ج11 - شروط صلاة المسافر

المقصد الرابع

في صلاة المسافر

لا خلاف نصا وفتوى في سقوط أخيرتي الرباعية في السفر الجامع للشرائط الآتية ، وكذا لا خلاف في سقوط نافلتها إلا الوتيرة فان المشهور سقوطها والأظهر العدم ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في مقدمات هذا الكتاب.

روى الصدوق (عطر الله مرقده) في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم (1) انهما قالا : «قلنا لأبي جعفر عليه‌السلام ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال ان الله عزوجل يقول «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» (2) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر. قالا قلنا إنما قال الله عزوجل (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ)» ولم يقل «افعلوا» فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال عليه‌السلام أو ليس قد قال الله عزوجل «إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما» (3) ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لان الله عزوجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ وكذلك التقصير شي‌ء صنعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وذكره الله في كتابه. قالا قلنا فمن صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال ان كان قد قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا اعادة عليه. والصلاة كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر ثلاث ركعات. وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وأفطر فصارت سنة. وقد سمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قوما صاموا حين أفطر «العصاة» قال فهم العصاة إلى يوم القيامة وانا لنعرف أبناءهم وأبناء أبنائهم إلى يومنا هذا».

__________________

(1) الفقيه ج 1 ص 278 وفي الوسائل الباب 22 و 17 و 1 من صلاة المسافر.

(2) سورة النساء الآية 102.

(3) سورة البقرة الآية 153.


وروى الصدوق في كتاب الخصال بسنده عن الأعمش عن الصادق عليه‌السلام (1) في حديث قال : «ومن لم يقصر في السفر لم تجز صلاته لانه قد زاد في فرض الله عزوجل».

وروى في كتاب ثواب الأعمال بسنده فيه عن على بن ابى طالب عليه‌السلام (2) قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خياركم الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا».

ومنه في الصحيح عن محمد بن أحمد الأشعري رفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (3) قال : «من صلى في سفره أربع ركعات متعمدا فأنا الى الله عزوجل منه بري‌ء». وفي المقنع مرسلا مثله ومثل الخبر السابق (4).

وروى ثقة الإسلام عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (5) قال : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلا المغرب فان بعدها أربع ركعات. الحديث».

وعن سماعة في الموثق (6) قال : «سألته عن الصلاة في السفر قال ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء إلا انه ينبغي للمسافر أن يصلى بعد المغرب أربع ركعات. الخبر».

وروى الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (7) قال : «سألته عن الصلاة تطوعا في السفر قال لا تصل قبل الركعتين ولا بعدهما شيئا نهارا».

وعن حذيفة بن منصور في الصحيح عن ابى جعفر وابى عبد الله (عليهما‌السلام) (8) انهما قالا : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شي‌ء».

__________________

(1) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر.

(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 22 من صلاة المسافر.

(5 و 6) الوسائل الباب 24 من أعداد الفرائض.

(7 و 8) الوسائل الباب 21 من أعداد الفرائض.


وعن أبي يحيى الحناط (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صلاة النافلة بالنهار في السفر قال يا بنى لو صلحت النافلة في السفر تمت الفريضة».

وأما ما ورد في شواذ الأخبار (2) ـ من قضاء صلاة النهار في السفر بالليل ـ فحمله الشيخ على محامل بعيدة والأقرب خروجه مخرج التقية (3).

إذا عرفت ذلك فاعلم ان البحث في هذا المقصد يقع في مطلبين الأول ـ في شروط هذه الصلاة وهي على ما صرح به الأصحاب ستة إلا انها في التحقيق ـ وبه نطقت النصوص ـ سبعة.

الأول ـ اعتبار المسافة والكلام هنا يقع في مقامين الأول : أجمع العلماء من الخاصة والعامة على ان المسافة شرط في التقصير (4) وانما الخلاف في قدرها ، فذهب علماؤنا أجمع (رضوان الله عليهم) الى ان القصر انما يجب في مسيرة يوم تام بريدين ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا ، حكى إجماعهم على ذلك المحقق في المعتبر وغيره في غيره.

ويدل عليه من الأخبار صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم المتقدمة (5) وما رواه

__________________

(1) الوسائل الباب 21 من أعداد الفرائض.

(2) الوسائل الباب 22 من أعداد الفرائض.

(3) لم نقف على المسألة بعنوانها في كتبهم نعم في المغني ج 2 ص 294 قال أحمد أرجو ان لا يكون بالتطوع في السفر بأس ، وروى عن الحسن قال كان أصحاب رسول الله (ص) يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها ، روى ذلك عن عمر وعلى وابن مسعود وجابر وانس وابن عباس وابى ذر وجماعة من التابعين كثير ، وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وابى ثور وابن المنذر ، وكان ابن عمر لا يتطوع مع الفريضة قبلها ولا بعدها إلا من جوف الليل ونقل ذلك عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعلى بن الحسين.

(4) في عمدة القارئ ج 3 ص 531 «اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة.» والظاهر منه ان اعتبار المسافة اتفاقي.

(5) ص 296.


الشيخ في الصحيح عن أبي أيوب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن التقصير فقال في بريدين أو بياض يوم».

وعن على بن يقطين في الصحيح (2) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام الأول عن الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم قال يجب عليه التقصير إذا كان مسيرة يوم وان كان يدور في عمله».

وعن ابى بصير في الصحيح (3) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في كم يقصر الرجل؟ قال في بياض يوم أو بريدين».

وعن عبد الله بن يحيى الكاهلي في الحسن (4) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في التقصير في الصلاة قال بريد في بريد أربعة وعشرون ميلا».

وعن سماعة في الموثق (5) قال : «سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ قال في مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ. الحديث».

وعن عيص بن القاسم في الحسن أو الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام (6) قال : «في التقصير حده أربعة وعشرون ميلا».

وروى الصدوق بسند معتبر عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام (7) قال «وانما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم. قال : ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره».

وأما ما رواه الصدوق في الصحيح عن زكريا بن آدم (8) ـ «انه سأل أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن التقصير في كم يقصر الرجل إذا كان في ضياع أهل بيته وامره جائز فيها يسير في الضياع يومين وليلتين وثلاثة أيام ولياليهن؟ فكتب : التقصير في مسيرة يوم وليلة».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن احمد بن محمد بن ابى نصر عن

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7 و 8) الوسائل الباب 1 من صلاة المسافر.


ابى الحسن الرضا عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن الرجل يريد السفر في كم يقصر؟ قال في ثلاثة برد».

وعن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «لا بأس للمسافر ان يتم في السفر مسيرة يومين». ـ

فالظاهر حملها على التقية كما أجاب به الشيخ عن الخبرين الأخيرين حيث قال انهما غير معمول عليهما لموافقتهما العامة. وهكذا ينبغي أن يقال في الخبر الأول.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى أقوال العامة في اعتبار المسافة وعدمها وقدرها كما ذكره بعض مشايخنا المحدثين من متأخري المتأخرين.

فنقول : اعلم ان بعضا منهم لم يشترط مسافة مخصوصة بل ذهب الى انه متى صدق عليه اسم المسافر فله القصر ، ونقل ذلك عن داود ومحمد بن لحسن. والمشهور اعتبار المسافة لكن اختلفوا في قدرها فنقلوا عن دحية الكلبي انها فرسخ ، ونقل عن بعض قدمائهم انها روحة أي ثمانية فراسخ ، وعن آخر انها يوم وليلة ، وعن بعض مسيرة ثلاثة أيام ، ونسب هذا الى ابى حنيفة وجماعة (3) وستأتي هذه الأقوال الثلاثة في مرسلة محمد بن يحيى الخزاز ، ومن هنا يعلم ان ما دل عليه صحيح زكريا بن آدم المذكور من التقدير بيوم وليلة موافق لبعض أقوالهم كما عرفت. وعن جمع منهم أنها ثلاثة برد يعني اثنى عشر فرسخا (4) ومنه يعلم ان ما تضمنه صحيح البزنطي من تفسيرها بذلك فإنه موافق لهذا القول. وعن جملة منهم الشافعي ومالك كونها مسيرة يومين عبارة عن ستة عشر فرسخا (5) ومنه يعلم ان ما اشتملت عليه رواية أبي بصير من تحديدها بيومين فإنها خرجت مخرج هذا القول.

إذا عرفت ذلك فتحقيق الكلام في هذا المقام يتوقف على بسطه في موارد : أولها ـ قد عرفت ان المسافة الموجبة للتقصير ثمانية فراسخ ، والفرسخ عندهم ثلاثة

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 1 من صلاة المسافر.

(3 و 4 و 5) عمدة القارئ ج 3 ص 531 والمجموع للنووي ج 4 ص 325.


أميال والميل أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا والإصبع سبع شعيرات عرضا وقيل ست والشعيرة سبع شعرات من شعر البرذون.

اما ان الفرسخ ثلاثة أميال فهو اتفاقي بينهم وعليه تدل الأخبار ، واما ان الميل أربعة آلاف ذراع فهو المشهور في كلامهم من غير خلاف يعرف.

قالوا : وفي كلام أهل اللغة دلالة عليه حيث قال في القاموس : الميل قدر مد البصر ومنار يبنى للمسافر أو مسافة من الأرض متراخية بلا حد أو مائة ألف إصبع إلا أربعة آلاف إصبع أو ثلاثة أو أربعة آلاف ذراع بحسب اختلافهم في الفرسخ هل هو تسعة آلاف بذراع القدماء أو اثنا عشر ألفا بذراع المحدثين. انتهى.

وقال احمد بن محمد الفيومي في كتاب المصباح المنير : الميل بالكسر في كلام العرب مقدار مد البصر من الأرض قاله الأزهري ، والميل عند القدماء من أهل الهيئة ثلاثة آلاف ذراع وعند المحدثين أربعة آلاف ذراع ، والخلاف لفظي فإنهم اتفقوا على ان مقداره ست وتسعون ألف إصبع ، والإصبع سبع (1) شعيرات بطن كل واحدة إلى ظهر الأخرى» ولكن القدماء يقولون الذراع اثنتان وثلاثون إصبعا والمحدثون يقولون اربع وعشرون إصبعا ، فإذا قسم الميل على رأى القدماء كل ذراع اثنين وثلاثين كان المتحصل ثلاثة آلاف ذراع ، وان قسم على رأى المحدثين أربعا وعشرين كان المتحصل أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عند الكل ثلاثة أميال. انتهى.

أقول : ومن هذا الكلام يمكن أن يستنبط وجه جمع بين التقدير المشهور بالأربعة آلاف ذراع وبين ما يأتي في رواية الكليني من ثلاثة آلاف وخمسمائة بأن يكون الاختلاف مبنيا على اختلاف الأذرع.

وقال السيد السند في المدارك : أما الميل فلم نقف في تقديره على رواية من طرق الأصحاب سوى ما رواه ابن بابويه مرسلا عن الصادق عليه‌السلام (2) انه ألف وخمسمائة ذراع. وهو متروك. انتهى. والظاهر انه من هنا قال المحقق في الشرائع

__________________

(1) في المصباح ج 2 ص 155 «ست».

(2) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.


أربعة آلاف ذراع بذراع اليد الذي طوله أربعة وعشرون إصبعا تعويلا على المشهور بين الناس ، أو مد البصر من الأرض.

أقول : روى ثقة الإسلام في الكافي في الصحيح عن ابن ابى عمير عن بعض أصحابه عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سئل عن حد الأميال التي يجب فيها التقصير فقال أبو عبد الله عليه‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل حد الأميال من ظل عير الى ظل وعير ، وهما جبلان بالمدينة ، فإذا طلعت الشمس وقع ظل عير الى ظل وعير وهو الميل الذي وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه التقصير».

وروى في الكتاب المذكور ايضا عن محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن يحيى الخزاز عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «بينا نحن جلوس وابى عند وال لبني أمية على المدينة إذ جاء ابى فجلس فقال كنت عند هذا قبيل فسألهم عن التقصير فقال قائل منهم في ثلاث وقال قائل منهم في يوم وليلة وقال قائل منهم روحة فسألني فقلت له ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كم ذاك؟ قال في بريد. قال وأي شي‌ء البريد؟ قال ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير. قال ثم عبرنا زمانا ثم رأى بنو أمية يعملون اعلاما على الطريق وأنهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر عليه‌السلام فذرعوا ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير ثم جزاؤه على اثنى عشر ميلا فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كل ميل فوضعوا الأعلام ، فلما ظهر بنو هاشم غيروا أمر بنى أمية غيرة لان الحديث هاشمي فوضعوا الى جنب كل علم علما».

وهذا الخبر كما ترى واضح الدلالة على ان الميل شرعا عبارة عن ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع ، والعجب من غفلة السيد (قدس‌سره) عنه.

قال المحدث الكاشاني في الوافي بعد نقل هذا الخبر أو لا ثم نقل حديث الفقيه ثانيا ما صورته : تقدير الميل في هذا الحديث بألف وخمسمائة ذراع ينافي

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.


تقديره في الحديث السابق بثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع مع ان القصة واحدة فقد تطرق السهو الى أحد الحديثين ، والظاهر ان السهو في الثاني لأن الأول أقرب الى ما هو المشهور في تقديره بين الأصحاب وهو الأربعة آلاف ذراع والى ما قدره به أهل اللغة. إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

أقول : والخبر المذكور في الفقيه (1) بهذه الصورة «قال الصادق عليه‌السلام ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كم ذلك؟ فقال في بريد. قال وكم البريد؟ قال ما بين ظل عير إلى في‌ء وعير. فذرعته بنو أمية ثم جزاؤه على اثنى عشر ميلا فكان كل ميل ألفا وخمسمائة ذراع وهو أربعة فراسخ».

ثم انه من ما يؤيد ما ذكره في الوافي من تطرق السهو الى حديث الفقيه ما هو محسوس من البعد ما بين ظل الجبلين ، فإنه أزيد من فرسخ ونصف بكثير ، على انه لا بعد في مثل هذا السقوط فقد تقدم التنبيه على أمثال ذلك في كثير من المواضع.

وأما تقدير الإصبع بسبع شعيرات والشعيرة بسبع شعرات فهو مأخوذ من كلام بعض أهل اللغة. إلا ان الظاهر ان أمثال هذه الأمور في الشرع تقريبية لا تتوقف على هذه التدقيقات فان الذراع معروف بين عامة الناس ، نعم لا بد من البناء على مستوي الخلقة كما جروا عليه في غير موضع من الأحكام إذ هو الفرد الذي يحمل عليه الإطلاق.

وثانيها ـ المستفاد من الأخبار المتقدمة ان المسافة تعلم بأمرين (أحدهما) مسير يوم ، و (ثانيهما) الأذرع.

والمراد باليوم على ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) يوم الصوم ، ويدل عليه ما تقدم في صحيحة أبي أيوب من قوله عليه‌السلام «في بريدين أو بياض يوم» ونحوه قوله في صحيحة أبي بصير أيضا «في بياض يوم أو بريدين»

والمراد بالسير فيه ما هو المتعارف الغالب من سير الإبل القطار وسير عامة

__________________

(1) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.


الناس فإنه الذي يحمل عليه الإطلاق مضافا الى ما صرحت به الأخبار :

ومنها ـ ما تقدم في رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام من قوله «لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال».

ومنها ـ قول الصادق عليه‌السلام في حسنة الكاهلي المتقدمة (1) زيادة على ما قدمناه منها «ثم قال ابن ابى كان يقول ان التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابة الناجية وانما وضع على سير القطار». أقول : قال الجوهري يقال بغلة سفواء بالسين المهملة خفيفة سريعة وقال أيضا : الناجية الناقة السريعة ينجو من ركبها.

وفي رواية عبد الرحمن بن الحجاج (2) قال : «قلت له كم ادنى ما تقصر فيه الصلاة؟ فقال جرت السنة ببياض يوم. فقلت له ان بياض يوم يختلف فيسير الرجل خمسة عشر فرسخا في يوم ويسير الآخر أربعة فراسخ في يوم؟ فقال انه ليس الى ذلك ينظر اما رأيت سير هذه الأثقال بين مكة والمدينة؟ ثم أومأ بيده أربعة وعشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ».

وبما دلت عليه هذه الاخبار قد صرح أيضا أصحابنا (رضوان الله عليهم من غير خلاف يعرف.

واعتبر الشهيدان اعتدال الوقت والسير والمكان ، قال في المدارك : وهو جيد بالنسبة إلى الوقت والسير ، اما المكان فيحتمل قويا عدم اعتبار ذلك فيه لإطلاق النص وان اختلفت كمية المسافة في السهولة والحزونة. انتهى.

أقول : ما ذكره من الاحتمال لإطلاق النص مع اعترافه باختلاف كمية المسافة في السهولة والحزونة يجري في الوقت أيضا ، فإن النصوص مطلقة شاملة بإطلاقها لجميع الأوقات ، فقصير النهار وطويله من ما تختلف به الكمية أيضا ، فلا وجه لتسليمه لهما ذلك في الوقت ومناقشته في المكان. وبالجملة فإن غاية ما يستفاد من النصوص هو اعتدال السير كما عرفت وما عداه فلا ، فان حمل إطلاق النصوص على الحد الأوسط

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 1 من صلاة المسافر.


بين طرفي الزيادة والنقصان والإفراط والتفريط ليكون ضابطا كليا لا يختلف بالزيادة والنقصان ففي الجميع وإلا فلا معنى لتسليم ذلك في فرد والمناقشة في الآخر. والى ما ذكرنا يشير كلام جده في الروض حيث قال : ولما كان ذلك يختلف باختلاف الأرض والأزمنة والسير حمل على الوسط في الثلاثة. انتهى. وهو جيد

وثالثها ـ لا خلاف ولا إشكال في الاكتفاء بالسير كما تكاثرت به الأخبار ، وكذا لا إشكال في ما لو اعتبرت المسافة بالتقدير فوافق السير.

إنما الإشكال في ما لو اختلفا فهل يتخير في العمل على أيهما كان ولزوم القصر ببلوغ المسافة بأحدهما أو انه يقدم السير لأنه أضبط أو يقدم التقدير؟ احتمالات استظهر أولها في المدارك ، والظاهر ان وجهه ورود النصوص بكل منهما.

واحتمل في الروض تقديم السيرة ، قال : لأن دلالة النص عليه أقوى إذ ليس لاعتبارها بالأذرع على الوجه المذكور نص صريح بل ربما اختلفت فيه الأخبار وكلام الأصحاب ، وقد صنف السيد السعيد جمال الدين احمد بن طاوس كتابا مفردا في تقدير الفراسخ وحاصله لا يوافق المشهور ، ولأن الأصل الذي اعتمد عليه المصنف وجماعة في تقدير الفرسخ يرجع الى اليوم ، لأنه استدل عليه في التذكرة بأن المسافة تعتبر بمسير اليوم للإبل السير العام وهو يناسب ذلك. انتهى. ويظهر من الذكرى تقديم التقدير ولعله لانه تحقيق والآخر تقريب.

أقول : لا ريب ان الاعتبار بكل منهما جيد بالنظر الى دلالة النصوص المتقدمة عليهما ، إلا ان الإشكال في التقدير من حيث الاختلاف في تفسير الفرسخ كما عرفت من اضطراب كلامهم في الميل ، والرجوع الى الاحتياط بالجمع بين القصر والإتمام في موضع الاشتباه طريق السلامة. والله العالم.

ورابعها ـ قد صرح غير واحد من الأصحاب رضوان الله عليهم ان مبدأ التقدير من آخر خطة البلد في المعتدل وآخر محلته في المتسع. ولم أقف له على دليل. وقيل مبدأ التقدير مبدأ سيره بقصد السفر.


وخامسها ـ قال في الذكرى : لو قصد مسافة في زمان يخرج به عن اسم المسافر كالسنة فالأقرب عدم القصر لزوال التسمية. ومن هذا الباب لو قارب المسافر بلده فتعمد ترك الدخول اليه للترخص ولبث في قرى تقاربه مدة يخرج بها عن اسم المسافر. ولم أقف في هذين الموضعين على كلام لأصحاب وظاهر النظر يقتضي عدم الترخص.

قال في المدارك بعد نقل ذلك : هذا كلامه (قدس‌سره) ويمكن المناقشة في عدم الترخص في الصورة الثانية بأن السفر بعد استمراره الى انتهاء المسافة فإنما ينقطع بأحد القواطع المقررة من نية الإقامة أو التردد ثلاثين يوما أو الوصول الى الوطن وبدونه يجب البقاء على حكم القصر. أما ما ذكروه من عدم الترخص في الصورة الأولى فجيد لان التقصير انما يثبت في السفر الجامع لشرائط القصر فمتى انتفى السفر أو أحد شرائطه قبل انتهاء المسافة انتفى التقصير. انتهى.

أقول : حاصل كلام السيد (قدس‌سره) يرجع الى منع دخول هذه الصورة المفروضة في كلامه تحت القاعدة التي قدمها في صدر الكلام ، حيث انه سلم له ما ذكره في تلك القاعدة وناقش في الصورة المذكورة بزعم انها ليست من قبيل ما ذكره أولا ، لحصول الاستمرار على قصد السفر الى انتهاء المسافة في هذه الصورة فلا ينقطع إلا بأحد القواطع المقررة بخلاف ما قدمه من القاعدة للخروج عن اسم المسافر بهذا القصد الذي قصده.

وأنت خبير بأنه يمكن الجواب بان ما ذكره ـ من أن السفر بعد استمراره الى انتهاء المسافة فإنما ينقطع بأحد القواطع المذكورة ـ جيد بالنسبة إلى السفر المتعارف المتكرر ، أما بالنسبة الى هذا الفرد النادر ـ وهو انه بعد قربه من البلد ترك الدخول فيه لقصد بقائه على التقصير وبقي مترددا في تلك القرى على وجه يخرج به عن كونه مسافرا ـ فان دخوله تحت حكم المسافر الذي ذكره بعيد ، فإنه وان وجب عليه التقصير في مدة سفره إلا انه بعد أن قصد هذا القصد الآخر بتأخره عن الدخول


وتردده في تلك القرى على وجه يخرج عن كونه مسافرا فلا يبعد أن يكون حكمه حينئذ هو التمام كما ذكره شيخنا المذكور ويكون هذا من قبيل القواطع الثلاثة المذكورة ، ولا فرق بين هذا الفرد المذكور وبين ما ذكره أولا إلا باعتبار ان الأول قصد التطويل في المسافة بزمان يخرج به عن اسم المسافر في أول الأمر وهذا انما تجدد له هذا القصد بعد أن حصلت المسافة ووجب التقصير عليه مدة سفره ، فالواجب على الأول التمام من أول الأمر لأن قصده الذي قصده من أول الأمر موجب لخروجه عن اسم المسافر فلا يكون حكمه التقصير ، والواجب على الثاني هو التقصير مدة سفره وأما بعد تجدد هذا القصد الأخير على الوجه المذكور فإنه لخروجه به عن اسم المسافر يزول عنه حكم التقصير ويجب عليه الإتمام. والظاهر ان بناء كلام شيخنا المذكور (قدس‌سره) على ما ذكرناه وإلا فهو لا يخفى عليه ان السفر بعد ثبوته لا ينقطع إلا بأحد القواطع الثلاثة المذكورة ، ولكن هذا قد خرج عن كونه مسافرا بما قصده وفعله فلا يدخل تحت المسافر المتصف بالسفر المعروف المتكرر الذي وردت فيه الأخبار بأنه لا ينقطع سفره إلا بأحد القواطع. والله العالم.

وسادسها ـ قال في المنتهى : لو كان مسافرا في البحر كان حكمه حكم المسافر في البر من اعتبار المسافة سواء قطعها في زمان طويل أو قصير ، لا نعرف فيه خلافا. انتهى.

وهو كذلك لأن وجوب التقصير ترتب على قصد المسافة التي قد ورد اعتبارها بالتقدير المتقدم ذكره وهي ثمانية فراسخ ، وحينئذ فمتى قصد هذه المسافة في بر أو بحر فلا فرق بين ان يقطعها في ساعة أو يوم أو أكثر ما لم يتطاول الزمان على الوجه المتقدم في سابق هذا المورد. ومثل السفر في البحر السفر في البر من البريد الحثيث كما هو معمول الآن في بلاد العجم بحيث يقطع مسير اليوم في ربع نهار أو أقل

وسابعها ـ قال في المدارك : انما يجب التقصير مع العلم ببلوغ المسافة بالاعتبار


أو الشياع أو شهادة العدلين ومع انتفاء الأمرين يجب الإتمام. وفي وجوب الاعتبار مع الشك إشكال منشأه أصالة البراءة وتوقف الواجب عليه. ولو سافر مع الجهل ببلوغ المسافة ثم ظهر ان المقصد مسافة وجب التقصير حينئذ وان قصر الباقي عن مسافة ، ولا يجب عليه اعادة ما صلاة تماما قبل ذلك لأنها صلاته المأمور بها فكانت مجزئة. انتهى.

أقول : أما ما ذكره ـ من توقف وجوب التقصير على العلم ببلوغ المسافة بأحد الوجهين ومع عدمه يجب الإتمام ـ فهو من ما لا ريب فيه ولا إشكال ، لأن العلم ببلوغ المسافة شرط في وجوب التقصير كما عرفت والمشروط عدم عند عدم شرطه. والحكم المذكور مقطوع به في كلام الأصحاب.

وبذلك يظهر ان ما أطال به في الذخيرة ـ من الاستدلال على ذلك بما ذكره ثم المناقشة في ذلك ـ من ما لا طائل تحته ، على انها لا تقصر عن التأييد لما ذكرناه ، ومنها قول ابى جعفر عليه‌السلام في صحيح زرارة (1) «لا تنقض اليقين بالشك ابدا». بناء على ان الحكم الثابت أصالة هو الإتمام والقصر مشكوك فيه مع الجهل ببلوغ المسافة أو الشك فيها للشك في سببه وهو واضح. وما ذكره ـ من ان الاستدلال بالخبر المذكور لا يصفو عن المنازعة ـ لا أعرف له وجها بعد ما عرفت.

وأما ما ذكره في المدارك ـ من الإشكال في وجوب الاعتبار مع الشك ـ فهو في محله.

وأما ما ذكره ـ من انه لو سافر مع الجهل ببلوغ المسافة ثم ظهر ان المقصد مسافة فإنه يجب التقصير حينئذ وان قصر الباقي عن مسافة ـ فهو عندي محل اشكال وان كان قد تقدمه في ذلك الشهيد في الذكرى ، لان من جملة الشروط ـ كما سيأتي ان شاء الله تعالى ـ قصد المسافة وهو السفر الشرعي وهذا في حال خروجه والحال هذه لم يحصل له هذا القصد ، ولهذا ان فرضه التمام وقد صلى تماما بناء على ذلك فهو

__________________

(1) الوسائل الباب 1 من نواقض الوضوء و 37 و 41 و 44 من النجاسات.


حاضر غير مسافر ، وقصد السفر بعد ظهور كون المقصد مسافة مع نقصان الباقي عن المسافة غير مجد ولا مسوغ للقصر لعدم المسافة في الباقي ، والبناء على ما مضى مع عدم نية قصد المسافة فيه مشكل كما عرفت. وما نحن فيه في الحقيقة مثل طالب الآبق والحاجة الذي سار مسافة أو أقل من غير قصد المسافة ثم ظهر له ان حاجته في مكان يقصر عن المسافة الشرعية ، فإنه لا ريب ولا إشكال في انه يتم في سفره المذكور بعد خروجه وبعد ظهور كون حاجته في محل كذا من ما يقصر عن المسافة ، ولا يضم ما تقدم الى هذه المسافة الباقية ويجب عليه التقصير حينئذ بل الواجب عليه هو الإتمام. نعم متى أراد الرجوع فان الواجب عليه التقصير ان بلغ المسافة وهو شي‌ء آخر. وبالجملة فإن ما ذكره هنا غير خال عندي من الاشكال.

ثم ان ظاهره في الذخيرة المناقشة في شهادة العدلين في هذا المقام مدعيا انه لا يعلم نصا يدل على ان شهادة العدلين متبعة كلية.

وفيه انه وان كان ما ذكره ـ من عدم وجود نص دال على وجوب العمل بشهادة العدلين في كل أمر ـ كذلك إلا ان جملة من النصوص المعتبرة كما قدمناه في باب التطهير من النجاسات من كتاب الطهارة قد دلت على العمل بخبر العدل الواحد بل انه مفيد للعلم وان لم يسم ذلك شهادة ، وحينئذ لا ريب في قبول خبر العدلين هنا ولا اشكال

وثامنها ـ قال في الذكرى : لو كان لبلد طريقان أحدهما خاصة مسافة فسلك الأقرب أتم وان سلك الأبعد لعلة غير الترخص قصر ، وان كان للترخص لا غير فالأقرب التقصير للإباحة ، وقال ابن البراج يتم لأنه كاللاهي بصيده. ولو رجع قاصد الأقرب بالأبعد قصر في رجوعه لا غير. ولو رجع قاصد الأبعد بالأقرب قصر في ذهابه وإيابه. انتهى.

أقول : الظاهر ضعف ما ذكره ابن البراج لأن السفر بقصد الترخص غير محرم بل هو مباح ، وقياسه على اللاهي بصيده قياس مع الفارق مع ان القياس غير صحيح في مذهبنا ، وحينئذ فيجب عليه التقصير.


واما ما ذكره في الذكرى ـ من ان قاصد الأقرب متى رجع بالأبعد فإنه يتم في ذهابه ويقصر في رجوعه خاصة ـ فهو مبنى على ما هو المشهور بينهم من عدم ضم الذهاب إلى الإياب إلا في قصد الأربعة. وفيه ما سيأتي ان شاء الله تعالى في موضعه من أنه لا دليل عليه غير مجرد الشهرة بينهم.

وتاسعها ـ قال في الذخيرة : لو تردد يوما في ثلاثة فراسخ ذاهبا وجائيا ، فإن بلغ في الرجوع الى موضع سماع الأذان ومشاهدة الجدران فالظاهر انه لا خلاف في عدم القصر ، وان لم يبلغ فالمقطوع به في كلام أكثر الأصحاب انه لم يجز القصر وخالف فيه المصنف في التحرير ، واستدل على الأول بوجهين : (أحدهما) ان من هذا شأنه ينقطع سفره بالرجوع وان كان في رجوعه لم ينته الى الحد المذكور وإلا لزم القصر لو تردد في ثمانية فراسخ خمس مرات (1) وبان مقتضى الأصل لزوم الإتمام خرج منه قاصد الثمانية والأربعة التي لا تكون ملفقة من الذهاب والإياب لأنه المتبادر من اللفظ فيبقى الباقي على الأصل. وللتأمل في الوجهين طريق. انتهى.

أقول : الظاهر ان ما ذكره من هذا التفصيل والاستدلال في المقام وما وقع له فيه من النقض والإبرام من متفرداته (قدس‌سره) وتخريجاته ، ومقتضى ما صرح به الأصحاب هنا كالعلامة في المنتهى والشهيد في الذكرى هو ان التردد في ثلاثة فراسخ ذاهبا وجائيا غير موجب للقصر ثلاث مرات وأزيد بلغ محل الترخص أم لم يبلغ لعدم صدق المسافر عليه ، وهو التحقيق في المقام الذي لا يعتريه نقض ولا إبرام ، لأن وجوب التقصير تابع لصدق السفر مع استكمال شروطه. ومثل هذا لا يسمى مسافرا عرفا ولا شرعا.

قال في المنتهى : لو كانت المسافة ثلاثة فراسخ وتردد فيها ثلاث مرات لم

__________________

(1) في الذخيرة في التنبيه السابع من تنبيهات الشرط الأول هكذا : «ولو تردد في فرسخ واحد ثماني مرات».


يقصر ، لأنه بالعود انقطع سفره ، ولعدم الدليل على القصر مع وجود المقتضى لشغل الذمة.

وقال في الذكرى : ولو كان القصد زيادة على الأربعة فكالأربعة ، ولو نقص كالثلاثة يتردد فيها ثلاث مرات لم يترخص لخروجه عن اسم المسافر وإلا لزم تقصير المتردد في أقل من ميل وهو باطل. انتهى.

والجميع كما ترى ظاهر في ما قلناه واضح في ما نقلناه ، وبه يظهر ان ما ذكره مجرد توهم وخيال ضعيف ، فان ظهور عدم صدق المسافر على مثل هذا لا يمكن إنكاره عرفا ولا شرعا. والله العالم.

وعاشرها ـ لو تعارضت البينتان في المسافة بالنفي والإثبات ، قال في الذكرى : الأقرب العمل ببينة الإثبات لأن شهادة النفي غير مسموعة. وقال في المعتبر : أخذ بالمثبتة وقصر.

قال في المدارك بعد ذكر كلام المعتبر : وهو جيد مع إطلاق البينتين أما لو كان النفي متضمنا للإثبات كدعوى الاعتبار وتبين القصور فالمتجه تقديم بينة النفي لاعتضادها بأصالة التمام.

أقول : لا يخفى ما في الاعتضاد هنا بأصالة التمام من الإشكال لقيام البينة المثبتة للمسافة التي بالنظر إليها يجب التقصير شرعا والخروج عن هذا الأصل. والحق ان المسألة لا تخلو من الإشكال إلا أن يقال بالرجوع الى الترجيح بين البينتين قال في الذكرى : ولا يكفي إخبار الواحد بها ، ويحتمل الاكتفاء به إذا كان عدلا جعلا لذلك من باب الرواية لا من باب الشهادة.

أقول : ما ذكره من الاحتمال جيد لما أشرنا إليه قريبا من دلالة الأخبار على قبول قول الثقة وانه مفيد للعلم الشرعي.

ثم قال في الذكرى : فعلى هذا لو سافر اثنان أحدهما يعتقد المسافة والآخر لا يعتقدها فالظاهر ان لكل منهما أن يقتدى بالآخر لصحة صلاته بالنسبة إليه.


