأسها فإذا لزوجة الماء فحلقت رأسها وضربتها ، فقلت لها هذا المكان الذي أحبط الله فيه حجك». ومن ثم حمل الشيخ (رحمه‌الله) ومن تأخر عنه الخبر الأول على وهم الراوي في النقل وغلطه.

واحتمل شيخنا صاحب رياض المسائل ان يكون الغسل المأمور فيه بغسل الجسد أولا وترك الرأس ليس غسل الجنابة بل غسل الإحرام ، كما أشعرت به الرواية الثانية

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 34 من أبواب الجنابة.

(2) رواه في الوسائل في الباب 28 من أبواب الجنابة.

(3) رواها في الوسائل في الباب 29 من أبواب الجنابة.


حيث قال فيها : «فإذا أردت الإحرام فاغسلي جسدك ولا تغسلي رأسك» قال : «وهو لا يشترط فيه الترتيب عندنا لعدم الدليل عليه».

أقول : ولعله ـ وان كان بعيدا ـ أقرب من الحمل على السهو والغلط ، لإيجابه القدح في الراوي المذكور بعدم التثبت في النقل الذي ربما قدح في العدالة ، مع ان الرجل المذكور من أجلاء الرواة ومعتمديهم.

ويمكن أيضا ان يقال ـ ولعله الأقرب ـ ان المأمور به منه (عليه‌السلام) غير مذكور ، ولعل فعلها من غسل الجسد وترك الرأس كان خطأ منها وخلاف ما أمرت به ثم انه (عليه‌السلام) أمرها بغسل رأسها وقت الركوب وتأخير غسل البدن الى وقت آخر وان لم ينقله الراوي في تتمة الكلام ، إذ لعل همه انما تعلق بنقل ما وقع من أم إسماعيل وما أنكر به (عليه‌السلام) عليها.

واما الترتيب في الجسد بين يمينه ويساره بتقديم الأول على الثاني فهو المشهور بين أصحابنا بل ادعى عليه الإجماع الا ان كلام الصدوق وكذا ابن الجنيد على ما نقل عنه خال منه ، والمنقول ايضا عن ابن ابي عقيل عطف الأيسر على الأيمن بالواو كما في الاخبار

وقد اعترض ذلك المحقق في المعتبر ، حيث قال : «واعلم ان الروايات قد دلت على وجوب تقديم الرأس على الجسد ، واما اليمين على الشمال فغير صريحة بذلك ، ورواية زرارة دلت على تقديم الرأس على اليمين ، ولا تدل على تقديم اليمين على الشمال ، لان الواو لا تقتضي ترتيبا ، فإنك لو قلت : «قام زيد ثم عمرو وخالد» دل ذلك على تقديم قيام زيد على عمرو ، واما تقديم عمرو على خالد فلا ، ولكن فقهائنا اليوم بأجمعهم يفتون بتقديم اليمين على الشمال ويجعلونه شرطا في صحة الغسل ، وقد افتى بذلك الثلاثة واتباعهم» انتهى. وهو جيد وعلى حذوه جرى جملة من متأخري المتأخرين.

احتج شيخنا الشهيد الثاني في الروض على وجوب الترتيب هنا بان هذه الروايات وان دلت صريحا على تقديم الرأس على غيره لعطف اليمين عليه ب «ثم» الدالة على التعقيب


لكن تقديم الأيمن على الأيسر استفيد من خارج ان لم نقل بإفادة الواو الترتيب كما ذهب اليه الفراء ، بل على الجمع المطلق أعم من الترتيب وعدمه كما هو رأى الجمهور ، إذ لا قائل بوجوب الترتيب في الرأس دون البدن والفرق احداث قول ثالث ، ولان الترتيب قد ثبت في الطهارة الصغرى على هذا الوجه وكل من قال بالترتيب فيها قال بالترتيب في غسل الجنابة ، فالفرق مخالف للإجماع المركب فيهما ، وما ورد من الاخبار أعم من ذلك يحمل مطلقها على مقيدها. انتهى. ولا ريب في ضعف هذا الكلام لدخوله في باب المجازفة في أحكام الملك العلام. واستدل ايضا بوجوه أخر لا فائدة في التطويل بذكرها.

ولا بأس ببسط جملة من الاخبار الواردة في هذا المضمار زيادة على ما قدمناه ليظهر للناظر حقيقة الحال وجلية المقال :

فمن ذلك صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «سألته عن غسل الجنابة. فقال : تبدأ بكفيك فتغسلهما ثم تغسل فرجك ثم تصب على رأسك ثلاثا ثم تصب على سائر جسدك مرتين ، فما جرى عليه الماء فقد طهر».

وموثقة أبي بصير أو صحيحته (2) على الخلاف فيه وان كان الأرجح الثاني قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : تصب على يديك الماء فتغسل كفيك ثم تدخل يدك فتغسل فرجك ثم تتمضمض وتستنشق وتصب الماء على رأسك ثلاث مرات وتغسل وجهك ، وتفيض على جسدك الماء».

وصحيحة حكم بن حكيم (3) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن غسل الجنابة. فقال : أفض على كفك اليمنى من الماء فاغسلها ، ثم اغسل ما أصاب جسدك من أذى ثم اغسل فرجك ، وأفض على رأسك وجسدك فاغتسل ، فان كنت في مكان

__________________

(1 و 2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


نظيف فلا يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك. الحديث».

الى غير ذلك من الاخبار الواردة على هذا المنوال ، وكلها ـ كما ترى ـ جارية على خلاف ما ذكروه.

الا ان للوالد (نور الله تعالى تربته وأعلى رتبته) هنا تحقيقا حسنا لم أعثر عليه لا حد قبله في المقام ، به يندفع الإيراد عما هو المشهور بين علمائنا الأعلام. قال ـ (طيب الله مرقده) بعد نقل جملة من الاخبار وشطر من كلام علمائنا الأبرار ـ ما صورته : «هذا وقد يستدل على وجوب الترتيب ـ كما هو المشهور ـ بالأخبار الواردة في غسل الميت الصريحة في الترتيب مضافا الى الاخبار الواردة بأن غسل الميت كغسل الجنابة ، وحينئذ فيستفاد من مجموع الاخبار ان غسل الجنابة مرتب ، اما الروايات بالترتيب في غسل الميت فكثيرة ، كرواية يونس ورواية عبد الله الكاهلي ورواية عمار بن موسى وغيرها (1) واما الروايات المتضمنة ان غسل الميت كغسل الجنابة فكثيرة أيضا ، كرواية محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (2) قال : «غسل الميت كغسل الجنابة.». ورواية محمد بن سليمان الديلمي عن أبيه عن ابي عبد الله (3) قال في حديث : «ان رجلا سأل أبا جعفر (عليه‌السلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : إذا خرجت الروح من البدن خرجت النطفة التي خلق منها بعينها منه كائنا ما كان صغيرا كان أو كبيرا ذكرا أو أنثى ، فلذلك يغسل غسل الجنابة.». وفي حديث عن الكاظم (عليه‌السلام) (4) وقد سئل عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ فذكر حديثا يقول فيه : «إذا مات الميت سالت منه تلك النطفة بعينها ـ يعني التي خلق منها ـ فمن ثم صار يغسل غسل الجنابة». وروى الصدوق (5) قال : «سئل الصادق (عليه‌السلام) لأي علة يغسل الميت؟ قال :

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 2 من أبواب غسل الميت.

(2 و 3 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.


تخرج منه النطفة التي خلق منها ، تخرج من عينيه أو من فيه. الحديث». وفي كتاب العلل (1) قال : «سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما‌السلام) عن غسل الميت لأي علة يغسل ولأي علة يغتسل الغاسل؟ قال : يغسل الميت لانه جنب. الحديث». الى غير ذلك من الاخبار الصريحة في ان الكيفية والترتيب الثابتين في غسل الأموات هما بعينهما الثابتان في غسل الجنابة ، معللا ذلك بان الميت جنب لخروج النطفة التي خلق منها منه فأوجب ذلك تغسيله غسل الجنابة ، وذلك صريح في الدلالة على ان غسل الجنابة مرتب كما لا يخفى على ذي الذوق السليم والذهن المستقيم ، ويمكن ان يجعل ذلك من قبيل الاستدلال بالشكل الثالث ، هكذا : غسل الميت غسل الجنابة ، وغسل الميت مرتب ، ينتج غسل الجنابة مرتب وهو المطلوب. (فان قلت) : ان المعلوم الثابت من الحديث ـ خصوصا الأول ـ ان غسل الأموات كغسل الجنابة ، والمشابهة لا تقتضي المساواة من كل وجه بل تحقق المشاركة في الجملة كاف (قلت) : ان ذا الذوق السليم إذا تأمل مضمون هذه الاخبار وما اشتملت عليه من التعليل لا يشك في ان الكيفية الترتيبية الثابتة في غسل الأموات مطابقة للكيفية الثابتة في غسل الجنابة ، كما هو قضية الحكم بكونه غسل جنابة وقضية التعليل بخروج النطفة منه وقت خروج روحه ، ولذا ورد في الخبر المذكور في العلل ان الميت جنب ، ومع تمام هذا الاستدلال يؤيد بالإجماع المنقول عن الشيخ (رحمه‌الله) فلا يبعد تقييد إطلاق تلك الاخبار بذلك ، فتأمل المقام فإنه حرى بالتأمل التام» انتهى كلامه رفعت في أوج العلاء أعلامه.

أقول : ومن الاخبار الدالة على ما ذكره الوالد زيادة على ما نقله (قدس‌سره) ما رواه في كتاب العلل وعيون الاخبار عن الرضا (عليه‌السلام) (2) في العلل التي رواها عنه محمد بن سنان في حديث قال فيه : «وعلة اخرى انه يخرج منه الأذى الذي

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت.


منه خلق فيجنب فيكون غسله له. الحديث».

وما رواه أيضا في كتاب العلل بسنده عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما‌السلام) (1) انه «سئل ما بال الميت يغسل؟ قال النطفة التي خلق منها يرمى بها».

وما رواه فيه ايضا بسنده الى عبد الرحمن بن حماد (2) قال : «سألت أبا إبراهيم (عليه‌السلام) عن الميت لم يغسل غسل الجنابة؟ قال : ان الله تبارك وتعالى ، وساق الحديث الى ان قال : فإذا مات سالت منه تلك النطفة بعينها لا غيرها فمن ثم صار الميت يغسل غسل الجنابة».

وأنت خبير بان مقتضى هذه الاخبار المستفيضة ـ من حيث التعليل بكون الميت جنبا في بعض وبخروج النطفة في بعض ـ ان غسل الميت في الحقيقة غسل جنابة ، ولا ينافيه التشبيه الواقع في صحيحة محمد بن مسلم لإشعاره بالمغايرة ، إذ الظاهر ان المراد منه الإيماء الى ما ذكر من العلة والا لم يكن لتخصيص التشبيه به نكتة ، ولكن حيث كان اندراج غسل الميت في غسل الجنابة خفيا لخفاء علته ، صح التشبيه للمغايرة بين طرفي التشبيه ، إذ المعنى ان غسل الميت كغسل الجنابة المتعارف يومئذ لكونهما فردين من افراد غسل الجنابة الواقعي ، والمغايرة بين افراد الماهية واضحة ، وحينئذ فالظاهر ان خروج بعض الاخبار ـ الواردة في بيان الكيفية بالواو في عطف الأيسر على الأيمن ، أو مشتملة على ذكر الجسد بعد الرأس من غير تعرض للجانبين ـ اعتماد على معلومية الحكم في زمانهم (صلوات الله عليهم) كما تقدم مثله في الترتيب بين الرأس والجسد ، فليحمل مطلقها على مقيدها في الموضعين. والى القول بالترتيب كما هو المشهور يميل كلام المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي (قدس‌سره) في كتاب الوسائل.

و (ثانيهما) ـ الارتماس ، وهو عند الأصحاب (رضوان الله عليهم) عبارة عن الدخول تحت الماء دفعة واحدة عرفية ، قالوا : ولا ينافي الدفعة الاحتياج الى التخليل

__________________

(1 و 2) رواه في الوسائل في الباب 3 من أبواب غسل الميت. ولا يخفى ان حديث عبد الرحمن هو عين ما ذكره والده (قدس‌سرهما) عن الكاظم (ع).


لو كان كثيف الشعر أو كان لجلده مكاسر أو نحو ذلك ، لعدم إمكان التخلص عن مثل هذه الأشياء عادة ، ولا خلاف بينهم في قيامه مقام الترتيب المتقدم ذكره.

والأصل في ذلك الأخبار الواردة عن أهل الذكر (سلام الله عليهم) :

ومنها ـ صحيحة زرارة عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال في حديثه المتقدم : «... ولو ان رجلا ارتمس في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك وان لم يدلك جسده».

وحسنة الحلبي (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : إذا ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله».

ورواية السكوني عن ابي عبد الله عليه‌السلام (3) قال : «قلت له : الرجل يجنب فيرتمس في الماء ارتماسة واحدة ويخرج يجزئه ذلك عن غسله؟ قال : نعم».

وصحيحة الحلبي (4) قال : «حدثني من سمعه ـ يعني أبا عبد الله (عليه‌السلام) ـ يقول : إذا اغتمس الجنب في الماء اغتماسة واحدة أجزأه ذلك من غسله».

وظاهر هذه الاخبار ان الارتماس رخصة وتخفيف والأصل هو الترتيب ، كما يومي اليه لفظ الاجزاء من غسله اي بدل غسله المعهود ، ف «من» فيه مثلها في قوله سبحانه «... أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ...» (5) اي بدلا من الآخرة ، ولهذا جعل بعض محدثي متأخري المتأخرين الترتيب أفضل.

وظاهر اشتراط الدفعة الواحدة العرفية ـ كما عرفت من كلام الأصحاب ـ انه لو حصل نوع تأن ينافي ذلك بطل الغسل ، ولعلهم استندوا في اعتبار الدفعة المذكورة إلى قولهم (عليهم‌السلام) في الاخبار المذكورة : «ارتماسة واحدة» والذي يظهر عند التأمل في الاخبار المشار إليها ان الظاهر ان المراد بالارتماسة الواحدة انما هو المقابلة بالارتماسات المتعددة ، وبيان ذلك انه حيث كان الغسل الأصلي الذي استفاضت به

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.

(5) سورة المائدة الآية 38.


الاخبار وفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) والأئمة (عليهم‌السلام) من بعده انما هو الترتيبي الذي هو عبارة عن التعدد في الغسل مرتين أو ثلاثا ، والغسل الارتماسي انما وقع رخصة كما عرفت ، نبه (عليه‌السلام) على انه لا يحتاج في الغسل الارتماسي الى رمس كل عضو على حدة أو الى ارتماسات متعددة لأجل كل عضو ، بل تكفي ارتماسة واحدة ، فالوحدة هنا احتراز عن التعدد المعتبر في الغسل الأصلي لا بمعنى الدفعة ، وحينئذ فلو حصل فيها تأن ينافي الدفعة العرفية لم يضر بصحة الغسل ، الا ان ما ذكروه (رضوان الله عليهم) أحوط.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان الظاهر انه لا ترتيب حكميا في الغسل الارتماسي كما هو اختيار الشيخ في المبسوط ، ونقل فيه عن بعض الأصحاب انه يترتب حال الارتماس حكما ، قال شيخنا الشهيد في الذكرى بعد نقله ذلك عنه : «وما نقله الشيخ يحتمل أمرين : (أحدهما) ـ وهو الذي عقله عنه الفاضل انه يعتقد الترتيب حال الارتماس ، ويظهر ذلك من المعتبر حيث قال : وقال بعض الأصحاب يرتب حكما. فذكره بصيغة الفعل المتعدي وفيه ضمير يعود الى المغتسل ، ثم احتج بأن إطلاق الأمر لا يستلزم الترتيب والأصل عدم وجوبه ، فيثبت في موضع الدلالة ، فالحجة تناسب ما ذكره الفاضل. (الأمر الثاني) ـ ان الغسل بالارتماس في حكم الغسل المرتب بغير الارتماس ، وتظهر الفائدة لو وجد لمعة مغفلة فإنه يأتي بها وبما بعدها ، ولو قيل بسقوط الترتيب بالمرة أعاد الغسل من رأس لعدم الوحدة المذكورة في الحديث ، وفيما لو نذر الاغتسال مرتبا فإنه يبرأ بالارتماس. لا على معنى الاعتقاد المذكور لانه ذكره بصورة اللازم المسند الى الغسل اي يترتب الغسل في نفسه حكما وان لم يكن فعلا ، وقد صرح في الاستبصار بذلك لما أورد وجوب الترتيب في الغسل وأورد إجزاء الارتماس ، فقال : لا ينافي ما قدمناه من وجوب الترتيب لان المرتمس يترتب حكما وان لم يترتب فعلا ، لأنه إذا خرج من الماء حكم له أولا بطهارة رأسه ثم جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر ، فيكون على هذا التقدير مرتبا ،


قال : ويجوز ان يكون عند الارتماس يسقط مراعاة الترتيب كما يسقط عند غسل الجنابة فرض الوضوء. قلت : هذا محافظة على وجوب الترتيب المنصوص عليه بحيث إذا ورد ما يخالفه ظاهرا أول بما لا يخرج عن الترتيب ، ولو قال الشيخ إذا ارتمس حكم له أولا بطهارة رأسه ثم الأيمن ثم الأيسر ويكون مرتبا ، كان أظهر في المراد ، لأنه إذا خرج من الماء لا يسمى مغتسلا ، وكأنه نظر الى انه ما دام في الماء ليس الحكم بتقدم بعض على الآخر اولى من عكسه ، لكن هذا يرد في الجانبين عند خروجه إذ لا يخرج جانب قبل آخر» انتهى كلام الذكرى.

أقول : والظاهر ان أصل القول المذكور وما وجه به من الاحتمالين وفرع عليه من الفائدتين تكلف محض في البين : (أما أولا) ـ فلان صريح الأخبار الواردة في المسألة الدلالة على اجزاء الارتماس دفعة واحدة وفراغ الذمة به من الغسل الواجب ، وهو بيان لأحد نوعي الغسل ، فإنه كما يقع ترتيبا ـ كما تقدم ـ يقع ارتماسا ، فلا حاجة الى الجمع بين اخبار الطرفين كما ذكره الشيخ (قدس‌سره) ووجهه في الذكرى بأنه محافظة على وجوب الترتيب المنصوص ، إذ لا دلالة في اخبار الترتيب على الاختصاص والحصر فيه ليحتاج الى حمل هذه الاخبار على الترتيب الحكمي كما ذكروه. و (اما ثانيا) ـ فلانه لا معنى لهذا الترتيب الحكمي بكلا معنييه ، اما ما ذكره الشيخ في الاستبصار فيما أورده عليه في الذكرى ، واما ما ذكره الفاضلان فلان قصد الترتيب واعتقاده فيما لا ترتيب فيه خارجا غير معقول ، ومن ذلك يعلم حال التفريع على القولين.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان مورد اخبار الارتماس غسل الجنابة خاصة ، وظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) تعدية الحكم الى ما عداه من الأغسال ، والظاهر انه من باب العمل بتنقيح المناط القطعي لعدم معلومية الخصوصية للجنابة في المقام ، قال شيخنا الشهيد (قدس‌سره) في الذكرى ـ بعد إيراد روايتي زرارة والحلبي المتقدمتين ـ ما لفظه : «والخبران وان وردا في غسل الجنابة ولكن لم يفرق أحد بينه وبين غيره


من الأغسال» انتهى. وأيده بعضهم برواية الحلبي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) قال : «غسل الجنابة والحيض واحد». أقول : ويؤيده أيضا الأخبار المتظافرة بأن غسل الميت كغسل الجنابة كما تقدم بيانه.

وتنقيح البحث في هذا المقصد يتم برسم مسائل (الأولى) ـ اجرى الشيخ في المبسوط الوقوف تحت المجرى والمطر الغزير مجرى الارتماس في سقوط الترتيب ، ونقل ذلك عن العلامة في جملة من كتبه ، وطرد الحكم في التذكرة في الميزاب وشبهه ، ونقل عن بعض الأصحاب انه أجرى الصب من الإناء الشامل للبدن مجرى ذلك ايضا ، قال في الذكرى : «وهو لازم للشيخ ايضا» ومنع ابن إدريس من ذلك وخص الحكم بالارتماس بالدخول تحت الماء دون هذه المذكورات ، واليه يشير كلام المحقق في المعتبر كما سيأتي

والأصل في هذه المسألة صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل يجنب هل يجزيه من غسل الجنابة ان يقوم في المطر حتى يغسل رأسه وجسده وهو يقدر على ما سوى ذلك؟ فقال : ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه ذلك».

ومرسلة محمد بن أبي حمزة عن رجل عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) : «في رجل أصابته جنابة فقام في المطر حتى سال على جسده أيجزيه ذلك من الغسل؟ قال نعم».

قال في المعتبر بعد نقل صحيحة علي : «وهذا الخبر مطلق وينبغي ان يقيد بالترتيب في الغسل» وجعله في الذكرى أحوط ، وقربه بعض فضلاء متأخري المتأخرين بناء على اعتبار ما دل على وجوب الترتيب في غسل الجنابة ، لعموم دلالته الا ما خرج بالأخبار المختصة بالارتماس من كونه بالدخول تحت الماء فيكون غيره داخلا تحت العموم.

أقول : وقد تلخص من ذلك ان هنا شيئين : (أحدهما) ـ ان الغسل بالمطر هل يقع ترتيبا وارتماسا أو يخص بالترتيب؟ فالشيخ ومن تبعه على الأول وابن إدريس

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 23 من أبواب الحيض.

(2 و 3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


ومن تبعه على الثاني ، وأنت خبير بان ظاهر الخبرين المذكورين لا يأبى الانطباق على كلام الشيخ (رحمه‌الله) فان قوله في الخبر الأول ـ : «ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» وتقييده الاجزاء في الثاني بالسيلان على جسده ـ لا يأبى ان يكون الاغتسال به ارتماسا مع كثرته وحصول الدفعة العرفية سيما على ما فسرنا به الدفعة آنفا ، وترتيبا ان لم يكن كذلك ، فيجوز للمغتسل قصد الارتماس به على الأول والترتيب على الثاني ، ولعل في ذكر الشيخ الغزارة في عبارة المبسوط إشارة الى ذلك. والى ما ذكرنا يشير كلام شيخنا البهائي وشيخنا المحقق في كتاب الحبل المتين ورياض المسائل. وما يوهمه كلام ذلك الفاضل ـ من عموم أدلة الترتيب الا ما خرج بالدليل ـ فيه ان الأدلة المشار إليها لا عموم فيها بل بالخصوص انسب ، لدلالة أكثرها على ان الغسل بالاغتراف من الأواني القليلة المياه ، وما يوهمه إطلاق بعضها في ذلك يمكن حمله على المقيد منها ، فلا دلالة حينئذ على حكم الاغتسال بغير ذلك الفرد. و (ثانيهما) ـ انه هل يلحق بالمطر على تقدير جواز الارتماس به ما ذكر من تلك الأشياء أم لا؟ إشكال ينشأ من فقد النص عليه بخصوصه ، لاختصاص الخبرين المذكورين بالمطر مع ما عرفت من المناقشة في الدلالة أيضا ، ومن العلة المشار إليها بالتعليق على الشرط في قوله في صحيحة علي : «ان كان يغسله اغتساله بالماء أجزأه» وإطلاق قوله في صحيحة زرارة (1) : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره فقد أجزأه». وما يقرب منه ويؤدي مؤداه ، فإنه علق الاجزاء على جريان الماء على الجسد مطلقا ، فإذا جرى دفعة بأي وجه وجب الحكم بالاجزاء وعدم الافتقار الى الترتيب. ولعله الأقرب.

(الثانية) ـ هل يجب في الغسل ارتماسا في الماء الكثير الخروج من الماء بالكلية ثم إلقاء نفسه فيه دفعة ، أم يجوز وان كان بعضه في الماء بحيث ينوي ويدفع نفسه الى موضع آخر تحت الماء على وجه تختلف عليه سطوح الماء؟ ظاهر كلام جملة من متأخري

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 31 من أبواب الجنابة.


المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخراساني في الكفاية وشيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله ابن صالح البحراني (عطر الله مرقديهما) الأول ، والمفهوم من كلام الأصحاب ـ كما تقدم في مسألة الماء المستعمل في الحدث الأكبر من نقل شطر من عبائرهم الدالة على النية بعد الارتماس في الماء ـ هو الثاني ، وهو الذي سمعته من والدي (عطر الله مرقده) غير مرة ، وهو الظاهر عندي : (أما أولا) ـ فلإطلاق الأخبار الواردة بالارتماس (1) فإنها أعم من ان يكون المرتمس خارج الماء بكله أو بعضه. و (اما ثانيا) ـ فلان الغسل المأمور به شرعا ليس إلا عبارة عن غسل البشرة المقارن للنية ، والغسل ليس إلا عبارة عن جرى جزء من الماء على جزءين من البشرة بنفسه أو بمعاون كما صرح به الأصحاب (رضوان الله عليهم) ولا يخفى حصول جميع ذلك في موضع البحث ، فان المغتسل متى كان بعضه في الماء بل كله وقصد الغسل ثم دفع نفسه الى موضع آخر بحيث اختلفت عليه سطوح الماء الذي به يتحقق الجريان ، فقد حصل الغسل المطلوب شرعا.

ولم أقف لأحد من الأصحاب (رضوان الله عليهم) على كلام في هذا المقام سوى الفاضل الشيخ علي سبط شيخنا الشهيد الثاني ، فإنه قال في كتاب الدر المنظوم والمنثور بعد نقل كلام في المقام : «وما أحدث في هذا الزمان ـ من كون الإنسان ينبغي ان يلقي نفسه في الماء بعد ان يكون جميع جسده خارجا عنه ـ ناشى‌ء عن الوسواس المأمور بالتحرز منه ، ومن توهم كون الارتماس في الماء يدل على ذلك. وهذا ليس بسديد ، لان الارتماس في الماء يصدق على من كان في الماء بحيث يبقى من بدنه جزء خارج وعلى من كان كله خارجا ، بل ربما يقال انه صادق على من كان جميع بدنه في الماء ونوى الغسل بذلك مع حركة ما بل بغير حركة ، ومثله ما لو كان الإنسان تحت المجرى أو المطر الغزير فإنه لا يحتاج الى ان يخرج أو يحصل له مكانا خاليا من نزول المطر أو الميزاب ثم يخرج اليه ، وينبغي على هذا ان لا يجوز غسل الترتيب في حال نزول المطر عليه ونحو ذلك.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


نعم لو قال (عليه‌السلام) : «وقع في الماء دفعة واحدة» دل على ذلك ، على انه لم ينقل عن أحد من علمائنا المتقدمين والمتأخرين فعل ذلك ، وهو مما يتكرر فتتوفر الدواعي على نقله لغرابته فلو فعل لنقل ، مع منافاته للشريعة السهلة السمحة خصوصا في أمر الطهارة ، وإلقاء النفس الى ما يحتمل معه تعطل بعض الأعضاء لا ظهور له من الحديث ، وكأن الشيطان (لعنه الله) يريد ان يسر بكسر أحد أعضاء بعض المؤمنين فيوسوس لهم ذلك ويحسنه.» انتهى. وهو جيد. وبما ذكرنا يظهر انه لا مانع من الغسل ترتيبا في الماء على الوجه المذكور ، ويؤيده صحيحة علي بن جعفر ومرسلة محمد بن أبي حمزة السالفتان وصحيحة علي بن جعفر الواردة في الوضوء بالمطر حال تقاطره (1) وقد أشبعنا في هذه المسألة الكلام زيادة على ما في هذا المقام في أجوبة مسائل بعض الأعلام.

(الثالثة) ـ الظاهر انه لا خلاف في عدم وجوب الموالاة في الغسل بشي‌ء من التفسيرين المتقدمين في الوضوء.

ويدل عليه ما تقدم في صحيحة محمد بن مسلم الواردة في قضية أم إسماعيل (2).

وحسنة إبراهيم بن عمر اليماني عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (3) قال : «ان عليا (عليه‌السلام) لم ير بأسا ان يغسل الرجل رأسه غدوة ويغسل سائر جسده عند الصلاة».

وفي صحيحة حريز المتقدمة في مسألة الموالاة في الوضوء (4) «... وابدأ بالرأس ثم أفض على سائر جسدك. قلت : وان كان بعض يوم؟ قال : نعم».

وما ورد في كتاب الفقه الرضوي (5) حيث قال (عليه‌السلام): «ولا بأس بتبعيض الغسل : تغسل يديك وفرجك ورأسك وتؤخر غسل جسدك الى وقت الصلاة

__________________

(1) ج 2 ص 358.

(2) ص 71.

(3) المروية في الوسائل في الباب 29 من أبواب الجنابة.

(4) المروية في الوسائل في الباب 33 من أبواب الوضوء.

(5) ص 4.


ثم تغسل إن أردت ذلك».

إلا ان الأصحاب صرحوا باستحبابها هنا ، ولم يفسروها بشي‌ء من المعنيين المتقدمين ، ولم يوردوا على ذلك ايضا دليلا في المقام ، وربما استدل على ذلك بمواظبة السلف والخلف من العلماء والفقهاء على مرور الأعصار بل الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم) الا انه لا يخلو من شوب الإشكال ، إذ ربما يقال ان ذلك لما كان من الأفعال العادية التي هي أسهل وأقل كلفة في غالب الأحوال حصل المواظبة عليها لذلك. نعم ربما يمكن ان يستدل على ذلك بعموم آيات المسارعة إلى المغفرة والاستباق الى الخير (1) والتحفظ من طريان المفسد. والمتابعة لفتوى جمع من الأصحاب بالاستحباب. ولا يخفى ما فيه ايضا.

وهل تجب متى خاف فجأة الحدث الأصغر كما في السلس والمبطلون؟ احتمال مبني على وجوب الإعادة بتخلل الحدث الأصغر كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى. اما إذا خاف فجأة الحدث الأكبر فهل تجب محافظة على سلامة العمل من الابطال ، أم لا لعدم استناد الابطال اليه مع وجوب الاستئناف؟ احتمالان أظهرهما الثاني لما ذكر ، اما لو كان الحدث الأكبر مستمرا فالأقرب الأحوط اشتراطها في صحة الغسل ، لعدم العفو عما سوى القدر الضروري كما تقدم مثله في الوضوء.

(الرابعة) ـ قد عرفت ان الأظهر الأشهر وجوب الترتيب في الغسل الترتيبي بين الأعضاء الثلاثة ، وحينئذ فلو أغفل المغتسل ترتيبا لمعة من بدنه فقد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه ان كان في الجانب الأيسر غسلها وان كان في الأيمن فكذلك مع اعادة غسل الأيسر تحصيلا للترتيب.

والذي وقفت عليه من الاخبار مما يتعلق بذلك صحيحة أبي بصير عن ابي عبد الله

__________________

(1) سورة آل عمران الآية 133 وسورة البقرة. الآية 148 وسورة المائدة. الآية 48.


(عليه‌السلام) (1) قال : «اغتسل ابي من الجنابة فقيل له قد بقيت لمعة من ظهرك لم يصبها الماء. فقال له : ما كان عليك لو سكت؟ ثم مسح تلك اللمعة بيده».

وقد يستشكل في هذه الرواية من حيث إباء العصمة ذلك. وأجيب بأنه لعل الترك لقصد التعليم. ولا يخفى بعده. والأقرب عندي حمل الخبر على عدم فراغه (عليه‌السلام) من الغسل وانصرافه عنه ، فمعنى قوله (عليه‌السلام) : «اغتسل أبي» اي اشتغل بالغسل فقيل له في حال الغسل ، والتجوز في مثل ذلك شائع في الكلام ، فلا منافاة فيه للعصمة. وما ربما يتراءى من دلالة قول المخبر : «قد بقيت لمعة» على ذلك ، فإن مرمى هذه العبارة انما يكون بالنسبة الى من فرغ من الغسل ، فإنه يمكن ان يقال انه (عليه‌السلام) في حال الاشتغال بالغسل وتعديه إلى أسافل البدن مع بقاء تلك اللمعة في أعاليه استعجل الرائي لها باخباره بها ، والا فهو كان يرجع إليها بإمرار يده عليها مرة أخرى. نعم قوله (عليه‌السلام) : «ما كان عليك لو سكت» فيه تعليم للمخبر بعدم وجوب الاخبار بمثل ذلك.

وروى مثل ذلك القطب الراوندي في نوادره بسنده فيه عن موسى بن إسماعيل عن أبيه عن جده موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) (2) قال : «قال علي (عليه‌السلام) اغتسل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من جنابة فإذا لمعة من جسده لم يصبها ماء فأخذ من بلل شعره فمسح ذلك الموضع ثم صلى بالناس».

وصحيحة زرارة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (3) في حديث قال فيه : قال حماد وقال خريز قال زرارة : «قلت له : رجل ترك بعض ذراعه أو بعض جسده في غسل الجنابة فقال : إذا شك ثم كانت به بلة وهو في صلاته مسح بها عليه ، وان كان استيقن رجع وأعاد الماء عليه ما لم يصب بلة ، فإن دخله الشك وقد دخل في حال اخرى فليمض في

__________________

(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الجنابة.

(2) رواه في البحار ج 18 ص 156.


صلاته ولا شي‌ء عليه ، وان استيقن رجع وأعاد عليه الماء ، وان رآه وبه بلة مسح عليه وأعاد الصلاة باستيقان ، وان كان شاكا فليس عليه في شكه شي‌ء فليمض في صلاته».

وأنت خبير بأن غاية ما يفهم من هذه الاخبار هو غسل موضع الخلل خاصة أعم من ان يكون في طرف اليمين أو اليسار ، الا ان يقيد إطلاقها بما علم من الترتيب المتقدم وهو قريب في الخبرين الأولين باحتمال كون المغفل من الظهر في الأول والجسد في الثاني داخلا في الجانب الأيسر الا انه في الثالث بعيد ، أو يقال باستثناء موضع البحث ويؤيده ان إثبات وجوب الترتيب من الاخبار المتقدمة بحيث يشمل مثل هذه الصورة لا يخلو من الاشكال ، وظاهر الاخبار المذكورة أيضا الاكتفاء بمجرد مسحه بالبلة الباقية الا ان يحمل المسح على ما يحصل به الجريان ولو قليلا والظاهر بعده ، أو يقال بالاكتفاء بالمسح في مثل ذلك خاصة. وكيف كان فلا ريب ان الأحوط هو ما ذكروه (نور الله مراقدهم وأعلى مقاعدهم).

ولو كان إغفال اللمعة في الغسل الارتماسي فهل يعيد مطلقا ، أو يكتفي بغسل اللمعة مطلقا ، أو يغسلها وما بعدها كالمرتب ، أو يفصل بطول الزمان فالإعادة وعدمه فالاجتزاء بغسل اللمعة؟ احتمالات ، وبالأول صرح الشهيد في الدروس والبيان ، وقواه العلامة في المنتهى بعد ان نقله عن والده ، معللا له بأن المأخوذ عليه الارتماس دفعة واحدة بحيث يصل الماء إلى سائر الجسد في تلك الدفعة ، لقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) : «إذا ارتمس ارتماسة واحدة أجزأه». ومن المعلوم عدم الاجزاء مع عدم الوصول. وبالثاني صرح العلامة في القواعد ، واحتج عليه في المنتهى بعد ذكره احتمالا بان الترتيب سقط في حقه وقد غسل أكثر بدنه فأجزأه ، لقول ابي عبد الله (عليه‌السلام) (2) : «فما جرى عليه الماء فقد أجزأه». واما الثالث فذكره في القواعد احتمالا مقويا له على الأول ، وكأن وجهه البناء على ان الارتماس يترتب حكما أو نية وإلا فلا وجه له ، واما الرابع فاختاره المحقق

__________________

(1 و 2) المروي في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


الشيخ علي في شرح القواعد ولم يذكر الوجه فيه ، والظاهر ان وجهه انه مع عدم الفصل الكثير تصدق الوحدة العرفية فيكون غسل اللمعة فقط مجزئا ، ومع الفصل كذلك لا تصدق الوحدة المذكورة فتجب الإعادة.

وأنت خبير بان الحكم المذكور لخلوه من النص لا يخلو من الاشكال ، لتدافع ما ذكروه من الوجوه في هذا المجال ، بل ورود النقض فيها والاختلال : (اما الأول) فلاحتمال صدق الارتماسة الواحدة عرفا وان لم يصل الماء الى بعض يسير من جسده ولا سيما إذا كان ذلك لمانع. إذ الفرض ان جميع البدن تحت الماء ، واما الحيثية المذكورة فغير مفهومة من الارتماسة الواحدة. و (اما الثاني) فلان سقوط الترتيب في حقه لا مدخل له في عدم وجوب الإعادة ، وغسل أكثر البدن لا مدخل له في العلية بل هو محض مصادرة ، والخبر الذي ذكره مورده الترتيب. و (اما الثالث) فقد عرفت انه لا وجه له الا البناء على الترتيب الحكمي وقد تقدم ما فيه. و (اما الرابع) فإنه انما يتم لو لم يخرج المغتسل من الماء ، واما إذا خرج فإنه لا يخلو اما ان يقول بدلالة الخبر الذي هو مستند الغسل الارتماسي على غسل جميع الأعضاء في الارتماسة الواحدة أم لا ، فعلى الأول لا يخفى انه بعد الخروج وان لم يقع فصل كثير لا يصدق على غسل اللمعة خارجا انه وقع في الارتماسة الواحدة ، وعلى الثاني لا وجه للفرق بالاجزاء وعدمه بين طول الزمان وعدمه كما لا يخفى ، وحينئذ فالواجب الوقوف على ساحل الاحتياط بالإعادة من رأس.

(الخامسة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب اجراء الماء في الغسل تحقيقا لمسمى الغسل الوارد في الآية والرواية ، ولورود جملة من الاخبار بذلك ، كقوله (عليه‌السلام) في صحيحة محمد بن مسلم (1) : «... فما جرى عليه الماء فقد طهر». وقوله في صحيحة زرارة (2) : «الجنب ما جرى عليه الماء من جسده قليله وكثيره

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


فقد أجزأه». وغيرهما ، وحينئذ فما يدل بظاهره على خلاف ذلك ـ كرواية إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (1) «ان عليا (عليه‌السلام) قال : الغسل من الجنابة والوضوء يجزئ منه ما أجزأ من الدهن الذي يبل الجسد». ونحوها ـ محمول على أقل ما يحصل معه الجريان أو عوز الماء ، ويؤيد الثاني ما في كتاب الفقه الرضوي حيث قال (2) «ويجزئ من الغسل عند عوز الماء الكثير ما يجزئ من الدهن». وقد تقدم في بحث الوضوء من التحقيق في المقام ما له مزيد نفع في إيضاح المرام.

(السادسة) ـ المفهوم من كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) تصريحا في مواضع وتلويحا في اخرى انه لا يجب غسل شعر الجسد كائنا ما كان خفيفا كان أو كثيفا ، نعم يجب تخليله لا لإيصال الماء الى ما تحته ، وظاهر المعتبر والذكرى الإجماع على الحكم المذكور ، وربما ظهر من عبارة المقنعة الخلاف في ذلك ، حيث قال : «وإذا كان الشعر مشدودا حلته» الا ان الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب حملها على ما إذا لم يصل الماء إلى أصول الشعر الا بعد حله ، واما مع الوصول فلا يجب ذلك.

واستدل بعض الأصحاب على ذلك بأصالة العدم مما لم يرد الأمر بالتكليف به ، إذ قصارى ما تدل عليه الاخبار الأمر بغسل الجسد : والشعر لا يسمى جسدا ، وصحيحة الحلبي عن رجل عن ابي عبد الله عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (3) قال : «لا تنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت من الجنابة».

وللنظر في ذلك مجال : (أما أولا) ـ فلمنع خروجه من الجسد ولو مجازا ، كيف وهم قد حكموا بوجوب غسله في يدي الوضوء كما تقدم ، معللين ذلك تارة بدخوله في محل الفرض واخرى بأنه من توابع اليد ، وحينئذ فإذا كان داخلا في اليد بأحد الوجهين المذكورين واليد داخلة في الجسد كان داخلا في الجسد البتة ، ولو سلم خروجه عن الجسد

__________________

(1 و 3) المروية في الوسائل في الباب 52 من أبواب الوضوء.

(2) ص 3.


فلا يخرج عن الدخول في الرأس والجانب الأيمن والأيسر المعبر بها في جملة من الاخبار

و (اما ثانيا) ـ فلانه لا يلزم من عدم النقض في صحيحة الحلبي عدم وجوب الغسل ، لإمكان الزيادة في الماء حتى يروى ، كما في حسنة الكاهلي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) (1) في المرأة التي في رأسها مشطة حيث قال (عليه‌السلام): «... فإذا أصابها الغسل بقذر مرها ان تروي رأسها من الماء وتعصره حتى يروى فإذا روى فلا بأس عليها. الحديث».

و (اما ثالثا) ـ فلما روي في صحيحة حجر بن زائدة عن الصادق (عليه‌السلام) (2) انه قال : «من ترك شعرة من الجنابة متعمدا فهو في النار». والتأويل بالحمل على ان المراد بالشعرة ما هو قدرها من الجسد لكونه مجازا شائعا كما ذكروا وان احتمل الا انه خلاف الأصل فلا يصار اليه الا بدليل ، إذ وجوب غسل الجسد كملا في الغسل وعدم صحته الا بذلك مما تكفلت به الأخبار المستفيضة ، ويزيد ذلك بيانا وتأكيدا ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) مرسلا من قوله : «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة» (3). وما ورد في حسنة جميل (4) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عما تصنع النساء في الشعر والقرون. فقال : لم تكن هذه المشطة إنما كن يجمعنه ثم وصف أربعة امكنة ثم قال يبالغن في الغسل». وصحيحة محمد بن مسلم عن ابي جعفر (عليه‌السلام) (5) قال : «حدثتني سلمى خادمة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قالت : كان اشعار نساء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قرون رؤوسهن مقدم رؤوسهن فكان يكفيهن من الماء شي‌ء قليل ، فاما النساء الآن فقد ينبغي لهن ان يبالغن في الماء». ومن ثم قوى بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين وجوب غسله ، قائلا

__________________

(1 و 4 و 5) المروية في الوسائل في الباب 38 من أبواب الجنابة.

(2) المروية في الوسائل في الباب 1 من أبواب الجنابة.

(3) كما في سنن ابن ماجة ج 1 ص 207 والمغني ج 1 ص 228 ، وفي الأول «فاغسلوا الشعر».


بعد الطعن في أدلة المشهور : «انه ان ثبت إجماع فعليه المعتمد في الفتوى والا فوجوب غسل الشعر كما هو الموافق للاحتياط والتقوى هو الأقوى» والى ذلك ايضا يميل كلام شيخنا البهائي (عطر الله مرقده) في الحبل المتين.

والعجب من شيخنا الشهيد الثاني (رحمه‌الله) في شرح الألفية ، حيث قال ـ بعد ان صرح بعدم وجوب غسل الشعر الا ان يتوقف عليه غسل البشرة ـ ما لفظه : «والفرق بينه وبين شعر الوضوء النص» انتهى. فانا لم نقف على نص في هذا الباب ولا نقله ناقل من الأصحاب سوى ما ذكرنا هنا من الاخبار ، وهي ان لم تدل على غسل الشعر فلا أقل ان لا تدل على عدمه ، واما في الوضوء فغاية ما تمسكوا به بالنسبة إلى شعر الوجه دخوله فيما يواجه به وبالنسبة إلى اليد فبدعوى التبعية والتغليب لاسم اليد على جميع ما عليها كما عرفت. وبالجملة انه لا دليل لهم في الفرق إلا الإجماع ان تم.

(السابعة) ـ لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في وجوب تخليل ما يمنع وصول الماء الى الجسد من شعر وغيره ، ويدل عليه عموم ما علق فيه الحكم على الجسد من الاخبار. وخصوص صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (1) قال : «سألته عن المرأة عليها السوار والدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحتهما أو لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. الحديث». وحينئذ فما أشعر بخلاف ذلك ـ كحسنة الحسين بن ابى العلاء (2) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الخاتم إذا اغتسلت قال : حوله من مكانه ، وقال في الوضوء تديره ، فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة». حيث دلت على اغتفاره مع النسيان وان ذكره بعده ، وهو خلاف ما عليه الأصحاب ، وبمضمون هذه الرواية صرح في الفقيه (3) فقال : «فإذا كان مع

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 41 من أبواب الوضوء.

(3) ج 1 ص 31 وفي الوسائل في الباب 41 من أبواب الوضوء.


الرجل خاتم فليدره في الوضوء ويحوله عند الغسل. وقال الصادق (عليه‌السلام): ان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد». وصحيحة إبراهيم بن ابى محمود (1) قال : «قلت للرضا (عليه‌السلام) : الرجل يجنب فيصيب جسده ورأسه الخلوق والطيب والشي‌ء اللكد مثل علك الروم والطرار وما أشبهه ، فيغتسل فإذا فرغ وجد شيئا قد بقي في جسده من اثر الخلوق والطيب وغيره؟ قال : لا بأس». ـ يجب ارتكاب جادة التأويل فيه بحمل الخبر الأول على الخاتم الذي لا يمنع وصول الماء ويكون الأمر بالإدارة والتحويل محمولا على الاستحباب. والخبر الثاني بالحمل على الأثر الذي لا يمنع الوصول.

ويظهر من بعض فضلاء متأخري المتأخرين الميل الى العمل بظاهر الخبرين المذكورين من عدم الاعتداد ببقاء شي‌ء يسير لا يخل عرفا بغسل جميع البدن اما مطلقا أو مع النسيان لو لم يكن الإجماع على خلافه ، ثم قال : «لكن الاولى ان لا يجترأ عليه» انتهى. والأقرب ارتكاب التأويل فيهما بما ذكرناه. وأظهر منهما في قبول التأويل المذكور رواية إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم‌السلام) (2) قال : «كن نساء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إذا اغتسلن من الجنابة يبقين صفرة الطيب على أجسادهن ، وذلك ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أمرهن أن يصببن الماء صبا على أجسادهن».

(الثامنة) ـ محل الغسل هو الظواهر من الجسد بلا خلاف ، قال في المنتهى : «ويجب عليه إيصال الماء الى جميع الظاهر من بدنه دون الباطن منه بلا خلاف».

أقول : ويدل على ذلك مرسلة أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه (3) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الجنب يتمضمض ويستنشق؟ قال : لا انما يجنب الظاهر».

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 30 من أبواب الجنابة.

(3) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب الجنابة.


ورواية عبد الله بن سنان (1) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : لا يجنب الأنف والفم لأنهما سائلان».

وروى الصدوق في العلل عن أبي يحيى الواسطي عمن حدثه (2) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : الجنب يتمضمض؟ فقال : لا انما يجنب الظاهر ولا يجنب الباطن ، والفم من الباطن».

قال : وروي في حديث آخر ان الصادق (عليه‌السلام) قال في غسل الجنابة : «ان شئت ان تتمضمض أو تستنشق فافعل وليس بواجب ، لان الغسل على ما ظهر لا على ما بطن».

أقول : وبهذه الاخبار يجمع بين ما دل على الأمر بالمضمضة والاستنشاق وما دل على نفيهما كما سيأتي ذكره ان شاء الله بحمل ما دل على النفي على نفي الوجوب وما دل على الأمر على الاستحباب ، وفي خبر زرارة أيضا (3) : «... إنما عليك ان تغسل ما ظهر».

ومن البواطن الثقب الذي يكون في الاذن للحلقة إذا كان بحيث لا يرى باطنه للناظر ، وبه صرح في المدارك وجزم به شيخه المولى الأردبيلي ، ونقل عن المحقق الشيخ علي (ره) في حاشية الشرائع انه حكم بإيصال الماء الى باطنه مطلقا. ولا يخفى ما فيه. وينبغي ان يعلم ايضا ان الظاهر وجوب غسل باطن الأذنين وهو ما يرى للناظر من سطح باطنهما عند تعمد الرؤية لدخوله في الظاهر وان توقف على التخليل وجب ، قال في التذكرة في تعداد واجبات الغسل : «ويغسل أذنيه وباطنهما ولا يدخل الماء فيما بطن من صماخه» وعلى ذلك يحمل ايضا ما ذكره في المقنعة حيث قال : «ويدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه فيغسل باطنهما ويلحق ذلك بغسل ظاهرهما».

(التاسعة) ـ قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة : «ولا ينبغي له ان يرتمس في الماء الراكد ، فإنه ان كان قليلا أفسده وان كان كثيرا خالف السنة بالاغتسال فيه».

__________________

(1 و 2) المروية في الوسائل في الباب 24 من أبواب الجنابة.

(3) المروي في الوسائل في الباب 29 من أبواب الوضوء.


واستدل له الشيخ (رحمه‌الله) في التهذيب بالنسبة إلى الحكم الأول بأن الجنب حكمه حكم النجس الى ان يغتسل فمتى لاقى الماء الذي يصح فيه قبول النجاسة فسد ، وبالنسبة الى الثاني بصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع (1) قال : «كتبت الى من يسأله عن الغدير يجتمع فيه ماء السماء أو يستقى فيه من بئر فيستنجي فيه الإنسان من بول أو يغتسل فيه الجنب. ما حده الذي لا يجوز؟ فكتب : لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه». ثم قال (قدس‌سره) قوله : «لا تتوضأ من مثل هذا إلا من ضرورة إليه» يدل على كراهة النزول فيه ، لانه لو لم يكن مكروها لما قيد الوضوء والغسل منه بحال الضرورة. انتهى.

ولا يخفى عليك ما في أول استدلاليه ، فإنه مجرد دعوى لم يقم عليها دليل ، ولم يقل بها أحد قبله ولا بعده من الأصحاب جيلا بعد جيل ، وإطلاق أخبار الارتماس شامل لما لو كان الغسل بالماء القليل ، وقد ادعى المحقق في المعتبر الإجماع على طهارة غسالة الجنب الخالي بدنه من النجاسة العينية ، وعبارة المقنعة وان أشعرت بذلك ظاهرا الا انه يمكن حملها على تلوث بدن الجنب بالنجاسة كما هو الغالب الذي انصبت عليه أخبار كيفية الغسل حسبما تقدم بيانه ، مع ان رواية محمد بن ميسر عن الصادق (عليه‌السلام) (2) قال : «سألته عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد ان يغتسل منه وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان؟ قال : يضع يده ويتوضأ ثم يغتسل ، هذا مما قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...» (3). ـ تدل بظاهر إطلاقها على جواز الغسل وان كان ارتماسا مع إمكانه استنادا الى نفي الحرج الدال على الامتنان المناسب للتعميم.

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 9 من أبواب الماء المطلق.

(2) المروية في الوسائل في الباب 8 من أبواب الماء المطلق.

(3) سورة الحج الآية 78.


واما ما أجاب به (قدس‌سره) عن هذا الخبر ـ حيث قال بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه من الاستدلال الأول : «وليس ينقض هذا الحديث الذي رواه محمد بن يعقوب ثم ساق الخبر وقال : لان معنى هذا الخبر ان يأخذ الماء من المستنقع بيده ولا ينزله بنفسه ويغتسل بصبه على بدنه ، فاما إذا نزله فسد حسبما بيناه» انتهى ـ ففيه ان التخصيص بما ذكره يحتاج الى دليل ، وما ذكره من التعليل الأول قد عرفت ما فيه فلا يصلح للتخصيص

نعم ربما يقال ان مبنى كلام الشيخين (نور الله تعالى مرقديهما) هنا على ما ذهبا اليه من المنع من استعمال الماء المستعمل في الحدث الأكبر ، كما تقدم بيانه في محله ويشير اليه تعبيرهما بالإفساد ، وحاصل مرادهما انه بعد الارتماس فيه يفسد بمعنى يمتنع استعماله في طهارة أخرى ، حيث ان حكم الجنب في اغتساله من القليل وإفساده له حكم النجس في ملاقاته للقليل وتنجيسه له كما علله في التهذيب ، لا ان المراد بإفساد الماء تنجيسه كما ذكرنا أولا ، وهو الذي عقله عنهما جمع من فضلاء المتأخرين ، ليرد عليه ما ذكرنا آنفا ، بل المراد بإفساده سلب طهوريته كما هو مذهبهما (رضي‌الله‌عنهما) لكن لا بالنسبة إلى المغتسل بمعنى انه بالارتماس يصير الماء بأول ملاقاة الجنب له بقصد الاغتسال مستعملا مسلوب الطهورية ، ليرد عليه ما ذكره شيخنا المحقق صاحب رياض المسائل ، من انهم ان أرادوا بصيرورته مستعملا بالملاقاة المذكورة انه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى المغتسل والى غيره فهو واضح الفساد ، والا لزم عدم طهارة المغتسل ولو مرتبا لانه لا ينفك عن جريان الماء من جزء بدنه الى جزء آخر ، وان أرادوا بها انه لا يجوز استعماله بالنسبة إلى غيره فلا ينفعهم. انتهى ملخصا ، فان فيه انه لم يصرح في المقنعة بما ينافي ذلك أو ينافره ، وانما غرضه التنبيه على حكم في البين وهو ان الارتماس في الماء القليل يوجب إفساده وعدم رفع الحدث به فلا ينبغي للجنب ذلك ، وهذا معنى صحيح لا غبار عليه ولا يتوجه القدح اليه ، وفي التعبير ب «لا ينبغي» إشعار بذلك.

واما ثاني استدلالية فقد مر ما يتضح الحال به صحة وإبطالا في الفائدة الحادية


عشرة من مسألة الماء المستعمل في الطهارة الكبرى (1).

(العاشرة) ـ لا يخفى انه حيث لا مفصل محسوس بين الجانب الأيمن والأيسر في أعالي البدن فالواجب في الغسل الترتيبي ـ بناء على المشهور من وجوب الترتيب بينهما ـ غسل الحد المشترك مع كل من الجانبين من باب المقدمة ، واستظهر جمع من الأصحاب الاكتفاء بغسل العورة مع أحد الجانبين ، وحكم بعض بغسلها مع كل من الجانبين ، ويمكن توجيه الأول بأن العورة لما كانت عضوا مستقلا وليست داخلة في الحد المشترك بين الجانبين ليجب غسلها مرتين فالواجب غسلها مرة واحدة مع اي الطرفين كان ، والتكليف بالتعدد يحتاج الى دليل. ويمكن خدشه بان مقتضى ما دلت عليه الاخبار المشتملة على ذكر الجانبين غسل كل منهما ، وحينئذ فلو كانت العورة عضوا زائدا لكانت متروكة الذكر في تلك الاخبار ، وبذلك يظهر رجحان القول الثاني مضافا الى أوفقيته للاحتياط.

(الحادية عشرة) ـ الظاهر انه لا خلاف في وجوب المباشرة إلا ما ينقل عن ظاهر ابن الجنيد من جواز تولي الغير ، وظاهر الآية والاخبار يرده لظهورها في فعل المكلف نفسه ، حتى انه لو اضطر إلى التولية فلا بد من حصول القصد منه ، قال عزوجل : «... حَتَّى تَغْتَسِلُوا ...» (2) وقال : «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» (3) وهو ظاهر في توجه الخطاب للمكلف نفسه فلا يجزيه فعل غيره به ذلك. ونحوها الاخبار. وقول ابن الجنيد هنا جار على ما تقدم نقله عنه في الوضوء ، وقد تقدم الكلام في المسألة مستوفى ، والمنقول عنه هنا على ما ذكره في الذكرى انه قال : «وان كان غيره يصب عليه الماء من إناء متصل الصب أو كان تحت أنبوب قطع ذلك ثلاث مرات يفصل بينهن بتخليل الشعر بكلتا يديه» وهو ظاهر في التولية ، وفيه ما عرفت.

__________________

(1) ج 1 ص 457.

(2) سورة النساء. الآية 43.

(3) سورة المائدة. الآية 6.


ويمكن الاستدلال على ذلك ايضا بقوله عزوجل : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» (1) بالتقريب الذي ذكره مولانا الرضا (عليه‌السلام) في رواية الوشاء (2) حيث استدل على تحريم التولية بالآية المذكورة والرواية وان كان موردها الوضوء وصب الحسن الوشاء عليه الماء انما هو للوضوء الا ان قوله (عليه‌السلام) في الخبر المذكور بعد الاستدلال بالآية : «وها انا ذا أتوضأ للصلاة وهي العبادة فأكره أن يشركني فيها أحد». يشعر بأن التولية في طهارة العبادة التي لا تستباح الا بها مطلقا نوع من أنواع الشرك ، وقد تقدم بيان معنى الخبر المذكور ودلالته على التحريم وان مورده التولية دون الاستعانة كما توهمه جملة من أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم).

(الثانية عشرة) ـ قد صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بإزالة النجاسة عن البدن أولا ثم الغسل ثانيا ، الا انهم اختلفوا في ان ذلك هل هو على جهة لوجوب أو الاستحباب؟ قولان : ظاهر القواعد الأول ، ونقله بعض مشايخنا عن جملة من الأصحاب أيضا ، وصريح العلامة في النهاية الثاني ، وبه جزم ثاني المحققين في شرح القواعد ، وقبله أيضا أول الشهيدين على ما نقله شيخنا المتقدم ذكره ، بمعنى ان الواجب انما هو تطهير المحل النجس أولا قبل اجراء ماء الغسل عليه بحيث كلما طهر شيئا غسله تدريجا ، واما تقديم ذلك على أصل الغسل فهو الأفضل.

وربما أيد الأول ظواهر الأخبار الواردة في كيفية الغسل (3) حيث اشتملت على عطف الغسل على الأمر بالإزالة ب «ثم» المرتبة ولعل «ثم» في هذا المقام منسلخة عن الترتيب ، إذ لا يعقل لوجوب التقديم على أصل الغسل وجه ، لان الغرض

__________________

(1) سورة الكهف الآية 110.

(2) المروية في الوسائل في الباب 47 من أبواب الوضوء.

(3) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


انما هو اجراء الغسل على محل طاهر وهو يحصل بالتدريج. ويمكن ان يكون مخرج الأخبار ـ كما هو ظاهرها ـ انما هو بالنسبة إلى العورة التي هي محل النجاسة المعهودة أو نحوها من الأماكن اليسيرة كالإصبع ونحوها ، وفرض المسألة في نجاسة منتشرة أو متعددة بحيث يندرج فيها كما هو محل البحث بعيد عن سياق الاخبار المشار إليها كما لا يخفى على من راجعها.

وكيف كان فمرجع القولين الى وجوب إزالة النجاسة قبل اجراء ماء الغسل ، وانه لا يجزئ اجراء ماء الغسل المقصود به رفع الحدث لإزالة النجاسة الخبثية.

وهو المشهور في كلام المتأخرين خلافا للشيخ في المبسوط كما سيأتي نقل كلامه ، معللين ذلك (أولا) ـ بأنهما سببان متغايران فيجب تغاير مسببيهما ، والأصل عدم التداخل. و (ثانيا) ـ بان الماء القليل ينجس بالملاقاة فإذا ورد على المحل النجس تنجس به فلا يقوى على رفع الحدث فلا بد من طهارة المحل أولا. قال الشيخ علي في شرح القواعد بعد قول المصنف (رحمه‌الله) : «لا يجزئ غسل النجس من البدن عن غسله من الجنابة بل يجب إزالة النجاسة أولا ثم الاغتسال ثانيا» ما صورته : «انما وجب ذلك لأنهما سببان فوجب تعدد حكمهما ، لان التداخل خلاف الأصل ، ولأن ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر والا لأجزأ الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ولانفعال القليل وماء الطهارة يشترط ان يكون طاهرا إجماعا» انتهى ، وعلى هذا المنوال جرى كلام غيره في هذا المجال.

وفيه ان ما ذكروه ـ من ان تعدد السبب يقتضي تعدد المسبب وان الأصل عدم التداخل ـ لم نقف له على دليل يعتد به بل ظواهر النصوص ترده كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في مسألة تداخل الأغسال ، على انه قد أورد عليه ايضا انا لا نسلم ان اختلاف السبب يقتضي تعدد المسبب ، لان مقتضى التكليف وجود المسبب عند حصول السبب ، اما كونه مغايرا للأمر المسبب عن سبب آخر فتكليف آخر يحتاج الى دليل


والأصل عدمه ، فما ذكره من ان التداخل خلاف الأصل ضعيف. انتهى. وهو جيد واما ما ذكروه من ان ماء الغسل لا بد أن يقع على محل طاهر فهو على إطلاقه ممنوع ، وما استندوا اليه من انه لو لم يكن كذلك للزم اجزاء ماء الغسل مع بقاء عين النجاسة ، ان أريد به مع بقائها بحيث تمنع من وصول الماء الى البدن فبطلان الثاني مسلم لكن الملازمة ممنوعة ، لجواز وقوع الغسل على المحل النجس بشرط عدم المنع ، وان أريد مع عدم بقائها أو بقائها مع عدم المنع فبطلان الثاني ممنوع لعدم الدليل عليه. واما ما ذكروه من انفعال القليل واشتراط طهارة الماء إجماعا ، ان أريد به الإجماع على طهارته قبل الوصول فمسلم لكن لا ينفعهم ، وان أريد به الإجماع على الطهارة بعد الوصول فهو ممنوع إذ هو مصادرة على المطلوب حيث انه محل النزاع ، ونظيره غسل النجاسات ، فإنه لا يكون الا بماء طاهر قبل الورود. ونجاسته بعد الورود ـ بنجاسة المحل المغسول على تقدير القول بنجاسة القليل ـ لا تسلبه الطهورية ، على ان مذهب العلامة انه حال الورود ايضا طاهر لانه لا ينجس عنده الا بعد الانفصال.

ومما يؤيد ما ذكرنا في هذا المقام ان ازالة النجاسة في التحقيق ترجع الى التروك وتصير من قبيلها حيث ان المطلوب ترك النجاسة دون الأفعال ، فلا تقتضي فعلا يختص بها ، بل يكتفى فيها بتحققها بأي وجه اتفق مع صدق مسمى الغسل المعتبر على ذلك التقدير ، الا ترى انه لو وقع الثوب النجس في الماء اتفاقا أو اصابه المطر طهر البتة واصابة ماء الغسل من هذا القبيل.

نعم ربما يستدل لهم بظواهر الأخبار الواردة في بيان كيفية غسل الجنابة (1) المشتملة على تقديم الإزالة وعطف الغسل عليها ب «ثم» المرتبة. ويضعف باشتمالها على جملة من المستحبات وعد ذلك في قرنها كغسل اليدين والمضمضة والاستنشاق ونحوها. الا ان يجيبوا عن ذلك بأنه قد قام الدليل على الاستحباب في تلك الأشياء ، فحمل الأمر

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 26 من أبواب الجنابة.


في الاخبار المذكورة عليه لا اشكال فيه ، واما ما لم يقم فيه دليل فيجب إبقاء الأمر فيه على حقيقته من الوجوب. إلا انك قد عرفت ان جملة من القائلين بوجوب تقديم الإزالة لا يقولون به قبل الغسل وانما يوجبونه تدريجا ، وعلى تقديره لا يمكن حمل الأوامر المذكورة في الأخبار على الوجوب ، مع انه من المحتمل قريبا ان الأمر بتقديم الإزالة في الأخبار المشار إليها وعدم الاكتفاء بماء الغسل انما هو من حيث خصوص نجاسة المني الذي هو مورد تلك الأخبار ولا سيما بعد يبسه ، فإنه يحتاج الى مزيد كلفة وذلك لثخانته ولزوجته ، فلذا وقع الأمر بالإزالة أولا ، واحتمال غيره من النجاسات بعيد عن سياق الأخبار المشار إليها.

وربما يستدل لهم أيضا بصحيحة حكم بن حكيم (1) حيث قال (عليه‌السلام) في آخرها بعد ذكر الغسل : «فان كنت في مكان نظيف فلا يضرك ان لا تغسل رجليك ، وان كنت في مكان ليس بنظيف فاغسل رجليك». فإنه ظاهر في عدم الاكتفاء بماء الغسل لإزالة النجاسة الخبثية بل لا بد من ماء آخر لإزالتها. ويمكن تطرق القدح الى ذلك بأنه لا ظهور له في تقديم إزالة النجاسة بل غايته الدلالة على وجوب غسل آخر ، ومن المحتمل ان يكون ذلك بعد تمام الغسل ، لعدم زوال النجاسة بماء الغسل وان ارتفع به الحدث كما هو المفهوم من كلام الشيخ (رحمه‌الله) الآتي ذكره ، وإذا تطرق الاحتمال لم يتم الاستدلال بها.

وقال في المبسوط : «وان كان على بدنه نجاسة أزالها ثم اغتسل ، وان خالف واغتسل أولا ارتفع حدث الجنابة وعليه ان يزيل النجاسة ان كانت لم تزل ، وان زالت بالاغتسال فقد أجزأ عن غسلها» انتهى. وهو ـ كما ترى ـ يدل على أحكام ثلاثة : (أحدها) ـ ان طهارة المحل ليست شرطا في الغسل كما ادعاه المتأخرون. و (ثانيها) ـ ان الغسل الواحد يجزئ لرفع الحدث والخبث معا ، خلافا لما ذكروه أيضا

__________________

(1) المروية في الوسائل في الباب 27 من أبواب الجنابة.


من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب. و (ثالثها) ـ انه لو لم تزل النجاسة الخبثية ارتفع حدثه ووجب عليه ازالة النجاسة الخبثية بعد الغسل ، الا انه يجب تقييد هذا الحكم بما إذا لم يكن للنجاسة عين مانعة من وصول الماء الى البدن ، والا فلا ريب في بطلان الغسل لوجوب إيصال الماء إلى البشرة.

وجملة من المتأخرين بعد نقل كلام الشيخ المذكور اعترضوه : منهم ـ العلامة في المختلف حيث قال بعد نقله : «والحق عندي ان الحدث لا يرتفع الا بعد إزالة النجاسة ، لأن النجاسة إذا كانت عينية ولم تزل عن البدن ولم يحصل إيصال الماء الى جميع البدن فلا يزول حدث الجنابة ، وان كانت حكمية زالت بنية غسل الجنابة» وقال في الذكرى بعد نقله ايضا : «ويشكل بان الماء ينجس فكيف يرفع الحدث ، والاجتزاء بغسلها عن الأمرين مشكل أيضا.

أقول : اما ما ذكره العلامة (رحمه‌الله) فقيه أن صحة الغسل مع بقاء النجاسة لا ينحصر في بقاء عينها على البدن على وجه يمنع وصول الماء إلى البشرة حتى انه يمنع ارتفاع النجاسة ، بل يمكن ذلك مع بقائها على وجه لا يمنع من وصول الماء وانتقالها من محل الى آخر ، ومن الظاهر البين ان الشيخ لم يرد الا ما ذكرناه كما قدمنا الإشارة إليه ، إذ لا يخفى على من هو دونه وجوب إيصال الماء إلى البشرة ، وحينئذ فيطهر عنده البدن من النجاسة الحدثية وان بقيت الخبثية. بقي الكلام في قوله (رحمه‌الله) : «وان كانت حكمية زالت بنية غسل الجنابة» والظاهر انه أراد بالحكمية ما لا عين له من النجاسات بقرينة وقوع التقسيم في النجاسة المفروضة في عبارة الشيخ ومحل البحث هو النجاسة الخبثية ، فهو حينئذ قسيم لقوله : «فان كانت عينية» ومعطوف عليه ، وحينئذ فمقتضاه موافقة الشيخ (رحمه‌الله) في الاكتفاء بماء الغسل في الطهارة عما لا عين له من النجاسات. واما ما ذكره شيخنا الشهيد (رحمه‌الله) فقد عرفت جوابه.

وبالجملة فحاصل كلام الشيخ (رحمه‌الله) انه مأمور بتقديم إزالة النجاسة قبل


الاغتسال بالأخبار التي تقدمت الإشارة إليها ، فإن خالف واغتسل أولا ، فإن زالت النجاسة بماء الغسل ارتفعت النجاستان الحدثية والخبثية ، والا فالحدثية خاصة واحتاج في إزالة الخبثية إلى غسل آخر ، وهذا لا ينافي ما يستفاد من الاخبار المشار إليها ، فإن غايته القول بوجوب إزالة النجاسة ثم الغسل بعد ذلك ، ولا يلزم ان يكون منهيا عن تقديم الغسل أو المقارنة إلا على تقدير القول باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، وهو مما لم يقم عليه دليل ، ومع تسليمه فلا يلزم من النهي هنا ايضا بطلان الغسل ، لأن النهي لم يتوجه إلى العبادة ولا إلى جزئها ولا شرطها بل الى خارجها اللازم ، فلم يبق للبطلان وجه الا ما ادعوه مما عرفت بطلانه آنفا.

والى هذا القول مال جملة من متأخري المتأخرين : منهم ـ الفاضل الخوانساري في شرح الدروس حيث قال بعد نقل عبارة المبسوط ما ملخصه : وهذا يدل على ان طهارة المحل ليست شرطا في الغسل ، وعلى ان الغسل الواحد يجزئ عن رفع الحدث والخبث معا. وما ذكره هو الظاهر : (اما الأول) فلأن الأمر بالاغتسال مطلق والتقييد بطهارة المحل خلاف الظاهر. نعم لا بد من وصول الماء إلى البشرة فيجب ان لا يكون للنجاسة عين مانع عن الوصول ، اما إذا لم يكن لها عين أو كان ولم يكن مانعا فلا دليل على بطلانه ، وان لم يطهر بصب الماء للغسل كما إذا كان لها عين غير مانع ولم تزل أو لم يكن لها عين ولكن لا بد في تطهيرها من الصب مرتين. و (اما الثاني) فلمثل ذلك أيضا ، لأن الأمر بالاغتسال مطلق وكذا الأمر بالتطهير ، فإذا صب الماء على العضو فقد امتثل الأمرين ، فلو كانت النجاسة مما يكفيه صب واحد فقد ارتفع الحدث والخبث ، وان لم يكفها صب واحد بل لا بد فيها من مرتين كما إذا كانت بولا فيحسب هذا الصب بواحد ويجب صب آخر ، واما النجاسة الحكمية فقد ارتفعت بالصب الأول. انتهى.

أقول : والتحقيق عندي في هذا المقام ان يقال لا ريب ان ما ادعوه ـ من وجوب إزالة الخبثية ثم الغسل بعد ذلك وان ماء الغسل لا يجزئ لهما متى زال عين النجاسة الخبثية


فلا دليل عليه ، وأضعف منه ما ادعوه من تعدد المسببات بتعدد الأسباب ، فيبقى ما ذكره الشيخ (رحمه‌الله) سالما مما ذكروه. نعم يبقى الاشكال فيما ذكره (قدس‌سره) من وجه آخر ، وهو انهم قد أجمعوا إلا من شذ على نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، والمشهور بينهم نجاسة الغسالة من الخبث ، وقد أجمعوا أيضا من غير خلاف يعرف على ان ما كان نجسا قبل التطهير لا يكون مطهرا ، فبناء على هذه المقدمات الثلاث متى اغتسل المكلف وعلى بدنه نجاسة لم تزل عنه بالغسل وان كانت لا تمنع من وصول الماء إلى البشرة أو زالت عينها من ذلك الموضع الى موضع آخر أو زالت عينها بالكلية ولكن تعدت غسالتها الى موضع آخر من البدن ، فالقول بصحة الغسل هنا بناء على هذه المقدمات الثلاث مشكل جدا ، لان الماء بملاقاة النجاسة لا ريب في تنجسته بناء على المقدمة الاولى وحينئذ فإن طهر ذلك الموضع الذي فيه النجاسة إذ لا منافاة عندنا بين نجاسته بالملاقاة وتطهيره كما تقدم تحقيقه في مسألة نجاسة الماء القليل بالملاقاة ، الا انه بعد التعدي عن ذلك الموضع الى موضع آخر خال من النجاسة يكون منجسا له بمقتضى المقدمة الثانية ، والماء النجس لا يرفع حدثا ، ولو بنى الحكم على طهارة الغسالة أو عدم انفعال القليل بالملاقاة زال الاشكال ، والشيخ (رحمه‌الله) وان لم يقل بعدم نجاسة القليل بالملاقاة الا أنه قائل بطهارة الغسالة فيتجه كلامه هنا بناء على ذلك. واما ما ذكره الفاضل المتقدم ذكره في توجيه كلام الشيخ فهو جيد ان وافق على ما ذكرنا ، والا فالنظر متوجه اليه حسبما شرحناه.

وصرح العلامة في النهاية بالاكتفاء بغسلة واحدة لكل من إزالة النجاسة الحدثية والخبثية فيما إذا كان الغسل فيما لا ينفعل بالملاقاة كالكثير ، وفي القليل بشرط ان تكون النجاسة في آخر العضو فإن الغسلة تطهره. وهو جيد بناء على القول بنجاسة الغسالة كما هو مذهبه (رحمه‌الله).

واعترضه الشيخ علي في شرح القواعد فقال بعد نقل ذلك عنه : «والتحقيق ان محل الطهارة ان لم يشترط طهارته أجزأ الغسل مع وجود عين النجاسة وبقائها في جميع الصور ، ولا حاجة الى التقييد بما ذكره ، خصوصا على ما اختاره من ان القليل الوارد انما ينجس بعد الانفصال ، وان اشترط طهارة المحل لم تجزئ غسلة واحدة لفقد الشرط ، والشائع على السنة الفقهاء هو الاشتراط فالمصير اليه هو الوجه» انتهى.

أقول : فيه ان ما ذكره على تقدير عدم الاشتراط من اجزاء الغسل مع وجود عين النجاسة على إطلاقه ممنوع بناء على ما ذكرنا من المقدمات المتقدمة ، فإنه متى حكم بنجاسة الماء القليل بالملاقاة ونجاسة الغسالة فكيف يجزئ الغسل مع تعدي الغسالة إلى سائر أجزاء البدن؟ والكلام ليس في خصوص موضع النجاسة كما يشير اليه قوله : «خصوصا على ما اختاره. إلخ» ومن أجل ما ذكرناه التجأ في النهاية إلى قصر التطهير وصحة الغسل بغسلة واحدة على الغسل في الماء الكثير الذي لا ينفعل بالملاقاة وفي القليل بالشرط الذي ذكره. نعم يأتي بناء على ما ادعوه من وجوب تعدد المسبب بتعدد السبب العدم ، ولهذا ان شيخنا في الذكرى بناء على القاعدة المذكورة صرح بعدم الاكتفاء بالمرة في الكثير لازالة حدث الجنابة والنجاسة الخبثية ، قال : لأنهما سببان فيتعدد حكمهما. وفيه ما عرفت. والله العالم.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *