ج14 - مواقيت الإحرام
المقدمة الخامسة
وهي جمع ميقات ، قال الجوهري : الميقات : الوقت المضروب للفعل ، والموضع ، يقال : «هذا ميقات أهل الشام» للموضع الذي يحرمون منه. ونحوه عبارة القاموس. وظاهر هذا الكلام ان إطلاقه على المعنيين المذكورين على جهة الحقيقة ، وهو خلاف ما صرح به غيره ، قال في النهاية الأثيرية : قد تكرر ذكر التوقيت والميقات في الحديث ، والتوقيت والتأقيت أن يجعل للشيء وقت يختص به وهو بيان مقدار المدة ، يقال : «وقت الشيء يوقته ، ووقته يقته» إذا بين حده ، ثم اتسع فيه فأطلق على المكان فقيل للموضع ميقات ، وهو مفعال منه ، وأصله موقات فقلبت الواو ياء لكسرة الميم. وقال الفيومي في كتاب المصباح المنير ايضا : الوقت مقدار من الزمان مفروض لأمر ما ، وكل شيء قدرت له حينا فقد وقته توقيتا ، وكذلك ما قدرت له غاية ، والجمع أوقات ، والميقات : الوقت ، والجمع مواقيت ، وقد أستعير الوقت للمكان ، ومنه مواقيت الحج لمواضع الإحرام. انتهى.
وكيف كان فالكلام هنا يقع في مقامين المقام الأول في
أقسامها ، والمشهور في كلام الأصحاب انها ستة كما سيأتي ذكرها في الاخبار ، وذكر
الشهيد في الدروس أنها عشرة ، فأضاف إلى الستة المشار إليها مكة لحج التمتع ،
ومحاذاة الميقات لمن لم يمر به وحاذاه ، وادنى الحل أو مساواة أقرب المواقيت إلى
مكة لمن لم يحاذ ميقاتا ، وفخ لإحرام الصبيان. وهذه الأربعة مذكورة في تضاعيف كلام
الأصحاب. وربما كان الوجه في تخصيص هذه الستة بالذكر في كلامهم انها هي الأصل
وغيرها ربما يرجع إليها ، وربما لم يبلغ الاعتماد عليه كليا كالاعتماد عليها ،
والأمر في ذلك هين.
ومن الاخبار الدالة على المواقيت الستة المشار إليها ما
رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «من
تمام الحج والعمرة ان تحرم من المواقيت التي وقتها رسول الله صلىاللهعليهوآله لا تجاوزها
إلا وأنت محرم فإنه وقت لأهل العراق ـ ولم يكن يومئذ عراق ـ بطن العقيق من قبل أهل
العراق ، ووقت لأهل اليمن يلملم ، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقت لأهل
__________________
(1) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
والشيخ يرويه عن الكليني.
المغرب الجحفة وهي مهيعة ، ووقت لأهل
المدينة ذا الحليفة. ومن كان منزله خلف هذه المواقيت من ما يلي مكة فوقته منزله».
أقول : في القاموس : ويلملم أو ألملم أو يرمرم : ميقات
اليمن جبل على مرحلتين من مكة. وقال فيه ايضا : وقرن المنازل بفتح القاف وسكون
الراء : قرية عند الطائف أو اسم الوادي كله. قال : وغلط الجوهري في تحريكه ، وفي
نسبة أويس القرني إليه ، لأنه منسوب الى قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد.
والجحفة بتقديم الجيم كانت مدينة فخربت ، سميت بها
لإجحاف السيل بها اي ذهابه بها. وسميت مهيعة بفتح الميم وسكون الهاء وفتح الياء
المثناة التحتانية ، ومعناها المكان الواسع ، وهي أدنى إلى مكة من ذي الحليفة كما
يستفاد من الاخبار. وفي القاموس : كانت قرية جامعة على اثنين وثمانين ميلا من مكة
وكانت تسمى مهيعة ، فنزل بها بنو عبيد وهم اخوة عاد ، وكان إخراجهم العماليق من
يثرب فجاءهم سيل جحاف فاجتحفهم فسميت الجحفة.
وذو الحليفة بالحاء المهملة والفاء على ستة أميال من
المدينة ، وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة انها بضم الحاء وفتح اللام والفاء
بعد الياء بغير فصل تصغير الحلفة بفتح الحاء واللام واحد الحلفاء وهي النبات
المعروف. قاله الجوهري. أو تصغير الحلفة وهي اليمين ، لتحالف قوم من العرب به. وهو
ماء على ستة أميال من المدينة. انتهى.
ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح أو الحسن على
المشهور عن الحلبي (1) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : الإحرام من
مواقيت خمسة وقتها رسول الله صلىاللهعليهوآله لا ينبغي لحاج
ولا لمعتمر ان يحرم قبلها ولا بعدها : وقت
__________________
(1) الوسائل الباب 1 و 11 من
المواقيت.
لأهل المدينة ذا الحليفة وهو مسجد
الشجرة ، يصلى فيه ويفرض الحج ، ووقت لأهل الشام الجحفة ، ووقت لأهل نجد العقيق ،
ووقت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقت لأهل اليمين يلملم. ولا ينبغي لأحد ان يرغب
عن مواقيت رسول الله صلىاللهعليهوآله».
قال الفيومي في كتاب المصباح المنير : النجد ما ارتفع من
الأرض والجمع نجود مثل فليس وفلوس ، وبالواحد سمي بلاد معروفة من جزيرة العرب ،
وأولها من ناحية الحجاز ذات عرق وآخرها سواد العراق ، ولهذا قيل ليست من العراق.
انتهى (1).
وقال في القاموس : انها اسم لما دون الحجاز من ما يلي
العراق ، أعلاه تهامة واليمن وأسفله العراق والشام ، واوله من جهة الحجاز ذات عرق (2). وهو مؤذن
بدخول العراق كما هو ظاهر الخبر.
ومنها ـ ما رواه أيضا في الصحيح عن أبي أيوب الخزاز (3) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : حدثني عن
العقيق وقت وقته رسول الله صلىاللهعليهوآله أو شيء صنعه
الناس؟ فقال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآله وقت لأهل
المدينة ذا الحليفة ، ووقت لأهل المغرب الجحفة ، وهي عندنا مكتوبة مهيعة ، ووقت
لأهل اليمن يلملم ، ووقت لأهل الطائف قرن المنازل ، ووقت لأهل نجد العقيق وما
أنجدت».
قوله : «وما أنجدت» إشارة إلى وجوب الإحرام من هذا
الميقات على من مر به وان لم يكن من أهل نجد ، لان الإنجاد الدخول في أرض نجد التي
قد تقدم تحديدها ، وتأنيث الضمير باعتبار الأرض المفهومة من السياق.
__________________
(1 و 2) ارجع الى الاستدراكات.
(3) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
ويوضحه ما رواه في الفقيه عن رفاعة عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «وقت
رسول الله صلىاللهعليهوآله العقيق لأهل
نجد ، وقال : هو وقت لما أنجدت الأرض وأنتم منهم. ووقت لأهل الشام الجحفة ، ويقال
لها المهيعة».
وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد في الصحيح عن علي
بن رئاب (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الأوقات
التي وقتها رسول الله صلىاللهعليهوآله للناس.
فقال : ان رسول الله صلىاللهعليهوآله وقت لأهل
المدينة ذا الحليفة وهي الشجرة ، ووقت لأهل الشام الجحفة ، ووقت لأهل اليمن قرن
المنازل ، ووقت لأهل نجد العقيق». وفي كتاب الفقه الرضوي (3) : فإذا بلغت
أحد المواقيت التي وقتها رسول الله صلىاللهعليهوآله فإنه وقت لأهل
العراق العقيق ، واوله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق. وأوله أفضل ، ووقت لأهل
الطائف قرن المنازل ، ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة وهي مسجد الشجرة ، ووقت لأهل
اليمن يلملم ، ووقت لأهل الشام المهيعة وهي الجحفة. ومن كان منزله دون هذه
المواقيت ما بينها وبين مكة فعليه ان يحرم من منزله. ولا يجوز الإحرام قبل بلوغ
الميقات. ولا يجوز تأخيره عن الميقات إلا لعلة أو تقية (4) فإذا كان
الرجل عليلا أو اتقى فلا بأس بأن يؤخر الإحرام إلى ذات عرق. انتهى.
الى غير ذلك من الاخبار التي يضيق عن نشرها المقام.
واما الاخبار الدالة على بقية المواقيت فستأتي في أثناء
الأبحاث الآتية ان شاء الله تعالى.
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
(3) ص 26.
(4) ارجع الى الصفحة 442 والتعليقة 1
فيها.
مسائل
الأولى ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بان العقيق
المتقدم في الاخبار أوله المسلخ ووسطه غمرة وآخره ذات عرق ، وان الأفضل الإحرام من
اوله ثم وسطه ، وحكى الشهيد في الذكرى عن ظاهر علي بن بابويه والشيخ في النهاية ان
التأخير إلى ذات عرق للتقية (1) أو المرض.
وقال العلامة في المختلف : المشهور ان الإحرام من ذات عرق مختارا سائغ ، والأفضل
المسلخ ، وأدون منه غمرة وكلام الشيخ علي بن بابويه يشعر بأنه لا يجوز التأخير إلى
ذات عرق إلا لعلة أو تقية (2).
أقول : والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما
رواه الصدوق في الفقيه مرسلا عن الصادق عليهالسلام (3) انه قال : «وقت
رسول الله صلىاللهعليهوآله لأهل العراق
العقيق ، واوله المسلخ ، ووسطه غمرة ، وآخره ذات عرق. وأوله أفضل».
وما رواه الشيخ عن ابي بصير (4) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : حد
العقيق : اوله المسلخ وآخره ذات عرق».
وهذان الخبران صريحان في كون ذات عرق داخلة في العقيق
وانها آخره ومثلهما عبارة الفقه الرضوي المتقدمة.
وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن عمر بن يزيد عن
ابي عبد الله عليهالسلام (5) قال : «وقت
رسول الله صلىاللهعليهوآله لأهل المشرق
العقيق نحو من بريدين ما بين بريد البعث إلى غمرة ، ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة
، ولأهل نجد
__________________
(1 و 2) ارجع الى الصفحة 442
والتعليقة (1) فيها.
(3) الوسائل الباب 2 و 3 من المواقيت.
(4) الوسائل الباب 2 من المواقيت.
(5) الوسائل الباب 1 من المواقيت.
قرن المنازل ، ولأهل الشام الجحفة ،
ولأهل اليمن يلملم».
قال في الوافي : والبعث بالموحدة ثم المهملة ثم المثلثة
: أول العقيق ، وهو بمعنى الجيش ، كأنه بعث الجيش من هناك. ولم نجده في اللغة اسما
لموضع ، وكذلك ضبطه من يعتمد عليه من أصحابنا ، فما يوجد في بعض النسخ على غير ذلك
لعله مصحف. انتهى.
أقول : وقد اشتمل هذا الخبر على ان قرن المنازل ميقات
أهل نجد ، والموجود في أكثر الاخبار انه ميقات أهل الطائف ، واما ميقات أهل نجد
فإنما هو العقيق.
ويمكن الجواب بأن لأهل نجد طريقين : أحدهما يمر بالعقيق
والآخر يمر بقرن المنازل.
ويمكن حمل ذلك على التقية ، فإنه موجود في روايات العامة
كما نقله في المعتبر انهم رووا عن ابن عمر (1) : «انه لما فتح المصران أتوا عمر
فقالوا : يا أمير المؤمنين ان رسول الله صلىاللهعليهوآله حد لأهل نجد
قرن المنازل وانا إذا أردنا قرن المنازل شق علينا. قال : فانظروا حذوها. فحد لهم
ذات عرق».
وهذا الخبر من ما استدل به جملة من العامة على ان ميقات
العراق انما ثبت قياسا لا نصا عن رسول الله صلىاللهعليهوآله (2).
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن
عمار عن ابى عبد الله عليهالسلام (3) قال : «أول
العقيق بريد البعث وهو دون المسلخ بستة
__________________
(1) المغني ج 3 ص 233 مطبعة العاصمة ،
وبلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 86. وارجع الى التعليق (1) على كنز العرفان ج 1
ص 277 الى 281.
(2) المغني ج 3 ص 232 و 233 مطبعة
العاصمة ، وبلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 86.
(3) الوسائل في الباب 2 من المواقيت.
أميال من ما يلي العراق ، وبينه وبين
غمرة أربعة وعشرون ميلا بريدان».
وما رواه في الكافي بهذا الاسناد عن ابى عبد الله عليهالسلام (1) قال : «آخر
العقيق بريد أوطاس. وقال : بريد البعث دون غمرة ببريدين».
وما رواه في الكافي عن ابي بصير عن أحدهما (عليهماالسلام) (2) قال : «حد
العقيق ما بين المسلخ الى عقبة غمرة».
أقول : ظاهر هذه الاخبار بضم بعضها الى بعض هو خروج ذات
عرق عن العقيق ، فإن صحيحة عمر بن يزيد ظاهرة في ان مسافة العقيق بريدان وانه ما
بين بريد البعث إلى غمرة ، وصحيحة معاوية بن عمار أو حسنته ظاهرة في المسافة
المذكورة ، وكذا الرواية التي بعدها ، ورواية أبي بصير صريحة في كون حد العقيق الى
عقبة غمرة. وهذا كله ظاهر في خروج ذات عرق كما ذكرنا. إلا ان هذه الروايات قد
اشتركت في الدلالة ـ وان تفاوتت في ذلك ظهورا وخفاء ـ على ان المسلخ ليس هو أول
العقيق بل اوله بريد البعث ، وهو قبل المسلخ بستة أميال من ما يلي العراق ، كما
صرحت به صحيحة معاوية بن عمار أو حسنته ، مع دلالة الأخبار الثلاثة الأول ان أول
العقيق المسلخ ، وهو الذي صرح به الأصحاب كما عرفت ، وهو ايضا ظاهر صحيحة عمر بن
يزيد ، لان ظاهرها ان مسافة العقيق بريدان وان ذلك ما بين بريد البعث إلى غمرة.
والسيد السند في المدارك ـ بعد ان استدل للقول المشهور
برواية أبي بصير الاولى ومرسلة الصدوق ، واستدل للقول الآخر بصحيحة عمر بن يزيد
وحسنة معاوية بن عمار التي هي عندنا من الصحيح ـ رد الروايتين الأولتين بضعف
السند.
ولا يبعد عندي حمل الخبرين المشار إليهما على التقية وان
اشتهر العمل
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 2 من المواقيت.
بهما بين الأصحاب (رضوان الله عليهم)
:
لما رواه الثقة الجليل احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي
في كتاب الاحتجاج عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري في جملة ما كتبه الى صاحب
الزمان (عجل الله تعالى فرجه) (1) : «انه كتب إليه يسأله عن الرجل يكون
مع بعض هؤلاء ويكون متصلا بهم ، يحج ويأخذ عن الجادة ، ولا يحرم هؤلاء من المسلخ ،
فهل يجوز لهذا الرجل ان يؤخر إحرامه إلى ذات عرق فيحرم معهم (2) لما يخاف من
الشهرة أم لا يجوز ان يحرم إلا من المسلخ؟ فكتب إليه في الجواب : يحرم من ميقاته
ثم يلبس الثياب ويلبي في نفسه فإذا بلغ الى ميقاتهم أظهره». ورواه الشيخ في كتاب
الغيبة بإسناده فيه اليه (3).
والظاهر ان مستند الشيخ علي بن بابويه في ما نقل عنه
انما هو كتاب الفقه الرضوي على عادته التي تقدم ذكرها في غير موضع ، فإنه عليهالسلام في آخر كلامه
الذي قدمنا نقله قد صرح بذلك ، إلا ان صدر الكلام صريح في ان آخر العقيق ذات عرق.
وهو تناقض ظاهر.
وبهذه العبارة التي في آخر كتاب الفقه عبر الصدوق في
الفقيه (4) كما نقله في
الذخيرة ، فقال : وإذا كان الرجل عليلا أو اتقى فلا بأس بأن يؤخر الإحرام إلى ذات
عرق.
ويمكن ان يقال في دفع هذا التناقض بين الاخبار ، وكذا
صدر عبارة كتاب الفقه وعجزها ان ذات عرق وان كانت من العقيق إلا انها لما كانت
__________________
(1 و 3) الوسائل الباب 2 من المواقيت.
(2) ارجع الى الصفحة 442 والتعليقة (1)
فيها.
(4) ج 2 ص 199.
ميقات العامة (1) وكان الفضل
انما هو في ما قبلها فالتأخير إليها وترك الفضل انما يكون لعذر من علة أو تقية.
والى ما ذكرناه يشير كلام ابن إدريس في سرائره ، حيث قال
: ووقت رسول الله صلىاللهعليهوآله لأهل كل صقع
ولمن حج على طريقهم ميقاتا ، فوقت لأهل العراق العقيق ، فمن اي جهاته وبقاعه أحرم
ينعقد الإحرام منها ، إلا ان له ثلاثة أوقات : أولها المسلخ ، يقال بفتح الميم
وبكسرها ، وهو اوله ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقية ، وأوسطها غمرة ، وهي تلي
المسلخ في الفضل مع ارتفاع التقية وآخرها ذات عرق ، وهي أدونها في الفضل إلا عند
التقية والشناعة والخوف ، فذات عرق هي أفضلها في هذه الحال. ولا يتجاوز ذات عرق
إلا محرما على حال. انتهى.
وحينئذ فتحمل الأخبار الدالة على تحديد العقيق إلى غمرة
على الأفضل منه ، وكذا رواية الاحتجاج. وهذا التأويل وان كان لا يخلو من شيء إلا
انه في مقام الجمع لا بأس به.
بقي الإشكال في تحديد أول العقيق ، لما عرفت من الاخبار
المتقدمة ، فإن بعضها دل على ان أوله المسلخ وبعضها دل على ان أوله بريد البعث
الذي هو قيل من ما يلي العراق بستة أميال. ولا يحضرني الآن وجه يمكن جمعها عليه.
ثم اعلم ان صاحب التنقيح ضبط المسلح بالسين والحاء
المهملتين ، قال : وهو واحد المسالح وهو المواضع العالية. ونقل شيخنا الشهيد
الثاني عن بعض الفقهاء انه ضبطه بالخاء المعجمة من السلخ وهو النزع ، لانه تنزع
فيه الثياب للإحرام.
__________________
(1) المغني ج 3 ص 233 مطبعة العاصمة ،
وبلوغ المرام لابن حجر العسقلاني ص 86.
ومقتضى ذلك تأخر التسمية عن وضعه
ميقاتا.
واما ذات عرق فقيل : انها كانت قرية فخربت. ونقل العلامة
عن سعيد ابن جبير (1) انه رأى رجلا
يريد ان يحرم بذات عرق فأخذ بيده حتى أخرجه من البيوت وقطع به الوادي فاتى به
المقابر فقال : هذه ذات عرق الاولى.
والظاهر الاكتفاء في معرفة ذلك بسؤال الناس الخبيرين
بذلك ، لما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (2) قال : «يجزئك
إذا لم تعرف العقيق أن تسأل الناس والاعراب عن ذلك».
الثانية ـ قد عرفت في ما تقدم من الاخبار ان ميقات أهل
المدينة من ذي الحليفة ، وعلى ذلك اتفاق كلمة الأصحاب ، إلا انهم اختلفوا في ان ذا
الحليفة هل هو عبارة عن ذلك الموضع أو عن المسجد الواقع فيه؟ وبالأول صرح الشهيد
في اللمعة والدروس ، واختاره المحقق الشيخ علي ، قال : ان جواز الإحرام من الموضع
المسمى بذي الحليفة وان كان خارجا من المسجد لا يكاد يدفع. وبالثاني صرح جملة من
الأصحاب : منهم ـ العلامة في جملة من كتبه والمحقق وغيرهما.
ويدل على الأول إطلاق جملة من الروايات المتقدمة بأن
رسول الله صلىاللهعليهوآله وقت لأهل
المدينة ذا الحليفة. لكن مقتضى جملة أخرى ـ كما تقدم ايضا ـ تفسير ذي الحليفة
بمسجد الشجرة. وحينئذ فيجب تقييد إطلاق تلك الاخبار بهذه. وبذلك يظهر ضعف القول
الأول.
وقد ذكر الأصحاب انه لو كان المحرم جنبا أو حائضا أحرما
به مجتازين ،
__________________
(1) المنتهى ج 2 ص 671 والمغني ج 3 ص
233 مطبعة العاصمة.
(2) الوسائل الباب 5 من المواقيت.
فان تعذر الإحرام بالاجتياز أحرما من
خارج.
الثالثة ـ الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب ـ كما صرح به
غير واحد منهم ـ في جواز تأخير الإحرام من مسجد الشجرة إلى الجحفة للضرورة ، وهي
المشقة التي يعسر تحملها. وربما نقل عن ظاهر الجعفي جواز التأخير اختيارا.
والذي وقفت عليه من الاخبار في هذا المقام ما رواه الشيخ
في الصحيح عن الحلبي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام من اين يحرم
الرجل إذا جاوز الشجرة؟ فقال : من الجحفة ، ولا يجاور الجحفة إلا محرما».
وما رواه الصدوق في الصحيح عن معاوية بن عمار (2) «انه سأل أبا
عبد الله عليهالسلام عن رجل من أهل
المدينة أحرم من الجحفة. فقال : لا بأس».
وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن إحرام أهل الكوفة وأهل خراسان وما يليهم ، وأهل الشام ومصر ، من اين هو؟ قال :
اما أهل الكوفة وخراسان وما يليهم فمن العقيق ، وأهل المدينة من ذي الحليفة
والجحفة ، وأهل الشام ومصر من الجحفة ، وأهل اليمن من يلملم ، وأهل السند من
البصرة ، يعني : من ميقات أهل البصرة».
وظاهر هذه الاخبار جواز الإحرام اختيارا من الجحفة كما
هو المنقول عن ظاهر الجعفي.
ومنها ـ ما رواه الشيخ عن ابي بصير (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : خصال عابها
عليك أهل مكة. قال : وما هي؟ قلت : قالوا : أحرم من الجحفة ورسول الله صلىاللهعليهوآله أحرم من
الشجرة. فقال : الجحفة أحد الوقتين فأخذت بأدناهما وكنت عليلا».
__________________
(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 6 من
المواقيت.
(4) الوسائل الباب 6 من المواقيت.
وما رواه في الكافي في الصحيح الى ابي بكر الحضرمي (1) قال : «قال
أبو عبد الله عليهالسلام : اني خرجت
بأهلي ماشيا فلم أهل حتى أتيت الجحفة وقد كنت شاكيا ، فجعل أهل المدينة يسألون عني
فيقولون : لقيناه وعليه ثيابه. وهم لا يعلمون ، وقد رخص رسول الله صلىاللهعليهوآله لمن كان مريضا
أو ضعيفا ان يحرم من الجحفة».
وروى الصدوق في كتاب العلل في الصحيح عن معاوية (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : ان معي
والدتي وهي وجعة؟ قال : قل لها فلتحرم من آخر الوقت ، فان رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وقت
لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل المغرب الجحفة. قال : فأحرمت من الجحفة».
قال : والظاهر ان المراد بآخر الوقت يعني : الوقت الآخر
، فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ، كاخلاق ثياب ، أو بمعنى الوقت الأخير.
وما رواه الشيخ عن إبراهيم بن عبد الحميد عن ابى الحسن
موسى عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن قوم قدموا المدينة فخافوا كثرة البرد وكثرة الأيام ، يعني : الإحرام من الشجرة
، فأرادوا ان يأخذوا منها الى ذات عرق فيحرموا منها. فقال : لا ـ وهو مغضب ـ من
دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من المدينة».
أقول : قوله عليهالسلام : «إلا من
المدينة» أي من ميقات أهل المدينة ، كقوله عزوجل «وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ» (4).
وبهذه الأخبار أخذ الأصحاب وقيدوا بها الأخبار الأولة ،
وهي وان
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 6 من المواقيت.
(3) الوسائل الباب 8 من المواقيت.
(4) سورة يوسف ، الآية 82.
كانت غير صريحة في التخصيص إلا ان
الاحتياط يقتضي المصير الى ما ذهبوا اليه.
قال في المدارك بعد نقل بعض اخبار الطرفين : وكيف كان
فينبغي القطع بصحة الإحرام من الجحفة وان حصل الإثم بتأخيره عن ذي الحليفة.
أقول : وبذلك صرح الشهيد في الدروس ايضا. ولا يخلو من
اشكال ، لأن المتبادر من الروايات الدالة على ان من مر على ميقات غير بلده جاز له
الإحرام منه انما هو من لم يمر على ميقات بلده. وحينئذ فمتى قلنا بأن الجحفة ليست
ميقاتا للمدني اختيارا وانما ميقاته مسجد ذي الحليفة ـ وقد مر على ميقاته ، مع
استفاضة الأخبار بأنه يجب عليه الإحرام منه ولا يجوز تجاوزه إلا محرما ، وقد مر به
ولم يحرم منه ـ فانعقاد إحرامه من الجحفة يحتاج الى دليل ، لعدم دخوله تحت الأخبار
المشار إليها آنفا كما بيناه. ومن ما يؤيد ما ذكرناه
صحيحة الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل ترك
الإحرام حتى دخل الحرم؟ فقال : يرجع الى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه فيحرم ،
وان خشي ان يفوته الحج فليحرم من مكانه». ولا ريب في صدق الخبر المذكور على المدعى
وانطباقه عليه.
ثم قال في المدارك ايضا : وانما يتوقف التأخير على
الضرورة على القول به مع مروره على ذي الحليفة ، فلو عدل ابتداء عن ذلك الطريق جاز
وكان الإحرام من الجحفة اختياريا.
وأورد عليه بان كلامه هذا لا ينطبق على شيء من الاخبار
المتقدمة ، لأن بعضها يقتضي المنع من العدول الاختياري مطلقا وبعضها يقتضي جواز
العدول مطلقا ، فالتفصيل لا يوافق شيئا من النصوص.
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
ويمكن الجواب عنه بان كلامه هذا مبني على تخصيص إطلاق
أخبار جواز العدول مطلقا ـ اختيارا أو اضطرارا ـ بالأخبار الأخر الدالة على عدم
جواز التأخير إلا مع الضرورة ، كما هو قول الأصحاب (رضوان الله عليهم). واما
الرواية الدالة على المنع من العدول الاختياري مطلقا ـ وهي رواية إبراهيم بن عبد
الحميد المتقدمة ـ فقد أجاب عنها بضعف السند أولا ، ثم بالحمل على الكراهة جمعا
بينها وبين ما دل على جواز العدول مطلقا.
الرابعة ـ قد صرح أكثر الأصحاب بان من كان منزله أقرب
الى مكة من المواقيت فميقاته منزله ، قال في المنتهى : انه قول أهل العلم كافة إلا
مجاهد (1) ويدل على ذلك
الأخبار المتكاثرة : منها ـ صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في أول البحث (2) ونحوها ما
تقدم ايضا من كتاب الفقه الرضوي (3).
وقال الشيخ بعد إيراد صحيحة معاوية بن عمار المذكورة :
وفي حديث آخر : إذا كان منزله دون الميقات إلى مكة فليحرم من دويرة اهله (4).
وفي الحسن عن مسمع عن ابي عبد الله عليهالسلام (5) قال : «إذا
كان منزل الرجل دون ذات عرق إلى مكة فليحرم من منزله».
وفي الصحيح عن عبد الله بن مسكان قال : حدثني أبو سعيد (6) قال : «سألت
أبا عبد الله (عليهالسلام) عن من كان
منزله دون الجحفة إلى مكة. قال : يحرم منه».
وعن رباح بن ابي نصر (7) قال : «قلت لأبي عبد الله (عليهالسلام):
__________________
(1) المغني ج 3 ص 236 مطبعة العاصمة.
(2) ص 434.
(3) ص 437.
(4) الوسائل الباب 17 من المواقيت.
وارجع الى الاستدراكات.
(5 و 6 و 7) الوسائل الباب 17 من
المواقيت.
يروون ان عليا (صلوات الله عليه) قال
: ان من تمام حجك إحرامك من دويرة أهلك (1) فقال : سبحان الله لو كان كما يقولون
لم يتمتع رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) بثيابه
إلى الشجرة ، وانما معنى دويرة أهله من كان اهله وراء الميقات إلى مكة».
وروى الكليني عن رباح (2) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام): انا نروى
بالكوفة ان عليا عليهالسلام قال : ان من
تمام الحج والعمرة ان يحرم الرجل من دويرة أهله (3) فهل قال هذا
علي (عليهالسلام)؟ فقال : قد
قال ذلك أمير المؤمنين (عليهالسلام) لمن كان
منزله خلف المواقيت ، ولو كان كما يقولون ما كان يمنع رسول الله صلىاللهعليهوآله ان لا يخرج
بثيابه إلى الشجرة».
وروى الصدوق عن ابى بصير (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : انا نروى
بالكوفة ان عليا (عليهالسلام) قال : ان من
تمام حجك إحرامك من دويرة أهلك (5) فقال : سبحان الله ، لو كان كما
يقولون لما تمتع رسول الله صلىاللهعليهوآله بثيابه إلى
الشجرة».
قال الصدوق (قدسسره) (6) : «وسئل
الصادق عليهالسلام عن رجل منزله
خلف الجحفة من اين يحرم؟ قال : من منزله».
وفي خبر آخر (7) : «من كان منزله دون المواقيت ما
بينها وبين مكة فعليه ان يحرم من منزله».
__________________
(1 و 3 و 5) المغني ج 3 ص 239 مطبعة
العاصمة.
(2 و 4) الوسائل الباب 11 و 17 من
المواقيت.
(6 و 7) الوسائل الباب 17 من
المواقيت.
وروى الصدوق في معاني الأخبار (1) بإسناده عن
عبد الله بن عطاء قال : «قلت لأبي جعفر (عليهالسلام) : ان الناس
يقولون : ان علي بن ابي طالب (عليهالسلام) قال : ان
أفضل الإحرام ان تحرم من دويرة أهلك (2) قال : فأنكر ذلك أبو جعفر (عليهالسلام) فقال : ان
رسول الله صلىاللهعليهوآله كان من أهل
المدينة ووقته من ذي الحليفة وانما كان بينهما ستة أميال ، ولو كان فضلا لأحرم
رسول الله صلىاللهعليهوآله من المدينة ،
ولكن عليا عليهالسلام كان يقول :
تمتعوا من ثيابكم الى وقتكم».
وهذا الخبر وان لم يكن من اخبار المسألة إلا أنا ذكرناه
في سياق تكذيب خبر أهل الكوفة المفتري عليه عليهالسلام.
قال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل جملة من هذه
الاخبار : واعلم ان المشهور بين الأصحاب شمول الحكم المذكور لأهل مكة فيكون
إحرامهم بالحج من منازلهم ، والاخبار المذكورة غير شاملة لهم ، وفي حديثين صحيحين
ما يخالف ذلك : أحدهما ـ ما رواه الكليني عن ابي الفضل سالم الحناط في الصحيح (3) قال : «كنت
مجاورا بمكة فسألت أبا عبد الله (عليهالسلام) من أين أحرم
بالحج؟ فقال : من حيث أحرم رسول الله صلىاللهعليهوآله من الجعرانة ،
أتاه في ذلك المكان فتوح : فتح الطائف وفتح حنين والفتح. فقلت : متى اخرج؟ فقال :
ان كنت صرورة فإذا مضى من ذي الحجة يوم ، وان كنت حججت قبل ذلك فإذا مضى من الشهر
خمس». وثانيهما ـ ما رواه الكليني عن عبد الرحمن
__________________
(1) نوادر المعاني ص 382 وفي الوسائل
الباب 9 من المواقيت.
(2) المغني ج 3 ص 239 مطبعة العاصمة.
(3) الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
ابن الحجاج في الصحيح (1) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام): انى أريد
الجوار فكيف اصنع؟ فقال : إذا رأيت الهلال هلال ذي الحجة فاخرج الى الجعرانة فأحرم
منها بالحج. ثم ساق الخبر». وقد تقدم الجميع قريبا في التنبيه الرابع من البحث
السابع (2) ثم نقل رواية
إبراهيم بن ميمون ، وقد تقدمت في البحث الرابع (3).
وأنت خبير بان مورد هذه الروايات انما هو المجاور بمكة ،
أعم من ان يكون انتقل حكمه إليهم بمضي المدة المعلومة أو لم ينتقل وأراد الحج
مستحبا ، فإنه يخرج الى المواضع المذكورة ، وهذا لا يستلزم ان يكون أهل مكة كذلك
وانتقال حكمه الى أهل مكة بعد مضي المدة المعلومة انما هو باعتبار وجوب حج الافراد
والقران دون التمتع ، وهو لا يستلزم اشتراكهما في ميقات الإحرام ، فيجوز ان يكون
هذا حكما مختصا بالمجاورين دون أهل البلد.
ويمكن ان يكون بناء كلام الأصحاب في الاستدلال بالأخبار
المتقدمة على ان ظواهرها تعطى إلحاق من كان منزله دون الميقات إلى مكة بأهل مكة ،
فهو يدل على كون أهل مكة كذلك ، فان التخصيص بجهة مكة انما هو من حيث كونه من
توابعها وإلا فدخوله في الأقربية لا يخلو من الإشكال ، لاقتضائها المغايرة بينهما
، وبالجملة فإن ما ذكره من الاستدلال بالأخبار المذكورة على ان أهل مكة يخرجون الى
المواضع المشار إليها لا تدل عليه الاخبار التي ذكرها بوجه.
وكيف كان فالتحقيق انه لا مستند لهم في هذا الحكم سوى
الإجماع على الحكم المذكور ، لاتفاق كلمتهم عليه قديما وحديثا من غير نقل الخلاف ،
كما لا يخفى على من راجع كتبهم ومؤلفاتهم.
__________________
(1) الكافي ج 4 ص 300 وفي الوسائل
الباب 7 و 9 و 16 و 17 من أقسام الحج.
(2) ص 431.
(3) ص 386.
ثم انه لا يخفى ان كلام الأصحاب هنا لا يخلو من اختلاف ،
فان منهم من أطلق القرب كالشهيد في الدروس ، والمحقق في الشرائع ، والعلامة في
الإرشاد والتذكرة ، ومنهم من أطلق القرب واستدل ببعض الأخبار المتقدمة ، وهو ظاهر
في كون مراده القرب إلى مكة ، ومنهم من اعتبر القرب إلى مكة ، ومنهم من اعتبر
القرب الى عرفات ، وبه صرح الشهيد في اللمعة ونقله في المدارك عن المحقق في المعتبر
ايضا ، ولم أجده فيه ، بل الظاهر من كلامه انما هو القرب إلى مكة فإنه وان أطلق في
صدر كلامه لكنه استدل ببعض الأخبار المتقدمة المصرحة بالقرب إلى مكة. نعم عبارة
شيخنا الشهيد في اللمعة صريحة في ذلك ، حيث قال : ويشترط في حج الإفراد النية ،
وإحرامه به من الميقات أو من دويرة اهله ان كانت أقرب الى عرفات. والاخبار
المتقدمة صريحة في دفعه كما عرفت.
الخامسة ـ قد صرح جملة من الأصحاب بان من حج على طريق لا
يفضى الى أحد المواقيت المتقدمة فإنه يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت
إلى مكة. وصرح آخرون بأنه يحرم عند محاذاة أحد المواقيت. وهو ظاهر في التخيير بين
الإحرام من محاذاة أيها شاء. وظاهر العلامة في المنتهى اعتبار الميقات الذي هو
أقرب الى طريقه. ثم قال : والاولى ان يكون إحرامه بحذو الأبعد من المواقيت من مكة
، وحكم بأنه إذا كان بين ميقاتين متساويين في القرب اليه تخير في الإحرام من أيهما
شاء. ونحو ذلك في التذكرة أيضا.
وكيف كان فاعلم اني لم أقف في هذه المسألة إلا على صحيحة
عبد الله بن سنان المشار إليها آنفا عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (1) قال : «من
اقام بالمدينة شهرا وهو يريد الحج ، ثم بدا له ان يخرج في غير طريق أهل المدينة
التي يأخذونه
__________________
(1) الوسائل الباب 7 من المواقيت.
فليكن إحرامه من مسيرة ستة أميال ،
فيكون حذاء الشجرة من البيداء». وفي التهذيب (1) أسقط قوله : «فيكون حذاء الشجرة من
البيداء» وقال في الكافي (2) بعد نقل
الرواية : وفي رواية : «يحرم من الشجرة ثم يأخذ أي طريق شاء».
ورواه الصدوق في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد
الله (عليهالسلام) (3) قال : «من
اقام بالمدينة وهو يريد الحج شهرا أو نحوه ، ثم بدا له ان يخرج في غير طريق
المدينة ، فإذا كان حذاء الشجرة والبيداء مسيرة ستة أميال فليحرم منها».
وأنت خبير بان مورد الرواية مسجد الشجرة فحمل سائر
المواقيت عليها لا يخلو من الاشكال ، سيما مع معارضتها برواية إبراهيم بن عبد
الحميد المتقدمة (4) الدالة على ان
من دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من ميقات أهل المدينة ، المتأيدة بمرسلة
الكليني المذكورة. وكأنهم بنوا على عدم ظهور الخصوصية لهذا الميقات ، الذي هو
عبارة عن تنقيح المناط. وهو محتمل ، إلا ان الاحتياط يقتضي المرور على الميقات
وعدم التجاوز عنه على حال.
ثم انهم (رضوان الله عليهم) ذكروا ايضا انه لو سلك طريقا
لا يفضى الى محاذاة شيء من المواقيت ، فقيل انه يحرم من مساواة أقرب المواقيت إلى
مكة ، أي من محل يكون بينه وبين مكة بقدر ما بين مكة وبين أقرب المواقيت
__________________
(1) ج 5 ص 57.
(2) ج 4 ص 321 وفي الوسائل الباب 7 من
المواقيت.
(3) الوسائل الباب 7 من المواقيت.
(4) ص 445.
إليها ، وهو مرحلتان كما تقدم ، عبارة
عن ثمانية وأربعين ميلا (1). قالوا : لأن
هذه المسافة لا يجوز لأحد قطعها إلا محرما من أي جهة دخل وانما الاختلاف في ما زاد
عليها. ورد بان ذلك انما ثبت مع المرور على الميقات لا مطلقا. وقيل بأنه يحرم من
ادنى الحل ، ونقله في المدارك عن العلامة في القواعد وولده في الشرح ، ثم قال :
وهو حسن ، لأصالة البراءة من وجوب الزائد. ورد بان ثبوت التكليف يقتضي اليقين
بتحصيل البراءة. والمسألة عندي محل توقف لعدم النص الكاشف عن حكمها.
فروع
الأول ـ قال العلامة في المنتهى : لو لم يعرف حذو
الميقات المقارب لطريقة احتاط وأحرم من بعد ، بحيث يتيقن انه لم يجاوز الميقات إلا
محرما.
واستشكله في المدارك بأنه كما يمتنع تأخير الإحرام عن
الميقات كذا يمتنع تقديمه عليه. وتجديد الإحرام في كل موضع يحتمل فيه المحاذاة
مشكل ، لأنه تكليف شاق لا يمكن إيجابه بغير دليل.
أقول : لا ريب ان ما ذكره من تجديد الإحرام في كل موضع
يحتمل المحاذاة جيد لو ثبت أصل الحكم ، فان يقين البراءة متوقف عليه ، والاحتياط
بالإتيان بما يتوقف عليه يقين البراءة في مقام اشتباه الحكم واجب ، كما تقدم
تحقيقه في مقدمات الكتاب. ودعوى المشقة غير مسلم ولا مسموع.
__________________
(1) العبارة الواردة هنا مطابقة
للنسخة الخطية. وفي المطبوعة استظهر الناسخ ان تكون العبارة هكذا : «وهو مرحلتان
كما تقدم ، والمرحلتان كما تقدم أيضا عبارة عن ثمانية وأربعين ميلا».
الثاني ـ قال في المنتهى ايضا : لا يلزمه الإحرام حتى
يعلم انه قد حاذاه أو يغلب على ظنه ذلك ، لان الأصل عدم وجوبه ، فلا يجب بالشك.
أقول : لا يخفى ان ظاهر هذا الكلام لا يلائم ما ذهبوا
اليه من وجوب الإحرام بظن المحاذاة ، لأن أصالة عدم الوجوب كما تنفي الوجوب مع
الشك تنفيه مع الظن ايضا.
الثالث ـ قال في المدارك : لو أحرم كذلك بالظن ثم تبينت
الموافقة أو استمر الاشتباه أجزأ ، ولو تبين تقدمه قبل تجاوز محل المحاذاة اعاده ،
ولو كان بعد التجاوز أو تبين تأخره عن محاذاة الميقات ففي الإعادة وجهان ، من
المخالفة ، ومن تعبده بظنه المقتضي للإجزاء. انتهى.
أقول : وهو جيد لو ثبت أصل دليل المسألة ، إلا انه لا يلائم
ما اختاره سابقا من الإحرام من ادنى الحل ، فان هذا انما يتفرع على المحاذاة كما
لا يخفى. ثم لا يخفى ان ما علل به الإعادة في الصورة الأخيرة ـ من المخالفة ـ الظاهر
ضعفه ، لما ذكر من انه متعبد بظنه. والمخالفة واقعا غير معتبرة ، إذ التكليف انما
هو بما يظهر في نظر المكلف فلا تضر المخالفة الواقعية. إلا ان أصل المسألة ـ كما
عرفت آنفا ـ خال من الدليل.
الرابع ـ المشهور بين الأصحاب ان من حج من البحر يلزمه
الإحرام إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة ، وقال ابن إدريس : وميقات
أهل مصر ومن صعد البحر جدة. ورده جملة من تأخر عنه بعدم الوقوف له على دليل. نعم
ان كانت محاذية لأقرب المواقيت صح الإحرام منها لذلك لا لخصوصيتها. واما أهل مصر
ومن سلك طريقهم فميقاتهم الجحفة كما يشير اليه بعض الاخبار السابقة (1) فخلافه غير
ملتفت اليه.
__________________
(1) ص 444.
السادسة ـ قد صرح الأصحاب بأن كل من حج على ميقات لزمه
الإحرام منه ، بمعنى ان هذه المواقيت المتقدمة لأهلها ولمن يمر بها من غير أهلها
مريدا للحج أو العمرة ، فلو حج الشامي على طريق المدينة أو العراقي وجب عليه
الإحرام من ذي الحليفة. وهذا الحكم مجمع عليه بينهم كما يفهم من المنتهى.
ويدل عليه من الاخبار ما رواه الكليني في الصحيح عن
صفوان بن يحيى عن ابي الحسن الرضا عليهالسلام (1) في حديث : «انه
كتب اليه : ان رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) وقت
المواقيت لأهلها ولمن اتى عليها من غير أهلها ، وفيها رخصة لمن كانت به علة ، فلا
يجاوز الميقات إلا من علة».
وقد تقدم (2) في رواية إبراهيم بن عبد الحميد : «ان
من دخل المدينة فليس له ان يحرم إلا من المدينة».
ولا فرق في وجوب الإحرام من هذه المواقيت المذكورة على
الداخل إلى مكة بين ان يكون حاجا أو معتمرا ، حج افراد أو قران أو عمرة تمتع أو
افراد ، أما حج التمتع فميقاته مكة.
واما العمرة المفردة بعد حجي القران والافراد فميقاتها
ادنى الحل كما تقدم
ويدل عليه اخبار : منها ـ ما رواه ابن بابويه في الصحيح
عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليهالسلام (3) قال : «من
أراد ان يخرج من مكة ليعتمر أحرم من الجعرانة أو الحديبية أو ما أشبههما». قال ابن
إدريس في السرائر : الحديبية اسم بئر وهو خارج الحرم ، يقال :
__________________
(1) الوسائل الباب 15 من المواقيت.
(2) ص 445.
(3) الوسائل الباب 22 من المواقيت.
الحديبية بالتخفيف والتشديد. وسألت
ابن العصار الفوهي فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف وأصحاب الحديث يقولونها
بالتشديد. وخطه عندي بذلك وكان إمام اللغة ببغداد. انتهى.
وقال بعض الفضلاء بعد ذكر الجعرانة ما صورته : بفتح
الجيم وكسر العين وفتح الراء المشددة ، هكذا سمعنا من بعض مشايخنا ، والصحيح ما
قاله نفطويه في تأريخه ، قال : كان الشافعي يقول : الحديبية بالتخفيف ويقول أيضا :
الجعرانة بكسر الجيم وسكون العين. وهو اعلم بهذين الموضعين. وقال ابن إدريس :
وجدتهما كذلك بخط من أثق به. وقال ابن دريد في الجمهرة : الجعرانة بكسر الجيم
والعين وفتح الراء وتشديدها. انتهى.
وفي كتاب مجمع البحرين : وفي الحديث : انه نزل الجعرانة.
هي بتسكين العين والتخفيف وقد تكسر وتشدد الراء : موضع بين مكة والطائف على سبعة
أميال من مكة ، وهي أحد حدود الحرم ، وميقات للإحرام ، سميت باسم ريطة بنت سعد
وكانت تلقب بالجعرانة ، وهي التي أشار إليها بقوله تعالى : «كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَها» (1) وعن ابن
المدائني : العراقيون يثقلون الجعرانة والحديبية ، والحجازيون يخففونهما. انتهى.
وقال فيه ايضا : وقد تكرر في الحديث ذكر الحديبية
بالتخفيف عند الأكثر ، وهي بئر بقرب مكة على طريق جدة دون مرحلة ثم أطلق على
الموضع ، ويقال : نصفه في الحل ونصفه في الحرم. انتهى.
وبالجملة فإن الميقات هو ادنى الحل. والأفضل ان يكون من
هذه المواضع : الحديبية أو الجعرانة أو التنعيم ، وهو ـ على ما في كتاب مجمع
البحرين ـ موضع
__________________
(1) سورة النحل ، الآية 92.
قريب من مكة ، وهو أقرب أطراف الحل
إلى مكة ، ويقال : بينه وبين مكة أربعة أميال ، ويعرف بمسجد عائشة. انتهى.
وفي بعض الحواشي : ان التنعيم مسجد زين العابدين عليهالسلام ومسجد أمير
المؤمنين عليهالسلام ومسجد عائشة.
السابعة ـ قد صرح الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه يجرد
الصبيان من فخ ، وعلى ذلك دلت صحيحة أيوب بن الحر (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن الصبيان من
اين نجردهم؟ فقال : كان ابي يجردهم من فخ». وفي الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه عليهالسلام (2) مثل ذلك.
وظاهر الأكثر ـ وبه صرح المحقق في المعتبر والعلامة في
جملة من كتبه ـ ان المراد بالتجريد هو الإحرام بهم ، وقد نص الشيخ وغيره على ان
الأفضل الإحرام بهم من الميقات لكن رخص في تأخير الإحرام بهم حتى يصيروا الى فخ.
ومن ما يدل على الإحرام بهم من الميقات روايات : منها ـ صحيحة
معاوية ابن عمار (3) قال : «سمعت
أبا عبد الله عليهالسلام يقول : قدموا
من كان معكم من الصبيان إلى الجحفة أو الى بطن «مر» ثم يصنع بهم ما يصنع بالمحرم ،
ويطاف بهم ويسعى بهم. الحديث».
وفي الموثق عن يونس بن يعقوب عن أبيه (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله عليهالسلام : ان معي صبية
صغارا وانا أخاف عليهم البرد ، فمن اين يحرمون؟ فقال :
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 409 ، وفي الوسائل
الباب 17 من أقسام الحج ، والباب 18 من المواقيت ، والباب 47 من الإحرام.
(2) التهذيب ج 5 ص 409 ، وفي الوسائل
الباب 17 من أقسام الحج ، والباب 18 من المواقيت ، والباب 47 من الإحرام.
(3) التهذيب ج 5 ص 409 وفي الوسائل
الباب 17 من أقسام الحج.
(4) الوسائل الباب 17 من أقسام الحج.
ائت بهم العرج فليحرموا منها ، فإنك
إذا أتيت العرج وقعت في تهامة. ثم قال : فان خفت عليهم فائت بهم الجحفة».
ونقل عن المحقق الشيخ على : ان المراد بالتجريد التجريد
عن المخيط خاصة فيكون الإحرام بهم من الميقات كغيرهم ، لان الميقات موضع الإحرام
فلا يتجاوزه أحد إلا محرما.
قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : وهو ضعيف ، لمنع ما
ادعاه من العموم بحيث يتناول غير المكلف ، وظهور التجريد في المعنى الذي ذكرناه.
انتهى أقول : لا يخفى ان ما ذكره الشيخ علي (قدسسره) لا يخلو من
قرب ، فان ظاهر لفظ التجريد يساعده. وما ادعاه (قدسسره) ـ من ظهور
التجريد في معنى الإحرام ـ لا يخفى ما فيه ، فان التجريد لغة انما هو نزع شيء من
شيء ، كما يقال : جردته عن ثيابه اي نزعتها عنه. والمعتبر في الإحرام أمور عديدة
لا يدخل منها شيء تحت هذا اللفظ سوى نزع المخيط. وما ادعاه من منع العموم لا يخلو
من شيء أيضا. ويؤيد ما ذكرناه تخصيص التأخير إلى فخ بمن كان على طريق المدينة ،
فلو حج بهم على غيرها وجب الإحرام بهم من الميقات البتة. وبذلك صرح العلامة في
القواعد فقال : ويجرد الصبيان من فخ ان حجوا على طريق المدينة وإلا فمن موضع
الإحرام. قالوا : وفخ : بئر على نحو فرسخ من مكة.
المقام الثاني في الأحكام
وفيه أيضا مسائل :
الأولى ـ المشهور بين الأصحاب انه لا يجوز الإحرام قبل
هذه المواقيت إلا في صورتين سيأتي التنبيه عليهما في المقام. اما عدم جواز الإحرام
قبل
الميقات في غير الصورتين المشار
إليهما فهو من ما عليه الاتفاق نصا وفتوى.
ومن الاخبار الدالة على ذلك قوله عليهالسلام في صحيحة
الحلبي أو حسنته المتقدمة في أول المقام الأول (1) : «الإحرام من المواقيت خمسة وقتها
رسول الله (صلىاللهعليهوآلهوسلم) لا
ينبغي لحاج ولا لمعتمر ان يحرم قبلها ولا بعدها».
وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن ابن أذينة (2) قال : «قال
أبو عبد الله (عليهالسلام) : من أحرم
بالحج في غير أشهر الحج فلا حج له ، ومن أحرم دون الوقت فلا إحرام له».
وما رواه فيه ايضا عن ميسرة (3) قال : «دخلت
على ابي عبد الله (عليهالسلام) وانا متغير
اللون ، فقال لي : من أين أحرمت؟ فقلت : من موضع كذا وكذا. فقال : رب طالب خير تزل
قدمه. ثم قال : يسرك ان صليت الظهر في السفر أربعا؟ قلت : لا. قال : فهو والله ذاك».
وما رواه في الفقيه والتهذيب عن ميسر (4) قال : «قلت
لأبي عبد الله (عليهالسلام) : رجل أحرم
من العقيق وآخر من الكوفة ، أيهما أفضل؟ فقال : يا ميسر أتصلي العصر أربعا أفضل أم
تصليها ستا؟ فقلت : أصليها أربعا أفضل. فقال : فكذلك سنة رسول الله صلىاللهعليهوآله أفضل من غيرها».
وما رواه في التهذيب في الصحيح عن موسى بن القاسم عن
حنان بن سدير (5) قال : «كنت
انا وابي وأبو حمزة الثمالي وعبد الرحيم القصير وزياد الأحلام حجاجا فدخلنا على
ابي جعفر (عليهالسلام) فرأى زيادا ـ
وقد تسلخ
__________________
(1) ص 435.
(2) الوسائل الباب 11 من أقسام الحج ،
والباب 9 من المواقيت.
(3 و 4 و 5) الوسائل الباب 11 من
المواقيت.
جلده ـ فقال : من أين أحرمت؟ قال : من
الكوفة. قال : ولم أحرمت من الكوفة؟ فقال : بلغني عن بعضكم انه قال : ما بعد من
الإحرام فهو أعظم للأجر. فقال : ما بلغك هذا إلا كذاب. ثم قال لأبي حمزة : من أين
أحرمت؟ قال : من الربذة. فقال : ولم؟ لأنك سمعت ان قبر ابي ذر بها فأحببت ان لا
تجوزه؟ ثم قال لأبي ولعبد الرحيم : من أين أحرمتما؟ فقالا : من العقيق. فقال :
أصبتما الرخصة واتبعتما السنة. ولا يعرض لي بابان كلاهما حلال إلا أخذت باليسير ،
وذلك ان الله يسير يحب اليسير ويعطى على اليسير ما لا يعطى على العنف».
وما رواه في الكافي عن زرارة عن ابى جعفر (عليهالسلام) (1) في حديث قال :
«ليس لأحد ان يحرم قبل الوقت الذي وقته رسول الله صلىاللهعليهوآله وانما مثل ذلك
مثل من صلى في السفر أربعا وترك الثنتين».
الى غير ذلك من الاخبار.
واما الصورتان المشار إلى استثنائهما آنفا فإحداهما ـ من
أراد الإحرام بعمرة مفردة في رجب وخشي تقضيه ان هو أخر الإحرام حتى يصل الميقات ،
وقد اتفقت الاخبار على جواز الإحرام له قبل الميقات لتقع عمرته في رجب ، وانه يدرك
فضلها بذلك وان وقعت الأفعال في غيره ، وقد نقل في المعتبر والمنتهى اتفاق علمائنا
على ذلك مع ان عبارة ابن إدريس الآتية ظاهرة في الخلاف ، ولعله اما مبني على
الغفلة عن ملاحظة كلامه أو عدم الاعتداد بخلافه ، والظاهر الأول لنقلهم خلافه في
مسألة النذر.
ويدل على ذلك من الاخبار ما رواه الشيخ في الصحيح وثقة
الإسلام في الصحيح أو الحسن عن معاوية بن عمار (2) قال : «سمعت أبا عبد الله (عليه
__________________
(1) الوسائل الباب 11 من المواقيت.
(2) الوسائل الباب 12 من المواقيت.
السلام) يقول : ليس ينبغي لأحد ان
يحرم دون المواقيت التي وقتها رسول الله صلىاللهعليهوآله إلا ان يخاف
فوت الشهر في العمرة».
وما رواه أيضا في الموثق عن إسحاق بن عمار عن ابى الحسن عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن الرجل يجيء معتمرا ينوي عمرة رجب فيدخل عليه هلال شعبان قبل ان يبلغ الوقت ، أيحرم
قبل الوقت ويجعلها لرجب أو يؤخر الإحرام إلى العقيق ويجعلها لشعبان؟ قال : يحرم
قبل الوقت ويكون لرجب ، لان لرجب فضله وهو الذي نوى».
ثانيهما ـ من نذر الإحرام من موضع معين قبل الميقات ،
والمشهور انعقاد نذره ووجوب الإحرام من ذلك الموضع في أشهر الحج ان كان لعمرة تمتع
أو حج وان كان لعمرة مفردة فمطلقا ، ومنع ذلك ابن إدريس في السرائر فقال : والأظهر
الذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب ان الإحرام لا ينعقد إلا من المواقيت ، سواء كان
منذورا أو غيره ، ولا يصح النذر بذلك لانه خلاف المشروع ، ولو انعقد بالنذر كان
ضرب المواقيت لغوا. ثم قال : والذي اخترناه مذهب السيد المرتضى وابن ابى عقيل من
علمائنا وشيخنا ابى جعفر في مسائل خلافه. ثم نقل عبارته. وخطأه العلامة في نقله
ذلك عن الخلاف ، فإنه وان أطلق في هذه العبارة التي نقلها عنه إلا انه صرح بذلك في
عبارة أخرى ، حيث قال ـ على ما نقله في المختلف ـ : فإن أحرم قبل الميقات لم ينعقد
الا ان يكون نذر ذلك. واما السيد المرتضى وابن ابى عقيل فإنهما أطلقا المنع من
الإحرام قبل الميقات ولم يستثنيا النذر. وكذا ابن الجنيد والصدوق كما نقله في
المختلف ايضا. انتهى. واختاره العلامة في المختلف.
__________________
(1) التهذيب ج 5 ص 53 والكافي ج 4 ص
323 وفي الوسائل الباب 12 من المواقيت.
ويدل على القول المشهور جملة من الاخبار : منها ـ ما
رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (1) قال : «سألت أبا عبد الله (عليهالسلام) عن رجل جعل
لله عليه شكرا ان يحرم من الكوفة؟ فقال : فليحرم من الكوفة وليف لله بما قال».
أقول : لصاحب المنتقى هنا كلام في صحة الخبر المذكور بعد
ان حكى حكم الأصحاب بصحته ، فليرجع اليه (2) من أحب الوقوف عليه.
وعن ابى بصير عن ابى عبد الله (عليهالسلام) (3) قال : «سمعته
يقول : لو ان عبدا أنعم الله عليه نعمة أو ابتلاه ببلية فعافاه من تلك البلية فجعل
على نفسه ان يحرم بخراسان كان عليه ان يتم».
وفي الصحيح عن صفوان عن علي بن أبي حمزة (4) قال : «كتبت
الى ابى عبد الله (عليهالسلام) اسأله عن رجل
جعل لله عليه ان يحرم من الكوفة؟ قال : يحرم من الكوفة».
ومن هذه الاخبار يعلم الجواب عن ما احتجوا به من ان
النذر غير مشروع فإنه بعد ورود الاخبار بذلك لا وجه لدفع مشروعيته. وبالجملة فإن
قول ابن إدريس هنا جيد لو لا ورود هذه الاخبار المذكورة. واما قوله ـ : ولو انعقد
بالنذر كان ضرب المواقيت لغوا ـ فقد أجاب عنه في المنتهى بأن الفائدة غير منحصرة
في ذلك بل ههنا فوائد أخرى : منها ـ منع تجاوزها من غير إحرام ، ومنها ـ وجوب
الإحرام منها لأهلها لغير الناذر. ثم قال : وبالجملة فالكلام ضعيف من الجانبين
فنحن في هذا من المتوقفين ، والأقرب ما ذهب اليه الشيخان عملا برواية الحلبي فإنها
صحيحة. انتهى.
__________________
(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 13 من المواقيت.
(2) المنتقى ج 2 ص 355.
ولا يكفي مروره على الميقات بعد إحرامه قبله ، لوقوع
الإحرام السابق عليها فاسدا فيكون بمنزلة من لم يحرم.
المسألة الثانية ـ قد ذكر جملة من الأصحاب انه لو تعذر
الإحرام من الميقات لمانع من مرض ونحوه أخره ، ومتى زال المانع وجب عليه الرجوع
الى الميقات إن أمكن ، وإلا جدد الإحرام من موضعه.
والكلام هنا يقع في مقامين أحدهما ـ في التأخير ،
المفهوم من كلام الشيخ في النهاية ذلك ، قال في الكتاب المذكور : ومن عرض له مانع
من الإحرام جاز له ان يؤخره أيضا عن الميقات ، فإذا زال المانع أحرم من الموضع
الذي انتهى اليه.
ويدل على ما ذكره ما رواه في التهذيب (1) عن ابي شعيب
المحاملي عن بعض أصحابنا عن أحدهم (عليهمالسلام): «إذا خاف
الرجل على نفسه أخر إحرامه إلى الحرم».
وقال ابن إدريس بعد نقل ذلك عن الشيخ : قوله : «جاز له
ان يؤخره» مقصوده كيفية الإحرام الظاهرة ، وهو التعري وكشف الرأس والارتداء
والتوشح والاتزار ، فأما النية والتلبية مع القدرة عليها فلا يجوز له ذلك ، لانه
لا مانع له يمنع ذلك ولا ضرورة فيه ولا تقية ، وان أراد وقصد شيخنا غير ذلك فهذا
يكون قد ترك الإحرام متعمدا من موضعه فيؤدي إلى إبطال حجه بغير خلاف. واستجوده
العلامة في المنتهى.
أقول : ويؤيده ما قدمناه من رواية الحميري المنقولة من
الاحتجاج المتقدمة (2) في المسألة
الاولى من المسائل الملحقة بالمقام الأول ، حيث ذكر
__________________
(1) ج 5 ص 58 وفي الوسائل الباب 16 من
المواقيت.
(2) ص 441.
عليهالسلام ـ في من مر مع
العامة على المسلخ ولم يمكنه إظهار الإحرام تقية ـ انه يحرم من ميقاته ثم يلبس
الثياب ويلبي في نفسه ، وإذا بلغ ميقاتهم أظهره.
والى ما ذكره ابن إدريس يميل كلام المحقق في المعتبر ،
حيث قال : من منعه مانع عند الميقات فان كان عقله ثابتا عقد الإحرام بقلبه ، ولو
زال عقله بإغماء وشبهه سقط عنه الحج ، ولو أحرم عنه رجل جاز ، ولو أخر وزال المانع
عاد الى الميقات ان تمكن وإلا أحرم من موضعه. ودل على جواز الإحرام عنه ما رواه
جميل عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) : «في مريض
أغمي عليه فلم يعقل حتى اتى الموقف؟ قال : يحرم عنه رجل». والذي يقتضيه الأصل ان
إحرام الولي جائز لكن لا يجزئ عن حجة الإسلام ، لسقوط الفرض بزوال عقله. نعم إذا
زال العارض قبل الوقوف أجزأه. انتهى.
وقال في الدروس : ولو منعه مانع من الإحرام من الميقات
جاز تأخيره عنه ، قاله الشيخ. وحمل على تأخير ما يتعذر منه كلبس الثوبين وكشف
الرأس دون الممكن من النية والتلبية. انتهى.
وبالجملة فإن ما ذكره ابن إدريس هنا متجه ، ويمكن حمل
الرواية التي استند إليها الشيخ على ذلك. واما ما ذكره في المختلف ـ من ان كلام
ابن إدريس مؤاخذة لفظية ، إذ الإحرام ماهية مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين
، ونحن نسلم إيجاب ما يتمكن منه لكن لا يكون قد اتى بماهية الإحرام. انتهى ـ ففيه
ان الظاهر من عبارة الشيخ ومن روايته التي استند إليها انما هو تأخير الإحرام
بجميع ما يتوقف عليه وتلتئم منه ماهيته.
وثانيهما ـ في وجوب الرجوع متى أخره ، قال في المدارك ـ بعد
قول
__________________
(1) الوسائل الباب 20 من المواقيت ،
والباب 55 من الإحرام.
المصنف : ولو أخره عن الميقات لمانع
ثم زال المانع عاد الى الميقات ، فان تعذر جدد الإحرام حيث زال ـ ما صورته : اما
وجوب العود الى الميقات مع المكنة فلا ريب فيه لتوقف الواجب عليه. واما الاكتفاء
بتجديد الإحرام من محل زوال العذر مع تعذر العود الى الميقات ، فلان تأخيره لم يكن
محرما فكان كالناسي ، وسيأتي ان الناسي يحرم من موضع الذكر مع تعذر العود الى
الميقات. انتهى.
أقول : لا يخفى انه قد تقدم في المقام الأول ان ظاهر
عبارة الشيخ في النهاية هو التعدي عن الميقات للعذر بغير إحرام بالكلية ، وظاهر
الجماعة انه قد أحرم وعقد النية واتى بما يمكن من تلبية ونحوها وانما أخر بعض
الأفعال مثل لبس الثوبين مثلا ونحوهما. وحينئذ فوجوب الرجوع الذي ذكروه هنا ، ان
بنى على ظاهر كلام الشيخ وروايته فلا ريب فيه ، لأنه قد ترك الإحرام متعمدا من
موضعه كما ذكره ابن إدريس ، فيجب عليه الرجوع البتة كما صرحوا به. إلا ان قوله ـ في
تعليل الاكتفاء بتجديد الإحرام من موضع الذكر مع تعذر العود الى الميقات : فلان
تأخيره لم يكن محرما فكان كالناسي ـ غير صحيح كما لا يخفى. وان بنى على ما ذكره
الجماعة من عقد الإحرام من الميقات والإتيان بالتلبية وما يمكن من أفعاله فإيجاب
العود عليه بعد زوال العذر لا وجه له ولا دليل عليه. وما ذكره من توقف الواجب عليه
انما يتم لو ترك الإحرام بالكلية. وترك بعض تلك الأمور المشترطة فيه ـ كنزع المخيط
ولبس ثوبي الإحرام ـ مع العذر لا يوجب الرجوع الى الميقات اتفاقا ، وغايته هو وجوب
نزع المخيط ولبس ثوبي الإحرام متى زال العذر. وقياس ذلك ـ في وجوب الرجوع أو
الإحرام من موضعه مع عدم إمكان الرجوع ـ على الناسي قياس مع الفارق ، لأن الناسي
قد ترك الإحرام بالكلية وهذا قد أحرم وعقد حجه بالنية ولبى ولو سرا وانما ترك نزع
المخيط للعذر ، فكيف يحمل عليه؟ مع ما في الحمل ـ لو لم
يكن كذلك ايضا ـ من انه محض القياس.
وبذلك يظهر ما في عبارة المعتبر المتقدمة وان استحسنها
في المدارك ، حيث قال : وفصل المصنف في المعتبر تفصيلا حسنا. ثم ساق عبارته
المتقدمة ، فإن قوله : «ولو أخر وزال المانع» ان أراد به التأخير حتى عن النية
وعقد الإحرام بها ففيه ما عرفت أولا ، وان أراد التأخير لما لم يمكن مع الإتيان
بما أمكن من نية وتلبية ففيه ما عرفت ثانيا.
وبالجملة فإن كلامهم هنا عندي غير منقح ولا ظاهر.
ثم ان صريح عبارة الشيخ المتقدمة انه يحرم بعد زوال
المانع من موضعه. وهو على إطلاقه أيضا مشكل ، لأنه ان حمل على ظاهر عبارته ـ كما
قدمنا الإشارة إليه ـ فهو غير صحيح ، لانه قد أخل بالإحرام بعد المرور على الميقات
عمدا فلا يجزئه الإحرام من موضعه ، وان حمل على ظاهر كلام الجماعة ـ من عقد نية
الإحرام عند الميقات وانما ترك بعض الأشياء لعذر ـ فهو صحيح لا ريب فيه
المسألة الثالثة ـ لو ترك الإحرام بعد مروره على الميقات
ناسيا أو جاهلا وجب عليه العود اليه مع الإمكان ، وإلا أحرم من مكانه ان لم يدخل
الحرم ، ومع دخوله فيجب الخروج الى خارجه ان أمكن ، وإلا أحرم من موضعه ايضا. وزاد
بعضهم من لا يريد النسك ثم تجدد له عزم على ذلك.
والذي وقفت عليه من الاخبار المتعلقة بهذه المسألة ما
رواه ثقة الإسلام (عطر الله تعالى مرقده) في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل نسي أن
يحرم حتى دخل الحرم؟ قال : قال ابي : يخرج الى ميقات أهل أرضه ، فإن خشي ان يفوته
الحج أحرم من مكانه ، فإن
__________________
(1) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
استطاع ان يخرج من الحرم فليخرج ثم
ليحرم».
وما رواه أيضا في الصحيح عن عبد الله بن سنان (1) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل مر على
الوقت الذي يحرم الناس منه ، فنسي أو جهل فلم يحرم حتى اتى مكة ، فخاف ان رجع الى
الوقت ان يفوته الحج؟ فقال : يخرج من الحرم ويحرم ويجزئه ذلك».
وما رواه أيضا في الصحيح عن معاوية بن عمار (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن امرأة كانت
مع قوم ، فطمثت فأرسلت إليهم فسألتهم ، فقالوا : ما ندري أعليك إحرام أم لا وأنت
حائض؟ فتركوها حتى دخلت الحرم. فقال : ان كان عليها مهلة فلترجع الى الوقت فلتحرم
منه ، وان لم يكن عليها وقت فلترجع الى ما قدرت عليه بعد ما تخرج من الحرم بقدر ما
لا يفوتها».
ورواه الشيخ في الصحيح ايضا مثله (3) إلا انه زاد
بعد : «بقدر ما لا يفوتها» : «الحج فتحرم».
وما رواه في الكافي أيضا في الموثق عن زرارة (4) : «عن أناس من
أصحابنا حجوا بامرأة معهم ، فقدموا الى الوقت وهي لا تصلي ، فجهلوا ان مثلها ينبغي
ان يحرم ، فمضوا بها كما هي حتى قدموا مكة وهي طامث حلال ، فسألوا الناس فقالوا :
تخرج الى بعض المواقيت فتحرم منه. وكانت إذا فعلت لم تدرك الحج. فسألوا أبا جعفر عليهالسلام فقال : تحرم
من مكانها ، قد علم الله ـ تعالى ـ نيتها».
وعن جميل عن سورة بن كليب (5) قال : «قلت
لأبي جعفر عليهالسلام :
__________________
(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 14
من المواقيت.
خرجت معنا امرأة من أهلنا ، فجهلت
الإحرام فلم تحرم حتى دخلنا مكة ، ونسينا أن نأمرها بذلك؟ قال : فمروها فلتحرم من
مكانها من مكة أو من المسجد».
وما رواه الحميري في كتاب قرب الاسناد بسنده عن علي بن
جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهالسلام (1) قال : «سألته
عن رجل ترك الإحرام حتى انتهى الى الحرم ، كيف يصنع؟ قال : يرجع الى ميقات أهل
بلاده الذي يحرمون منه فيحرم».
وعن ابي الصباح الكناني (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل جهل ان
يحرم حتى دخل الحرم ، كيف يصنع؟ قال : يخرج من الحرم ثم يهل بالحج».
وإطلاق بعض هذه الاخبار يحمل على مقيدها ، وبه تكون
متفقة الدلالة على الأحكام المذكورة.
وقد ذكر العلامة في التذكرة والمنتهى ان من نسي الإحرام
بالحج يوم التروية حتى حصل بعرفات فليحرم من هناك.
والظاهر ان مستنده ما رواه علي بن جعفر في الصحيح عن
أخيه موسى ابن جعفر عليهالسلام (3) قال : «سألته
عن رجل نسي الإحرام بالحج فذكره وهو بعرفات ، ما حاله؟ قال : يقول : اللهم على
كتابك وسنة نبيك. فقد تم إحرامه».
وربما أشعر تخصيص الحكم بعرفات بعدم جواز تجديد الإحرام
بالمشعر ، وبه
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 14 من
المواقيت.
(3) الوسائل الباب 14 و 20 من
المواقيت.
يشعر ايضا بعض عبائرهم. إلا ان
الشهيدين قد حكما بالجواز.
ويمكن ان يستدل عليه بما رواه الكليني في الصحيح أو
الحسن عن جميل ابن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهماالسلام) (1) «في رجل نسي أن
يحرم أو جهل وقد شهد المناسك كلها وطاف وسعى؟ قال : تجزئه نيته إذا كان قد نوى ذلك
، فقد تم حجه وان لم يهل».
قيل : والظاهر ان المراد بقوله : «إذا كان قد نوى ذلك»
انه نوى الحج بجميع أجزائه جملة لا نوى الإحرام ، لأن نيته من الجاهل به غير معقول
وكذا من الناسي أيضا. وربما ظهر من كلام الشيخ في النهاية حمله على العزم المتقدم
على محل الإحرام ، فإنه قال : إذا لم ينو فان لم يذكر أصلا حتى فرغ من جميع مناسكه
فقد تم حجه ولا شيء عليه إذا كان قد سبق في عزمه الإحرام. انتهى.
وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن رجل كان متمتعا خرج الى عرفات وجهل ان يحرم يوم التروية بالحج حتى رجع الى بلده
، ما حاله؟ قال : إذا قضى المناسك كلها فقد تم حجه».
والتقريب فيهما انه إذا تم الحج مع قضاء المناسك كلها
بغير إحرام فالبعض اولى.
ويندرج في من لا يريد النسك ثم تجدد له ذلك من يكون
قاصدا دخول مكة وكان ممن يلزمه الإحرام لدخولها لكنه لم يرد النسك ، فهو في معنى
متعمد ترك الإحرام.
وقد نقل إجماعهم على ان من مر على الميقات وهو لا يريد
دخول مكة بل
__________________
(1 و 2) الوسائل الباب 20 من
المواقيت.
يريد حاجة في ما سواها فإنه لا يجب
عليه الإحرام ، وقد مر النبي صلىاللهعليهوآله على ذي
الحليفة لما اتى بدرا وهو محل (1).
ومن قصد دخولها وكان ممن لا يلزمه الإحرام ـ كالحطاب
والحشاش ومن دخلها لقتال ـ فإنه متى تجدد لكل من هؤلاء إرادة النسك بعد تجاوزه
الميقات فالحكم فيه كما تقدم في الناسي والجاهل.
قالوا : اما انه لا يجب عليه العود مع التعذر فلا ريب
فيه ، لان من هذا شأنه أعذر من الناسي وانسب بالتخفيف.
واما وجوب العود مع الإمكان فاستدل عليه في المعتبر بأنه
يتمكن من الإتيان بالنسك على الوجه المأمور به فيكون واجبا.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (2) قال : «سألت
أبا عبد الله عليهالسلام عن رجل ترك
الإحرام حتى دخل الحرم؟ قال : يرجع الى ميقات أهل بلاده الذي يحرمون منه فيحرم ،
وان خشي ان يفوته الحج فليحرم من مكانه ، فان استطاع ان يخرج من الحرم فليخرج ثم
ليحرم».
أقول : والاولى هو الاستدلال بالصحيحة المذكورة على كل
من شقي المسألة وإلغاء هذه التعليلات العليلة ، فإنها مشتملة على حكم كل من
الشقين. والتقريب فيها ان الرواية اشتملت على السؤال عن رجل ترك الإحرام حتى دخل
الحرم ، وهو شامل لمحل البحث. ونحو هذه الصحيحة بالنسبة إلى الشق الثاني رواية
الحميري المتقدم نقلها عن قرب الاسناد (3).
__________________
(1) المغني ج 3 ص 241 مطبعة العاصمة.
(2) الوسائل الباب 14 من المواقيت.
وقوله : «ثم ليحرم» وارد في رواية الكافي ج 4 ص 323 وليس في رواية التهذيب ج 5 ص
58.
(3) ص 468.
قالوا : وفي حكم من لا يريد النسك غير المكلف به ،
كالصبي والعبد والكافر إذا بلغ بعد تجاوزه الميقات أو أعتق أو أسلم.
فوائد
الاولى ـ لا يخفى ان ما تقدم كله مخصوص بما لو تجاوز الميقات
على أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة ، اما لو تجاوزه مريدا للنسك وتعمد ترك الإحرام
منه فإنه يجب عليه الرجوع اليه والإحرام منه ، فان تعذر العود لمرض أو خوف أو ضيق
الوقت فقد قطع الأصحاب (رضوان الله عليهم) بعدم صحة الإحرام من غيره ، لعدم
الامتثال ، فيحرم عليه دخول مكة ، لتوقفه على الإحرام. وكأن منشأ ذلك المؤاخذة له
بسوء ما عمله من إخلاله بالإحرام عمدا مع إيجاب الشارع له عليه. واحتمل بعض
الأصحاب الاكتفاء بالإحرام من ادنى الحل إذا خشي ان يفوته الحج ، لإطلاق صحيحة
الحلبي المتقدمة (1). وهو غير
بعيد.
الثانية ـ المفهوم من صحيحة الحلبي المتقدمة هنا ،
وصحيحته الثانية المتقدمة في صدر هذه المسألة برواية ثقة الإسلام ـ وهو ظاهر صحيحة
معاوية بن عمار المتقدمة ثمة ايضا ـ ان الواجب الرجوع الى ميقات أهل بلده في جميع
هذه الصور قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : وفي بعض الاخبار انه يرجع الى
ميقاته في جميع هذه الصور ، والظاهر انه غير متعين بل يجزئ رجوعه الى اي ميقات شاء
، لأنها مواقيت لمن مر بها ، وهو عند وصوله كذلك ، وقال سبطه السيد السند في
المدارك ـ في مسألة ما لو أخر عن الميقات لمانع ثم زال المانع فإنه يعود الى
الميقات ـ ما صورته : لكن لا يخفى انه انما يجب العود إذا لم يكن في طريقه ميقات
آخر وإلا لم يجب كما مر.
__________________
(1) ص 466 و 470.
أقول : والظاهر هو وجوب العود الى ميقاته ، وقد تقدم
تحقيق الجواب عن ما ذكروه في البحث السادس من المطلب الثاني من مطلبي المقدمة الرابعة
(1).
الثالثة ـ قال شيخنا المشار إليه في المسالك ايضا : وحيث
يتعذر رجوعه مع التعمد يبطل نسكه ، ويجب عليه قضاؤه وان لم يكن مستطيعا للنسك بل
كان وجوبه بسبب ارادة دخول الحرم ، فان ذلك موجب للإحرام ، فإذا لم يأت به وجب
قضاؤه كالمنذور. نعم لو رجع بعد تجاوز الميقات ولما يدخل الحرم فلا قضاء عليه وان
أثم بتأخير الإحرام. وادعى العلامة (قدسسره) في التذكرة
الإجماع عليه. انتهى.
واعترضه سبطه السيد السند في المدارك بأنه غير جيد ، قال
: لان القضاء فرض مستأنف فيتوقف على الدليل ، وهو منتف هنا. والأصح سقوط القضاء
كما اختاره في المنتهى ، واستدل عليه بأصالة البراءة من القضاء ، وبان الإحرام
مشروع لتحية البقعة ، فإذا لم يأت به سقط كتحية المسجد. وهو حسن. انتهى
الرابعة ـ قد صرحوا أيضا بان من كان منزله دون الميقات
فحكمه في مجاورة منزله الى ما يلي الحرم حكم المجاوز للميقات في الأحوال السابقة ،
لأن منزله ميقاته ، فهو في حقه كأحد المواقيت الخمسة في حق الآفاقي.
المسألة الرابعة ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في
ما لو نسي الإحرام بالكلية حتى أكمل مناسكه ، فهل يقضى لو كان واجبا أم يجزئ عنه؟ قولان
: ثانيهما للشيخ في المسبوط والنهاية وجمع من الأصحاب (رضوان الله عليهم) والأول
لابن إدريس.
__________________
(1) ص 411.
واستدل في المعتبر للقول الثاني ـ حيث اختاره ـ بأنه فات
نسيانا فلا يفسد به الحج ، كما لو نسي الطواف. وبقوله صلىاللهعليهوآله (1) : «رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان». وبأنه مع استمرار النسيان يكون مأمورا بإيقاع بقية الأركان
، والأمر يقتضي الاجزاء.
وما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى عليهالسلام (2) قال : «سألته
عن رجل كان متمتعا خرج الى عرفات وجهل ان يحرم يوم التروية بالحج حتى رجع الى
بلده. الخبر». وقد تقدم في سابق هذه المسألة.
وفي الحسن عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما (عليهماالسلام): «في رجل
نسي. الخبر». وقد تقدم في المسألة المذكورة (3).
واعترض هذه الأدلة السيد السند في المدارك فقال : وفي
جميع هذه الأدلة نظر : اما الأول فلان الناسي للإحرام غير آت بالمأمور به على وجهه
، فيبقى في عهدة التكليف الى ان يثبت صحة الحج مع الإخلال به بدليل من خارج ، كما
في نسيان الطواف. واما الثاني فلان المرتفع في الخطأ والنسيان المؤاخذة خاصة لا
جميع الأحكام. واما الثالث فلعدم تحقق الامتثال بالنسبة الى ذلك الجزء المنسي
والكل يعدم بعدم جزئه. واما الرواية الأولى فبأنها انما تدل على صحة حج تارك
الإحرام مع الجهل ، وهو خلاف محل النزاع. وما قيل ـ من ان الناسي أعذر من الجاهل ـ
فغير واضح ، كما بيناه غير مرة. مع انها مخصوصة بإحرام الحج ، فإلحاق إحرام العمرة
به لا يخرج عن القياس. واما الرواية الثانية فواضحة الدلالة لكن إرسالها يمنع من
العمل بها. انتهى كلامه (زيدا إكرامه).
__________________
(1) الوسائل الباب 37 من قواطع الصلاة
، والباب 30 من الخلل في الصلاة والباب 56 من جهاد النفس.
(2 و 3) ص 469.
وهو جيد إلا في رد الرواية الثانية بالإرسال عند من لا
يعمل على هذا الاصطلاح المحدث ، فإنه غير مسموع. وبه يظهر وجه قوة القول المذكور.
وأشار بقوله ـ : وما قيل من ان الناسي. الى آخره ـ الى
ما ذكره شيخنا الشهيد في نكت الإرشاد في بيان وجه الاستدلال بالرواية المذكورة ،
حيث قال : واعلم ان الرواية الأولى تدل على الصحة بواسطة ان النسيان أدخل في العذر
من الجهل. وهو غير جيد ، فإنه قد استفاضت الأخبار بوجوب الإعادة على من صلى في
النجاسة ناسيا (1) وعلل في بعضها
بأنه عقوبة لإهماله إزالة النجاسة حتى ادى الى نسيانها. مع استفاضتها بصحة الصلاة
فيها جاهلا (2) نعم قد ورد في
بعض الأحكام معذورية الناسي أيضا.
احتج ابن إدريس على ما ذهب اليه بقوله صلىاللهعليهوآله (3) : «إنما
الأعمال بالنيات». حيث قال ـ بعد ذكر القول المشهور وإسناده الى ما روى في أخبارنا
ـ ما صورته : والذي تقتضيه أصول المذهب انه لا يجزئه وتجب عليه الإعادة ، لقوله صلىاللهعليهوآله (4) : «إنما
الأعمال بالنيات» وهذا عمل بلا نية ، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد. ولم يورد
هذا ولم يقل به أحد من أصحابنا سوى شيخنا ابي جعفر (رحمهالله) فالرجوع إلى
الأدلة أولى من تقليد الرجال. انتهى.
واعترضه المحقق في المعتبر فقال بعد نقل استدلاله بالخبر
: ولست أدرى كيف تخيل له هذا الاستدلال ولا كيف توجيهه؟ فان كان يقول ان الإخلال
بالإحرام إخلال بالنية في بقية المناسك فنحن نتكلم على تقدير إيقاع نية كل منسك
على
__________________
(1) الوسائل الباب 20 و 40 و 42 من
النجاسات من كتاب الطهارة.
(2) الوسائل الباب 40 و 41 و 47 من
النجاسات من كتاب الطهارة.
(3 و 4) الوسائل الباب 5 من مقدمة
العبادات.
وجهه ظانا انه أحرم أو جاهلا بالإحرام
، فالنية حاصلة مع إيقاع كل منسك ، فلا وجه لما قاله.
وأجاب عنه شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد بأن مراد ابن
إدريس ان فقد نية الإحرام يجعل باقي الأفعال في حكم العدم ، لعدم صحة نيتها محلا ،
فتبطل ، إذ العمل بغير نية باطل.
وفيه ان ما ادعاه ـ من ان فقد نية الإحرام يجعل باقي
الأفعال في حكم العدم ـ ممنوع. قوله ـ : لعدم صحة نيتها محلا ـ قلنا : ان أريد
بكونه محلا يعني : عالما حين الإتيان بتلك الأفعال انه محل ، فهو مسلم ولكنه ليس
من محل البحث في شيء ، وان أريد في الواقع ونفس الأمر ـ حيث انه ظن الإتيان
بالإحرام أو جهله ـ فهو ممنوع ، لان التكاليف انما نيطت بالظاهر في نظر المكلف لا
بنفس الأمر والواقع. وحينئذ فما ذكره من بطلان تلك الأفعال باطل. على ان المتبادر
من العمل بغير نية انما هو ترك النية بالكلية لا الإتيان بنية وان ظهر بطلانها ،
وان كان الجميع مشتركا في البطلان لكن لا لهذا الخبر.
وقال العلامة في المنتهى : الظاهر ان ابن إدريس وهم في
هذا الاستدلال فان الشيخ اكتفى بالنية عن الفعل ، فتوهم أنه اجتزأ بالفعل بغير
نية.
أقول : فيه انه ان أراد بالنية التي اكتفى بها الشيخ
يعني : النية المقارنة للإحرام ، فهو غير متجه ، إذ ليس في كلام الشيخ دلالة على
اعتبارها بوجه ، كما صرح به في المدارك ايضا ، وان أراد اجتزاءه بالعزم المتقدم ـ كما
أسلفناه من عبارة الشيخ في النهاية ذيل صحيحة جميل المتقدمة (1) في سابق هذه
المسألة ـ ففيه انه وان احتمل إلا انه بعيد عن ظاهر العبارة.
__________________
(1) ص 469.
وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور ، لما عرفت من دلالة
صحيحة جميل على ذلك وان كانت مرسلة ، لعدم المعارض لها ، فيتجه العمل بها.
وربما بنى الكلام هنا على الاختلاف في معنى الإحرام وما
المراد منه وانه عبارة عن ما ذا؟ فذكر العلامة في المختلف ـ في مسألة تأخير
الإحرام عن الميقات ـ ان الإحرام ماهية مركبة من النية والتلبية ولبس الثوبين ،
ومقتضاه انه ينعدم بانعدام أحد اجزائه. وحكى الشهيد (رحمهالله) في شرح
الإرشاد عن ابن إدريس انه جعل الإحرام عبارة عن النية والتلبية ، ولا مدخل للتجرد
ولبس الثوبين فيه. وعن ظاهر المبسوط والجمل انه جعله امرا بسيطا وهو النية ، قال :
فيتحقق الإخلال بالإحرام بالإخلال بها. الى ان قال (رحمهالله) في الكتاب
المذكور : وقد كنت ذكرت في رسالة ان الإحرام هو توطين النفس على ترك المنهيات
المعهودة الى ان يأتي بالمناسك ، والتلبية ـ وهي الرابطة لذلك التوطين ـ نسبتها
إليه كنسبة التحريمة إلى الصلاة ، والأفعال هي المزيلة لذلك الرابط ، ويتحقق زواله
بالكلية بآخرها اعني التقصير وطواف النساء بالنسبة إلى النسكين ، فحينئذ إطلاق
الإحرام بالحقيقة ليس إلا على ذلك التوطين ، ولكن لما كان موقوفا على التلبية وكان
لها مدخل تام في تحققه جاز إطلاقه عليها ايضا ، اما وحدها لأنها أظهر ما فيه ،
تسمية للشيء باسم أشهر اجزائه وشروطه ، واما مع ذلك التوطين النفساني الذي ربما
عبر عنه بالنية. وبالجملة فكلام ابن إدريس أمثل هذه الأقوال ، لقيام الدليل وهو قول
الصادق عليهالسلام (1) الصحيح
الإسناد : «فإذا فعل شيئا من الثلاثة ـ يعني : التلبية والاشعار والتقليد ـ فقد
أحرم». فعلى هذا يتحقق نسيان الإحرام بنسيان النية وبنسيان التلبية. انتهى كلامه (زيد
مقامه).
__________________
(1) الوسائل الباب 12 من أقسام الحج.
أقول : الظاهر انه أشار بالدليل المذكور الى ما رواه
الشيخ في الصحيح عن معاوية بن عمار عن ابي عبد الله عليهالسلام (1) قال : «يوجب
الإحرام ثلاثة أشياء : التلبية والاشعار والتقليد ، فإذا فعل شيئا عن هذه الثلاثة
فقد أحرم».
ونحوه ما رواه في الكافي عن جميل بن دراج عن ابي عبد
الله عليهالسلام (2) قال : «إذا
كانت البدن كثيرة قام في ما بين ثنتين ثم أشعر اليمنى ثم اليسرى ولا يشعر ابدا حتى
يتهيأ للإحرام ، لأنه إذا أشعر وقلد وجلل وجب عليه الإحرام وهي بمنزلة التلبية». والمراد
بوجوبه عليه يعنى : تحققه وثبوته بذلك ولزومه.
وفي حديث طويل يرويه الشيخ عن صفوان في الصحيح عن معاوية
بن عمار وغير معاوية ـ ممن روى صفوان عنه الأحاديث المتقدمة المذكورة ، وقال : ـ يعني
صفوان ـ وهي عندنا مستفيضة ـ عن ابي جعفر وابي عبد الله (عليهماالسلام) (3). الى ان قال :
«وإذا فرض على نفسه الحج ثم أتم بالتلبية فقد حرم عليه الصيد وغيره ، ووجب عليه في
فعله ما يجب على المحرم ، لانه قد يوجب الإحرام أشياء ثلاثة : الاشعار والتقليد
والتلبية ، فإذا فعل شيئا من هذه الثلاثة فقد أحرم».
وما رواه الشيخ عن عمر بن يزيد عن ابي عبد الله عليهالسلام (4) قال : «من
أشعر بدنته فقد أحرم وان لم يتكلم بقليل ولا كثير».
ومن أوضح الاخبار في ذلك ما رواه الشيخ في الصحيح عن
معاوية بن وهب (5) قال : «سألت أبا
عبد الله عليهالسلام عن التهيؤ
للإحرام ، فقال : في مسجد
__________________
(1 و 2 و 4) الوسائل الباب 12 من
أقسام الحج.
(3) التهذيب ج 5 ص 83 وفي الوسائل
الباب 14 من الإحرام.
(5) التهذيب ج 5 ص 84 وفي الوسائل
الباب 34 و 40 من الإحرام.
الشجرة فقد صلى فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد ترى أناسا
يحرمون فلا تفعل حتى تنتهي إلى البيداء حيث الميل فتحرمون كما أنتم في محاملكم ،
تقول : لبيك اللهم لبيك. الحديث».
ومعنى الخبر المذكور انه سأله عن التهيؤ للإحرام الذي هو
عبارة عن التلبية ـ كما يدل عليه سياق الخبر ـ فقال : في مسجد الشجرة ، بان يصلى
فيه بعد الغسل ولبس ثوبي الإحرام والدعاء بعد الصلاة ، ونحو ذلك. ثم قال له : قد
ترى أناسا يحرمون ، يعني : يلبون في المسجد بعد الصلاة فلا تفعل حتى تنتهي إلى
البيداء فتحرمون في محاملكم ، يعني : تلبون وتعقدون الإحرام بالتلبية وأنتم في
محاملكم ، تقول في عقد الإحرام : لبيك. الى آخره.
وقد اشتبه معنى الخبر على كثير من الفضلاء حتى اطرحوه
لذلك وأعرضوا عنه ، والمعنى فيه ما ذكرناه. وظاهر المحدث الأمين الأسترآبادي (قدسسره) في بعض
فوائده ان الإحرام عنده عبارة عن الحالة المترتبة على نية الحج أو العمرة والإتيان
بأول جزء منه وهو التلبية ، قال : وهو الظاهر عندي من الروايات. قال : وهو من
الأحكام المترتبة على مجموع النية والإتيان بجزء من المنوي ، نظير حرمة منافيات
الصلاة على المصلي بسبب نية الصلاة وتكبيرة الإحرام.
أقول : لا يخفى انه يمكن تطبيق الخبرين الأولين على ما
ذكره (قدسسره) بان يكون
معنى قوله في الخبر الأول : «فإذا فعل شيئا من هذه الثلاثة فقد أحرم» يعني : حصلت
له تلك الحالة المذكورة. إلا انه لا يخلو من تمحل وبعد.
هذا ما وقفت عليه من أقوالهم في معنى الإحرام. وحينئذ فيترتب حكم النسيان باعتبار كل قول على ما يناسبه ، فعلى القول الأول أحد الثلاثة ، وعلى الثاني أحد الأمرين ، وعلى الثالث النية ، وعلى الرابع التوطين المذكور الذي هو عبارة عن العزم ، على ان لا يتعمد شيئا من الأمور المعينة إلى وقت الحلق والتقصير بعد التلبية وما في معناها.
وكيف كان فالظاهر من الأقوال المتقدمة هو قول ابن إدريس
، لما عرفته من الدليل. واما ما ذكره المحدث الأمين (قدسسره) فالظاهر بعده
، لما عرفته من الاخبار التي ذكرناها. ولان اخبار نسيان الإحرام أو جهله لا تنطبق
على هذا المعنى الذي ذكره ، إذ النسيان انما يتعلق بالأفعال الوجودية لا بالأحكام
والحالات التي يتصف بها المكلف بعد نية الحج أو العمرة والإتيان بأول جزء منه أو
منها. والله العالم.
هذا آخر الجزء الرابع عشر من كتاب الحدائق الناضرة ويليه
الجزء الخامس عشر ـ ان شاء الله ـ في الإحرام. والحمد لله أولا وآخرا.
الاستدراكات
(1) ـ ورد في الصفحة 3 حديث الكافي عن سعيد الأعرج ولم
نذكر موضعه في الوسائل ، وقد نقله في الباب 50 من الإحرام.
(2) ـ ورد في الصفحة 21 حديث الصدوق في كتاب العلل عن
الميثمي عن ابي عبد الله عليهالسلام وقد أقحمت
كلمة «في كل عام» في آية الحج. ويمكن ان يكون ذلك بنحو بيان المراد من الآية كما
في سائر الموارد من هذا القبيل من ما ورد في الاخبار أو القراءات.
(3) ـ ورد في نسخ الحدائق المخطوطة والمطبوعة في صحيحة
ابن ابي عمير ص 44 هكذا : «فشكوت ذلك الى ابي عبد الله عليهالسلام» وحيث ان
الوارد في الفقيه ج 2 ص 175 وكذا في الوافي باب (السفر وأوقاته) والوسائل : «فشكوت
ذلك الى ابي الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام» أوردناه في
هذه الطبعة كذلك. نعم الوارد في المحاسن ص 349 يطابق ما ورد في نسخ الحدائق.
(4) ـ ورد في مرسل الفقيه ص 52 هكذا : «والسويق المحمص»
وفسره (قدسسره) بالمشوي على
النار ، كما في الوافي باب (ما ينبغي استصحابه في السفر) ويحتمل ان يكون بالمعجمة
كما في الفقيه ج 2 ص 184 والوسائل والمحاسن ص 360 ويناسبه عطف المحلى عليه.
(5) ـ جاء في الصفحة 96 في عبارة المنتهى في التمثيل للمواضع التي جرت العادة بكون الماء موجودا فيها «عبيدة» و «البعلية» ولم نجدهما في كتب اللغة بالمعنى المناسب للمقام ، والذي وجدناه هو «عبد» و «علبية» فاوردناهما كذلك. هذا بالإضافة الى ان الوارد في عبارة المنتهى ج 2 ص 654 كلمة «عبد» لا «عبيدة» وفي معجم البلدان ج 2 ص 78 : «الثعلبية» منزل من منازل طريق مكة من الكوفة ، وأسفل منها ماء يقال له «الضويجعة» فيجوز ان يكون بالتصحيف صار كذلك.
(6) ـ ورد في النسخ في صحيحة محمد بن مسلم ص 164 هكذا : «فلما
جنها الليل بصرت بقطيع مع غير راعيها» كما في الوافي باب (من دان الله بغير امام
من الله). وفي أصول الكافي ج 1 ص 183 باب (معرفة الامام والرد اليه) هكذا : «فلما
جنها الليل بصرت بقطيع غنم مع راعيها» فأوردناه كذلك.
(7) ـ جاء في العبارة ص 168 ص 2 هكذا : «نعم قال ـ بعد
ان نقل. الى قوله : أجاب عن ذلك بالمنع» تبعا للنسخ ، والصحيح حذف كلمة «قال».
(8) ـ جاء في الصفحة 168 السطر 13 : «مع ان جملة منهم»
تبعا للنسخ الخطية ، وفي المطبوعة : «على ان جملة منهم».
(9) ـ جاء أيضا في الصفحة 168 السطر 14 : «باعتبار إجراء
أحكام الإسلام عليهم» تبعا للنسخ الخطية ، وفي المطبوعة «المسلمين» بدل «الإسلام» (10)
ـ جاء في العبارة ص 188 ص 3 : «انه لا تحاصص بينهما» تبعا للنسخ ، والصحيح ظاهر
التشديد.
(11) ـ ما أورده (قدسسره) ص 243 عن
الدروس عن علي بن يقطين أورده الشيخ (قدسسره) في التهذيب ج
5 ص 461 وفيه «سبعمائة» بدل «تسعمائة» وليس فيه لفظ «دينار».
(12) ـ العبارة في الصفحة 288 بعد نهاية موثق حكم بن
حكيم الوارد في الصفحة 287 هكذا : «قال في الوافي ذيل هذا الخبر : واما إذا كان
صرورة فإنما أجزأ الى ان أيسر كما في اخبار أخر» وقد سقطت هذه العبارة في هذه
الطبعة غفلة.
(13) ـ ورد في حديث إسحاق بن عمار ص 289 و 290 عقيب السؤال الأول في نسخ الحدائق ـ كما في الوافي باب (التبرع بالحج أو ببعضه) ـ هكذا : «قال : نعم. قلت : فينقص ذلك من اجره». وفي الكافي ج 4 ص 315 والوسائل هكذا : «قال : قلت : فينقص ذلك من اجره» بدون لفظ : «نعم» كما ورد في هذه الطبعة.
(14) ـ أورد (قدسسره) في الصفحة
299 حديثا عن محمد بن الحسين كما في نسخ الحدائق وكما في الاستبصار ج 2 ص 319. وفي
التهذيب ج 5 ص 408 والوسائل والوافي باب (من اوصى بحج) «عن محمد بن الحسن». وكذا
أورد حديثا آخر في نفس الصفحة عن محمد بن الحسين بن ابي خالد كما في نسخ الحدائق
والاستبصار ج 2 ص 319 وج 4 ص 137 والوسائل والوافي باب (من اوصى بحج) إلا انه في التهذيب
ج 9 ص 226 «عن محمد بن الحسن بن ابي خالد» وقد أوردناه في هذه الطبعة كذلك. وفي
جامع الرواة بعد ذكر محمد ابن الحسن بن ابي خالد القمي الأشعري ج 2 ص 89 ذكر ص 99
محمد بن الحسين الأشعري ثم قال : الظاهر انه ابن الحسن بن ابي خالد الأشعري
المتقدم. الى آخر كلامه.
(15) ـ ورد حديث منصور الصيقل في الصفحة 311 عن الكافي
والفقيه واللفظ فيه يوافق ما ورد في التهذيب ج 5 ص 24 عن الكليني ، وفي الكافي ج 4
ص 291 «مفرد» بدل «مقرن» وفي الفقيه ج 2 ص 203 لم يذكر شيئا من اللفظين واقتصر على
عنوان «سائق الهدي» ثم ذكر ان السائق هو القارن.
(16) ـ علقنا على ما نقله (قدسسره) من التذكرة
من قول أبي حنيفة في حاضري المسجد الحرام ص 325 بعبارة بدائع الصنائع في فقه
الحنفية بما يظهر منه المنافاة للمنقول ، ووجدنا بعد ذلك المنقول من التذكرة في
بداية المجتهد ج 1 ص 322.
(17) ـ جاء في صحيحة زرارة الواردة ص 357 و 358 هكذا : «كيف
أتمتع؟ فقال : يأتي الوقت ...» وقد أورد تمام الحديث ص 397 و 398 واللفظ في
التهذيب هكذا : «قلت : فكيف أتمتع؟ فقال : يأتي الوقت ...» وفي الوافي باب (أصناف
الحج والعمرة وأفضلهما) هكذا : «قلت : وكيف يتمتع؟ ...».
(18) ـ جاء في صحيح عبد الرحمن بن الحجاج ص 431 في نهاية
ما أورد منه هكذا : «فيشعثوا به أياما» تبعا للوافي باب (ميقات المجاور بمكة
والقريب منها وحكم الصبيان) وفي الكافي ج 4 ص 300 و 301 هكذا : «وان يستغبوا به
أياما» وهكذا في الوسائل الباب 9 من أقسام الحج.
(19) ـ نقل (قدسسره) ص 436 من
المصباح المنير عبارة في تفسير «النجد» والموجود في المصباح في مادة «نجد» بعض تلك
العبارة. ويمكن ان يكون قد نقلها ممن نقلها من المصباح ولم يراجع المصباح بنفسه.
(20) ـ نقل (قدسسره) ص 436 من
القاموس عبارة في تفسير «نجد» ليست كلها في القاموس في مادة «نجد» ويمكن ان يكون
قد نقلها من الوافي واختلطت عبارة الوافي بعبارة القاموس ، فان صاحب الوافي قال في
باب (مواقيت الإحرام) بعد نقل حديث الحلبي من الكافي والفقيه : بيان : النجد في
الأصل ما ارتفع من الأرض وهو اسم لما دون الحجاز من ما يلي العراق ، أعلاه تهامة
واليمن وأسفله العراق والشام واوله من جهة العراق ذات عرق. كذا حده في القاموس.
فنسب العبارة كلها الى القاموس.
(21) ـ ذكر (قدسسره) في الصفحة 447 ان من الاخبار ـ الدالة على ان من كان منزله أقرب الى مكة من المواقيت فميقاته منزله ـ صحيحة معاوية بن عمار المتقدمة في أول البحث. ثم قال : «وقال الشيخ بعد إيراد صحيحة معاوية بن عمار المذكورة : وفي حديث آخر ...» ولا يخفى أن لمعاوية بن عمار صحيحتين في المورد : إحداهما المتقدمة في أول البحث ص 434 وقد أوردها الشيخ (قدسسره) في التهذيب ج 5 ص 54 وفي الوافي باب (مواقيت الإحرام) وفي الوسائل الباب 1 والباب 17 رقم 8 من المواقيت ، والثانية أوردها الشيخ في التهذيب ج 5 ص 59 وذكر بعدها الحديث الآخر ، وفي الوافي باب (ميقات المجاور بمكة والقريب منها وحكم الصبيان) وفي الوسائل الباب 17 رقم 1 من المواقيت. ويمكن ان يكون قد ذكرها (قدسسره) هنا وسقطت من قلم النساخ (22) ـ جاء في الصفحة 455 و 456 في عبارة ابن إدريس ذكر «ابن العصار الفوهي» وقد ورد ذكره في معجم الأدباء ج 14 ص 10 ووفيات الأعيان ج 3 ص 427 إلا انه في الثاني ضبطه بالقاف فقال : «ابن القصار» ولم ترد كلمة «الفوهى» فيهما وانما الذي فيهما انه «رقى» من بلد «الرقة فيمكن ان يكون أبدلت كلمة «الرقى» في قلم النساخ بكلمة «الفوهي».
(23) قد توجد كلمات في الطبعة القديمة تغاير النسخ الخطية وقد أوردنا بعضا منها بما يوافق المخطوط بمقتضى مناسبات المقامات وأبقينا بعضا منها لعدم الجدوى في التغيير.