وقال في المدارك بعد ذكر التعارض بين البينتين : ويتعلق بكل من البينتين حكم ما يعتقده فيقصر المثبت ويتم النافي ، وفي جواز اقتداء أحدهما بالآخر وجهان من حكم كل منهما بخطإ الآخر ، ومن ان كلا من الصلاتين محكوم بصحتها شرعا لإتيان كل منهما بما هو فرضه فينتفى المانع من الاقتداء ، ورجح الشهيدان الجواز وهو حسن لكنهما منعا من الاقتداء مع المخالفة في الفروع ، والفرق بين المسألتين مشكل. انتهى.

أقول : قد قدمنا في بحث القبلة من التحقيق في هذا المقام ما يندفع به هذا الإشكال الذي ذكره (قدس‌سره) ومرجعه الى الفرق بين الأحكام الشرعية وموضوعاتها فيمتنع الاقتداء على الأول دون الثاني.

وأقول هنا : انه لا يخفى ان ما ذكروه من جواز الاقتداء في الصورة المذكورة ان أريد به الاقتداء في مجموع الصلاة ـ بحيث ان من فرضه منهما التمام يصلى قصرا وبالعكس كما هو الظاهر من كلامهم ، وقوله في الذكرى لأنها صحيحة بالنسبة اليه. وقوله في المدارك ان كلا من الصلاتين محكوم بصحتها شرعا. الى آخره ـ فالظاهر عدمه لأنها وان صحت من هذه الجهة التي ذكرها إلا ان هذا مكلف شرعا بالعمل بعلمه وما أدى اليه اعتقاده ، فلو تابع الإمام في صلاته قصرا أو تماما والحال ان اعتقاده خلاف اعتقاد الامام فقد خالف ما هو تكليفه شرعا ومأمور به من جهته سبحانه فكيف يجزئ عنه ، وان أريد به الاقتداء في ما يتفق معه فيه كاقتداء المسافر بالحاضر وبالعكس فالظاهر انه لا بأس به لما ذكروه من التعليل ، ولان هذا من باب موضوعات الأحكام الشرعية التي قد أشرنا إلى انه يجوز الاقتداء فيها مع الاختلاف من حيث ان صلاته صحيحة شرعية ، ونحن انما منعنا من الاقتداء في الفرض الأول من حيث مخالفته لما هو مكلف به شرعا لا من حيث حكمنا ببطلان صلاة الامام ، والفرق بحمد الله سبحانه ظاهر. فاشرب بكأس هذا التحقيق الذي هو بان يكتب بالنور على وجنات الحور جدير وحقيق ، ولا تكاد تجد مثل


هذه التحقيقات في غير كتبنا وزبرنا. ولله سبحانه الحمد والمنة والله الهادي لمن يشاء.

المقام الثاني ـ اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في ما لو كانت المسافة أربعة فراسخ فصاعدا الى ما دون الثمانية على أقوال :

أحدها ـ وهو المشهور سيما بين المتأخرين وبه صرح المرتضى وابن إدريس ـ انه يجب التقصير إذا أراد الرجوع ليومه والمنع من التقصير ان لم يرد الرجوع ليومه

وثانيها ـ ما ذهب اليه الصدوق (قدس‌سره) في الفقيه قال : إذا كان سفره أربعة فراسخ وأراد الرجوع من يومه فالتقصير عليه واجب وان كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع من يومه فهو بالخيار ان شاء أتم وان شاء قصر. ونحوه قال الشيخ المفيد ، ونقله الأصحاب عن والد الصدوق ايضا وسلار ، وبه صرح الشيخ في النهاية إلا انه منع من التقصير في الصوم ، فصار هذا قولا ثالثا.

وما ذهبوا اليه ظاهر في وجوب التقصير مع الرجوع ليومه كما هو المشهور والتخيير في ما لم يرد الرجوع ليومه خلافا للمشهور حيث أوجبوا التمام هنا حتما ، فهذا القول يوافق المشهور من جهة ويخالفه من اخرى.

وينبغي أن يعلم ان مرادهم بقولهم في صورة التخيير «ومن لم يرد الرجوع من يومه» انه أعم من أن لم يرد الرجوع بالكلية فالنفي متوجه الى القيد والمقيد ، أو أراد الرجوع ولكن في غير ذلك اليوم فالنفي متوجه الى القيد خاصة. وما ربما يتوهم من التخصيص بالصورة الثانية غلط محض كما لا يخفى على المتأمل.

وثالثها ـ ما ذهب إليه في النهاية من ما قدمنا الإشارة اليه.

ورابعها ـ ما نقله شيخنا الشهيد في الذكرى عن الشيخ في التهذيب والمبسوط وابن بابويه في كتابه الكبير وقواه من التخيير في قصد الأربعة بشرط الرجوع ليومه قال في الذكرى : واعلم ان الشيخ في التهذيب ذهب الى التخيير لو قصد أربعة فراسخ وأراد الرجوع ليومه ، وكذا في المبسوط وذكره ابن بابويه في كتابه الكبير ، وهو قوي لكثرة الأخبار الصحيحة بالتحديد بأربعة فراسخ فلا أقل من الجواز.


أقول : عبارة الشيخ في التهذيب هكذا : ان المسافر إذا أراد الرجوع من يومه فقد وجب عليه التقصير في أربعة فراسخ. ثم قال : ان الذي نقوله في ذلك انه انما يجب التقصير إذا كان مقدار المسافة ثمانية فراسخ وإذا كان أربعة فراسخ كان بالخيار في ذلك ان شاء أتم وان شاء قصر.

وأنت خبير بان ظاهر هذه العبارة العدول عن القول الأول الموافق للمشهور الى ان مجرد قصد الأربعة موجب للتخيير أراد الرجوع ليومه أم لا ، وحينئذ فما نقله عنه هنا من قوله بالتخيير بشرط الرجوع ليومه ان أراد من حيث عموم كلامه وشموله لهذا الفرد فهو مسلم إلا انه بعيد عن ظاهر عبارته ، وان أراد تخصيص عبارته بما ذكره فهو خلاف ظاهر كلام الشيخ كما عرفت.

واما عبارته في المبسوط فهي أيضا لا تساعد ما ادعاه حيث ان عبارة المبسوط هكذا : حد المسافة التي يجب فيها التقصير ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا ، فان كانت أربعة فراسخ وأراد الرجوع من يومه وجب ايضا التقصير وان لم يرد الرجوع من يومه كان مخيرا بين التقصير والإتمام. وهذه العبارة كما ترى صريحة الانطباق على ما قدمنا نقله عن الصدوق والشيخ المفيد وهو القول الثاني لا في ما ذكره وادعاه.

والعجب أن الأصحاب لم يتنبهوا لموافقة الشيخ للصدوق في هذا الكتاب بل خصوا ذلك بالنهاية مع منعه فيها التقصير في الصوم ، وهذه العبارة ظاهرة في الانطباق على ذلك القول من جميع جهاته. وأعجب من ذلك نقل شيخنا المشار اليه عن المبسوط ما ادعاه والحال ان العبارة كما ترى ، ولعل النقل عن ابن بابويه في كتابه الكبير من هذا القبيل.

وكيف كان فهو قول مرغوب عنه كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

وخامسها ـ ما ذهب اليه ابن ابى عقيل (قدس‌سره) حيث قال : كل سفر كان مبلغه بريدين وهو ثمانية فراسخ أو بريدا ذاهبا وبريدا جائيا وهو أربعة فراسخ في يوم واحد أو ما دون عشرة أيام فعلى من سافر عند آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يصلى


صلاة السفر ركعتين. والى هذا القول مال جملة من أفاضل متأخري المتأخرين وهو الظاهر عندي من الأخبار كما سيسفر عنه ان شاء الله تعالى صبح التحقيق أى اسفار

إلا ان عبارة الشيخ ابن ابى عقيل لا تخلو عن مسامحة أو غفلة ، وذلك فان الحق في هذا المقام أن يقال انه لا ريب أن المسافة الموجبة للتقصير انما هي ثمانية فراسخ لكنها أعم من أن تكون ممتدة في الذهاب خاصة أو ملفقة من الذهاب والإياب ، وحينئذ فمن قصد أربعة فراسخ مريدا للرجوع من غير ان يقطع سفره بإقامة العشرة ولا بالمرور على منزل يقطع سفره ولا مضى ثلاثين يوما مترددا فإنه يجب عليه التقصير ويصدق عليه ان مسافة سفره ثمانية فراسخ لان السفر لا خصوصية له بالذهاب خاصة. ونظيره من قصد ثمانية فراسخ وهي المسافة المتفق على وجوب التقصير فيها ثم اتفق جلوسه على رأس أربعة فراسخ أياما لبعض المطالب والأغراض ، فان جلوسه تلك المدة ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع المذكورة لا يخرجه عن كونه مسافرا ولا كون سفره ثمانية فراسخ. وحينئذ فإن كان ما ذكره ابن ابى عقيل في هذه العبارة من قوله : «أو ما دون عشرة أيام» إنما وقع على وجه التمثيل إشارة إلى انه يقصر ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع التي من جملتها العشرة أيام فهو يرجع الى ما ذكرناه ونسبته الى آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في محله ، لانه الظاهر من أخبارهم كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، وإلا كان هذا قولا آخر ولا وجه لنسبته إليهم صلوات الله عليهم) باعتبار التخصيص بالعشرة ، إذ يمكن ان يرجع بعد عشرين يوما ولم ينقطع سفره بإقامة العشرة في موضع.

وسادسها ـ ما ذهب اليه السيد السند (قدس‌سره) في المدارك من القول بالتخيير بمجرد قصد الأربعة أراد الرجوع أو لم يرد ، ونقله عن الشيخ في التهذيب وجده.

قال (قدس‌سره) بعد البحث في المسألة : وجمع الشيخ في كتابي الأخبار بين هذه الروايات بوجه آخر وهو تنزيل أخبار الثمانية على الوجوب واخبار


الأربعة على الجواز ، وحكاه بعض مشايخنا المعاصرين عن جدي (قدس‌سره) في الفتاوى ، ومال إليه في روض الجنان حتى انه استوجه كون القصر أفضل من الإتمام. ولا ريب في قوة هذا القول. ولا ينافي ما ذكرناه من التخيير رواية معاوية بن عمار المتضمنة لنهي أهل مكة عن الإتمام بعرفات (1) لأنا نجيب عنها بالحمل على الكراهة أو على ان النهى عن الإتمام على وجه اللزوم. انتهى.

وسابعها ـ ما ذهب اليه بعض فضلاء متأخري المتأخرين من وجوب التقصير مع قصد الأربعة مطلقا ونسبه مذهبا لثقة الإسلام الكليني في الكافي حكى ذلك بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين ، حيث قال بعد الكلام في المسألة وذكر أخبار الثمانية : ثم اختلفوا في نصف ذلك أي أربعة فراسخ على أقوال شتى ، فمنهم من ظاهر كلامه كالكليني ان الأربعة هي المسافة حيث لم يذكر ما سوى أحاديث الأربعة حتى ان بعض مشايخنا كان يدعى له هذا القول ويقويه استنادا الى عدم وجدان قائل بها من المخالفين (2) وجعل وجه الجمع بين هذه الأخبار واخبار الثمانية بأن المراد بهذه الأخبار أقل ما يتحقق به تحتم القصر وانه مستلزم للتحتم بالزائد أيضا كما هو ظاهر ، فيكون حينئذ تخصيص التعبير بالثمانية في اخبارها لأجل بعض المصالح كمراعاة التقية. انتهى كلام شيخنا المشار اليه. ثم انه (قدس‌سره) رجح كون اعتقاد الكليني التخيير في قصد الأربعة مطلقا.

أقول : لا يخفى ان حمل أخبار الأربعة على الوجوب ـ كما ذكره البعض المشار اليه وانه أقل ما يجب فيه التقصير ـ يدفعه ما اشتملت عليه جملة من أخبار الثمانية الفراسخ والبريدين من أنها أقل مسافة القصر وانه لا يقصر في ما دونها وان المناط

__________________

(1) ص 319 و 320.

(2) في المحلى ج 5 ص 8 عن شعبة قال : سمعت ميسرة بن عمران عن أبيه عن جده انه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربع فراسخ فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين.


في ذلك بياض يوم أو سير الإبل ونحو ذلك من ما اشتملت عليه الأخبار كما لا يخفى على من راجعها.

إذا عرفت ذلك فالكلام هنا يقع في موضعين الأول ـ في نقل أخبار المسألة كملا فنقول :

اعلم ان الأخبار المتعلقة بهذه المسألة على ثلاثة أقسام : الأول ـ ما اشتمل على تحديد المسافة بما علم مخالفته لمذهب الإمامية وهو موافقته لمذهب العامة كالأخبار الدالة على التحديد بفرسخ أو ثلاثة أبرد أو يوم وليلة ونحو ذلك ، وقد تقدم شطر منها في صدر المسألة الأولى ، وقد أوضحنا ثمة (1) خروجها مخرج التقية فلا حاجة الى ارتكاب التأويل فيها ولا نكلف الجواب عنها بعد ظهور ما قلناه فيها.

الثاني ـ الأخبار المشتملة على ما عليه اتفاق الإمامية من ثمانية فراسخ أو بريدين أو بياض يوم ، وقد مر منها صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم في صدر المقصد وتقدم في صدر المقام الأول صحيحة أبي أيوب وفيها بريدين أو بياض يوم وصحيحة على بن يقطين وفيها مسيرة يوم ، وصحيحة أبي بصير وفيها بياض يوم أو بريدين وحسنة الكاهلي وفيها بريد في بريد أربعة وعشرون ميلا ، وموثقة سماعة وفيها مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ ، وموثقة عيص بن القاسم أو حسنته وفيها حده أربعة وعشرون ميلا ، ورواية الفضل بن شاذان وفيها ثمانية فراسخ مسير يوم ، ومنها رواية صفوان الآتية ان شاء الله تعالى (2) في الموضع الثاني ، ومنها موثقة عبد الرحمن بن الحجاج المتقدمة في المورد الثاني من موارد المقام المتقدم ، الى غير ذلك من الأخبار التي لا ضرورة في التطويل بها مع الاتفاق على العمل بمضمونها.

الثالث ـ الأخبار المشتملة على التقصير في أربعة فراسخ أو بريد أو نحو ذلك التي هي محل الإشكال في المقام ومنفصل سهام النقض والإبرام.

وهذه الأخبار ايضا على ثلاثة أقسام : أحدها ـ ما ورد في التحديد

__________________

(1) ص 300.

(2) ص 326.


بالأربعة على الإطلاق من غير تقييد بالذهاب والإياب وغير ذلك بحيث يتبادر من ظواهرها التعارض بين إطلاقها وإطلاق أخبار الثمانية :

ومنها ـ مرسلة محمد بن يحيى الخزاز المتقدمة في صدر المسألة الأولى ومرسلة ابن ابى عمير المتقدمة ثمة أيضا.

وصحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (1) قال : «التقصير في بريد والبريد أربعة فراسخ».

وصحيحة زيد الشحام (2) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول يقصر الرجل الصلاة في مسيرة اثنى عشر ميلا».

وصحيحة إسماعيل بن الفضل (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التقصير فقال في أربعة فراسخ».

ورواية أبي الجارود (4) قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام في كم التقصير؟ فقال في بريد».

وموثقة ابن بكير (5) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن القادسية اخرج إليها أتم أم أقصر؟ قال وكم هي؟ قلت هي التي رأيت. قال قصر».

أقول : قال في المغرب ، القادسية موضع بينه وبين الكوفة خمسة عشر ميلا كذا نقله عنه في كتاب البحار ، ثم قال : وهي تدل على وجوب التقصير في أربعة فراسخ لعدم القول بالفصل. انتهى.

ومنها صحيحة أبي أيوب (6) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ادنى ما يقصر فيه المسافر؟ فقال بريد».

وثانيها ـ ما ورد بالتحديد بأربعة فراسخ مع التقييد بان ذلك حيث يضم الإياب إلى الذهاب بحيث ان يحصل منهما جميعا ثمانية فراسخ :

ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب (7) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أدنى

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5 و 6 و 7) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.


ما يقصر فيه المسافر؟ قال بريد ذاهبا وبريد جائيا».

ومنها ـ صحيحة زرارة المروية في الفقيه (1) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن التقصير فقال بريد ذاهبا وبريد جائيا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أتى ذبابا قصر وذباب على بريد ، وانما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ».

وموثقة محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه‌السلام (2) قال : «سألته عن التقصير فقال في بريد. قال قلت بريد؟ قال انه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه».

ورواية سليمان بن حفص المروزي (3) قال : «قال الفقيه عليه‌السلام التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وجائيا. الحديث».

ورواية الفضل بن شاذان المروية في كتاب العلل والعيون عن الرضا عليه‌السلام (4) قال : «انما وجبت الجمعة على من يكون على رأس فرسخين لا أكثر من ذلك لأن ما تقصر فيه الصلاة بريدان ذاهبا أو بريد ذاهبا وبريد جائيا والبريد أربعة فراسخ ، فوجبت الجمعة على من هو على نصف البريد الذي يجب فيه التقصير ، وذلك انه يجي‌ء فرسخين ويذهب فرسخين فذلك أربعة فراسخ وهو نصف طريق المسافر».

وروى الحسن بن على بن شعبة في كتاب تحف العقول عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون (5) قال : «والتقصير في أربعة فراسخ بريد ذاهبا وبريد جائيا اثنى عشر ميلا ، وإذا قصرت أفطرت».

وثالثها ـ ما ورد كذلك بحيث يدل على ان ذلك على سبيل الحتم وانه مراعى باعتبار ضم الإياب إلى الذهاب بحيث يكون الجميع ثمانية فراسخ ، وانه لا حاجة الى أن يكون الذهاب والإياب في يوم واحد :

ومنها ـ صحيحة معاوية بن وهب المروية في كتب المشايخ الثلاثة بالأسانيد الصحيحة (6) «انه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام ان أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات؟

__________________

(1 و 2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.

(6) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر. والراوي معاوية بن عمار.


فقال ويلهم أو ويحهم وأى سفر أشد منه لا تتم». وفي بعض النسخ «لا تتموا».

وصحيحته الأخرى عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا».

وصحيحة الحلبي أو حسنته عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «ان أهل مكة إذا خرجوا حجاجا قصروا وإذا زاروا ورجعوا الى منازلهم أتموا».

وموثقة معاوية بن عمار (3) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في كم أقصر الصلاة؟ فقال في بريد ألا ترى ان أهل مكة إذا خرجوا الى عرفة كان عليهم التقصير».

ورواية إسحاق بن عمار (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في كم التقصير؟ فقال في بريد ويحهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقصروا».

وقال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) في المقنعة (5) قال الصادق عليه‌السلام «ويل لهؤلاء القوم الذي يتمون بعرفات أما يخافون الله؟ فقيل له وهو سفر؟ فقال وأى سفر أشد منه».

أقول : وذكر أهل مكة وان لم يقع في الكلام إلا ان الظاهر بمعونة ما ذكرنا من الأخبار هو كونهم المرادين بهذا الكلام وان خفي علينا الآن قرينة المقام.

وصحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام (6) قال : «من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة وهو بمنزلة أهل مكة فإذا خرج الى عرفات وجب عليه التقصير فإذا زار البيت أتم الصلاة وعليه إتمام الصلاة إذا رجع الى من حتى ينفر».

وموثقة إسحاق بن عمار (7) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن أهل مكة إذا

__________________

(1) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر. والراوي معاوية بن عمار.

(2 و 3 و 4 و 5) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر.

(6) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر. واللفظ فيه وفي الوافي باب عزم الإقامة في السفر «فإذا خرج الى منى».

(7) الوسائل الباب 6 و 15 من صلاة المسافر.


زاروا عليهم إتمام الصلاة؟ قال نعم ، والمقيم بمكة إلى شهر بمنزلتهم». ولعل المراد بقوله عليه‌السلام : «والمقيم بمكة. الى آخره» يعنى المتردد فإنه بعد مضى الشهر يلزمه الإتمام.

ومنها أيضا صحيحة أبي ولاد الآتية ان شاء الله تعالى في الموضع الثاني (1).

أقول : هذا ما حضرني من اخبار المسألة المذكورة كملا ، وأصحابنا (رضوان الله عليهم) لما رأوا ما هي عليه من الاختلاف اختلفت كلمتهم في التفصي عن وجه الجمع بينها لتحصيل الاجتماع بينها والائتلاف.

فذهب البعض منهم ـ وهو المشهور بين المتأخرين منهم كما تقدمت الإشارة إليه بعد إبقاء أخبار الثمانية على إطلاقها وشمولها للذهاب فقط أو مع الإياب ـ إلى حمل أخبار الأربعة على ما إذا أراد المسافر الرجوع ليومه حملا لأخبار القسم الأول منها على أخبار القسم الثاني.

وهو جيد لكن لا دلالة في شي‌ء من اخبار القسم الثاني على التقييد بالرجوع ليومه ، فمن اين لهم دليل هذا التقييد؟ ومحل البحث معهم هنا ، وإلا فإنه لا ريب بمقتضى القاعدة المتفق عليها من حمل المطلق على المقيد في صحة ما ذكروه من تقييد إطلاق أخبار القسم الأول باخبار القسم الثاني ، إلا ان غاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هي اعتبار ضم الإياب إلى الذهاب مطلقا أعم من ان يكون في يوم أو أكثر ويدفع ما ذكروه من هذا التقييد صريحا أخبار القسم الثالث وهي اخبار أهل مكة المستفيضة الصحيحة الصريحة في تحتم القصر عليهم مع معلومية كون الرجوع ليس في يومه.

وغاية ما تعلق به بعضهم لإثبات هذه الدعوى هو قوله عليه‌السلام في موثقة محمد ابن مسلم المتقدمة في اخبار القسم الثاني من أخبار الأربعة «إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه».

وفيه أولا ـ انه معارض بما هو أكثر عددا وأصح سندا وأصرح دلالة وهي

__________________

(1) بل في الشرط الثالث ص 333.


اخبار القسم الثالث من أخبار الأربعة ، فإنها صريحة الدلالة ناطقة المقالة في تحتم التقصير ووجوبه بقصد الأربعة مع عدم الرجوع في يومه.

واما ثانيا ـ فلان هذه العبارة إنما خرجت مخرج التجوز في دفع الاستبعاد الذي توهمه السائل ، حيث انه لما كان المعهود عنده والشائع هو التقصير في مسيرة يوم بريدين تعجب من إفتاء الإمام عليه‌السلام بالبريد الواحد فأجاب عليه‌السلام بان هذا المسافر إلى مسافة البريد متى رجع حصل من ذهابه وإيابه قدر مسير يوم ، فلا دلالة على الرجوع من يومه حتى انه لا يتحتم القصر إلا بذلك ، والغرض انما هو بيان ان مسافة الأربعة إنما اعتبرت من حيث الذهاب والإياب فهي في حكم اليوم والثمانية الفراسخ والبريدين التي اتفقت الأخبار على وجوب التقصير فيها ، كما يشير اليه قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة وصحيحة معاوية بن وهب «بريد ذاهبا وبريد جائيا» وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة حكاية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «وانما فعل ذلك لأنه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ».

وبالجملة فإن الرواية المذكورة لا ظهور لها فضلا عن الصراحة في ما ادعوه ، ولا بد من حملها على ما ذكرناه لتنتظم به مع اخبار القسم الثالث التي قد عرفت أنها أرجح منها عددا وسندا ودلالة.

قال في المدارك : وأما رواية محمد بن مسلم فإنها وان كانت مشعرة بذلك إلا انها غير صريحة فيه ، بل ربما لاح منها ان التعليل ـ بكونه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا شغل يومه ـ انما وقع على سبيل التقريب إلى الأفهام كما يشعر به إطلاق التقصير في البريد أولا. انتهى.

واما ما ذهب اليه الصدوقان والشيخ المفيد ومن تبعهم من القول الثاني من الأقوال المتقدمة فالكلام معهم بالنسبة الى ما ذهبوا اليه من تخصيص وجوب التقصير بالرجوع ليومه ، وقد عرفت من ما دفعنا به القول الأول انه لا دليل عليه بل الأدلة الصحيحة الصريحة ترده. وكذلك بالنسبة الى ما ذهبوا اليه من التخيير


مع عدم الرجوع ليومه ، وكأنهم جعلوا ذلك وجه جمع بين أخبار الأربعة المقيدة كما تقدم واخبار عرفات حذرا من ما يلزم القول المشهور من طرحها رأسا.

وفيه انه لا إشعار في شي‌ء من اخبار عرفات بما ذهبوا اليه من التخيير بل هي في رده أظهر ظاهر كما لا يخفى على البصير الخبير. وتوجيه ذلك بحمل النهى على الكراهة أو عن الإتمام على وجه اللزوم ـ كما ذهب إليه في المدارك وقبله جده في كتاب روض الجنان مع بعده عن مضامينها كما عرفت ـ يتوقف على وجود المعارض المحوج الى هذه التكلفات البعيدة والتمحلات الشديدة الناشئة من عدم فهمهم المراد من هذه الأخبار.

وتقريب الاستدلال بالأخبار المشار إليها انه لا يخفى ان جملة منها قد تضمنت النهى عن الإتمام الذي هو حقيقة في التحريم ، وجملة تضمنت الأمر بالتقصير الذي هو حقيقة في الوجوب مؤكدا ذلك بقوله «واى سفر أشد منه» والدعاء ب «ويلهم أو ويحهم» والتوبيخ لهم بأنهم كأنهم لم يحجوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المشعر بكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة كونه في مكة متى حج فإنه يقصر الموجب لوجوب التأسي ، فأي دلالة أظهر من هذه الدلالات وأي مبالغة وتأكيد أبلغ من هذه التأكيدات ، مع انهم يكتفون في سائر الأحكام في الحكم بالوجوب والتحريم بمجرد خبر واحد يدل على ذلك ، فكيف بهذه الأخبار الصحيحة الصريحة العديدة المشتملة على ما ذكرنا من وجوه المبالغات والتأكيدات ، ويقابلونها بمجرد هذه التخريجات والتمحلات والتكلفات من غير معارض يقتضيه سوى عدم إعطائهم التأمل حقه في فهم المراد من الأخبار كما سنظهره لك ان شاء الله تعالى أي إظهار.

وبذلك يظهر لك ما في كلام الشيخ في أحد قوليه وصاحب المدارك ومن تبعهما من حمل أخبار الأربعة على الجواز مطلقا أو مع التقييد بعدم الرجوع ليومه كما هو القول الآخر للشيخ وهو الذي نقله عنه في الذكرى.

بقي هنا شي‌ء يجب التنبيه عليه وهو ان ظاهر كلام الأصحاب (رضوان الله


عليهم ان الوجه في ما ذهب اليه الصدوقان من القول الثاني من الأقوال المتقدمة في صدر المسألة هو الجمع بين أخبار المسألة كالأقوال الباقية ، والظاهر ان الحال ليس كذلك فان هذا القول المذكور قد صرح به الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي ومن الظاهر بناء على ما عرفت في غير موضع من ما تقدم وسيأتي ان شاء الله تعالى أمثاله ان مستندهما في هذا القول انما هو الكتاب المذكور ، حيث قال عليه‌السلام في الكتاب المشار إليه (1) : فإن كان سفرك بريدا واحدا وأردت أن ترجع من يومك قصرت لان ذهابك ومجيئك بريدان. ثم قال بعد هذا الكلام بأسطر : وان سافرت الى موضع مقدار أربعة فراسخ ولم ترد الرجوع من يومك فأنت بالخيار فإن شئت أتممت وان شئت قصرت. انتهى. وهو صريح في القول المذكور إلا ان الظاهر انه لا يبلغ قوة في معارضة ما ذكرنا من الأخبار الصحيحة الصريحة المتعددة المذكورة في القسم الثالث وكذا الأخبار الآتية في المقام الثاني من ما تدل على القول المختار في المسألة ، فإن الجميع متى ضم بعضه الى بعض صريح الدلالة واضح المقالة في أن قاصد الأربعة مع ارادة الرجوع يجب عليه التقصير ما لم ينقطع سفره بأحد القواطع الثلاثة المعلومة ولا تخصيص للوجوب بالرجوع ليومه ولا مجال للتخيير بوجه ، فالواجب رد هذا الكلام إلى قائله حسبما أمروا به صلوات الله عليهم في أمثال هذا المقام.

واما ما تقدم نقله عن بعض الأصحاب ـ من الميل الى حمل أخبار الأربعة على أقل ما يجب فيه التقصير مدعيا انه مذهب الشيخ الكليني عطر الله مرقده) حيث انه اقتصر على نقل أخبار الأربعة خاصة ـ

ففيه أولا ـ انه لا يخفى ان ما استند اليه من الأخبار المطلقة انما يتم لو لم يكن في الباب إلا هي واما مع وجود الأخبار المقيدة كاخبار القسم الثاني من اخبار الأربعة فإن مقتضى القاعدة حمل المطلق من الأخبار على المقيد ، وبه يزول الاستناد إلى إطلاق الأخبار المذكورة ، فإنها متى قيدت بالذهاب والإياب رجعت

__________________

(1) ص 16.


الى اخبار الثمانية كما تقدم توضيحه.

وثانيا ـ ما قدمنا الإشارة إليه من دلالة جملة من تلك الاخبار على ان مسافة الثمانية وبياض يوم أو بريدين أقل ما يجب فيه التقصير ، فمن ذلك ما تقدم في صدر المقام الأول من قوله عليه‌السلام في موثقة العيص بن القاسم أو حسنته «حده أربعة وعشرون ميلا». وقوله عليه‌السلام في رواية الفضل بن شاذان المتقدمة ثمة أيضا «إنما وجب القصر في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم. الحديث». ومن ذلك رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال : «قلت له كم ادنى ما يقصر فيه الصلاة؟ قال جرت السنة ببياض يوم. الحديث». وقد تقدم في المورد الثاني من موارد المقام الأول ، وصحيحة معاوية بن وهب المتقدمة في القسم الثاني من أقسام أخبار الأربعة قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أدنى ما يقصر فيه المسافر؟ قال بريد ذاهبا وبريد جائيا». ونحو ذلك ما سيأتي ان شاء الله تعالى في رواية إسحاق بن عمار ، وهذه الأخبار كلها كما ترى صريحة في ان أقل مسافة التقصير ثمانية فراسخ وهو بياض يوم. وأما ما يدل على ذلك باعتبار الإشعار وظاهر السياق فكثير من اخبار المسألة.

وبالجملة فالظاهر ان هذا القول من هذا الفاضل المشار اليه انما وقع غفلة عن التدبر في الأخبار والوقوف على ظاهر تلك الأخبار. والله العالم.

الموضع الثاني ـ في بيان ما هو المختار من الأقوال المتقدمة وذكر الدليل عليه زيادة على ما ذكرنا من بطلان أدلة ما سواه ، وقد عرفت في ما أشرنا إليه سابقا في نقل الأقوال المتقدمة ان المفهوم من أخبارهم عليهم‌السلام ـ وهو الذي عليه تجتمع في هذا المقام من غير أن تعتريه شائبة النقض والإبرام ـ هو أن المسافة الشرعية الموجبة للقصر التي لا يجب في أقل منها هي ثمانية فراسخ إلا انها أعم من أن تكون في الذهاب خاصة أو ملفقة من الذهاب والإياب ، وعلى الأول دلت أخبار القسم الثاني من أقسام أخبار المسألة ، وعلى الثاني دلت أخبار القسم الثاني


من أخبار الأربعة ، فإنها ظاهرة الدلالة في أن قاصد الأربعة مع إرادته الرجوع يجب عليه التقصير كقاصد الثمانية الممتدة في انه سفر شرعي لا ينقطع إلا بأحد القواطع الآتية ان شاء الله تعالى ، ويؤكدها أخبار القسم الثالث من أخبار الأربعة وهي أخبار عرفات.

ومن الأخبار الدالة على ذلك زيادة على ما عرفت مرسلة صفوان (1) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل خرج من بغداد يريد أن يلحق رجلا على رأس ميل فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان وهي أربعة فراسخ من بغداد أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصر؟ قال لا يقصر ولا يفطر لأنه خرج من منزله وليس يريد السفر ثمانية فراسخ انما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير الى الموضع الذي بلغه ، ولو انه خرج من منزله يريد النهروان ذاهبا وجائيا لكان عليه ان ينوي من الليل سفرا والإفطار. الحديث».

وهو كما ترى ظاهر في أن قصد الأربعة على وجه الرجوع قصد للثمانية موجب للتقصير ، والرجوع فيه كما ترى مطلق كسائر أخبار القسم الثاني من أقسام أخبار الأربعة ، وهو ظاهر في وجوب التقصير عليه في الصورة المذكورة لا مجال لاحتمال التخيير فيه بوجه.

ومنها ـ ما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب العلل عن إسحاق بن عمار (2) قال : «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن قوم خرجوا في سفر لهم فلما انتهوا الى الموضع الذي يجب عليهم فيه التقصير قصروا فلما ان صاروا على رأس فرسخين أو ثلاثة أو أربعة فراسخ تخلف عنهم رجل لا يستقيم لهم السفر إلا بمجيئه إليهم فأقاموا على ذلك أياما لا يدرون هل يمضون في سفرهم أو ينصرفون هل ينبغي لهم ان يتموا الصلاة أو يقيموا على تقصيرهم؟ فقال ان كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وان كانوا ساروا أقل

__________________

(1) الوسائل الباب 4 من صلاة المسافر.

(2) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر.


من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة ما أقاموا فإذا مضوا فليقصروا. ثم قال عليه‌السلام هل تدري كيف صار هكذا؟ قلت لا أدرى. قال لأن التقصير في بريدين ولا يكون التقصير في أقل من ذلك ، فلما كانوا قد ساروا بريدا وأرادوا أن ينصرفوا بريدا كانوا قد ساروا سفر التقصير ، وان كانوا قد ساروا أقل من ذلك لم يكن لهم إلا إتمام الصلاة. قلت أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه؟ قال بلى انما قصروا في ذلك الموضع لأنهم لم يشكوا في مسيرهم وان السير سيجد بهم في السفر فلما جاءت العلة في مقامهم دون البريد صاروا هكذا». ورواه البرقي في المحاسن مثله (1) ورواه في الكافي (2) إلى قوله : «فإذا مضوا فليقصروا». وأما قوله عليه‌السلام «هل تدري. الى آخره» فلم ينقله.

أقول : والتقريب في هذا الخبر يتوقف على بيان مسألة أخرى وهي ان من شروط وجوب القصر كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى استمرار قصد المسافة وعدم العدول عنه الى ان تحصل المسافة ، فلو قصد المسافة وسافر ثم رجع عن عزمه أو تردد قبل بلوغ المسافة وجب عليه الإتمام لاختلال الشرط المذكور ، أما لو كان بعد بلوغ المسافة فإنه يستمر على التقصير حينئذ على كل حال بلا خلاف ولا اشكال ، وهذا الخبر من أدلة هذه المسألة ، وحيث كانت الأربعة مع ارادة الرجوع في حكم الثمانية الممتدة كما ذكرناه فرق عليه‌السلام بين ما إذا حصل التردد بعد بلوغ أربعة فراسخ وبين ما إذا حصل قبل ذلك ، فأوجب عليه البقاء على التقصير في الأول لأن المسافة قد حصلت ، ثم بين عليه‌السلام ذلك في التعليل بأنه بعد بلوغ الأربعة وان ترددوا إلا ان قصد المسافة وهو البريدان حاصل اما بالمضي على قصدهم الأول ان جاءت الرفقة أو بالرجوع الى البلد الذي هو بريد آخر فتصير المسافة بريدين ملفقة من الذهاب والإياب ، بخلاف ما إذا كانوا على أقل من أربعة فإنه على تقدير الرجوع لم تحصل مسافة التقصير وهي البريدان التي هي أقل ما يقصر فيه ، والخبر

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.


كما ترى ظاهر الدلالة في المطلوب والمراد عار عن وصمة النقض والإيراد ، وهو ظاهر في رد القول المشهور أتم الظهور حيث ان الرجوع المعتبر انضمامه الى الذهاب غير حاصل في اليوم كما ادعوه ، وظاهر أيضا في رد قول من ادعى التخيير في مجرد قصد الأربعة ، حيث انه عليه‌السلام جعل التقصير في البريدين لا أقل من ذلك وان القصر متحتم على هؤلاء ولازم بعد قطع الأربعة من حيث حصول مسافة الثمانية بانضمام الرجوع لو لم يسافروا فأي مجال للتخيير في المقام.

ومنها ـ صحيحة أبي ولاد الآتية ان شاء الله تعالى قريبا في الشرط الثالث (1)

وبالجملة فالمسألة بما شرحناه وأوضحناه واضحة الظهور كالنور على الطور لا يعتريها فتور ولا قصور. ومنه يظهر ان خلاف من خالف في هذه المسألة انما نشأ من عدم إعطاء التأمل حقه في الأخبار والتتبع لها وإمعان النظر فيها بعين الاعتبار كما لا يخفى على من لاحظ أحوالهم (رضوان الله عليهم في كثير من المواضع ، ومنشأ جميع ذلك الاستعجال في التصنيف والاقتصار على ما حضر بين أيديهم من نقل من تقدم لمن تأخر في الكتب الاستدلالية. والله العالم.

الثاني ـ من الشروط المتقدمة قصد المسافة ، ويتفرع على ذلك سقوط القصر عنه مهما لم يقصد المسافة ولو تمادى به السير الى أن يحصل له مسافات عديدة فضلا عن مسافة واحدة ، وهو من ما لا خلاف فيه بينهم (رضوان الله عليهم كما نقله غير واحد : منهم ـ السيد السند في المدارك.

وتدل عليه رواية صفوان في المتقدمة قريبا. إلا انه قد وقع لصاحب المدارك في هذا المقام ما ان ينسب فيه الى سهو القلم أولى من أن ينسب إلى زلة القدم ، حيث قال في الاستدلال على هذا الشرط بعد الاستدلال بوجه اعتباري : وما رواه الشيخ عن صفوان (2) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل خرج من بغداد يريد

__________________

(1) ص 333.

(2) ص 326.


أن يلحق رجلا على رأس ميل فلم يزل يتبعه حتى بلغ النهروان؟ فقال لا يقصر ولا يفطر لأنه خرج من منزله وليس يريد السفر ثمانية فراسخ إنما خرج يريد أن يلحق صاحبه في بعض الطريق فتمادى به السير الى الموضع الذي بلغه». هذه صورة الرواية التي نقلها.

وأنت خبير بأن الرواية كما قدمناها سابقا ظاهرة الدلالة في إبطال ما ذهب اليه من التخيير بقصد الأربعة أتم الظهور ، وهو هنا قد أسقط منها موضع الدلالة على ذلك فأسقط قوله بعد ذكر النهروان «وهي أربعة فراسخ من بغداد أيفطر إذا أراد الرجوع ويقصر؟» وهو عجيب من مثله (قدس‌سره) إلا أن يكون قدسها في نقل الرواية أو نقلها من نسخة غير معتمدة ، وإلا فإسقاط هذه العبارة من البين مع ذكره ما قبلها وما بعدها من ما يوجب سوء ظن به (قدس‌سره) والرواية بتمامها قد تقدمت.

وكيف كان فوجه ما قلناه ان كلامه المتقدم الذي قدمنا نقله عنه في جملة أقوال المسألة ظاهر في حمله أخبار الثمانية على الوجوب واخبار الأربعة على الجواز الذي هو عبارة عن التخيير بين القصر والإتمام رجع أم لم يرجع ، وهذا الخبر كما قدمنا لك نقله بتمامه صريح في كون المسافة المفروضة هنا أربعة فراسخ ، وقد صرح عليه‌السلام بأنه لو خرج من منزله يريد النهروان التي هي أربعة فراسخ ذاهبا وجائيا يعنى تعلق القصد بالذهاب والإياب لوجب عليه التقصير ، حيث انه قصد المسافة وهي ثمانية فراسخ وان كانت ملفقة ، ولا ريب ان الشرط المذكور شرط في وجوب التقصير وتحتمه ، فإذا كان الدليل على هذا الشرط انما هو هذه الرواية التي موردها قصد الأربعة خاصة فقد ثبت وجوب التقصير حتما بقصد الأربعة مع ارادة الرجوع وبطل ما اختاره من الجواز ، وكان الأليق بمذهبه ان يستدل برواية تدل على هذا الشرط في مسافة الثمانية الممتدة في الذهاب لينجو من هذا الإشكال وينقطع عنه لسان المقال وانى له به وليس في الأخبار إلا ما هو من قبيل هذه الرواية.


ثم انه لا يخفى ان ما أوردناه على صاحب المدارك هنا لازم لكل من قال بالجواز في قصد الأربعة من الصدوق والشيخ وغيرهما كما لا يخفى ، وحينئذ فالمراد بالمسافة المشروطة بهذا الشرط هي مسافة الثمانية التي هي أعم من الممتدة ذهابا والملفقة من الذهاب والإياب. هذا على ما اخترناه واما على المشهور ففي مسافة الأربعة يجب التقييد بالرجوع ليومه ، وحينئذ فلو تمادى به السير الى أن حصل حد المسافة فإنه لا خلاف في وجوب التقصير عليه في الرجوع لحصول القصد إلى المسافة بنية الرجوع الى محله.

وهل يضم الى الرجوع ما بقي من الذهاب من ما هو أقل من المسافة لو كان أم لا؟ احتمالات ثلاثة : (أحدها) ـ عدم الضم فلا يقصر حينئذ إلا عند الشروع في الرجوع دون هذه البقية وان تمادى به السير في الذهاب لعدم ضم الذهاب إلى الإياب كما هو المشهور. و (ثانيها) ـ ضمه اليه بشرط أن يبلغ الإياب وحده حد المسافة ، كما إذا ذهب ثمانية فراسخ بغير قصد ثم عزم على ذهاب فرسخين آخرين مثلا والرجوع الى وطنه. و (ثالثها) ـ الضم ايضا مهما بلغ مجموع الذهاب المقصود والإياب مسافة وان لم يبلغ الإياب وحده مسافة ، كما إذا ذهب مثلا ستة فراسخ بغير قصد ثم قصد فرسخا والرجوع الى أهله.

والمعروف ممن ذكر هذه المسألة هو الأول ومستندهم ما أشرنا إليه أولا من ضم الذهاب إلى الإياب ، ولكن لم نعثر لهم على دليل عليه من النصوص ، وادعى بعضهم الإجماع عليه ولم اعرف لهم حجة سواء. واستثنوا من ذلك قصد الأربعة مع ارادة الرجوع ليومه حيث انه هو المشهور بينهم ، ولكن الروايات دالة على الضم وان لم يرجع ليومه ولا سيما اخبار عرفات.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : وكأنه مأخوذ من كتب العامة غفلة عن تحقيق الحال ، فان جلهم يشترطون في مطلق القصر كون


الذهاب وحده مسافة مقصودة وان الإياب لا يحتسب من الذهاب (1). ثم انه رجح (قدس‌سره) الاحتمال الثاني بل الثالث.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار من ما يناسب هذا المقام ما تقدم في الشرط الأول من أخبار القسم الثاني والقسم الثالث من أقسام أخبار الأربعة ، فإنها صريحة في ضم الذهاب إلى الإياب.

وخصوص ما رواه عمار في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستة فراسخ فيأتي قرية فينزل فيها ثم يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أخرى أو ستة لا يجوز ذلك ثم ينزل في ذلك المنزل؟ قال لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ فليتم الصلاة».

قال في الوافي : حمله في التهذيبين على من خرج من بيته من غير نية السفر فتمادى به السير الى أن صار مسافرا من غير نية ، وانما الاعتبار في التقصير بقصد المسافة لا بقطعها ، واستدل عليه بالخبر الآتي وأصاب ، وانما لا يكون مسافرا حتى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ لأنه في ذهابه أو لا ليس بمسافر لخلوه عن قصد المسافة المعتبرة وانما يصير مسافرا بنية الإياب إذا بلغ إيابه المسافة المعتبرة فإذا بلغها صار في ذهابه ايضا مسافرا لانضمام ما يقطعه حينئذ إلى مسافة الإياب المنوي المعتبرة. وأما قوله عليه‌السلام «فليتم الصلاة» يعني في مسيره الأول والثاني حتى يبلغ ثمانية فراسخ فإذا بلغها قصر ، والذي يبين ما قلناه ويوضحه خبر الفطحية الآتي. انتهى.

وظاهر هذا الكلام يرجع الى اختيار الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاثة المتقدمة ، حيث انه اعتبر بلوغ المسافة ثم ضم ما زاد من الذهاب إلى الإياب

__________________

(1) لم نقف على من صرح بذلك والظاهر من عبائرهم ان الإياب لا يحتسب.

(2) الوسائل الباب 4 من صلاة المسافر.


فأوجب القصر في ما بقي من الذهاب. وأشار بالخبر الآتي الذي استدل به الشيخ الى خبر صفوان المتقدم (1) وأشار بخبر الفطحية الآتي الى

ما رواه عمار في الموثق (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج في حاجته وهو لا يريد السفر فيمضي في ذلك يتمادى به المضي حتى يمضى به ثمانية فراسخ كيف يصنع في صلاته؟ قال يقصر ولا يتم الصلاة حتى يرجع الى منزله».

قال في الوافي ذيل هذا الخبر ايضا : وذلك لانه صار حينئذ مسافرا ناويا لقطع المسافة المعتبرة في التقصير وان لم يكن قصد من الأول ذلك. كذا في التهذيب. انتهى والظاهر ان وجه الاستدلال بهذا الخبر على ما ذكره هو حكمه عليه‌السلام بالتقصير بعد حصول ثمانية فراسخ أعم من أن يكون ضم إليها شيئا من الذهاب أو رجع بعد تمام الثمانية ، وظاهره في التهذيب ذلك أيضا لإطلاق كلامه كإطلاق الرواية.

والوجه فيه ما ذكره سابقا من حصول القصد إلى الإياب الذي قد صار مسافة فيضم إليها ما بقي من الذهاب ، وعلى هذا فيدل الخبر المذكور على ضم الذهاب إلى الإياب خلافا لما هو المشهور بينهم من عدم ضم أحدهما إلى الآخر إلا في الصورة المتقدمة.

وأما خبر عمار الأول فما ذكره فيه من التأويل الراجع الى ما دل عليه هذا الخبر لا يخلو من إشكال ، لأن ما ذكره مبنى على ان المعنى في جوابه عليه‌السلام ان هذا الذي قطع المسافة على هذا الوجه لا يكون مسافرا حتى يمضى له من خروجه من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، فإذا مضت له ثمانية فراسخ كان مسافرا لحصول المسافة المقصودة من الإياب ويضم إليها ما بقي من الذهاب ان كان ، وعلى هذا قوله عليه‌السلام «فليتم الصلاة» يعني قبل بلوغ الثمانية. ومن المحتمل ان مراده عليه‌السلام بهذه العبارة أعني قوله «لا يكون مسافرا حتى يسير. الى آخره» انما هو أن ما اتى به من السفر من قرية إلى قرية على الوجه المذكور ليس بسفر شرعي يوجب التقصير

__________________

(1) ص 326.

(2) الوسائل الباب 4 من صلاة المسافر.


وانما يكون مسافرا حتى يقصد من منزله أو قريته ثمانية فراسخ ، وحيث انه لم يقصد حال خروجه من منزله ذلك فهو ليس بمسافر فليتم الصلاة في هذا السفر الذي على هذه الكيفية بلغ ثمانية فراسخ أو أزيد. إلا انه بالنظر الى ما دل عليه الخبر الثاني من حكمه عليه‌السلام بالتقصير بعد الثمانية التي هي أعم من حصول الذهاب بعدها وعدمه يرجح ما ذكره (قدس‌سره) فيحمل إطلاق ذلك الخبر على هذا. والله العالم.

الثالث من الشروط المتقدمة استمرار القصد المذكور يعنى أن يكون قصد المسافة مستمرا إلى انتهائها وتمامها ، فلو عدل قبل بلوغ ذلك أو تردد في السفر كمنتظر الرفقة ونحوه وجب عليه الإتمام وان سار مسافة أو أزيد بهذه الكيفية إلا إذا قصد العود في ما يصير به مجموع الذهاب والإياب مسافة فإنه يقصر.

ويدل على ذلك ما تقدم قريبا من رواية إسحاق بن عمار بالتقريب المذكور ذيلها ، وموردها المتردد.

ويدل عليه ايضا ما رواه الشيخ في الصحيح عن ابى ولاد (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى كنت خرجت من الكوفة في سفينة إلى قصر ابن هبيرة وهو من الكوفة على نحو من عشرين فرسخا في الماء فسرت يومي ذلك أقصر الصلاة ثم بدا لي في الليل الرجوع الى الكوفة فلم أدر أصلي في رجوعي بتقصير أم بتمام فكيف كان ينبغي أن أصنع؟ فقال ان كنت سرت في يومك الذي خرجت فيه بريدا فكان عليك حين رجعت ان تصلى بالتقصير لأنك كنت مسافرا الى ان تصير الى منزلك. قال : وان كنت لم تسر في يومك الذي خرجت فيه بريدا فان عليك ان تقضى كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل ان تريم من مكانك ذلك ، لأنك لم تبلغ الموضع الذي يجوز فيه التقصير حتى رجعت فوجب عليك قضاء ما قصرت ، وعليك إذا رجعت أن تتم الصلاة حتى تصير الى منزلك». ومورد هذه الرواية الرجوع عن النية السابقة.

__________________

(1) الوسائل الباب 5 من صلاة المسافر.


والعجب من جملة من الأصحاب ومنهم صاحب المدارك حيث انهم ذكروا هذا الشرط ولم يوردوا عليه دليلا حتى قال الفاضل الخراساني في الذخيرة بعد نقل ذلك عن الأصحاب : وحجتهم عندي غير واضحة. مع ان صحيحة أبي ولاد المذكورة ورواية إسحاق بن عمار المتقدمة أظهر ظاهر في الدلالة على ذلك.

وفيهما دلالة واضحة على بطلان قول من قال بالجواز في قصد الأربعة كصاحب المدارك ومن سبقه بالتقريب الذي ذكرناه في معنى رواية صفوان في ذكر الشرط الثاني.

ونزيده بيانا بالنسبة الى هذا الشرط ايضا فنقول انك قد عرفت من كلامه سابقا ان التقصير الواجب المشروط بهذه الشروط الستة التي ذكرها الأصحاب ومنها هذا الشرط اعنى استمرار القصد انما هو في قصد الثمانية الفراسخ دون الأربعة لجواز الإتمام عندهم فيها ، وحينئذ فمقتضى كلامه انه لو قصد الثمانية ثم رجع عن قصده أو تردد قبل بلوغها وان كان ما اتى به أربعة فراسخ فما زاد ما لم تبلغ الثمانية فان الواجب عليه الإتمام ، مع ان الخبرين المذكورين اللذين هما مستند هذا الشرط ظاهر ان بل صريحان في انه متى حصل العدول عن المسافة التي توجه إليها القصد الأول بعد حصول الأربعة إلى الرجوع الى بلده فالواجب عليه التقصير الى أن يصير الى بلده ، ومبناهما على ان المسافة تحصل بالثمانية الملفقة ، فهما صريحان في رد هذا القول لاتفاقهم على كون استمرار القصد شرطا في الوجوب مع ان هذه أدلة استمرار الشرط. إلا ان العذر لهم واضح من حيث عدم التدبر في الروايات والاطلاع عليها ، ولكنه عذر غير مسموع ولا يسمن ولا يغني من جوع.

فروع

الأول ـ لو صلى بعد سفره قبل الرجوع عن نيته أو التردد فيها قصرا فهل تجب عليه الإعادة متى رجع أو تردد أم لا؟ المشهور الثاني لأنه صلى صلاة مأمورا بها شرعا وقضية امتثال الأمر الإجزاء.


ويدل عليه زيادة على ذلك ما رواه الصدوق في الصحيح عن زرارة (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج في سفر يريده فدخل عليه الوقت وقد خرج من القرية على فرسخين فصلوا وانصرفوا فانصرف بعضهم في حاجة له فلم يقض له الخروج ما يصنع في الصلاة التي كان صلاها ركعتين؟ قال تمت صلاته ولا يعيد». قال في الوافي في ذيل هذا الخبر : يشبه أن يكون قد سقط لفظ «مع القوم» بعد «يخرج» كما هو في الفقيه (2).

وذهب الشيخ في الاستبصار (3) إلى انه يعيد مع بقاء الوقت ، واستدل عليه بما رواه عن سليمان بن حفص المروزي (4) قال : «قال الفقيه عليه‌السلام التقصير في الصلاة بريدان أو بريد ذاهبا وبريد جائيا. الى أن قال : وان كان قصر ثم رجع عن نيته أعاد الصلاة». وحمل صحيحة زرارة على ما إذا لم يرجع عن نيته بل يكون عازما عليها ليوافق خبره الذي استدل به. كذا نقله عنه في الوافي ثم رده بالبعد ، والمنقول عنه انما هو حمل الخبر المذكور على خروج الوقت جمعا بينه وبين رواية المروزي بحملها على بقاء الوقت. وهذا هو المناسب لمذهبه في المسألة فإنه جعل ذلك وجه جمع بين خبريها المذكورين.

قال في المدارك بعد نقل رواية المروزي : وهي ضعيفة بجهالة الراوي ولو صحت لوجب حملها على الاستحباب.

أقول : ويعضد هذه الرواية صحيحة أبي ولاد المتقدمة ، والعجب منه (قدس‌سره) حيث لم يقف عليها في المقام مع تضمنها لجملة من هذه الأحكام.

وقد نقلها بعض من تأخر عنه من مشايخنا المحققين وحملها على الاستحباب ايضا ، ولا يخفى ما فيه لما اشتملت عليه الرواية من الصراحة في الحكم المذكور

__________________

(1) الوسائل الباب 23 من صلاة المسافر.

(2) ج 1 ص 281.

(3) ج 1 ص 228.

(4) الوسائل الباب 2 من صلاة المسافر.


كقوله عليه‌السلام «فان عليك ان تقضى كل صلاة صليتها في يومك ذلك بالتقصير بتمام من قبل ان تريم ـ أى تبرح ـ من مكانك». فإن التأكيد في القضاء فورا بتقديمه على اليومية ـ كما ينادى به ظاهر الخبر ، وهو الذي اخترناه في مسألة القضاء كما تقدم من وجوب الفورية به ، مفرعا عليه الوجوب بقوله «وجب عليك» ـ لا يلائم الاستحباب وظاهرها ان صحة الصلاة قصرا قبل بلوغ المسافة وقبل الرجوع عن القصد كأنها مراعاة بعدم الرجوع الى ان يبلغ المسافة.

وربما حملت على ان المقضي هو ما صلاة قصرا في حال الرجوع فقط بقرينة ان السؤال فيها عن حال الرجوع كما أشار إليه الوالد (عطر الله مرقده) في بعض حواشيه.

وفيه ان الظاهر من الخبر ان ذلك حكم كلي بالنسبة إلى الرجوع عن القصد قبل بلوغ البريد وبعده ولا اختصاص له بالسؤال. ويؤيده ما ذكره في المنتقى من أن قوله عليه‌السلام «من قبل ان تريم» ان معناه من قبل أن تنثني عن السفر من المكان الذي بدا فيه الرجوع.

وكيف كان فالمسألة لا تخلو من شوب الإشكال والاحتياط فيها لازم على كل حال وان كان ما دلت عليه صحيحة زرارة هو الأوفق بمقتضى القواعد الشرعية ، إلا ان هذه الرواية مع ما هي عليه من الصحة والصراحة منافية لذلك ، ولا يحضرني الآن لها محمل تحمل عليه ، وبعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين احتمل حمل هذه الرواية ورواية المروزي على التقية (1) والله العالم.

الثاني ـ قد عرفت انه متى تردد عزمه قبل بلوغ المسافة فإنه يجب عليه التمام لاختلال شرط التقصير وهو استمرار القصد الى بلوغ المسافة ، أما لو كان ذلك

__________________

(1) في المغني ج 2 ص 258 : إذا خرج يقصد سفرا بعيدا يوجب قصر الصلاة ثم بدا له فرجع كان ما صلاه ماضيا صحيحا ولا يقصر في رجوعه إلا ان تكون مسافة الرجوع مبيحة بنفسها.


بعد بلوغ المسافة لم يؤثر في الترخص بل الواجب هو القصر لحصول الشرط ، فلو تمادى في سفره مترددا والحال هذه ومضى عليه ثلاثون يوما فهل يكون بمثابة من تردد وهو مقيم في المصر؟ قال في الذكرى : فيه نظر من وجود حقيقة السفر فلا يضر التردد ومن اختلال القصد. انتهى. وبالأول صرح الشيخ في النهاية كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى في عبارته ، وهو مشكل لأن مورد النص التردد في المصر بان يقول أسافر اليوم أو غدا حتى يمضى له ثلاثون يوما ، وإلحاق التردد في هذه الصورة بين السفر وعدمه لا يخلو من إشكال كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى

الثالث ـ قال في المنتهى : ولو خرج من بلده ان وجد رفقة سافر وإلا رجع أتم ما لم يسر ثمانية فراسخ. وقال الشيخ في النهاية إذا خرج قوم الى السفر وساروا أربعة فراسخ وقصروا من الصلاة ثم أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر فعليهم التقصير الى أن يتيسر لهم العزم على المقام فيرجعون الى التمام ما لم يتجاوزا ثلاثين يوما ، وان كان مسيرهم أقل من أربعة فراسخ وجب عليهم الإتمام الى ان يسيروا فإذا ساروا رجعوا الى التقصير. والتحقيق ما قلناه نحن أولا. انتهى كلامه في المنتهى

وأنت خبير بما فيه من النظر الظاهر لكل ناظر فان مقتضى كلامه (قدس‌سره) أو لا انما هو من خرج من بلده معلقا سفره على وجود الرفقة ، وهذا غير قاصد للسفر جزما وحكمه هو الإتمام وان قطع مسافات عديدة بهذه الكيفية ، لاختلال شرط وجوب التقصير وهو القصد إلى المسافة. وقوله انه يتم ما لم يسر ثمانية فراسخ لا اعرف له وجها. ومقتضى كلام الشيخ في النهاية انما هو من سافر قاصدا للمسافة جازما بالسفر ثم عرض له بعد ذلك انتظار الرفقة ، وهذا متفرع على شرط استمرار القصد كما تقدم. وما ذكره الشيخ من التقصير هنا جيد كما تقدم في رواية إسحاق بن عمار من قوله عليه‌السلام «ان كانوا بلغوا مسيرة أربعة فراسخ فليقيموا على تقصيرهم أقاموا أم انصرفوا ، وان كانوا ساروا أقل من أربعة فراسخ فليتموا الصلاة ما أقاموا فإذا مضوا فليقصروا». ثم ذكر عليه‌السلام العلة في ذلك على


رواية كتاب العلل والمحاسن.

وبالجملة فإن موضوع كلامه غير موضوع كلام الشيخ ، ولعل ذلك لغلط في نسخة الكتاب أو لسوء فهمي في الباب ، ولا يبعد ان يكون مراد العلامة ـ وان قصرت عنه العبارة المذكورة لغلط فيها ونحوه ـ انه متى حصل له التردد بانتظار الرفقة قبل بلوغ ثمانية فراسخ بمعنى انه خرج ناويا للسفر قاصدا للمسافة ولكن عرض له ما يوجب عدم استمرار القصد من انتظار الرفقة ، فإن كان هذا العارض عرض قبل بلوغ نهاية المسافة التي هي عندهم بناء على المشهور ثمانية فراسخ فان الواجب الإتمام لزوال الشرط المذكور قبل بلوغ المسافة ، وان كان بعد حصول الثمانية التي هي المسافة فالواجب البقاء على التقصير إلا ان ينقطع بأحد القواطع الشرعية. وهو جيد بناء على ما هو المشهور من تخصيص المسافة بالثمانية ، وأما على ما اخترناه ـ من ان الأربعة أيضا باعتبار انضمام الإياب إلى الذهاب مسافة شرعية ، وهو مورد الأخبار المتقدمة وعليه بناء كلام الشيخ (قدس‌سره) هنا إلا انه مخالف لمذهبه في أصل المسألة كما تقدم من قوله بالجواز في الأربعة ـ فهو محل النظر لما عرفت من أخبار الشرطين المذكورين اعنى شرط القصد وشرط استمراره ، فان موردهما انما هو أخبار الأربعة الفراسخ كما تقدم ، وهو دليل ظاهر في كونها مسافة القصر حقيقة وان القصر واجب فيها حتما لوجود شرطي الوجوب. ولكنه (قدس‌سره) لعدم إمعان النظر في اخبار المسألة بنى على ما هو المشهور من تخصيص المسافة بالثمانية وعدم حصولها بالأربعة الراجعة باعتبار الذهاب والإياب إلى الثمانية. والله العالم.

الرابع ـ لا يخفى ان انتظار الرفقة إنما يكون موجبا للعدول الى التمام إذا كان قبل بلوغ المسافة إذا علق سفره على ذلك ، وإلا فلو كان عازما على السفر وان لم يأتوا فمجرد انتظارهم لا يكون موجبا لعدوله عما هو عليه من وجوب التقصير لأنه جازم بالسفر وشرط استمرار القصد موجود إلا أن يحصل شي‌ء من القواطع الآتية

ثم انه لو رجع عن التردد الموجب للتمام الى العزم على السفر فالواجب


التقصير ان كان الباقي مسافة ذهابا وإيابا.

واستقرب الشهيد في البيان ضم ما مضى من المسافة ، واستظهره بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين استنادا الى قوله عليه‌السلام في آخر رواية إسحاق ابن عمار المتقدمة «فإذا مضوا فليقصروا».

أقول : يمكن المناقشة في دلالة العبارة المذكورة بناء على ان المتبادر كما هو الغالب المتكرر في الأسفار هو حصول المسافة بعد موضع التردد ، والإطلاق في الأخبار كما عرفت في غير مقام من ما تقدم انما ينصرف الى ما هو المتكرر الغالب المتكثر الوقوع دون الفروض النادرة.

الخامس ـ قال في المنتهى : لو اخرج مكرها إلى المسافة كالأسير قصر لانه مسافر سفرا بعيدا غير محرم فأبيح له التقصير كالمختار والمرأة مع الزوج والعبد مع السيد إذا عزما على الرجوع مع زوال اليد عنهما ، خلافا للشافعي قال لانه غير ناو للسفر ولا جازم به فان نيته انه متى خلى رجع (1) والجواب النقض بالعبد والمرأة. انتهى.

وظاهر كلامه (قدس‌سره) عدم الخلاف في المسألة إلا من العامة مع انه قال في النهاية : لو عزم العبد على الرجوع متى أعتقه مولاه والزوجة متى طلقها أو على الرجوع وان كان على سبيل التحريم كالإباق والنشوز لم يترخصوا لعدم القصد. انتهى.

وظاهره كما ترى المنافاة لما اختاره في المنتهى والموافقة لما نقله عن الشافعي في الأسير لأنه لا فرق بين الأسير ولا غيره من هؤلاء المعدودين.

وقال الشهيد في الذكرى : ولو جوز العبد العتق أو الزوجة الطلاق وعزما على الرجوع متى حصل فلا يترخص ، قاله الفاضل وهو قريب ان حصلت امارة لذلك وإلا

__________________

(1) المغني ج 2 ص 259.


فالظاهر البناء على بقاء الاستيلاء وعدم رفعه بالاحتمال البعيد. انتهى. وهو مؤذن بالتفصيل.

وقال في الذخيرة : والعبد والزوجة والخادم والأسير تابعون يقصرون ان علموا جزم المتبوع ، وقد صرح جماعة من الأصحاب بأنهم يقصرون وان قصدوا الرجوع عند زوال اليد عنهم.

والمسألة لخلوها عن النص محل إشكال إلا ان يقصدوا المسافة ويريدوا السفر ولو تبعا. وما ذكره في المنتهى ـ في تعليل وجوب التقصير على الأسير لو اخرج مكرها من أنه مسافر سفرا بعيدا غير محرم ـ لا يخفى ما فيه ، فان من الشروط كما عرفت قصد المسافة وهذا غير قاصد كما اعترف به في النهاية. وما ذكره في الذكرى لا يخلو من قرب ، والاحتياط في المسألة عندي لازم لاشتباه الحكم وعدم وجود النص الرافع للإشكال. والله العالم.

الرابع من الشروط المتقدمة أن لا ينقطع سفره بأحد القواطع الثلاثة التي هي إقامة عشرة أيام والمرور بوطنه أو ملك له استوطنه ستة أشهر ومضى ثلاثين يوما مترددا ، والأصحاب (رضوان الله عليهم) لم يذكروا في هذا الشرط إلا نية الإقامة والوطن أو الملك وأما مضى ثلاثين يوما مترددا فإنما ذكروه في الأحكام ، وهو ان وصل بلدا ونوى اقامة العشرة وجب عليه التمام ولو لم ينو العشرة بحيث انه يقول اليوم أخرج أو غدا فإنه يجب عليه التقصير الى أن تمضى ثلاثون يوما ، وهذا مدلول الأخبار كما سيأتي ان شاء الله تعالى عند ذكر المسألة. وبه يظهر لك صحة ما ذكرنا آنفا من الإشكال في ما ذكره الأصحاب من انه لو تردد في طريقة في السفر الى مضى ثلاثين يوما وجب عليه التمام ، مع ان مورد النصوص وظاهر كلامهم في هذا المقام ان ذلك ليس من القواطع مطلقا وإلا لعدوه في هذا الشرط مع انهم لم يذكروه كما لا يخفى على من راجع كلامهم وانما ذكروه في تلك المسألة المخصوصة ، هذا مع دلالة النصوص ايضا على التخصيص بالإقامة في البلد كما


سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، إلا انه لما كان من جملة القواطع في الجملة ولو بخصوص ما ذكرناه حسن عده في هذا المكان كما ذكره أيضا في المفاتيح.

وكيف كان فالكلام هنا يقع في مقامات ثلاثة الأول ـ في نية الإقامة عشرا وانقطاع السفر بها ، إلا ان انقطاع السفر بها يكون على وجهين (أحدهما) ـ ان يقصد المسافة ويسافر ثم تعرض له نية الإقامة عشرة فإنه يجب عليه التمام ، وعلى هذا يكون الشرط المذكور شرطا في استمرار القصد بمعنى انه يشترط في استمرار قصد المسافة ان لا يقطعه بنية إقامة عشرة. وهذا هو مدلول الأخبار الآتية. و (ثانيهما) ـ أن ينوي مسافة لا يعزم على إقامة العشرة في أثنائها فلو نوى مسافة ثمانية فراسخ مثلا لكن في عزمه إقامة عشرة في أثنائها فإن هذا لا يجوز له التقصير بل فرضه التمام من وقت خروجه لانه بنية إقامة العشرة في الأثناء لم يحصل له قصد المسافة ، وعلى هذا فالشرط المذكور شرط في وجوب التقصير ، والحجة في وجوب الإتمام هنا عدم تحقق قصد المسافة كما عرفت ، واما في الأول فالأخبار. وقد صرح غير واحد من الأصحاب بأنه لا فرق في نية المقام الموجبة لقطع السفر بين كون ذلك في بلد أو قرية أو بادية ولا بين العازم على استمرار السفر بعد المقام وغيره.

ومن أخبار المسألة المشار إليها ما رواه في الكافي والتهذيب عن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر عليه‌السلام (1) قال : «قلت له أرأيت من قدم بلدة الى متى ينبغي له أن يكون مقصرا ومتى ينبغي له أن يتم؟ قال إذا دخلت أرضا فأيقنت ان لك بها مقاما عشرة أيام فأتم الصلاة ، فان لم تدر ما مقامك بها تقول غدا أخرج أو بعد غد فقصر ما بينك وبين أن يمضي شهر فإذا تم لك شهر فأتم الصلاة وان أردت أن تخرج من ساعتك».

وعن أبي أيوب الخزاز في الصحيح أو الحسن (2) قال : «سأل محمد بن مسلم

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.


أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع عن المسافر ان حدث نفسه بإقامة عشرة أيام؟ قال فليتم الصلاة ، وان لم يدر ما يقيم يوما أو أكثر فليعد ثلاثين يوما ثم ليتم وان كان أقام يوما أو صلاة واحدة. فقال له محمد بلغني انك قلت خمسا؟ قال قد قلت ذاك. قال الخزاز فقلت انا : جعلت فداك يكون أقل من خمس؟ قال لا».

وعن منصور بن حازم في الصحيح عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سمعته يقول إذا أتيت بلدة فأزمعت المقام عشرة أيام فأتم الصلاة ، فإن تركه رجل جاهلا فليس عليه اعادة».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) انه قال : «إذا دخلت بلدا وأنت تريد المقام عشرة أيام فأتم الصلاة حين تقدم وان أردت المقام دون العشرة فقصر ، وان أقمت تقول غدا أخرج وبعد غد ولم تجمع على عشرة فقصر ما بينك وبين شهر فإذا تم الشهر فأتم الصلاة. قال قلت ان دخلت بلدا أول يوم من شهر رمضان ولست أريد أن أقيم عشرا؟ قال : قصر وأفطر. قلت : فان مكثت كذلك أقول غدا أو بعد غد فأفطر الشهر كله واقصر؟ قال نعم هذا واحد إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم (3) قال : «سألته عن المسافر يقدم الأرض فقال ان حدثته نفسه أن يقيم عشرا فليتم وان قال اليوم أخرج أو غدا أخرج ولا يدرى فليقصر بينه وبين شهر فان مضى شهر فليتم ، ولا يتم في أقل من عشرة إلا بمكة والمدينة ، وان أقام بمكة والمدينة خمسا فليتم».

وما رواه في الفقيه في الصحيح عن ابى ولاد الحناط (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام انى كنت نويت حين دخلت المدينة أن أقيم بها عشرة أيام فأتم الصلاة ثم بدا لي بعد أن لا أقيم بها فما ترى لي أتم أم أقصر؟ فقال ان كنت دخلت

__________________

(1) الوسائل الباب 17 من صلاة المسافر ، والرواية للشيخ فقط.

(2 و 3) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.

(4) الوسائل الباب 18 من صلاة المسافر.


المدينة وصليت بها صلاة فريضة واحدة بتمام فليس لك أن تقصر حتى تخرج منها ، وان كنت حين دخلتها على نيتك المقام ولم تصل فيها صلاة فريضة واحدة بتمام حتى بدا لك أن لا تقيم فأنت في تلك الحال بالخيار ان شئت فانو المقام عشرا وأتم وان لم تنو المقام عشرا فقصر ما بينك وبين شهر فإذا مضى لك شهر فأتم الصلاة».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن على بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن الرجل يدركه شهر رمضان في السفر فيقيم الأيام في المكان عليه صوم؟ قال لا حتى يجمع على مقام عشرة أيام وإذا أجمع على مقام عشرة أيام صام وأتم الصلاة. قال : وسألته عن الرجل يكون عليه أيام من شهر رمضان وهو مسافر يقضي إذا أقام الأيام في المكان؟ قال لا حتى يجمع على مقام عشرة أيام».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن على بن يقطين عن ابى الحسن عليه‌السلام (2) قال : «سألته عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة قال يتم إذا بدت له الإقامة».

وروى الشيخ في التهذيب عن محمد بن سهل عن أبيه (3) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يخرج في سفر ثم تبدو له الإقامة وهو في صلاته أيتم أم يقصر؟ قال يتم إذا بدت له الإقامة».

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع هنا في مواضع الأول ـ المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) اشتراط التوالي في هذه العشرة بمعنى انه لا يخرج من ذلك المحل الى محل الترخص ، واما الخروج الى ما دون ذلك فالظاهر انه لا خلاف ولا إشكال في جوازه ، فان المستفاد من الأخبار وكلام علمائنا الأبرار على وجه لا يدخله الشك والإنكار إلا ممن لم يعض على المسألة بضرس قاطع ولم يعط التأمل حقه في هذه المواضع ان الحدود الشرعية لكل بلد عبارة عن منتهى

__________________

(1) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.

(2 و 3) الوسائل الباب 20 من صلاة المسافر.


سماع أذانها ورؤية من وراء جدرانها وهو الذي يحصل به الترخص من جميع أطرافها. وما اشتهر في هذه الأوقات المتأخرة والأزمنة المتغيرة ـ من أن من أقام في بلد أو قرية مثلا فلا يجوز له الخروج من سورها المحيط بها أو عن حدود بنيانها ودورها ـ فهو ناشى‌ء عن الغفلة وعدم إعطاء النظر حقه من التأمل في الأخبار وكلام الأصحاب كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى من ما نذكره في الباب.

ثم ان الأصحاب (رضوان الله عليهم) استدلوا على اشتراط التوالي في العشرة بان ذلك هو المتبادر من الأخبار :

قال السيد السند (طيب الله مرقده) في المدارك : وهل يشترط في العشرة التوالي بحيث لا يخرج بينها الى محل الترخص أم لا؟ الأظهر اشتراطه لانه المتبادر من النص وبه قطع الشهيد في البيان وجدي (قدس‌سره) في جملة من كتبه ، وقال في بعض فوائده بعد أن صرح باعتبار ذلك : وما يوجد في بعض القيود ـ من ان الخروج الى خارج الحدود مع العود الى موضع الإقامة ليومه أو لليلته لا يؤثر في نية الإقامة وان لم ينو إقامة عشرة أيام مستأنفة ـ لا حقيقة له ولم نقف عليه مسندا الى أحد من المعتبرين الذين تعتبر فتواهم ، فيجب الحكم بإطراحه حتى لو كان ذلك في نيته من أول الإقامة بحيث صاحبت هذه النية نية إقامة العشرة لم يعتد بنية الإقامة وكان باقيا على القصر لعدم الجزم بإقامة العشرة المتوالية فإن الخروج الى ما يوجب الخفاء يقطعها ونيته في ابتدائها يبطلها. انتهى كلامه (قدس‌سره) وهو جيد. لكن ينبغي الرجوع في صدق الإقامة إلى العرف فلا يقدح فيها الخروج الى بعض البساتين أو المزارع المتصلة بالبلد مع صدق الإقامة فيها عرفا. انتهى كلام السيد المشار إليه

أقول : ما نقله عنه من هذا الكلام الذي نسبه الى فوائده قد صرح به في رسالته التي في هذه المسألة المسمى بنتائج الأفكار ، وهو ظاهر في بطلان ما توهمه من قدمنا النقل عنه من القول ببطلان الإقامة بالخروج الى خارج سور البلد ونحوه.

وقال المحقق الأردبيلي (نور الله مرقده) في شرح الإرشاد : وهل يشترط


في نية الإقامة في بلد ان يكون بحيث لا يخرج الى محل الترخص أو يكفي عدم السفر إلى مسافة أو يحال الى العرف بحيث يقال انه مقيم في هذا البلد فلا يضره السير في البساتين والأسواق البعيدة عن منزله وغير ذلك؟ قد صرح الشهيد في البيان بالأول. الى ان قال : الظاهر من الأخبار هو الإطلاق من غير قيد ، ولو كان مثل ذلك شرطا لكان الأولى بيانه في الأخبار وإلا يلزم التأخير والإغراء بالجهل ، فيمكن تنزيله على العرف بمعنى انه جعل نفسه في هذه العشرة من المقيمين في البلد بمعنى ان هذا موضعه ومكانه ومحله مثل أهله فلا يضره السير في الجملة إلى البساتين والتردد في البلد وحواليه ما لم يصل الى موضع بعيد بحيث يقال انه ليس من المقيمين في البلد ، وكذا لو تردد كثيرا أو دائما في المواضع البعيدة في الجملة. ولا يبعد عدم ضرر الخروج الى محل الترخص أحيانا لغرض من الأغراض مع كون المسكن والمنزل في موضع معين لصدق إقامة العشرة عرفا المذكورة في الروايات. انتهى. وهو جيد.

وظاهر كلامه كما ترى ينجر الى جواز الخروج الى موضع الترخص أحيانا لعدم منافاته لصدق الإقامة عرفا ، واليه يرجع ما قدمنا نقله عن السيد السند من قوله بعد نقل كلام جده «لكن ينبغي الرجوع. الى آخره».

وقال شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) بعد نقل كلام شيخنا الشهيد الثاني المتقدم : والظاهر ان عدم التوالي في أكثر الأحيان يقدح في صدق المعنى المذكور عرفا ولا يقدح فيه أحيانا ، كما إذا خرج يوما أو بعض يوم الى بعض البساتين والمزارع المتقاربة وان كان في حد الخفاء ولا بأس به. والمسألة مشكلة وهي من مواضع الاحتياط. انتهى.

واما القول الذي أشار إليه المحقق المذكور ـ بقوله «أو يكفي عدم السفر إلى مسافة ، وهو الذي أشار إليه شيخنا الشهيد الثاني في ما قدمنا من نقل سبطه عنه بقوله «وما يوجد في بعض القيود من أن الخروج الى خارج الحدود مع العود. الى آخره» ـ فهو منقول عن فخر المحققين ابن شيخنا العلامة ، قال في رسالته


نتائج الأفكار : وفي بعض الحواشي المنسوبة الى الامام فخر الدين بن المطهر (قدس‌سره) عدم قطع نية الخروج الى القرى المتقاربة والمزارع الخارجة عن الحدود لنية الإقامة بل يبقى على التمام سواء قارنت النية الأولى أم تأخرت وسواء نوى بعد الخروج إقامة عشرة مستأنفة أم لا. انتهى.

أقول : وبذلك ظهر ان في المسألة أقوالا ثلاثة (أحدها) ـ وهو الذي صرح به الشهيدان والظاهر انه المشهور ـ جواز التردد في حدود البلد وأطرافها ما لم يصل الى محل الترخص.

و (ثانيها) ـ الرجوع في ذلك الى العرف كما سمعت من كلام المولى الأردبيلي وتلميذه السيد السند وشيخنا المجلسي (قدس الله أسرارهم) والظاهر انه الأقرب.

و (ثالثها) ـ القول بالبقاء على التمام ما لم يقصد المسافة وان تردد حيث شاء وأراد كما هو المنقول عن فخر المحققين.

وربما كان مستنده صحيحة أبي ولاد المتقدمة الدالة على انه متى نوى الإقامة فصلى فريضة بالتمام وجب عليه التمام الى أن يقصد المسافة.

إلا ان فيه ان الأمر وان كان كذلك لكن الكلام في بقاء الإقامة ، فإن مقتضى الخبر المذكور ترتب استصحاب التمام الى أن يقصد المسافة على الإقامة مع صلاة فريضة فلا بد من ثبوت الإقامة وبقائها ليجب استصحاب التمام ، والخصم يدعى ان الإقامة في صورة التردد على ما زاد على محل الترخص قد زالت ، فان مقتضى الأخبار الدالة على ترتب التمام على نية الإقامة في البلد هو انه لا يخرج من حدودها لما أشرنا إليه في أول الكلام من أن حدود البلد مواضع الترخص من جميع نواحيها فمعنى الإقامة بها يعنى عدم الخروج من حدودها ، فوجوب التمام عليه مترتب على عدم خروجه فمتى خرج زالت الإقامة وزال ما يترتب عليها من وجوب الإتمام ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

بقي الكلام في تحديد الخروج الموجب لزوال الإقامة هل هو كما ذكره الشهيدان


ومن تبعهما أو ما ذكره المحقق الأردبيلي ومن تبعه؟ وهذا بحث آخر خارج عن ما نحن فيه مع انا قد أشرنا الى أن الأقرب هو ما ذكره المحقق الأردبيلي (قدس‌سره) ومن اقتفاه. والله العالم.

الثاني ـ لا خلاف ولا إشكال في أن بعض اليوم لا يحسب بيوم كامل ولو كان النقصان يسيرا ، إنما الإشكال والخلاف في أنه هل يضم بعض يوم الدخول الى ما يتمه من آخر العدد فيحصل التلفيق في اليوم العاشر كأن ينوي الإقامة وقت الزوال فيشترط الى ما ينتهى إلى زوال اليوم الحادي عشر أم لا بد من عشرة كاملة غير يومي الدخول والخروج في الصورة المفروضة؟ وجهان بل قولان صرح بأولهما الشهيد في الذكرى ، قال : الأقرب انه لا يشترط عشرة أيام غير يوم الدخول والخروج لصدق العدد حينئذ. وبذلك صرح الشهيد الثاني في الروض واستظهره شيخنا المجلسي في البحار. وبالثاني صرح السيد السند في المدارك ، قال : وفي الاجتزاء باليوم الملفق من يومي الدخول والخروج وجهان أظهرهما العدم لأن نصفي اليومين لا يسمى يوما فلا يتحقق إقامة العشرة التامة بذلك ، وقد اعترف الأصحاب بعدم الاكتفاء بالتلفيق في أيام الاعتكاف وأيام العدة والحكم في الجميع واحد. انتهى. واستشكل العلامة في النهاية والتذكرة احتسابهما من العدد من حيث انهما من نهاية السفر وبدايته لاشتغاله في الأول بأسباب الإقامة وفي الأخير بالسفر ومن صدق الإقامة في اليومين. ثم احتمل التلفيق.

أقول : والمسألة لعدم النص القاطع لمادة القيل والقال وتطرق الاحتمال لا تخلو من الإشكال.

وقال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : ثم هل يعد من العشرة يوما الدخول والخروج؟ وهل يعتبر تلفيق بعض يوم ببعض من يوم آخر أم لا؟ والذي يظهر من إطلاق الأخبار ـ وعدم ورود تحديد في هذا الأمر مع عموم بلواه وكثرة وروده في الروايات ـ ان المرجع في ذلك الى العرف كما انه كذلك في سائر


الأمور الغير المحدودة في الشرع ، ومن المعلوم ان في العرف لا ينظر الى نقص بعض شي‌ء من الليل أو النهار كساعة وساعتين مثلا في احتسابه من التمام فلا يلزم القول بالتلفيق (1) وإخراج يومي الدخول والخروج من العدد كلية. نعم لو فرض دخوله عند الزوال مثلا وكذا الخروج بعده بقليل فظاهر العرف عدم عده تاما. ومن ما يؤيد جميع ما ذكرناه قوله عليه‌السلام في ما مر من صحيحة زرارة «من قدم قبل التروية بعشرة أيام وجب عليه إتمام الصلاة». لظهور ان الحاج يخرج في ذلك اليوم من الزوال. انتهى.

أقول : قد عرفت في ما قدمنا في غير موضع من الكتاب ما في حوالة الأحكام الشرعية على العرف ، على ان ما ذكره هنا من نسبة هذه الأمور إلى العرف انما هو باعتبار ما تخلية وإلا فمن أين له الوقوف على استعلام عرف عامة الأقطار والأمصار واستعلام ما ذكره من هذه الخيالات؟ وبدون ذلك لا يجدى الاستناد الى العرف ، على ان قصارى كلامه بالنسبة إلى اليوم الناقص هل يحسب من العدد أم لا؟ فإنه فصل فيه بين النقصان اليسير والكثير ، وأما التلفيق الذي هو محل البحث مع انه قد صرح به في صدر عبارته فلا دلالة لكلامه عليه. وأما الرواية التي أوردها فهي بالدلالة على خلاف ما يدعيه أظهر ، فإن الظاهر منها ان العشرة قد حصلت وكملت قبل يوم التروية فوجوب إتمام الصلاة عليه لحصول العشرة الكاملة ويوم التروية خارج عنها ، فاستناده الى أن الحاج يخرج في ذلك اليوم من الزوال لا يجدى نفعا في المقام لظهور أنه زائد على العشرة وليس بداخل فيها ، فان قوله عليه‌السلام «من قدم قبل التروية بعشرة أيام» أظهر ظاهر في خروجه عن العشرة كما لا يخفى.

وبالجملة فالمسألة لما كانت عارية من النص كثرت فيها الخيالات وتطرقت إليها الاحتمالات كغيرها من المسائل العارية عن النصوص والاحتياط فيها من ما لا ينبغي تركه. والله العالم.

__________________

(1) في النسخة الخطية «ولا إخراج».


الثالث ـ المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا ينقطع السفر بنية أقل من عشرة بل الواجب هو التقصير ، وظاهر المنتهى دعوى الإجماع عليه حيث قال انه قول علمائنا. ويدل عليه صريحا ما تقدم (1) في صحيحة معاوية بن وهب من قوله عليه‌السلام : «وان أردت المقام دون العشرة فقصر ما بينك وبين شهر. الحديث».

ونقل عن ابن الجنيد انه اكتفى بإقامة خمسة. أقول : ظاهر عبارته المنقولة في المقام انحصار ذلك في الخمسة ، حيث قال في كتاب المختصر الأحمدي : لو نوى المسافر عند دخوله البلد أو بعده مقام خمسة أيام فصاعدا أتم. ولم يتعرض لذكر العشرة بوجه.

قال شيخنا الشهيد في الذكرى : اجتزأ ابن الجنيد وحده في إتمام المسافر بنية مقام خمسة أيام وهو مروي في الحسن عن الصادق عليه‌السلام (2) بطريق أبي أيوب وسؤال محمد بن مسلم ، وحمله الشيخ على الإقامة بأحد الحرمين أو على استحباب الإتمام. وفيهما نظر لان الحرمين عنده لا يشترط فيهما خمسة ولا غيرها ان كان أقل من خمس فلا إتمام ، واما الاستحباب فالقصر عنده عزيمة فكيف يصير رخصة هنا. انتهى.

واعترضه المحقق الشيخ حسن (قدس‌سره) في المنتقى فقال : وغير خاف ان مرجع الاستحباب في مثله الى التخيير مع رجحان الفرد المحكوم باستحبابه ، فمناقشة الشهيد في الذكرى للشيخ في هذا الحمل ـ بان القصر عنده عزيمة فكيف يصير رخصة هنا ـ ليس لها محصل وفيها سد لباب التخيير بين الإتمام والقصر ، والأدلة قائمة على ثبوته في مواضع فلا وجه لافراد هذا الموضع منها بالمناقشة ، ولو لا قصور الخبر من جهة السند عن مقاومة ما دل على اعتبار إقامة العشرة لما كان عن القول بالتخيير في الخمسة معدل وان كان خلاف المعروف بين المتأخرين. انتهى.

__________________

(1) ص 342.

(2) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.


وقال السيد السند (طاب ثراه) في المدارك ـ بعد نقل قول ابن الجنيد والاستدلال له بحسنة أبي أيوب المتقدمة التي أشار إليها في الذكرى ـ ما لفظه : وهي غير دالة على الاكتفاء بنية إقامة الخمسة صريحا لاحتمال عود الإشارة إلى الكلام السابق وهو الإتمام مع إقامة العشرة. وأجاب عنها الشيخ في التهذيب بالحمل على من كان بمكة أو المدينة وهو حمل بعيد. وكيف كان فهذه الرواية لا تبلغ حجة في معارضة الإجماع والأخبار الكثيرة. انتهى.

أقول وبالله التوفيق لإدراك المأمول : ان ما ذكروه من استبعاد حمل الشيخ حسنة أبي أيوب على مكة والمدينة غير موجه ، فان الشيخ قد استدل على ذلك بصحيحة محمد بن مسلم المتقدمة في عداد الروايات المذكورة في صدر المقام ، وأنت خبير بأنه بعد ورود الخبر الصحيح كما ترى بذلك فحمل إطلاق الخبر المذكور عليه غير بعيد ولا مستنكر من قواعدهم في حمل المطلق على المقيد ، فاستبعادهم ذلك ليس في محله.

نعم يبقى الكلام في تخصيص هذا الحكم بهذين البلدين وهو كلام آخر. مع ان الوجه فيه ما رواه الصدوق (عطر الله مرقده) في كتاب العلل في الصحيح عن معاوية بن وهب (1) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام مكة والمدينة كسائر البلدان؟ قال نعم. قلت روى عنك بعض أصحابنا انك قلت لهم أتموا بالمدينة لخمس؟ فقال ان أصحابكم هؤلاء كانوا يقدمون فيخرجون من المسجد عند الصلاة فكرهت ذلك لهم فلذا قلته». ومن ذلك يظهر لك ان الأمر بالإتمام بإقامة الخمسة في هذه الأخبار انما خرج مخرج التقية ويخص ذلك بالبلدين المذكورين لما ذكره من العلة فتكون إقامة الخمسة انما هي لذلك لا مطلقا بحيث تشمل جميع البلدان وجميع الأحوال ، وعلى هذا فلا منافاة في هذه الأخبار لما اتفقت عليه الأخبار وكلمة الأصحاب عدا ابن الجنيد من تخصيص الإتمام بإقامة العشرة في جميع البلدان وجملة الأحوال.

واما ما ذكره شيخنا المجلسي (عطر الله مرقده) ـ من حمل حسنة أبي أيوب

__________________

(1) الوسائل الباب 25 من صلاة المسافر.


على التقية بغير المعنى الذي ذكرناه ، قال لأن الشافعي وجماعة منهم قائلون بإقامة الأربعة ولا يحسبون يوم الدخول ويوم الخروج فتحصل خمسة ملفقة (1) وسياق الخبر ايضا يدل عليه كما لا يخفى على الخبير. انتهى ـ

فظني بعده لأن الأخبار المتعلقة بهذا الحكم متى ضم بعضها الى بعض فإنها واضحة الدلالة طافحة المقالة في ما ذكرناه من اختصاص الحكم بالبلدين المذكورين ، وان الوجه في التقية هو ما علل به في صحيحة معاوية بن وهب المذكورة ، على ان ما ذكره متوقف على ثبوت التلفيق وقد عرفت من ما تقدم انه محل اشكال.

وأما ما ذكره الشيخ ايضا ـ من الحمل على الاستحباب وان جنح إليه جملة ممن تأخر عنه من الأصحاب ـ فقد عرفت من ما قدمناه في غير موضع انه مع كونه لا مستند له من سنة ولا كتاب مدفوع بان الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم يتوقف على الدليل الواضح ، ومجرد اختلاف الأخبار لا يستلزم ذلك لجواز أن يكون لذلك وجه آخر من تقية ونحوها.

وممن ناقش الشيخ في هذا الحمل زيادة على ما ذكره في الذكرى العلامة في المختلف حيث قال ـ بعد أن نقل عن الشيخ حمل حسنة أبي أيوب على الاستحباب أو لا ثم على مكة والمدينة ثانيا ـ ما صورته : والحمل الأول ليس بجيد لأن فرضه التقصير.

وأما ما اعترض به في المنتقى على الشهيد ـ كما قدمنا نقله من المناقشة وقوله : «ان في ذلك سدا لباب التخيير. الى آخره» فالظاهر انه ليس في محله ، وذلك فان الظاهر ان مراد الشهيد وكذا العلامة كما سمعت من كلامه في المختلف انما هو ان الشارع قد أوجب على المسافر المستكمل للشروط المعتبرة القصر عزيمة ، وهذا المسافر الناوي خمسة من جملة ذلك فيكون القصر عليه عزيمة ، واستثناؤه من الضابط المذكور يحتاج الى دليل واضح ، ومجرد دلالة هذا الخبر على انقطاع السفر بإقامة خمسة

__________________

(1) المهذب ج 1 ص 103 وبدائع الصنائع ج. ص 97.


لا يصلح لان يكون مستندا للاستحباب الموجب للتخيير كما يدعيه المحقق المذكور ، لعدم انحصار الحمل في ذلك بل يجوز أن يحمل على وجوه أخر من تقية والحمل على خصوص مكة والمدينة كما هو أحد احتمالي الشيخ ايضا ، وحينئذ فكيف يجوز الخروج عن ما هو واجب عزيمة بالأخبار الصحيحة الصريحة المتفق على العمل بها بما هذا سبيله؟ ولا ريب ان الاستدلال على هذا الوجه الذي ذكرناه من ما لا تعتريه شائبة الاختلال ولا يدخله الإشكال. وبه يظهر لك ضعف ما أورده المحقق المذكور على شيخنا الشهيد (عطر الله مرقديهما) وما فيه من القصور.

ثم ان قوله في المنتهى في آخر عبارته «وان كان خلاف المعروف بين المتأخرين» لا يخلو من نظر لإيذانه بان المتقدمين أو أكثرهم على القول بالتخيير مع انه ليس كذلك لما تقدم من كلام المنتهى المؤذن بالإجماع على وجوب التقصير متى قصرت المدة عن عشرة أيام ، ولم يذهب الى اعتبار الخمسة أحد من المتقدمين غير ابن الجنيد حيث أنه جعلها موجبة للإتمام ، والأصحاب سلفا وخلفا على التخصيص بالعشرة ولم ينقل عن أحد اعتبار الخمسة تعيينا أو تخييرا ، غاية الأمر ان الشيخ في مقام الجميع بين الأخبار في كتابه جمع هنا بهذا الجمع في أحد احتماليه ، وهو لا يستلزم أن يكون مذهبا له سيما مع ذكره على جهة الاحتمال وذكر غيره معه ، على انه لو اعتبرت وجوه الجمع التي يذكرها في كتابيه مذاهب له لم تنحصر مذاهبه في عد ولم تقف على حد.

واما ما ذكره في المدارك من احتمال عود الإشارة إلى الكلام السابق فبعيد جدا كما ينادى به آخر الرواية وهو قوله : «فقلت انا : جعلت فداك يكون أقل من خمسة. الى آخره ، فإنه لولا معلومية حكم الإتمام بالخمسة عند السامع لما حسن هذا السؤال والمراجعة. وأما استبعاده لحمل الشيخ على مكة والمدينة فهو ناشى‌ء عن غفلته عن الرواية الواردة بذلك كما ذكرناه ، وأكثر القصور في كلامهم ناشى‌ء عن عدم إعطاء الفحص حقه في تتبع الأدلة والاطلاع عليها فهو معذور من جهة وغير


معذور من اخرى سامحنا الله وإياهم بلطفه وكرمه.

ثم ان ما ذكره في المدارك وكذا في المنتقى ـ من قصور الرواية من حيث السند مع ان حسنها انما هو بإبراهيم بن هاشم الذي قد عد حديثه في الصحيح جملة من أصحاب هذا الاصطلاح وتلقاه بالقبول جملة علمائنا الفحول ، وبذلك صرح هذان الفاضلان أيضا في غير مقام ـ من ما لا يخفى ما فيه من المجازفة. والله العالم.

الرابع ـ قال في المدارك : إذا سبقت نية المقام ببلد عشرة أيام على الوصول إليه ففي انقطاع السفر بما ينقطع بالوصول الى بلده من مشاهدة الجدران وسماع الأذان وجهان ، أظهرهما البقاء على التقصير الى ان يصل البلد وينوي المقام فيها ، لأنه الآن مسافر فيتعلق به حكمه الى أن يحصل ما يقتضي الإتمام. ولو خرج من موضع الإقامة إلى مسافة ففي ترخصه بمجرد الخروج أو بخفاء الجدران أو الأذان الوجهان ، والمتجه هنا اعتبار الوصول الى محل الترخص ، لان محمد بن مسلم سأل الصادق عليه‌السلام (1) فقال له : «رجل يريد السفر فيخرج متى يقصر؟ فقال إذا توارى من البيوت». وهو يتناول من خرج من موضع الإقامة كما يتناول من خرج من بلده. انتهى.

أقول : لا يخفى ان المفهوم من أخبار تحديد محل الترخص بسماع الأذان وعدمه والخفاء عن من وراء البيوت وعدمه ـ وكذا ما صرح به الأصحاب كما تقدم من أن ناوي الإقامة في بلد لا يضره التردد في نواحيها ما لم يبلغ محل الترخص ـ هو أن حدود البلد شرعا من جميع نواحيها هي هذه المواضع المذكورة ، وان المتوطن في البلد لو أراد السفر منها وجب عليه الإتمام إلى الحد المذكور الذي هو عبارة عن الخفاء في الأمرين المذكورين ، وكذا لو رجع من سفره فإنه يجب عليه التقصير الى الحد المذكور الذي هو عبارة عن سماع الأذان ورؤية من خلف الجدران ، وما ذاك جميعه إلا من حيث انتهاء حدود البلد شرعا الى ذلك الموضع كما عرفت ،

__________________

(1) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.


وقضية ذلك ان المقيم بها كالمتوطن فيها. إلا انهم اختلفوا هنا في الداخل إليها من غير أهلها لو قصد نية الإقامة بها قبل الوصول إليها فهل يصير حكمه حكم صاحب البلد فيتم متى سمع الأذان أو رأى من عند جدران البلد أو لا حتى يدخل البلد وينوي الإقامة بها؟ ظاهر جماعة : منهم ـ السيد السند وقبله جده في الروض الثاني ، وبالأول صرح المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، وهو الأظهر لما قدمناه في صدر الكلام.

واما ما ذكره السيد هنا من الاحتجاج على ما ذهب اليه فيمكن تطرق الاعتراض عليه (اما أولا) ـ فلان ما علل به أظهرية ما اختاره من قوله «انه الآن مسافر» ممنوع فان الخصم يدعى انه حيث دخل في حدود البلد مع نية الإقامة التي حصلت منه قبل الدخول حاضر ، ولا خلاف عندهم في اعتبار هذه الحدود في حال الخروج فكذا في حال الدخول ، فاستدلاله بما ذكره لا يخرج عن المصادرة.

واما ما ذكره جده (قدس‌سره) في الروض ـ من أنه من ما يضعف كونها بحكم بلده من كل وجه انه لو رجع فيها عن نية الإقامة قبل الصلاة تماما أو ما في حكمها يرجع الى التقصير وان أقام فيها أياما وساوت غيرها من مواضع القرية ـ ففيه ما ذكره المحقق الأردبيلي عطر الله مرقده) حيث قال : ان حكم موضع الإقامة حكم البلد وينتهى السفر هنا كما ينتهي في البلد بالوصول الى محل الترخص ويحصل بالخروج عنه من غير فرق وهو ظاهر ، وعدم كون حكمه حكم البلد باعتبار أنه لو رجع عن نية الإقامة قبل الصلاة تماما يرجع الى القصر ليس من ما يضعف ذلك كما قاله الشارح ، لأن المماثلة إنما حصلت بالنية فمعنى كون حكمه حكم البلد باعتبار انه لو رجع كان حكمه حكم البلد (1) ما دام متصفا بذلك الوصف وهو ظاهر. انتهى. وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

و (اما ثانيا) ـ فان ما حكم به ـ من اتجاه اعتبار الوصول الى محل الترخص في ترخصه للخروج دون مجرد الخروج من البلد لرواية محمد بن مسلم باعتبار شمولها

__________________

(1) في شرح الإرشاد والنسخ الخطية هكذا «فمعنى كون حكمها حكم البلد ما دام.».


للمقيم كصاحب البلد ـ فهو آت في ما نحن فيه وجار في ما ندعيه ، فإن صحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) ـ قال : «إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك». ـ شاملة بإطلاقها لهذين الفردين في حالتي كل من الدخول والخروج ، فان قوله عليه‌السلام : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» شامل لمن قدم بنية الإقامة وانه متى سمع الأذان وجب عليه التمام.

وتوضيحه ان السيد قد صرح في رواية محمد بن مسلم بشمولها للقاطن والغريب المقيم بالنسبة إلى خفاء الجدران لو أراد الخروج ، ويلزمه مثل ذلك في صدر صحيحة عبد الله بن سنان بالنسبة إلى الأذان البتة ، والمخاطب في عجزها هو المخاطب في صدرها فإذا فرض الحكم في صدرها بشمول الفردين فيجب ان يكون في عجزها كذلك. ولا يتوهم من قوله «وإذا قدمت من سفرك» الاختصاص بكون القادم من أهل البلد دون القادم الغريب الذي يريد الإقامة فيها ، لأن إطلاق القدوم بالنسبة إلى الغريب القادم أراد الإقامة أم لا ليس بممتنع لغة ولا عرفا ، بل قد ورد هذا اللفظ كذلك في صحيحة زرارة عن ابى جعفر عليه‌السلام من قوله : «أرأيت من قدم بلدة الى متى ينبغي له أن يكون مقصرا؟. الحديث». وحينئذ فكما ان رواية محمد بن مسلم التي أوردها دلت على مشاركة المقيم لصاحب البلد في وجوب الإتمام الى حال الخروج الى الحد المذكور ثم التقصير ، كذلك صحيحة عبد الله بن سنان دلت على اشتراكهما في الحالين بالتقريب المتقدم. ومثل ذلك صحيحة حماد بن عثمان المروية في كتاب المحاسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «إذا سمع الأذان أتم المسافر». فإنها شاملة بإطلاقها لكل قادم من سفره الى بلد سواء كانت بلده أو بلدا عزم الإقامة فيها قبل وصولها.

ولو قيل : ان وجه الفرق بين حالة الدخول والخروج ظاهر من حيث صدق

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.


الإقامة عليه في الثاني دون الأول ، فإنه في حال الدخول مسافر الى ان يدخل البلد كما ذكر سابقا.

قلنا : قد تقدم في أول البحث ان حدود البلد من محل الترخص كما أوضحناه من الأخبار وكلام الأصحاب ولا يختص بالوصول الى البيوت. وايضا فمتى سلم صدق صدر صحيحة ابن سنان الواردة في الأذان على الفردين باعتبار الخروج حسبما اعترف به في رواية محمد بن مسلم بالنسبة إلى الجدران لزم ذلك في عجزها ، لقوله عليه‌السلام : «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك» وحاصل معنى الخبر حينئذ انه عليه‌السلام قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع الأذان في خروجك من البلد مقيما كنت فيها أو من أهل البلد فأتم وإذا كنت لا تسمع فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك من أهل البلد كنت أو ناويا الإقامة بها. فكأنه قال هذا الحكم لا فرق فيه بين الدخول والخروج للداخل والخارج. نعم يخرج منه الداخل الغير القاصد للإقامة بالبلد حال دخوله لأنه مسافر وان تجدد له القصد بعد دخوله ويبقى ما عداه داخلا تحت إطلاق الخبر. والله العالم.

الخامس ـ قال في المنتهى : لو عزم على إقامة طويلة في رستاق ينتقل فيه من قرية إلى قرية ولم يعزم على الإقامة في واحدة منها المدة التي يبطل حكم السفر فيها لم يبطل حكم سفره ، لانه لم ينو الإقامة في بلد بعينه فكان كالمنتقل في سفره من منزل الى منزل. قال في المدارك بعد نقل ذلك : وهو حسن.

أقول : ظاهره انه ما لم يقصد نية الإقامة في موضع من تلك القرى فإنه يبقى على القصر وان زاد مقامه في قرية منها على ثلاثين يوما ، لانه رتب البقاء على السفر واستصحابه على عدم نية الإقامة ، مع انه قد تقدم تصريح جملة من الأصحاب ـ منهم الشيخ في ما قدمنا من عبارته في النهاية في فروع الشرط الثالث ـ بأنه بمضي ثلاثين يوما على المسافر إذا توقف في الطريق بعد قطع أربعة فراسخ ينتقل حكمه الى التمام ، ومقتضى ذلك انه هنا كذلك. إلا انا قد قدمنا ان ظاهر الأخبار وكلام


جملة من الأصحاب كما نبهنا عليه في الشرط الرابع هو اختصاص ذلك بالإقامة في البلد ، بمعنى انه إذا دخل بلدا ولم ينو الإقامة بها بل قال اليوم أخرج أو غدا ونحو ذلك فان الواجب عليه استصحاب التقصير الى مضى ثلاثين يوما ، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار المتقدمة ثمة. وأما إثبات هذا الحكم في مجرد السفر كما تقدم فرضه في كلام الشيخ فلا أعرف له دليلا واضحا.

فان قيل : ان هذا منقوض عليكم بنية الإقامة عشرة أيام التي هي أحد القواطع في سفر كان أو بلد ، كما تقدم تصريح الأصحاب بأنه لا فرق في قطعها السفر بين كونها في بلد أو فلاة من الأرض أو نحو ذلك ، مع ان الأخبار التي استندتم إليها في تخصيص الثلاثين بالبلد هي بعينها اخبار الإقامة عشرا وقد اشتملت على الحكمين فيلزم بمقتضى ما ذكرتم انه لا ينقطع سفره بإقامة العشرة إلا في البلد دون الطريق.

قلنا : ليس الأمر كما ظننت فان من جملة الأخبار المتقدمة في الشرط الرابع ما هو ظاهر في قطع نية الإقامة للسفر ولو كان في الطريق مثل صحيحة على بن جعفر وصحيحة على بن يقطين ورواية محمد بن سهل عن أبيه (1) فإن إطلاقها شامل للبلد والطريق ، بل الظاهر منها سيما صحيحة على بن يقطين ورواية محمد بن سهل عن أبيه إنما هو الإقامة في السفر ، حيث قال في صحيحة على بن يقطين «سألته عن الرجل يخرج في السفر ثم يبدو له في الإقامة وهو في الصلاة أيتم أو يقصر؟ قال يتم» (2) ونحوها الرواية المذكورة ، فإن المتبادر منها كون ذلك في الطريق حيث انه لا اشعار فيهما بالبلد بوجه وان صدق عنوان السفر على من كان في البلد ولم ينو الإقامة.

ثم انه لو فرض قصد الإقامة في إحدى قرى هذا الرستاق ترتب عليه في خروجه ما تقدم في الموضع الأول من الخلاف في الخروج الى محل الترخص وما دونه وما زاد عليه.

السادس ـ قال في المدارك : قد عرفت ان نية الإقامة تقطع السفر المتقدم

__________________

(1) ص 343.

(2) فيه خلط بين الروايتين راجع ص 343.


وعلى هذا فيفتقر المكلف في عوده الى التقصير بعد الصلاة على التمام الى قصد مسافة جديدة يشرع فيها القصر ، ولو رجع الى موضع الإقامة بعد إنشاء السفر والوصول الى محل الترخص لطلب حاجة أو أخذ شي‌ء لم يتم فيه مع عدم عدوله عن السفر بخلاف ما لو رجع الى بلده لذلك ، ولو بدا له العدول عن السفر أتم في الموضعين. انتهى. وهو جيد.

إلا انه بقي هنا شي‌ء لم ينبهوا عليه ولم يتنبهوا اليه وهو غير خال من الإشكال ، وذلك فإنهم قد ذكروا كما نبه عليه هنا انه بنية الإقامة والصلاة تماما فإنه ينقطع السفر ويجب البقاء على التمام حتى يعزم المسافة ، وظاهرهم الاتفاق عليه وعليه دلت صحيحة أبي ولاد الآتية ان شاء الله تعالى قريبا (1) مع انهم قد صرحوا كما تقدم في كلام السيد السند نقلا عن جده (قدس الله روحيهما) باشتراط التوالي في العشرة بمعنى انه لو خرج في ضمنها الى ما دون المسافة ولو الى محل الترخص قطع إقامته ، ومقتضى بطلان الإقامة بطلان الصلاة تماما والرجوع الى التقصير وان كان قد صلى تماما بتلك النية أولا ، مع ان صحيحة أبي ولاد المعتضدة باتفاق الأصحاب دلت على وجوب البقاء على التمام بعد نية الإقامة والصلاة تماما الى أن يقصد المسافة والمدافعة بين الحكمين ظاهرة ، لأن مقتضى الحكم الأول هو وجوب الإتمام بعد النية والصلاة تماما الى أن يقصد المسافة وهو أعم من أن يخرج في ضمن العشرة أو لا يخرج ، ومقتضى الحكم الثاني الحكم ببطلان الإقامة بالخروج صلى أو لم يصل

ويمكن أن يقال في الجواب بتقييد الإطلاق الأول بالحكم الثاني بمعنى انه يشترط في وجوب الإتمام ودوامه شروط ثلاثة : نية الإقامة والصلاة تماما وعدم الخروج من موضع الإقامة على الوجه المذكور في كلامهم. ويحتمل ايضا أن يسند وجوب الاستمرار على التمام إلى الصلاة لا إلى النية ، بمعنى أن يقال ان نية الإقامة قد انتقضت وبطلت في الصورة المذكورة بالخروج عن موضع الإقامة ، ووجوب البقاء على التمام انما هو بسبب الصلاة تماما بعد تلك النية ، فعلى هذا تصير الصلاة بعد تلك

__________________

(1) تقدمت ص 342.


النية شرطا في دوام التمام. وهذا الوجه الثاني رأيته في كلام والدي (قدس‌سره) مجيبا به عن الإشكال المذكور حيث انه (طاب ثراه) تنبه له وأورد هذا الكلام جوابا عنه وهو جيد. إلا ان الذي يظهر من الخلاف في المسألة ـ وان من جملة الأقوال فيها هو البقاء على التمام حتى يقصد المسافة ، وهو الذي رده شيخنا الشهيد الثاني في ما تقدم من كلامه وأنكر نسبته الى أحد المحققين المعتمدين ـ هو أن مراد القائل بانقطاع نية الإقامة إنما هو وجوب الرجوع الى التقصير ، وإلا لما كان هذا القول مغايرا لما ذكره شيخنا المشار اليه ولما بالغ في رده هذه المبالغة المذكورة كما لا يخفى. والله العالم.

المقام الثاني ـ في الملك أو المنزل الذي ينقطع به السفر ، وقد وقع الخلاف هنا في ما ينقطع به السفر من مجرد الملك أو خصوص المنزل ، فالمشهور بين المتأخرين الاكتفاء بمجرد الملك ولو نخلة واحدة بشرط الاستيطان في تلك البلدة ستة أشهر ، وذهب آخرون الى اشتراط المنزل.

قال الشيخ في النهاية : ومن خرج الى ضيعة وكان له فيها موضع ينزله ويستوطنه وجب عليه التمام وان لم يكن له فيها مسكن فإنه يجب عليه التقصير. وهو ظاهر في اعتبار المنزل ، وأما بالنسبة إلى الاستيطان فهو مطلق.

وقال ابن البراج في كتاب الكامل : من كانت له قرية فيها موضع يستوطنه وينزل فيه وخرج إليها وكانت عدة فراسخ سفره على ما قدمناه فعليه التمام ، وان لم يكن له فيها مسكن ينزل به ولا يستوطنه كان له التقصير. وهي كعبارة النهاية.

وقال أبو الصلاح : وان دخل مصرا له فيه وطن فنزل فيه فعليه التمام ولو صلاة واحدة.

وهذه العبارات كلها مشتركة في التقييد بالمنزل خاصة وعدم تقييد الاستيطان بالستة الأشهر بل هي مطلقة في ذلك.

وقال الشيخ في المبسوط : إذا سافر فمر في طريقه بضيعة أو على مال له أو كانت


له أصهار أو زوجة فنزل عليهم ولم ينو المقام عشرة أيام قصر ، وقد روى ان عليه التمام ، وقد بينا الجمع بينهما وهو ان ما روى انه ان كان منزله أو ضيعته من ما قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا أتم وان لم يكن استوطن ذلك قصر.

هذه جملة من عبائر المتقدمين وأما كلام العلامة والمحقق ومن تأخر عنهما فهو على ما حكيناه من الاكتفاء بمجرد الملك بشرط الاستيطان ستة أشهر.

ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة في المسألة فالواجب أولا ذكر الاخبار مذيلة بما يظهر منها ثم عطف الكلام على كلام الأصحاب في المقام :

فأقول وبالله سبحانه الثقة لبلوغ المأمول : الأول ـ من الأخبار المذكورة صحيحة إسماعيل بن الفضل (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل سافر من أرض إلى أرض وانما ينزل قراه وضيعته قال إذا نزلت قراك وضيعتك فأتم الصلاة وإذا كنت في غير أرضك فقصر».

أقول : ظاهر الخبر كما ترى انه يتم بمجرد الوصول إلى الأملاك المذكورة سواء كان له فيها منزل أو لم يكن استوطنها سابقا أم لم يستوطن قصد الإقامة أم لم يقصد.

الثاني ـ رواية البزنطي (2) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يخرج الى ضيعته ويقيم اليوم واليومين والثلاثة أيقصر أو يتم؟ قال يتم الصلاة كلما اتى ضيعة من ضياعه». والتقريب فيها ما تقدم وهي أظهر في عدم اعتبار نية الإقامة.

وروى هذه الرواية في كتاب قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن احمد ابن محمد بن ابى نصر (3) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل يخرج إلى الضيعة فيقيم اليوم واليومين والثلاثة يتم أم يقصر؟ قال يتم فيها». وهي صحيحة السند كما ترى.

الثالث ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (4) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 14 من صلاة المسافر.


الرجل يكون له الضياع بعضها قريب من بعض يخرج فيقيم فيها يتم أو يقصر؟ قال يتم».

أقول : هكذا لفظ الخبر في الكافي (1) وأما في الفقيه والتهذيب (2) فإنه قال : «يطوف» بدل «يقيم» وهو أوضح ، وعلى تقدير نسخة «يقيم» يحتمل اقامة اليوم واليومين والثلاثة كما في الخبر السابق ويحتمل إقامة العشرة لكن في مجموع الضياع حتى ينطبق على السؤال ، وبه يرجع الى الأخبار المتقدمة.

الرابع ـ موثقة عمار بن موسى عن ابى عبد الله عليه‌السلام (3) «في الرجل يخرج في سفر فيمر بقرية له أو دار فينزل فيها؟ قال يتم الصلاة ولو لم يكن له إلا نخلة واحدة ولا يقصر وليصم إذا حضره الصوم وهو فيها». وهو ظاهر الدلالة في المعنى المتقدم.

الخامس ـ صحيحة عمران بن محمد (4) قال : «قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام جعلت فداك ان لي ضيعة على خمسة عشر ميلا خمسة فراسخ ربما خرجت إليها فأقيم فيها ثلاثة أيام أو خمسة أيام أو سبعة أيام فأتم الصلاة أم أقصر؟ فقال قصر في الطريق وأتم في الضيعة».

أقول : لا يخفى ان هذه الأخبار كلها قد اشتركت في الاكتفاء في الإتمام بمجرد الملك ولا سيما موثقة عمار.

والعجب هنا من صاحب المدارك (قدس‌سره) وما وقع له من المجازفة في هذا المقام كما هي عادته في كثير من الأحكام ، حيث قال ـ بعد قول المصنف : والوطن الذي يتم فيه هو كل موضع له فيه ملك قد استوطنه ستة أشهر ـ ما لفظه : إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الملك بين المنزل وغيره ، وبهذا التعميم جزم العلامة ومن تأخر عنه حتى صرحوا بالاكتفاء في ذلك بالشجرة الواحدة ، واستدلوا عليه بما رواه الشيخ في الموثق عن عمار. ثم ساق الرواية المذكورة. ثم قال : وهذه الرواية ضعيفة السند باشتمالها على جماعة من الفطحية ، والأصح اعتبار المنزل خاصة كما هو ظاهر اختيار الشيخ في النهاية. الى آخره.

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 14 من صلاة المسافر.


فان فيه من المجازفة في المقام التي لا تليق من مثله من الاعلام ما لا يخفى على ذوي الأفهام ، وذلك فان الناظر في كلامه القاصر عن تتبع الأخبار لحسن الظن به يظن انه لا مستند لهذا القول إلا هذه الرواية مع ان الروايات كما رأيت به متكاثرة والأخبار به متظافرة فيها الصحيح باصطلاحه وغيره ، ولا ريب ان الواجب في مقام التحقيق هو استقصاء أدلة القول والجواب عنها متى اختار خلافه ولكن هذه عادته (قدس‌سره) في غير موضع كما تقدمت الإشارة إليه.

ثم انه لا يخفى ان هذه الأخبار قد اشتركت في كون التمام بمجرد الوصول إلى الأملاك المذكورة من غير تقييد بشي‌ء من نية إقامة أو استيطان ستة أشهر سابقا كما هو ظاهر سياقها. نعم في حديث عمران بن محمد اشكال من وجه آخر حيث ان ظاهره وجوب التقصير في خمسة فراسخ مع العلم بانقطاع السفر على رأسها ، فإن السفر قد انقطع بالوصول إلى الضيعة التي قصدها لإيجابه عليه‌السلام الإتمام فيها ، وربما كان فيه دلالة على مذهب من قال بالتخيير في أربعة فراسخ. إلا انك قد عرفت انه قول مرغوب عنه لدلالة الروايات الصحيحة الصريحة على ضعفه ، والخبر المذكور مشكل لا يحضرني الآن وجه الجواب عنه.

وأما ما ذكره المحدث الكاشاني في الوافي من حمله على غير التخيير ـ حيث انه حمل الأخبار الدالة على الإتمام بمجرد وصول الملك على التخيير وجعل هذا جوابا عن الإشكال المذكور ـ فلا يخفى ما فيه ، لان التخيير الذي احتمله في تلك الأخبار انما هو في الملك بعد تحقق السفر سابقا ، لأن الأخبار اختلفت في حكم الوصول الى الملك بعد تحقق السفر وانه هل يكون قاطعا للسفر أم لا؟ والإشكال هنا انما هو في حكمه عليه‌السلام بالتقصير في الطريق مع انقطاع السفر بالوصول الى الملك ، وهو هنا ليس بمسافر السفر الموجب للتقصير إلا على قول من يقول بالتخيير في مجرد قصد الأربعة وهو لا يقول به ، وحمله على ما لا يقول به غير جيد كما هو ظاهر. وبالجملة


فإن كلامه هنا لا يخلو عن نوع غفلة.

السادس ـ رواية موسى بن حمزة بن بزيع (1) قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام جعلت فداك ان لي ضيعة دون بغداد فاخرج من الكوفة أريد بغداد فأقيم في تلك الضيعة أقصر أم أتم؟ قال ان لم تنو المقام عشرا فقصر».

السابع ـ رواية عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «من اتى ضيعته ثم لم يرد المقام عشرة أيام قصر وان أراد المقام عشرة أيام أتم الصلاة».

أقول : وهاتان الروايتان كما ترى صريحتان في انه لا يجوز الإتمام في الضيعة والملك بمجرد الوصول بل لا بد من قصد إقامة عشرة أيام وبدون ذلك فان الواجب التقصير.

الثامن ـ صحيحة على بن يقطين (3) قال : «قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام الرجل يتخذ المنزل فيمر به أيتم أم يقصر؟ فقال كل منزل لا تستوطنه فليس لك بمنزل وليس لك أن تتم فيه».

التاسع ـ صحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (4) «في الرجل يسافر فيمر بالمنزل له في الطريق يتم الصلاة أم يقصر؟ قال يقصر انما هو المنزل الذي توطنه».

العاشر ـ صحيحة سعد بن ابى خلف (5) قال : «سأل على بن يقطين أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن الدار تكون للرجل بمصر أو الضيعة فيمر بها؟ قال ان كان من ما قد سكنه أتم فيه الصلاة وان كان من ما لم يسكنه فليقصر».

الحادي عشر ـ صحيحة على بن يقطين (6) قال : «قلت لأبي الحسن الأول عليه‌السلام ان لي ضياعا ومنازل بين القرية والقرية الفرسخان والثلاثة؟ فقال كل منزل من منازلك لا تستوطنه فعليك فيه التقصير».

أقول : قد اتفقت هذه الأخبار الأربعة على ان مجرد وجود المنزل غير

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.

(3 و 4 و 5 و 6) الوسائل الباب 14 من صلاة المسافر. وراوي الحديث «4» عنه «ع» فيه «حماد» كما في الاستبصار ج 1 ص 230.


كاف في الإتمام عند المرور به ما لم يستوطنه ، وإطلاقها شامل لما لو كان الاستيطان ستة أشهر أو أقل أو أزيد.

الثاني عشر ـ صحيحة أخرى لعلي بن يقطين ايضا (1) قال : «سألت أبا الحسن الأول عليه‌السلام عن رجل يمر ببعض الأمصار وله بالمصر دار وليس المصر وطنه أيتم صلاته أم يقصر؟ قال يقصر الصلاة ، والضياع مثل ذلك إذا مر بها».

أقول : ينبغي حمل الدار هنا على ما لم يحصل فيه الاستيطان. وفي الخبر أيضا دلالة على ان مجرد المرور بالضياع لا يوجب التمام ولا يقطع السفر ، وهو خلاف ما دلت عليه الأخبار الأولة. ويمكن جعله من قبيل الخبرين المتقدمين الدالين على انه لا يقصر في الملك إلا بنية الإقامة عشرا فيه وإلا فالحكم التقصير ، وبعين ما يقال فيهما يقال فيه.

الثالث عشر ـ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع عن ابى الحسن الرضا عليه‌السلام (2) قال : «سألته عن الرجل يقصر في ضيعته؟ قال لا بأس ما لم ينو مقام عشرة أيام إلا أن يكون له فيها منزل يستوطنه. فقلت ما الاستيطان؟ فقال ان يكون له فيها منزل يقيم فيه ستة أشهر فإذا كان كذلك يتم فيها ميت دخلها».

وصدر هذه الصحيحة موافق لما دلت عليه الرواية السادسة والسابعة من وجوب التقصير في الضيعة ما لم ينو مقام عشرة أيام ، وعليه يحمل إطلاق صحيحة على بن يقطين الأخيرة كما أشرنا إليه ذيلها. والجميع كما ترى ظاهر المنافاة لما دلت عليه الأخبار الأولة من وجوب الإتمام بمجرد وصول الملك ، ودلت هذه الصحيحة ايضا على انه لا بد في المنزل القاطع للسفر من الاستيطان كما دلت عليه الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة ، إلا ان تلك الروايات مطلقة في الاستيطان وهذه قد عينته وقيدته بستة أشهر فصاعدا فلا يكفى ما دونها ، وبها قيد الأصحاب إطلاق الروايات المشار إليها.

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 23 من صلاة المسافر.


إذا عرفت ذلك فاعلم ان ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم هو تقييد أخبار الملك واخبار المنزل بالاستيطان ستة أشهر في وجوب الإتمام بالوصول إليهما وانقطاع السفر بهما ، والذي ظهر لي من الأخبار بعد التأمل فيها بعين الفكر والاعتبار هو اختصاص الاستيطان بالمنزل دون مجرد الملك ، وذلك فإن أخبار الضياع والاملاك إنما اختلفت في أنه هل يجب الإتمام بمجرد الوصول إليها كما دل عليه الخبر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس لو أنه لا بد من مقام عشرة فيها وبدونه يجب التقصير كما دل عليه الخبر السادس والسابع وصدر الخبر الثالث عشر؟ وأما الاستيطان فإنما ورد في أخبار المنازل خاصة كما عرفت من روايات على بن يقطين وصحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ، وليس فيها ما ربما يوهم انسحابه الى الملك إلا الرواية العاشرة ، حيث اشتمل السؤال فيها على الدار والضيعة وأجيب بأنه ان كان من ما قد سكنه أتم فيه الصلاة. ويمكن الجواب بصرف ذلك الى الدار بخصوصها كما هو منطوق ما ذكرناه من أخبار المنزل ولا سيما الرواية الثالثة عشرة فإنها كالصريحة في ما ذكرناه من التفصيل ، إذ ظاهرها كما ترى بالنسبة إلى الضياع انه يقصر فيها ما لم يقم عشرة أيام وبالنسبة إلى المنازل انه يقصر فيها ايضا ما لم يستوطنها على الوجه المذكور فيها ، ولو كان قيد الاستيطان معتبرا في الضياع كما يدعونه لعطفه على إقامة العشرة ولم يخصه بالمنازل. ويؤيده ان المقام مقام البيان فلو كان الحكم كذلك لأشار إليه في الخبر أو غيره. ويؤيده ان المقام مقام البيان فلو كان الحكم كذلك لا شار إليه في الخبر أو غيره. ويؤكده أيضا النظر الى العرف فان الاستيطان مثل المدة المذكورة انما يكون في المنازل والدور. وأما ما ذكره الأصحاب من الاكتفاء بالاستيطان في بلد الملك وان كان في غير منزله فهو كالأصل الذي فرعوه عليه حيث عرفت انه لا مستند له فكذا ما يرجع اليه. وبالجملة فصحيحة ابن بزيع المذكورة ظاهرة الدلالة في ما ذكرناه حيث خص الضياع بوجوب التقصير ما لم ينو مقام عشرة أيام والمنزل بوجوب التقصير ما لم يحصل الاستيطان.

وظاهر شيخنا الصدوق (عطر الله مرقده) في الفقيه الإفتاء بالصحيحة


المذكورة حيث قال بعد ذكر صحيحة إسماعيل بن الفضل وهي الأولى من الأخبار المتقدمة : يعني بذلك إذا أراد المقام في قراه وأرضه عشرة أيام ومن لم يرد المقام بها عشرة أيام قصر إلا أن يكون له بها منزل يكون فيه في السنة ستة أشهر فإن كان كذلك أتم متى دخلها ، وتصديق ذلك ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع. وساق الخبر.

وأنت خبير بان ما ذكره من تقييد الخبر المذكور بما دل عليه صدر صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ونحوها روايتا موسى وعبد الله بن سنان وان أمكن في هذا الخبر الذي نقله ونحوه من الأخبار المطلقة إلا انه لا يمكن في مثل الخبر الثاني الدال على الإقامة اليوم واليومين والثلاثة والخبر الخامس الدال على الإقامة ثلاثة أو خمسة أو سبعة وظاهر الخبر الثالث بالتقريب الذي ذكرناه في ذيله ، والتقييد بالمنزل ايضا لا تقبله تلك الأخبار سيما مع اعتبار الاستيطان المدة المذكورة وخصوصا موثقة عمار الدالة على الاكتفاء بالنخلة ، واللازم من تقييد تلك الأخبار المطلقة بما ذكره من الصحيحة المذكورة ونحوها وان بعد هو طرح تلك الأخبار المشتملة على الأيام المعدودة فيها لعدم قبولها التقييد ، وحينئذ فما ذكره غير حاسم لمادة الإشكال ولا ساد لباب المقال.

وجملة من متأخري المتأخرين كالمحدث الكاشاني في الوافي جمعوا بهذه الصحيحة أعني صحيحة ابن بزيع بين الأخبار بحمل مطلقها على مقيدها بأحد القيدين أعني إقامة العشرة أو الاستيطان ، ونقله في الوافي عن الشيخ في التهذيبين والصدوق في الفقيه.

وفيه ان القيدين اللذين اشتملت عليهما الصحيحة المذكورة انما هما إقامة العشرة أو المنزل الذي يستوطنه بمعنى انه لا يتم في الملك إلا بعد نية إقامة عشرة أو يكون له ثمة منزل يستوطنه لا مجرد الاستيطان وان كان من غير منزل ، وهذا هو المعنى الذي صرح به في الفقيه كما سمعت من عبارته. وبالجملة فإن قيد إقامة العشرة وان أمكن


في بعض الأخبار إلا انه لا يمكن في بعض آخر كما عرفت ، وقيد الاستيطان مورده في الأخبار انما هو المنزل كما عرفت ايضا.

فما ذكره كل منهم (رضوان الله عليهم زاعما انه وجه جمع بين الأخبار ناقص العيار بين الانكسار ، والصحيحة المذكورة لا تنطبق على هذا الوجه ولا تساعده كما عرفت لأنها صريحة في كون الإتمام في الملك والضيعة لا يكون إلا بإقامة عشرة أيام أو وجود المنزل المستوطن تلك المدة ، وظاهرها ان وجود الملك وعدمه على حد سواء لان هذين القاطعين حيثما حصلا انقطع بهما السفر.

واحتمل المحدث المذكور في الوافي وغيره في غيره حمل ما دل على الإتمام في غير صورتي الإقامة والاستيطان على التخيير.

وفيه ما لا يخفى فإن الأخبار المذكورة ظاهرة بل صريحة في وجوب الإتمام وجوبا حتميا متعينا ولا قرينة في شي‌ء منها تؤنس بهذا الحمل بالكلية ، ووجود المناقض والمعارض لا يستدعي ذلك ولا يكون قرينة على ارتكاب التجوز في تلك الألفاظ بإخراجها عن ظواهرها وحقائقها ، إذ يمكن أن يكون التأويل في جانب المعارض لها أو حملها على محمل آخر.

وعندي ان أحد طرفي هذه الأخبار المتعارضة في المقام انما خرج مخرج التقية التي هي الأصل في اختلاف الأخبار في كل حكم وقضية ولكن أشكل تميزها ومعرفتها في أي طرف فحصل الالتباس ، وقد دلت الأخبار على انهم عليهم‌السلام كانوا يلقون الاختلاف في الأحكام تقية وان لم يكن ثمة قائل بها من أولئك الأنعام كما تقدم تحقيقه في مقدمات الكتاب (1).

وبالجملة فالمسألة في غاية الإشكال وللتوقف فيها مجال واى مجال فالواجب الاحتياط في ما عدا المنزل المستوطن المدة المذكورة اما بإقامة العشرة أو الجمع بين الفرضين.

__________________

(1) ج 1 ص 4 المقدمة الاولى.


ثم انه بعد وصول الكلام الى هذا المقام وفق الله للوقوف على كلام بعض مشايخنا الكرام من متأخري المتأخرين الاعلام يؤذن بحمل الأخبار المطلقة في وجوب الإتمام بمجرد وصول الملك على التقية ، قال لأن عامة العامة على ما نقل عنهم ذهبوا الى ان المسافر إذا ورد في أثناء سفره منزلا له أتم فيه سواء استوطنه أم لا حتى قال بعضهم بالإتمام في منازل أهله وعشيرته ولم يظهر من أحد منهم القول باشتراط دوام الاستيطان (1).

أقول : ومن الأخبار التي يجب حملها على التقية بناء على ما ذكره شيخنا المشار إليه صحيحة البقباق (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المسافر ينزل على بعض أهله يوما أو ليلة أو ثلاثا قال ما أحب ان يقصر الصلاة».

وقد حملها الشيخ على الاستحباب الذي مرجعه الى التخيير بين القصر والإتمام وحملها بعض على الاستيطان بشرائطه أو على انه يستحب أن يقيم عشرا. والظاهر بعد الجميع بل الأظهر هو الحمل على التقية لما عرفت ، وعلى ذلك تحمل جملة تلك الأخبار المتقدمة الدالة على وجوب الإتمام بمجرد وصول الملك ، وتعضده الأخبار الدالة على انه لا يجوز الإتمام فيها إلا مع نية إقامة العشرة وإلا فالواجب التقصير ، لأنك قد عرفت ان تقييدها بهذه الأخبار كما ذكره الصدوق وان أمكن في بعض إلا انه لا يمكن في بعض آخر كالأخبار الدالة على وجوب الإتمام مع الجلوس فيها يوما أو يومين أو ثلاثة ، وحينئذ فلم يبق إلا حملها جميعا على التقية التي هي في اختلاف الأخبار أصل كل بلية ، وهو محمل جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه

__________________

(1) في المغني ج 2 ص 290 : إذا مر في طريقه على بلد فيه أهل أو مال قال أحمد في موضع يتم وقال في موضع يتم إلا أن يكون مارا وهو قول ابن عباس ، وقال الزهري إذا مر بمزرعة له أتم ، وقال إذا مر بقرية له فيها أهله أو ماله أتم إذا أراد ان يقيم بها يوما وليلة ، وقال الشافعي وابن المنذر يقصر ما لم يجمع على إقامة أربعة لأنه مسافر لم يجمع على أربع.

(2) الوسائل الباب 19 من صلاة المسافر.


ربه يزول الاختلاف بين هذه الأخبار.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قال في المدارك في هذا المقام ـ بعد أن نقل عن الأصحاب الاستدلال على قطع السفر بالملك بموثقة عمار ثم ردها بضعف السند كما قدمنا نقله عنه ـ ما صورته : والأصح اعتبار المنزل خاصة لإناطة الحكم به في الاخبار الصحيحة ، ويدل عليه صريحا ما رواه الشيخ وابن بابويه في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع. ثم ساق الرواية الثالثة عشرة من الأخبار المتقدمة ، ثم قال وبهذه الرواية احتج الأصحاب على انه يعتبر في الملك أن يكون قد استوطنه ستة أشهر فصاعدا ، وهي غير دالة على ما ذكروه بل المتبادر منها اعتبار إقامة ستة أشهر في كل سنة. وبهذا المعنى صرح ابن بابويه في من لا يحضره الفقيه فقال بعد أن أورد قوله عليه‌السلام في صحيحة إسماعيل بن الفضل. الى آخر ما قدمنا نقله عن ابن بابويه. ثم قال : والمسألة قوية الاشكال ، وكيف كان فالظاهر اعتبار دوام الاستيطان كما يعتبر دوام الملك لقوله عليه‌السلام في صحيحة على بن يقطين «كل منزل من منازلك لا تستوطنه. الى آخره» انتهى ملخصا.

أقول : فيه أولا ـ زيادة على ما قدمنا من اقتصاره في نقل دليل القول المشهور على موثقة عمار مع وجود الروايات الصحيحة الصريحة غيرها كما عرفت ـ ان وجه الإشكال في قوله : «والمسألة قوية الإشكال» إنما هو من حيث استدلال الأصحاب بهذه الرواية على الاستيطان ستة أشهر في الجملة والرواية تدل على دوام الاستيطان في كل سنة ، فالإشكال حينئذ عنده من حيث ان القول بما عليه الأصحاب خروج عن ما دل عليه النص والقول بما دل عليه النص خروج عن ما عليه الأصحاب. وأنت خبير بان هذا الإشكال سخيف ضعيف والإشكال الحقيقي انما هو من حيث ان الاستيطان في الرواية انما وقع قيدا للمنزل كما عرفت ، غاية الأمر انه متى كان المنزل المستوطن في الضيعة وجب الإتمام من حيث المنزل ، وقد عرفت من روايات على بن يقطين المتعددة تقييد المنزل بالاستيطان في وجوب الإتمام وان


كان وحده ، والقيد المعتبر في الملك بناء على الروايات الثلاث الأخيرة إنما هو نية الإقامة ، فاستدلالهم بالرواية المذكورة ليس في محله. وأيضا فإنه صرح في صدر كلامه بأن الأصح اعتبار المنزل خاصة دون مجرد الملك واستدل عليه بهذه الرواية ، وحينئذ فاعتبار الاستيطان إنما هو في المنزل الذي اختاره كما هو ظاهر الرواية ، وحق العبارة بناء على ما ذكرناه انه لما نقل عن الأصحاب انهم احتجوا بهذه الرواية على انه يعتبر في الملك الاستيطان ستة أشهر ان يرده بان اعتبار الاستيطان في الرواية انما هو بالنسبة إلى المنزل خاصة لا الملك ، مع ان المتبادر منها اعتبار الاستيطان ستة أشهر في كل سنة وهم قد اكتفوا بالستة ولو في سنة واحدة. هكذا كان حق العبارة بمقتضى ما اختاره في المقام.

وثانيا ـ ان قوله : «وكيف كان فالظاهر اعتبار دوام الاستيطان. الى آخره» بعد قوله : «والمسألة قوية الإشكال» من ما لا يخلو من التدافع ، لأن قوة الإشكال عنده كما عرفت من حيث الاختلاف بين كلام الأصحاب في ما اكتفوا به من الاستيطان ستة أشهر ولو في سنة وبين الرواية في ما دلت عليه من دوام الاستيطان ، وهو مؤذن بتوقفه في المسألة من حيث عدم إمكان مخالفة الأصحاب وعدم إمكان مخالفة الرواية فوقع في الاشكال لذلك ، ومقتضى قوله : «وكيف كان. الى آخره» ترجيح العمل بما دلت عليه الرواية من دوام الاستيطان كما أيده بذكر صحيحة على بن يقطين وكلام الشيخ وابن البراج.

وبالجملة فإن الظاهر من كلامه في هذا المقام ان الخلاف هنا بين الأصحاب وقع في موضعين : (أحدهما) ان ـ الوطن الذي ينقطع به السفر هل هو مجرد الملك الذي استوطنه كما هو المشهور أو خصوص المنزل المستوطن؟ وهو في هذا الموضع قد حكم بأن الأصح هو القول الثاني مستندا إلى الصحيحة المذكورة. و (ثانيهما) ـ انه هل يكفي اقامة الستة ولو مرة واحدة في سنة كما هو المشهور أم لا بد من تجدد الإقامة في كل سنة كما هو ظاهر الصدوق والشيخ في النهاية وابن البراج؟ وهو قد


اختار هنا القول الثاني لقوله «والظاهر اعتبار دوام الاستيطان».

وحينئذ فقد تلخص ان مذهبه في المسألة هو القول بخصوص المنزل مع اعتبار دوام الاستيطان كل سنة ، وعلى هذا فأي إشكال هنا عنده وما وجه هذا الاشكال فضلا عن قوته حتى انه يقول «والمسألة قوية الإشكال» وبالجملة فالظاهر ان كلامه هنا لا يخلو من مسامحة ناشئة عن الاستعجال. والله العالم.

تنبيه

قد ذكر الأصحاب (رضوان الله عليهم في هذا المقام جملة من الفروع والأحكام من ما يتم بها الكلام لا بد من نقلها وذكرها لما فيها من الإيضاح للمسألة ورفع غشاوة الإبهام :

فمنها ـ ان المستفاد من كلام الأكثر هو الاكتفاء بمقام الستة الأشهر ولو دفعة في سنة واحدة فيتم متى وصل بعدها ولو فريضة واحدة ، وظاهر الصدوق ـ واليه مال في المدارك كما تقدم ذكره ـ اعتبار الستة في كل سنة ، والمفهوم من كلام الفاضل الخراساني وبعض من تأخر عنه اناطة حصول الاستيطان بالعرف من غير تقييد بمدة :

قال في الذخيرة : والظاهر ان الوصول الى بلد له فيه منزل استوطنه بحيث يصدق الاستيطان عرفا كاف في الإتمام. انتهى. ونحوه في الكفاية.

وقال بعض من تأخر عنه من مشايخنا المحققين بعد نقل صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع : وخلاصة معناه ان الإتمام بالضياع وما بحكمها إنما هو في ما يكون محلا لسكناه بحيث يعد عرفا من أوطانه ويصدق عليه عادة انه موضع استيطانه من غير أن يعرضه الترك لذلك في ما بعد بمرتبة تخرجه عن عداد الأوطان وصدق الاستيطان أى بحيث لا يقال انه كان وطنه سابقا فتركه ، فإن هذا الاستيطان يتحقق بان يكون له فيه محل نزول وان لم يكن ملكا له يسكنه دائما ستة أشهر مهما ارتحل منتقلا اليه. انتهى.


أقول : قد عرفت أنه لا يخفى ما في احالة الأحكام الشرعية على العرف من الإشكال ، فإنا لا نجد لهذا العرف معنى إلا باعتبار ما يتصوره مدعيه في كل مقام ويزعم أن كافة الناس على ما ارتسم في خاطره فيحمل عليه الأحكام ، وإلا فتتبع الأقطار والأمصار ومعرفة ما عليه عرف الناس وعادتهم في تلك الأمور التي علقوها على العرف أمر متعذر البتة ، هذا مع ما علم يقينا من اختلاف العادات والعرف باختلاف الأقاليم والبلدان. وبالجملة فإناطة الأحكام الشرعية بالعرف مع ما عرفت من كونه لا دليل عليه لا يخلو من الإشكال ، والمفهوم من أخبارهم (عليهم‌السلام) انه مع ورود لفظ مجمل في أخبارهم فإنه يجب الفحص عن معناه المراد به عنهم ومع تعذر الوقوف على ذلك فالواجب الأخذ بالاحتياط والوقوف على سواء ذلك الصراط.

ويمكن هنا أن يقال ان لفظ الاستيطان وان كان مجملا في أكثر الأخبار إلا ان صحيحة ابن بزيع قد صرحت بان المراد به إقامة ستة أشهر ، والمجمل يحمل على المفصل والمطلق على المقيد فلا اشكال.

وأما ما يفهم من كلام الصدوق ومن تبعه في هذا المقام ـ من وجوب الستة في كل سنة استنادا إلى إفادة المضارع التجدد ـ ففيه ان الظاهر بمعونة الأخبار الكثيرة الدالة على مطلق الاستيطان انما هو أن المراد بذلك انه لا يكفي في صدق الاستيطان المرة والمرتان بل لا بد من تجدده واستمراره على وجه لا يتركه تركا يخرج به عن الاسم المذكور ، وأقل ما يحصل به ذلك من المراتب اقامة الستة مرة واحدة حيث انه لم يعين في تلك الأخبار الكثيرة مدة للتحديد بل جعل المناط هو التحديد الذي يكون سببا لعدم زوال اسم الاستيطان ، وفي الصحيحة المذكورة أوضحه وعينه بكون أقل ذلك مدة الستة الأشهر. وبذلك يظهر أنه لا دلالة في الرواية على ما توهموه من اعتبار إقامة الستة في كل سنة. والله العالم.

ومنها ـ انه لا يشترط في الستة الأشهر التوالي بل يكفى ولو كانت متفرقة. وهو جيد ، وذلك فان الحكم بالتمام في الأخبار المتقدمة علق على مطلق الاستيطان


المدة المذكورة وهو أعم من أن يكون مع التوالي أو التفريق.

ومنها ـ انه يشترط أن تكون الصلاة في الستة المذكورة بنية الإقامة لأنه المتبادر من قوله عليه‌السلام في صحيحة ابن بزيع «منزل يقيم فيه ستة أشهر» وكذا من لفظ الاستيطان والسكنى كما في الأخبار الأخر ، وحينئذ فلا يكفي الإتمام المترتب على كثرة السفر ولا على المعصية بالسفر ولا بعد التردد ثلاثين يوما ولا لشرف البقعة. نعم لا تضر مجامعتها له وان تعددت الأسباب.

ومنها ـ اشتراط الملك في المنزل وغيره كما هو ظاهر كلامهم وبه صرح الشهيدان قال في الذكرى : ويشترط ملك الرقبة فلا تكفي الإجارة والتملك بالوصية. ونحوه في الروض ايضا.

وظاهر بعض متأخري المتأخرين المناقشة في الشرط المذكور ، قال في الذخيرة : واشترط الشهيد ملك الرقبة فلا تجزئ الإجارة. وفيه تأمل.

أقول : لا يخفى ان المفهوم من الاخبار المتقدمة بالنسبة إلى الضياع والقرى ونحوها هو اشتراط الملك بغير اشكال وانما محل الإشكال في المنزل ، والمفهوم لغة وعرفا انه عبارة عن موضع النزول ، قال في القاموس : النزول الحلول ونزل به حل فيه والمنزل موضع النزول. ومثله في كتاب المصباح المنير. ولا ريب ان ذلك أعم من أن يكون ملكا أو مستأجرا أو معارا أو نحو ذلك ، والاستناد الى اللام في المقام باعتبار حملها على التملك لا وجه له لاحتمال حملها على الاختصاص ، بل صرح في الروض في مسألة اتخاذ البلد دار اقامة على الدوام بان اللام كما تدل على الملك تدل على الاختصاص بل هي فيه أظهر ، وقال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين : الحق ان الأصل في اللام الاختصاص ومجيئها للتمليك انما هو لأجل كونه من افراد الاختصاص. وبالجملة فإن ما ذكروه في المقام لا يخلو من الاشكال لعدم الدليل الواضح عليه بل ظاهر كلام أهل اللغة كما عرفت خلافه.

ومنها ـ كون الاستيطان بعد تحقق الملك بناء على القول المشهور من اشتراط


ملك الرقبة أو بعد تحقق أحد الأسباب المبيحة للنزول بناء على القول الآخر ، فلو تقدم الاستيطان أو بعضه على ذلك لم يعتد به ، والوجه في ما ذكرنا ان الحكم في الأخبار ترتب على الاستيطان في المنزل الذي له ملكا كان أو عارية أو نحو ذلك وهو ظاهر في أن الاستيطان قبل وجود المنزل المتصف بأحد الوجوه المذكورة من الملكية ونحوها لا يدخل تحت مضمون هذه العبارة.

ومنها ـ دوام الملك فلو خرج عنه لم يترتب عليه الحكم المذكور ، قال في الذكرى : ويشترط ايضا دوام الملك فلو خرج عن ملكه زال الحكم ، لأن الصحابة لما دخلوا مكة قصروا فيها لخروج أملاكهم (1).

أقول : هذا الشرط جيد بالنسبة إلى الملك بناء على ما قدمنا نقله عنهم من اشتراط ملك الرقبة ، واما بناء على القول الآخر فإنه لا بد ايضا من دوام نسبة المنزل إليه بأحد الأسباب المتقدمة ، فلو استأجره أو استعاره مدة ثم انقضت المدة وخرج عن النسبة اليه والتعلق به فالظاهر ايضا زوال الحكم المترتب على وجود المنزل الداخل تحت تصرفه ، فان ظاهر الأخبار اعتبار دوام السبب المذكور في دوام ما يترتب عليه

ومنها ـ انه لا يشترط السكنى في الملك بل يكفى السكنى في البلد أو القرية حيث كان ولا يشترط كونه له صلاحية السكنى.

قال في الروض : ولا يشترط كون السكنى في الملك ولا كونه له صلاحية السكنى لحديث النخلة (2) فيكفي سكنى بلد لا يخرج عن حدوده الشرعية وهي حد الخفاء. انتهى.

أقول : أما عدم اشتراط كون السكنى في الملك فإن أريد به بالنسبة إلى مثل الضياع والنخيل فهو من ما لا ريب في صحته ، لان هذه الأشياء ليست محلا للسكنى عرفا فيكفي الجلوس في البلد. إلا انك قد عرفت سابقا انه لا دليل على ما اعتبروه من اشتراط مجرد الملك بالسكنى بل السكنى في الأخبار انما ترتب على

__________________

(1) بدائع الصنائع ج 1 ص 103.

(2) وهو الحديث الرابع ص 361.


المنزل ، وان أريد به بالنسبة إلى المنازل فهو محل إشكال ، لأن الروايات دلت على انه إذا كان له منزل يستوطنه وهي ظاهرة بل صريحة في كون الاستيطان في نفس المنزل ، والحمل على تقدير مضاف أى يستوطن بلده بعيد غاية البعد ، فما ذكروه (عطر الله مراقدهم) هنا لا يخلو من وصمة الإشكال.

ومنها ـ انه قد صرح غير واحد منهم (رضوان الله عليهم) بأنه لو اتخذ بلدا دار اقامة على الدوام فان حكمه حكم الملك :

قال في المدارك : والحق العلامة ومن تأخر عنه بالملك اتخاذ البلد دار اقامة على الدوام ولا بأس به الخروج المسافر بالوصول إليها عن كونه مسافرا عرفا. قال في الذكرى : وهل يشترط هنا الاستيطان الستة الأشهر؟ الأقرب ذلك ليتحقق الاستيطان الشرعي مضافا الى العرف. وهو غير بعيد لأن الاستيطان على هذا الوجه إذا كان معتبرا مع وجود الملك فمع عدمه أولى. انتهى.

أقول : لا يخفى ما وقع للأصحاب (رضوان الله عليهم) قديما وحديثا من الغفلة في هذه المسألة ، وذلك فان ظاهرهم الاتفاق على انحصار قواطع السفر في ثلاثة : (أحدها) إقامة العشرة. و (ثانيها) مضى ثلاثين يوما مترددا. و (ثالثها) وصول بلد له فيها ملك أو منزل قد استوطنه على الخلاف المتقدم ، وظاهرهم دخول بلدته التي تولد فيها ونشأ من زمن أبيه وأجداده في القاطع الثالث ، والحق العلامة ومن تبعه بالملك كما هو القول المشهور اتخاذ البلد دار اقامه على الدوام ، ورجحه السيد السند كما ذكره. ثم ان من تأخر عن العلامة اختلفوا في انه هل يشترط اعتبار الستة الأشهر المعتبر في الملك في هذا البلد؟ ظاهر الذكرى ذلك ورجحه السيد المذكور لما ذكره ، وبمثل ذلك صرح جده في الروض وغيره ، وظاهر الشهيد في البيان التوقف في ذلك حيث قال : والمقيم ببلدة اتخذها وطنا على الدوام يلحق بالملك على الظاهر وفي اشتراط الإقامة ستة أشهر أو العشرة الأيام إشكال. انتهى. وبالجملة فالمشهور هو الأول.


وأنت خبير بأنه لا يخفى على من لاحظ الأخبار بعين التأمل والتدبر والاعتبار ان المفهوم منها على وجه لا يعتريه الشك ولا الإنكار ان القواطع الثلاثة التي أحدها بلد الملك أو المنزل المشترط فيه الاستيطان انما هي في ما إذا خرج الإنسان من بلده مسافرا سفرا يجب فيه التقصير فإنه يستصحب التقصير في سفره الى أن ينقطع إما بإقامة عشرة أيام في بعض المواضع أو مضى ثلاثين يوما مترددا أو يمر في سفره ذلك على ملك له من ضياع أو منزل على الوجه المتقدم في المسألة فإنه ينقطع سفره بأي هذه حصل ويرجع الى التمام ، ثم بعد المفارقة يرجع الى التقصير في سفره كما كان أو لا حتى يرجع الى بلده التي خرج منها فيجب عليه الإتمام بالوصول إليها ، إلا ان الاخبار هنا قد اختلفت في انه هل يتم إذا رجع الى بلده بعد تجاوزه محل الترخص داخلا أو لا يتم حتى يدخل منزله وأهله؟ وحينئذ فتلك القواطع الثلاثة إنما هي خارج البلد المذكور ، وانقطاع السفر بالرجوع الى بلده التي خرج منها ليس له مدخل في تلك القواطع بوجه ، وقد تقدمت لك الأخبار المتعلقة بهذا القاطع الثالث الذي هو الملك أو المنزل صريحة في ما قلناه وواضحة في ما ادعيناه فإنها تضمنت انه يمر به في سفره ، ومنه يعلم ان ذلك انما هو في مدة السفر وضمنه كما ذكرناه ، وعباراتها في هذا المعنى صريح وظاهر مثل قولهم «سافر من أرض إلى أرض وإنما ينزل قراه وضيعته» وقولهم «يتخذ المنزل فيمر به» ونحو ذلك من ما تقدم ، وكله صريح أو ظاهر في كون تلك الاملاك والضياع والمنازل إنما هي في الطريق والسفر ، وأما بلد الإقامة فلا مدخل لها في هذه الأخبار بوجه وإنما لها أخبار على حدة ، ومحل الخلاف الذي وقع بينهم من الاكتفاء بالملك مطلقا أو لا بد من المنزل واعتبار الاستيطان مطلقا أو مقيدا ونحو ذلك كله إنما نشأ من هذه الأخبار التي ذكرناها المتضمنة لكون ذلك في السفر.

واما أخبار بلد الاستيطان الدالة على انقطاع السفر بالوصول إليها فهي هذه التي نتلوها عليك : فمنها موثقة إسحاق بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال :

__________________

(1) الوسائل الباب 7 من صلاة المسافر ، والرواية عن أبي إبراهيم «ع».


«سألته عن الرجل يكون مسافرا ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصرا حتى يدخل أهله؟ قال بل يكون مقصرا حتى يدخل أهله».

وصحيحة العيص بن القاسم عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «لا يزال المسافر مقصرا حتى يدخل بيته».

وروى الصدوق في الفقيه مرسلا (2) قال : وروى عن ابى عبد الله عليه‌السلام انه قال «إذا خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه».

وموثقة ابن بكير (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة له بها دار ومنزل فيمر بالكوفة وانما هو مجتاز لا يريد المقام إلا بقدر ما يتجهز يوما أو يومين؟ قال يقيم في جانب المصر ويقصر. قلت : فان دخل اهله؟ قال عليه التمام».

وروى هذه الرواية الحميري في كتاب قرب الاسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن محبوب عن على بن رئاب (4) «أنه سمع بعض الواردين يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون بالبصرة وهو من أهل الكوفة وله بالكوفة دار وعيال فيخرج فيمر بالكوفة ويريد مكة ليتجهز منها وليس من رأيه أن يقيم أكثر من يوم أو يومين؟ قال يقيم في جانب الكوفة ويقصر حتى يفرغ من جهازه وان هو دخل منزله فليتم الصلاة».

وأنت خبير بان سند الرواية المذكورة صحيح فبملاحظة موافقتها مع الموثقة المذكورة يجعلها في حكم الصحيح ايضا.

وصحيحة معاوية بن عمار عن ابى عبد الله عليه‌السلام (5) قال : «ان أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا».

وصحيحة الحلبي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (6) قال : «ان أهل مكة إذا خرجوا

__________________

(1 و 2 و 3 و 4) الوسائل الباب 7 من صلاة المسافر.

(5 و 6) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر.


حجاجا قصروا وإذا زاروا ورجعوا الى منازلهم أتموا».

وصحيحة عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن التقصير قال : إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك». وليس في بعض نسخ الحديث أول الحديث الى قوله «فأتم».

هذه جملة ما حضرني من أخبار المسافر إذا رجع الى بلده ، وقد دلت كلها ما عدا الأخير على ان سفره انما ينقطع بدخول بيته كما هو أحد القولين في المسألة وأظهرهما ، وصحيحة ابن سنان قد دلت على الانقطاع بتجاوز محل الترخص داخلا كما هو أشهرهما ، ولا تعرض في شي‌ء منها بوجه من الوجوه لشي‌ء من تلك الشروط التي وقع فيها الخلاف ولا دلالة فيها على اشتراط منزل ولا ملك ، والإضافة في. هذه الأخبار في قوله «بيته أو منزله» أعم من التمليك والاختصاص ، ولا تعرض فيها لاستيطان ستة أشهر ولا عدمه ، وهؤلاء الذين اشتملت هذه الأخبار على السؤال عن أحكامهم وبيان تقصيرهم وإتمامهم لا تخصيص في أحد منهم بكونه ممن قد اتخذها وطنا من زمن آبائه وأجداده أو توطنها أخيرا ، نعم لا بد من صدق كونها بلده عرفا كما تشير اليه اخبار أهل مكة ، ومن ذلك يظهر أن قواطع السفر أربعة بزيادة ما ذكرناه على الثلاثة المتقدمة.

هذا. وأما ما ذكروه من حكم من اتخذ بلدا دار اقامة على الدوام فالأظهر عندي التفصيل فيه بأنه ان كان قد صدق عليه عرفا كونه من أهل البلد المذكور فحكمه ما ذكرناه ودلت عليه هذه الأخبار كأهل البلد القاطنين بها ، وان كان قبل ذلك كأن يكون ذلك في أول أمره بأن نوى الجلوس فيها على الدوام ولكنه بعد لم يدخل تحت اسم أهلها ولم يصدق عليه انه منها فالأظهر فيه الرجوع الى قواعد السفر المنصوصة عن أهل البيت (عليهم‌السلام) من بقاء حكم السفر عليه حتى ينقطع

__________________

(1) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.


سفره بأحد القواطع الشرعية. وما ذكروه من التخريجات المتقدم ذكرها لا أعرف عليها دليلا ولا إليها سبيلا. وقوله في المدارك : «الخروج المسافر بالوصول إليها عن كونه مسافرا عرفا» ليس بشي‌ء في مقابلة النصوص الصحيحة الصريحة الدالة على وجوب التقصير على المسافر إلا أن ينقطع سفره بأحد القواطع الشرعية ، وحيث لم يحصل هنا شي‌ء منها فالواجب بمقتضى تلك النصوص استصحاب التقصير كما صرحوا به في من أقام مدة في رستاق ، ومجرد نية الإقامة دواما في البلد لا دليل على تأثيرها في قطع حكم السفر ، والإلحاق بالملك مجرد قياس لا يوافق أصول المذهب. وبالجملة فإن التحقيق عندي في المسألة ما ذكرته. والله العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه.

المقام الثالث ـ في مضى ثلاثين يوما مترددا ولا خلاف بينهم في وجوب الإتمام عليه بعد المدة المذكورة ، وقد مضت الأخبار الدالة عليه في صدر المقام الأول ، إلا ان في بعضها التحديد بثلاثين يوما وفي بعضها بالشهر ، ويظهر الفرق في ما إذا كان مبدأ التردد أول الشهر الهلالي فإنه يكتفى به وان ظهر نقصانه عن الثلاثين بناء على رواية الشهر ، والظاهر انه كذلك ايضا بمقتضى كلام الأصحاب ويشكل حينئذ باعتبار رواية الثلاثين إلا ان تحمل على غير الصورة المذكورة من حصول التردد في أثناء الشهر كما هو الأغلب.

ونقل عن العلامة في التذكرة انه اعتبر الثلاثين ولم يعتبر الشهر الهلالي ، قال : لان لفظ الشهر كالمجمل ولفظ الثلاثين كالمبين. قال في المدارك : ولا بأس به. وقال في الذخيرة : وفي كونهما كالمجمل والمبين تأمل بل الظاهر كون الشهر حقيقة في المعنى المشترك بين المعنيين ، وحينئذ فالمتجه أن يقال يحمل على الثلاثين كما يحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص. انتهى.

أقول : لا يخفى ان مرجع الكلامين الى البناء على الثلاثين وتقييد الشهر بذلك وهو الأظهر وان كان ما ذكرناه أو لا في الجمع بين الأخبار لا يخلو من قرب. والله العالم


الخامس من الشروط المتقدمة ان يكون السفر سائغا واجبا كان كالحج أو مستحبا كالزيارة أو مباحا كالتجارة فلا يترخص العاصي بسفره ، وهذا الشرط مجمع عليه بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) كما نقله المحقق في المعتبر والعلامة في جملة من كتبه.

ويدل عليه جملة من الأخبار : منها ـ ما رواه الصدوق في الصحيح عن عمار بن مروان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سمعته يقول من سافر قصر وأفطر إلا ان يكون رجلا سفره الى صيد أو في معصية الله تعالى أو رسولا لمن يعصى الله عزوجل أو في طلب شحناء أو سعاية ضرر على قوم مسلمين».

وما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة في الموثق (2) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخرج الى الصيد أيقصر أو يتم؟ قال يتم لانه ليس بمسير حق».

وعن ابى سعيد الخراساني (3) قال : «دخل رجلان على ابى الحسن الرضا عليه‌السلام فسألاه عن التقصير فقال لأحدهما : وجب عليك التقصير لأنك قصدتني. وقال للآخر : وجب عليك التمام لأنك قصدت السلطان».

وعن إسماعيل بن ابى زياد عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (4) قال : «سبعة لا يقصرون الصلاة : الجابي الذي يدور في جبايته والأمير الذي يدور في امارته والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق والراعي والبدوي الذي يطلب مواضع القطر ومنبت الشجر والرجل الذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا والمحارب الذي يقطع السبيل».

وإتمام الأخيرين لعدم اباحة السفر وأما ما عداهما فيمكن أن يكون لكون السفر عملهم ، ويحتمل في الأولين أن يكونا من قبيل الأخيرين أيضا.

__________________

(1 و 3) الوسائل الباب 8 من صلاة المسافر.

(2) الوسائل الباب 9 من صلاة المسافر.

(4) الوسائل الباب 11 من صلاة المسافر.


وعن ابن بكير (1) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصيد اليوم واليومين والثلاثة أيقصر الصلاة؟ قال لا إلا أن يشيع الرجل أخاه في الدين فان التصيد مسير باطل لا تقصر الصلاة فيه. وقال يقصر إذا شيع أخاه».

وعن عمران بن محمد بن عمران القمي في الصحيح عن بعض أصحابنا عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «قلت له الرجل يخرج الى الصيد مسيرة يوم أو يومين يقصر أو يتم؟ قال ان خرج لقوته وقوت عياله فليفطر ويقصر وان خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة».

وعن زرارة في الصحيح عن ابى جعفر عليه‌السلام (3) قال : «سألته عن من يخرج من اهله بالصقور والبزاة والكلاب يتنزه الليلة والليلتين والثلاثة هل يقصر من صلاته أم لا يقصر؟ قال انما خرج في لهو لا يقصر. قلت : الرجل يشيع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان؟ قال يفطر ويقصر فان ذلك حق عليه».

وعن حماد بن عثمان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (4) «في قول الله عزوجل (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) (5) قال : الباغي باغي الصيد والعادي السارق ليس لهما ان يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها هي حرام عليهما كما هي على المسلمين وليس لهما ان يقصرا في الصلاة».

هذا ما حضرني من الأخبار المتعلقة بالمسألة ، وتحقيق الكلام في المقام ان يقال : ظاهر الأصحاب ـ واليه يشير بعض الاخبار المذكورة كصحيحة عمار بن مروان وموثقة عبيد بن زرارة ـ ان السفر المحرم الموجب للإتمام أعم من ان يكون محرما في حد ذاته أو باعتبار غايته المترتبة عليه ، ومن الأول الفار من الزحف والهارب

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 9 من صلاة المسافر.

(3) الوسائل الباب 9 و 10 من صلاة المسافر.

(4) الوسائل الباب 8 من صلاة المسافر.

(5) سورة البقرة الآية 168 والأنعام الآية 146.


من غريمه مع قدرته على الوفاء. وعدوا من ذلك تارك الجمعة بعد وجوبها عليه ، ومنه ايضا الآبق عن مولاه والمرأة الناشزة والسالك طريقا يغلب على ظنه فيه العطب وان كانت الغاية حسنة كأن يكون السفر للحج والزيارات مثلا ، وعد منه كل سفر استلزم ترك واجب وسيأتي ما فيه. ومن الثاني المسافر لقطع الطريق أو لقتل رجل مسلم أو لا ضرار بقوم مسلمين أو نحو ذلك ، وقد عد في المدارك ومثله صاحب الذخيرة الآبق والناشز في القسم الثاني.

قال في المدارك : وإطلاق النص وكلام الأصحاب يقتضي عدم الفرق في السفر المحرم بين من كان غاية سفره معصية كقاصد قطع الطريق بسفره وكالعبد والمرأة القاصدين بسفرهما النشوز والإباق أو كان نفس سفره معصية كالفار من الزحف والهارب من غريمه مع قدرته على وفاء الحق.

أقول : فيه انه لا يخفى ان معنى السفر الذي غايته معصية ان يكون هناك أمر ان ثابتان في الوجود الخارجي أحدهما مقدم على الآخر والآخر مترتب عليه ، فان الغاية متأخرة في الوجود عن ذي الغاية ، مثلا من سافر لقتل رجل في بلد فان السفر يحصل أو لا ثم تلك الغاية المترتبة عليه فالسفر من حيث هو لا يلحقه تحريم وإنما يلحقه التحريم باعتبار ترتب تلك الغاية عليه ، وبهذا يظهر ان سفر المرأة القاصدة به النشوز ليس كذلك لان سفرها بهذا العنوان محرم من أصله ، والنشوز لا يصلح هنا لان يكون من الغايات المترتبة على السفر بعد وقوعه كما في سائر الأسفار التي غايتها محرمة بل هو حاصل من أول خروجها عن طاعة الزوج ، غاية الأمر ان السفر لما كان من حيث هو أعم قيد بهذا القيد ، والمراد حينئذ ان من جملة السفر المحرم في حد ذاته سفر المرأة إذا كانت قاصدة به النشوز فان مجرد سفرها ليس بمحرم. وبذلك يظهر ان هذين الفردين انما هما من القسم الأول كما ذكرناه.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروض : وإدخال هذه الأفراد يقتضي المنع


من ترخص كل تارك للواجب بسفره لاشتراكهما في العلة الموجبة لعدم الترخص ، إذ الغاية مباحة فإنه المفروض وإنما عرض العصيان بسبب ترك الواجب ، فلا فرق حينئذ بين استلزام سفر التجارة ترك صلاة الجمعة ونحوها وبين استلزامه ترك غيرها كتعلم العلم الواجب عينا أو كفاية بل الأمر في هذا الوجوب أقوى ، وهذا يقتضي عدم الترخص الا لا وحدي الناس ، لكن الموجود من النصوص في ذلك لا يدل على إدخال هذا القسم ولا على مطلق العاصي وانما دل على السفر الذي غايته المعصية

وقال سبطه السيد السند بعد نقله : ويشكل بأن رواية عمار بن مروان التي هي الأصل في هذا الباب تتناول مطلق العاصي بسفره ، وكذا التعليل المستفاد من رواية عبيد بن زرارة ، والإجماع المنقول من جماعة. لكن لا يخفى ان تارك الواجب كالتعلم ونحوه انما يكون عاصيا بنفس الترك لا بالسفر إلا إذا كان مضادا للواجب وقلنا باقتضاء الأمر بالشي‌ء النهي عن ضده الخاص ، والظاهر عدم الاقتضاء كما هو اختياره (قدس‌سره) مع ان التضاد بين التعلم والسفر غير متحقق في أكثر الأوقات ، فما ذكره (قدس‌سره) حينئذ من ان إدخال هذا القسم يقتضي عدم الترخص إلا لا وحدي الناس غير جيد. انتهى.

أقول : التحقيق في هذا المقام ان يقال : لا يخفى ان المفهوم من الأخبار المتقدمة ـ وهو صريح روايتي أبي سعيد الخراساني وعمران بن محمد القمي ـ ان المدار في حرمة السفر وإباحته إنما هو على القصد والنية ، ويعضده الأخبار المستفيضة الدالة على ان الأعمال بالنيات (1). لا محض استلزام السفر لأمر محرم كترك واجب مثلا مطلقا وان لم يخطر بباله فضلا عن قصده. ومنه يظهر ان عدهم سفر تارك الجمعة من قبيل السفر المحرم ليس في محله بناء على ما ذكروه في تلك المسألة من حيث انه مستلزم لتفويت الواجب ، فإنه إنما يتم بناء على ثبوت تلك المقدمة الأصولية من ان الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص. نعم يأتي بناء على ما قدمناه من النصوص

__________________

(1) الوسائل الباب 5 من مقدمة العبادات.


في تلك المسألة صحة عده هنا حيث انها دالة على النهى عن السفر. وبالجملة فإن المفهوم من الأخبار المتقدمة كما عرفت هو دوران التحريم مدار النية والقصد بذلك السفر ، فان قصد به أمرا محرما كالفرار من الزحف والهرب من غريمه مع إمكان الوفاء أو النشوز والإباق أو قصد غاية محرمة مترتبة عليه كالأمثلة المتقدمة ثبت التحريم ووجب الإتمام ، وأما لو استلزم ترك واجب ولم يخطر بباله أو خطر بباله ولكن لم يتعلق به القصد فإنه لا يتعلق به التحريم ، نعم لو كان هو المقصود من السفر وتعلقت به النية وقد ثبت تحريمه في حد ذاته أو باعتبار غايته فلا إشكال في ما ذكروه من وجوب الإتمام. وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا المتقدم ذكره من عدم ورود ما ذكره وانه لا حاجة في التفصي عنه الى ما ذكره سبطه السيد السند.

ويؤيد ما قلناه ما صرحوا به في هذا المقام من أن المعصية في السفر مانعة ابتداء واستدامة ، فلو قصد المعصية ابتداء أتم ولو رجع عنها في أثناء السفر اعتبرت المسافة حينئذ فإن بلغ الباقي مسافة قصر وإلا أتم.

وظاهرهم الاتفاق هنا على الحكم المذكور حيث ان ذلك ثابت في إنشاء كل سفر وهذا من جملة ذلك ، فإنه بعد الرجوع عن المعصية قاصد لإنشاء السفر فلا بد فيه من المسافة.

واما لو كان سفره مباحا ثم قصد المعصية في الأثناء انقطع ترخصه ووجب عليه التمام ما دام على ذلك القصد ، فلو رجع عن ذلك القصد الى قصده الأول أو غيره من القصود المباحة رجع الى التقصير.

وهل يعتبر هنا في رجوعه الى التقصير كون الباقي مسافة؟ قيل نعم وبه قطع العلامة في القواعد لبطلان المسافة الأولى بقصد المعصية فافتقر في رجوعه الى التقصير الى قصد مسافة جديدة. وقيل لا وهو ظاهر المحقق في المعتبر والعلامة في المنتهى وبه قطع في الذكرى ، واستدل عليه بان المانع من التقصير انما كان هي المعصية وقد زالت. قال في المدارك : وهو جيد وفي بعض الأخبار دلالة عليه.


أقول : الظاهر انه أشار بالخبر المذكور الى ما رواه الشيخ عن بعض أهل العسكر (1) قال : «خرج عن ابى الحسن عليه‌السلام ان صاحب الصيد يقصر ما دام على الجادة فإذا عدل عن الجادة أتم فإذا رجع إليها قصر».

وقال في الفقيه : ولو ان مسافرا ممن يجب عليه التقصير مال عن طريقه الى صيد لوجب عليه التمام لطلب الصيد ، فان رجع من صيده الى الطريق فعليه في رجوعه التقصير.

والظاهر ان كلامه هذا وقع تفسيرا للخبر المذكور ، وظاهره حمل الجادة على المعنى المعروف ، وكأنه حمل صاحب الصيد في الخبر على من لم يرد الصيد ابتداء وإنما خرج مسافرا ثم بدا له التصيد فعدل عن طريقه واحتمل بعض الأفاضل حمل الجادة في الخبر على الحق بمعنى الجادة الشرعية والموافقة لأمر الشارع فإنه يقصر ما دام كذلك وان عدل عن ذلك أتم.

ووجه الاستدلال بالرواية المذكورة هو الأمر بالتقصير بعد الرجوع الى الجادة وهو أعم من أن يكون الباقي مسافة أو أقل بحيث يحصل منه ومن ما تقدم المسافة.

ويمكن الاستدلال ايضا على القول الثاني زيادة على الرواية المذكورة بصحيحة أبي ولاد المتقدمة في الشرط الثالث (2) حيث انه عليه‌السلام أمره بالتقصير بعد رجوعه عن السفر متى كان سار في يومه ذلك بريدا نظرا الى ضم البريد الماضي الى البريد الحاصل في الرجوع وتلفيق المسافة منهما ، وبه يظهر قوة القول المشهور.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه بقي من اخبار المسألة خبر ان لا يخلو ظاهرهما من الإشكال : أحدهما ـ ما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصيد فقال ان كان يدور حوله فلا يقصر وان كان يجاوز الوقت فليقصر». ورواه في الفقيه عن العيص بن القاسم عنه عليه‌السلام مثله (4).

__________________

(1 و 3 و 4) الوسائل الباب 9 من صلاة المسافر.

(2) ص 333.


وحمله الشيخ على ما إذا قصد بالصيد القوت. أقول : وينبغي حمل قوله : «ان كان يدور حوله» بناء على ما ذكره على انه يدور حول مكانه الذي هو فيه من بلد ونحوها بمعنى انه لا يبلغ محل الترخص فإنه لا يقصر وان تجاوز الوقت يعنى حد الترخص فليقصر. وهو ظاهر.

وثانيهما ـ ما رواه عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام ورواه في الفقيه عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «ليس على صاحب الصيد تقصير ثلاثة أيام وإذا جاوز الثلاثة لزمه».

والشيخ في التهذيب حمله على الصيد للقوت ايضا ، والصدوق حمله على صيد اللهو والفضول دون القوت.

ويمكن توجيه ما ذكره الشيخ بأنه في ضمن الثلاثة لا يبلغ مسافة التقصير لأنه يتأنى في طلب الصيد يمينا وشمالا لعدم الصيد وقصد تحصيله ، فإن المسافة وان حصلت بعد الثلاثة إلا انها غير مقصودة من أول الأمر فلا يجب عليه التقصير تلك المدة ، وبعد الثلاثة فالغالب انه يرجع الى بلده ، وحينئذ يكون قاصدا للمسافة فيجب عليه التقصير لذلك.

ويمكن توجيه ما ذكره الصدوق بأنه في ضمن الثلاثة كان صيده غير مشروع فلا يقصر ، وأما بعد الثلاثة فالغالب انه يرجع الى بلده كما ذكرنا أولا ويكون سفره مشروعا يجب فيه التقصير.

واحتمل في الوافي حمل هذا الخبر على التقية أيضا ولعله الأقرب.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في سفر صيد التجارة ، فالمشهور بين المتأخرين كونه سفرا شرعيا مباحا بل ربما يكون مستحبا فيجب فيه التقصير في الصلاة وإفطار الصوم كغيره من الأسفار المباحة ، والمشهور في كلام المتقدمين التفصيل بين الصوم فيقصر فيه والصلاة فيتم فيها.

__________________

(1) الوسائل الباب 9 من صلاة المسافر.


قال في المدارك بعد أن ذكر انه يجب التقصير إذا كان الصيد لقوته وقوت عياله : والأصح إلحاق صيد التجارة به كما اختاره المرتضى وجماعة للإباحة بل قد يكون راجحا ايضا. والقول بان من هذا شأنه يقصر صومه ويتم صلاته للشيخ في النهاية والمبسوط واتباعه ، قال في المعتبر : ونحن نطالبه بدلالة الفرق ونقول ان كان مباحا قصر فيهما وان لم يكن أتم فيهما. وهو جيد. ويدل على ما اخترناه من التسوية بين قصر الصوم والصلاة ما رواه الشيخ في الصحيح عن معاوية بن وهب عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت». انتهى.

أقول : لا يخفى ان العلامة في المختلف قد نقل هذا القول عن جملة من أجلاء أصحابنا المتقدمين (رضوان الله عليهم) : منهم ـ الشيخ في النهاية والمبسوط والشيخ المفيد والشيخ على بن الحسين بن بابويه وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس ، قال وقال ابن إدريس : روى أصحابنا بأجمعهم انه يتم الصلاة ويفطر الصوم ، وكل سفر أوجب التقصير في الصوم وجب تقصير الصلاة فيه إلا هذه المسألة فحسب للإجماع عليه. ونقل في المختلف عن المبسوط انه قال : وان كان للتجارة دون الحاجة فروى أصحابنا انه يتم الصلاة ويفطر الصوم. ثم نقل في المختلف عن السيد المرتضى قال وأوجب المرتضى وابن ابى عقيل وسلار التقصير على من كان سفره طاعة أو مباحا ولم يفصلوا بين الصيد وغيره. انتهى.

وظاهر كلام ابن إدريس ان القول بذلك كان مشهورا بين المتقدمين ان لم يكن مجمعا عليه كما ادعاه ، وان انفكاك حكم الصلاة هنا عن الصوم مستثنى من القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى ، وهي ان من أفطر قصر ومن قصر أفطر.

وظاهر كلام المختلف ان السيد المرتضى وابن ابى عقيل وسلار لم يتعرضوا إلى مسألة الصيد للتجارة بخصوصها وإنما ذكروا وجوب التقصير على من كان سفره طاعة أو مباحا كما هو أصل المسألة التي هي من شروط التقصير.

__________________

(1) الوسائل الباب 15 من صلاة المسافر.


وبذلك يظهر ان قول السيد السند (قدس‌سره) هنا ـ والأصح إلحاق الصيد للتجارة بالصيد لقوت عياله كما اختاره المرتضى وجماعة ـ ليس من ما ينبغي لأن ظاهر هذه العبارة يعطي أن المرتضى واتباعه نصوا على ان صيد التجارة كالصيد لقوت عياله وليس الأمر كذلك كما عرفت.

ثم انه لا يخفى ان ما ذكره أولئك الأجلاء من الخبر الدال على الفرق هنا بين الصوم والصلاة لم نقف عليه إلا في كتاب الفقه الرضوي ، حيث قال عليه‌السلام في باب صلاة السفر (1) : «وإذا كان صيده للتجارة فعليه التمام في الصلاة والتقصير في الصوم».

ويمكن أن يكون الجماعة قد تلقوا هذا الحكم من كلام الشيخ على بن الحسين ابن بابويه كما هي عادتهم في جملة من المواضع ، والشيخ المذكور كما عرفت من ما قدمناه في غير مقام انما أخذه من هذا الكتاب. واحتمال الوقوف على خبر بذلك غيره ايضا ممكن إلا انك قد عرفت في غير موضع اختصاص هذا الكتاب بجملة من مستندات الأحكام التي قال بها المتقدمون ولم تصل إلى المتأخرين ، والظاهر ان هذا منها.

إلا انه عليه‌السلام في كتاب الصوم من الكتاب المذكور (2) قال ما هذه صورته : «وصاحب الصيد إذا كان صيده بطرا فعليه التمام في الصلاة والصوم ، وان كان صيده للتجارة فعليه التمام في الصلاة والصوم وروى ان عليه الإفطار في الصوم ، وان كان صيده من ما يعود على عياله فعليه التقصير في الصلاة والصوم. الى آخره».

وبه يعظم الإشكال ويصير من الداء العضال فإنه يؤذن بكون صيد التجارة غير مشروع ، وربما يشير الى ذلك قوله عليه‌السلام في مرسلة عمران بن محمد بن عمران القمي المتقدمة في روايات المقام الثاني من الشرط الرابع (3) «ان خرج لقوت عياله فليفطر وليقصر وان خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة». فإن هذا الكلام يؤذن

__________________

(1) ص 16.

(2) ص 25.

(3) ص 381.


بكون صيد التجارة من الفضول وانه غير مشروع.

هذا. وفي كتاب زيد النرسي عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «سأله بعض أصحابنا عن طلب الصيد وقال له انى رجل ألهو بطلب الصيد وضرب الصوالج وألهو بلعب الشطرنج؟ قال فقال أبو عبد الله عليه‌السلام أما الصيد فإنه مبتغي باطل وإنما أحل الله الصيد لمن اضطر الى الصيد فليس المضطر الى طلبه سعيه فيه باطلا ، ويجب عليه التقصير في الصلاة والصوم جميعا إذا كان مضطرا إلى أكله ، فإن كان ممن يطلبه للتجارة وليست له حرفة إلا من طلب الصيد فإنه سعيه حق وعليه التمام في الصلاة والصيام لان ذلك تجارته ، فهو بمنزلة صاحب الدور الذي يدور في الأسواق في طلب التجارة أو كالمكاري والملاح».

ويمكن أن يستنبط من هذا الخبر أن الصيد للتجارة إذا لم يكن على هذا الوجه فهو سفر شرعي يوجب التقصير ، وذلك لانه عليه‌السلام انما أوجب التمام هنا من حيث كونه صار عملا له كالتاجر الذي يدور في الأسواق للتجارة والمكاري ونحوهما من الأسفار المباحة لا من حيث كون سفره معصية ، وحينئذ فمع انتفاء كونه عملا له يكون مشروعا موجبا للتقصير ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله في صدر الخبر «ان الصيد مبتغي باطل» على صيد اللهو الذي أخبر به السائل عن نفسه ، إلا ان قوله عليه‌السلام «إنما أحل الله الصيد لمن اضطر الى الصيد فليس المضطر الى طلبه سعيه فيه باطلا» لا يخلو من منافرة لما ذكره في صيد التجارة.

وبالجملة فالمسألة لما عرفت غير خالية من الإشكال والداء العضال ، وقوة القول المشهور بين المتأخرين ظاهرة فان سفر التجارة في صيد كان أو غيره من الأسفار المباحة الموجبة لوجوب التقصير والموجب للإتمام انما هو سفر المعصية. إلا ان ذهاب جملة من فضلاء الأصحاب الى هذا القول ـ مع نقلهم لورود الأخبار به مضافا الى ما سمعت من كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي في الموضعين المتقدمين ـ

__________________

(1) مستدرك الوسائل الباب 7 من صلاة المسافر.


من ما أوجب الإشكال ، والاحتياط من ما لا ينبغي تركه على كل حال. والله العالم

السادس من الشروط المتقدمة ان لا يكون السفر عمله فان من كان السفر عمله يتم في سفره وحضره بلا خلاف يعتد به كالمكاري والجمال والملاح والبريد والاشتقان والراعي والبدوي والتاجر الذي يدور في تجارته من سوق الى سوق كما تضمنته الأخبار الصحيحة ، وما وقع في أكثر عبائر الأصحاب ـ من التعبير هنا بكثير السفر أو من كان سفره أكثر من حضره سواء كان من هؤلاء المعدودين أو لا فجعلوا مناط الإتمام سفر الرجل من أهله مرتين أو ثلاثا على الخلاف في ما به تحصل الكثرة من غير إقامة عشرة ـ ليس من ما ينبغي ان يصغى اليه لعدم الدليل عليه ، بل الظاهر من الأخبار كما سنتلوها عليك ان شاء الله تعالى على وجه لا يعتريه الإنكار هو كون ذلك عملا له ، فلا بد من صدق الاسم بأحد العنوانات المتقدمة ونحوها.

ومن الأخبار المشار إليها ما تقدم من رواية إسماعيل بن ابى زياد في صدر الشرط الخامس.

ومنها ـ ما رواه ثقة الإسلام في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (1) قال : «ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير ولا على المكاري والجمال».

وعن هشام بن الحكم بإسنادين أحدهما من الصحيح أو الحسن عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان».

وعن زرارة بأسانيد ثلاثة فيها الصحيح والحسن ، ورواه الشيخ والصدوق في الصحيح (3) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام أربعة قد يجب عليهم التمام في سفر كانوا أو حضر : المكاري والكرى والراعي والاشتقان لأنه عملهم».

قال في الوافي : الكرى كغني : الكثير المشي ، وكأنه أريد به الذي يكري نفسه للمشي ، وأما الاشتقان فقيل هو أمين البيادر ، وقال في الفقيه هو البريد.

__________________

(1 و 2 و 3) الوسائل الباب 11 من صلاة المسافر.


أقول : ما فسر به الكرى من أنه الكثير المشي لم نجده في شي‌ء من كتب اللغة المشهورة (1) والذي ذكره غيره من الأصحاب في معنى هذه اللفظة هو ان المراد بها المكترى ـ فعيل بمعنى مفتعل ـ نظرا الى ما يقتضيه ظاهر العطف من التغاير وأصالة عدم الترادف ، ولما نقل ايضا من استعماله في كلا المعنيين ، قال ابن إدريس في سرائره : الكرى من الأضداد ونقل عن ابن الأنباري في كتاب الأضداد انه يكون بمعنى المكاري ويكون بمعنى المكترى. انتهى.

ويستفاد من الخبر المذكور ان وجوب الإتمام على هؤلاء من حيث انه عملهم وفيه دلالة على ان كل من كان السفر عمله فإنه يجب عليه الإتمام.

وعن محمد بن جزك في الصحيح (2) قال : «كتبت الى ابى الحسن الثالث عليه‌السلام ان لي جمالا ولي قواما عليها ولست أخرج فيها إلا في طريق مكة لرغبتي في الحج أو في الندرة الى بعض المواضع فما يجب على إذا أنا خرجت معهم ان أعمل أيجب على التقصير في الصلاة والصيام في السفر أو التمام؟ فوقع عليه‌السلام : إذا كنت لا تلزمها ولا تخرج معها في كل سفر إلا الى مكة فعليك تقصير وإفطار».

وعن إسحاق بن عمار (3) قال : «سألته عن الملاحين والأعراب هل عليهم تقصير؟ قال لا بيوتهم معهم».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن سليمان بن جعفر الجعفري عن من ذكره عن ابى عبد الله عليه‌السلام (4) قال : «الاعراب لا يقصرون وذلك ان منازلهم معهم».

وما رواه في التهذيب عن على بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن ابى عبد الله (عليهما‌السلام) (5) قال : «أصحاب السفن يتمون الصلاة في سفنهم».

__________________

(1) ذكر في القاموس في مادة (كرى) ان أحد معاني هذه المادة العدو الشديد وذكر ورودها بهذا المعنى على هيئة فعيل وعليه يتم ما في الوافي نعم لم يذكر صاحب المصباح ولا صاحب المجمع هذا المعنى.

(2) الوسائل الباب 12 من صلاة المسافر.

(3 و 4 و 5) الوسائل الباب 11 من صلاة المسافر.


وما رواه في الخصال في الصحيح عن ابن ابى عمير يرفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «خمسة يتمون في سفر كانوا أو في حضر : المكاري والكرى والاشتقان وهو البريد والراعي والملاح لانه عملهم».

والظاهر ان هذا الخبر مستند الصدوق في ما فسر به الاشتقان من انه البريد كما تقدم نقله عنه ، والمذكور في اللغة وكلام الأصحاب إنما هو أمين البيادر يذهب من بيدر الى آخر ولا يقيم في مكان ، وقالوا وهو معرب دشتبان أى أمين البيادر.

وأما ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (2) ـ قال : «المكاري والجمال إذا جد بهما السير فليقصرا».

وعن الفضل بن عبد الملك في الصحيح (3) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المكارين الذين يختلفون فقال إذا جدوا السير فليقصروا» ـ.

فقد اختلف كلام الأصحاب في المعنى المراد منهما ، فقال الشيخ في التهذيب : الوجه في هذين الخبرين ما ذكره محمد بن يعقوب الكليني قال هذا محمول على من يجعل المنزلين منزلا فيقصر في الطريق ويتم في المنزل ، والذي يكشف عن ذلك ما رواه سعد بن عبد الله عن أحمد عن عمران بن محمد عن بعض أصحابنا يرفعه الى ابى عبد الله عليه‌السلام (4) قال : «المكاري والجمال إذا جد بهما السير فليقصرا في ما بين المنزلين ويتما في المنزل».

قال في المدارك : وهذه الرواية مع ضعف سندها غير دالة على ما اعتبراه. وهو جيد لكن لا من حيث ضعف السند بل من حيث انهما فسرا جد السير بان يجعلا المنزلين منزلا والرواية لا دلالة لها على ذلك بل هي مجملة مثل الروايتين المتقدمتين ، نعم قد دلت بالنسبة الى من جد به السير على حكم آخر غير الروايتين المتقدمتين ، إذ مقتضى الروايتين الأولتين ان حكمه التقصير مطلقا ومقتضى هذه

__________________

(1) الوسائل الباب 11 من صلاة المسافر.

(2 و 3 و 4) الوسائل الباب 13 من صلاة المسافر.


الرواية التقصير في الطريق والإتمام في المنزل.

ومثل الروايتين الأولتين ما رواه على بن جعفر في كتابه عن أخيه عليه‌السلام (1) قال : «سألته عن المكارين الذين يختلفون الى النيل هل عليهم إتمام الصلاة؟ قال إذا كان مختلفهم فليصوموا وليتموا الصلاة إلا ان يجد بهم السير فليقصروا وليفطروا».

ولا يحضرني وجه جمع بين هذه الأخبار الثلاثة ومرسلة عمران المذكورة.

وقال الشهيد في الذكرى في معنى الخبرين الأولين ـ ومثلهما كما عرفت رواية على بن جعفر ـ ان المراد ما إذا أنشأ المكاري والجمال سفرا غير صنعتهما أى يكون سيرهما متصلا كالحج والأسفار التي لا يصدق عليها صنعته. واستقر به السيد السند (قدس‌سره) في المدارك ، وقال لا يبعد استفادته من تعليل الإتمام الذي مر في صحيحة زرارة من قوله عليه‌السلام (2) «لأنه عملهم» واحتمل في الذكرى أن يكون المراد ان المكارين يتمون ما داموا يترددون في أقل من المسافة أو في مسافة غير مقصودة وأما إذا قصدوا مسافة قصروا. قال : ولكن هذا لا يختص المكاري والجمال به بل كل مسافر. وأنت خبير بما فيه من البعد.

وقال العلامة في المختلف : الأقرب عندي حمل الحديثين على انهما إذا أقاما عشرة أيام قصرا. قال في المدارك : ولا يخفى بعد ما قربه. وهو كذلك.

وحملهما شيخنا الشهيد الثاني في الروض على ما إذا قصد المكاري والجمال المسافة قبل تحقق الكثرة. وهو في البعد كسابقيه بل أبعد.

والأقرب عندي ما ذكره جملة من أفاضل متأخري المتأخرين ـ أولهم على الظاهر السيد السند في المدارك والمحقق الشيخ حسن في المنتقى والمحدث الكاشاني وغيرهم ـ من ان المراد به ما إذا زاد السير على ما هو المتعارف بحيث يشتمل على مشقة شديدة والقول بوجوب التقصير عليه لهذه المشقة الشديدة. قال في المنتقى : والمتجه هو الوقوف مع ظاهر اللفظ وهو زيادة السير عن القدر المعتاد في أسفارهما

__________________

(1) الوسائل الباب 13 من صلاة المسافر.

(2) ص 290.


غالبا والحكمة في هذا التخفيف واضحة. وعلى هذا فيجب تخصيص اخبار المكارين ونحوهم الدالة على ان فرضهم الإتمام بهذه الأخبار لما ذكر من العلة المذكورة.

وأما ما رواه الشيخ عن إسحاق بن عمار في الموثق على المشهور والصحيح على الأظهر عندي عن أبي إبراهيم عليه‌السلام (1) ـ قال : «سألته عن المكارين الذين يكرون الدواب وقلت يختلفون كل أيام كلما جاءهم شي‌ء اختلفوا ، فقال عليهم التقصير إذا سافروا».

وما رواه أيضا في الموثق أو الصحيح على الأظهر عن إسحاق بن عمار (2) قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن الذين يكرون الدواب يختلفون كل الأيام أعليهم التقصير إذا كانوا في سفر؟ قال نعم» ـ.

فهو محمول على من أنشأ سفرا غير السفر الذي هو عادته وهو ما يختلفون كل الأيام ، كالمكاري مثلا لو سافر للحج أو الى أحد البلدان في أمر غير ما هو الذي يتكرر فيه دائما. وقد حملهما الشيخ على محمل بعيد سحيق غير جدير بالذكر ولا حقيق وكيف كان فتحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع

الأول ـ المستفاد من ما قدمناه من الأخبار هو ان المدار في الإتمام على صدق أحد تلك الأمور المعدودة أو صدق كون السفر عادته.

قالوا : والمرجع في ذلك الى العرف لأنه المحكم في مثله. وبه قطع العلامة في جملة من كتبه والشهيد في الذكرى ، إلا انه قال ان ذلك انما يحصل غالبا بالسفرة الثالثة التي لم يتخلل قبلها اقامة تلك العشرة. واعتبر ابن إدريس في تحقق الكثرة ثلاث دفعات ، ثم قال ان صاحب الصنعة من المكارين والملاحين يجب عليهم الإتمام بنفس خروجهم الى السفر لان صنعتهم تقوم مقام تكرر من لا صنعة له ممن سفره أكثر من حضره. واستقرب العلامة في المختلف الإتمام في ذي الصنعة وغيره ممن جعل السفر عادته بالدفعة الثانية.

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 12 من صلاة المسافر.


ولم نقف لهذه الأقوال على مستند أزيد من ادعاء كل منهم العرف على ما ذكره والواجب بالنظر الى الأخبار مراعاة صدق الاسم وكون السفر عمله ، فإنه هو المستفاد منها ولا دلالة لها على ما ذكروه من اعتبار الكثرة فضلا عن صدقها بالمرتين أو الثلاث. والله العالم.

الثاني ـ اعلم ان المفهوم من كلام جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) ان الضابط في حصول الكثرة التي يترتب عليها وجوب الإتمام هو أن يسافر ثلاث مرات بحيث ينقطع سفره بعد الأولى والثانية إما بالوصول الى بلده أو الى موضع يعزم فيه الإقامة ثم يتجدد له بعد الصلاة تماما عزم السفر ، ولا يفصل بين هذه الدفعات الثلاث بإقامة عشرة في بلده مطلقا وفي غير بلده مع نية الإقامة ، فإنه يجب عليه التمام في الدفعة الثالثة ويبقى الحكم مستمرا الى أن يقيم عشرة على أحد الوجهين المتقدمين.

والذي نص عليه الشيخ وجملة ممن تبعه في قطع التمام في الأثناء أو بعد تمام الثلاث انما هو إقامة العشرة في بلده ، وألحق المحقق في النافع والعلامة ومن تبعهما إقامة العشرة المنوية في غير بلده فلو أقام في غير بلده عشرة ثم أنشأ سفرا قصر فيه ، قال في المدارك ان ظاهر الأصحاب الاتفاق على ان اقامة العشرة الأيام في البلد قاطعة لكثرة السفر وموجبة للقصر. وألحق المحقق في النافع والعلامة ومن تأخر عنهما بإقامة العشرة في بلده نية إقامتها في غير بلده ايضا ، فلو نواها في غير بلده وأتم فريضة ثم سافر قصر أيضا وان لم يتم الإقامة. كذا يفهم من صاحب المدارك ومن تأخر عنه ، إلا ان الظاهر من عبارات غيره ممن تقدمه انما هو أن يقيم عشرة كاملة بالنية لا مجرد النية والصلاة تماما وان لم يتم الإقامة كما هو ظاهر كلام من تأخر عنه ، والظاهر ان هذا هو الذي يستفاد من الرواية الآتية أيضا.

وألحق الشهيد في الدروس ومن تبعه العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما أى مضى أربعين يوما في غير بلده مترددا أو عازما على السفر ، لتصريحهم بكون


ما بعد الثلاثين المذكورة في حكم إقامة العشرة المنوية في وجوب الإتمام وانقطاع السفر ، وعلى هذا فإذا بطل إتمام كثير السفر بها يتوجه القول بلزوم البطلان بهذا أيضا ، حتى ان بعضهم قال بكون محض مضى الثلاثين مترددا كذلك بناء على كون نفس هذا المضي بمنزلة نية إقامة العشرة. إلا ان الظاهر من الرواية إنما هو الأول.

ثم ان الشيخ واتباعه صرحوا أيضا بأنه لو أقام خمسة في بلده قصر نهارا صلاته دون صومه وأتم ليلا.

وتوقف في هذا الحكم من أصله جملة من أفاضل متأخري المتأخرين : أو لهم في ما أعلم السيد السند في المدارك وتبعه الفاضل الخراساني والمحدث الكاشاني.

واستند الأصحاب في ما ذكروه من أصل الحكم وهو انقطاع إتمام كثير السفر بإقامة عشرة في بلده بما رواه الشيخ عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «المكاري ان لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم بالليل وعليه صوم شهر رمضان ، وان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام وأكثر قصر في سفره وأفطر».

وأنت خبير بان هذه الرواية مع ضعف سندها ـ المانع من قيامها بمعارضة الأخبار المتكاثرة الصحيحة الصريحة في وجوب الإتمام ، واشتمالها على ما لا يقول به أحد من الأصحاب من وجوب التقصير بإقامة أقل من خمسة الصادق على اليوم أو اليومين ـ فهي غير دالة على ما يدعونه (أما أو لا) ـ

فلان موردها المكاري ولهذا احتمل المحقق في المعتبر اختصاص الحكم بالمكاري ، ونقله في الشرائع قولا وهو مجهول القائل ، وقال بعض شراح النافع اعتذارا عن ما ذكره في الشرائع حيث لم ينقله غيره : ولعل المصنف سمعه من معاصر له في غير كتاب مصنف.

__________________

(1) الوسائل الباب 12 من صلاة المسافر.


و (أما ثانيا) ـ فإنها إنما تضمنت إقامة العشرة في البلد الذي يذهب اليه والمدعى إقامة العشرة في بلده.

و (أما ثالثا) ـ فان ظاهر الخبر المذكورة انه إذا كان له إرادة الإقامة في البلد الذي يذهب اليه قصر في سفره اليه ، واللازم من ذلك التقصير قبل الإقامة بل بمجرد العزم عليها ، وجميع ذلك خارج عن ما يقولون به.

والصدوق في الفقيه (1) روى هذه الرواية في الصحيح بنحو آخر قال : «المكاري إذا لم يستقر في منزله إلا خمسة أيام أو أقل قصر في سفره بالنهار وأتم صلاة الليل وعليه صوم شهر رمضان ، فان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام أو أكثر وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر قصر في سفره وأفطر».

ومقتضى هذه الرواية زيادة على ما تقدم اعتبار إقامة العشرة في منزله مضافة إلى العشرة التي في بلد الإقامة. والظاهر الخبر ترتب القصر على الإقامتين ولا قائل به بل هو أشد إشكالا.

ومن ما ورد في المسألة أيضا رواية يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) قال : «سألته عن حد المكاري الذي يصوم ويتم قال أيما مكار أقام في منزله أو في البلد الذي يدخله أقل من عشرة أيام وجب عليه الصيام والتمام ابدا وان كان مقامه في منزله أو في البلد الذي يدخله أكثر من عشرة أيام فعليه التقصير والإفطار».

وهذه الرواية مع ضعف سندها وان كانت عارية عن الإشكالات المتقدمة إلا انها تضمنت الرجوع الى التقصير بالإقامة في غير بلده ايضا ، وقد عرفت من كلامهم ـ كما هو المشهور بين المتقدمين ـ التخصيص ببلده.

وبالجملة فإن الأخبار الصحاح قد استفاضت بوجوب الإتمام على المكاري

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 12 من صلاة المسافر.


ونحوه من تلك الأفراد المعدودة في الأخبار ، ومقتضاها ثبوت الحكم واستمراره ما دام الاسم باقيا والعادة جارية ، والخروج عنها بهذين الخبرين مع ما عرفت من الإشكالات المتقدمة فيهما مشكل ، وبمجرد دعوى اتفاق الأصحاب مع خلوه من الدليل أشكل. نعم لو كان هذان الخبران موافقين لكلام الأصحاب ومعتضدين باتفاقهم ومجتمعين على أمر واحد لقوي الاعتماد عليهما في تخصيص تلك الأخبار المشار إليها إلا ان الأمر كما عرفت ليس كذلك.

وأما ما ذكره في الذخيرة ـ من ان العمل بصحيحة ابن سنان على رواية الصدوق غير بعيد ، قال : واستوجه ذلك بعض أفاضل المتأخرين ولم يعتبر مخالفة المشهور وقال ان اعتبار مثل هذه الشهرة لا وجه له. انتهى ـ

فظني بعده ولكن قاعدة أصحاب هذا الاصطلاح المحدث هو التهافت على صحة السند وان كان متن الرواية مخالفا لمقتضى القواعد الشرعية والأصول المرعية وهو لا يخلو من المجازفة ، وكيف يمكن العمل بالخبر المذكور وقد تضمن زيادة على ما قدمناه انه متى أقام خمسة أو أقل قصر في سفره بالنهار وصام شهر رمضان مع ان مقتضى الأخبار المعتمدة ان التقصير ملازم للإفطار متى قصر أفطر ومتى أفطر قصر (1) وأشكل من ذلك لزوم هذا الحكم في من أقام أقل من خمسة كما هو صريح الرواية الصادق على اقامة يوم وانه يقصر في سفره ويصوم ، وهل يلتزم عارف بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية ذلك؟ فكيف يمكن العمل بالخبر بمجرد صحة سنده مع اشتماله على هذه الأحكام الخارجة عن مقتضى الأصول والقواعد.

وأما ما ذكره الفاضل المتقدم ـ من ان إيراد الصدوق لها في كتابه مع قرب العهد بما قرره في أوله يقتضي عمله بها وكونها من الأخبار المعمول عليها بين القدماء ـ فهو مجرد تطويل لا يرجع الى طائل ، فإن من تتبع اخبار الفقيه حق التتبع ورأى ما فيه من الأخبار الشاذة النادرة المخالفة لما عليه الأصحاب قديما وحديثا لا يخفى عليه ضعف قوله : ان مجرد نقل الخبر في الكتاب المذكور يقتضي كونه

__________________

(1) ص 387.


معمولا عليه بين القدماء.

نعم ربما يمكن التمسك برواية يونس لسلامتها من هذه الإشكالات إلا ان تخصيص تلك الأخبار الصحيحة الصريحة المستفيضة والخروج عن مقتضاها بهذه الرواية الضعيفة مشكل.

ومن ما يؤيد الإشكال أيضا عدم دلالة شي‌ء من الروايات المذكورة على تعيين وقت الرجوع الى التمام بعد التقصير بالإقامة ، واختلاف الأصحاب في كونه بعد الثانية أو الثالثة.

ومن ما ذكرنا يظهر لك انه لا دليل على ما ذهب اليه الشهيد في الدروس ومن تبعه من إلحاق العشرة الحاصلة بعد التردد ثلاثين يوما ، فإنه لا إشارة إليها في ما ذكرنا من نصوص المسألة فضلا عن التصريح بها.

الثالث ـ ما تقدم نقله عن الشيخ واتباعه ـ من أن من أقام في بلده خمسة أيام قصر نهارا صلاته دون صومه وأتم ليلا ـ فقد استندوا فيه الى ما تقدم من رواية عبد الله بن سنان ، والمشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين وجوب الإتمام في الصورة المذكورة ، وصرح به ابن إدريس ومن تأخر عنه تمسكا بإطلاق الروايات المتضمنة لأن كثير السفر يجب عليه الإتمام ، قالوا خرج عنه من أقام عشرة بالنص والإجماع فبقي الباقي. وفيه ان هذا الكلام يرجع في الحقيقة إلى الاعتماد هنا على دعوى الإجماع خاصة وانه هو السبب في الاستثناء ، لان النص الذي ادعوه ليس إلا هذه الرواية فإن صلحت للاستثناء ففي الموضعين وإلا فلا فيهما ، فلا وجه للاستناد إليها في أحدهما دون الآخر. وكيف كان فقد عرفت معارضة هذه الرواية في هذا الحكم بالأخبار الصحيحة الصريحة في ملازمة التقصير للإفطار (1) مضافا الى ما اشتملت عليه من التقصير في أقل من الخمسة أيضا ، وبه يظهر ضعف القول المذكور.

وكيف كان فملخص الكلام في المسألة ان ما عدا المكاري يجب عليه البقاء على

__________________

(1) ص 387.


التمام كما اقتضته الروايات المستفيضة المتقدمة ، ولا معارض لها إذ مورد هذه الأخبار إنما هو المكاري ، واما المكاري الذي هو محل الإشكال واختلاف الروايات في هذا المجال فان الواجب عليه الاحتياط بعد إقامة العشرة في منزله أو بلد الإقامة بالجمع بين القصر والإتمام إلى ثلاث سفرات. والله العالم.

الرابع ـ انه بعد وصول القلم في الجري في هذا الميدان الى هذا المكان وقفت على كلام لبعض مشايخنا الأعيان يتضمن الانتصار للقول المشهور بين الأصحاب في شرح له على المفاتيح قد ارتكب فيه من التكلفات البعيدة والتعسفات الغير السديدة ما لا يخفى على الناطر الماهر والخبير الباهر ، ولا بأس بإيراد ملخص كلامه وما اشتمل عليه من نقضه وإبرامه ليظهر لك صحة ما ذكرناه وقوة ما ادعيناه :

قال (قدس‌سره) ـ بعد ذكر كلام المصنف والبحث في المسألة على ما ذكره المصنف ـ ما ملخصه : إذا تبين هذا فاعلم ان أكثر كلام المصنف ههنا مبنى على متابعة صاحب المدارك ، فإنه ذكر ما ذكر ههنا واستشكل في المسألة وصار هذا سبب توقف غير واحد ممن تأخر عنه مع نقلهم جميعا كون المسألة مقطوعا بها عند الأصحاب ، والحق بحسب نظري القاصر ان هؤلاء لم يتفطنوا لما فهمه الأصحاب وان ما فهمه الأصحاب هو الصواب ، فاستمع لما نتلو عليك ثم تدبر : اعلم ان الصدوق في الفقيه روى بسند صحيح. ثم نقل صحيحة عبد الله بن سنان المتقدم نقلها عن الفقيه (1) ثم قال : ورواه الشيخ مرة من كتاب سعد بن عبد الله عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله عليه‌السلام مثله إلا انه أسقط قوله : «وينصرف إلى منزله ويكون له مقام عشرة أيام أو أكثر» ومرة أخرى من كتاب محمد بن احمد بن يحيى بالسند بعينه لكن برواية يونس عن بعض رجاله عن ابى عبد الله عليه‌السلام (2) هكذا. ثم ساق مرسلة يونس كما قدمناه (3) ثم قال : ولا يخفى ان بعد ملاحظة هذه الثلاثة سندا ومتنا لا يبقى شك في أنها مضمون حديث واحد وقع فيه بعض اختلاف في العبارة كما

__________________

(1 و 3) ص 397.

(2) الوسائل الباب 12 من صلاة المسافر.


هو دأب الرواة في نقل الروايات ، ومروي بسندين أحدهما ما لا كلام في صحته وهو ما في الفقيه. ثم أطال في الاعتذار عن ضعف طريق رواية الشيخ عن عبد الله بن سنان وضعف مرسلة يونس ، الى أن قال : فظهر ان تضعيف السند في غاية الضعف ، ثم انه ظاهر أيضا ان اختلاف بعض العبارات بل عدم استقامة مضمون بعضها ظاهرا غير موجب للطرح رأسا ، بل مهما أمكن التوجيه لا بد منه وإلا يؤخذ بما هو المشترك بين الجميع والمضبوط المتضح ، ولا يخفى ان مضمون الأخير لا عيب فيه ولا شبهة تعتريه سوى عدم التصريح بلزوم كون إقامة العشرة في غير منزله مع النية وظاهر ان مبنى هذا على اشتهاره وظهوره ، نعم لما كان الواجب تحقق الإقامة عشرا بالتمام كما هو المشهور عبر هنا بالعبارة التي تدل عليه كما هو ظاهر. ثم ان الحق ان هذا المضمون هو المشترك بين الجميع أيضا ، إلا ان الظاهر من عبارة الفقيه ان الواو في قوله : «وينصرف» بمعنى «أو» بل لا بد أن تحمل كذلك ، أو نقول بسقوط الألف من قلم النساخ والمراد «أو ينصرف» حتى يستقيم المعنى ويوافق كل مع الآخر ، وأما إسقاط قوله : «وينصرف» في الوسطاني فربما يكون ممن لم يتفطن لحقيقة الحال فظن أنه زائد ، مع انه على تقدير فرض عدم كونه من أصل الحديث غير مضر ضرورة إمكان استنباط ما هو مضمونه من قوله عليه‌السلام : «وان كان له مقام. الى آخره» بل من حكم الخمسة أيضا فافهم. واما الإشكال بما اشتمل عليه الأولان من حكم الخمسة فمع عدم وجوده في الأخير وعدم تنافي تركه العمل بما سواه يمكن توجيهه بان المراد بالتقصير في النهار ترك النوافل أي إذا لم يقم العشرة تماما فمن حيث نفيه من وجوب الإتمام عليه ليس يلزم عليه نوافل النهار بل يكتفى حينئذ بنوافل الليل كما يشعر به التعبير في الفقيه بلفظ صلاة الليل ، فلا ينافي الحكم بإتمام الفريضة كما يؤيده الأمر بالصوم ايضا وما في ابتداء الخبر الأخير ، ويحتمل حمل الخمسة على التقية ايضا (1) على انه قد مر انه عمل به بعض الأصحاب أيضا ، وبالجملة بعد تبيان ما ذكرناه من حال السند اى مانع من

__________________

(1) التعليقة 1 ص 351.


العمل بمضمون الخبر الأخير لا سيما مع اعتضاده بعمل الأصحاب لما مر من كون الحكم مقطوعا به عندهم ، بل مع وجود شواهد متينة ومؤيدات قوية كصحيحة هشام التي مرت في الشرط الرابع من مفتاح شروط القصر (1) وكرواية السندي (2) التي مثلها وحديث إسحاق بن عمار (3) وغيرهما من ما فيه الأشعار ولو على سبيل الإجمال بأن المقام للمكاري يقطع حكم الإقامة وان الإتمام على هؤلاء ليس على سبيل الإطلاق ، فقد ظهر من هذا كله سقوط ما مر من دعوى المصنف متروكية مضمون صحيحة الفقيه ومن ادعائه معارضة الصحاح الواردة في إتمام المكاري من حيث كونها دالة على الإتمام على سبيل الإطلاق من غير ذكر ما يدل على الاشتراط المذكور ، مع عدم قابلية مستند الاشتراط للمعارضة بزعمه ووجه السقوط واضح من ما بيناه.

انتهى كلامه (زيد مقامه) وفيه أولا ـ ان ما ادعاه ـ من كون رواية يونس مع روايتي الصدوق والشيخ رواية واحدة وحديثا واحدا وقع فيه بعض اختلاف في العبارة ـ بعيد غاية البعد كما لا يخفى على الناقد البصير ولا ينبئك مثل خبير ، إذ لا يخفى المغايرة سندا ومتنا وبه يثبت التغاير بين الأخبار المذكورة والتعدد وان حصل الاشتراك في مادة من حيث المعنى ، والموجب للاتحاد هو الاتفاق سندا ومتنا في اللفظ كما لا يخفى ، وغرضه من هذه الدعوى سريان الصحة الى ما تضمنته رواية يونس من حيث صحة سند رواية الفقيه كما يشير اليه قوله أخيرا «وبالجملة بعد تبيان ما ذكرناه من حال السند أى مانع من العمل بمضمون الخبر الأخير» وأشار بالخبر الأخير إلى رواية يونس وببيان حال السند الى ما قدمه من صحة سند رواية الفقيه ، وهو من التعسف والتكلف بمكان غير خفي على المتأمل.

وثانيا ـ ان ما ذكره ـ من حمل الواو في صحيحة الفقيه في قوله «وينصرف» على انها بمعنى «أو» أو سقوط الألف من قلم النساخ ـ وان سقط به مع بعده وتكلفه

__________________

(1 و 3) ص 290 و 291.

(2) الوسائل الباب 11 من صلاة المسافر.


الاشكال الناشئ من ترتب القصر على الإقامتين كما تقدم إلا ان الاشكال الثالث من الإشكالات الموردة على رواية الشيخ باق بحاله ، فإن ظاهر العبارة المذكورة ومقتضاها هو ترتب القصر على ارادة المقام في البلد الذي يذهب اليه أو إرادة الإقامة في منزله لا على حصول المقام وتمامه بالفعل والمراد بالاستدلال انما هو الثاني لا الأول ، فما تدل عليه الرواية غير مراد بالاتفاق وما هو المراد لا دلالة لها عليه ولكن هذا من ما لم يتفطن (قدس‌سره) اليه.

وثالثا ـ ان ما ذكره ـ في الاعتذار عن سقوط قوله «وينصرف. الى آخره» الذي في صحيحة الفقيه من رواية الشيخ حيث انه موضع الاستدلال وبتركه حصل الاختلال ـ فهو ايضا من التكلفات البعيدة والتمحلات الشديدة ، ولو قامت هذه التكلفات في الروايات انسدت أبواب الاستدلالات ، إذ للخصم أن يقدر ما يريد وما يوافق غرضه ويدعى أمثال هذه الدعاوي في دليل خصمه فيقلب عليه دليله فيدعى نقصان ما يحتاج اليه وزيادة ما يضره ويرد عليه ونحو ذلك كما لا يخفى على المصنف ، ومن ذلك ايضا قوله : «ضرورة إمكان استنباط ما هو مضمونه من قوله وان كان له مقام. الى آخره» مشيرا به كما ذكره في حاشية الكتاب الى ان قوله في الخبر «وان كان له مقام في البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام» شامل بإطلاقه للبلد الذي هو وطنه وغيره ، فان فيه انه لا يخفى على العارف بأساليب الكلام ان المتبادر من هذه العبارة والمنساق منها إنما هو بلد الإقامة الخارجة عن وطنه والعبارة المطابقة إذا أريد ذلك انما يقال «يرجع اليه» لا «يذهب» وهذا ظاهر لمن نظر بعين الإنصاف وجانب التعصب والاعتساف.

ورابعا ـ ان ما ذكره ـ من الجواب عن الإشكال بما اشتمل عليه الخبران من حكم الخمسة من توجيهه بان المراد بالتقصير في النهار يعنى ترك النوافل النهارية وان كان يتم الفريضة ـ فهو مثل تأويلاته المتقدمة التي قد عرفت بما ذكرنا انها متزعزعة منهدمة ، ومن الذي يعجزه مثل هذه التأويلات الغثة الباردة والتحملات


السخيفة الشارة التي قد عرفت انه لو انفتح في أمثالها الباب لانسد باب الاستدلال وعلا الباطل الصواب.

وبالجملة فإن ما أطال به هذا الفاضل (قدس‌سره) حجة للقول المشهور ظاهر القصور واضح الفطور وان كان بزعمه انه كالنور على الطور في الظهور ، نعم ربما لاح من صحيحة هشام المشار إليها في كلامه (1) وقوله عليه‌السلام فيها «المكاري والجمال الذي يختلف وليس له مقام يتم الصلاة ويصوم شهر رمضان». ما ذكره إلا انها ليست ظاهرة في ذلك بل ربما كان الظاهر منها انما هو بيان ان هؤلاء الذين عادتهم الاختلاف كلما عرض لهم من يكتري دوابهم ليس لهم تأخر عن ذلك ولا توقف عنه ـ كما يشير اليه قوله في رواية إسحاق بن عمار المتقدمة «كلما جاءهم شي‌ء اختلفوا» ـ يجب عليهم إتمام الصلاة والصوم وان أقاموا عشرة أو أزيد مع عدم وجود من يكتري دوابهم. ولا يخفى على الناظر في ما هو العادة الجارية الآن ان المكاري كثيرا ما يتوقف في وطنه أو البلد الذي يذهب إليه عشرة ، وبذلك صرح شيخنا المجلسي في البحار ايضا فقال : وقل مكار لا يقيم في بلده أو البلد الذي يذهب إليه عشرة أيام. انتهى. وهو جيد وبه يعظم الاشكال. وكيف كان فالاحتياط في أمثال هذه المواضع طريق السلامة. والله العالم.

السابع ـ من الشروط المتقدمة ان يتوارى عن البيوت ـ بمعنى انه لا يراه أحد ممن كان عند البيوت التي هي آخر خطة البلد ـ أو يخفى عليه أذان البلد ، والمراد كفاية أحدهما في ترخص القصر والانتقال من الإتمام إلى التقصير.

والأصل في هذين الشرطين ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن مسلم (2) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل يريد السفر متى يقصر؟ قال إذا توارى من البيوت».

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الله بن سنان عنه عليه‌السلام (3) قال : «سألته

__________________

(1) ص 390.

(2 و 3) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.


عن التقصير قال إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر ، وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك».

وما رواه البرقي في المحاسن في الصحيح عن حماد بن عثمان عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «إذا سمع الأذان أتم المسافر».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (2) «وان كان أكثر من بريد فالتقصير واجب إذا غاب عنك أذان مصرك ، وان كنت في شهر رمضان فخرجت من منزلك قبل طلوع الفجر الى السفر أفطرت إذا غاب عنك أذان مصرك».

وقد تقدم (3) في رواية إسحاق بن عمار المنقولة من كتاب العلل في المقام الثاني في بيان ما هو المختار من الأقوال في مسافة الأربعة الفراسخ قوله فيها «أليس قد بلغوا الموضع الذي لا يسمعون فيه أذان مصرهم الذي خرجوا منه. الى آخره» من ما يؤذن بكون خفاء الأذان موجبا للترخص.

وما ذكرناه من التخيير في الترخص بين الأمرين المذكورين هو أحد الأقوال في المسألة جمعا بين اخبارها المذكورة ، وهو المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) سيما المتقدمين إلا انهم عبروا هنا بخفاء جدران البلد بمعنى انه لا يجب عليه التقصير حتى يتوارى عنه جدران البلد الذي خرج منه أو يخفى عليه أذانها. وقيل بخفائهما معا ونقل عن المرتضى والشيخ في الخلاف ونسبه شيخنا الشهيد الثاني إلى المشهور بين المتأخرين. وقال على بن بابويه : إذا خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه. واعتبر الشيخ المفيد وسلار الأذان خاصة. وقال ابن إدريس الاعتماد عندي على الأذان المتوسط دون الجدران. وعن الصدوق في المقنع انه اعتبر خفاء الحيطان.

أقول : لا يخفى ان الظاهر من صحيحة محمد بن مسلم المذكورة وقوله فيها : «إذا توارى من البيوت» انما هو بمعنى إذا بعد المسافر بالضرب في الأرض على وجه

__________________

(1) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.

(2) ص 16.

(3) ص 326.


لا يراه أهل البيوت ، والمراد بالتواري عن البيوت أى من أهل البيوت بتقدير مضاف كما في قوله عزوجل «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ..(1) أى أهل القرية. هذا هو ظاهر اللفظ بغير اشكال وبه يقرب مقتضى هذا الخبر ونحوه من خبر خفاء الأذان فإن توارى المسافر عن أهل البلد وخفاء الأذان متقاربان ولا يضر التفاوت اليسر ، فان مدار أمثال هذه الأمور في الشرع على التقريب كما هو كذلك عرفا وتبادرا. وأما ما ذكره الأصحاب ـ من حمل الخبر على خفاء البيوت عن المسافر حملا لقوله «إذا توارى من البيوت» على معنى توارى البيوت عنه ـ فمع كونه خلاف ظاهر اللفظ المذكور لا يخفى ما فيه من التفاوت الفاحش بين العلامتين المذكورتين ، فإنه بعد أن يخفى عليه سماع الأذان لا يخفى عليه جدران البلد إلا بعد مسافة زائدة كما هو ظاهر لمن تأمل.

والسبب في اختلاف الأقوال هنا هو اختلاف الأفهام في الجمع بين أخبار المسألة ، فبعضهم جمع بالتخيير كما ذكرناه إلا انه بناء على القول المشهور لا يخلو من اشكال كما عرفت ، وبعض كالمرتضى والشيخ في الخلاف ومن تبعهما جمعوا بين الخبرين بتقييد كل منهما بالآخر ، فيلزم ارتكاب التخصيص في كل منهما ، وهو بعيد جدا بقرينة الاكتفاء بأحدهما في كل من الخبرين فهو في قوة تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وأما من ذهب الى الاعتماد على الأذان المتوسط دون التواري فلعله لتعدد رواياته وكونه أضبط لاعتباره الأذان المتوسط مع اختلاف البيوت والجدران في سرعة الخفاء وعدمها بحيث يرى بعضها من أزيد من فرسخ ، وللتفاوت الفاحش بين خفاء الأذان والجدران كما أشرنا إليه آنفا. والحق هو ما ذكرناه من التخيير بناء على المعنى الذي فهمناه من الخبر.

وأما ما نقل عن الشيخ على بن بابويه فقيل ان وجهه الاعتماد على ما رواه

__________________

(1) سورة يوسف الآية 82.


ابنه الصدوق في الفقيه مرسلا (1) حيث قال : وقد روى عن الصادق عليه‌السلام انه قال : «إذا خرجت من منزلك فقصر الى ان تعود اليه». قال في الذخيرة : ولو صحت كان الجمع بالتخيير قبل الوصول الى حد الخفاء متجها لكن صحتها غير معلوم. انتهى.

أقول : ومثل هذه الرواية ما رواه الشيخ في الموثق عن على بن يقطين عن ابى الحسن عليه‌السلام (2) «في الرجل يسافر في شهر رمضان أيفطر في منزله؟ قال إذا حدث نفسه في الليل بالسفر أفطر إذا خرج من منزله. الخبر».

ويمكن أن يكون مثلهما ايضا ما رواه في المحاسن في الصحيح عن حماد بن عثمان عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام (3) «في الرجل يخرج مسافرا؟ قال يقصر إذا خرج من البيوت». بحمل البيوت على بيت المسافر ، مع إمكان حملها على بيوت البلد ، والمراد من الخروج منها التواري المعتبر في الترخص جمعا بينها وبين روايات المسألة ولعله الأقرب.

هذا. ولا يخفى عليك ان ما صرح به الشيخ المشار اليه هنا عن ما ذكره في كتاب الفقه الرضوي حيث قال عليه‌السلام (4) : «وان خرجت من منزلك فقصر الى أن تعود اليه». ومنه يعلم ان مستنده إنما هو الكتاب المذكور على الطريقة التي عرفتها في غير مقام من ما تقدم وسيأتي ان شاء الله تعالى.

وبذلك يظهر لك قوة ما ذهب اليه الشيخ المذكور لدلالة هذه الروايات المذكورة عليه ، ولا وجه للجمع بينها وبين ما دل من الأخبار المتقدمة على اناطة التقصير بمحل الترخص إلا ما ذكره في الذخيرة من التخيير قبل وصول حد الخفاء إلا انه يخدشه لفظ الضرب في آية السفر لترتب التقصير فيها على الضرب في

__________________

(1) الوسائل الباب 7 من صلاة المسافر.

(2) الوسائل الباب 5 ممن يصح منه الصوم.

(3) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.

(4) ص 16.


الأرض الذي هو عبارة عن السير فيها ، وحينئذ فيكون ما دلت عليه هذه الأخبار مخالفا لظاهر الآية ، واخبار الترخص بوصول حد الخفاء منطبقة عليها وموافقة لها فترجح بذلك على هذه الأخبار ، ولا يبعد حمل هذه الأخبار على التقية كما احتمله بعض أصحابنا أيضا ولعله الأرجح وان لم يعلم القائل منهم بذلك (1) وكيف كان فالقول المعتمد في المسألة ما قدمنا ذكره أولا. والله العالم.

تنبيهات

الأول ـ قال في المدارك : وذكر الشارح ان المعتبر في رؤية الجدار صورته لا شبحه ومقتضى الرواية اعتبار التواري من البيوت ، والظاهر ان معناه وجود الحائل بينه وبينها وان كان قليلا وانه لا يضر رؤيتها بعد ذلك لصدق التواري أولا وذكر الشهيدان ان البلد لو كانت في علو مفرط أو وهدة اعتبر فيها الاستواء تقديرا ويحتمل قويا الاكتفاء بالتواري في المنخفض كيف كان لا طلاق الخبر. انتهى. هكذا في بعض نسخ الكتاب وفي بعضها : ومقتضى الرواية التواري من البيوت والظاهر ان معناه استتاره عنها بحيث لا يرى لمن كان في البلد وذكر الشهيدان. الى آخر ما تقدم.

والظاهر ان النسخة الأولى هي القديمة التي خرجت عنه أولا والثانية تضمنت العدول عن ما ذكره أولا ، وقد وقع له مثل ذلك في مواضع من شرحه هذا كما في مسألة القراءة في صلاة الجمعة ، إلا ان قوله بعد ذكر ما نقله عن الشهيدين في العلو

__________________

(1) في المغني ج 2 ص 259 عن سليمان بن موسى وعطاء انهما باحا القصر في البلد لمن نوى السفر ، وعن الحارث بن أبي ربيعة انه أراد سفرا فصلى في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله ، ورى عبيد بن جبير قال : كنت مع ابى بصرة الغفاري في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع ثم قرب غداءه فلم يجاوز حتى دعا بالسفرة ثم قال اقترب. قلت ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة أترغب عن سنة رسول الله «ص» فأكل رواه أبو داود.


المفرط والوهدة : «ويحتمل قويا الاكتفاء بالتواري في المنخفض» انما ينطبق على النسخة الأولى التي عدل عنها وهو قد أصلح هذا الموضع وغفل عن ذلك ، وبيان ذلك ان الظاهر ان ما اشتملت عليه هذه النسخة الأخيرة يرجع الى ما اخترناه في معنى الرواية وان المراد منها خفاء المسافر عن أهل البلد لا خفاء البلد عن المسافر ، وحينئذ فقوله بعد نقله عن الشهيدين اعتبار الاستواء في البلد بان لا تكون في علو مفرط ولا وهدة : «ويحتمل قويا. الى آخره» إنما يتجه على النسخة القديمة ، اللهم إلا أن يريد بعبارته الأخيرة وقوله : «استتاره عنها بحيث لا يرى لمن كان في البلد» هو الاستتار كيف اتفق ولو بوجود الحائل ، إلا انه لا يظهر حينئذ لهذا العدول عن العبارة الأولى الى هذه العبارة وجه لرجوع هذه العبارة بهذا المعنى إلى العبارة الأولى كما لا يخفى.

وكيف كان فإنه ينبغي أن يعلم ان المراد من قوله عليه‌السلام : «إذا توارى» إنما هو التواري والخفاء بالضرب في الأرض والسير فيها والبعد عن البلد كما دلت عليه الآية الشريفة لا التواري كيف اتفق كما توهمه ، فان قوله عزوجل «وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ» الذي هو شرط التقصير إنما يتحقق بالسير فيها والبعد عن البلد ، وهي وان كانت مجملة في قدر البعد إلا ان النصوص الواردة في تحديد محل الترخص قد أوضحت إجمال الآية وان المراد الضرب الى هذا المقدار الذي دلت عليه النصوص المشار إليها ، وهذا هو المعنى الذي فهمه الأصحاب (رضوان الله عليهم) من الخبر المذكور ، ولم يذهب الى هذا الوهم الذي توهمه أحد سواه (قدس‌سره) ومن الظاهر انهم (عليهم‌السلام) أرادوا بهذه الأخبار وضع قاعدة كلية وبيان ضابطة جلية يترتب عليها حكم التقصير والتمام ذهابا وهو إما خفاء المسافر عن أهل البلد أو خفاء الأذان عليه ، وأما وجود الحائل الذي قد يكون وقد لا يكون وقد يبعد وقد يقرب مع عدم الدليل عليه فلا يصلح لأن يكون ضابطا كليا ولا قانونا جليا. وبالجملة فإن ما ذكره (قدس‌سره) لا يخلو من مجازفة أو غفلة. والله العالم.


الثاني ـ قد صرح جملة من الأصحاب (رضوان الله عليهم) بأنه لا عبرة بأعلام البلد كالمنارة والقلاع والقباب ، قالوا : ولا عبرة بسماع الأذان المفرط في العلو كما انه لا عبرة بخفاء الأذان المفرط في الانخفاض. أقول : والجميع من ما لا بأس به حملا للروايات المتقدمة على ما هو الغالب المعروف.

ثم انهم صرحوا أيضا بان ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من خفاء البيوت وخفاء الأذان المراد به بيوت البلد وأذانه بالنسبة إلى القرية والبلد الصغيرة أو المتوسطة ، وأما لو كان البلد كبيرة متسعة ـ قالوا وهي التي اتسعت خطتها بحيث تخرج عن العادة ـ فإنهم جعلوا لكل محلة منها حكم نفسها بالنسبة إلى تقدير مسافة الترخص التي هي عبارة عن خفاء الأذان والجدران عند السفر منها ، فقالوا ان الاعتبار في خفاء الأذان والجدران الموجب للتقصير مبدأه من آخر خطة البلد إلا ان تكون متسعة على الوجه المذكور فالمعتبر جدران آخر المحلة ، وكذا أذان مسجد المحلة.

ولم نظفر لهم في هذا الفرق والتفصيل ولا في اعتبار المحلة بدليل يعتمد عليه ولم يصرح أحد منهم بالدليل على ذلك وكأنه أمر مسلم بينهم ، بل ربما دلت ظواهر الأخبار المتقدمة على رده نظرا إلى إطلاقها أو عمومها.

ويعضد ذلك أيضا موثقة غياث بن إبراهيم عن الصادق عن أبيه الباقر (عليهما‌السلام) (1) «انه كان يقصر الصلاة حين يخرج من الكوفة في أول صلاة تحضره».

والتقريب فيها انه لا ريب ان الكوفة كانت من البلدان العظام المتسعة والخبر دل على انه إنما يقصر الصلاة بعد الخروج منها ، والخروج منها وان كان بحسب ما يتراءى في بادئ النظر مجملا إلا أنك بمعونة ما عرفت سابقا من أن حدود البلد عبارة عن ما ينتهى إلى محل الترخص فالمراد بالخروج منها حينئذ هو الوصول الى ذلك المكان ، ولو كان الحكم كما ذكروه من الاعتبار بالمحلة في البلد المتسعة والحال ان هذه البلد كذلك

__________________

(1) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.


لما أخر التقصير الى الخروج منها ولما علق الحكم بها بل ينبغي ان يعلقه بالمحلة.

وروى البرقي في المحاسن في الصحيح عن حماد بن عثمان عن رجل عن ابى عبد الله عليه‌السلام (1) قال : «المسافر يقصر حتى يدخل المصر».

والتقريب فيه كما تقدم من أن المراد بدخول المصر الوصول إلى أول حدوده وهو تجاوز محل الترخص داخلا ، فإنه لما كانت حدود البلد منتهية إلى المكان المشار اليه فبدخولها يصدق دخول المصر كما هو ظاهر ، ومن الظاهر ان لفظ المصر انما يطلق على البلدان المتسعة دون القرى والبلدان الصغار ، ولذا قالوا للكوفة والبصرة المصرين كما وقع في الأخبار وكلام أهل اللغة ، وكثيرا ما تراهم في كلامهم سيما في باب صلاة الجمعة يقابلون بين الأمصار والقرى ، ولو كان الأمر كما يدعونه من الاعتبار بالمحلة في البلد المتسعة لم يجعل هنا غاية التقصير ما ذكرناه بل غايته باعتبار المحلة وسماع أذانها أو رؤية جدرانها.

على ان اللازم من ما ذكروه هنا انه لو عزم على الإقامة في البلد المتسعة فالواجب مراعاة المحلة ، بمعنى ان ما صرحوا به في حكم من أقام عشرة في بلد خاصة ـ من انه لا يجوز له تجاوز محل الترخص منها وانه متى نوى ذلك في أصل نية الإقامة بطلت نيته ـ يجري في المحلة ، فعلى هذا لا يجوز له الخروج إلى سائر المحاليل الخارجة عن هذا المقدار بالنسبة إلى محلته ، وهو مع كونه لم يصرحوا به في تلك المسألة موجب للحرج في منع المسافر المقيم من التردد في البلد لقضاء حوائجه ومطالبه كما هو الغالب الذي عليه كافة الناس ، مع انه لم يظهر له أثر ولا خبر في الأخبار سيما مع عموم البلوى به مضافا الى أصالة براءة الذمة منه.

وبالجملة فإن ما صرحوا به هنا من هذا التفصيل لا يخلو من الاشكال كما عرفت. والله العالم.

الثالث ـ قد عرفت الكلام في حد الترخص حال الذهاب وما فيه من الخلاف

__________________

(1) الوسائل الباب 6 من صلاة المسافر.


بين الأصحاب وما هو المختار في الباب ، وقد اختلفوا أيضا في حكم الإياب فظاهر القولين المشهورين المتقدمين ـ من اعتبار التخيير بين خفاء الأذان وخفاء الجدران كما هو المشهور بين المتقدمين أو اعتبارهما معا كما هو المشهور بين المتأخرين ـ هو كون ذلك في الذهاب والإياب ، إلا ان المرتضى الذي هو أحد القائلين بالقول المشهور بين المتأخرين ذهب هنا الى ما ذهب اليه الشيخ على بن بابويه وابن الجنيد من القول بالتقصير الى المنزل ، وقد عرفت الاختلاف في الذهاب بين مذهب المرتضى والشيخ المذكور.

وذهب المحقق في الشرائع إلى موافقة المتقدمين في الذهاب وهو الاكتفاء بأحد الأمرين وخالفهم في الإياب فذهب الى وجوب التقصير حتى يسمع الأذان واختاره في المدارك عملا بصحيحة ابن سنان (1).

قال في المدارك بعد نقل عبارة المحقق في ذلك : ما اختاره المصنف (قدس‌سره) في حكم العود أظهر الأقوال في المسألة لقوله عليه‌السلام في رواية ابن سنان المتقدمة (2) «وإذا قدمت من سفرك فمثل ذلك». وانما لم يكتف المصنف هنا بأحد الأمرين كما اعتبره في الذهاب لانتفاء الدليل هنا على اعتبار رؤية الجدران.

والأظهر عندي بالنسبة إلى الذهاب ما تقدم من التخيير عملا بالروايتين المتقدمتين وجمعا بينهما بذلك ، وأما في الإياب فهو ما ذهب اليه الشيخ على بن بابويه ومن تبعه.

لنا على الأول ما عرفت وعلى الثاني الأخبار المتكاثرة التي قدمناها في التنبيه الذي في آخر المقام الثاني من مقامات الشرط الرابع (3) فإنها صحيحة متكاثرة متعاضدة الدلالة على ما قلناه.

والأصحاب (رضوان الله عليهم) لم يذكروا ما قدمنا ذكره كملا وإنما أوردوا بعض ذلك وأجابوا عن ما نقلوه منها.

__________________

(1 و 2) ص 404 و 405.

(3) ص 376.


فمن ذلك ما أجاب به في الروض حيث قال بعد تصريحه باختيار ما ذهب اليه المصنف من اعتبارهما معا ذهابا وإيابا كما قدمنا نقله عنهم : وخالف هنا جماعة حيث جعلوا نهاية التقصير دخول المنزل استنادا الى اخبار تدل على استمرار التقصير الى دخول المنزل ، ولا صراحة فيها بالمدعى فان ما دون الخفاء في حكم المنزل. انتهى.

وهو راجع الى ما أجاب به العلامة في المختلف ايضا حيث قال بعد أن أورد صحيحة العيص وموثقة إسحاق بن عمار : المراد بهما الوصول الى موضع يسمع الأذان ويرى الجدران فان من وصل الى هذا الموضع يخرج عن حكم المسافر فيكون بمنزلة من يصل الى منزله. انتهى.

وفيه ان جملة من اخبار المسألة التي قدمناها قد صرحت بوجوب التقصير بعد دخول البلد وقصرت الإتمام على المنزل :

مثل قوله عليه‌السلام في موثقة إسحاق بن عمار (1) التي ذكرها «الرجل يكون مسافرا ثم يقدم فيدخل بيوت الكوفة أيتم الصلاة أم يكون مقصرا حتى يدخل أهله؟ قال بل يكون مقصرا حتى يدخل أهله».

وفي صحيحة معاوية بن عمار (2) قال عليه‌السلام «ان أهل مكة إذا زاروا البيت ودخلوا منازلهم أتموا وإذا لم يدخلوا منازلهم قصروا». ونحوها صحيحة الحلبي (3).

والجميع كما ترى صريح في وجوب التقصير في البلد ما لم يدخل منزله فكيف يتم ما ذكروه من التأويل المذكور.

وصاحب المدارك ومثله الفاضل الخراساني التجأوا في الجمع بين هذه الاخبار وبين عجز صحيحة ابن سنان الى القول بالتخيير بمعنى انه بعد وصوله الى محل الترخص من سماع الأذان الذي هو مورد الرواية المذكورة فإنه يتخير بين القصر

__________________

(1 و 2) الوسائل الباب 7 من صلاة المسافر.

(3) الوسائل الباب 3 من صلاة المسافر.


والإتمام الى أن يدخل منزله.

وفيه ان ظواهر الأخبار المذكورة ظاهرة بل صريحة في وجوب التقصير ما لم يدخل منزله ولا سيما موثقة ابن بكير المتقدمة ثمة ، والأظهر أن يقال ان غاية ما تدل عليه صحيحة ابن سنان المذكورة بمنطوقها هو وجوب التقصير في الرجوع الى أن يسمع الأذان ، ومفهومه انه متى سمع الأذان أتم ، والمعارضة إنما حصلت بهذا المفهوم ، ولا ريب في ضعف معارضة المفهوم للمنطوق سيما إذا تعدد هذا المنطوق في روايات عديدة صريحة صحيحة ، فيمكن اطراحها والقول بان الغرض من الرواية إنما تعلق بالمنطوق دون المفهوم وان المراد ان المسافر يقصر الى هذه الغاية وان قصر بعدها ايضا. هذا على تقدير رواية الصحيحة المذكورة بحذف صدرها كما تقدمت الإشارة اليه ، وأما مع ثبوته فإنها وان دلت على ما ذكروه لكن لا يبقى وثوق به بعد معارضة الصحاح المذكورة. وربما حمل عجزها المذكور على التقية لأن مذهب أكثر العامة كما ذهب إليه جملة من أصحابنا هو أن المسافر لا يزال مقصرا الى أن يصل الى الموضع الذي ابتدأ فيه بالقصر فيتم بعده (1) إلا ان بعضهم ايضا احتمل حمل هذه الأخبار على التقية كما يظهر من صاحب الوسائل ، والظاهر ان الأمر بالعكس انسب لما ذكرناه. وكيف كان فالأظهر

__________________

(1) في الفقه على المذاهب الأربعة ج 1 ص 432 الى 435 : عند الحنفية إذا عاد المسافر الى المكان الذي خرج منه بعد قطع مسافة القصر فإنه لا يتم إلا إذا عاد بالفعل فلا يبطل القصر بمجرد نية العود ولا بالشروع فيه. وعند المالكية إذا سافر من بلد قاصدا قطع مسافة القصر ثم رجع الى بلدته الأصلية فإنه يتم بمجرد دخولها ، وفي حال رجوعه وسيره ينظر فان كانت مسافة الرجوع مسافة قصر قصر وعند الشافعية إذا رجع الى وطنه بعد ان سافر منه انتهى سفره بمجرد وصوله اليه سواء رجع إليه لحاجة أو لا ويقصر في حال رجوعه حتى يصل. وعند الحنابلة إذا رجع الى وطنه الذي ابتدأ السفر منه أولا فإن كانت المسافة بين وطنه وبين المحل الذي نوى الرجوع اليه قدر مسافة القصر قصر في حال رجوعه.


عندي من الأخبار هو ما عرفت.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد ظهر من ذكر هذه الشروط السبعة المذكورة هنا ضابطتان كليتان ، وهو انه متى كملت هذه الشروط فلا يجوز الإتمام بحال إلا في مواضع قد دلت النصوص وكلام الأصحاب على استثنائها ، ومنها ـ جاهل الحكم مع استكماله الشرائط الموجبة للقصر على الأشهر الأظهر ، ومنها ـ الناسي وقد خرج الوقت. ومنها ـ من كان في أحد المواطن الأربعة. والضابطة الثانية ان كل من لم يستكمل هذه الشروط فالواجب عليه التمام إلا في مواضع مستثناة ايضا ، ومنها ـ من قصر جهلا مع فقد الشرائط على الأظهر ، ومنها ـ من جد به السير ومن أقام عشرة من المكارين ، فان مقتضى القاعدة المذكورة وجوب الإتمام عليهم لاختلال بعض الشروط وهو عدم كون السفر عمله إلا ان النصوص وردت بالتقصير لهم. وجميع هذه المسائل قد مضى بعضها وسيأتي ان شاء الله تعالى تحقيق القول في ما لم يتقدم له ذكر. والله العالم بحقائق أحكامه.

المشاركات الشائعة

ابحث في الموقع

أرسل للإدارة

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *